مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154647 / تحميل: 6008
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

٢ ـ( هَلْ كُنتُ إلّا بَشَرًا رَّسُولاً ) ومعناه أنّه بشر مأمور لا يستطيع القيام بالممكن من هذه الاُمور إلّا بإذنه سبحانه، شأن كل رسول في إنجاز رسالته.

وبعبارة اُخرى إنّكم إن كنتم تطلبون هذه الاُمور منّي بما أنا بشر، فالممكن منها خارج عن إطار قدرة البشر، وإن كنتم تطلبون مني بما أنني رسول مبلغ فلا أستطيع التصرف بلا إذن ورخصة منه سبحانه، وعلى كل تقدير فهؤلاء الجهلة المجادلون ما كانوا ليؤمنوا ولو جاءهم النبي بأضعاف ما لم يطلبوا به. قال تعالى:( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلّا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام / ١١١ ).

والمراد من قوله:( إلّاأَن يَشَاءَ اللهُ ) هو المشيئة القاهرة التي تجبر الناس على الإيمان بالرسالة، وعندئذ لا يقام لمثل هذا الإيمان وزن ولا قيمة(١) .

* * *

٤ ـ طلب طرد الفقراء

روى الثعلبي باسناده عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقال: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك أفنحن نكون تبعاً لهم ؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم ؟ أطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فأنزل الله تعالى:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ) (٢) .

__________________

(١) لقد بسطنا الكلام في الجزء الرابع من هذه الموسوعة في تحديد الشروط التي يجب للنبي دونها القيام بالمعجزة وبيّنّاه في مفاد الآيات النافية للإعجاز، لاحظ: ص ٩٥ ـ ١٥٤ من ذلك الجزء.

(٢) مجمع البيان: ج ٤ ص ٣٠٥.

١٨١

قال ابن هشام: وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا جلس في المسجد وجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب وعمّار وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن اُميّة بن محرث وصهيب وأشباههم من المسلمين، هزأت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق ؟ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصّهم الله به دوننا، فأنزل الله تعالى فيهم:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ *وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ *وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنعام / ٥٢ ـ ٥٤ )(١) .

وقد ذكر في شأن نزول الآية وجه آخر يناسب كونها مدنيّة لا مكيّة، علماً بأنّ جميع آيات السورة مكيّة وهذا يبعد أن تكون هذه الآية وحدها مدنيّة مع أنّ لحن الآية يناسب كونها مكّية.

ومثله قوله سبحانه:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف / ٢٨ ).

والسورة مكيّة ومفاد الآية يشبه مفاد الآيات المكيّة، وقد ذكر في شأن نزولها أيضاً ما يعرب عن كونها مدنيّة، وإليك النص الدال على ذلك:

روى السيوطي في الدر المنثور: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي قاعداً مع بلال وصهيب وعمّار وخباب في اُناس ضعفاء من المؤمنين فلمّا رأوهم حقّروهم، فأتوه فخلوا به فقالوا: إنّا نحب أن تجعل

__________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام: ج ١ ص ٣٩٢ و ٣٩٣.

١٨٢

لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلاً، فإنّ وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمه معنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت، قال نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا عليّا ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) إلى قوله( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فألقى رسول الله الصحيفة من يده، فأتيناه وهو يقول:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فكنّا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) قال: فكان رسول الله يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم(١) .

يقول العلّامة الطباطبائي في هذا الصدد: « إستفاضت الروايات على نزول سورة الأنعام دفعةً، هذا والتأمل في سياق الآيات لا يبقي ريباً أنّ هذه الروايات إنّما هي من قبيل ما نسمّيه تطبيقاً، بمعنى أنّهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الإنطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فعدّوا القصّة سبباً لنزول الآية لا بمعنى أنّ الآية انّما نزلت وحدها دفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها، بل بمعنى أنّ الآية يرتفع بها ما يطرء من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) الآية، فإنّ الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنّها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّة بعد كرّة وعنده في كل مرّة عدّة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون الآية إنعطاف إلى هذه الإقتراحات أو بعضها(٢) .

__________________

(١) الدر المنثور: ج ٣ ص ١٣، ونقله في مجمع البيان عند تفسير الآيتين فلاحظ.

(٢) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٣

ويضيف قائلاً: « إنّ ما اقترح المشركون على النبي نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم على رسلهم من أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء والفقراء من المؤمنين تعزّزاً وتكبّرا وقد حكى الله سبحانه عن قوم نوح فيما حكى من محاجّتهعليه‌السلام حجاجاً يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى:( فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) إلى أن قال:( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ *وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( هود / ٢٧ و ٢٩ و ٣٠ )(١) .

__________________

(١) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٤

د ـ تعذيب النبيّ وأصحابه

قد كان إيقاع الأذى على الدعاة المصلحين من سنن المجتمعات الجاهلية حيث قد كان أهلها يخالونهم أعداء لأنفسهم ومصالحهم فكانوا يقابلونهم بالإيذاء والشتم والضرب والقتل فلم يكن النبي فيما لاقاه من الأذى والسب والتنكيل به وبأصحابه بدعاً من الاُمور.

وقد أدار المشركون رحى الشر عليهم طيلة لبثهم في مكة فجاء الوحي يحثّهم على الصبر والثبات بتعابير وأساليب مختلفة وإليك توضيح ذلك:

١ ـ نزل الوحي مسلّياً بقوله:( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المُرْسَلِينَ ) ( الأنعام / ٣٤ ) وقوله:( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ( النحل / ١٢٧ ).

٢ ـ ومحفزاً تارة اُخرى بتذكيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بجَلَد أولى العزم في إداء رسالاتهم بقوله:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) ( الأحقاف / ٣٥ ).

٣ ـ وثالثة داعياً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله تفويض الأمر إلى الله والتريّث حتى يأتي موعده بقوله:( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس / ١٠٩ ).

٤ ـ ورابعاً مروّضا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قبال ما يكال إليه من

١٨٥

صنوف الايذاء بقوله:( وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً ) ( المزمل / ١٠ ).

٥ ـ وخامساً منبّهاً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتجنب ما وقع فيه النبيّ يونس بقوله سبحانه:( وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ ) ( القلم / ٤٨ ).

فهذه الآيات ونظائرها تعرب عن عظم درجة الايذاء والوصب الذي عاناه النبي في سبيل إرساء قواعد دعوته حيث قابلها برحابة صدر وسعة نفس، وعلى الرغم من كل ذلك فلم تتحرك شفتاه بطلب إنزال العذاب عليهم. سواء عندما كان في مكة أم بعد مغادرتها إلى المدينة فكان يقابل تزمّت قومه وعنادهم بالحكمة والموعظة الحسنة ما وجد لذلك سبيلاً.

المضطهدون في صدر البعثة

وقد جاء في كتب السيرة أسماء الذين عذّبوا بيد قريش من صحابة النبي الأكرم وعلى رأسهم « ياسر » و « سميّة » أبوا عمّار، و « صهيب » و « بلال » و « خباب » وقد اُستشهد أبو عمّار واُمّ عمّار بتعذيب المشركين وأمّا عمّار فقد أعطاهم بلسانه ما أرادوا منه وبقي قلبه مطمئن بالإيمان وعندما جاء خبر تعذيب قريش لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يزل يلهج بهم ويدعو لهم ويقول: إصبروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أبشروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أللّهم اغفر لآل ياسر وقد فعل.

يقول ابن هشام: وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار وأبيه واُمّه وكانوا أوّل أهل بيت في الإسلام إذا حميت الظهيرة يعذّبونهم برمضاء مكّة فيمر بهم رسول الله فيقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنّة. صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة(١) .

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ج ١ ص ٣١٩ ـ ٣٢٠.

١٨٦

يروي أبو نعيم عن عثمان بن عفان قال: لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالبطحاء فأخذ بيدي فانطلقت معه، فمرّ بعمّار واُمّ عمار وهم يعذّبون، فقال: صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة.

وروى أيضاً عن مجاهد: أوّل من أظهر الإسلام سبعة، فعدّ منهم عمّار وسميّة ـ اُمّ عمّار ـ.

وكانوا يلبسونهم أدراع الحديد ثمّ يسحبونهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس، فلمّا كان من العشيّ أتاهم أبوجهل ـ لعنه الله ـ ومعه حربة فجعل يشتمهم ويوبّخهم(١) .

ثمّ إنّ المشركين أصابوا عمّار بن ياسر فعذّبوه ثمّ تركوه ( لأنّه أعطاهم ما يطلبون ) فرجع إلى رسول الله فحدّثه بالذي لقي من قريش.

وفي رواية: أخذ بنو المغيرة فغطّوه في بئر ميمون وقالوا: أكفر بمحمّد، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره.

وفي رواية ثالثة: أخذ المشركون عمّار بن ياسر فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا، فشكى ذلك إلى النبي، فقال النبي: كيف تجد قلبك ؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : فإن عادوا فعد، فنزل قوله سبحانه:( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النحل / ١٠٦ ).

فأخبر الله سبحانه أنّه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله وله عذاب أليم، وأمّا من أكره وتكلّم بها لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه، لأنّ الله سبحانه إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم(٢) .

__________________

(١) حلية الأولياء: ج ١ ص ١٤٠.

(٢) تفسير الطبري: الجزء ١٤، ص ١٢٢.

١٨٧

لقد تطرّق إلى بعض القلوب أنّ عمّاراً كفر، فقال النبي: إنّ عمّاراً مِلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال: ما وراءك ؟ فقال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، وأضاف الطبرسي أنّ ياسراً وسميّة أبوي عمّار أوّل شهيدين في الإسلام(١) .

إنّ الأساليب التي أنتهجتها وتبنّتها قريش لشل حركة تقدم الدعوة النبويّة لـمّا أضحت فاشلة، إضطرّت إلى اللجوء إلى أسلوب آخر وهو اثارة الضوضاء والضجيج، للحيلولة دون بلوغ القرآن إلى مسامع الناس.

إثارة الضوضاء عند تلاوة النبي للقرآن

كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي وكانت العرب تعرف بفطرتها أنّه كلام فوق كلام البشر، وأنّ له لحلاوة وأنّ عليه لطلاوة وأنّ أعلاه لمثمر وأنّ أسفله لمغدق وأنّه يعلو وما يعلى عليه(٢) .

هكذا وصف القرآن بعض أعداء النبي، وقد كانت الشباب من قريش وغيره يدركون حلاوة القرآن بذوقهم السليم فيندفعون إلى الإعتناق به حيث كان القرآن يأخذ بمجامع قلوبهم ويوردهم المنهل العذب من الإيمان، فلم ير أعداء النبي بدّاً من نهي العرب عن الاستماع إليه وقد كان النبي يجهر بالقرآن في الأشهر الحرم في المسجد الحرام، فاحتالوا بالمكاء والتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله حتى لا يسمع صوته ولا يعلم كلامه، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ( فصّلت / ٢٦ ). حتى يصدّوا بذلك

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٨٨.

(٢) اقتباس من كلام الوليد بن المغيرة، راجع مجمع البيان: ج ٥ ص ٣٨٧، والسيرة النبويّة: ج ٥ ص ٣٨٢.

١٨٨

من اَراد استماعه، فإذا لم يسمع ولم يفهم لا يتبعه فيغلبون بذلك محمداً(١) . فأوعدهم الله سبحانه بقوله:( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ولقد تحقّق وعده سبحانه في الدنيا يوم بدر فقتل منهم من قتل وأسر منهم من اُسر، فنالوا جزاء أعمالهم، وبقي عليهم العذاب الأكبر الذي يجزون به في يوم البعث. يقول سبحانه:( ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) ( فصّلت / ٢٧ و ٢٨ ).

العذر الأخير للإمتناع عن قبول الدعوة

وأقصى ما كان عند قريش من العذر لتبرير عملهم وعدم إعتناقهم لدين النبي، هو أنّهم كانوا يخافون من مشركي الجزيرة العربيّة حيث إنّهم كانوا على خلاف التوحيد بل على عبادة الأصنام، فقالوا: لو اعتنقنا دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ورفضنا الأصنام والأوثان، لثار الجميع علينا، وهذا ما يحكيه عنهم قوله سبحانه:( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) ( القصص / ٥٧ ) والآية تعطي أنّهم كانوا واقفين على أنّ دين النبي حقٌّ ولكن الذي منعهم عن اتباع الهدى مخافة أن تتخطّفهم العرب من أرضهم وليس لهم طاقة بهم(٢) .

فردّه الوحي بأنّ الله سبحانه جعل بهم مكّة دار أمن وأمان ودفع ضرّ الناس عنهم عندما كانوا مشركين فإذا آمنوا واعتنقوا دين الله يعمّهم الأمن والسلامة أيضاً لأنّهم في حالة الإيمان أقرب إلى الله سبحانه من حالة الكفر، فالخالق الذي قطع أيدي الأشرار عن بلدهم قادر في كلتا الحالتين، وإليه يشير قوله سبحانه:( أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ٢٤ ص ٧٢.

(٢) التخطّف: أخذ الشيء على وجه الإضطراب من كل وجه، والمصطلح الدارج هو الإختطاف.

١٨٩

أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( القصص / ٥٧ ).

كان على هؤلاء أن يعتبروا بأقوام متمرّدين الذين أعطوا المعيشة الواسعة، فلم يعرفوا حق النعمة وكفروا فعمّهم الهلاك وهذه ديار عاد وثمود وقوم لوط صارت خالية عن أهلها وهي قريبة منهم، فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف وهو موضع بين اليمن والشمال وديار ثمود بوادي القرى، وديار لوط بسدوم وكانت قريش تمر بهذه المواضع في تجارتها، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ (١) مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص / ٥٨ ).

هذا آخر ما كان عندهم من المبرّرات لعدم الإيمان بالدّعوة.

خرافة الغرانيق

كان اللازم علينا ضرب الصفح عن تناول هذه الخرافة التاريخية بالبحث لأَنّا قد اعتمدنا في سرد حوادث السيرة النبوية وفق ما ورد في القرآن الكريم، فما جاء في خلال آياته نذكره وما لم يرد نتركه إلى كتب السيرة والتاريخ، غير أنّ هذه القصة لـمّا الصقت بساحة القرآن الكريم القدسيّة بالإستناد إلى بعض الآيات الموهمة لذلك كذباً وزوراً، فصارت ذريعة في الآونه الأخيرة بيد أعداء الدين من المستشرقين ك‍ « بروكلمان » في كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية، ص ٣٤، وكتاب « الإسلام » لفرويد هيوم، لزم علينا التطرّق لتلك الخرافة وتحليلها تحليلاً علميّاً مؤيّداً بالبرهان الرصين والحجّة الدّامغة حتى لا يبقى لمشكك شكّ ولا لمريب ريب إلّا من أخذته العصبية العمياء فإنّها داء لا علاج له، خصوصاً ما نشاهده في المؤامرة الأخيرة التي حاكتها بريطانيا وغيرها من أذناب الكفر العالمي حيث زمّروا وطبّلوا لكتاب « الآيات الشيطانية » لمؤلّفه « سلمان رشدي » ومنحوا له جائزة أدبية في ذلك المجال، والرجل

__________________

(١) البطر: الطغيان عن النعمة.

١٩٠

هندي الأصل بريطاني الجنسيّة والدراسة وقد ترجم الكتاب بإيعاز من الدول المستعمرة إلى أكثر اللغات العالميّة مع أنّه ليس بكتاب أدبي ولا علمي ولا تاريخي، بل أشبه بأضغاث أحلام نسجها الخيال وروّج لها الإستعمار، وإليك القصّة على وجه الإجمال:

« جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه:( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ) فقرأه رسول الله حتى إذا بلغ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) ألقى عليه الشيطان كلمتين:

« تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ لَشَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْجَى » فتكلّم بها ثمّ مضى فقرأ السورة كلّها فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به، وقالوا: قد عرفنا أنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكنّ آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيباً، فنحن معك. قالا ( محمد بن كعب القرظي ومحمد ابن قيس ): فلمّا أمسى أتاه جبرئيلعليه‌السلام فعرض عليه السورة فلمّا بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إفتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل !! فأوحى الله عليه:( كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) . فما زال مغموماً مهموماً حتّى نزلت عليه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / ٥٢ )، قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة: إنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما يلقي الشيطان »(١) .

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ١٧، ص ١٣١.

١٩١

وتحقيق القوم في تلك القصّة يتوقّف على البحث عن سند الرواية التي أوردها الطبري في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور أوّلاً، ودراسة متنها وعرضه على العقل والقرآن ثانياً لكي يتجلّى الحق بأجلى مظاهره.

تحليل سند الرواية

إنّ هذه الروايات لا يمكن الإحتجاج بها لوجهين:

الأوّل: إنّ أسانيدها تنتهي إلى التابعين الذين لم يدركوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

من أمثال:

١ ـ محمد بن كعب القرظي ٢ ـ محمد بن قيس ٣ ـ أبو العالية ٤ ـ سعيد بن جبير ٥ ـ الضحّاك ٦ ـ ابن شهاب.

ولم يدرك واحد منهم النبي قطّ وهم قد ساقوا القصّة من دون أن يذكروا الواسطة بينهم وبينه، وإليك نصوص علماء الرجال في حقّهم:

الف ـ محمد بن كعب القرظي

قال ابن حجر: قال العجلي: مدني تابعي ...، وقال البخاري: إنّ أباه كان ممّن لم يَثْبُت يوم قريظة فترك، وما نقل من قتيبة من أنّه ولد في عهد النبي لا حقيقة له. إنّما الذي ولد في عهده، هو أبوه، وقد ذكروا انّه كان من سبي قريظة ممّن لم يحتلم ولم ينبت فخلّوا سبيله، حكي ذلك البخاري في ترجمة محمد، ويدلّ على ذلك إنّه مات سنة ١٠٨ ه‍ ق وقيل: ١١٧ ه‍ ق وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وجاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من طرق أنّه قال: يخرج من أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون بعده. قال ربيعة: فكنّا نقول: هو محمد بن كعب، والكاهنان قريظة والنضير ـ إلى أن يقول ـ:

١٩٢

... فكان يقص في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف، فمات هو وجماعة معه(١) .

ب ـ محمد بن قيس

وهو محمد بن قيس المدني قاض عمر بن عبد العزيز، روى عن أبي هريرة وجابر، ويقال: مرسل، توفّي أيام الوليد بن يزيد. روى عنه أبو معشر ـ قال ابن معين: ليس بشيء لا يروى عنه(٢) .

ج ـ ابن شهاب

وهو محمد بن مسلم الزهري ـ كان يدلّس في النادر ـ وهو أحد التابعين بالمدينة، وقال ابن حجر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ابن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري وكنيته أبو بكر وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين [ بعد المائة ] وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين(٣) .

د ـ أبو العالية

وهو رفيع بن مهران الرياحي أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي بسنتين ودخل على أبي بكر وصلّى خلف عمر حتى قيل: إنّه أدرك عليّاً ولم يسمع منه(٤) .

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤٢١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤١٤.

(٣) ميزان الإعتدال: ج ٤ ص ٤٠، وتقريب التهذيب: ج ٢ ص ٢٠٧، ووفيات الاعلام: ج ٤ برقم ٥٦٣.

(٤) تهذيب التهذيب: ج ٣ ص ٣٨٤.

١٩٣

ه‍ ـ سعيد بن جبير

فهو سعيد بن جبير الكوفي روى عن ابن عباس وابن الزبير وغيره، قتله الحجّاج صبراً سنة ٩٥(١) .

و ـ الضحّاك

وهو الضحّاك بن عثمان. قال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. مات بالمدينة سنة ثلاث وخمسين(٢) .

هؤلاء الذين ينتهي إليهم السند كلّهم تابعون، نعم رواه الطبري أيضاً عن ابن عباس فهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ـ مات سنة ثمان وستين بالطائف وهو أحد المكثرين من الصحابة، ولكنّه لم يكن حاضراً في زمن القصة بل لم يكن متولّداً فيه ( لأنّ تاريخها يرجع إلى السنة الخامسة من البعثة وهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ) فتكون روايته مقطوعة.

وعلى كل تقدير فكل ما رواه الطبري في هذا المجال مراسيل أو مقطوعات لا يمكن الإحتجاج بها.

الثاني: إنّ الأسانيد تشتمل على رجال ضعاف لا يمكن الإحتجاج بهم سوى طريق سعيد بن جبير وقد عرفت أنّه أيضاً مرسل.

هذا ما لدى الطبري في تفسيره وأمّا ما نقله السيوطي فلا يقصر عمّا نقله الطبري في الضعف والإرسال، وقد رواه عن « أبي صالح » وأبي بكر بن عبد الرحمان ابن الحارث و « السدى » أيضاً.

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ١١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ٤٤٧.

١٩٤

أمّا الأوّل فهو مشترك بين ١٩ شخصاً لم يرو واحد منهم عن النبي فالجلّ لولا الكل تابعون(١) .

وأمّا الثاني فهو أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث ولد في خلافة عمر(٢) .

وأمّا الثالث فهو محمد بن مروان تابعي. قال ابن معين: ليس بثقه، قال ابن نمير: ليس بشيء وكان كذّاباً(٣) .

نعم رواه أيضاً عن سعيد بن جبير وابن عباس وقد عرفت حالهما، ورواه عن السدي وهو أيضاً تابعي.

مضافاً إلى إشتمال الإسناد على رجال ضعاف، وأمّا ما ذكره السيوطي من أنّه أخرج الطبراني والبزاز وابن مردويه والضياء في المختار بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فهو غير صحيح لما عرفت من أنّ المرسل والمقطوع لا يوصفان بالصحة على الإطلاق ولو وصفا بالصحّة فالمراد هو الصحّة النسبية، فلا يحتج بها.

إنّ علماء الإسلام وأهل العلم والدراية من المسلمين، قد أشبعوا هذه الرواية نقضاً وردّاً وإبراماً فوصفها السيد مرتضى: بأنّها خرافة وضعوها(٤) .

وقال النسفي عند القول بها: غير مرضي. وقال الخازن في تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متّصل، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها(٥) .

__________________

(١) راجع تهذيب التهذيب: ج ١٢ ص ١٣٠ ـ ١٣١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ١٢ ص ١٣٠ ـ ١٣٣.

(٣) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤٣٦ برقم ٧١٩.

(٤) تنزيه الأنبياء: ص ١٠٩.

(٥) الهدى إلى دين المصطفى: ج ١ ص ١٣٠.

١٩٥

وقال القاضي عياض: إنّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحّة ولا رواه ثقة بسنده سليم متصل، وإنّما أولع به المفسّرون، والمؤرّخون، المولعون بكل غريب، والمتلقّفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي بكر بن العلا المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلّق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع أسناده واختلاف كلماته(١) .

وقال أمين الإسلام الطبرسي: أمّا الأحاديث المروية في هذا الباب فهي مطعونة ومضعّفة عند أصحاب الحديث، وقد تضمّنت ما ينزّه الرسل عنه، فكيف يجوز ذلك على النبي وقد قال سبحانه:( كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) وقال:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ ) .

وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لما تلا سورة والنجم وبلغ إلى قوله:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) علمت قريش من عادته أنّه كان يعيبها، قال بعض الحاضرين من الكافرين: ( تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى ) فظنّ الجهّال أن ذلك من قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وقال السيّد الطباطبائي: إنّ الأدلّة القطعيّة على عصمته تكذّب متنها، وإن فرضت صحّة سندها، فمن الواجب تنزيه ساحته المقدّسة عن مثل هذه الخطيئة، مضافاً إلى أنّ الرواية تنسب إليه أشنع الجهل وأقبحه فقد تلا « تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى » وجهل أنّه ليس من كلام الله، ولانزل به جبرئيل، وجهل أنّه كفر صريح يوجب الإرتداد، ودام على جهله، حتى سجد وسجدوا في آخر السورة، ولم يتنبّه ثمّ دام على جهله حتى نزل عليه جبرئيل، وأمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه وأعاد الجملتين وهو مصرّ على جهله، حتى أنكره عليه جبرئيل، ثمّ أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع والخطيئة الفاضحة لجميع الأنبياء

__________________

(١) الشفاء: ج ٢ ص ١٢٦.

(٢) الطبرسي مجمع البيان: ج ٤ ص ٦١ و ٦٢.

١٩٦

والمرسلين وهي قوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) .

لو جاز مثل هذا التصرّف من الشيطان في لسانه بالقائه جملة أو جملتين، في ثنايا الوحي، لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي، فكان من الجائز حينئذ أن تكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان فيلقي نفس هذه الآية( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) فيضعه في لسان النبي وذكره، فيحسبها من كلام الله الذي نزل به جبرئيل كما حسب حديث الغرانيق كذلك ـ إلى أن قال ـ وبذلك يرتفع الإعتماد والوثوق بكتاب الله من كل جهة، وتلغى الرسالة والدعوة النبويّة بالكليّة جلّت ساحة الحق من ذلك(١) .

هذا كلّه راجع إلى اسناد الرواية وكلمات العلماء بشأنه، وأمّا ما يرجع إلى متنها فنشير إلى أمرين كل واحد كاف لإبطال الرواية:

تحليل متن الرواية

١ ـ إنّ هذه الروايات أجمعت على أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ سورة والنجم فلمّا بلغ إلى قوله( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) وسوس إليه الشيطان بهاتين الجملتين ثمّ مضى في التلاوة حتى إذا بلغ آية السجدة في آخر السورة، سجد وسجد معه المشكرون.

فنقول: إنّ الذين كانوا في المسجد كانوا على قدر من الوعي والدراية فكيف يعقل منهم أنّهم سمعوا هاتين الجملتين، اللتين تتضمّنان مدح أصنامهم وأوثانهم، وغاب عن سمعهم ما يتضمّن التنديد والازراء بشأن آلهتهم، فإنّه قد جاء بعد هاتين الجملتين المدّعيتين قوله سبحانه:( إِنْ هِيَ إلّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن

__________________

(١) الطباطبائي، الميزان: ج ١٤ ص ٤٣٥ و ٤٣٦.

١٩٧

رَّبِّهِمُ الهُدَىٰ ) ( النجم / ٢٣ ).

فهل يتعقّل أن ينسب إلى أوتاد الفصاحة والبلاغة أنّهم أقنعوا بهاتين الجملتين، وفاتهم ما تضمّنته الآيات الكثيرة التي أعقبتها.

فهذه حجة بالغة على أنّ واضع القصة كان غافلاً عن تلك الآيات التي ترد على هاتين الجملتين بصلابة.

٢ ـ إنّ وجود التناقض في طيّات الرواية من جهات شتّى دليل واضح على كونها مختلقة حاكتها أيدي القصّاصين.

وأمّا بيان ذلك التناقض فمن وجوه:

أ ـ تروي الروايات أنّ النبي والمسلمين والمشركين سجدوا إلّا الوليد ابن المغيرة فإنّه لم يتمكّن من السجود لشيخوخته، وقيل: مكانه سعيد بن العاص، وقيل: كلاهما، وقيل: اُميّة بن خلف، وقيل: أبو لهب، وقيل: المطّلب.

ب ـ تضمّن بعضها أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأها وهو قائم يصلّي، وتضمّن البعض الآخر أنّه قرأها بينما هو جالس في نادي قومه.

ج ـ يقول بعضها: حدّث بها نفسه، وآخر: جرت على لسانه.

د ـ يقول بعضها: انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تنبّه لها حين تلاوتها، والآخر: انّه لم يتنبّه إلى المساء حتى جاء إليه جبرئيل فعرضها عليه ثمّ تبيّن له الخطأ، إلى غير ذلك من وجوه التناقض التي يقف عليها المتتبع عند التأمّل وامعان النظر في متون الروايات المختلفة التي جمعها ابن جرير والسيوطي في تفسيرهما.

فحصيلة الكلام: إنّ الرواية بشتّى طرقها وصورها لا تصحّ الإحتجاج بها لكون إسنادها مراسيل ومقاطيع من جانب، وكونها متضاربة المضمون من جانب آخر، والذي يسقط الرواية عن الحجّية أنّها تنتهي إلى قصّاصين نظير محمد بن كعب

١٩٨

القرظي ومحمد بن قيس، وهما مولعان بذكر كل صحيح وسقيم في أنديتهم ومجالسهم، لأنّ لكل غريب لذّة، ليس في غيره، خصوصاً أنّ محمد بن كعب ابن بيت يهودي أباد النبي قبيلته، ولم يبق منه إلّا نفراً قليلاً، فمن المحتمل جداً أنّه حاكها على نول الوضع لينتقم من النبي الأكرم وليشوِّه عصمته، والآفة كل الآفة من هؤلاء المستسلمين مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه.

ثمّ إنّ الآية التي زعمت الرواية أنّها نزلت في تلك الواقعة أعني قوله سبحانه:

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / ٥٢ ). وقد فرغنا من تفسيره في هذه الموسوعة عند البحث عن عصمة الأنبياء فلا نعيد(١) .

__________________

(١) مفاهيم القرآن: ج ٤ ص ٣٤٨ ـ ٤٥٠.

١٩٩
٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

وكأنّ أوراق الكتاب التكويني ـ على غرار الكتاب التدويني ـ شد بعضها إلى بعض بيد واحدة، وأُخرجت في صورة واحدة.

إنّ القوانين والسنن الحاكمة على الموجودات الطبيعية كلية وشاملة بحيث لو أُتيح لأحد أن يكتشف بالتجربة سنة في نقطة خاصة من نقاط الكون أمكنه أن يكتشف قانوناً كلياً وشاملاً، ويهتدي إلى سنة كونية عمومية وهذا هو أفضل دليل على وحدة النظام الحاكم على العالم الطبيعي.

إنّ وحدة النظام الكوني « وعمومية » السنن والقوانين الطبيعية تقودنا إلى موضوعين :

١. أنّه ليس للعالم إلّا خالق واحد، وتوضيح ذلك هو ما قرأته في الفصل السابق.

٢. انّه ليس للعالم إلّا مدبِّر واحد.

وبعبارة أُخرى، فإنّ وحدة النظام والسنن الكونية لدليل واضح على صحة ما قاله القرآن الكريم.

( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (١) .

إنّ جملة:( لَهُ الخَلْقُ ) إشارة إلى التوحيد في الخالقية.

وجملة:( وَالأمْرُ ) إشارة إلى التوحيد في التدبير الذي هو نوع من الحاكمية على عالم الوجود.

وهنا ينطرح سؤال هو: كيف تدل « وحدة القوانين » وعموميتها على « وحدة المدبِّر »؟

__________________

(١) الأعراف: ٥٤.

٤٠١

وجواب ذلك واضح: إذ عندما يحكم على الكون نوعان من الرأي والحاكمية يكون من الطبيعي والحتمي عدم وجود أي أثر لهذا النظام الواحد، انّ وحدة النظام لا تتحقّق ولا تكون إلّا إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم ومدبِّر واحد، ولو خضع الكون لإدارة حاكمين ومنظمين ومدبِّرين لما كان للنظام الموحد أي أثر.

لأنّ تعدّد المدبِّر والمنظِّم ـ بحكم اختلافهما في الذات أو بعض الجهات منها ـ يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير والإدارة، ويستلزم تعدّد التدبير ـ بالضرورة ـ فناء النظام الموحد، وغيابه.

وبعبارة أُخرى: انّ المدبِّرين إن كانا متساويين من كل الجهات لم تصدق هناك اثنينية قهراً، وإن تعدّد المدبِّر يعني ـ بالضرورة ـ اختلاف المدبِّرين من جهة أو جهات، ومعلوم أنّ اختلافاً ـ كهذا ـ يؤثر لا محالة في تدبير المدبِّر.

* * *

ويمكن بيان هذا البرهان بصورتين :

١. أن نلتفت ـ في بيان البرهان ـ إلى الجوانب الإيجابية فيه ونقول: إنّ ترابط أجزاء الكون، وتأثيرها في بعضها يدلّ على خضوعها لحاكمية حاكم واحد على جميع العالم يقودها تحت نظام واحد وخطة واحدة.

وقد أكد في أحاديث أئمّة أهل البيت: على هذه النقطة أحياناً، إذ يقول أحدهم وهو :

« فلما رأيت الخلق منتظماً، والفلك جارياً، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر، دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبِّر

٤٠٢

واحد »(١) .

٢. وربما أُشير إلى الجوانب السلبية في هذا البرهان وأنّ تعدّد التدبير يوجب فساد النظام الكوني.

وقد استند القرآن الكريم على هذا الجانب، إذ قال:

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٢) .

وربما ورد في بعض نصوص أهل بيت الرسالة الإشارة إلى كلا الجانبين في هذا البرهان، إذ يقول أحدهم: في جواب هشام الذي سأل عن دليل وحدانية الرب :

« اتصال التدبير وتمام الصنع، كما قال الله عزّ وجل:( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا ) (٣) .

النتيجة

١. انّ وحدة النظام ووحدة الكون وشمول السنن لجميع أجزاء هذا العالم وعمومية القوانين الطبيعية كل ذلك يمكن أن يكون أفضل دليل على وحدة الخالق، وكذا وحدة المدبِّر.

٢. أنّ هذا البرهان يمكن أن يبين في صورتين، وكلا الصورتين اللّتين هما ـ في الحقيقة ـ برهان واحد وردا في القرآن الكريم.

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٢٤٤.

(٢) الأنبياء: ٢٢.

(٣) توحيد الصدوق: ٢٥٠ وسيوافيك الاستدلال بهذه الآية بشكل آخر.

٤٠٣

ما معنى المدبِّرات في القرآن ؟

فإذا كانت الظواهر الطبيعية وليدة عللها التي هي الموجدة والمدبِّرة لهذه الظواهر بنحو من الأنحاء، فكيف ينسجم هذا مع حصر المدبّرية المطلقة في الله تعالى ؟

فإنّ التدبير الطبيعي عبارة عن تكفّل شيء لشيء آخر، فإنّ كل علة في هذا النظام الكوني متكفّلة لوجود معلولها وسبب لاستمرار بقائه ودوامه، وبمقتضى ذلك تكون كل علة مدبّراً، وعند ذلك فكيف ينحصر التدبير في الله سبحانه ؟

مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم يعترف بسلسلة من المدبِّرات ويقول :

( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (١) .

( وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) (٢) .

ولا شك أنّ هؤلاء الحفظة لو كانوا يراقبون البشر ويحفظونه من الشرور والأخطار، فإنّ من الحتمي أن يعدوا مدبِّرين له بنحو ما ؟

الجواب

قد سبق منّا ـ عند البحث عن التوحيد في الخالقية ـ أنّ التوحيد في الأفعال ليس بمعنى تعطيل فاعلية الأسباب والعلل وإحلال الله تعالى محلها للتأثير في الظواهر مباشرة، لأنّ هذا عين ما اختارته الأشاعرة، الذي أبطلناه.

بل التوحيد في الأفعال ـ سواء أكان في الخالقية أم في التدبير ـ إنّما هو

__________________

(١) النازعات: ٥.

(٢) الأنعام: ٦١.

٤٠٤

بمعنى أنّه لا يوجد في الكون مؤثر مستقل سواه، وإنّ تأثير سائر العلل إنّما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه ومشيئته، والاعتراف بمثل هذه المدبّرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في الله سبحانه، ومن ليس له إلمام بألفباء المعارف والمفاهيم القرآنية يواجه حيرة كبيرة تجاه طائفتين من الآيات، إذ كيف يمكن أن تنحصر بعض الشؤون والأفعال كالشفاعة، والمالكية، والرازقية والعلم بالغيب والإحياء في بعض الآيات بالله سبحانه بينما تنسب هذه الأفعال في آيات أُخرى إلى غير الله من عباده، فكيف ينسجم ذلك الانحصار مع هذه النسبة ؟

وإليك نماذج من هاتين الطائفتين من الآيات :

١. يعد القرآن ـ في بعض آياته ـ قبض الأرواح فعلاً لله تعالى، ويصرح بأنّ الله هو الذي يتوفّي الأنفس حين موتها إذ يقول ـ مثلاً ـ :

( اللهُ يَتَوفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) .

بينما نجده يقول في موضع آخر، ناسباً التوفّي إلى غيره :

( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (٢) .

* * *

٢. يأمر القرآن ـ في سورة الحمد ـ بالاستعانة بالله وحده إذ يقول :

( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

في حين نجده في آية أُخرى يأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة إذ يقول :

__________________

(١) الزمر: ٤٢.

(٢) الأنعام: ٦١.

٤٠٥

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (١) .

* * *

٣. يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقاً مختصاً بالله وحده، إذ يقول :

( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (٢) .

بينما يخبرنا ـ في آية أُخرى ـ عن وجود شفعاء غير الله كالملائكة :

( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمٰوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يأْذَنَ اللهُ ) (٣) .

٤. يعتبر القرآن الاطّلاع على الغيب والعلم به منحصراً في الله، حيث يقول :

( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ والأرضِ الغَيْبَ إلّا اللهُ ) (٤) .

فيما يخبر الكتاب العزيز في آية أُخرى عن أنّ الله يختار بعض عباده لاطّلاعهم على الغيب، إذ يقول :

( وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَىٰ الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (٥) .

__________________

(١) البقرة: ٤٥.

(٢) الزمر: ٤٤.

(٣) النجم: ٢٦.

(٤) النمل: ٦٥.

(٥) آل عمران: ١٧٩.

٤٠٦

٥. ينقل القرآن عن إبراهيمعليه‌السلام قوله بأنّ الله يشفيه إذا مرض حيث يقول :

( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (١) .

وظاهر هذه الآية هو حصر الإشفاء من الأسقام في الله سبحانه، في حين أنّ الله يصف القرآن والعسل بأنّ فيهما الشفاء أيضاً، حيث يقول :

( فِيهِ [ العسل ]شِفَاءٌ لِلنّاسِ ) (٢) .

( وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ) (٣) .

٦. إنّ الله تعالى ـ في نظر القرآن ـ هو الرازق الوحيد حيث يقول :

( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ ) (٤) .

بينما نجد القرآن يأمر المتمكنين وذوي الطول بأن يرزقوا من يلوذ بهم من الضعفاء إذ يقول :

( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) (٥) .

٧. الزارع الحقيقي ـ حسب نظر القرآن ـ هو الله كما يقول :

__________________

(١) الشعراء: ٨٠.

(٢) النحل: ٦٩.

(٣) الإسراء: ٨٢.

(٤) الذاريات: ٥٨.

(٥) النساء: ٥.

٤٠٧

( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ *ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) (١) .

في حين أنّ القرآن الكريم ـ في آية أُخرى ـ يطلق صفة الزارع على الحارثين إذ يقول :

( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ ) (٢) .

* * *

٨. إنّ الله هو الكاتب لأعمال عباده إذ يقول :

( واللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) (٣) .

في حين يعتبر القرآن الملائكة ـ في آية أُخرى ـ بأنّهم المأمورون بكتابة أعمال العباد، إذ يقول :

( بَلَىٰ وَرُّسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (٤) .

* * *

٩. وفي آية ينسب تزيين عمل الكافرين إلى نفسه سبحانه يقول :

( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) (٥) .

وفي الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان :

__________________

(١) الواقعة: ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) الفتح: ٢٩.

(٣) النساء: ٨.

(٤) الزخرف: ٨١.

(٥) النمل: ٤.

٤٠٨

( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ ) (١) .

وفي آية أُخرى نسبها إلى آخرين وقال :

( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ ) (٢) .

* * *

١٠. مر في هذا البحث حصر التدبير في الله حتى إذا سئل من بعض المشركين عن المدبّر لقالوا: هو الله، ، إذ يقول في الآية ٣١ من سورة يونس :

( وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ ) .

بينما اعترف القرآن بصراحة في آيات أُخرى بمدبّرية غير الله حيث يقول :

( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) (٣) .

فمن لم يكن له إلمام بمعارف القرآن يتخيّل لأوّل وهلة أنّ بين تلك الآيات تعارضاً، غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ حقيقة هذه الأُمور أعني: الرازقية، والإشفاء و و، قائمة بالله على نحو لا يكون لله فيها أي شريك، فهو تعالى يقوم بها بالأصالة وعلى وجه « الاستقلال » في حين أنّ غيره محتاج إليه سبحانه في أصل وجوده وفعله، فما سواه تعالى يقوم بهذه الأفعال والشؤون على نحو « التبعية » وفي ظل القدرة الإلهية.

وبما أنّ هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات، وأنّ كل ظاهرة لا بد أن تصدر وتتحقّق من مجراها الخاص بها المقرر لها في عالم الوجود ينسب القرآن هذه

__________________

(١) الأنفال: ٤٨.

(٢) فصلت: ٢٥.

(٣) النازعات: ٥.

٤٠٩

الآثار إلى أسبابها الطبيعية دون أن تمنع خالقية الله من ذلك، ولأجل ذلك يكون ما تقوم به هذه الموجودات فعلاً لله في حين كونها فعلاً لنفس الموجودات غاية ما في الأمر أنّ نسبة هذه الأُمور إلى الموجود الطبيعي نفسه إشارة إلى الجانب « المباشري »، فيما يكون نسبتها إلى « الله » إشارة إلى الجانب « التسبيبي ».

ويشير القرآن إلى كلا هاتين النسبتين في قوله سبحانه :

( وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَىٰ ) (١) .

ففي حين يصف النبي الأعظم بالرمي، إذ يقول بصراحة( إذْ رَمَيْتَ ) نجده يصف الله بأنّه هو الرامي الحقيقي، وذلك لأنّ النبي إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها الله له، فيكون فعله فعلاً لله أيضاً، بل يمكن أن يقال: إنّ انتساب الفعل إلى الله ( الذي منه وجود العبد وقوته وقدرته ) أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلاً لله لا غير، ولكن شدة الانتساب هذه لا تكون سبباً لأن يكون الله مسؤولاً عن أفعال عباده، إذ صحيح أنّ المقدمات الأوّلية للظاهرة مرتبطة بالله وناشئة منه إلّا أنّه لما كان الجزء الأخير من العلة التامة هو إرادة الإنسان ومشيئته بحيث لولاها لما تحقّقت الظاهرة يعد هو مسؤولاً عن الفعل.

وحدة المدبِّر في العالم

إنّ القرآن استدل على وحدة المدبِّر في العالم ببرهان ذي شقوق، وقد جاء البرهان ضمن آيتين تتكفل كل واحدة منهما بيان بعض الشقوق من البرهان، وإليك الآيتين :

__________________

(١) الأنفال: ١٧.

٤١٠

( لَو كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (١) .

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِله إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْض سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ ) (٢) .

وإليك مجموع شقوق البرهان :

إنّ تصوّر تعدّد المدبِّر لهذا العالم يكون على وجوه :

قدس‌سره . أن يتفرد كل واحد من الآلهة المدبِّرة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كل واحد ما يريده في الكون دونما منازع، ففي هذه الصورة يلزم تعدد التدبير لأنّ المدبِّر متعدّد ومختلف في الذات، فيلزم تعدد التدبير، وهذا يستلزم طروء الفساد على العالم وذهاب الانسجام المشهود، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانهعليهم‌السلام

(قُلْ لَو كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .

٢. وأمّا أن يدبِّر كل واحد قسماً من الكون الذي خلقه وعندئذ يجب أن يكون لكل جانب من الجانبين نظام مستقل خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير مرتبط به أصلاً، وعندئذ يلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام من الكون، في حين أنّنا لا نرى في الكون إلّا نوعاً واحداً من النظام يسود كل جوانب الكون من الذرة إلى المجرة.

__________________

(١) الأنبياء: ٢٢.

(٢) المؤمنون: ٩١.

٤١١

وإلى هذا الشق أشار بقوله: في الآية الثانية:( إذَنْ لَذَهَبْ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ ) .

٣. أن يتفضّل أحد هذه الآلهة على البقية ويكون حاكماً عليهم ويوحّد جهودهم، وأعمالهم ويسبغ عليها الانسجام والاتحاد، وعندئذ يكون الإله الحقيقي هو هذا الحاكم دون الباقي.

وإلى هذا يشير قوله سبحانه:( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) فتلخّص أنّ الآيتين بمجموعهما تشيران إلى برهان واحد ذي شقوق تتكفل كل واحدة منهما بيان شق خاص.

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي اعتبر في تفسيره القيم ـ الميزان ـ الآية الثانية برهاناً مستقلاً عن الآية الأُولى وجعل كل جملة منها مشيرة إلى برهان خاص، وإليك توضيح ما أفاده في كتابه :

توضيح البرهان الأوّل

إذا افترضنا أنّ للكون خالقين وأنّ العالم مخلوق لإلهين، فإنّه لا بد أن نقول ـ وبحكم كونهما اثنين ـ أنّهما يختلفان عن بعض في جهة أو جهات، وإلاّ لما صحت الاثنينية والتعدد أي لما صح ـ حينئذ ـ أن يكونا اثنين دون أن يكون بينهما أي نوع من الاختلاف.

ومن المعلوم أنّ الاختلاف في الذات سبب للاختلاف في طريقة التدبير والإرادة بين المختلفين ذاتاً.

فإذا كان تدبير العالم العلوي ـ مثلاً ـ من تدبير واحد من الإلهين وتدبير العالم السفلي من تدبير إله آخر، فإنّ من الحتمي أن ينفصم الترابط بين نظامي

٤١٢

العالمين ويزول الارتباط بينهما، لأنّه من المستحيل أن يكون ارتباط ووحدة بين أجزاء عالم واحد يدار بتدبيرين متنافيين متضادين.

وينتج من ذلك التفكك بين جزئي العالم، وبالتالي فساد الكون بأسره من سماوات وأرض وما بينهما.

لأنّنا جميعاً نعلم بأنّ بقاء النظام الكوني ـ حسب التحقيقات العلميّة ـ ناشئ من الارتباط الحاكم على أجزاء المنظومة الشمسية بحيث لو فقد هذا الارتباط على أثر الاختلاف في التدبير ـ مثل أن تختل قوتا الجذب والدفع ـ لتعرض الكون بأسره للخلل ولم يبق للكون وجود ولا أثر.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا البرهان بالعبارة التي يقول فيها :

( إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إلهٍ بِمَا خَلَقَ ) .

أي أنّ كل إله ـ في صورة التعدّد ـ يدبِّر مخلوقه حسب طريقته الخاصة، وعلى أثر تعدّد التدبير يزول الارتباط والترابط الحاكم على أجزاء الكون، ذلك الترابط الذي هو علّة بقاء النظام الكوني وعلّة استمراره واستقامته، وثباته على النمط الذي هو عليه.

توضيح البرهان الثاني

إنّ في عالم الكون سلسلة من النظم والسنن الكونية الكلية والعامة التي يوجد بينها سلسلة من النظم الجزئية، التي تدار في خلالها وأثنائها.

فالإنسان والحيوان والنبات وما يعيش على الأرض ذوات أنظمة صغيرة محدودة خاصة بها، وهي جزء من النظام الكلي للكرة الأرضية.

٤١٣

ولكن النظام الكلي للكرة الأرضية هو بدوره يعد جزءاً من النظام الكلي للعالم، وبهذه النسبة يكون وضع نظام المجموعة الشمسية إذا ما قورن إلى نظام المجرة.

فإذا كان النظام العالي الكلّي للكون مرتبطاً بأحد الإلهين ومحكوماً لتدبيره دون الآخر، ففي هذه الصورة سيتعالى مدبّر النظام الكلي على مدبِّر النظام الذي يندرج فيه بحيث إذا ذهب وانتفى النظام الكلي لم يبق للنظام الجزئي المندرج فيه أي أثر.

فمثلاً إذا بطل نظام الكرة الأرضية، فإنّه يبطل ـ بالضرورة ـ نظام الإنسان والحيوان وبقية الأحياء ويتعرض أمرهم للزوال والفناء والخطر، بحكم التبعية والارتباط بينهما.

وإذا تعرض النظام الكلي للمنظومة الشمسية للخلل فإنّ من القطعي أن يختل كذلك النظام الجزئي للمنظومة مثل نظام الكرة الأرضية على أثر ذلك، ولا يصح العكس طبعاً(١) .

وفي هذه الحالة يصح ( بحكم تفوق النظام العالي الكلي على النظام الجزئي السفلي ) أن يقال أنّ مدبِّر النظام العلوي يتفضّل ويستعلي ويتفوّق على مدبِّر النظام السفلي الجزئي، وتكون نتيجة هذا الفرض أن يستغني مدبِّر النظام العلوي الكلي عن مدبِّر النظام السفلي الجزئي، بينما يستلزم أن يكون مدبّر النظام السفلي الجزئي محتاجاً في إرادته وتدبيره لمخلوقه للمدبِّر الأعلى.

لأنّ الفرض أنّ النظام السفلي مرتبط ـ كمال الارتباط ـ بالنظام العلوي

__________________

(١) لأنّ فساد الكل يستتبع فساد الجزء.

٤١٤

ويستمد من الأخير دائماً، ومعلوم أنّ نتيجة هذا الاستمداد هو أن لا يكون موجد النظام السفلي، مستقلاً في تأثيره وتدبيره، بل يكون معتمداً على غيره دائماً وأبداً.

ومن البديهي أنّ الموجود المحتاج إلى غيره في التدبير والإيجاد لا يمكنه أن يكون « الإله الغني ».

إنّ القرآن الكريم يشير إلى هذا النحو من الاستدلال بالجملة التالية :

( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) .

وعلّة هذا العلو والاستعلاء هو اعتماد تدبير أحدهما على تدبير الآخر بحيث لو اختل أو انتفى التدبير الكلي العلوي لانتفى التدبير السفلي الجزئي ولم يعد له أثر ولا خبر، ولا ريب أنّ تفوق التدبير مستلزم لتفوق المدبِّر وعلوه(١) .

سؤال وجواب

نرى في قوله سبحانه :

( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً *مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰٰ باللهِ شَهِيداً ) (٢) .

إنّ الآية الأُولى تنسب كلاّ من الحسنة والسيئة إلى الله، وفي الوقت نفسه

__________________

(١) قد تقدم في صفحة ٤٠٣ الاستدلال بمضمون الآية الأُولى على « وحدة المدبر » غير أنّ الاستدلال هنا يكون بنفس هذه الآية منضمة إلى آية أُخرى، وجعل الآيتين بمنزلة برهان واحد ذي شقوق تتكفل الآيتان بيان شقوق البرهان.

(٢) النساء: ٧٨ ـ ٧٩.

٤١٥

تنسب الآية الثانية الحسنة إليه سبحانه والسيئة إلى نفس الإنسان، فكيف تجتمع هاتان النسبتان ؟

والخطاب في الآية الثانية وإن كان للنبي إلّا أنّ الغاية منه أعم، فهو وإن كان قد خوطب بالكلام، ولكن المقصود الناس جميعاً، وعندئذ ينطرح هذا السؤال: إذا كان المؤثر الحقيقي في العالم هو الله سبحانه وكان تأثير غيره منوطاً بإذنه ومشيئته وقدرته وأقداره، كما يفيده قوله سبحانه:( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ اللهِ ) ، لأجل أنّ للحسنة والسيئة عوامل وعللاً تنتهي إلى الله سبحانه وتقوم به، فيكون الكلّ مستنداً إليه، ومعه كيف يستدرك في الآية الثانية ويقرن بين الحسنة والسيئة فينسب الأُولى إلى الله والثانية إلى نفس النبي وبالنتيجة إلى مطلق الإنسان ويقول:( ومَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) ؟ فهل هذا إلا تفكيك في الحوادث وجعل بعضها منتهياً إلى الله دون البعض الآخر.

الجواب

إنّ المقصود من الحسنة في الآية، الأُمور التي تلائم وتنطبق مع المزاج والمصالح البشرية بينما تكون السيئة عكس ذلك، كما في قوله سبحانه :

( إِنْ تَمسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُم سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ) (١) .

وليس المراد منها الطاعة والمعصية ولا الثواب والعقاب بل الحوادث التي تعد خيراً أو شراً للإنسان طيلة حياته.

إنّ بعض المنضمين إلى صفوف المؤمنين كانت ألسنتهم طويلة وعملهم

__________________

(١) آل عمران: ١٢٠.

٤١٦

قليلاً، فكانوا يتفلسفون، فإنْ حصل نصر قالوا: هو من عند الله، وإن كانت هزيمة قالوا إنّ سوء القيادة هو سبب الهزيمة.

وبعبارة أُخرى قد كان المنافقون ـ لجهلهم بمعارف الكتاب العزيز ـ يعدون الظفر والغلبة في الحروب كحرب بدر ـ مثلاً ـ من الله، والانكسار والهزيمة كحرب أُحد من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولم يكن هذا النوع من التفسير بجديد، فقد سبقهم في ذلك أعداء موسى، فقد كان منطقهم، على شكل آخر، فكانوا ينسبون الحسنة إلى أنفسهم والسيئة إلى موسى ومن معه.

فإذا واجهوا نعمة كانوا يرون أنّ ذلك نتيجة صلاحيتهم، وإذا واجهوا نقمة أو بلاء تشاءموا بموسيعليه‌السلام وتطيّروا به، واعتبروا وجوده ووجود جماعته المؤمنين سبباً لنزول ذلك البلاء، كما يقول سبحانه :

( فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هذِهِ وِإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَعَهُ ) (١) .

ولكنَّ القرآن الكريم يواجه هذا الزعم الأعوج الذي تنسب فيه « الحسنات » تارة إلى الله و « السيئات » إلى النبي وأُخرى تنسب الحسنات إلى أنفسهم، والسيئات إلى موسىعليه‌السلام ، فكأنّ هناك مؤثرين مستقلين في عالم الكون، لكل واحد منهما خالق خاص ينافي الآخر ويقول في قبال هذا المنطق:( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) .

لأنّه ليس للعالم ـ بحكم التوحيد في الخالقية ـ إلّا خالق واحد لا أكثر ،

__________________

(١) الأعراف: ١٣١.

٤١٧

وكل ما يحدث في هذا العالم من انتصارات أو هزائم وانكسارات ونزول نعم أو نقم ـ من حيث وجودها في الخارج ـ تكون من الله، وليس من الصحيح أبداً أن نعتبر بعضها من جانب الله، والبعض الآخر من جانب النبي أو غيره، ولأجل هذا يقول القرآن( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) .

إلى هنا اتضح مفاد الآية الأُولى، وبقي الكلام في الآية الثانية وإنّه كيف تعود فتنسب الحسنة إلى الله والسيئة إلى النبي، والمراد منه مطلق الإنسان ؟

غير انّ الإجابة عنه واضحة، بعد الوقوف على موضوع البحث فيهما فإنّ الآية الأُولى تركز على أنّ وجود الحسنة والسيئة من الله سبحانه، ولا خالق ولا مؤثر في الوجود إلّا هو، وأمّا الآية الثانية فهي تركز على مناشئ الحسنة والسيئة ومنابعهما، فتفرّق بين مناشئ الحسنة ومنابع السيئة بأنّ منشأ الأُولى هو الله سبحانه، إذ هو مبدأ لكل خير وإليه يرجع كل فضل ومنه يفاض إلى الغير، كما أنّ منابع السيئة هي الإنسان وأفعاله وخصاله التي يمشي عليها في حياته. إذا عرفت ذلك فنقول :

السيئة ـ كالزلازل والبلايا والمصائب ـ بما أنّها ظاهرة طبيعية فوجودها من جانب الله سبحانه، ولأجل ذلك نسبها القرآن إلى الله فقال:( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) وبما أنّ أعمالنا مؤثرة في نشوء تلك الظاهرة، وكل إنسان مأخوذ بفعله فأعمالنا مبادئ لهذه الظواهر والطوارئ فنسب السيئة إلى نفس الإنسان فقال:( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) .

ويؤيد ذلك قوله سبحانه :

( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَيَّ رَبِّي

٤١٨

إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) (١) .

إنّه تعالى يأمر نبيه بأن يعترف بأنّ ضلالته من جانب نفسه وهدايته من جانب وحيه سبحانه، وليس ذلك إلّا لأنّ الضلالة مما ينشأ من موقف الإنسان نفسه في حياته، فلأجل ذلك هي أولى بأن تنتسب إلى نفس الإنسان، وأمّا الهداية فهي كالحسنة أولى بأن تنتسب إلى الله سبحانه.

وليس هذا مخصوصاً بالحوادث الطارئة في عالم الطبيعة، المذكورة، بل كل إنسان رهين بآثار عمله، فإنّ الشاب المدمن على الخمر ـ مثلاً ـ يجب بالبداهة أن ينتظر سلسلة من البلايا والمصائب والمحن، والمدينة التي لا تبني السدود في وجه السيول يجب حتماً أن تنتظر الدمار والخراب، والبيوت التي لا تبنى على أساس مقاومة الزلازل يجب حتماً أن تنتظر الخراب والدمار على أثر الزلازل.

إنّ مثل هذه المجتمعات التي تقصر في هذه الأُمور لابد أن تكون في معرض المصائب والمحن والمآسي.

ولهذا قال تعالى في الآية الثانية:( مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) وهو بذلك يشير إلى ما قلناه.

لقد كان الأنبياء: يذمّون من يتطيّر بهم ويتشاءم من وجودهم ويقولون:( قَالُوا ( أي الأنبياء )طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُم ) (٢) .

وهم بذلك يشيرون إلى أنّ علّة المحن والمصائب كامنة في نفس العصاة والمنكوبين، وهو أمر ناشئ منهم ونابع من أعمالهم هم، وأنّ داءهم فيهم ومنهم إن

__________________

(١) سبأ: ٥٠.

(٢) يس: ١٩.

٤١٩

كانوا يبصرون ويتذكرون.

ولأجل أن نعرف أنّ أعمال الإنسان هي صانعة مصيره يكفي أن نجد القرآن يخبرنا في آيات أُخرى بأنّ أعمال البشر وحالاته وسوابقه هي التي تكون علّة للمصائب والمحن والتحوّلات والتغيّرات التي تطرأ على حياته، إذ يقول :

( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (١) .

ويقول في آية أُخرى :

( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفِسِهِمْ ) (٢) .

ويقول أيضاً :

( ذِلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (٣) .

وقد أُشير إلى هذا الجمع الذي ذكرناه في روايات أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، فعن الإمام الرضاعليه‌السلام ناقلاً عن الحديث القدسي :

« ابن آدم ! بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء وتقول، وبقوتي أديت إلي فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذاك أنّي أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني »(٤) .

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام :. « فما أصابك من حسنة فمن عندي وبتوفيقي وقوتي، وما أصابك من سيئة فمن سوء اختيارك وغواية نفسك »(٥) .

__________________

(١) الشورى: ٣٠.

(٢) الرعد: ١١.

(٣) الأنفال: ٥٣.

(٤) بحار الأنوار: ٥ / ٥٦ و ٥ وقد نقل في الأخير بصورة مبسوطة.

(٥) بحار الأنوار: ٥ / ٥٦ و ٥ وقد نقل في الأخير بصورة مبسوطة.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672