مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154949 / تحميل: 6020
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

القسم السابع

الأحاديث الواردة عنهمعليهم‌السلام في

أن ما بأيدي الناس هو القرآن النازل من عند الله

وصريح جملة من الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت، أنهمعليهم‌السلام كانوا يعتقدون في هذا القرآن الموجود بأنّه هو النازل من عند الله سبحانه على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه الأحاديث كثيرة ننقل هنا بعضها:

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام :

«كتاب ربّكم فيكم، مبيّناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصّه وعامّه، وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده، ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله، ومبيّناً غوامضه، بين مأخوذ ميثاق في علمه، وموسّع على العباد في جهله، وبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنّة نسخه، وواجب في السنّة أخذه، ومرخّص في الكتاب تركه، وبين واجب بوقته، وزائل في مستقبله، ومباين بين محارمه، من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه، وبين مقبوله في أدناه، موسّع في أقصاه»(1) .

وقالعليه‌السلام : «أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تبليغه وأدائه؟ والله سبحانه يقول:( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ) وقال:

__________________

(1) نهج البلاغة 44 | 1.

٤١

( فيه تبيان لكل شيء ) وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه:( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تكشف الظلمات إلاّ به»(1) .

وعن الريان بن الصلت قال: «قلت للرضاعليه‌السلام يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟

فقال: كلام الله، لا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا»(2) .

وجاء فيما كتبه الإمام الرضاعليه‌السلام للمأمون في محض الإسلام وشرائع الدين:

«وإنّ جميع ما جاء به محمد بن عبدالله هو الحق المبين، والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل الله وأنبيائه وحججه.

والتصديق بكتابه الصادق العزيز الذي( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) وأنه المهيمن على الكتب كلّها، وأنه حق من فاتحته إلى خاتمته، نؤمن بمحكمه ومتشابهه، وخاصّه وعامّه، ووعده ووعيده، وناسخه ومنسوخه، وقصصه وأخباره، لا يقدر أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله»(3) .

وعن علي بن سالم عن أبيه قال: «سألت الصادق جعفر بن محمدعليهما‌السلام فقلت له: يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟

__________________

(1) نفس المصدر 61 / 18.

(2) عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق 2: 57. الأمالي 546.

(3) عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق 2: 130.

٤٢

فقال: هو كلام الله، وقول الله، وكتاب الله، ووحي الله وتنزيله، وهو الكتاب العزيز الذي( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) »(1) .

(3)

قول عمر بن خطاب: حسبنا كتاب الله

ومن الرزايا العظيمة والكوارث الفادحة التي قصمت ظهر المسلمين وأدّت إلى ضلال أكثرهم عن الهدى الذي أراده لهم الله ورسوله، ذلك الخلاف الذي حدث عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي اللحظات الأخيرة من عمره الشريف، بين صحابته الحاضرين عنده في تلك الحال.

ومجمل القضية هو: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لما حضرته الوفاة وعنده رجال من صحابته - فيهم عمر بن الخطاب - قال: هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، وفي لفظ آخر: إئتوني بالكتف والدواة - أو: اللوح والدواة - أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.

فقال عمر: إنّ النبي قد غلب عليه الوجع(2) ، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.

وفي لفظ آخر: فقالوا: إنّ رسول الله يهجر. - من دون تصريح

__________________

(1) الأمالي: 545.

(1) قال سيدنا شرف الدين: «وقد تصرّفوا فيه: فنقوله بالمعنى، لأنّ لفظه الثابت: إنّ النبي يهجر. لكنهم ذكروا أنّه قال: إنّ النبي قد غلب عليه الوجع، تهذيباً للعبارة، واتقاء فظاعتها ...» النصّ والإجتهاد: 143.

٤٣

باسم المعارض -!

فاختلف الحاضرين، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر!

فلما أكثروا ذلك عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم: قوموا عنّي(1) .

وليس نحن الآن بصدد محاسبة هذا الرجل على كلامه هذا الذي غيّر مجرى التأريخ، وحال دون ما أراده الله والرسول لهذه الامة من الخير والصلاح والرشاد، إلى يوم القيامة، حتى أنّ ابن عباس كان يقول - فيما يروى عنه -:

«يوم الخميس وما يوم الخميس» ثم يبكي(2) .

وكان رضي الله عنه يقول:

«إنّ الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين كتابه»(3) .

وإنّما نريد الإستشهاد بقوله: «إن عندنا القرآن، حسبنا كتاب الله» الصريح في وجود القرآن عندهم مدوّناً مجموعاً حينذاك، ويدل على ذلك أنّه لم يعترض عليه أحد - لا من القائلين قرّبوا يكتب لكم النبي كتاباً، ولا من غيرهم - بأنّ سور القرآن وآياته متفرقة مبثوثة، وبهذا تم لعمر بن الخطاب والقائلين مقالته ما أرادوا من الحيلولة بينهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين كتابة الكتاب.

__________________

(1) راجع جميع الصحاح والمسانيد والتواريخ والسير وكتب الكلام، تجد القضية باختلاف ألفاظها وأسانيدها.

(2) صحيح البخاري 2: 118.

(3) نفس المصدر ج 1 كتاب العلم، باب كتابة العلم.

٤٤

(4)

الإجماع

ومن الأدلّة على عدم نقصان القرآن: إجماع العلماء في كل الأزمان كما في كشف الغطاء وفي كلام جماعة من كبار العلماء، وهو ظاهر كلمة «إلينا» أي «الإمامية» في قول الشيخ الصدوق «ومن نسب إلينا فهو كاذب».

وقال العلاّمة الحلّي: «واتّفقوا على أنّ ما نقل إلينا متواتراً من القرآن، فهو حجة لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مكلّفاً بإشاعة ما نزل عليه من حجة لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مكلّفاً بإشاعة ما نزل عليه من القرآن إلى عدد التواتر، ليحصل القطع بنبوّته في أنّه المعجزة له. وحينئذ لا يمكن التوافق على ما نقل مما سمعوه منه بغير تواتر، وراوي الواحد إن ذكره على أنّه قرآن فهو خطأ والإجماع دلّ على وجوب إلقائهصلى‌الله‌عليه‌وآله على عدد التواتر، فإنه المعجزة الدالّة على صدقه، فلو لم يبلغه إلى حدّ التواتر انقطعت معجزته، فلا يبقى هناك حجّة على نبوّته»(1) .

وقال السيّد العاملي: «والعادة تقضي بالتواتر في تفاصيل القرآن من أجزائه وألفاظه وحركاته وسكناته ووضعه في محلّة، لتوفّر الدواعي على نقله من المقر لكونه أصلاً لجميع الأحكام، والمنكر لإبطاله لكونه معجزاً. فلا يعبأ بخلاف من خالف أو شك في المقام»(2) .

وقال الشيخ البلاغي: «ومن أجل تواتر القرآن الكريم بين

__________________

(1) نهاية الوصول - مبحث التواتر.

(2) مفتاح الكرامة 2: 390.

٤٥

 عامة المسلمين جيلاً بعد جيل، استمرت مادته وصورته وقراءته المتداولة على نحو واحد، فلم يؤثّر شيئاً على مادّته وصورته ما يروى عن بعض الناس من الخلاف في قراءته من القراء السبع المعروفين وغيرهم»(1) .

ومن المعلوم أنّ الإجماع حجّة لدى المسلمين، أمّا عند الإمامية فلأنّه كاشف عن رأي المعصومعليه‌السلام (2) بل عدم النقصان من الضروريّات كما في كلام السيد المرتضى، وقد نقل بعض الأكابر عباراته ووافقه على ما قال.

 (5)

تواتر القرآن

ومن الأدلّة على عدم نقصان القرآن تواتره من طرق الإماميّة بجميع حركاته وسكناته، وحروفه وكلماته، وآياته وسورة، تواتراً قطعياً عن الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام عن جدّهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

فهم يعتقدون بأن هذا القرآن الموجود بأيدينا هو المنزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بلا زيادة ولا نقصان. قال الصّدوق: «إعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله على نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو ما بين الدفّتين وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشر سورة ...».

__________________

(1) آلاء الرحمن - الفصل الثالث من المقدمة.

(2) يراجع بهذا الصدد كتب اصول الفقه.

(3) أجوبة مسائل جار الله لشرف الدين، مجمع البيان عن السيد المرتضى.

٤٦

(6)

إعجاز القرآن

ومن الأدلّة على عدم التحريف هو: أنّ التحريف ينافي كون القرآن معجزاً، لفوات المعنى بالتحريف، لأنّ مدار الإعجاز هو الفصاحة والبلاغة الدائرتان مدار المعنى، ومن المعلوم أنّ القرآن معجز باق.

وهذه عبارة «بشرى الوصول» في الوجه الثالث من الوجوه التي ذكرها على عدم تحريف القرآن.

وقد جاءت الإشارة إلى هذا الوجه في كلام السيد المرتضى حيث قال في استدلاله: «لأنّ القرآن معجزة النبوّة» وفي كلام العلاّمة الحلّي:

«إنّ القول بالتحريف يوجب التطرّق إلى معجزة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المنقولة بالتواتر».

وفي كلام كاشف الغطاء: «إنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدّي ...».

٤٧

 (7)

صلاة الإمامية

ومن الأدلّة على اعتقاد الإماميّة بعدم سقوط شيء من القرآن الكريم: صلاتهم، لأنّهم يوجبون قراءة سورة كاملة(1) . بعد الحمد في الركعة الاولى والثانية(2) من الصلوات الخمس اليوميّة من سائر سور القرآن عدا الفاتحة، ولا يجوز عند جماعة كبيرة منهم القران منهم القران بين سورتين(3) .

قال السيد شرف الدين:

«وصلاتهم بهذه الكيفيّة والأحكام دليل ظاهر على اعتقادهم بكون سور القرآن بأجمعها زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على ما هي عليه الآن، وإلاّ لما تسنّى لهم هذا القول»(4) .

__________________

(1) أجوبة مسائل جار الله، وهذا هو المشهور بين الفقهاء، بل ادّعى جماعة عليه الإجماع، أنظر مفتاح الكرامة 2: 350.

(2) أما في الثالثة والرابعة فهو بالخيار إن شاء قرأ الحمد وان شاء سبح إجماعاً، وإن اختلفوا في أفضليّة أحد الفردين.

(3) جواهر الكلام والرياض وغيرهما. وقد ذكر جماعة من قدعاء الفقهاء والمفسرين إستثناء سورتي (الضحى وألم نشرح) وسورتي (الفيل والأيلاف) من هذا الحكم، مصرّحين بوجوب قران كل سورة منها بصاحبتها. أنظر مفتاح الكرامة 2: 385.

(4) أجوبة مسائل جار الله: 28.

٤٨

(8)

كون القرآن مجموعاً على عهد النبي (ص)

ومن الأدلّة على عدم وجود النقص في القرآن ثبوت كونه مجموعاً على عهد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، موجوداً كذلك بين المسلمين كما يدل على ذلك من الأخبار في كتب الفريقين، ومن ذلك أخبار أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقراءة القرآن وتدبّره وعرض ما يروى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليه وقد تقدم بعضها، وإنّ جماعة من الصحابة ختموا القرآن على عهده، وتلوه، وحفظوه، يجد أسماءهم من راجع كتب علوم القرآن، وإنّ جبرئيل كان يعارضهصلى‌الله‌عليه‌وآله به كل عام مرة، وقد عارضه به عام وفاته مرتين(1) .

وكل هذا الذي ذكرنا دليل واضح على أنّ القرآن الموجود بين أيدينا هو نفس القرآن الذي كان بين يدي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وصحابته على عهده فما بعد، من غير زيادة ولا نقصان.

وقد ذكر هذا الدليل جماعة.

__________________

(1) روى ذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع الكتب الحديثيّة وغيرها، حتى كاد يكون من الأمور الضرورية.

٤٩

(9)

اهتمام النبي (ص) والمسلمين بالقرآن

وهل يمكن لأحد من المسلمين إنكار إهتمام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن؟!

لقد كان حريصاً على نشر سور القرآن بين المسلمين بمجرد نزولها، مؤكداً عليهم حفظها ودراستها وتعلّمها، مبيناً لهم فضل ذلك وثوابه وفوائده في الدنيا والآخرة.

فحثّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وترغيبه بحفظ القرآن في الصدور والقراطيس ونحوها، وأمره بتعليمه وتعلّمه رجالاً ونساءً وأطفالاً، مما ثبت بالضرورة بحيث لا يبقى مجال لإنكار المنكر وجدال المكابر.

وأمّا المسلمون، فقد كانت الدواعي لديهم لحفظ القرآن والعناية به متوفّرة، ولذا كانوا يقدّمونه على غيره في ذلك، لأنّه معجزة النبوة الخالدة ومرجعهم في الأحكام الشرعيّة والامور الدينيّة، فكيف يتصور سقوط شيء منه والحال هذه؟!

نعم، قد يقال: إنّه كما كانت الدواعي متوفّرة لحفظ القرآن وضبطه وحراسته، كذلك كانت الدواعي متوفّرة على تحريفه وتغييره من قبل المنافقين وأعداء الإسلام والمسلمين، الذين خابت ظنونهم في أن يأتوا بمثله أو بمثل عشر سور منه أو أية من أياته.

ولكن لا مجال لهذا الاحتمال بعد تأييد الله سبحانه المسلمين في العناية والإهتمام بالقرآن، وتعهّده بحفظه بحيث( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) .

٥٠

الفصل الثالث

أحاديث التحريف في كتب الشّيعة

قد ذكرنا في الفصل الأول شطراً من تصريحات كبار علماء الإمامية في القرون المختلفة في أنّ القرآن الكريم الموجود بين أيدينا مصون من التحريف، وهناك كلمات غير هذه لم نذكره اختصاراً، وربما تقف على تصريحات أو أسماء لجماعة آخرين منهم في غضون البحث.

وعرفت في الفصل الثاني أدلّة الإمامية على نفي التحريف وهي:

1 - آيات من القرآن العظيم.

2 - أحاديث عن النبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام، وهي على أقسام.

3 - قول عمر بن الخطاب: حسبنا كتاب الله.

4 - الإجماع.

5 - تواتر القرآن.

6 - إعجاز القرآن.

7 - صلاة الإمامية.

٥١

8 - كون القرآن مجموعاً على عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

9 - عناية القرآن مجموعاً على عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا، ولم ينكر أحد من أولئك الأعلام وجود أحاديث في كتب الشيعة، تفيد بظاهرها سقوط شيء من القرآن، بل نصّ بعضهم على كثرتها - كما توجد في كتبهم روايات ظاهرة في الجبر والتفويض، وفي التشبيه والتجسيم، ونحو ذلك - لكنهم أعرضوا عن تلك الأحاديث ونفوا وقوع التحريف في القرآن، بل ذهب البعض منهم إلى قيام إجماع الطائفة على ذلك، ومجرد إعراضهم عن حديثٍ يوجب سقوطه عن درجة الإعتبار، كما تقرّر في علم اصول الفقه.

ونحن في هذا المقام نوضّح سبب إعراضهم عن أخبار التحريف وندلّل على حصته ونقول:

تعيين موضوع البحث

هناك في كتب الإمامية روايات ظاهرة في تحريف القرآن، لكنّ دعوى كثرتها لا تخلو من نظر، لأنّ الذي يمكن قبوله كثرة ما دلّ على التحريف بالمعنى الأعم(1) وقد جاء هذا في كلام الشيخ أبي جعفر

 __________________

(1) يطلق لفظ التحريف ويراد منه عدّة معان على سبيل الإشتراك:

أ - نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره.

ب - النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات مع حفظ القرآن وعدم ضياعه، وإن لم يكن متميزاً في الخارج عن غيره.

جـ - النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين مع التحفّظ على نفس القرآن المنزل.

٥٢

الطوسي، فإنّه - بعد أن استظهر عدم النقصان من الروايات - قال: «غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع».

وأما ما دلّ على التحريف بالمعنى الأخصّ الذي نبحث عنه وهو «النقصان» فلا يوافق على دعوى كثرته في كتب الامامية، ومن هنا وصفت تلك الروايات في كلمات بعض المحقّقين كالشيخ جعفر كاشف الغطاء والشيخ محمد جواد البلاغي بالشذوذ والندرة.

وروايات الشيعة في هذا الباب يمكن تقسيمها إلى قسمين:

الأول: الرويات الضعيفة أو المرسلة أو المقطوعة. وبكلمة جامعة: غير المعتبرة سنداً. والظاهر أنّ هذا القسم هو القسم هو الغالب فيها، ويتضح ذلك بملاحظة أسانيدها، ويكفي للوقوف على حال أحاديث الشيخ الكليني منها - ولعلّها هي عمدتها - مراجعة كتاب (مرآة العقول) للشيخ محمد باقر المجلسي، الذي هو من أهمّ كتب الحديث لدى الإماميّة، ومن أشهر شروح «الكافي» وأهمّها.

ومن الأعلام الذين دقّقوا النظر في أسانيد هذه الروايات ونصّوا على عدم اعتبارها: الشيخ البلاغي في (آلاء الرحمن) والسيد الخوئي

__________________

 د - التحريف بالزيادة والنقصية في الآية والسورة مع التحفّظ على القرآن المنزل.

هـ - التحريف بالزيادة، بمعنى أنّ بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل.

و - التحريف بالنقيصة، بمعنى أنّ المصحف الذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن المنزل.

وموضوع بحثنا هو التحريف بالمعنى الأخير، ونعني بالمعني الأعمّ ما يعمّ جميع المعاني المذكورة.

٥٣

في (البيان) والسيد الطباطبائي في (الميزان). ومن المعلوم عدم جواز الإستناد إلى هكذا روايات في أيّ مسألة من المسائل، فكيف بمثل هذه المسألة الاصولية الإعتقادية؟!

والثاني: الروايات الواردة عن رجال ثقات وبأسانيد لا مجال للخدش فيها.

ولكن هذا القسم يمكن تقسيمه إلى طائفتين:

الاولى: ما يمكن حمله وتأويله على بعض الوجوه، بحيث يرتفع التنافي بينها وبين الروايات والأدلّة الاخرى القائمة على عدم التحريف.

والثانية: ما لا يمكن حمله وتوجيهه.

وبهذا الترتيب يتّضح لنا أنّ ما روي من جهة الشيعة بنقصان آي القرآن قليل جداً، لانّ المفروض خروج الضعيف سنداً والمؤوّل دلالة عن دائرة البحث.

إنّها مصادمة للضرورة

وأوّل ما في هذه الروايات القليلة أنّها مصادمة للضرورة، ففي كلمات عدّة من أئمة الإمامية دعوى الضرورة على كون القرآن مجموعاً على عهد النبّوة، فقد قال السيد المرتضى: «إنّ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة إنّ العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة»(1) .

وقال الشيخ جعفر كاشف الغطاء: «لا عبرة بالنادر، وما ورد

__________________

(1) المسائل الطرابلسيات، نقلاً عن مجمع البيان للطبرسي 1: 15.

٥٤

من أخبار النقص تمنع البديهة من العمل بظاهرها»(1) .

وقال السيد شرف الدين العاملي: «إنّ القرآن عندنا كان مجموعاً على عهد الوحي والنبوة، مؤلفاً على ما هو عليه الآن وهذا كلّه من الامور الضرورية لدى المحقّقين من علماء الإمامية»(2) .

وقال السيد الخوئي: «إنّ من يدّعي التحريف يخالف بداهة العقل»(3) .

إنها مخالفة لظاهر الكتاب

فإن نوقش في هذا، فلا كلام في مخالفة روايات التحريف لظاهر الكتاب حيث قال عزّ من قائل:( إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون ) ليكون قدوة للامة وبرنامجاً لأعمالها، ومستقى لأحكامها ومعارفها، ومعجزة خالدة. ومن المعلوم المتسالم عليه: سقوط كل حديث خالف الكتاب وإن بلغ في الصحّة وكثرة الأسانيد ما بلغ، وبهذا صرّحت النصوص عن النبي والأئمةعليهم‌السلام ، ومن هنا أعرض علماء الإمامية الفطاحل - الأصوليّون والمحدّثون - عن هذه الأحاديث قال المحدّث الكاشاني في (الصافي): «إنّ خبر التحريف مخالف لكتاب الله مكذّب له فيجب ردّه»(4) .

فإن نوقش في هذا أيضاً فقيل بأنّه استدلال مستلزم للدور، أو

__________________

(1) كشف الغطاء في الفقه، ونقله عنه شرف الدين في أجوبة المسائل: 33.

(2) أجوبة مسائل جار الله: 30.

(3) البيان: 27.

(4) تفسير الصافي 1: 46.

٥٥

قيل بأن الضمير في «له» عائد إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن هذه الروايات تطرح لما يلي:

إنها موافقة لأخبار العامة

أولاً: إنّها موافقة للعامة، فإنّ القول بالتحريف منقول عن الذين يقتدون بهم من مشاهير الصحابة، وعن مشاهير أئمتهم وحفاظهم، وأحاديثه مخرّجة في أهمّ كتبهم وأوثق مصادرهم كما سيأتي في بابه، وهذا وجه آخر لسقوط أخبار التحريف عند فرض التعارض بينها وبين روايات العدم، كما تقرّر ذلك في علم اصول الفقه.

إنها نادرة

ثانياً: إنّها شاذة ونادرة، والروايات الدالّة على عدم التحريف مشهورة أو متواترة، كما في كلمات الأعلام كالشيخ كاشف الغطاء وغيره، وسيأتي الجواب عن شبهة تواتر ما دلّ على التحريف، فلا تصلح لمعارضة تلك الروايات، بل مقتضى القاعدة المقرّرة في علم الاصول لزوم الأخذ بما اشتهر ورفع اليد به عن الشاذ النادر.

إنها أخبار آحاد

ثالثاً: إنّه بعد التنزّل عن كلّ ما ذكر، فلا ريب فلا ريب في أنّ روايات التحريف أخبار آحاد، وقد ذهب جماعة من أعلام الإمامية إلى عدم حجّية الآحاد مطلقاً ومن يقول بحجّيتها لا يعبأ بها في المسائل الإعتقادية، وهذا ما نصّ عليه جماعة.

٥٦

من اخبار التحريف

وبعد، فلا بأس بذكر عدد من أهمّ الروايات الموجودة في كتاب الإمامية - التي ادّعى بعض العلماء ظهورها في النقصان - وعلى هذه فقس ما سواها.

ولا بدّ من عرض تلك الأحاديث بنصوصها، ثم الكلام عليها بالنظر إلى اسانيدها وفي مدى دلالتها على المدعى، وما يترتّب عليها من شبهات ووجوه الجواب عنها.

وأهمّ الأحاديث التي قد يستند إليها للقول بتحريف القرآن هي الأحاديث التالية:

1 - عن جابر، قال:

«سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول: ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما أنزل الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام والأئمّة من بعدهعليهم‌السلام »(1) .

2 - عن جابر، عن أبي جعفرعليه‌السلام إنّه قال:

«ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء»(2) .

3 - عن سالم بن سلمة، قال:

«قرأ رجل على أبي عبداللهعليه‌السلام - وأنا أسمع - حروفاً من

__________________

(1) الكافي 1: 178، ورواه الصّفار في بصائر الدرجات: 13.

(2) الكافي 1: 178، بصائر الدرجات: 213.

٥٧

القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبداللهعليه‌السلام :

مه، كفّ عن هذه القراءة، إقرأ كما يقرأ الناس، حتى يقوم القائم، فإذا قام القائم قرأ كتاب الله تعالى على حدّه وأخرج المصحف الذي كتبه عليعليه‌السلام .

وقال: أخرجه علي إلى الناس حين فرغ منه وكتبه، فقال لهم: هذا كتاب الله تعالى كما أنزله على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد جمعته بين اللوحين، فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن، لا حاجة لنا فيه. فقال: أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً، إنّما كان عليّ أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه»(1) .

4 - عن ميسر، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال:

«لولا أنّه زيد في كتاب الله ونقص عنه، ما خفي حقّنا على ذي حجا، ولو قد قام قائمنا فنظق صدّقه القرآن»(2) .

5 - عن الأصبغ بن نباتة، قال:

«سمعت أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: نزل القرآن أثلاثاً: ثلث فينا وفي عدوّنا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام»(3) .

وعن أبي عبداللهعليه‌السلام قال:

«إنّ القرآن نزل أربعة أرباع: ربع حلال، وربع حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم، وفصل ما بينكم»(4) .

__________________

(1) الكافي 2: 462.

(2) تفسير العياشي 10: 13.

(3) الكافي 2: 459.

(4) الكافي 2: 459.

٥٨

وعن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال:

«نزل القرآن أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدوّنا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام»(1) .

6 - عن محمد بن سليمان، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسنعليه‌السلام ، قال:

«قلت له: جعلت فداك، إنّا نسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها، ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم فهل نأثم؟

فقال: لا، إقرؤوا كما تعلّمتم، فسيجيئكم من يعلّمكم»(2) .

7 - عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، قال:

«إنّ في القرآن ما مضى وما يحدث وما هو كائن، كانت فيه أسماء الرجال فالقيت، إنّما الإسم الواحد منه في وجوه لا تحصى، يعرف ذلك الوصاة»(3) .

8 - عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، قال:

«لو قد قرئ القرآن كما انزل لألفينا فيه مسمّين»(4) .

9 - عن البزنطي، قال: «دفع إليّ أبو الحسنعليه‌السلام مصحفاً فقال - وقال -: لا تنظر فيه، ففتحته وقرأت فيه( لم يكن الذين كفروا ... ) فوجدت فيه - فيها - اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم

__________________

(1) الكافي 2: 459.

(2) الكافي 2: 453.

(3) تفسير العياشي 1: 12.

(4) تفسير العياشي 1: 13.

٥٩

وأسماء آبائهم، قال: فبعث إليّ: إبعث إليّ بالمصحف»(1) .

10 - عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ، قال:

«نزل جبرئيل بهذه الآية على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا:( وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا - في علي -فأتوا بسورة من مثله ) (2) .

11 - عن عبدالله بن سنان، عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، قال:

«من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه، ثم قال: سورة الأحزاب فيها فضائح الرجال والنساء من قريش وغيرهم، يا ابن سنان: إنّ سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب، وكانت أطول من سورة البقرة، ولكن نقصوها وحرّفوها»(3) .

12 - عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، قال:

«أنزل الله في القرآن سبعة بأسمائهم، فمحت قريش ستة وتركوا أبا لهب»(4) .

13 - عن ابن نباتة قال:

«سمعت علياًعليه‌السلام يقول: كأني بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة يعلّمون الناس القرآن كما انزل، قلت: يا أمير المؤمنين أو ليس هو كما انزل؟

فقال: لا، محي منه سبعون من قريش بأسمائهم وأسماء

__________________

(1) الكافي 2: 461، وانظر البحار 92: 54.

(2) الكافي 1: 345.

(3) ثواب الاعمال: 100، وعنه في البحار 89: 50.

(4) رجال الكشي 247، وعنه في البحار 89: 54.

٦٠

آبائهم، وما ترك أبولهب إلاّ للإزراء على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه عمه»(1) .

14 - عن أبي بصير، عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ: «من يطع الله ورسوله - في ولاية علي والأئمة من بعده - فقد فاز فوزاً عظيماً. هكذا نزلت»(2) .

15 - عن منخّل، عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، قال: «نزل جبرئيل على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الآية هكذا:( يا أيا الذين اوتوا الكتاب آمنا بما أنزلنا - في علي -نوراً مبيناً ) (3) .

16 - عن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله في قوله:

( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل كلمات - في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم -فنسي ... ) (4) .

فهذه طائفة من تلك الأحاديث، ولنلق الأضواء عليها واحداً واحداً، لنرى ما قيل في الجواب عن كلّ واحد أو ما جاء فيه من تأويل.

الكلام على هذه الأخبار

الحديث الأول:

رواه الشيخ الكليني والشيخ الصفار، كلاهما بسند فيه «عمرو بن أبي المقدام» وقد اختلف علماء الرجال فيه على قولين، كما

__________________

(1) الغيبة للنعماني: 318.

(2) الكافي 1: 342.

(3) الكافي 1: 344.

(4) الكافي 1: 345.

٦١

اعترف بذلك بعضهم(1) .

الحديث الثاني:

رواه الشيخ الكليني والصفار أيضاً بسند فيه «المنخّل بن جميل الأسدي»

وقد ضعّفه أكثر علماء الرجال، بل كلّهم، وقالوا: إنّه فاسد العقيدة، وإنّه يروي الأحاديث الدالّة على الغلو في الأئمةعليهم‌السلام (2) .

هذا بالإضافة إلى أنّه يمكن نفسير هذا الحديث وسابقة بمعنى آخر يساعد عليه اللفظ فيهما.

ولذا فقد قال السيد الطباطبائي في الخبرين ما نصّه:

«قولهعليه‌السلام : إنّ عنده القرآن كلّه إلى آخره، الجملة وإن كانت ظاهرة في لفظ القرآن ومشعرة بوقوع التحريف فيه، لكنّ تقييدها بقوله: (ظاهره وباطنه) يفيد أنّ المراد هو العلم بجميع القرآن من حيث معانيه الظاهرة على الفهم العادي ومعانيه المستبطنة على الفهم العادي.

وكذا قوله في الرواية السابقة (وما جمعه وحفظه إلى آخره) حيث قيّد الجمع بالحفظ، فافهم»(3) .

وقد أورد السيد على بن معصوم المدني هذين الخبرين ضمن الأحاديث التي استشهد بها على أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام والأوصياء من أبنائه، علموا جميع ما في القرآن علماً قطعيّاً بتأييد إلهي وإلهام رباني وتعليم نبوي، وذكر أنّ الأحاديث في ذلك متواترة بين الفريقين، وعليه

__________________

(1) تنقيح المقال 2: 323.

(2) تنقيح المقال 3: 247.

(3) حاشية الكافي 1: 228.

٦٢

إجماع الفرقة الناجية، وأنّه قد طابق العقل في ذلك النقل(1) .

وقد روى الشيخ الصفّار القمي حديثاً آخر في معنى الحديثين المذكورين هذا نصه بسنده:

«جعفر بن أحمد، عن عبد الكريم بن عبد الرحيم، عن محمد بن علي القرشي، عن محمد بن الفضيل، عن الثمالي، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال: ما أحد من هذه الامة جمع القرآن إلاّ وصي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله »(2) . ولكن في سنده «محمد بن علي القرشي»(3) .

الحديث الثالث:

فإن راويه هو «سالم بن سلمة» أو «سالم بن أبي سلمة» ومراجعة واحدة لكتب الرجال تكفي للوقوف على رأيهم في هذا الرجل. فقد ضعّفه ابن الغضائري والنجاشي والعلاّمة الحلّي والشيخ المجلسي وغيرهم(4) . ويفيد الحديث مخالفة القرآن الذي جمعه أمير المؤمنينعليه‌السلام مع القرآن الموجود بين أيدينا، وسيأتي الكلام على ذلك في فصل (الشبهات). كما يفيد أيضاً مخالفة القرآن الكريم على عهد سيدنا الإمام المهديعليه‌السلام لهذا القرآن، وسيأتي الكلام على هذا أيضاً في الفصل المذكور.

__________________

(1) شرح الصحيفة السجادية: 401.

(2) بصائر الدرجات للصّفار، وعنه في البحار89: 48، وانظر مرآة العقول المجلد 2: 535.

(3) تنتيح المقال 3: 151.

(4) نفس المصدر 2: 4.

٦٣

الحديث الرابع:

هو من رويات الشيخ العياشي في تفسيره(1) ، وقد رواه عنه الشيخ الحرّ العاملي على النحو التالي:

«وعن ميسر - أي وروى العياشي عن ميسر - عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال: لولا أنّه زيد في كتاب الله ونقص منه ما خفي حقّنا على ذي حجا،

ولو قد قام قائمنا قنطق صدّقه القرآن»(2) .

ويبطل هذا الحديث إجماع المسلمين كافّة على عدم وقوع الزيادة في القرآن، وقد ادّعى هذا الإجماع: السيد المرتضى، وشيخ الطائفة، والشيخ الطبرسي، رضي الله تعالى عنهم.

وقال سيدنا الجدّ الميلاني: «هذا على أنذ أحداً لم يقل بالزيادة». وقال السيد الخوئي في بيان معاني التحريف: «الخامس: التحريف بالزيادة، بمعنى أنّ بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل، والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين، بل هو مما علم بطلانه بالضرورة»(3) .

الحديث الخامس:

وقد صرّح الشيخ المجلسيرحمه‌الله بأنّه مجهول(4) .

وفي الأول من تالييه: إنّه مرسل(5) .

__________________

(1) تفسير العياشي 1: 13.

(2) إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات 3: 43.

(3) البيان: 218.

(4) مرآة العقول 12: 517.

(5) مرآة العقول 12: 517.

٦٤

وفي الثاني منهما بأنّه: موثّق(1) .

وظاهر هذه الأحاديث - وإن أنكر جماعة كالمجلسي والفيض وشارح الكافي - منافاة بعضها للبعض، كما اعترف بذلك السيد عبدالله شبر(2) وأوضح ذلك السيد هاشم معروف الحسني في دراساته.

الحديث السادس:

ضعّفه الشيخ المجلسي(3) ، وأوّله المحدّث الكاشاني في الوافي: على أنّ المراد من تلك الآيات، ما كان مأخوذاً من الوحي من قبيل التفسير وتبيين المراد، لا من القرآن الكريم على حقيقته، حتى يقال إنّه يدلّ نقصان القرآن.

الحديث السابع:

هو من روايات الشيخ الصفار القمي والشيخ العياشي، وسيأتي الكلام عن رواياتهما، على أنّهما روياه عن «إبراهيم بن عمر» وقد اختلفوا في تضعيفه وتوثيقه على قولين(4) .

ومن الممكن القول: بأنّ تلك الأسماء التي القيت إنما كانت مثبتة فيه على وجه التفسير لألفاظ القرآن، وتبيين الغرض منها، لا أنّها نزلت في أصل القرآن كذلك، كما قيل نظائره.

الحديث الثامن:

رواه الشيخ العياشي مرسلاً عن داود بن فرقد عمّن أخبره، عنه

__________________

(1) نفس المصدر 12: 517.

(2) مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار 1: 294.

(3) مرآة العقول 12: 506.

(4) تنقيح المقال 1: 27.

٦٥

عليه‌السلام ، وقد يجاب عنه أيضاً بمثل ما يجاب به عن الأحاديث الآتية.

الحديث التاسع:

رواه الشيخ الكليني عن البزنطي، وقد قال الشيخ المجلسي: إنّه مرسل(1) .

واعترف شارح الكافي بكونه: مرفوعاً.

وروى نحوه الشيخ الكشي عنه أيضاً(2) وسيأتي ما في رواياته.

هذا ولقد قال المحدّث الكاشاني بعده ما نصّه:

«لعلّ المراد أنّه وجد تلك الأسماء مكتوبة في ذلك المصحف تفسيراً للذين كفروا وللمشركين، مأخوذة من الوحي، لا أنّها كانت من أجزاء القرآن

وكذلك كل ما ورد من هذا القبيلعليهم‌السلام »(3) .

الحديث العاشر:

ونظائره التي رواها الشيخان القمي والكليني وغيرهما، من الأحاديث الدالّة على حذف اسم أمير المؤمنين عليعليه‌السلام و «آل محمد» وكلمة «الولاية» وأسماء «المنافقين» وغير ذلك.

ويغنينا عن النظر في أسانيد هذه الأحاديث واحداً واحداً اعتراف المحدّث الكاشاني بعدم صحتها، وحملها - على فرض الصحة - على أنّه بهذا المعنى نزلت، وليس المراد أنّها كذلك نزلت في أصل القرآن فحذف ذلك.

__________________

(1) مرآة العقول 12: 521.

(2) رجال الكشّي: 492.

(3) الوافي 2: 273.

٦٦

ثم قال - رحمة الله تعالى -: «كذلك يخطر ببالي في تأويل تلك الأخبار إن صحت ...»(1) .

وقال السيد الخوئي:

«والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة: إنّا قد أو ضحنا فيما تقدّم أنّ بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقرآن، وليس من القرآن نفسه، فلا بدّ من حمل هذه الروايات على أنّ ذكر أسماء الأئمة في التنزيل من هذا القبيل، وإذا لم يتم هذا الحمل فلا بدّ من طرح هذه الروايات، لمخالفتها الكتاب والسنّة والأدلّة المتقدّمة على نفي التحريف.

وقد دلّت الأخبار المتواترة على وجوب عرض الروايات على الكتاب والسنّة، وإن ما خالف الكتاب منها يجب طرحه وضربه على الجدار».

وقال أيضاً: «ومما يدلّ على أنّ اسم أمير المؤمنينعليه‌السلام لم يذكر صريحاً في القرآن: حديث الغدير، فإنّه صريح في أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما نصب علياً بأمر الله، وبعد أن ورد عليه التأكيد في ذلك وبعد أن وعده الله بالعصمة من الناس، ولو كان اسم «علي» مذكوراً في القرآن لم يحتج إلى ذلك النصب، ولا إلى تهيئة ذلك الاجتماع الحافل بالمسلمين، ولما خشي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من إظهار ذلك، ليحتاج إلى التأكيد في أمر التبليغ».

وقال بالنسبة إلى هذا الحديث بالذات:

«على أنّ الرواية الآخيرة المرويّة في الكافي مما لا يحتمل صدقه في نفسه، فإنّ ذكر اسم عليعليه‌السلام في مقام إثبات النبوّة والتحدى على

__________________

(1) نفس المصدر 2: 274.

٦٧

الإتيان بمثل القرآن لا يناسب مقتضى الحال».

قال: «ويعارض جميع هذه الروايات صحيحة أبي بصير المروية في الكافي، قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) .

قال: فقال: نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسينعليهم‌السلام .

فقلت له: إنّ الناس يقولون لهم: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نزلت عليه الصلاة ولم يسّم لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتى كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فسّر لهم ذلك.

فتكون هذه الصحيحة حاكمة على جميع تلك الروايات، وموضّحة للمراد

منها»(1) .

هذا، وقد تقدّم عن الشيخ البهائي قوله:

«وما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم أمير المؤمنينعليه‌السلام منه في بعض المواضع، مثل تعالى:( يا ايّها الذين الرسول بلّغ ما انزل إليك - في علي -) وغير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء»(2) .

الحديث الحادي عشر:

فيجاب عنه - بعد غضّ النظر عن سنده - بأنّ الشيخ الطبرسي رحمة الله وغيره رووه عن ابن سنان بدون زيادة «ثم قال ...»(3) .

__________________

(1) البيان 178 - 179.

(2) نقله عنه في آلاء الرحمن: 26.

(3) مجمع البيان 4: 334.

٦٨

على أنّ نفس هذا الحديث، وكذا الحديثان الآخران(1) عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دليل على أنّ سورة الأحزاب كانت مدوّنة على عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

كما يجاب عنه - إن صح - بما اجيب عن نظائره فيما تقدّم.

ولنا أن نطالب - بعد ذلك كلّه - من يصحّح هذا الحديث ويعتمد عليه، أن يثبت لنا أن ذهبت هذه الكثرة من الآيات؟ وأن يذكر كيفيّة سقوطها - أو إسقاطها - من دون أن يعلم سائر المسلمين؟

ألم تكن الدواعي متوفّرة على أخذ القرآن وتعلّمه كلّما نزل من السماء؟ ألم

تكن السورة تنتشر بمجرد نزولها بأمر النبي(2) صلى‌الله‌عليه‌وآله بين المسلمين وتقرأ في بيوتهم؟

الحديث الثاني عشر:

من روايات الشيخ الكشي، وسيأتي الكلام عنها بصورة عامة.

الحديث الثالث عشر:

سنده غير قويّ كما يتّصح ذلك لمن راجعه، ثمّ إنّ الشيخ النعماني نفسه قد روى حديثين آخرين:

أحدهما: عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أيضاً، قال: «كأنّي أنظر إلى شيعتنا بمسجد الكوفة، وقد ضربوا الفساطيط يعلّمون الناس القرآن كما أنزل»(3) .

__________________

(1) مجمع البيان، ورواه أهل السنة في كتبهم المعتبرة. انظر منها الدر المنثور 5: 179 عن جملة من كتب الحديث.

(2) نصّ على هذا أكابر الطائفة، منهم العلامة الحلّي في كتابة نهاية الوصول، وقد تقدمت عبارته في الفصل الثاني من الكتاب.

(3) الغيبة للنعماني: 317.

٦٩

والثاني منهما: عن أبي عبدالله الصادقعليه‌السلام ، قال: «كأنّي بشيعة علي في أيديهم المثاني يعلّمون القرآن»(1) .

وهذان الحديثان يعارضان الحديث المذكور.

وأوضح من ذلك قول الإمام الباقرعليه‌السلام : «إذا قام القائم من آل محمد ضرب فساطيط لمن يعلّم الناس القرآن على أنزله الله عزّ وجلّ، فاصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لأنّه يخالف فيه التأليف»(2) .

وليتأمّل في قولهعليه‌السلام : «لأنّه يخالف فيه التأليف» فإنّه يفيد فيما

سيأتي.

أمّا الأحاديث المتبقية - 14، 15، 16 - فقد ضعّفها الشيخ المجلسي جميعها(3) ، بالإضافة إلى أنّه يجاب عنها بما يجاب عن نظائرها.

__________________

(1) الغيبة للنعماني: 318.

(2) روضة الواعظين: 265، الإرشاد للشيخ المفيد: 365.

(3) مرآة العقول 5: 14، 29، 29.

٧٠

الفصل الرابع

شبهات حول القرآن

على ضوء روايات الشيعة

وهناك شبهات تعرض للناظر في أحاديث الشيعة الإمامية حول القرآن الحكيم، فعلينا - بالرغم من ثبوت بطلان تلك الأحاديث المتقدّمة وأمثالها، وعدم صلاحيتها للإستناد إليها، بالأدلّة المذكورة على عدم وقوع التحريف في القرآن، وبالأجوبة السالفة عن كل منها - أن نتعرض لتلك الشبهات، ونبيّن وجه اندفاعها:

الشبهة الاولى: تواتر أحاديث تحريف القرآن

لما رأى بعض محدّثي الإمامية كثرة الأحاديث الظاهرة في تحريف القرآن، ووجدوا كثيراً منها في المجاميع الحديثيّة المعروفة، عرضت لهم شبهة تواتر تلك الأحاديث - ولا سيمّا الأخباريون الظاهريون ممن يرى صحّة كل حديث منسوب إلى أئمة الهدىعليهم‌السلام من غير تحقيق - وهؤلاءهم:

1 - المحدّث الجزائري، فإنّه قال في وجوه ردّه على القول بتواتر

٧١

القراءات: «الثالث: إنّ تسليم تواترها عن الوحي الإلهي، وكون الكلّ قد نزل به الروح الأمين، يفضي إلى طرح الأخبار المستقيضة بل المتواترة الدالّة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن، كلاماً ومادة وإعراباً»(1) .

ولكن يردّه تصريح جماعة من كبار العلماء المحقّقين - وفيهم الأخباريون الفطاحل - بأنّ أحاديث التحريف أخبار آحاد، لا يمكن الركون إليها والإعتماد عليها في هذه المسألة الإعتقادية.

فقد قال شيخ الطائفة: «غير أنّه رويت كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً، والأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها».

وقال الشيخ المجلسي عن الشيخ المفيد: «إنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد يقطع على الله تعالى بصحتها».

وكذا قال غيرهما من أعلام الطائفة.

على أنّ كلام هذا المحدّث نفسه يدل على أنّ دعواه تلك بعيدة كلّ البعد عما نحن بصدده، لأنّه يدّعي التواتر في أحاديث التحريف بمختلف معانيه كلاماً ومادة وإعراباً.

ومن المعلوم: إنّ طائفة من الأحاديث جاءت ظاهرة في أنّ المسلمين حرّفوا القرآن من جهة المعنى دون اللفظ، وحملوا آياته على خلاف مراد الله تعالى، وإن طائفة اخرى من الأحاديث جاءت ظاهرة في وقوع التحريف في القرآن نتيجة اختلاف القراءات. إلى غير ذلك من

__________________

(1) الأنوار النعمانية 2: 357.

٧٢

طوائف الأحاديث الراجعة إلى تحريف القرآن، وتبقى الطائفة الدالّة منها على التحريف بمعنى «نقصان القرآن» وهو موضوع بحثنا، وقد ذكرنا نحن طائفة من تلك الأحاديث ونبّهنا على ما فيها.

2 - الشيخ المجلسي في كتابه (مرآة العقول) فإنّه قال بعد حديث قال إنّه موثق:

«ولا يخفى أنّ هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره. وعندى أنّ الأخبار في هذا الباب متواترة معنىً، وطرح جميعها يوجب رفع الإعتماد على الأخبار رأساً، بل ظنّي أنّ الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن أخبار الإمامة، فكيف يثبتونها بالخبر».

ويردّه ما ذكره هو في «بحار الأنوار» وقد تقدّم نصّة.

على أنّ قوله: «وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن» غريب، فإنّ السيد المرتضى قال: «نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته».

كما أنكر صحتها الطوسي شيخ الطائفة والمحدّث الكاشاني، بل جاء في العبارة التي نقلناها عن بحاره «إنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على الله تعالى بصحّتها».

ومن قبلهم قال شيخ المحدّثين ما نصّه: «إعتقادنا أنّ القرآن الذين أنزله الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو ما بين الدفّتين وما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذاك ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب». ولو كانت أحاديث النقيصة صحيحة ومقبولة لما قال الصدوق ذلك كما لا يخفى.

وأما قوله: «وطرح جميعها يوجب رفع الإعتماد على الأخبار

٧٣

رأساً» ففيه: إنّ قبول جميعها أيضاً يوجب رفع الإعتماد على الأحاديث رأساً، على أنّه رحمة الله قد حكم في أكثر الأحاديث المخرّجة في «الكافي» والمفيدة نقص القرآن إمّا بالضعف وإمّا بالإرسال، كما تقدّم ذلك كلّه.

ومن العجيب قوله: «بل ظنّي ...» إذ إثبات الإمامية ليس دليلة منحصراً بالأحاديث حتى يقال ذلك، وكيف أنّ تلك الأحاديث لا تقصر عن أحاديث الإمامة؟ وهل يقصد الكثرة في الورود؟ أو القوة في الدلالة؟ أو الصحة في الأسانيد؟

3 - المحدّث الحر العاملي، فإنّه قال بعد أن روى حديثين عن تفسير العياشي:

«أقول: هذه الأحاديث وأمثالها دالّة على النصّ على الأئمةعليهم‌السلام وكذا التصريح بأسمائهم، وقد تواترت الأخبار بأنّ القرآن نقص منه كثير وسقط منه آيات لمّا تكتب».

ويكفي لدفع دعوى التواتر هذه نصوص العلماء، وما تقدّم نقله عنه في الفصل الأول.

ولعلّ قوله رحمة الله بعد ذلك: «وبعضهم يحمل تلك الأخبار عن أنّ ما نقص وسقط كان تأويلاً نزل مع التنزيل، وبعضهم على أنّه وحي لا قرآن» يدلّ على أنّه لا يعتقد بوقوع التحريف في القرآن الشريف.

وكأنّه إنّما يدّعي التواتر في هذه الأحاديث للإحتجاج بها على وجود النصوص العامة على إمامة الأئمةعليهم‌السلام ، ولذا فإنّه قال: «وعلى كلّ حال، فهو حجّة في النصّ، وتلك الأخبار متواترة من طريق

٧٤

العامة والخاصة»(1) .

والخلاصة: إنّه لا مجال لدعوى التواتر في أحاديث تحريف القرآن بهذا المعنى المتنازع فيه.

الشبهة الثانية: اختلاف مصحف عليعليه‌السلام مع المصحف الموجود

وتفيد طائفة من أحاديث الشيعة أنّ علياً أمير المؤمنينعليه‌السلام اعتزل الناس بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليجمع القرآن العظيم، وفي حديث رواه الشيخ بن إبراهيم القمي - رحمة الله تعالى - في تفسيره: إنّ عمله ذاك كان بأمر من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال: لا أرتدي حتى أجمعه، حتى روي أنّهعليه‌السلام لم يرتد رداءه إلاّ للصلاة إلى أن فرغ من هذه المهمّة.

وأضافت تلك الأحاديث - ومنها الحديث الثالث من الأحاديث المتقدّمة وحديثان رواهما الشيخ أبو منصور الطبرسي في «الإحتجاج» - إنّهعليه‌السلام حمل ذاك المصحف الذي جمعه إلى الناس، وأخبرهم بأنّه الذي نزل من عندالله سبحانه على النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّ الناس ردوّه وأعرضوا عنه زاعمين أنّهم في غنىً عنه، فعند ذلك قال الإمامعليه‌السلام : إنّكم لن تروه بعد اليوم.

والذي يستنتجه الناظر في هذه الأحاديث مخالفة ما جمعه الإمامعليه‌السلام مع القرآن الموجود، ولو لم يكن بعض ما فيه مخالفاً لبعض ذلك المصحف لما حمله إليهم، ولما دعاهم إلى تلاوته والأخذ به وجعله

__________________

(1) إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات 3: 43.

٧٥

القرآن المتّبع لدى جميع المسلمين.

ومن هنا تأتي الشبهة في هذا المصحف الذي بين أيدينا، إذ لا يشك مسلم في أعلميّة الإمامعليه‌السلام بالكتاب ودرايته بحقائقه وأسراره ودقائقه.

ولكنّ هذه الشبهة تندفع - بعد التسليم بصحّة هذه الأخبار - بما ذكره جماعة من أنّ القرآن الكريم كان مجموعاً على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكن في عهده مبثوثاً متفرقاً هنا وهناك حتى يحتاج إلى جمع، ويؤيد ذلك أنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الأحاديث هو الخالفة بين المصحفين إجمالاً، وهي كما يحتمل أن تكون بالزيادة والنقصان في أصل الآيات والسور المنزلة، كذلك يحتمل أن تكون:

أولاّ: بالإختلاف في الترتيب والتأليف، كما يدلّ عليه الحديث في (الإرشاد) و (روضة الواعظين) وذهب إليه جماعة، فقد قال السيد الطباطبائي: «إنّ جمعهعليه‌السلام القرآن وحمله إليهم وعرضه عليهم لا يدلّ على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيء من الحقائق الدينيّة الأصليّة أو الفرعية، إلاّ أن يكون في شيء من ترتيب السور أو الآيات من السور التي نزل نجوماً، بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينيّة.

ولو كان كذلك لعارضهم بالإحتجاج ودافع فيه ولم يقنع بمجرد إعراضهم عمّا جمعه واستغنائهم عنه، كما روي عنهعليه‌السلام في موارد شتى، ولم ينقل عنهعليه‌السلام فيما روي من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته ولا غيرها آية أو سورة تدلّ على ذلك، وجبّهم على إسقاطها أو تحريفها»(1) .

__________________

(1) الميزان 12: 119.

٧٦

وثانياً: بالإختلاف بالزيادة والنقصان من جهة الأحاديث القدسيّة، بأن يكون مصحف الإمامعليه‌السلام مشتملاً عليها، ومصحفهم خالياً عنها، كما ذهب إليه شيخ المحدّثين الصدوق حيث قال: «وقد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغة مقدار سبع عشرة ألف آية، وذلك قول جبرئيلعليه‌السلام للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله تعالى يقول لك: يا محمّد دار خلقي: ومثل قوله: عش ما شئت فإنّك ميت، وأحبب ما شئت فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه، وشرف المؤمن صلاته بالليل وعزّه كفّ الأذى عن الناس».

قال: «ومثل هذا كثير، كلّه وحي وليس بقرآن ولو كان قرآناً لكان مقروناً به وموصولاً إليه غير مفصول عنه، كما كان أمير المؤمنينعليه‌السلام جمعه، فلما جاء به قال: هذا كتاب ربّكم كما أنزل على نبيّكم، لم يزد فيه حرف ولا ينقص منه حرف، قالوا: لا حاجة لنا فيه، عندنا مثل الذي عندك، فانصرف وهو يقول: فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً، فبئس ما يشترون»(1) .

وثالثاً: بالإختلاف بالزيادة والنقصان من جهة التأويل والتفسير، بأن يكون مصحفهعليه‌السلام مشتملاً على تأويل الآيات وتفسيرها، والمصحف الموجود خال عن ذلك، كما ذهب إلى ذلك جماعة.

قال الشيخ المفيد: «ولكنّ حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنينعليه‌السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله،

__________________

(1) الاعتقادات: 93.

٧٧

وذلك كان ثابتاً منزلاً، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً، قال الله تعالى:( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربّ زدني علماً ) فسمّى تأويل القرآن قرآناً، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف، وعندي أنّ هذا القول أشبه»(1) .

وقال المحدّث الكاشاني: «ولا يبعد أيضاً أن يقال: إن بعض المحذوفات كان من قبيل التفسير والبيان، ولم يكن من أجزاء القرآن، فيكون التبديل من حيث المعنى، أي: حرّفوه وغيّروه في تفسيره وتأويله، أعني: حملوه على خلاف ما هو به، فمعنى قولهمعليهم‌السلام : (كذا أنزلت) أنّ المراد به ذلك، لا أنّها نزلت مع هذه الزيادة في لفظها، فحذف منها ذلك اللفظ.

وممّا يدلّ على هذا ما رواه في (الكافي) بإسناده عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير: وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية الحديث.

وما رواه العامّة: إنّ علياًعليه‌السلام كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ.

ومعلوم أنّ الحكم بالنسخ لا يكون إلاّ من قبيل التفسير والبيان، ولا يكون جزءاً من القرآن، فيحتمل أن يكون بعض المحذوفات أيضاً

__________________

(1) أوائل المقالات في المذاهب المختارات، وكذا قال في غيره كما سيأتي عن تاريخ القرآن.

٧٨

كذلك»(1) .

وإلى ذلك ذهب السيد الخوئي(2) .

وقال الزنجاني: «ويظهر من بعض الروايات إنّ علياً أمير المؤمنينعليه‌السلام كتب القرآن وقدّم المنسوخ والناسخ. خرّج إبن أشته في المصاحف عن ابن سيرين: إنّ علياًعليه‌السلام كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ. وإن ابن سيرين قال: تطلبت ذلك وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه. وقال ابن حجر: قد ورد عن عليعليه‌السلام أنّه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وخرّجه ابن أبي داود.

وفي شرح الكافي عن كتاب سليم بن قيس الهلالي: إنّ علياًعليه‌السلام بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لزم بيته وأقبل على القرآن يجمعه ويؤلّفه فلم يخرج من بيته حتى جمعه كلّه، وكتب على تنزيله الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه.

ذكر الشيخ الإمام محمد بن محمد بن النعمان المفيد في كتاب الإرشاد والرسالة السروية: إنّ علياً قدّم في مصحفه المنسوخ على الناسخ، وكتب في تأويل بعض الآيات وتفسيرها بالتفصيل.

يقول الشهرستاني في مقدّمة تفسيره: كان الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - متفقين على إنّ علم القرآن مخصوص لأهل البيتعليهم‌السلام إذا كانوا يسألون علي بن أبي طالب هل خصصتم أهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن؟ فاستثناء القرآن بالتخصيص دليل على

__________________

(1) الصافي 1: 46، علم اليقين: 130.

(2) البيان: 197.

٧٩

إجماعهم بأنّ القرآن وعلمه وتنزيله وتأويله مخصوص بهم»(1) .

وقال بعض الأعلام من أهل السنّة: إنّ قرآن على كان يشتمل على علم كثير(2) .

بل عن الإمامعليه‌السلام نفسه أنّه قال للزنديق: انّه أحضر الكتاب كملاً مشتملاً على التنزيل والتأويل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، لم يسقط منه حرف»(3) .

ويؤيّده: ما اشتهر من أن الذي جاءهم به كان مشتملاً على جميع ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش(4) .

الشبهة الثالثة: القرآن في عهد الإمام المهديعليه‌السلام .

ومن الأحاديث المتقدّمة وغيرها ما يفيد: أنّ القرآن الكريم على عهد الإمام الحجّة المهديّ المنتظر السّلام يختلف عما هو عليه الآن، وهذا يفضي - بلا ريب - إلى الشك في هذا القرآن الموجود.

ولكنّ هذه الشبهة أيضاً مندفعة، لعلمنا بضعف تلك الأحاديث، ومخالفتها للكتاب والسنّة والإجماع.

على أنّ المستفاد من هذه الأحاديث إختلاف قراءة أهل البيتعليهم‌السلام مع القراءات المشهورة، إلاّ إنّهم كانوا يمنعون عن تلك القراءة، ويأمرون شيعتهم بقراءة القرآن كما يقرأ الناس حتى يظهر

__________________

(1) تاريخ القرآن: 25 - 26.

(2) التسهيل لعلوم التنزيل 1: 3.

(3) الصافي 1: 42.

(4) بحر الفوائد 99 عن شرح الوافية.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

وبصيغة علمية لابد أن نقول: ليس الخلاف في الكلي وإنّما الخلاف هو في تعيين المصداق.

ولأجل حل هذه المشكلة لابد ـ أوّلاً ـ من التعرّف على المفهوم الواقعي للعبادة لنميّز في ضوء ذلك: العبادة عن غيرها.

وهكذا أيضاً يمكن الوقوف على حقيقة الحال في غير موضوع الزيارة من الأُمور التي يعدها الوهابيون من العبادة كالتوسّل بأولياء الله، وطلب الحاجة منهم، في حين يخالفهم المسلمون في ذلك، فيجوّزون هذه التوسّلات، ويعتبرونها نوعاً من الأخذ والتمسك بالأسباب، الذي ورد في الشرع الشريف.

٤٤١

٢

هل العبادة هي مطلق الخضوع أو التكريم ؟

لأئمّة اللغة العربية في المعاجم تعاريف متقاربة للفظة العبادة، فهم يفسرون العبادة بأنّها « الخضوع والتذلّل » وإليك فيما يلي نصَّ أقوالهم :

١. يقول ابن منظور في « لسان العرب »: أصل العبودية: الخضوع والتذلّل.

٢. ويقول الراغب في « المفردات »: العبودية إظهار التذلّل، والعبادة أبلغ منها، لأنّها غاية التذلّل، ولا يستحق إلّا من له غاية الأفضال، وهو الله تعالى، ولهذا قال:( إلّاتَعْبُدُوا إلّا إِيّاه ) (١) ».

٣. وفي « القاموس المحيط » للفيروز آبادي: العبادة: الطاعة.

٤. وقال ابن فارس في المقاييس: العبد له أصلان كأنّهما متضادان، والأوّل من ذينك الأصلين يدل على لين وذل، والآخر على شدة وغلظ.

ثمّ أتى بموارد المعنى الأوّل وقال :

من الباب الأوّل: البعير المعبد أي المهنوء بالقطران، وهذا أيضاً يدل على ما

__________________

(١) يوسف: ٤٠، الإسراء: ٢٣.

٤٤٢

قلناه، لأنّ ذلك يذلّه ويخفض منه. والمعبد: الذلول، يوصف به البعير أيضاً.

ومن الباب: الطريق المعبد، وهو المسلوك المذلّل.

بيد أنّ العبادة وإن فسروها بالطاعة والخضوع والتذلل، أو إظهار نهاية التذلّل، لكن جميع هذه التعاريف ما هي إلّا نوع من التعريف بالمعنى الأعم، لأنّ الطاعة والخضوع وإظهار التذلّل ليست ـ على وجه الإطلاق ـ عبادة، لأنّ خضوع الولد أمام والده، والتلميذ أمام أُستاذه، والجندي أمام قائده، لا يعد عبادة مطلقاً مهما بالغوا في الخضوع والتذلّل، وتدل الآيات ـ بوضوح ـ على أنّ غاية الخضوع والتذلّل، فضلاً عن كون مطلق الخضوع، ليست عبادة، ودونك تلك الآيات :

سجود الملائكة لآدم الذي هو من أعلى مظاهر الخضوع حيث قال سبحانه :

( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) (١) .

فالآية تدل على أنّ آدم وقع مسجوداً للملائكة، ولم يحسب سجودهم شركاً وعبادة لغير الله، ولم تصر الملائكة بذلك العمل مشركة، ولم يجعلوا بعملهم نداً لله وشريكاً في المعبودية، بل كان عملهم تعظيماً لآدم وتكريماً لشأنه.

وهذا هو نفسه خير دليل على أنّه ليس كل تعظيم أمام غير الله عبادة له، وأنّ جملة:( اسْجُدُوا لآدَمَ ) وإن كانت متحدة مع جملة:( اسْجُدُوا للهِ ) إلّا أنّ الأوّل لا يعد أمراً بعبادة غيره سبحانه ويعد الثاني أمراً بعبادة الله(٢) .

ويمكن أن يتصور ـ في هذا المقام ـ أنَّ معنى السجود لآدم ـ في هذه الآية ـ

__________________

(١) البقرة: ٣٤.

(٢) وهذا يدل على أنّ الاعتبار إنّما هو بالنيات والضمائر لا بالصور والظواهر.

٤٤٣

هو الخضوع له، لا السجود بمعناه الحقيقي والمتعارف، ومعلوم أنّ مطلق الخضوع ليس عبادة، بل « غاية الخضوع » التي هي السجود، هي التي تكون عبادة.

أو يمكن أن يتصوّر أنّ المقصود بالسجود لآدم هو جعله « قبلة » لا السجود له سجوداً حقيقياً.

ولكن كلا التصوّرين باطلان.

أمّا الأوّل فلأنّ تفسير السجود في الآية بالخضوع خلاف الظاهر، والمتفاهم العرفي إذ المتبادر من هذه الكلمة ـ في اللغة والعرف ـ هو الهيئة السجودية المتعارفة لا الخضوع، كما أنّ التصوّر الثاني هو أيضاً باطل، لأنّه تأويل بلا مصدر ولا دليل.

هذا مضافاً إلى أنّ آدمعليه‌السلام لو كان قبلة للملائكة لما كان ثمة مجال لاعتراض الشيطان، إذ قال :

( ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) (١) .

لأنّه لا يلزم ـ أبداً ـ أن تكون القبلة أفضل من الساجد ليكون أي مجال لاعتراضه، بل اللازم هو: كون المسجود له أفضل من الساجد، في حين أنّ آدم لم يكن أفضل في نظر الشيطان منه، وهذا ممّا يدلّ على أنّ الهدف هو السجود لآدم.

يقول الجصاص: ومن الناس من يقول إنّ السجود كان لله وآدم بمنزلة القبلة لهم، وليس هذا بشيء، لأنّه يوجب أن لا يكون في ذلك حظ من التفضيل والتكرمة، وظاهر ذلك يقتضي أن يكون آدم مفضلاً مكرماً، ويدل على أنّ الأمر بالسجود قد كان أراد به تكرمة آدمعليه‌السلام وتفضيله، قول إبليس فيما حكى الله عنه :

__________________

(١) الإسراء: ٦١.

٤٤٤

( ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً *أَرَأَيْتَكَ هٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ) (١) ، فأخبر إبليس أنّ امتناعه من السجود لأجل ما كان من تفضيل الله وتكرمته بأمره إيّاه بالسجود له، ولو كان الأمر بالسجود له على أنّه نصب قبلة للساجدين من غير تكرمة له ولا فضيلة لما كان لآدم في ذلك حظ ولا فضيلة تحسد كالكعبة المنصوبة للقبلة(٢) .

وعلى هذا فمفهوم الآية هو أنّ الملائكة سجدوا لآدم بأمر الله سجوداً واقعياً، وانّ آدم أصبح مسجوداً للملائكة بأمر الله، وهنا أظهر الملائكة من أنفسهم غاية الخضوع أمام آدم، ولكنهم ـ مع ذلك ـ لم يكونوا ليعبدوه.

وما ربما يتصور من أنّ سجود الملائكة لما كان بأمره سبحانه صح سجودهم له، إنّما الكلام في الخضوع الذي لم يرد به أمر، فسيوافيك الجواب عن هذا الاحتمال الذي يردّده كثير من الوهابيين في المقام.

انّ القرآن يصرح بأنّ أبوي يوسف وإخوته سجدوا له، حيث قال :

( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَىٰ العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وقَالَ يَا أَبَتِ هٰذَا تَأْويلُ رُؤيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقّاً ) (٣) .

ورؤياه التي يشير إليها القرآن في هذه الآية هو ما جاء في مطلع السورة :

( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) (٤) .

وقد تحققت هذه الرؤيا بعد سنوات طويلة في سجود أخوة يوسف وأبويه

__________________

(١) الإسراء: ٦١ ـ ٦٢.

(٢) أحكام القرآن: ١ / ٣٠٢.

(٣) يوسف: ١٠٠.

(٤) يوسف: ٤.

٤٤٥

له، وعبَّر القرآن ـ في كل هذه الموارد ـ بلفظ السجود ليوسف.

ومن هذا البيان يستفاد ـ جلياً ـ أنّ مجرد السجود لأحد بما هو هو مع قطع النظر عن الضمائم والدوافع ليس عبادة، والسجود كما نعلم هو غاية الخضوع والتذلّل.

٣. يأمر الله تعالى بالخضوع أمام الوالدين وخفض الجناح لهم، الذي هو كناية عن الخضوع الشديد، إذ يقول :

( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (١) .

ومع ذلك لا يكون هذا الخفض: عبادة.

٤. إنّ جميع المسلمين يطوفون ـ في مناسك الحج ـ بالبيت الذي لا يكون إلّا حجراً وطيناً، ويسعون بين الصفا والمروة وقد أمر القرآن الكريم بذلك، حيث قال :

( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ ) (٢) .

( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) (٣) .

فهل ترى يكون الطواف بالتراب والحجر والجبل(٤) عبادة لهذه الأشياء ؟

__________________

(١) الإسراء: ٢٤.

(٢) الحج: ٢٩.

(٣) البقرة: ١٥٨.

(٤) المسلمون كلهم يستلمون الحجر الأسود ـ في الحج ـ واستلام الحجر الأسود من مستحبات الحج، وهذا العمل يشبه من حيث الصورة ( لا من حيث الواقعية ) أعمال المشركين تجاه أصنامهم في حين انّ هذا العمل يعد في صورة شركاً، وفي أُخرى لا يعد شركاً بل يكون معدوداً من أعمال الموحدين المؤمنين، وهذا يؤيد ما ذكرناه آنفاً من أنّ الملاك هو النيات والضمائر لا الصور والظواهر وإلاّ فهذه الأعمال بصورها الظاهرية لا تفترق عن أعمال الوثنيين.

٤٤٦

ولو كان مطلق الخضوع عبادة لزم أن تكون جميع هذه الأعمال ضرباً من الشرك المجاز المسموح به، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

٥. انّ القرآن الكريم يأمر بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلّى عندما يقول:( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهيمَ مُصَلّىً ) (١) .

ولا ريب في أنّ الصلاة إنّما هي لله، ولكن إقامتها في مقام إبراهيم الذي يرى فيه أثر قدميه أيضاً نوع من التكريم لذلك النبي العظيم ولا يتصف هذا العمل بصفة العبادة مطلقاً(٢) .

٦. إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للمؤمن والتعزّز على الكافر كما يقول سبحانه :

( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَىٰ المُؤْمِنينَ أَعِزةٍ عَلَىٰ الكَافِرينَ ) (٣) .

إنّ مجموع هذه الآيات من جانب ومناسك الحج وأعماله من جانب آخر تدل على أنّ مطلق الخضوع والتذلّل، أو التكريم والاحترام ليس عبادة، وإذا ما رأينا أئمّة اللغة فسّروا العبادة بأنّها الخضوع والتذلّل كان هذا من التفسير بالمعنى الأوسع، أي أنّهم أطلقوا اللفظة وأرادوا بها المعنى الأعم، في حين أنّ العبادة ليست إلّا نوعاً خاصاً من الخضوع سنذكره عما قريب.

__________________

(١) البقرة: ١٢٥.

(٢) ثم إنّ بعض من يفسّر العبادة بمطلق الخضوع يجيب عن الاستدلال بهذه الآيات بأنّ السجود لآدم أو ليوسف حيث كان بأمر الله سبحانه فبذلك خرج عن كونه شركاً.

وسنرجع إلى هذا البحث تحت عنوان « هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك » ؟ فلاحظ.

(٣) المائدة: ٥٤.

٤٤٧

ومن هذا البيان يمكن أيضاً أن نستنتج أنّ تكريم أحد واحترامه ليست ـ بالمرة ـ عبادة، لأنّه في غير هذه الصورة يلزم أن نعتبر جميع البشر حتى الأنبياء مشركين، لأنّهم أيضاً كانوا يحترمون من يجب احترامه.

وقد أشار المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( وهو أوّل من أدرك ـ في عصره ـ عقائد الوهابية وأخضعها للتحليل ) أشار إلى ما ذكرنا، إذ قال :

لا ريب أنّه لا يراد بالعبادة التي لا تكون إلّا لله، ومن أتى بها لغير الله فقد كفر، مطلق الخضوع والانقياد كما يظهر من كلام أهل اللغة، وإلاّ لزم كفر العبيد والأُجراء وجميع الخدّام للأُمراء، بل كفر الأنبياء في خضوعم للآباء(١) .

تمييز المعنى الحقيقي عن المجازي

نعم ربما تستعمل لفظة العبادة وما يشتق منها في موارد في العرف واللغة، ولكن استعمال لفظ في معنى ليس دليلاً على كونه مصداقاً حقيقياً لمعنى اللفظ، بل قد يكون من باب تشبيه المورد بالمعنى الحقيقي لوجود مناسبة بينهما، وإليك هذه الموارد :

١. العاشق الولهان الذي يظهر غاية الخضوع أمام معشوقته، ويفقد تجاه طلباتها عنان الصبر، ومع ذلك لا يسمّى مثل هذا الخضوع عبادة، وإن قيل في حقّه مجازاً انّه يعبد المرأة.

٢. الأشخاص الذين يأسرهم الهوى فيفلت من أيديهم ـ تحت نداءات

__________________

(١) راجع منهج الرشاد: ٢٤، طبع ١٣٤٣ ه‍ تأليف الشيخ الأكبر المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( المتوفّى عام ١٢٢٨ ه‍ ). وقد ألّف المرحوم هذا الكتاب في معرض الإجابة على رسالة من أحد أُمراء السعودية الذين كانوا مروّجي الوهابية منذ أول يوم إلى زماننا هذا.

٤٤٨

النفس الأمّارة ـ زمام الاختيار لا يمكن اعتبارهم عبدة واقعيين للهوى، ولا عدهم مشركين، كمن يعبد الوثن، ولو قيل في شأنه أنّه يعبد هواه، فإنّ ذلك نوع من التشبيه وضرب من التجوّز.

فها هو القرآن يسمي الهوى إلهاً، ويلازم ذلك كون الخضوع للهوى: عبادة له، لكن مجازاً، إذ يقول :

( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ) (١) .

فكما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى نوع من التجوّز، فكذا إطلاق العبادة على متابعة الهوى هو أيضاً ضرب من المجاز.

٣. هناك فريق من الناس يضحّون بكل شيء في سبيل الحصول على جاه ومنصب، حتى ليقول الناس في حقّهم: إنّهم يعبدون الجاه والمنصب، ولكنّهم في نفس الوقت لا يعدّون عبدة حقيقيّين للجاه، ولا يصيرون بذلك مشركين.

٤. انّ المتوغّلين في العنصرية ـ كبني إسرائيل ـ وفي الأنانية، الذين لا يهمّهم إلّا المأكل والمشرب رغم أنّهم يطلق عليهم بأنّهم عباد العنصر والنفس والشيطان، ولكن الوجدان يقضي بأنّ عملهم لا يكون عبادة، وأنّ اتباع الشيطان شيء وعبادته شيء آخر.

وإذا ما رأينا القرآن الكريم يسمّي طاعة الشيطان « عبادة »، فذلك ضرب من التشبيه، والهدف منه هو بيان قوة النفرة وشدّة الاستنكار لهذا العمل، إذ يقول :

( ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ *وَأَنْ اعْبُدُونِي هٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (٢) .

__________________

(١) الفرقان: ٤٣.

(٢) يس: ٦٠ ـ ٦١.

٤٤٩

ومثل هذه الآية الآيتان التاليتان :

١.( يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيّاً ) (١) .

٢.( أَنُؤمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ) (٢) .

لا شك في أنّ بني إسرائيل ما كانت تعبد فرعون وملأه، غير أنّ استذلالهم لـمّا بلغ إلى حد شديد صح أن يطلق عليه عنوان العبادة على نحو المجاز.

والقرآن وإن أطلق على هذه الموارد عنوان العبادة، لكن لا بمعنى أنّه جعلهم في عداد المشركين، فلا يمكن التصديق بأنّ كل خضوع وطاعة وكل تكريم واحترام « عبادة »، وعند ذاك يستكشف أن استعمالها في هاتيك الموارد بعناية خاصة، وعلاقة مجازية.

وبعبارة أُخرى: أنّ عبّاد الهوى والنفس والجاه و وإن كانوا يعتبرون مذنبين، تنتظرهم أشدُّ العقوبات إلّا أنّه لا يكونون في عداد المشركين في العبادة الذين لهم أحكام خاصة في الفقه الإسلامي.

كيف لا، ونحن نقرأ في الحديث الشريف :

« من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان ينطق عن غير الله فقد عبد غير الله »(٣) .

فالناس يستمعون اليوم إلى وسائل الإعلام ويصغون إلى أحاديث المتحدّثين والمذيعين من الراديو والتلفزيون، وأكثر أُولئك المتحدّثين ينطقون عن غير الله، فهل يمكن لنا أن نصف كل من يستمع إلى تلك الأحاديث بأنّهم عبدة لأُولئك

__________________

(١) مريم: ٤٤.

(٢) المؤمنون: ٤٧.

(٣) سفينة البحار: ج ٢ مادة عبد.

٤٥٠

المتحدّثين ؟

بل الصحيح هو أن نعتبر استعمال لفظ العبادة في مثل هذه الموارد نوعاً من التجوّز، لأجل وجود المناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

فلطالما يتردد في لسان العرف بأنّ فلاناً عبد البطن أو عبد الشهوة فهل يكون هؤلاء ـ حقاً ـ عبدة البطن والشهوة، أو لأنّ الخضوع المطلق تجاه نداءات الشهوات النفسانية حيث كان شبيهاً بالخضوع المطلق الذي يمثله الموحّدون أمام خالق الكون، أطلق عنوان العبادة على هذه الموارد.

هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك ؟

ربما يقال أنّ سجود الملائكة لآدم، واستلام الحجر الأسود، وما شابههما من الأعمال لما كان بأمر الله، لا يكون شركاً، ولا يعد فاعلهاً مشركاً(١) .

وبعبارة أُخرى: أنّ حقيقة العبادة وإن كانت الخضوع والاحترام، ولكن لما كانت تلك الأعمال مأتياً بها بأمره سبحانه تعد عبادة للآمر لا لسواه.

ولكن القائل ومن تبعه يغفلون عن نقطة مهمة جداً، وهي :

إنّ تعلق الحكم بموضوع لا يغيّر ـ بتاتاً ـ حقيقة ذلك الموضوع، ولا يوجب تعلّق الأمر الإلهي به تبدل ماهيته.

إنّ العقل السليم يقضي بأنّ سب أحد وشتمه إهانة له ـ طبعاً ـ وذلك شيء تقتضيه طبيعة السباب والفحش والشتم، فإذا أوجب الله سب أحد وشتمه ـ فرضاً ـ فإنّ أمر الله لا يغيرّ ماهية السب والشتم ـ أبداً ـ.

__________________

(١) القائل هو الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي في محاورته مع بعض الأفاضل.

٤٥١

كما أنّ الضيافة وإقراء الضيف بطبيعتهما تكريم للوافد، واحترام للضيف، فإذا حرمت ضيافة شخص لم تتبدّل ماهية العمل، أعني: الضيافة التي كانت بطبيعتها احتراماً، لتصير إهانة في صورة تحريمها، بل تبقى ماهية الضيافة على ما كانت عليه ولو تعلّق بها تحريم، فإذا عُدّت أعمال ـ كالسجود واستلام الحجر الأسود وما شابههما ـ عبادة ذاتاً، فإنّ الأمر الإلهي لا يغيّر ماهيتها، فلا تخرج من حال كونها عبادة لآدم أو يوسف أو الحجر، وما يقوله القائل من أنّها عبادة ذاتاً وطبيعة، ولكن حيث تعلّق بها الأمر الإلهي خرجت عن الشرك، يستلزم أن تكون هذه الأعمال من الشرك المجاز، وهو قول لا يقبله أي إنسان.

والخلاصة: أنّ المسألة تدور مدار أمّا أن نعتبر هذه الأعمال خارجة ـ بطبيعتها ـ عن مفهوم الشرك، أو أن نقول إنّها من مصاديق الشرك في العبادة، ولكنّها شرك أذن الله به وأجازه !!

والقول الثاني على درجة من البطلان بحيث لا يمكن أن يحتمله أحد فضلاً عن الذهاب إليه، وسيوافيك أنّ بعض الأعمال يمكن أن تكون باعتبار تعظيماً وتواضعاً، وباعتبار آخر شركاً، فلو كانت الملائكة ـ مثلاً ـ تسجد لآدم باعتقاد أنّه إله كان عملهم شركاً قطعاً، وإن أمر الله به ـ على وجه الافتراض ـ، وأمّا إذا كانت تسجد بغير هذا الاعتقاد لم يكن فعلها شركاً حتى لو لم يأمر به المولى جل شأنه.

نعم ورد في بعض الروايات ـ وإن لم يتحقق سنده ـ عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام أنّه لما سئل أيصلح السجود لغير الله ؟

فقال: « لا ».

قيل: فكيف أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ؟

٤٥٢

فقال: « إنّ من سجد بأمر الله فقد سجد لله إذ كان عن أمر الله تعالى »(١) .

فإنّ المقصود من هذه الرواية ـ على فرض صحتها سنداً ـ هو أنّ السجود كان تعظيماً لآدم وتكريماً له، وهو في الحقيقة عبادة لله لكونه بأمره.

وتوضيحه أنّ نفس العمل ( أعني: السجود ) كان تعظيماً لآدم غير أنّ الإتيان بهذا العمل حيث كان لامتثال أمر الله كان عبادة له سبحانه، بحيث لولا أمره تعالى لكان العمل ـ في حد نفسه ـ جائزاً لكونه تعظيماً، ونظيره تعظيم العالم واحترامه، فإنّه لا بداعي أمره سبحانه تعظيم للعالم فقط، وبداعي الأمر تعظيم له وطاعة لله سبحانه، وهذا غير القول بأنّ ذات العمل كان شركاً، ولكن أمر الله استلزم تغيره فلم يعد شركاً.

ويؤيد ما قلناه ما عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه: أنّ يهودياً سأل أمير المؤمنين ( علياًعليه‌السلام ) عن سجود الملائكة لآدم، فقال الإمام في جوابه :

« إنّ سجودهم [ أي الملائكة ] لم يكن سجود طاعة [ بمعنى ] أنّهم عبدوا آدم من دون الله عزّ وجلّ، ولكن اعترافاً لآدم بالفضيلة »(٢) .

وأيضاً ما جاء عن الإمام الرضا علي بن موسى بن جعفر، عن آبائه، عن أمير المؤمنين ( عليّ ): قال :

« قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كان سجودهم لله عز وجلّ ولآدم إكراماً »(٣) .

وبهذا تبيّن انّ السجود كان ـ بطبيعته ـ تعظيماً لآدم وتكرمة له، وهو في

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي: ٣١ ـ ٣٢.

(٢) الاحتجاج للطبرسي: ١١١.

(٣) عيون الأخبار: ٤٥.

نعم لا يوافق مضمون هذا الحديث مضمون ما تقدم من الحديثين حيث إنّ ما تقدمه جعل السجود لآدم، وهذا جعله لله سبحانه، نعم ما يشتركان فيه هو أنّ السجود كان إكراماً وتعظيماً لآدم، ولأجل ذلك ذكرنا الأحاديث في مقام واحد.

٤٥٣

الحقيقة عبادة لله تعالى لكونه بأمره وهو مختار جماعة من المفسّرين.

وتبيّن من ذلك أنّ الأمر الإلهي لا يغيّر ماهية هذا العمل، بل ما يقترن به من الاعتقاد هو الدخيل في كونه شركاً أو لا.

ومن هذا البيان أيضاً علم مفاد الرواية المروية عن الإمام الصادقعليه‌السلام التي نقلناها عما قريب.

نعم أنّ للأمر الإلهي فائدة هي: أنّه لو نسب أحد أفعاله إلى الأمر الإلهي وأتى بها على أنّها فريضة أو سنّة مندوبة شرعاً، وجعلها جزءاً من شريعته وكان الواقع يؤيد تلك النسبة، خرج عمله عن موضوع البدعة، وخرج هو عن كونه مبتدعاً في الدين، لأنّ « البدعة: إدخال ما ليس من الدين في الدين ».

لقد كان الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي يحاول توجيه صحة وشرعية هذه الاحترامات بورود الأمر الإلهي بشأنها، ويستشهد بما قاله عمر بن الخطاب حول الحجر الأسود، إذ قال ـ ما مضمونه ـ: إني أعلم أنّك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أنّي رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقبّلك لما قبّلتك(١) .

وقد قيل للشيخ: إنّ مفاد كلامكم هو أن تكون هذه الأفعال من الشرك المجاز إذن ؟

ونلفت نظر الشيخ إلى الآية الكريمة:( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَىٰ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (٢) .

فلو كانت ماهية السجود لآدمعليه‌السلام واستلام الحجر الأسود عبادة لآدم والحجر وشركاً لما كان الله سبحانه يأمر بها ـ أبداً ـ.

__________________

(١) صحيح البخاري: ٣ / ١٤٩، كتاب الحج، طبعة عثمان خليفة.

(٢) الأعراف: ٣٨.

٤٥٤

٣

العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بإلوهية

المعبود وربوبيته واستقلاله في فعله

لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء والأرض، فهو مع وضوح مفهومه يصعب التعبير عنه بالكلمات رغم حضور هذا المفهوم في الأذهان، والعبادة كما هي واضحة مفهوماً، فهي واضحة ـ كذلك ـ مصداقاً بحيث يسهل تمييز مصاديقها عن مصاديق التعظيم والتكريم وغيرهما من المفاهيم، فتقبيل العاشق الولهان دار معشوقته، واحتضان ثيابها شوقاً، أو تقبيل تراب قبرها بعد الموت، لا يدعى عبادة للمعشوقة.

كما أنّ ذهاب الناس إلى زيارة من يعنيهم من الشخصيات، والوفود إلى مقابرهم لزيارتها والوقوف أمامها احتراماً، وإجراء مراسم وطقوس خاصة لديها لا يعد عبادة ـ أبداً ـ وإن كانت هذه الأفعال تبلغ ـ في بعض الأحايين ـ من حيث شدّة الخضوع إلى درجة كبيرة، إنّ الضمائر اليقظة هي وحدها تقدر على أن تكون الحكم العدل ـ في مثل هذا البحث ـ لتمييز الاحترام والتعظيم عن العبادة، دون حاجة إلى تكلّف، ولكن إذا تقرر أن نعرّف العبادة بتعريف موضوعي أمكننا أن

٤٥٥

نعرّفها بثلاثة تعاريف :

التعريف الأوّل

العبادة: هي الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد ب‍ « إلوهية » المخضوع له ; وسيوافيك معنى « الإلوهية ».

وآيات كثيرة تدل على هذا التفسير، فمن ملاحظة هذه الآيات يتضح لنا أمران :

الأوّل: انّ العرب الجاهليين الذين نزل القرآن في أوساطهم وبيئاتهم كانوا يعتقدون بالوهية معبوداتهم.

الثاني: أنّ العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئين من الاعتقاد بإلوهية المعبود، وانّه ما لم ينشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد لا يكون الخضوع أو التعظيم والتكريم عبادة.

فهنا دعويان :

الأُولى: انّ العرب الجاهليين بل الوثنيين كلّهم وعبدة الشمس والكواكب والجن، كانوا يعتقدون بإلوهية معبوداتهم، ويتخذونهم آلهة صغيرة وفوقهم « الإله الكبير » الذي نسمّيه « الله » سبحانه.

الثانية: انّ الظاهر من الآيات هو انّ العبادة عبارة عن الخضوع المحكي بالقول والعمل الناشئين من الاعتقاد بالإلوهية، إلوهية صغيرة أو كبيرة.

أمّا الدعوى الأُولى، فتدل عليها آيات كثيرة نشير إلى بعضها :

٤٥٦

يقول سبحانه :

( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (١) .

( وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ ) (٢) .

( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) (٣) .

( أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخرى ) (٤) .

( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً ) (٥) .

فهذه الآيات تشهد على أنّ دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية أصنامهم، وقد فسر الشرك في بعض الآيات باتخاذ الإله مع الله، وذلك عندما يقول سبحانه:( وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ *إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ *الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (٦) .

ولذلك يفسّر القرآن حقيقة الشرك ب‍ « اعتقادهم بإلوهية معبوداتهم »، إذ قال سبحانه:( أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٧) .

__________________

(١) الحجر: ٩٦.

(٢) الفرقان: ٦٨.

(٣) مريم: ٨١.

(٤) الأنعام: ١٩.

(٥) الأنعام: ٧٤.

(٦) الحجر: ٩٤ ـ ٩٦.

(٧) الطور: ٤٢.

٤٥٧

ففي هذه الآية جعل اعتقادهم بإلوهية غير الله هو الملاك للشرك، والمراد هنا « الشرك في العبادة ».

وبمراجعة هذه الآيات ونظائرها التي تعرضت لموضوع الشرك وبالأخص لموضوع شرك الوثنيين تتجلى هذه الحقيقة ـ بوضوح تام ـ أنّ عبادتهم كانت مصحوبة مع الاعتقاد بإلوهيتها، بل يمكن استظهار أن شركهم كان لأجل اعتقادهم بإلوهية معبوداتهم، ولأجل ذاك الاعتقاد كانوا يعبدونهم ويقدّمون لهم النذور والقرابين وغيرهما من التقاليد والسنن العبادية، وبما أنّ كلمة التوحيد تهدم عقيدتهم بإلوهية غيره سبحانه، كانوا يستكبرون عند سماعه كما قال سبحانه :

( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) (١) .

أي يرفضون هذا الكلام لأنّهم يعتقدون بإلوهية معبوداتهم ويعبدونها لأجل أنّها آلهة ـ حسب تصوّرهم ـ.

ولأجل تلك العقيدة السخيفة كانوا إذا دعي الله وحده كفروا به لأنّهم لا يحصرون الإلوهية به وإذا أشرك به آمنوا، لانطباقه على فكرتهم كما قال سبحانه :

( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ للهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ ) (٢) .

إلى هنا ظهرت الدعوى الأُولى بوضوح وجلاء.

وأمّا الدعوى الثانية فتدل عليها الآيات التي تأمر بعبادة الله، وتنهى عن عبادة غيره، مدللاً ذلك بأنّه لا إله إلّا الله، إذ يقول :

( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَالَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرَهُ ) (٣) .

__________________

(١) الصافات: ٣٥.

(٢) غافر: ١٢.

(٣) الأعراف: ٥٩.

٤٥٨

ومعنى ذلك أنّ الذي يستحق العبادة هو من كان إلهاً، وليس هو إلّا الله، وعندئذ فكيف تعبدون ما ليس بإله ؟! وكيف تتركون عبادة الله وهو الإله الذي يجب أن يُعبد دون سواه ؟!

وقد ورد مضمون هذه الآية في(١٠) موارد أو أكثر في القرآن الكريم، ويمكن للقارئ الكريم أن يراجع ـ لذلك ـ الآيات التالية :

الأعراف: ٦٥، ٧٣، ٨٥، هود: ٥٠، ٦١، ٨٤، الأنبياء: ٢٥، المؤمنون: ٢٣، ٣٢، طه: ١٤.

فهذه التعابير ( التي هي من قبيل تعليق الحكم على الوصف ) تفيد أنّ العبادة هي ذلك الخضوع والتذلّل النابعين من الاعتقاد بإلوهية المعبود، إذ نلاحظ ـ بجلاء ـ كيف أنّ القرآن استنكر على المشركين عبادة غير الله بأنّ هذه المعبودات ليست آلهة، وإنّ العبادة من شؤون الإلوهية، فإذا وجد هذا الوصف ( أي وصف الإلوهية ) في الطرف جاز عبادته واتخاذه معبوداً، وحيث إنّ هذا الوصف لا يوجد إلّا في الله سبحانه لذلك يجب عبادته دون سواه.

سؤال وجواب

أمّا السؤال فهو أنّه لا شك أنّ الدعوى الأُولى ثابتة، فالمشركون كانوا معتقدين بإلوهية الأوثان، وما أورد من الآيات قد أثبتت ذلك بوضوح، غير أنّ الدعوى الثانية غير ثابتة، وقصارى ما يستفاد من هذه الآيات هو أنّ عبادتهم كانت ناشئة من الاعتقاد بالوهيتها، وهذا لا يدل على دخول مفهوم الإلوهية في مفهوم العبادة كما هو المدّعى، أو دخول كون النشوء عن ذلك الاعتقاد، في مفهومها.

٤٥٩

وعلى الجملة فهذه الآيات لا تدل على أكثر من أنّ عبادتهم للأوثان كانت مصحوبة بهذا الاعتقاد أو ناشئة عنه.

وأمّا كون العبادة موضوعة للخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية، بحيث يكون النشوء عن تلك العقيدة جزءاً لمعنى العبادة فلا يستفاد من الآيات.

وأمّا الجواب فنقول: إنّما يرد الإشكال لو قلنا بأنّ « الاعتقاد بالإلوهية » داخل في « مفهوم العبادة » وضعاً، حتى يقال انّ هذه الآيات لا تعطي أزيد من أنّ العبادة من شؤون الإلوهية، وهذا غير القول باندراج مفهوم الإلوهية في مفهوم العبادة، إنّما المراد أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع والتذلّل، بل أضيق وأخص منهما وهذا أمر يعرفه كل إنسان بوجدانه وفطرته، غير أنّنا نشير إلى هذه الخصوصية ونميز هذا الضيق بأنّه خضوع « ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية أو الربوبية » كما سيوافيك في التعريف الثاني، لا أنّ هذه الجملة ( ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية والربوبية ) داخلة بتفصيلها في مفهوم العبادة، ومعناها.

وبعبارة أُخرى: إنّ الإنسان قد لا يقدر على تعريف شيء بنوعه وفصله، أو حدّه ورسمه حتى يحدّه تحديداً عقليّاً لا خدشة فيه، ولكنّه يجد في نفسه ما هو بمنزلة الجنس والفصل فيضعهما مكان الجنس والفصل الواقعيين، والأمر فيما نحن فيه كذلك، إذ نجد أنّ التعظيم والخضوع والتذلّل وما أشبههما أمر مشترك بين العبادة وغيرها فيتصوّره بمنزلة الجنس لها، ويجد أنّ العبادة تتميز بخصوصية عن غيرها، ولكنه لا يقدر على بيان تلك الخصوصية بلفظ بسيط فيتوسل بوضع جملة مكانه وهي ما ذكرناها: « ناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية » ويضعها مكان الفصل.

وبعبارة ثالثة: انّ الإنسان يجد أنّ « العبادة » ليست مطلق التعظيم ونهاية

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672