مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154670 / تحميل: 6008
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

الأوقات ـ متمثلة أمام عبدتها بحيث ينظرون إليها في كل حين، لأجل هذا استعمل الخليلعليه‌السلام لفظة رب في كل الموارد التي حمل فيها على عبادة الكواكب والأجرام فقال مستفهماً:( هذَا رَبِّي ) ؟!!

و « رب » في لغة العرب هو المتصرّف والمدبِّر الذي يدبِّر الشيء ويديره ويتحمل أمر تربيته ويتصرف فيه، وهذه القصة ـ مع ملاحظة كل خصوصياتها ـ دليل على وجود « الشرك الربوبي » في عصر إبراهيمعليه‌السلام .

إنّ الشرك في الربوبية يشبه إلى حد بعيد قصة من يريد أن يحصل على بيت لنفسه، فيهيّئ كمية كبيرة من المواد الإنشائية ويجعلها تحت تصرف البنّاء والعامل، ويطلب منهم أن يبنوا له البيت الذي يريد، ففي هذه الصورة تكون المواد الإنشائية من صاحب العمل، ولكن تنسيق هذه المواد وتشغيلها والتصرف فيها يتعلّق بالبنّاء والمعمار والعمال الذين أوكل إليهم بناء البيت المذكور على نحو ما يريدون وكيفما شاءوا.

هذا هو أوضح مثال للشرك الربوبي، ولقد كان القائلون بربوبية الملائكة والجن والأرواح المقدسة يعتقدون بأنّ موجودات هذا العالم من القمر والشمس إلى الحيوان والإنسان إلى الشجر والحجر إنّما هي المواد الإنشائية لهذا العالم، وإنّ الله فوّض أمر التصرف في هذه المواد ـ بعد أن خلقها ـ إلى هذه الأرباب ثم راحت تشتغل بتدبير الكون والتصرف فيه بالاستقلال وبمطلق الاختيار.

لقد كان هذا الفريق يعتقد أنّ مقام الخلق غير التدبير وأنّ الذي يرتبط بالله إنّما هو الخلق والإيجاد الابتدائي من العدم، ولكن حيث إنّ الخلق غير التدبير، فالتدبير يتعلّق بموجودات أُخرى غير الله، أعني: الموجودات المتصرفة لهذا العالم والتي فوض إليها تدبير عالم الطبيعة، وليس لله أية مشاركة في أمر تدبير الكون

٣٨١

وإدارته وتنظيم شؤونه، وتصريفه والتصرف فيه.

٢. لقد دخلت الوثنية في مكة ونواحيها أوّل ما دخلت في صورة « الشرك في الربوبية »، فقصة « عمرو بن لحي » دليل واضح على أنّ أهل الشام كانوا يعتبرون الأوثان والأصنام مدبّرة لجوانب من الكون.

يكتب ابن هشام في هذا الصدد :

كان « عمرو بن لحي » أول من أدخل الوثنية إلى مكة ونواحيها، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان، وعندما سألهم عمّا يفعلون قائلاً: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها ؟

قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا.

فقال لهم: أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه.

وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم « هبل »، ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة، ودعا الناس إلى عبادتها(١) .

إذن فاستمطار المطر من هذه الأوثان والاستعانة بها يكشف عن أنّ بعض المشركين كانوا يعتقدون بأنّ لهذه الأوثان مشاركة في تدبير شؤون الكون وحياة الإنسان.

على أنّه ينبغي أن لا يتصوّر أحد بأنّهم كانوا يعتبرون هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي ذاتها المتصرّفة والمدبِّرة للكون ليقال: ليس هناك من جاهل ـ فضلاً عن عاقل ـ يقول بأنّ هذه الأصنام الجامدة تكون منشأ كل هذه الآثار والحوادث، بل الحق أنّهم كانوا يعتقدون بأنّ هذه الأصنام الخشبية تمثّل صور الآلهة المدبّرة لهذا

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ١ / ٧٩.

٣٨٢

العالم التي فوّض إليها إدارة الكون وتصريفه والتصرف فيه، ولكن حيث إنّ هذه الآلهة المزعومة لم تكن في متناول أيديهم، وحيث كانت عبادة الموجود البعيد عن متناول الحس واللمس صعب التصور لديهم عمدوا إلى تجسيد تلك الآلهة وتصويرها في أوثان وأصنام ورسوم وأجسام وقوالب من الخشب أو الحجر أو المعدن وراحوا يعبدون الصور والتماثيل عوضاً عن عبادة أصحابها الحقيقين ( وهي الآلهة المزعومة ).

ويمكنك أيها القارئ الكريم أن تقف على مفصل هذه الأُمور في الفصل التاسع، عند البحث عن « التوحيد في العبادة ».

٣. يكتب المفسرون الإسلاميون أنّ « ودّاً » و « سواعاً » و « يغوث » و « يعوق » و « نسراً » كانوا من عباد الله الصالحين، وكان يتبعهم في ذلك فريق من قومهم، ولـمّا ماتوا ظن فريق بأنّهم لو نظروا إلى صورهم وتماثيلهم لأمكنهم أن يعبدوا الله بنحو أفضل باعتقاد أنّ صورهم تذكرهم بالله، وبمرور الزمن تحولت هذه الفكرة إلى عبادة تلك الصور والتماثيل ذاتها.

وإليك نص ما كتبه صاحب مجمع البيان في هذا الصدد :

« عن محمد بن كعب أنّ هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوحعليهما‌السلام ، فنشأ قوم بعدهم يأخذون مأخذهم في العباد، فقال لهم إبليس: لو صوّرتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة، ففعلوا، فنشأ بعدهم قوم فعبدوهم، فمبدأ عبادة الأوثان كان ذلك الوقت »(١) .

يقول المحقّق المعاصر الأُستاذ جواد علي في كتاب: « المفصّل » الذي كتبه

__________________

(١) مجمع البيان: ١٠ / ٣٦٤ طبع صيدا.

٣٨٣

حول تاريخ العرب قبل الإسلام، ويقع في ثمانية مجلدات ضخمة استقصى فيها أحوال العرب في كل جوانب الحياة ومجالاتها.

يقول عن اعتقادهم بالنسبة إلى معبوداتهم المزعومة :

إنّ معارفنا عن الأساطير العربية الدينية قليلة جداً، وهذا ممّا حمل بعض المستشرقين على القول بأنّ العرب لم تكن لهم أساطير دينية عن آلهتهم، كما كان عند غيرهم من الأُمم كاليونان والرومان والفرس وعند بقية الآريين، وإذا لم تصل إلينا نصوص دينية جاهلية عن العرب، صعب علينا تكوين فكرة صحيحة عن مفهوم الدين عند العرب، وعن كيفية عبادتهم لآلهتهم، وعن كيفية تصوّرهم للآلهة.

فكلمات مثل ود وسعد(١) وهي أسماء لبعض آلهتهم تفيدنا في فهم عبادة الجاهلين وتفكيرهم في تلك الآلهة(٢) .

٥. لم يكن المتنوّرون والطبقة المثقّفة يعتقدون بمدبّر غير الله، بل كانوا يعتبرون الأصنام شفعاء توجب عبادتها الزلفى عند الله، والقربى لديه، ويدل على هذا الأمر آيات إليك بعضها :

( مَا نَعْبُدُهُمْ إلّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَىٰ اللهِ زُلْفَىٰ ) (٣) .

( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ والأرضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ

__________________

(١) التي تكون لها معان تشير إلى صفة الآلهة، إذ الأوّل يشير إلى أنّه إله المحبة والثاني يشير إلى أنّه إله السعادة.

(٢) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: ٦ / ١٩.

(٣) الزمر: ٣.

٣٨٤

فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) (١) .

ولكن مع الاعتراف بهذا المطلب لابد من القول ـ بصراحة ـ بأنّ مفاد هذه الآية لا يمثل اعتقاد الجميع، بل كان ثمّت فريق من الوثنيين يعتقدون في حقّ آلهتهم ومعبوداتهم المزعومة بأنّها تملك بعض القوى الغيبية، وأنّها تتصرف في عالم الطبيعة والكون على غرار ما يفعل الآلهة، خاصة وأنّهم كانوا قد اختاروا معبوداتهم وآلهتهم المزعومة من صفوف الملائكة والجن والأرواح المقدسة.

صحيح أنّ وثنيّة « العرب الجاهليين » كانت تصرفاً خاطئاً وباطلاً ولم تكن تستند إلى قاعدة فكرية، ولم تكن على نمط وثنية اليونانيين والروم والفرس التي كانت تقوم على أساس فلسفي، ولكن بعض أُولئك العرب كانوا في نفس الوقت يعتقدون بربوبية الأوثان، وهذا ما يستفاد من عدة آيات في هذا المجال.

ولكن قبل أن نعمد إلى نقل نصوص هذه الآيات نرى لزاماً علينا أن نعرف بدقة ماذا تعنيه لفظة رب التي اشتق منها الربوبية.

يقول اللغوي العربي المعروف ابن فارس :

« الرب: المالك، الخالق، الصاحب والرب المصلح للشيء يقال: رب فلان ضيعته إذا قام على إصلاحها والرب، المصلح للشيء، والله جل ثناؤه الرب، لأنّه مصلح أحوال خلقه ; والراب، الذي يقوم على أمر الربيب »(٢) .

ويكتب الفيروزآبادي قائلاً :

« رب كل شيء: مالكه ومستحقه وصاحبه

__________________

(١) يونس: ٣١.

(٢) مقاييس اللغة: ٢ / ٣٨١.

٣٨٥

رب الأمر: أصلحه »(١) .

وجاء في المنجد :

« الرب: المالك، المصلح، السيد »(٢) .

وما يشابه هذا المعنى في كتب اللغة والقواميس الأُخرى.

هل للرب معان مختلفة ؟

إنّ وظيفة كتب اللغة والقواميس هي ضبط موارد استعمال اللفظة، سواء أكان المستعمل فيه هو الذي وضع عليه اللفظة أم لا، وأمّا تعيين الأوضاع وتمييز الحقائق عن المجازات فخارج عما ترتئيه كتب اللغة.

وهذا هو نقص ملحوظ ومشهود بوضوح في كتب اللغة ومعاجمها، إذ ما أكثر ما يجد الإنسان عدة معاني متباينة ومتمايزة للفظة واحدة حتى أنّه ليتصور ـ في أوّل وهلة ـ أنّ الواضع العربي جعل هذه اللفظة على عشرة معان في عشرة أوضاع، ولكن بعد التحقيق والدراسة يتبيّن أنّه ليس لهذه اللفظة سوى معنى واحد لا غير، وأمّا بقية المعاني المذكورة فهي من شعب المعنى الأصلي.

ومن المصادفات أنّ لفظة رب تعاني من هذا المصير حتى أنّ كاتباً كالمودودي تصور أنّ لهذه اللفظة خمسة معان ـ في الأصل ـ، وذكر لكل معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن الكريم.

ولا شك في أنّ لفظة رب استعملت في الكتاب العزيز واللغة في الموارد التالية التي لا تكون إلّا صورة موسعة ومصاديق متعددة لمعنى واحد لا أكثر ،

__________________

(١) قاموس اللغة مادة الرب.

(٢) المنجد مادة ربب.

٣٨٦

وإليك هذه الموارد والمصاديق :

١. التربية مثل رب الولد، ربّاه.

٢. الإصلاح والرعاية مثل ربّ الضيعة.

٣. الحكومة والسياسة مثل فلان قد رب قومه، أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.

٤. المالك كما جاء في الخبر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أربّ غنم أم ربّ أبل.

٥. الصاحب مثل قوله: رب الدار، أو كما يقول القرآن الكريم:( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هٰذَا البَيْتِ ) (١) .

لا ريب أنّ هذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد وما يشابهها ولكن جميعها يرجع إلى معنى واحد أصيل، وما هذه المعاني سوى مصاديق وصور مختلفة لذلك المعنى الأصيل، وسوى تطبيقات متنوعة لذلك المفهوم الحقيقي الواحد، أعني: من فوّض إليه أمر الشيء المربي من حيث الإصلاح والتدبير والتربية.

فإذا قيل لصاحب المزرعة إنّه ربها، فلأجل أنّ إصلاح أُمور المزرعة مرتبط به وفي قبضته.

وإذا أطلقنا على سائس القوم، صفة الرب، فلأنّ أُمور ذلك القوم مفوّض إليه فهو قائدهم، ومالك تدبيرهم ومنظم شؤونهم.

وإذا أطلقنا على صاحب الدار ومالكه اسم الرب، فلأنّه فوّض إليه أمر تلك الدار وإدارتها والتصرف فيها كما يشاء.

فعلى هذا يكون المربي والمصلح والرئيس والمالك والصاحب وما يشابهها

__________________

(١) الإيلاف: ٣.

٣٨٧

مصاديق وصور لمعنى واحد أصيل يوجد في كل هذه المعاني المذكورة، وينبغي أن لا نعتبرها معاني متمايزة ومختلفة للفظة الرب، بل المعنى الحقيقي والأصيل للفظة هو: من بيده أمر التدبير والإدارة والتصرف، وهو مفهوم كلّي ومتحقّق في جميع المصاديق والموارد الخمسة المذكورة ( أعني: التربية والإصلاح والحاكمية والمالكية والصاحبية ).

فإذا أطلق يوسف الصديقعليه‌السلام لفظ الرب على عزيز مصر، حيث قال:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) (١) ، فلأجل أنّ يوسف تربّى في بيت عزيز مصر وكان العزيز متكفّلاً لتربيته وقائماً بشؤونه.

وإذا وصف عزيز مصر بكونه رباً لصاحبه في السجن فقال:( أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ) (٢) ، فلأنّ عزيز مصر كان سيد مصر وزعيمها ومدبّر أُمورها ومتصرّفاً في شؤونها ومالكاً لزمامها.

وإذا وصف القرآن اليهود والنصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً، إذ يقول:( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللهِ ) (٣) ، فلأجل أنّهم أعطوهم زمام التشريع واعتبروهم أصحاب سلطة وقدرة فيما يختص بالله.

وإذا وصف الله نفسه بأنّه « رب البيت »، فلأنّ إليه أُمور هذا البيت مادّيها ومعنويّها، ولا حق لأحد في التصرف فيه سواه.

وإذا وصف القرآن « الله » بأنّه( رَبُّ السَّمٰوَاتِ والأرضِ ) (٤) وأنّه( رَبُّ

__________________

(١) يوسف: ٢٣.

(٢) يوسف: ٤١.

(٣) التوبة: ٣١.

(٤) الصافات: ٥.

٣٨٨

الشِّعْرَىٰ ) (١) وما شابه ذلك، فلأجل أنّه تعالى مدبّرها ومديرها والمتصرّف فيها ومصلح شؤونها والقائم عليها، وبهذا البيان نكون قد كشفنا القناع عن المعنى الحقيقي للرب، الذي ورد في مواضع عديدة من الكتاب العزيز.

* * *

إنّ الشائع بين الوهابيين تقسيم التوحيد إلى :

١. التوحيد في الربوبية.

٢. التوحيد في الإلوهية(٢) .

قائلين: إنّ التوحيد في الربوبيّة بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الكون كان موضع اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة.

وأمّا التوحيد في الإلوهية فهو التوحيد في العبادة الذي يعني منه أن لا يعبد سوى الله، وقد انصب جهد الرسول الكريم على هذا الأمر.

والحق أنّ اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة في مسألة التوحيد الخالقي ليس موضع شك، ولكن تسمية التوحيد الخالقي بالتوحيد الربوبي خطأ واشتباه.

وذلك لأنّ معنى « الربوبية » ليس هو الخالقية كما توهم هذا الفريق، بل هو ـ كما أوضحنا وبيّنّا سلفاً ـ ما يفيد التدبير وإدارة العالم، وتصريف شؤونه ولم يكن هذا ـ كما بيّنّا ـ موضع اتفاق بين جميع المشركين والوثنيين في عهد الرسالة كما ادّعى هذا الفريق.

نعم كان فريق من مثقفي الجاهليين يعتقدون بعدم مدبّر سوى الله ولكن

__________________

(١) النجم: ٤٩.

(٢) سيوافيك معنى الالوهية في الفصل التاسع، ونبين خطأهم في تفسيرها.

٣٨٩

كانت تقابلهم جماعات كبيرة ممّن يعتقدون بتعدّد المدبّر والتدبير، وهي قضية تستفاد من الآيات القرآنية مضافاً إلى المصادر المتقدمة.

هنا نلفت نظر الوهابيّين الذين يسمّون التوحيد في الخالقية بالتوحيد في الربوبية إلى الآيات التالية، ليتضح لهم أنّ الدعوة إلى التوحيد في الربوبيّة لا تعني الدعوة إلى التوحيد في الخالقية، بل هي دعوة إلى « التوحيد في المدبّرية » والتصرف، وقد كان بين المشركين في ذلك العصر من كان يعاني انحرافاً وشذوذاً في التوحيد الربوبي، ويعتقد بتعدّد المدبّر رغم كونه معتقداً بوحدة الخالق.

ولا يمكن ـ أبداً ـ أن نفسر الرب في هذه الآيات بالخالق والموجد، وإليك بعض هذه الآيات :

أ.( بَل ربُّكُمْ رَبُّ السَّمٰوَاتِ والأرضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ) (١) .

فلو كان المقصود من الرب هنا هو الخالق والموجد، لكانت جملة( الَّذِي فَطَرَهُنَّ ) زائدة بدليل أنّنا لو وضعنا لفظة الخالق مكان الرب في الآية للمسنا عدم الاحتياج ـ حينئذ ـ إلى الجملة المذكورة، أعني:( الَّذِي فَطَرَهُنَّ ) ، بخلاف ما إذا فسر الرب بالمدبِّر والمتصرف، ففي هذه الصورة تكون الجملة الأخيرة مطلوبة، لأنها تكون ـ حينئذ ـ علّة للجملة الأُولى، فتعني هكذا: أنّ خالق الكون هو المتصرف فيه وهو المالك لتدبيره والقائم بإدارته.

ب.( يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدْوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) (٢) .

فإنّ لفظة الرب في هذه الآية ليست بمعنى « الخالق »، وذلك على غرار ما

__________________

(١) الأنبياء: ٥٦.

(٢) البقرة: ٢١.

٣٩٠

قلناه في الآية المتقدّمة المشابهة لما نحن فيه، إذ لو كان الرب بمعنى الخالق لما كان لذكر جملة( الَّذِي خَلَقَكُمْ ) وجه، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الرب يعني المدبر، فتكون جملة( الَّذِي خَلَقَكُمْ ) علّة للتوحيد في الربوبية، إذ يكون المعنى حينئذ هو: أنّ الذي خلقكم هو مدبِّركم.

ج.( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) (١) .

وهذه الآية حاكية عن أنَّ مشركي عصر الرسالة كانوا على خلاف مع الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله في مسألة الربوبية على نحو من الأنحاء، وأنّ النبي الأعظم كان مكلّفاً بأن يفنّد رأيهم ويبطل عقيدتهم ولا يتخذ غير الله رباً على خلاف ما كانوا عليه، ومن المحتم أنّ خلاف النبي مع المشركين لم يكن حول مسألة « التوحيد في الخالقية » بدليل أنّ الآيات السابقة تشهد في غير إبهام بأنّهم كانوا يعترفون بأنّه لا خالق سوى الله تعالى، ولذلك فلا مناص من الإذعان بأنّ الخلاف المذكور كان في غير مسألة الخالقية، وليست هي إلّا مسألة تدبير الكون، بعضه أو كلّه.

د.( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذا غَافِلِينَ ) (٢) .

فقد أخذ الله في هذه الآية ـ من جميع البشر ـ الإقرار بالتوحيد الربوبي، وكانت علّة ذلك هي ما ذكره من أنّه سيحتج على عباده بهذا الميثاق يوم القيامة، كما يقول :

( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ

__________________

(١) الأنعام: ١٦٤.

(٢) الأعراف: ١٧٢.

٣٩١

المُبْطِلُونَ ) (١) .

إذا تبيَّن هذا فنقول: إنّ نزول هذه الآية في بيئة مشركة دليل ـ ولا شك ـ على وجود فريق معتد به في تلك البيئة كانوا يخالفون هذا الميثاق، فإذا كانت الربوبية بمعنى الخالقية استلزم ذلك أن يكون في تلك البيئة من يخالفون النبي في الخالقية، ولكن الفرض هو عدم وجود أي اختلاف في مسألة « توحيد الخالقية » في عصر الرسالة، فلم يكن المشركون في ذلك العصر مخالفين في هذه المسألة ليعتبروا مخالفين للميثاق المذكور، فلا محيص ـ حينئذ ـ من أنّ الخلاف كان ـ آنذاك ـ في مسألة تدبير العالم وإدارة الكون.

وبهذا التقرير يكون معنى الرب في الآية المبحوث هنا هو المدبّر.

ه‍.( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) (٢) .

تتعلّق هذه الآية بمؤمن آل فرعون الذي كان يدافع عن النبي موسىعليه‌السلام وراء قناع الصحبة والصداقة لآل فرعون، ويسعى تحت ستار الموافقة معهم أن يدفع الخطر عن ذلك النبي العظيم، وأمّا دلالتها على كون الرب بمعنى المدبّر فواضحة، لأنّ فرعون ما كان يدّعي الخالقية للسماء والأرض ولا الشركة مع الله سبحانه في خلق العالم وإيجاده، وهذه حقيقة يدلّ عليها تاريخ الفراعنة أيضاً، وفي هذه الصورة يجب أن يكون المراد من دعوة النبي موسى بقوله:( رَبِّيَ اللهُ ) هو حصر « التدبير » في الله سبحانه لا مسألة الخلق، ولو كانت تتعلّق بمسألة الخلق والإيجاد لما كان بينه وبين فرعون أي خلاف ونزاع، إذ المفروض اعتراف فرعون بخالقية الله ـ كما أسلفنا ـ هذا مضافاً إلى أنّ الله تعالى يقول في الآية السابقة

__________________

(١) الأعراف: ١٧٣.

(٢) غافر: ٢٨.

٣٩٢

لهذه الآية :

و.( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَليَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ) (١) .

فإنّ التوحيد في الخالقية لم يكن موضع خلاف لتكوين دعوة موسى لبني إسرائيل سبباً لأي تبدّل وتبديل.

ومن هذا البيان يتضح المراد من قول فرعون:( أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى ) (٢) .

ز.( فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمٰوَاتِ والأرضِ لَنْ نَّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَهاً ) (٣) .

إنّ الفتية الذين فرّوا من ذلك الجو الخانق الذي أوجدته طواغيت ذلك الزمان كانوا جماعة يسكنون في مجتمع يعتقد بالوهية غير الله، ولكن الوهية غير الله ـ في ذلك المجتمع ـ لم تكن في صورة تعدّد الخالق، خاصة وأنّ واقعة أهل الكهف حدثت بعد ميلاد السيد المسيح حيث كانت عقول البشرية وأفكارها قد تقدّمت في المسائل التوحيدية بشكل ملحوظ وحظيت من الرقي بمقدار معتد به، ولم يكن يعقل ـ في ظل هذا الرقي الفكري ـ وجود مجتمع منكر لخالقية الله، أو مشرك فيها، فلابد أن يقال أنّ شركهم يرجع إلى أمر آخر وهو الاعتقاد بتعدّد المدبّر.

ح. انّ البرهان الواضح على أنّ مقام الربوبية هو مقام المدبّرية وليس الخالقية كما يتوهم، هو الآية المتكررة في سورة الرحمن :

( فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) .

فقد وردت هذه الآية في السورة المذكورة ٣١ مرة، وجاءت لفظة رب جنباً

__________________

(١) غافر: ٢٦.

(٢) النازعات: ٢٤.

(٣) الكهف: ١٤.

٣٩٣

إلى جنب مع لفظة الآلاء التي تعني النعم، وغير خفي أنّ قضية النعمة مع التذكير بمقام ربوبية الله لحياة البشر وحفظها من الفناء أنسب وأكثر انسجاماً، إذ ذكر النعم ( التي هي من شعب التربية الإلهية التي يوليها سبحانه للبشر ) يناسب موضوع التربية والتدبير الذي تندرج فيه إدامة النعم وإدامة الإفاضة.

ط. لقد اقترنت مسألة الشكر مع لفظة الرب في خمسة موارد في القرآن الكريم، والشكر إنّما يكون في مقابل النعمة التي هي سبب بقاء الحياة الإنسانية ودوامها وحفظها من الفناء وصيانتها من الفساد، وليست حقيقة تدبير الإنسان إلّا إدامة حياته وحفظها من الفساد والفناء.

وإليك هذه الموارد :

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (١) .

( قَالَ رَبّي أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَليَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ ) (٢) .

( قَالَ هٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ) (٣) .

( قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ ) (٤) .

( كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) (٥) .

__________________

(١) إبراهيم: ٧.

(٢) النمل: ١٩.

(٣) النمل: ٤٠.

(٤) الأحقاف: ١٥.

(٥) سبأ: ١٥.

٣٩٤

ي. وممّا يدلّ على ما قلنا قوله سبحانه :

( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً *يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً *وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَال وَبَنيِنَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَاراً ) (١) .

ومثله في سورة هود الآية ٥٢.

وهكذا: يلاحظ القارئ الكريم كيف جعلت إدارة الكون وتدبير شؤونه تفسيراً للرب: فهو الذي يرسل المطر، وهو الذي يمدد بالأموال والبنين، وهو الذي يجعل الجنات، وهو الذي يجعل الأنهار، وكلّ هذه الأُمور جوانب وصور من التدبير.

نتيجة هذا البحث

من هذا البحث الموسّع يمكن أن نستنتج أمرين :

١. أنّ ربوبية الله عبارة عن مدبِّريته تعالى للعالم لا عن خالقيته.

٢. دلّت الآيات المذكورة في هذا البحث على أنّ مسألة « التوحيد في التدبير » لم تكن موضع اتفاق بخلاف مسألة « التوحيد في الخالقية »، وانّه كان في التاريخ ثمّت فريق يعتقد بمدبّرية غير الله للكون كله أو بعضه، وكانا يخضعون أمامها باعتقاد أنّها أرباب.

وبما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين، فيمكن أن يكون بعض الفرق موحداً في الثاني، ومشركاً في القسم الأوّل، فاليهود والنصارى تورّطوا في « الشرك الربوبي » التشريعي، لأنّهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الأحبار

__________________

(١) نوح: ١٠ ـ ١٢.

٣٩٥

والرهبان وجعلوهم أرباباً من هذه الجهة، فكأنّه فوَّض أمر التشريع إليهم !!(١) .

فها هو القرآن يقول عنهم :

( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابَاً مِن دُونِ اللهِ ) (٢) .

( وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِن دُونِ اللهِ ) (٣) .

في حين أنّ الشرك في الربوبية لدى فريق آخر ما كان ينحصر بهذه الدائرة بل تمثل في اسناد تدبير بعض جوانب الكون، وشؤون العالم إلى الملائكة والجن والأرواح المقدسة أو الأجرام السماوية، وإن لم نعثر ـ إلى الآن ـ على من يعزى تدبير « كل » جوانب الكون إلى غير الله، ولكن مسألة الشرك في الربوبية تمثّلت في الأغلب في تسليم « بعض » الأُمور الكونية إلى بعض خيار العباد والمخلوقات.

إنّ الآيات الدّالّة على هذه النتيجة ـ في الحقيقة ـ أكثر من أن يمكن سردها هنا، لهذا نكتفي بما ذكرنا من الآيات تاركين للقارئ الباحث التفتيش عنها في القرآن الكريم.

القرآن لا يعترف بمدبِّر سواه

ينص القرآن الكريم ـ بمنتهى الصراحة ـ على أنّ الله سبحانه هو المدبِّر الوحيد للعالم، وينفي أي تدبير مستقل يكون مظهراً لربوبية غير الله.

( إِنَّ رَبَّكُمْ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰوَاتِ والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَىٰ العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إلّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا

__________________

(١) سوف يوافيك في الفصل العاشر أنّ التقنين والتشريع من أفعاله سبحانه، لا يشترك فيها غيره.

(٢) التوبة: ٣١.

(٣) آل عمران: ٦٤.

٣٩٦

تَذَكَّرُونَ ) (١) .

( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمٰوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَىٰ العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأِجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (٢) .

ففي هاتين الآيتين وما شابههما تستدعي الجمل التالية التأمّل أكثر من أي شيء :

١. ثم استوى على العرش.

٢ يدبّر الأمر.

٣. ما من شفيع إلّا بإذنه.

فنقول توضيحاً لهذه الجمل: ينتقل القرآن الكريم في هاتين الآيتين ـ بعد ذكر مسألة خلق السماوات والأرض ـ إلى مسألة الاستيلاء على العرش، والهدف من ذلك هو الإشعار بأنّ زمام الكون ـ بعد خلقه ـ بيده تعالى، ولم يفوّضه إلى غيره، فهو الآخذ بزمام العالم كما هو خالقه، دون إهمال أو إيكال أو تفويض.

إنّ الاستيلاء على العرش ( والمعني به مطلق عالم الوجود ) كناية عن السيطرة الكاملة والتسلّط التام على كل أجزاء الكون، وتمام عالم الممكنات.

وفي هاتين الآيتين والآيات المشابهة لهما(٣) طرح القرآن ـ بعد موضوع الاستيلاء على العرش ـ موضوع تدبير العالم ليفيد بأنّ المدبِّر هو تعالى، وليس سواه

__________________

(١) يونس: ٣.

(٢) الرعد: ٢.

(٣) مثل: الأعراف: ٥٤، السجدة: ٤، الحديد: ٤.

٣٩٧

من مدبِّر.

ثمّ إنّ النكتة في ذكر شفاعة الشفيع بإذنه سبحانه بعد مسألة حصر التدبير بالله سبحانه هو أنّ المراد منه ـ في المقام ـ هو الشفيع التكويني، أعني: نظام العلة والمعلول الحاكم على عالم الطبيعة، فتشير الآية إلى أنّ تأثير أيّة علّة في العوالم العلوية أو السفلية منوطة بالإذن الإلهي كما أسلفنا.

ولأجل ذلك صرح بأنّه « ما من شفيع » أي وسيط مادياً كان أم مجرداً إلّا من بعد إذنه لكي يفيد بأنّ مدبّرية الله المطلقة لا تنافي الاعتقاد بنظام العلية في عالم الطبيعة، إذ أنّ وجود هذا النظام العلّي السببي نفسه مظهر من مظاهر تدبير الله، وناشئ عن إرادته العليا، فالمدبِّر الأصيل والمستقل ليس إلّا هو وحده، ولا تدبير لسواه إلّا بأمره ومشيئته، وإنّما أطلق لفظ الشفيع على نظام العلية، لأنّه من الشفع بمعنى الزوج، فكأنّ نظام العلية يتسبب في إيجاد آثاره وظواهره بالإنضمام إلى إرادة الله ومشيئته، فكل علّة مشفوعة إلى إرادته وإذنه سبحانه تكون مؤثرة.

ولو أُريد من الشفيع الشفاعة التشريعية، فهو أيضاً داخل في إطار تدبيره سبحانه، فلا يشفع شفيع في الدنيا والآخرة في حق عباده إلّا بإذنه سبحانه.

* * *

وربما يتصوّر البعض أنّ القرآن الكريم طرح مسألة « التوحيد في الربوبيّة » دون أن يقيم عليها أيّ برهان، في حين أنّ القرآن أثبت هذا المطلب بالبراهين الواضحة القاطعة.

وإليك فيما يلي بعض هذه الأدلة.

٣٩٨

١. التدبير لا ينفك عن الخلق

إنّ النقطة الأساسية في خطأ المشركين تتمثل في أنّهم قاسوا تدبير عالم الكون بتدبير أُمور عائلة أو مؤسسة وتصوروا أنّهما من نوع واحد.

إنّ تدبيره سبحانه لهذا العالم ليس كتدبير حاكم البلد بالنسبة إلى مواطنيه أو رب البيت بالنسبة إلى أهله حيث إنّ ذاك التدبير يتم بإصدار الأوامر، في حين أنّ التدبير الإلهي هو إدامة الخلق والإيجاد، وقد سبق أنّ الخالقية منحصرة بالله سبحانه.

فالفريق الذي يعتقد بأنّ الله تعالى هو الخالق الوحيد يجب عليه أيضاً أن يعتقد بأنّه تعالى هو « المدبّر الوحيد » لكون التدبير خلقاً بعد خلق وهو فعل الله خاصة.

توضيح ذلك: أنّ النظام الإمكاني ـ بحكم كونه فقيراً ممكناً ـ فاقد للوجود الذاتي، فإنّ فقره هذا ليس منحصراً في وجوده في بدء تحقّقه، وإنّما يستمر هذا الفقر معه في جميع الأزمنة والأمكنة، كما أنّ فقره ليس منحصراً في أصل وجوده، فحسب بل هو محتاج حتى في علاقاته وروابطه وتأثيراته مع الموجودات الأُخرى وانسجامه مع مجموع العالم.

وليس التدبير إلّا إفاضة الوجود وإعطاء « القدرة على التأثير » للشيء الممكن، ثمّ إنّ وجود النظام الإمكاني كما أنّه مفاض عليه من جانب الله سبحانه، فكذلك تدبيره وإدارة وجوده تقوم به سبحانه وليس هذا إلّا نوع من الخلق.

وإذ ليس هناك من خالق سواه سبحانه، فليس هناك مدبِّر سواه أيضاً، وبذلك يستلزم الاعتراف بوحدة الخالق، الاعتراف بوحدة المدبِّر.

٣٩٩

فإنّ « تدبير » الوردة ليس إلّا تقوّمها من المواد السكرية في الأرض ثم توليدها الأوكسجين في الهواء، إلى غير ذلك من عشرات الأعمال الفيزيائية والكيميائية في ذاتها، وليس هذا إلّا شعبة من الخلق.

ومثلها، الجنين منذ تكونه في رحم الأُم، فهو لم يزل يمر بالتفاعلات حتى يخرج من بطن الأُم، وليست هذه التفاعلات إلّا شعبة من عملية الخلق وفرع منه وإيجاد بعد إيجاد.

ويمكن تقرير هذا المطلب بصورة أُخرى بأن نقول :

إنّ التدبير مأخوذ من مادة دبّر أي تابع وواصل وعقب، وحقيقة التدبير ليست إلّا لأنّ خالق العالم جعل الأسباب والعلل بحيث تأتي المعاليل والمسببات دبر الأسباب وعقيب العلل بحيث تأتي أجزاء الكون وراء بعضها تباعاً وبحيث يؤثر بعضها في البعض الآخر حتى يصل كل موجود إلى كمإله المناسب وهدفه المطلوب، فإذا كان المراد من « التدبير » هو هذا، فهو بعينه عبارة عن مسألة الخلق، ومع هذا كيف يجوز أن نعتقد بأنّ التدبير مغاير للخلق ونعتبرهما أمرين مختلفين.

ولذا يذكر القرآن الكريم ـ بعد ذكر مسألة الخلق للسماوات والأرض ـ مسألة تسخير الشمس والقمر(١) الذي هو من التدبير، ومن هذا الطريق يوقفنا القرآن الكريم على حقيقة التدبير الذي هو نوع من الخلق.

وحدة النظام دليل على وحدة المدبِّر

في البحث السابق تحدّثنا عن وحدة نظام الكون، وأثبتنا بوضوح أنّ مطالعة كل صفحة من صفحات هذا الكتاب التكويني العظيم تقودنا إلى نظام موحد ،

__________________

(١) الأعراف: ٥٤، الرعد: ٣.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

الثالث : لو كان الحسن والقبح شرعيّين لما حكم بهما من ينكر الشرائع ، والتالي باطل ؛ فإنّ البراهمة(٢) بأسرهم ينكرون الشرائع والأديان كلّها ، ويحكمون بالحسن والقبح ، مستندين إلى ضرورة العقل في ذلك(٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٣.

(٢) البراهمة أو البرهمانية : نسبة إلى برهمان أو برهام ، وهو اسم مؤسّس هذه الطريقة ، وقيل : هم قبيلة بالهند فيهم أشراف أهل الهند ، ويقولون : إنّهم من ولد برهمي ملك من ملوكهم ؛ ولهم علامة ينفردون بها ، وهي خيوط ملوّنة بحمرة وصفرة يتقلّدونها تقلّد السيوف ، وقيل : إنّهم قائلون بالتوحيد! ومن أصول هذه الطائفة ـ كذلك ـ نفي النبوّات أصلا وقرّروا استحالتها في العقول ، وقد تفرّقوا أصنافا ، فمنهم : أصحاب البددة ، وهم البوذيّون ؛ وأصحاب الفكر والوهم ، وهم العلماء منهم بالفلك والنجوم وأحكامها المنسوبة إليهم ؛ وأصحاب التناسخ.

انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ١ / ٨٦ ، الملل والنحل ٣ / ٧٠٦ ـ ٧١٦.

(٣) الإرشاد ـ للجويني ـ : ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٧١ ، شرح المواقف ٨ / ١٩٢.

٤٢١

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّ البراهمة المنكرين للشرائع يحكمون بالحسن والقبح للأشياء لصفة الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة ، لا تعلّق الثواب والعقاب.

وكيف يحكمون بالثواب والعقاب وهم لا يعرفونهما؟!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٦٨.

٤٢٢

وأقول :

البراهمة يحكمون بحسن الأفعال وقبحها بما هي أفعال ، كما هو محلّ الكلام على الصحيح

وما اختلقه بعض الأشاعرة من تعدّد المعاني والتفصيل فيها فإنّما قصدوا به الفرار لكن في غير الطريق المستقيم ، أو تسليم للحقّ لكن بوجه المعارضة.

* * *

٤٢٣

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

الرابع : الضرورة قاضية بقبح العبث ، كمن يستأجر أجيرا ليرمي من ماء الفرات في دجلة ، ويبيع متاعا ـ أعطي في بلده عشرة دراهم ـ في بلد يحمله إليه بمشقّة عظيمة ، ويعلم أنّ سعره كسعر بلده بعشرة دراهم أيضا.

وقبح تكليف ما لا يطاق كتكليف الزمن الطيران إلى السماء ، وتعذيبه دائما على ترك هذا الفعل.

وقبح ذمّ العالم الزاهد على علمه وزهده ، وحسن مدحه ، وقبح مدح الجاهل الفاسق على جهله وفسقه ، وحسن ذمّه عليهما.

ومن كابر في ذلك فقد أنكر أجلى الضروريات ؛ لأنّ هذا الحكم حاصل للأطفال ، والضروريات قد لا تحصل لهم.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٣.

٤٢٤

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّ قبح العبث لكونه مشتملا على المفسدة ، لا لكونه موجبا لتعلّق الذمّ والعقاب ، وهذا ظاهر.

وقبح مذمّة العاقل ، وحسن مدحة الزاهد ؛ للاشتمال على صفة الكمال والنقص.

فكلّ ما يذكر هذا الرجل من الدلائل هو إقامة الدليل على غير محلّ النزاع ، فإنّ الأشاعرة معترفون بأنّ كلّ ما ذكره من الحسن والقبح عقليّان ، والنزاع في غير هذين المعنيين.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧٠.

٤٢٥

وأقول :

ليت شعري أكان محلّ الكلام في حسن الأفعال وقبحها عقلا مشروطا بأن لا تكون فيها مصلحة ومفسدة حتّى يقول : إنّ قبح العبث لكونه مشتملا على مفسدة؟!

ومنشأ اشتباهه أنّه رأى أصحابه يعبّرون عن ملاءمة الغرض ومنافرته بالمصلحة والمفسدة(١) ، فتخيّل ذلك ولم يعلم أنّهم إنّما جعلوا الحسن والقبح ـ اللذين بمعنى الملاءمة والمنافرة ، والمصلحة والمفسدة ـ خارجين عن محلّ النزاع ؛ لا أنّه يشترط في محلّ النزاع عدم المصلحة والمفسدة في الفعل واقعا.

على إنّ قبح العبث ضروري وإن لم يشتمل على مفسدة ، بل لو اشتمل عليها لم يثبت القبح عندهم بمعنى المنافرة للغرض ، إذ لا غرض للعابث ، فيلزم أن لا يقبح العبث عندهم وقد أقرّوا بقبحه!

وأمّا قوله : « وقبح مذمّة العالم ، وحسن مدحة الزاهد »

ففيه : تسليم للحقّ باسم المعارضة ، والوفاق بصورة الخلاف ، فما ضرّهم لو أنصفوا؟!

واعلم أنّ الخصم لم يجب عن قبح تكليف ما لا يطاق عجزا عن الجواب ؛ لأنّ التكليف المذكور ليس عندهم صفة نقص ولا مفسدة ، وإلّا لما أجازوه على الله تعالى.

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٨٢.

٤٢٦

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

الخامس : لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير لما قبح من الله تعالى شيء.

ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة(٢) .

فإنّ أيّ نبيّ أظهر المعجزة عقيب ادّعاء النبوّة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوّة.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٤.

(٢) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٣١٨ و ٣٢١ ، ومؤدّاه في : المحيط بالتكليف : ٢٣٥.

٤٢٧

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّه لم يقبح من الله شيء.

قوله : « لو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على يد الكاذبين ».

قلنا : عدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ليس لكونه مقبحا عقلا ، بل لعدم جريان عادة الله تعالى ، الجاري مجرى المحال العادي بذلك.

قوله : « تجويز هذا يسدّ باب معرفة النبوّة ».

قلنا : لا يلزم هذا ؛ لأنّ العلم العادي حاكم باستحالة هذا الإظهار ، فلا ينسدّ ذلك الباب.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧١.

٤٢٨

وأقول :

كيف تصحّ دعوى العادة؟! والحال أنّه لا اطّلاع له على كلّ من ادّعى النبوّة!

ولو فرض الاطّلاع فمن المحتمل كذب كلّ من جاء بمعجزة ، فلا تثبت نبوّة صادقة فضلا عن جريان العادة بها.

على إنّه كيف يقطع بعدم تخلّف العادة في مقام تخلّف العادة بإظهار المعجزة؟!

* * *

٤٢٩

قال المصنّف ١(١) :

السادس : لو كان الحسن والقبح شرعيّين ، لحسن من الله تعالى أن يأمر بالكفر ، وتكذيب الأنبياء ، وتعظيم الأصنام ، والمواظبة على الزنا والسرقة ، والنهي عن العبادة والصدق ؛ لأنّها غير قبيحة في أنفسها ، فإذا أمر الله بها صارت حسنة ؛ إذ لا فرق بينها وبين الأمر بالطاعة ، فإنّ شكر المنعم ، وردّ الوديعة ، والصدق ، ليست حسنة في أنفسها ، ولو نهى الله عنها كانت قبيحة(٢) .

لكن لمّا اتّفق أنّه تعالى أمر بهذه مجانا لغير غرض ولا حكمة ، صارت حسنة ، واتّفق أنّه نهى عن تلك فصارت قبيحة ، وقبل الأمر والنهي لا فرق بينها.

ومن أدّاه عقله إلى تقليد من يعتقد ذلك فهو أجهل الجهّال ، وأحمق الحمقاء ، إذا علم أنّ معتقد رئيسه ذلك!

ومن لم يعلم ووقف عليه ثمّ استمرّ على تقليده فكذلك!

فلهذا وجب علينا كشف معتقدهم لئلّا يضلّ غيرهم وتستوعب البلية جميع الناس.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٤.

(٢) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٣١٨ ـ ٣٢٠.

٤٣٠

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّه لا يلزم من كون الحسن والقبح شرعيّين ، بمعنى أنّ الشرع حاكم بالحسن ، والقبح أن يحسن من الله الأمر بالكفر والمعاصي ؛ لأنّ المراد بهذا الحسن : إن كان استحسان هذه الأشياء ، فعدم هذه الملازمة ظاهر ؛ لأنّ من الأشياء ما يكون مخالفا للمصلحة لا يستحسنه الحكيم ، وقد ذكرنا أنّ المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها.

وإن كان المراد بهذا الحسن عدم الامتناع عليه ، فقد ذكرنا أنّه لا يمتنع عليه شيء عقلا ، لكن جرى عادة الله على الأمر بما اشتمل على مصلحة من الأفعال ، والنهي عمّا اشتمل على مفسدة من الأفعال.

فالعلم العادي حاكم بأنّ الله تعالى لم يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء قطّ ، ولم ينه عن شكر المنعم وردّ الوديعة ، فحصل الفرق بين هذا الأمر والنهي بجريان عادة الله الذي يجري مجرى المحال العادي ، فلا يلزم شيء ممّا ذكر هذا الرجل ، فقد زعم أنّه فلق الشعر في تدقيق هذا السؤال الظاهر دفعه عند أهل الحقّ ، حتّى رتّب عليه التشنيع والتفظيع ، فيا له من رجل ما أجهله!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧٢.

٤٣١

وأقول :

قد سبق أنّ القبيح عندهم ما نهي عنه شرعا ، والحسن ما لم ينه عنه كما في « المواقف »(١) .

وحينئذ فالأفعال كلّها ليست حسنة أو قبيحة بالنظر إلى ذواتها وقبل تعلّق التكاليف بها ، وإنّما تكون حسنة أو قبيحة بعد تعلّقها بها.

فلو تعلّق أمره تعالى مثلا بالكفر وتكذيب الأنبياء وتعظيم الشياطين كانت حسنة وكان أمره أيضا حسنا ؛ لأنّ أمره من فعله ، وفعله حسن ؛ لأنّه لم ينه عنه فيشمله تعريف الحسن المذكور ، كما صرّح به في « شرح المواقف »(٢) وذكرناه سابقا(٣)

وحينئذ يتمّ ما ذكره المصنّف ١ بقوله : « لو كان الحسن والقبح شرعيّين لحسن من الله تعالى أن يأمر بالكفر » فإنّ الكفر ـ مثلا ـ ليس قبيحا قبل التكليف ، فيصحّ تعلّق الأمر به ، وإذا تعلّق به صار حسنا كما يحسن الأمر به.

وبذلك يعلم أنّه لا محلّ لتفسير الخصم للحسن والقبح الشرعيّين بأنّ الشرع حاكم بهما ، ولا لترديده في مراد المصنّف ; بالحسن بين أمرين لا دخل لهما بمقصود المصنّف ولا بمصطلح الأشاعرة.

على إنّه لو أراد المصنّف الشقّ الأوّل فهو لازم لهم على مذهبهم ؛

__________________

(١) المواقف : ٣٢٣.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٨٢.

(٣) انظر الصفحتين ٤١٣ ـ ٤١٤ من هذا الجزء.

٤٣٢

لأنّ الأمور التي ذكرها المصنّف ، من الكفر وتكذيب الأنبياء وأشباههما مخلوقة لله تعالى عندهم ومن أفعاله ، فلو كانت مخالفة للمصلحة ولا يستحسنها الحكيم لما فعلها.

ودعوى أنّ فعله لها إنّما يدلّ على استحسانه لها من حيث فاعليّته لها ، لا من حيث كسب العبد إيّاها ومحلّيّته لها ، غير ضارّة في المطلوب لو سلّمت ، إذ لا يهمّنا إلّا إثبات ما أنكره الخصم من استحسانها على مذهبهم من أيّ حيثية كانت.

وقوله : « قد ذكرنا أنّ المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها »

خطأ ظاهر ؛ لأنّ الذي ذكره هو حصول المصلحة والمفسدة بمعنى الملاءمة والمنافرة لا الذاتيّين(١) .

وأمّا ما ذكره في الشقّ الثاني بقوله : « وإن كان المراد عدم الامتناع عليه ، فقد ذكرنا أنّه لا يمتنع عليه شيء عقلا ».

ففيه : إنّه بعد ما بيّن في الشقّ الأوّل أنّ الحكيم لا يستحسن ما يكون مخالفا للمصلحة ، كيف لا يمتنع عليه الأمر به؟! فإنّ الحكيم لا يجوز عليه أن يأمر بما يكون مخالفا للمصلحة ولا يستحسنه.

ثمّ ما ذكره من جريان العادة غير مفيد له ، فإنّه لو سلّم العلم بالعادة مع عدم الاطّلاع على أديان جميع الأنبياء ، فالإشكال إنّما هو من جهة جواز أمره تعالى بالكفر ونحوه وحسنه ، لا من جهة الوقوع حتّى يجيب بعدم جريان العادة.

__________________

(١) انظر الصفحة ٤١١ من هذا الجزء.

٤٣٣

وبالضرورة : إنّ تجويز مثله على الحكيم إخراج له عن الحكمة ، وهو كفر!

فظهر أنّ المصنّف قد فلق الشعر بتدقيقه ، فجزاه الله تعالى عن الدين وأهله أفضل جزاء المحسنين ، وجعلنا من أعوانه على الحقّ ، إنّه أكرم المسؤولين.

* * *

٤٣٤

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ(١) :

السابع : لو كان الحسن والقبح شرعيّين ، لزم توقّف وجوب الواجبات على مجيء الشرع ، ولو كان كذلك لزم إفحام الأنبياء ؛ لأنّ النبيّ إذا ادّعى الرسالة وأظهر المعجزة كان للمدعوّ أن يقول : إنّما يجب عليّ النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنّك صادق ، فأنا لا أنظر حتّى أعرف صدقك ، ولا أعرف صدقك إلّا بالنظر ، وقبله لا يجب عليّ امتثال الأمر ؛ فينقطع النبيّ ولا يبقى له جواب!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٤.

٤٣٥

وقال الفضل(١) :

جواب هذا قد مرّ في بحث النظر(٢)

وحاصله : إنّه لا يلزم الإفحام ؛ لأنّ المدعوّ ليس له أن يقول : إنّما يجب عليّ النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنّك صادق ؛ بل النظر واجب عليه بحسب نفس الأمر.

ووجوب النظر لا يتوقّف على معرفته له ؛ للزوم الدور كما سبق ، فلا يلزم الإفحام.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧٥.

(٢) انظر الصفحة ١٤٥ من هذا الجزء.

٤٣٦

وأقول :

قد سبق أنّ ارتفاع الإفحام إنّما يكون بعلم المدعوّ بالوجوب لا بمجرّد ثبوته واقعا ، كما ذكرناه موضّحا فراجع(١) .

* * *

__________________

(١) انظر الصفحتين ١٤٩ ـ ١٥٠ من هذا الجزء.

٤٣٧

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

الثامن : لو كان الحسن والقبح شرعيّين لم تجب المعرفة ؛ لتوقّف معرفة الإيجاب على معرفة الموجب ، المتوقّفة على معرفة الإيجاب ، فيدور

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٤.

٤٣٨

وقال الفضل(١) :

جواب هذا أيضا قد مرّ في ما سبق(٢) ، وأنّ توقّف وجوب المعرفة على الإيجاب ممنوع.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧٦.

(٢) انظر الصفحة ١٤٣ من هذا الجزء.

٤٣٩

وأقول :

قد مرّ فساد جوابه بما لا يخفى على ذي معرفة ، فراجع(١) .

* * *

__________________

(١) انظر الصفحة ١٤٨ ـ ١٥٠ من هذا الجزء.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672