مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154493 / تحميل: 5998
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١
٢

٣

٤

مقدمة الطبعة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحيم

القرآن

كتاب القرون والأجيال

الحمد لله الذي نزّل القرآن تبياناً لكلّ شيء، والصّلاة والسّلام على عبده ورسوله الذي نُزّل القرآنُ على قلبه ليكون من المنذِرين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيش العلم وموت الجهل.

أمّا بعد، فانّ القرآن كتاب أبديّ خالد ينطوي على أبعاد مختلفة وبطون لا يمكن للبشر أن يكتشف جميعها جملة واحدة، وإنّما يكتشف في كلّ عصر بُعداً من أبعاده، وحقيقةً من حقائقه.

وقد استخرج المحقّقون بفضل جِدّهم ومثابرتهم حقائق في غاية الأهمية لم يخطر على بال القدامى من المحقّقين، وهذا دليل واضح على أبعاد القرآن اللامتناهية، وإليها يشير ابن عباس بقوله: إنّ القرآن يفسّره الزمان(١) .

وهذه حكمة بالغة نطق بها حبر الأُمّة تلميذ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأثبتتها التجارب على مرّ الزمان.

__________________

(١) راجع النواة في حقل الحياة، تأليف مفتي الموصل الشيخ العبيدين.

٥

والحقّ يقال: انّ السير التكاملي للعلوم على مرّ الزمان لم يمنع علماء الطبيعة فحسب من إمكانية استنباط حقائق هامّة وجديدة من القرآن في حقول العلوم الطبيعية، بل وأتاح للمفسّرين أيضاً إمكانية استخراج حقائق قرآنية هامّة لم تكن معروفة من ذي قبل، وذلك بفضل تطور المناهج العلميّة المتداولة.

إنّ القرآن الكريم صدر من لدن حكيم خبير لا يحد ولا يتناهى، ومقتضى السنخية بين الفاعل والفعل أن يكون في فعله أثر من ذاته، فإذا كانت ذاته لا متناهية ولا أوّل لها ولا آخر، فاللازم أن ينعكس شيء من كمالات الذات على الفعل أيضاً، وإلى ذلك يشير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في كلامه إذ يتحدّث حول أبعاد القرآن وأغواره، فيقول :

« فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فانّه شافع مشفّع، وماحل مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم، وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جالٍ بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، ويتخلّص من نشب، فانّ التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور »(١) .

كما أشار أمير المؤمنين عليعليه‌السلام إلى هذه الأبعاد اللا متناهية، وقال في معرض كلامه عن القرآن: « ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يدرك قعره، فهو ينابيع العلم وبحوره، وبحراً لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون »(٢) .

__________________

(١) الكافي: ٢ / ٥٩٩، كتاب فضل القرآن.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة رقم ١٩٨.

٦

إنّ هذه الميزة ( البعد اللا متناهي للقرآن ) لم تكن أمراً خفيّاً على بلغاء العرب في صدر الرسالة، وهذا هو الوليد بن المغيرة ريحانة العرب، يشيد بالقرآن ويصفه بقوله :

والله لقد سمعت من محمّد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وانّه ليعلو وما يعلى عليه(١) .

إنّه سبحانه خصَّ نبيّه بتلك المعجزة الخالدة، وما هذا إلّا لأنّ الدين الخالد يستدعي معجزة خالدة، ودليلاً وبرهاناً أبدياً لا يختص بعصر دون عصر، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنْ جاء بمعاجز ودلائل باهرة لم ترها عيون الأجيال المتعاقبة ولكن عوّضهم الله سبحانه بمعجزة هي كشجرة مثمرة تعطي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها، وينتفع كلّ جيل من ثمارها حسب حاجاته، وإلى هذا يشير الإمام علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام حين سأله السائل، وقال: ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلّا غضاضة ؟ فقال الإمام: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة »(٢) .

اهتمام المسلمين بالكتاب العزيز

ارتحل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وترك بين الأُمة تركتين ثمينتين، إحداهما: الكتاب، والأُخرى: العترة.

وقد أكبّ المسلمون بعد رحيله على قراءة القرآن وتجويده وكتابته ونشره بين الأُمم. وأسّسوا علوماً كثيرة خدموا بها القرآن الكريم، كما أنّهم وراء ذلك اهتموا

__________________

(١) مجمع البيان: ٥ / ٣٨٧، طبع صيدا، وقد سقط عن النسخة لفظة « عليه » من قوله: « وما يعلى ».

(٢) البرهان في تفسير القرآن، للسيد البحراني: ١ / ٢٨.

٧

بتفسير غريب القرآن وتبيين مفرداته، ومجازاته وتفسير جمله وتراكيبه، وردّ متشابهه إلى محكماته، وتمييز ناسخه عن منسوخه، وتفسير آيات أحكامه، وإيضاح قصصه وحكاياته، وأمثاله وأقسامه، واحتجاجاته ومناظراته، إضافة إلى بيان أسباب نزوله، وكلّ ذلك يعرب عن الأهمية الفائقة التي يحظى بها القرآن الكريم.

وفي ظل هذه الجهود المضنية ظهرت تفاسير في كلّ قرن وعصر لو جمعت في مكان واحد لشكلت مكتبة ضخمة لا يستهان بها.

التفسير الترتيبي والتفسير الموضوعي

إنّ التفسير الرائج في الأجيال الماضية هو تفسير القرآن حسب السور والآيات الواردة في كلّ سورة، فمنهم من سنحت له الفرصة أن يفسّر آيات القرآن برمتها، ومنهم من لم يسعفه الحظ إلّا بتفسير بعض السور، وهذا النوع من التفسير الذي يطلق عليه اسم التفسير الترتيبي، ينتفع به أكثر شرائح المجتمع الإسلامي، وكلّ حسب استعداده وقابلياته.

بيد أنّ هناك لوناً آخر من التفسير يطلق عليه اسم التفسير الموضوعي الذي ظهر في العقود الأخيرة، واستقطب قسطاً كبيراً من اهتمام العلماء نظراً لأهميته، وهو تفسير القرآن الكريم حسب الموضوعات الواردة فيه بمعنى جمع الآيات الواردة في سور مختلفة حول موضوع واحد، ثمّ تفسيرها جميعاً والخروج بنتيجة واحدة، وقد أُطلق على هذا اللون من التفسير بالتفسير الموضوعي.

وأوّل من طرق هذا الباب لفيف من علماء الشيعة عند تفسيرهم آيات الأحكام الشرعية المتعلّقة بعمل المكلّف في حياته الفرديّة والاجتماعيّة فانّ النمط السائد على تآليفهم في هذا الصعيد هو جمع الآيات المتفرقة الراجعة إلى موضوع واحد في مبحث واحد، فيفسّرون ما يرجع إلى الطهارة في القرآن في باب واحد، كما

٨

يفسّرون ما يرجع إلى الصلاة في مكان خاص، وهكذا سائر الآيات، وهذا ككتاب « منهاج الهداية في شرح آيات الأحكام » للشيخ جمال الدين ابن المتوج البحراني ( المتوفّى عام ٨٢٠ ه‍ )، و « آيات الأحكام » للشيخ السيوري الأسدي الحلّي المعروف بالفاضل المقداد ( المتوفّى عام ٨٢٦ )، إلى غير ذلك مما أُلف في هذا الصدد، وهذا على خلاف ما كتبه أهل السّنة في تفسير آيات الأحكام كالجصّاص وغيره، فانّهم فسّروا آيات الأحكام حسب السور، وقد اعترف بذلك الشيخ الذهبي في كتابه « التفسير والمفسّرون ».

يقول الذهبي عند ما يتطرق إلى تفسير « كنز العرفان في فقه القرآن »: يتعرض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط، وهو لا يتمشّى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف ذاكراً ما في كلّ سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصّاص وابن العربي مثلاً، بل طريقته في تفسيره: أنّه يعقد فيه أبواباً كأبواب الفقه، ويدرج في كلّ باب منها الآيات التي تدخل تحت موضوع واحد، فمثلاً يقول: باب الطهارة، ثمّ يذكر ما ورد في الطهارة من الآيات القرآنية، شارحاً كلّ آية منها على حدّه، مبيناً ما فيها من الأحكام على حسب ما يذهب إليه الإماميّة الاثنا عشريّة(١) .

ثمّ إنّ أوّل من توسّع في التفسير الموضوعي هو شيخنا العلاّمة المجلسي، فقد اتّبع هذا المنهج في جميع أبواب موسوعته النادرة « بحار الأنوار » حيث جمع الآيات المربوطة بكلّ موضوع في أوّل الأبواب وفسّرها تفسيراً سريعاً، وهذه الخطوة وإن كانت قصيرة، لكنّها جليلة في عالم التفسير، وقد قام بذلك مع عدم وجود المعاجم القرآنية الرائجة في تلك الأعصار.

وبما أنّ القرآن الكريم بحث في أُمور ومواضيع كثيرة لا يحيط بها أحد، لذا

__________________

(١) التفسير والمفسّرون: ٢ / ٤٦٥.

٩

فقد آثرنا دراسة الجانب العقائدي من هذه المواضيع الكثيرة جداً، لأهميته في ترسيم معالم الإيمان وترسيخه في حياة الإنسان. وتؤلّف قضايا التوحيد والشرك حجر الأساس في العقيدة الإسلاميّة، بل حجر الأساس في كلّ الشرائع السماويّة.

فبإلقاء نظرة سريعة على الآيات القرآنية يتضح أنّ القرآن الكريم بذل حيال مسألة التوحيد الأُلوهي والربوبي من العناية ما لم يبذل مثلها حيال أيّة مسألة أُخرى من المسائل العقائديّة والمعارف العقليّة. بل حتى قضية « المعاد » والبعث في يوم القيامة التي تعد من القضايا المهمّة جداً في نظر القرآن بحيث لا يمكن لأيّ دين أنْ يتجلى في صورة « عقيدة سماويّة » ومنهج إلهي دون الاعتقاد بها، كما لا يمكن لذلك المنهج أنْ ينفذ إلى الأعماق والأفئدة بدونها.

ويجدر بالذكر أنّ عناية القرآن تركزت أساساً على إبلاغ وبيان « أُصول الدين » وبذر بذورها في الأفئدة، والعقول أكثر من العناية ببيان المسائل الفرعية العملية.

ويشهد على ذلك أنّ الآيات التي وردت في القرآن حول موضوع « المعاد » تتجاوز (٢٠٠٠) آية، في حين يقارب مجموع الآيات الواردة حول الأحكام المبينة لفروع الدين (٢٨٨) آية أو يتجاوزها بقليل.

وهذا هو بذاته يكشف عن الاهتمام الواسع والعناية الفائقة التي يوليها القرآن الكريم للمسائل الفكرية والقضايا الاعتقادية.

وعلى هذا الأساس قد خصصنا الجزء الأوّل للتوحيد والشرك بمختلف مراتبهما، ولما انتهى بحثنا في آخر الجزء إلى التوحيد في الحكومة التي هي لله سبحانه فقط، آثرنا أن نركز في الجزء الثاني على معالم الحكومة الإسلامية، ثمّ تدرّجنا في البحث في سائر الأجزاء إلى الجزء العاشر الذي اهتم بالعدل والإمامة، وما يمتُّ لهما بصلة.

١٠

وبذلك انتهت هذه الموسوعة القرآنيّة المبتكرة في موضوعها، وهي نعمة منَّ الله سبحانه بها على عبده الفقير.

وفي الختام لا يسعني هنا إلّا أنْ أقدّم بخالص الشكر إلى ولدي الروحي الحجة الفاضل الشيخ جعفر الهادي ( حفظه الله) حيث قام بتدوين ما ألقيته من محاضرات في الجزء الأوّل والثاني على أحسن ما يمكن.

وقد بذل وقته الثمين لتحرير هذين الجزءين وإخراجهما بهذه الحلّة القشيبة، وهو ( حفظه الله ) ذو باع طويل في هذا المضمار.

وأمّا الأجزاء الثمانية الباقية فقد قمت بكتابتها وتحريرها بفضل من الله سبحانه فجاءت هذه الموسوعة في عشرة أجزاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادقعليه‌السلام

١٤ ذي الحجة الحرام من شهور عام ١٤٢٠ ه‍

١١
١٢

مراتب التوحيد

لقد لخّص المحقّقون الإسلاميون البحوث المرتبطة بالتوحيد في أربعة أقسام نذكرها فيما يأتي باختصار :

١. التوحيد في الذات

والمقصود به أنّ الله واحدٌ أحدٌ لا شريك له ولا نظير ولا يتصور له شبيه ولا مثيل.

بل إنّ ذاته المقدّسة بسيطة غير مركبة، من أجزاء كما هو شأن الأجسام.

٢. التوحيد في الصفات

ويراد منه أنّ الله تعالى وإن كان متّصفاً بصفات عديدة كالعلم والقدرة والحياة، إلّا أنّ هذا التعدّد إنّما هو باعتبار المفهوم الذهني وليس باعتبار الوجود والواقع الخارجي، بمعنى أنّ كل واحدة من هذه الصفات هي « عين » الأُخرى وليست « غير » الأُخرى، وهي أجمع « عين » الذات وليست « غير » الذات.

فعلم الله ـ مثلاً ـ هو « عين » ذاته، فذاته كلّها علم، في حين تكون ذاته كلها

١٣

« عين » القدرة، لا أنّ حقيقة العلم في الذات الإلهية شيء، وحقيقة القدرة شيء آخر، بل كل واحدة منهما « عين » الأُخرى، وكلتاهما « عين » الذات المقدّسة.

ولتقريب المعنى المذكور نلفت نظر القارئ الكريم إلى المثال التالي فنقول :

من الواضح أنّ كل واحد منّا « معلوم » لله، كما أنّه « مخلوق » لله في نفس الوقت.

صحيح أنّ مفهوم « المعلوميّة » غير مفهوم « المخلوقيّة » في مقام الاعتبار الذهني وعند التحليل العقلي البحت، ولكنَّهما في مقام التطبيق الخارجي واحد، فإنّ وجودنا بأسره معلوم لله، كما أنّ وجودنا بأسره مخلوق لله في نفس الوقت هكذا وجود واحد باعتبارين.

فهما ( أي المعلومية والمخلوقية ) المتّصف بهما وجودنا ليسا في مقام المصداق الخارجي إلّا « عين » الأُخرى، وهما « عين » ذاتنا، لا أنّ قسماً من ذاتنا هو المعلوم لله والقسم الآخر هو المخلوق له تعالى، بل كل ذاتنا بأسره مخلوق ومعلوم لله في آنٍ واحد.

٣. التوحيد في الأفعال

نحن نعلم أنّ هناك في عالم الطبيعة سلسلة من العلل والأسباب الطبيعية لها آثار خاصة ك‍ :

الشمس والإشراق الذي هو أثرها ومعلولها، والنار والإحراق الذي هو أثرها ومعلولها، والسيف والقطع الذي هو أثره ومعلوله.

١٤

والتوحيد الأفعالي هو أنْ نعتقد بأنّ هذه « الآثار » المخلوقة هي أيضاً لله تعالى كما أنّ عللها مخلوقة له سبحانه.

بمعنى أنّ الله الذي خلق العلل المذكورة هو الذي منحها تلك « الآثار ».

فخلق الشمسَ وأعطاها خاصيّة الإشراق، وخلقَ النار وأعطاها خاصية الإحراق، وخلق السيف وأعطاه خاصية القطع، إلى آخر ما هنالك من العلل والمعلولات، والأسباب والمسببات والمؤثرات وآثارها.

وبعبارة أُخرى: إنّ « التوحيد الافعالي » هو أنْ نعترف بأنّ العالم بما فيه من العلل والمعاليل، والأسباب والمسببات، ما هو إلّا فعل الله سبحانه، وأنّ الآثار صادرة عن مؤثراتها بإرادته ومشيئته.

فكما أنّ الموجودات غير مستقلة في ذواتها بل هي قائمة به سبحانه، فكذا هي غير مستقلة في تأثيرها وعلّيَّتها وسببيَّتها.

فيستنتج من ذلك أنّ الله سبحانه كما لا شريك له في ذاته، كذلك لا شريك له في فاعليته وسببيته، وأنّ كل سبب وفاعل ـ بذاتهما وحقيقتهما وبتأثيرهما وفاعليتهما ـ قائم به سبحانه وأنّه لا حول ولا قوة إلّا به.

ويندرج في ذلك « الإنسان »، فبما أنّه موجود من موجودات العالم وواحد من أجزائه فإنّ له فاعلية، وعلّية بالنسبة لأفعاله، كما أنّ له حرية تامّة في مصيره وعاقبة حياته، ولكنَّه ليس موجوداً مفوّضاً(١) إليه ذلك، بل هو بحول الله وقوّته يقوم ويقعد ويتسبب ويؤثر.

__________________

(١) المراد من التفويض هو أنّ الله أعطاه الفاعليّة ثمّ هو يفعل ما يريد دون مشيئة الله وعلى نحو الاستقلال، وسيأتي شرح التفويض في الفصول القادمة مسهباً.

١٥

إنّ « التوحيد الأفعالي » لا يعني إنكار العلل الطبيعيّة أو إنكار مشاركتها في التأثير وفي حدوث معلولاتها، بل يعني مع الاعتراف بأنّ للعلل تمام المشاركة في ظهور الآثار، وأنّ هذه الآثار هي من خواص هذه العلل.

أقول: يعني مع الاعتراف بهذا، الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في صفحة الوجود إلّا « الله » وأنّ تأثير ما سواه من المؤثرات إنّما هو في ظل قدرة الله، ذلك المؤثر الحقيقي الأصيل، وأنّ هذه العلل ما هي إلّا وسائط للفيض الإلهي.

فمنه تعالى تكتسب « الشمس » القدرة على الإشراق والإضاءة كما استمدت منه أصل وجودها.

ومنه تعالى تكتسب « النار » خاصية الإحراق والحرارة كما استمدت منه أصل وجودها، وأنّه تعالى هو الذي منح هذه العلل والأسباب هذه الخواص، وأعطاها هذه الآثار كمامنحها: وجودها أساساً وأصلاً.

وبتعبير آخر نقول: إنّ التوحيد الأفعالي يعني أنّه لا مؤثر بالذات ـ في هذا الوجود ـ إلّا « الله »، فهو وحده الذي لا يحتاج إلى معونة أحد أو شيء في الإيجاد والتأثير والإبداع والابتكار.

وأمّا تأثير ما عداه « من العلل »، فجميعه يكون بالاعتماد على قدرته وقوته سبحانه.

بهذا البيان يتضح الفرق بين مدرستين في هذا المجال :

مدرسة الأشاعرة القائلين بعدم دخالة العلل في الآثار مطلقاً.

والمدرسة القائلة بالتوحيد الافعالي.

١٦

فتذهب المدرسة الأُولى إلى أنّ الشمس والنار والسيف غير مؤثرة إطلاقاً، وغير دخيلة مطلقاً في وجود النور والحرارة والقطع، بل إنّ عادة الله هي التي جرت على أنْ يوجد الله النور بعد طلوع الشمس، والحرارة عند حضور النار، والقطع عند حضور السيف، وإنْ لم تكن لهذه الأشياء [ أي الشمس والنار والسيف ] أيّة مشاركة في إيجاد هذه الآثار ووقوعها.

ولا شكّ أنّ هذه النظرية مرفوضة في نظر العقل ومنطق القرآن(١) .

فبينما تنفي مدرسة الأشاعرة دور العلل ومشاركتها رأساً، تذهب المدرسة الثانية ( القائلة بالتوحيد الافعالي ) إلى الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في الوجود إلّا « الله »(٢) ولكن مع الاعتراف ـ إلى جانب ذلك ـ بدخالة « العلل » في إيجاد « الآثار »، مستمدة هذه القدرة على التأثير من ذلك المؤثر الحقيقي الواحد، ونعني « الله » سبحانه وتعالى.

ولهذا يغدو أي اعتقاد بالثنوية أو التثليث مرفوضاً في منطق هذه المدرسة.

وبهذا يتبيّن أنّ القائلين بأنّ الإنسان محتاج إلى الله في أصل وجوده، ولكنه مستغن عنه تعالى في أفعاله ومستقل في تأثيره، قد سقطوا في الشرك من حيث لا يعلمون، ذلك لأنّهم بمثل هذا الاعتقاد يكونون قد اعترفوا ـ في الحقيقة ـ بمؤثرين أصيلين مستقلين غنيين وخرجوا بذلك عن إطار « التوحيد الافعالي » !!

__________________

(١) فالقرآن يصرح بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها حيث يقول:( يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ ) ( النحل: ١١ ) فإنّ قوله( بِهِ ) صريح في تأثير الماء في إنبات هذه الثمار، وسيوافيك تفصيل القول في ذلك عند البحث في التوحيد الربوبي.

(٢) الاعتراف بوحدانية المؤثر في صفحة الوجود لا ينافي القول بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها.

١٧

كما أنّ الذين اعتقدوا بوجود « مبدأين » لهذا العالم، وتصوّروا بأنّ خالق الخير هو غير خالق الشر هم أيضاً خرجوا عن دائرة التوحيد الافعالي وارتطموا في الشرك والثنويّة في الفاعلية والتأثير(١) .

٤. التوحيد في العبادة

ونعني أنّ العبادة لا تكون إلّا لله وحده، وأنّه لا يستحق أحدٌ أنْ يُتّخذ معبوداً مهما بلغ من الكمال والجلال وحاز من الشرف والعلاء.

ذلك لأنّ الخضوع العبودي أمام أحد لا يجوز إلّا لأحد سببين، لا يتوفران إلّا في « الله » جل جلاله :

١. أن يبلغ المعبود حداً من الكمال يخلو معه عن أي عيب ونقص، فيستوجب ذلك الكمال أن يخضع له كل منصف ويعبده كل من يعرف قيمة ذلك

__________________

(١) ونظنك أيّها القارئ قد وقفت على الفرق بين التوحيد الافعالي، وبين ما يذهب إليه الأشاعرة والمجبرة.

فإنّ الفاعل عند هاتين الطائفتين ( الأشاعرة والمجبرة ) لا مشاركة له في أفعاله وآثاره أصلاً، وإنّها تستند إلى الله سبحانه مباشرة وبلا واسطة فهو الذي ينفذ الفعل عن طريق الفاعل دون إرادة ومشاركة من الفاعل في الفعل مطلقاً » !!

وأمّا الذي نقوله نحن فهو أنّ كل فاعل إنّما يعتمد ـ في فعله وأثره ـ على الله من حيث إنّه فقير محتاج إلى الغني بالذات في جميع شؤونه وأطواره. وأنّ للفاعل ـ مريداً كان أو غير مريد ـ دوراً في حدوث الأثر وبروزه وأنّ الأثر لا يمكن أن يتحقق على صعيد الوجود إلّا عن طريق هذا الفاعل.

وكم فرق بين أنْ ننسب أفعال الفاعل كلّها إلى الله مع نفي مشاركته فيها، وبين أنْ نعزي إمكانية التأثير إلى الله مع الاعتراف بمشاركة الفاعل في فعله.

وسوف يظهر لك الفرق بين المدرستين ـ بنحو أكثر تفصيلاً ـ في البحوث الآتية.

١٨

« الكمال المطلق ».

ونعني ببلوغ أقصى درجات الكمال ومراتبه أن يتحلّى ـ مثلاً ـ بالوجود اللامتناهي الذي لا يشوبه عدم، والعلم اللامحدود الذي لا يخالطه جهل، والقدرة المطلقة التي لا يمازجها عجز أو عيّ.

فهذه الأُمور هي التي تدفع كل ذي وجدان سليم وضمير حي إلى التعظيم والخضوع لصاحبها وإظهار العبودية أمام ذلك الكمال المطلق.

٢. أن يكون ذلك المعبود بيده مبدأ الإنسان ومنشأ حياته فيكون خالقه وواهب الجسم والروح له ومانح الأنعم والبركات إياه ومسبغها عليه بحيث لو قطع عنه فيضه لحظة من اللحظات عاد عدماً واستحال خبراً بعد أثر.

ترى هل يتوفر هذان الوصفان في أحد غير الله ؟ وهل سواه يتصف بأكمل الكمال ؟ أم هل سواه منح للأشياء وجودها وخلق الإنسان ويسر له سبل الحياة ؟ وهل سواه المبدأ الفياض الذي لو وكل الحياة إلى ذاتها، وترك الإنسان لنفسه آناً من الآونة صارت الحياة كأن لم تكن ؟

هذا والجدير بالذكر أنّ عبادة الأنبياء والأئمّة والأولياء الصالحين لله سبحانه لم تكن إلّا ل‍ ( كمال ) ذلك المعبود المطلق.

فهم لمعرفتهم الأفضل، واطّلاعهم الأعمق على عالم الغيب عبدوا الله سبحانه لـِما وجودوا فيه من الجمال المطلق، والكمال اللامحدود، ولأجل أنّهم وجدوه أهلاً للعبادة، والتقديس والخضوع والتعظيم فعبدوه وقدّسوه وخضعوا له وعظّموه.

أجلْ لذلك فحسب وليس لسواه عبدوه، وأعطوه بلاءهم وولاءهم، حتى

١٩

أنّهم كانوا سيعبدونه ـ حتماً ـ حتى ولو لم يك هناك العامل والملاك الآخر للعبادة، في حين أنّ الآخرين إنّما يعبدون « الله » لكونه خالقهم، ومصدر وجودهم وسابغ النعم عليهم، وواهب القدرة والطول لهم، ولأنّ بيده مفتاح كل شيء وناصية كل موجود(١) .

على كل حال سواء كان الأولى هو الأخذ بالملاك الأوّل للعبادة أم الثاني، فإنّ العبادة بكلا الملاكين المذكورين مخصوصة بالله وليس معه في ذلك شريك، لعدم وجودهما في غيره تعالى.

وبذلك تكون عبادة غير الله أمراً مرفوضاً بشدة في منطق العقل والشرع على السواء.

كان هذا هو مقصود علماء الإسلام من مراتب وأقسام التوحيد الأربعة، التي ذكرناها باختصار وسنذكرها مفصّلة، كما سنذكر غيرها من مراتب التوحيد في الصفحات القادمة مع استعراض الآيات الدالة عليها إنْ شاء الله.

غير أنّنا مع تقديرنا لـِما قام به أُولئك العلماء والمحقّقون المسلمون من خدمات علمية جليلة على هذا الصعيد نقول: إنّ مراتب التوحيد ـ حسب نظر القرآن ـ لا تنحصر في ما ذكروه من المراتب، بل يستفاد من آيات الكتاب العزيز أنّ هناك مراتب توحيدية أُخرى يمكن استنباطها واستفادتها من القرآن، من الصعب، ادراجها تحت المراتب الأربع المذكورة.

وإليك فيما يلي هذه المفاهيم باختصار :

__________________

(١) هناك عوامل أُخرى للعبادة سيوافيك بيانها في موضعه.

٢٠

وسبىَ نسائهم، فكنَّ اوَّل مسلمات سبين في الإسلام، وقتل أحياءً من بني سعد « ثمَّ أخرج أبو عمرو باسناده من طريق رجلين عن أبي ذر » : انّه دعا وتعوّذ في صلاة صلّاها أطال قيامها وركوعها وسجودها قال: فسئلاه ممَّ تعوَّذتَ؟ وفيمَ دعوتَ؟ قال تعوَّذت بالله من يوم البلاء يدركني، ويوم العورة أن أدركه. فقالا: وما ذاك؟ فقال: أمّا يوم البلاء فتلقى فئتان من المسلمين فيقتل بعضهم بعضاً، وأمّا يوم العورة فإنّ نساءاً من المسلمات يسبين فيكشف عن سوقهنَّ فأيَّتهنّ كانت أعظم ساقاً اُشتريت على عظم ساقها، فدعوت الله أن لا يدركني هذا الزمان ولعلّكما تدركانه. فقُتل عثمان ثمَّ أرسل معاوية بُسر بن أرطاة إلى اليمن فسبى نساءً مسلمات فأقمن في السّوق.

وفي تاريخ ابن عساكر ٣: ٢٢٠ - ٢٢٤: كان بُسر من شيعة معاوية بن أبي سفيان وشهد معه صفِّين، وكان معاوية وجَّهه إلى اليمن والحجاز في أوّل سنة أربعين، وأمره أن يستقرأ من كان في طاعة عليّ فيوقع بهم، ففعل بمكة والمدينة واليمن أفعالاً قبيحةً وقد ولي البحر لمعاوية. وقتل باليمن ابني عبيد الله بن العبّاس. وقال الدارقطني: انّ بُسراً كانت له صحبة ولم يكن له استقامة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( يعني: أنّه كان من أهل الردّة ).

قال: وروى البخاري في التاريخ: انّ معاوية بعث بُسراً سنة سبع وثلاثين فقدم المدينة فبايع ثمَّ انطلق إلى مكّة واليمن فقتل عبد الرَّحمن وقثم ابني عبيد الله بن عبّاس وفي رواية الزهري: أنَّ معاوية بعثه سنة تسع وثلاثين فقدم المدينة ليبلّغ الناس فأحرق دار زرارة(١) بن خيرون أخي بني عمرو بن عوف بالسوق، ودار رفاعة(٢) ابن رافع، ودار عبد الله(٣) بن سعد من بني الأشهل، ثمّ استمرَّ إلى مكّة واليمن فقتل عبد الرَّحمن بن عبيد، وعمرو(٤) بن امّ إدراكة الثقفي، وذلك انّ معاوية بعثه

____________________

١ - صحابىّ توجد ترجمته فى معاجم الصحابة.

٢ - صحابىّ مترجم له فى المعاجم.

٣ - صحابىّ ترجم له اصحاب فهارس الصحابة.

٤ - صحابىّ مذكور في عدّ الصحابة.

٢١

على ما حكاه ابن سعد ليستعرض الناس فيقتل من كان في طاعة عليّ بن أبي طالب فأقام في المدينة شهراً فما قيل له في أحد: إنَّ هذا ممَّن أعان على عثمان إلّا قتله، وقتل قوماً من بني كعب على مائهم فيما بين مكّة والمدينة وألقاهم في البئر ومضى إلى اليمن.

وقتل من همدان بالجرف من كان مع عليّ بصفين فقتل أكثر من مأتين، وقتل من الأبناء كثيراً وهذا كلّه بعد قتل عليّ بن أبي طالب.

قال ابن يونس: كان عبيد الله بن العبّاس قد جعل ابنيه عبد الرَّحمن وقثم عند رجل من بني كنانة وكانا صغيرين فلمّا انتهى بُسر إلى بني كنانة بعث إليهما ليقتلهما، فلمّا رأى ذلك الكناني دخل بيته فأخذ السيف واشتدَّ عليهم بسيفه حاسراً وهو يقول:

ألليث من يمنع حافات الدار

ولا يزال مصلتاً دون الدار(١)

إلّا فتى أروع غير غدّار

فقال له بُسر: ثكلتك امّك والله ما أردنا قتلك فِلمَ عرضتَ نفسكَ للقتل؟ فقال: اُقتل دون جاري فعسى اُعذر عند الله وعند الناس. فضرب بسيفه حتّى قُتل، وقدّم بُسر الغلامين فذبحهما ذبحاً، فخرج نسوةٌ من بني كنانة فقالت قائلةٌ منهنَّ: يا هذا هؤلاء الرجال قتلت فعلامَ تقتل الولدان؟ والله ما كانوا يُقتلون في الجاهليّة ولا إسلام والله انّ سلطاناً لا يقوم إلّا بقتل الرضَّع الصغيرة والمدره الكبير، وبرفع الرَّحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء فقال لها بُسر: والله لقد هممت أن أضع فيكنَّ السيف. فقالت: تالله انَّها لاُخت التي صنعت، وما أنا بها منك بآمنة.

ثمَّ قالت للنساء اللواتي حولها: ويحكنَّ تفرَّقن.

وفي الإصابة ٣: ٩: عمرو بن عميس قتله بُسر بن ارطاة لمـّا أرسله معاوية للغارة على عمّال عليّ فقتل كثيراً من عمّاله من أهل الحجاز واليمن.

صورة مفصّلة

كان بُسر بن أرطاة(٢) قاسي القلب، فظّاً سفّاكاً للدماء، لا رأفة عنده ولا رحمة

____________________

١ - والصحيح: ولا يزال مصلتاً دون الجار.

٢ - ويقال؟: ابن ابى ارطاة.

٢٢

، فأمره معاوية أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكّة حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له: لا تنزل على بلد أهله على طاعة عليّ إلّا بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنّهم لا نجاء لهم، وانّك محيطٌ بهم، ثمَّ اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي، فمن أبى فاقتله، واقتل شيعة عليّ حيث كانوا.

وفي راوية إبراهيم الثقفي في ( الغارات ) في حوادث سنة اربعين: بعث معاوية بُسر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف وقال: سر حتّى تمرّ بالمدينة فاطرد الناس، واخفَّ به مَن مررت به، وانهب اموال كلِّ من أصبت له مالاً ممّن لم يكن له دخلٌ في طاعتنا، فاذا دخلت المدينة فأرهم إنَّك تريد أنفسهم، وأخبرهم إنَّه لا براءة لهم عندك ولا عذر حتى إذا ظنّوا انّك موقع بهم فاكفف عنهم، ثمَّ سر حتى تدخل مكّة ولا تعرض فيها لأحد، وأرحب الناس عنك فيما بين المدينة ومكّة، واجعلها شرودات حتى تأتي صنعاء والجند، فإنَّ لنا بها شيعة وقد جاء في كتابهم.

فخرج بُسر في ذلك البعث مع جيشه وكانوا إذا وردوا ماءً أخذوا إبل أهل ذلك الماء فركبوها، وقادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر، فيردّون تلك الإبل ويركبون إبل هؤلاء، فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب إلى المدينة، فاستقبلتهم قضاعة ينحرون لهم الجزر حتى دخلوا المدينة، وعامل عليّعليه‌السلام عليها أبو أيّوب الأنصاري صاحب منزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج عنها هارباً ودخل بُسر المدينة، فخطب الناس وشتمهم وتهدّدهم يومئذ وتوعّدهم وقال: شاهت الوجوه إنّ الله تعالى ضرب مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنّة يأتيها رزقها رغداً. وقد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله كان بلدكم مهاجر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنزله وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده، فلم تشكروا نعمة ربّكم ولم ترعوا حقَّ نبيّكم، وقتل خليفة الله بين أظهركم، فكنتم بين قاتل وخاذل ومتربّص وشامت، إن كانت للمؤمنين قلتم: ألم نكن معكم؟ وإن كان للكافرين نصيب، قلتم: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟ ثمَّ شتم الأنصار، فقال: يا معشر اليهود وأبناء العبيد بني زريق وبني النجار وبني سالم وبني عبد الأشهل! أما والله لأوقعنَّ بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين وآل عثمان، أما والله لأدعنَّكم

٢٣

أحاديث كالاُمم السّالفة، فتهدَّدهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم، ففزعوا إلى حُويطب بن عبد العزَّى، ويقال: انّه زوج امّه فصعد إليه المنبر فناشده وقال: عترتك وأنصار رسول الله وليست بقتلة عثمان، فلم يزل به حتى سكن ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه ونزل فأحرق دوراً كثيرة منها: دار زرارة بن حرون أحد بني عمرو بن عوف، ودار رفاعة بن رافع الزرقي، ودار أبي أيّوب الأنصاري، وفقد جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال: مالي لا أرى جابراً يا بني سلمة؟ لا أمان لكم عندي أو تأتوني بجابر. فعاذ جابر بامّ سلمة رضي الله عنها، فأرسلت إلى بُسر بن أرطاة فقال: لا أو منه حتى يبايع فقالت له امّ سلمة: اذهب فبايع، وقالت لابنها عمر: اذهب فبايع، فذهبا فبايعاه.

وروى من طريق وهب بن كيسان قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: لمـَّا خفت بُسراً وتواريت عنه قال لقومي: لا أمان لكم عندي حتى يحضر جابر فأتوني وقالوا: ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعت فحقنت دمك ودماء قومك فانَّك إن لم تفعل قتلت مقاتلينا وسبيت ذرارينا، فاستنظرتهم الليل فلمّا أمسيت دخلت على امّ سلمة فاخبرتها الخبر فقالت: يا بنيَّ انطلق فبايع احقن دمك ودماء قومك، فانّي قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع، وإنِّي لأعلم انّها بيعة ضلالة.

قال إبراهيم: فأقام بُسر بالمدينة أيّاماً ثمّ قال لهم: إنّي قد عفوت عنكم وإن لم تكونوا لذلك بأهل، ما قومٌ قتل امامهم بين ظهرانيهم بأهل أن يكفّ عنهم العذاب، ولئن نالكم العفو منيّ في الدّنيا انّي لأرجو أن لا تنالكم رحمة الله عزَّ وجلَّ في الآخرة، وقد استخلفت عليكم أبا هريرة فإيّاكم وخلافه. ثمَّ خرج إلى مكّة.

وروى الوليد بن هشام قال: أقبل بُسر فدخل المدينة فصعد منبر الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمَّ قال: يا أهل المدينة خضبتم لحاكم وقتلتم عثمان مخضوباً، والله لا أدع في المسجد مخضوباً إلّا قتلته. ثمَّ قال لأصحابه: خذوا بأبواب المسجد وهو يريد أن يستعرضهم فقام إليه عبد الله بن الزبير وأبو قيس أحد بني عامر بن لويّ فطلبا إليه حتى كفّ عنهم وخرج إلى مكّة فلمّا قرب منها هرب قثم بن العباس وكان عامل عليعليه‌السلام

٢٤

ودخلها بُسر فشتم أهل مكّة وأنّبهم ثمَّ خرج عنها واستعمل عليها شيبة بن عثمان.

وروى عوانة عن الكلبي: انَّ بُسراً لمـّا خرج من المدينة إلى مكّة قتل في طريقه رجالاً، وأخذ أموالاً، وبلغ أهل مكّة خبره فتنحَّى عنها عامَّة أهلها، وتراضى الناس بشيبة بن عثمان أميراً لمـّا خرج قثم بن العبّاس عنها، وخرج إلى بُسر قومٌ من قريش فتلقّوه فشتمهم ثمَّ قال: أما والله لو تركت ورأيي فيكم لتركتكم وما فيها روحٌ تمشي على الأرض. فقالوا: ننشدك الله في أهلك وعترتك. فسكت ثمَّ دخل وطاف بالبيت وصلّى ركعتين ثمَّ خطبهم فقال: الحمد لله الذي أعزَّ دعوتنا، وجمع اُلفتنا، وأذلَّ عدوَّنا بالقتل والتشريد، هذا ابن ابي طالب بناحية العراق في ضنك وضيق قد ابتلاه الله بخطيئته، وأسلمه بجريرته، فتفرَّق عنه أصحابه ناقمين عليه، وولي الأمر معاوية الطالب بدم عثمان، فبايعوا، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا. فبايعوا وفقد سعيد بن العاص فطلبه فلم يجده وأقام أيّاماً ثمَّ خطبهم فقال: يا أهل مكّة! انّي قد صفحت عنكم فإيّاكم والخلاف، فوالله إن فعلتم لأقصدنَّ منكم إلى التي تبير الأصل، وتحرب المال، وتخرب الديار، ثمَّ خرج إلى الطائف.

قال [ إبراهيم الثقفي ]: ووجّه رجلاً من قريش إلى نبالة وبها قومٌ من شيعة عليّعليه‌السلام وأمره بقتلهم فأخذهم وكلم فيهم وقيل له: هؤلاء قومك فكفَّ عنهم حتّى نأتيك بكتاب من بُسر بأمانهم فحبسهم وخرج منيع الباهلي من عندهم إلى بُسر وهو بالطائف يستشفع إليه فيهم، فتحمّل عليه بقوم من الطائف فكلّموه فيهم وسألوه الكتاب بإطلاقهم فوعدهم ومطلهم بالكتاب حتى ظنَّ انَّه قد قتلهم القرشيُّ المبعوث لقتلهم، وانَّ كتابه لا يصل إليهم حتّى يُقتلوا، ثمَّ كتب لهم فأتى منيع منزله وكان قد نزل على امرأة بالطائف ورحله عندها فلم يجدها في منزلها فوطئ على ناقته بردائه وركب فسار يوم الجمعة وليلة السبت لم ينزل عن راحلته قطّ فأتاهم ضحوة وقد اُخرج القوم ليُقتلوا واستبطئ كتاب بُسر فيهم فقدّم رجلٌ منهم فضربه رجل من أهل الشام فانقطع سيفه فقال الشاميون بعضهم لبعض: شمّسوا سيوفكم حتى تلين فهزّوها وتبصّر منيع الباهلي بريق السيوف، فألمع بثوبه فقال القوم: هذا راكبٌ عنده خبر

٢٥

فكفّوا وقام به بعيره، فنزل عنه وجاء على رجليه يشدُّ فدفع الكتاب اليهم فاُطلقوا، وكان الرّجل المقدَّم الذي ضُرب بالسيف فانكسر السيف أخاه.

قال ابراهيم: وروى علي بن مجاهد عن ابن اسحاق: انَّ اهل مكّة لمـّا بلغهم ما صنع بُسر خافوه وهربوا، فخرج ابنا عبيد الله بن العبّاس وهما: سليمان. وداود. وامّهما حوريّة ابنة خالد بن فارط الكنانيَّة وتكنّى امّ حكيم، وهم حلفاء بني زهرة وهما غلامان مع أهل مكّة فأضّلوهما عند بئر ميمون بن الحضرمي، وميمون هذا أخو العلاء بن الحضرمي، وهجم عليهما بُسر فأخذهما وذبحهما فقالت امّهما:

ها من أحسَّ بابنيّ اللذين هما

كالدرَّتين تشظّى عنهما الصدفُ(١)

وقد روي انَّ اسمهما: قثم وعبد الرّحمن، وروي: انّهما ضلّا في أخوالهما من بني كنانة، وروي: انّ بُسراً انَّما قتلهما باليمن وانّهما ذُبحا على درج صنعاء وروى عبد الملك بن نوفل عن أبيه: انّ بُسراً لمـّا دخل الطائف وقد كلّمه المغيرة قال له: لقد صدقتني ونصحتني فبات بها وخرج منها وشيّعه المغيرة ساعة ثمَّ ودّعه وانصرف عنه فخرج حتّى مرّ ببني كنانة وفيهم ابنا عبيد الله بن العبّاس وامّهما فلمّا انتهى بُسر إليهم طلبهما، فدخل رجلٌ من بني كنانة، وكان أبوهما أوصاه بهما، فأخذ السيف من بيته وخرج فقال له بُسر: ثكلتك امّك والله ما كنّا أردنا قتلك فِلم عرضت نفسك للقتل؟ قال: اُقتل دون جاري أعذر لي عند الله والناس. ثمّ شدَّ على أصحاب بُسر بالسيف حاسراً وهو يرتجز:

آليت لا يمنع حافات الدار

ولا يموت مصلتاً دون الجار

إلّا فتى أروع غير غدّار

فضارب بسيفه حتى قُتل، ثمَّ قدّم الغلامان فقتلا، فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهنّ: هذه الرجال يقتلها فما بال الولدان؟ والله ما كانوا يُقتلون في جاهليّة ولا اسلام، والله إنَّ سلطاناً لا يشتدّ إلّا بقتل الرضّع الضعيف، والشيخ الكبير ورفع الرّحمة، وقطع الأرحام، لسلطان سوء، فقال بُسر: والله لهممت أن أضع فيكنَّ

____________________

١ - الى آخر الابيات التي مرت في صفحة ١٧، ١٨.

٢٦

السيف، قالت: والله إنّه لأحبّ إليَّ إن فعلت.

قال إبراهيم: وخرج بُسر من الطائف فأتى نجران فقتل عبد الله بن عبد المدان وابنه مالكاً وكان عبد الله هذا صهراً لعبيد الله بن العبّاس ثمَّ جمعهم وقام فيهم، وقال: يا أهل نجران! يا معشر النصارى وإخوان القرود! أمّا والله إن بلغني عنكم ما أكره لأعودنَّ عليكم بالتي تقطع النسل، وتهلك الحرث، وتخرب الديار، وتهدَّدهم طويلاً ثمَّ سار حتى دخل أرحب فقتل أبا كرب وكان يتشيَّع ويقال: إنَّه سيِّد من كان بالبادية من همدان فقدَّمه فقتله، وأتى صنعاء قد خرج عنها عبيد الله بن العبّاس وسعيد بن نمران، وقد استخلف عبيد الله عليها عمرو بن اراكة الثقفي، فمنع بُسراً من دخولها وقاتله فقتله بُسر ودخل صنعاء فقتل منها قوماً، وأتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلّا رجلٌ واحدٌ ورجع إلى قومه فقال لهم: أنعي قتلانا، شيوخاً وشبّانا.

قال إبراهيم: وهذه الأبيات المشهورة لعبد بن اراكة الثقفي يرثي بها ابنه عمراً:

لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارساً

بصنعاء كالليث الهزبر أبي الأجرِ

تعزَّ فإن كان البكا ردَّ هالكاً

على أحد فاجهد بكاك على عمروِ

ولا تبك ميتاً بعد ميت أحبّة

عليّ وعبّاس وآل أبي بكرِ

قال: ثمَّ خرج بُسر من صنعاء فأتى أهل حبسان وهم شيعة لعليّعليه‌السلام فقاتلهم وقاتلوه فهزمهم وقتّلهم قتلاً ذريعاً، ثمّ رجع إلى صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس لأنّ ابني عبيد الله بن العبّاس كانا مستترين في بيت امرأة من أبنائهم تعرف بابنة بزرج وكان الذي قتل بُسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفاً، وحرَّق قوماً بالنار، فقال يزيد بن مفرغ:

تعلّق من أسماء ما قد تعلّقا

ومثل الذي لاقى من الشوق أرّقا

سقى منفخ الاكناف منبعج الكلى

منازلها من مشرقات فشرَّقا

إلى الشَّرف الأعلى إلى رامهرمز

إلى قربات الشيخ من نهر اربقا

إلى دست مارين إلى الشطّ كله

إلى مجمع السّلّان من بطن دورقا

إلى حيث يرقى من دجيل سفينه

إلى مجمع النهرين حيث تفرّقا

٢٧

إلى حيث سار المرء بُسر بجيشه

فقتّل بُسرٌ ما استطاع وحرَّقا

قال: ودعا عليُّعليه‌السلام على بُسر فقال: أللّهم انَّ بسراً باع دينه بالدنيا، وانتهك محارمك، وكانت طاعة مخلوق فاجر، آثر عنده ممّا عندك، أللّهم فلا تمته حتى تسلبه عقله، ولا توجب له رحمتك، ولا ساعة من نهار، أللّهم العن بُسراً وعمراً ومعاوية، وليحلّ عليهم غضبك، ولتنزل بهم نقمتك، وليصبهم بأسك وزجرك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين. فلم يلبث بُسر بعد ذلك إلّا يسيراً حتّى وسوس وذهب عقله، فكان يهذي بالسيف ويقول: اعطوني سيفاً أقتل به. لا يزال يردِّد ذلك حتى اتّخذ له سيفٌ من خشب، وكانوا يدنون منه المرفقة فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه فلبث كذلك إلى أن مات(١) .

وفي شرح ابن أبي الحديد ٣: ١٥: روى أبو الحسن عليّ بن محمّد بن أبي سيف المدايني من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كلِّ كورة وعلى كلِّ منبر يلعنون عليّاً ويبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدُّ الناس بلاءً حينئذ اهل الكوفة لكثرة مَن بها من شيعة عليّعليه‌السلام فاستعمل عليهم زياد بن سميّة وضمَّ إليه البصرة فكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عارفٌ لأنَّه كان منهم أيّام عليّعليه‌السلام فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرَّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروفٌ منهم وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق: أن لا يُجيروا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم: أن انظروا مَن قبلكم من شيعة عثمان ومحبِّيه وأهل ولايته والّذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقرِّبوهم وأكرموهم واكتبوا لي بكلِّ ما يروي كلُّ رجل منهم واسمه واسم ابيه وعشيرته ففعلوا ذلك حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كلِّ مصروتنا فسوا في المنازل والدّنيا، فليس يجيء أحدٌ

____________________

١ - شرح ابى الحديد ١: ١١٦ - ١٢١.

٢٨

مردودُ من الناس عاملاً من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا كتب اسمه وقرَّبه وشفَّعه فلبثوا بذلك حيناً، ثمَّ كتب إلى عمّاله: انَّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلِّ مصر وفي كلِّ وجه وناحية فإذا جائكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرِّواية في فضائل الصّحابة والخلفاء الأوّلين ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب إلّا وأتوني بمناقض له في الصّحابة مفتعلة، فإنَّ هذا أحبُّ إليَّ، وأقرُّ لعيني، وأدحض لحجَّة أبي تراب وشيعته، وأشدُّ إليهم من مناقب عثمان وفضله.

ثمَّ كتب إلى عمّاله نسخةً واحدةً إلى جميع البلدان: انظروا إلى مَن أقامت عليه البيّنة انَّه يحبُّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطائه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة اخرى: من اتَّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيّما بالكوفة حتَّى أنَّ الرجل من شيعة عليّعليه‌السلام ليأتيه مَن يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سرَّه ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يُحدِّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه، فظهر حديث كثيرٌ موضوعٌ وبهتانٌ منتشرٌ إلخ.

استخلف زياد على البصرة سمرة بن جندب لمـَّا كتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة والبصرة فكان زيادٌ يقيم ستَّة أشهر بالكوفة وستَّة أشهر بالبصرة، وسمرة من الّذين أسرفوا في القتل على علم من معاوية بل بأمر منه، أخرج الطبري من طريق محمّد بن سليم قال: سألت أنس بن سيرين: هل كان سمرة قتل أحداً؟ قال: وهل يُحصى من قتل سمرة بن جندب؟ استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس، فقال له معاوية: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟ قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت، أو كما قال. قال أبو سوار العدوي: قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن.

وروى باسناده عن عوف قال: أقبل سمرة من المدينة فلمَّا كان عند دور بني أسد خرج رجلٌ من أزقَّتهم ففجأ أوائل الخيل فحمل عليه رجلٌ من القوم فأوجره الحربة قال: ثمَّ مضت الخيل فأتى عليه سمرة بن جندب وهو متشحِّطٌ في دمه فقال: ما هذا

٢٩

؟ قيل: أصابته أوائل خيل الأمير. قال: إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتَّقوا أسنَّتنا(١) .

أعطى معاوية سمرة بن جندب من بيت المال أربعمائة الف درهم على أن يخطب في أهل الشام بأنَّ قوله تعالى: ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام، وإذا تولّى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحبُّ الفساد انَّها نزلت في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام . وانّ قوله تعالى: ومن الناس من يَشري نفسه ابتغاء مرضات الله. نزل في ابن ملجم أشقى مراد(٢) .

وأخرج الطبري من طريق عمر بن شبَّه قال: مات زياد وعلى البصرة سمرة بن جندب خليفةً له، فأقر سمرة على البصرة ثمانية عشر شهراً. قال عمر: وبلغني عن جعفر الضبعي قال: أقرَّ معاوية سمرة بعد زياد ستَّة أشهر ثمَّ عزله فقال سمرة: لعن الله معاوية والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذَّبني أبدا.

وروى من طريق سليمان بن مسلم العجلي قال: سمعت أبي يقول: مررت بالمسجد فجاء رجلٌ إلى سمرة فأدّى زكاة ماله ثمَّ دخل فجعل يصلّي في المسجد فجاء رجلٌ فضرب عنقه فإذا رأسه في المسجد وبدنه ناحية، فمرّ أبو بكرة فقال: يقول الله سبحانه: قد أفلح من تزكىّ وذكر اسم ربِّه فصلّى. قال أبي: فشهدت ذلك فما مات سمرة حتّى أخذه الزمهرير فمات شرّ ميتة. قال: وشهدته واُتي بناس كثير واناسٌ بين يديه فيقول للرجل: ما دينك؟ فيقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وانَّ محمّداً عبده ورسوله، وإنِّي بريٌ من الحروريَّة. فيقدَّم فيضرب عنقه حتى مرّ بضعة وعشرون. تاريخ الطبري ٦: ١٦٤.

وفي مقدَّم عمّال معاوية الحاملين عداء سيِّد العترة، المهاجمين على شيعة آل الله بكلِّ قوىً متيسِّرة زياد بن سميَّة، ومن الزائد جدّاً بحثنا عن جرائمه الوبيلة التي حفظها له التاريخ، وأسودَّت بها صفحات تاريخه، ولا بدع وهو وليد البغاء من الأدعياء المشهورين، ربيب حجر سميَّة البغيِّ، والإناء إنَّما يترشَّح بما فيه، والشوك

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٦: ١٣٢.

٢ - شرح ابن ابى الحديدا: ٣٦١.

٣٠

لا يثمر العنب، وقد صدَق النبيُّ الكريم في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السبطين ووالديهما: لا يحبّهم إلّا سعيد الجدِّ طيِّب المولد، ولا يبغضهم إلّا شقيّ الجدِّ رديّ المولد. وكان السَّلف يبور أولادهم بحبِّ عليّعليه‌السلام فمن كان لا يحبّه علموا انَّه لغير رشدة(١) . فلا تعجب من الدعيِّ ومن كتابه القارص إلى الإمام السبط الحسن الزكيّعليه‌السلام قد شفع إليه في رجل من شيعته. قال ابن عساكر: كان سعد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة عليّ بن أبي طالب، فلمّا قدم زياد الكوفة والياً عليها أخافه وطلبه زياد فأتي الحسن بن عليّ فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته وحبسهم وأخذ ماله وهدم داره، فكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن عليّ إلى زياد. أمّا بعد: فإنَّك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمت داره، وأخذت ماله وعياله فحبستهم، فإذا أتاك كتابي هذا فابن له داره، واردد عليه عياله وماله، فإنّي قد أجرته فشفِّعني فيه. فكتب اليه زياد:

من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة: أمّا بعد: فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة كتبتَ إليَّ في فاسق لا يؤبه به، وشرٌّ من ذلك تولّيه أباك وإيّاك، وقد علمت أنَّك أدنيته إقامةً منك على سوء الرأي ورضي منك بذلك، وأيم الله لا تسبقني به، ولو كان بين جلدك ولحمك، وإن نلت بعضك فغير رفيق بك ولا مرع عليك، فإنَّ أحبَّ لحم إليَّ أن آكل منه أللحم الذي أنت منه، فسلّمه بجريرته إلى مَن هو أولى به منك، فإن عفوتُ عنه لم أكن شفَّعتك فيه، وإن قتلته لم أقتله إلّا لحبّه أباك الفاسق، والسَّلام(٢) ، ولمـّا بلغ موته ابن عمر قال: يا ابن سميَّة! لا الآخرة أدركت ولا الدنيا بقيت عليك.

كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرِّضهم على لعن عليّعليه‌السلام - وفي لفظ البيهقي: يحرِّضهم على البرائة من عليّ كرَّم الله وجهه، فملأ منهم المسجد و

____________________

١ - مرت تلكم الاحاديث وستأتى فى مسند المناقب ومرسلها.

٢ - تاريخ ابن عساكر ٥: ٤١٨، شرح ابن الحديد ٤: ٧، ٧٢.

٣١

الرحبة - فمن أبي ذلك عرضه على السيف. وعن المنتظم لابن الجوزي: انّ زياداً لمـّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم، وهمَّ أن يخرب دورهم، ويحمر نخلهم، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البرائة من عليعليه‌السلام وعلم أنّهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم. فذكر عبد الرَّحمن بن السائب قال: اُحضرت فصرت إلى الرحبة ومعي جماعة من الأنصار، فرأيت شيئاً في منامي وأنا جالسٌ في الجماعة وقد خفقت، وهو انّي رأيت شيئاً طويلاً قد أقبل فقلت: ما هذا؟ فقال: أنا النقّاد ذو الرقبة بُعثت إلى صاحب هذا القصر، فانتبهت فزعاً فما كان إلّا مقدار ساعة حتى خرج خارجٌ من القصر فقال: انصرفوا فإنَّ الأمير عنكم مشغولٌ، وإذا به قد أصابه ما ذكرنا من البلاء، وفي ذلك يقول عبد الله بن السائب:

ما كان منتهياً عمّا أراد بنا

حتى تأتّى له النقّاد ذو الرقبة

فاسقط الشقَّ منه ضربة ثبتت

لمـّا تناول ظلماً صاحب الرحبة(١)

قال الأميني: هلمَّ معي نقرأ هذه الصحائف السوداء المحشوَّة بالمخازي وشية العار، المملوَّة بالموبقات والبوائق، فننظر هل في الشريعة البيضاء، أو في نواميس البشريَّة، أو في طقوس العدل مساغُ لشيء منها؟ دع ذلك كلّه هل تجد في عادات الجاهليّة مبرِّراً لشيء من تلكم الهمجيَّة؟ وهل فعل اولئك الأشقياء الأشدّاء في أيّامهم المظلمة فعلاً يربو مخاريق ابن هند؟ لا. وإنّك لا تسمع عن أحد ممّن يحمل عاطفةً إنسانيّةً ولا أقول ممّن يعتنق الدين الحنيف فحسب يستبيح شيئاً من ذلك، أو يحبِّذ مخزاتاً من تلكم المخازي، وهل تجد معاوية وهذه جناياته من مصاديق قوله تعالى:( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْکُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُکَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) الآية؟(٢) . فهل ترى ابن أبي سفيان خارجاً عنهم؟ فليس هو من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ممّن معه، ولا رحيماً بهم، أو أنَّ من ناواه وعاداه وسبّه وآذاه وقتله وهتكه خارجون عن ربقة الإسلام؟

____________________

١ - مروج الذهب ٢: ٦٩، المحاسن والمساوى للبيهقى ١: ٣٩، قال المسعودى والبيهقى: صاحب الرحبة هو على بن أبى طالب، شرح ابن ابى الحديد ١: ٢٨٦ نقلا عن ابن الجوزى.

٢ - سورة الفتح ٢٩.

٣٢

فهو شديدٌ عليهم وهم خيرةُ اُمّة محمّد المسلمة، تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا. فالحكم للنصفة لا غيرها.

كأنَّ هاهنا نسيت ثارات عثمان وعادت تبعة اولئك المضطهدين محض ولاء عليّ امير المؤمنينعليه‌السلام وقد قرن الله ولايته بولايته وولاية رسوله، وحبّهم لمن يحبّه الله ورسوله، وطاعتهم لمن فرض الله طاعته، وودّهم من جعل الله ودَّه أجر الرِّسالة. فلم يقصد معاوية وعمّاله أحداً بسوء إلّا هؤلاء، فطفق يرتكب منهم ما لا يُرتكب إلّا من أهل الردَّة والمحادَّة لله ولرسوله. فكان الطريد اللعين ابن الطريد اللعين مروان، وأزني ثقيف مغيرة بن شعبة، واُغيلمة قريش الفسقة في أمنٍ ودعة، وكان يولِّي لأعماله الزعانفة الفجرة أعداء أهل بيت الوحي: بُسر بن أرطاة، ومروان بن الحكم، ومغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، وعبد الله الفزاري، وسفيان بن عوف، والنعمان بن بشير، والضحاك بن قيس، وسمرة بن جندب، ونظرائهم، يستعملهم على عباد الله وهو يعرفهم حقَّ المعرفة ولا يبالي بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من تولّى من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً وهو يعلم أنَّ فيهم من هو أولى بذلك وأعلم بكتاب الله وسنَّة رسوله فقد خان الله ورسوله وجميع المؤمنين(١) . فكانوا يقترفون السيِّئات، ويجترحون المآثم بأمر منه ورغبة، ولم تكن عنده حريجة من الدين تزعه عن تلكم الجرائم، فأمر بالإغارة على مكّة المكرَّمة وقد جعلها الله بلداً آمناً يأمن من حلَّ بها وإن كان كافراً، ولأهلها وطيرها ووحشها ونباتها حرمات عند الله، وهي التي حقنت دم أبي سفيان ومن على شاكلته من حامل ألوية الكفر والإلحاد، فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرعاها كلَّ الرعاية يوم الفتح وغيره، فما عامل أهلها هو وجيشه الفاتح إلّا بكلِّ جميل، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنَّ هذا بلد حرم الله يوم خلق السَّموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وأنّه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إلّا ساعةً من نهار، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلّا من عرفها ولا يختلى خلاها(٢) .

____________________

١ - مجمع الزوائد ٥: ٢١١.

٢ - صحيح البخاري: باب لا يحل القتال بمكة ٣: ١٦٨، صحيح مسلم ٤: ١٠٩.

٣٣

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ مكّة حرَّمها الله ولم يحرِّمها الناس، فلا يحلُّ لامرء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فان أحدٌ ترخّص لقتال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقولوا له: إنّ الله أذن لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يأذن لكم، وإنَّما أذن لي ساعةً من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلّغ الشاهد الغائب(١) .

وأمر ابن هند بالإستحواذ على مدينة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإخافة أهلها والوقيعة فيهم واستقراء من يوجد فيها من شيعة عليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه وللمدينة المنوَّرة في الإسلام حرمتها الثابتة، ولنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها قوله الصّادق: ألمدينة حرمٌ ما بين عائر إلى كذا، مَن أحدث فيها حدثاً(٢) أو آوى حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ، ذمَّة المسلمين واحدةٌ، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ(٣) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يكيد أهل المدينة أحدٌ إلّا انماع كما ينماع الملح في الماء(٤) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يريد أحدٌ أهل المدينة بسوء إلّا أذابه الله في النار ذوب الرّصاص أو ذوب الملح في الماء(٥) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أللهمَّ إنّ إبراهيم حرَّم مكّة فجعلها حرماً وإنِّي حرَّمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دمٌ، ولا يحمل فيها سلاحٌ لقتال، ولا تخبط فيها شجرةٌ إلّا لعلف(٦) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أراد أهل هذه البلدة بسوء ( يعني المدينة ) أذابه الله كما

____________________

١ - صحيح البخارى: باب لا يعضد شجر الحرم ٣: ١٦٧.

٢ - قال القاضي عياض: معنى قوله: من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثا. الخ. من أتى فيها إثماً أو آوى من أتاه.

٣ - صحيح البخارى ٣: ١٧٩، صحيح مسلم ٤: ١١٤، ١١٥، ١١٦، مسند أحمد ١: ٨١، ١٢٦، ١٥١، ج ٢: ٤٥٠، سنن البيهقى ٥: ١٩٦، سنن أبى داود ١: ٣١٨.

٤ - صحيح البخارى ٣: ١٨١.

٥ - صحيح مسلم ٤: ١١٣.

٦ - صحيح مسلم ٤: ١١٧، سنن ابى داود ١: ٣١٨، واللفظ لمسلم.

٣٤

يذوب الملح في الماء. وفي لفظ سعد: من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله. الخ(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المدينة حرمٌ من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدثٌ، من أحدث حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين(٢) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّما جبّار أراد المدينة بسوء أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء. وفي لفظ: من أراد أهل هذه البلدة بدهم أو بسوء(٣) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه الطبراني برجال الصحيح: أللّهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ(٤) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أخاف اهل المدينة أخافه الله يوم القيامة، وغضب عليه، ولم يقبل منه صرفاً ولا عدلا(٥) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه النسائي: من أخاف اهل المدينة ظالماً لهم أخافه الله، وكانت عليه لعنة الله(٦) . وفي لفظ ابن النجار: من أخاف اهل المدينة ظلماً أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبيَّ. أخرجه أحمد في مسنده ٣: ٣٥٤ بالاسناد عن جابر بن عبد الله: إنَّ أميراً من اُمراء الفتنة قدم المدينة وكان قد ذهب بصر جابر فقيل لجابر: لو تنحّيت عنه فخرج يمشي بين ابنيه فنكب فقال: تعس من أخاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال ابناه أو أحدهما: يا أبت! وكيف أخاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد مات؟ قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من أخاف. الحديث.

____________________

١ - صحيح مسلم ٤: ١٢١، ١٢٢.

٢ - صحيح البخارى ٣: ١٧٨، سنن البيهقى ٥: ١٩٧.

٣ - وفاء الوفاء للسمهودى ١: ٣١.

٤ - وفاء الوفاء ١: ٣١ وصححه.

٥ - وفاء الوفاء ١: ٣١، فيض القدير ٦: ٤٠.

٦ - وفاء الوفاء ١: ٣١.

٣٥

قلت: الأمير المشار اليه هو بُسر بن أرطاة كما في وفاء الوفاء للسمهودي ١: ٣١ وصحّح الحديث.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخرجه الطبراني في الكبير: من آذى أهل المدينة آذاه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يُقبل منه صرفٌ ولا عدل. وفاء الوفاء ١: ٣٢.

نعم: إنَّ بُسراً لم يلو إلى شيىء من ذلك وإنَّما اؤتمر بما سوَّل له معاوية من هتك الحرمات بقتل الرِّجال، وسبي النساء، وذبح الأطفال، وهدم الديار، وشتم الأعراض، وما رعي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاً ولا ذمَّةً في مجاوري حرم أمنه، وساكني حماه المنيع فخفر ذمَّته كما هتك حرمته، واستخفَّ بجواره، وآذاه باباحة حرمه حرم الله تعالى،( وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‌ ) (١) ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ ) (٢) فيالها من جرأة تقحمَّ صاحبها في المحادَّة لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه القويم.

كما أنَّ يزيد كان يحذو حذو أبيه في جرائمه الوبيلة وشنِّ الغارة على أهل المدينة المشرَّفة، وبعث مسلم بن عقبة الهاتك الفاتك إلى هتك ذلك الجوار المقدَّس بوصيَّة من والده الآثم قال السمهودي في وفاء الوفاء ١: ٩١:

وأخرج ابن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بنت أسماء: سمعت أشياخ المدينة يتحدَّثون: انّ معاوية رضي الله عنه لمـّا احتضر دعا يزيد فقال له: إنَّ لك من أهل المدينة يوماً فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنّي عرفت نصيحته. فلمّا ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة فأكرمهم وأجازهم فرجع فحرَّض الناس على يزيد وعابه و دعاهم إلى خلع يزيد فأجابوه فبلغ ذلك يزيد فجهَّز اليهم مسلم بن عقبة. الخ.

وأخرجه البلاذري في أنساب الأشراف ٥: ٤٣ بلفظ أبسط من لفظ السمهودي.

____________________

١ - سورة التوبة: ٦١.

٢ - سورة الاحزاب: ٥٧.

٣٦

معاوية

وحجر بن عدى واصحابه

إنّ معاوية استعمل مغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين فلمّا أمَّره عليها دعاه وقال له: أمّا بعد: فإنَّ لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا. وقد قال المتلمس:

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا

وما علّم الإنسان إلّا ليعلما

وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردت ايصاءك بأشياء كثيرة فأنا تاركها إعتماداً على بصرك بما يرضيني، ويسعد سلطاني، ويصلح رعيَّتي، ولست تارك ايصاءك بخصلة: لا تقهم عن شتم عليّ وذمِّه. والترحّم على عثمان والإستغفار له، و العيب على أصحاب عليّ والإقصاء لهم، وترك الإستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان رضوان الله عليه والإدناء لهم، والإستماع منهم. فقال المغيرة: قد جرَّبت وجُرِّبت و عملت قبلك لغيرك، فلم يذمم بي رفعٌ ولا وضعُ، فستبلو فتحمد أو تذمّ. ثمّ قال: بل نحمد إن شاء الله. فأقام المغيرة عاملاً على الكوفة سبع سنين وأشهراً وهو من أحسن شيء سيرة وأشدّه حبّاً للعافية، غير أنّه لا يدع شتم عليّ والوقوع فيه والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرَّحمة والإستغفار له والتزكية لأصحابه، فكان حُجر بن عديّ إذا سمع ذلك قال: بل ايّاكم فذمّ الله ولعن ثمَّ قام وقال: إنَّ الله عزّ وجلّ يقول: كونوا قوّامين بالقسط شهداء الله، وأنا أشهد أنَّ من تذمُّون وتعيرون لأحقُّ بالفضل، وأنَّ من تزكّون وتطرون أولى بالذمِّ. فيقول له المغيرة: يا حُجر! لقد رمي بسهمك إذ كنت أنا الوالي عليك، يا حُجر! ويحك اتّق السّلطان، اتّق غضبه وسطوته، فإنَّ غضب السّلطان أحيانا ممّا يُهلك أمثالك كثيراً، ثمّ يكفُّ عنه ويصفح، فلم يزل حتى كان في آخر إمارته قام المغيرة فقال في عليّ وعثمان كما كان يقول وكانت مقالته. اللّهمَّ ارحم عثمان بن عفان، وتجاوز عنه واجزه بأحسن عمله، فانّه عمل بكتابك واتّبع سنّة نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجمع كلمتنا، وحقن دمائنا، وقتل مظلوماً(١) ، اللّهم فارحم أنصاره وأوليائه ومحبّيه والطالبين

____________________

١ - هذه كلها تخالف ما هو الثابت المعلوم من سيرة عثمان كما فصلنا القول فيها فى الجزء الثامن والتاسع.

٣٧

بدمه. ونال من عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ولعنه ولعن شيعته، فوثب حُجر فنعر نعرةً أسمعت كلّ من كان في المسجد وخارجه وقال: إنّك لا تدري بمن تولع من هرمك أيّها الانسان! مُر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنّك قد حبستها عنّا ولم يكن ذلك لك، ولم يكن يطمع في ذلك من كان قبلك، وقد أصبحت مولعاً بذمِّ أمير المؤمنين، وتقريظ المجرمين. فقام معه أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق والله حُجر وبرّ، مُر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنّا لا ننتفع بقولك هذا ولا يُجدي علينا شيئاً. وأكثروا في مثل هذا القول، فنزل المغيرة فدخل القصر فاستأذن عليه قومه فأذن لهم فقالوا: علامَ تترك هذا الرّجل يقول هذه المقالة و يجتري عليك في سلطانك هذه الجرأة؟ فيوهن سلطانك، ويسخط عليك أمير المؤمنين معاوية، وكان أشدُّهم له قولاً في أمر حُجر والتعظيم عليه عبد الله بن أبي عقيل الثقفي، فقال لهم المغيرة: إنِّي قد قتلته إنّه سيأتي أميرٌ بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيهاً بما ترونه يصنع بي، فيأخذه عند أوَّل وهلة فيقتله شرَّ قتلة، انّه قد اقترب أجلي، وضعف عملي، ولا اُحبّ أن ابتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم وسفك دمائهم، فيسعدوا بذلك و أشقى، ويعزّ في الدنيا معاوية، ويذلّ يوم القيامة المغيرة.

ثمَّ هلك المغيرة سنة ٥١ فجمعت الكوفة والبصرة لزياد ( ابن سميّة ) فأقبل زياد حتى دخل القصر بالكوفة ووجّه إلى حُجر فجاءه، وكان له قبل ذلك صديقاً فقال له: قد بلغني ما كنت تفعله بالمغيرة فيحتمله منك وإنّي والله لا أحتملك على مثل ذلك أبدا، أرأيت ما كنت تعرفني به من حبّ عليّ وودّه، فإنّ الله قد سلخه من صدري فصيّره بغضاً وعداوة، وما كنت تعرفني به من بغض معاوية وعداوته فإنّ الله قد سلخه من صدري وحوَّله حبّاً ومؤدّة، وانّي أخوك الذي تعهد، إذا أتيتني وأنا جالسٌ للناس فاجلس معي على مجلسي، وإذا أتيت ولم اجلس للناس فاجلس حتّى أخرج إليك، ولك عندي في كلِّ يوم حاجتان: حاجة غدوة، وحاجة عشيّة، انّك إن تستقم تسلم لك دنياك ودينك، وإن تأخذ يميناً وشمالاً تهلك نفسك، وتشطُّ عندي دمك، انّي لا اُحبُّ التنكيل قبل التقدمة، ولا آخذ بغير حجّة، اللّهمّ اشهد. فقال حُجر: لن يرى الإمير منّي إلّا ما يُحبّ وقد نصح وأنا قابلٌ نصيحته. ثمَّ خرج من عنده.

٣٨

ولمـّا ولي زياد جمع أهل الكوفة فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرضهم على البراءة من عليّ(١) فقام في الناس وخطبهم ثمّ ترحَّم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه، فقام حُجر ففعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة، وكان زياد يقيم ستَّة أشهر في الكوفة وستَّة أشهر في البصرة فرجع إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث فبلغه انّ حُجراً يجتمع إليه شيعة عليّ ويظهرون لعن معاوية والبرائة منه، وانّهم حصبوا عمرو بن حريث فشخص إلى الكوفة حتى دخلها فأتى القصر فدخله ثمّ خرج فصعد المنبر وعليه قباء سندس ومطرف خزّ أخضر قد فرق شعره وحجرٌ جالسُ في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا فصعد المنبر وخطب وحذّر الناس وقال: أما بعد: فإنّ غبَّ البغي والغيِّ وخيمٌ، إنَّ هؤلاء جمّوا فأشروا، وامنوني فاجترؤا على الله لئن لم تستقيموا لاُداوينَّكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أمنع باحة الكوفة من حُجر، وأدعه نكالاً لمن بعده، ويل امّك يا حجر! سقط العشاء بك على سرحان.

ثمّ قال لشدّاد بن الهيثم الهلالي أمير الشرط: اذهب فأتني بحُجر فذهب إليه فدعاه فقال أصحابه: لا يأتيه ولا كرامة فسبّوا الشرط فرجعوا إلى زياد فأخبروه، فقال: يا أشراف أهل الكوفة أتشجون بيد وتأسون باُخرى؟ أبدانكم عندي وأهواءكم مع هذا الهجاجة المذبوب(٢) . وفي الكامل: أبدانكم معي وقلوبكم مع حُجر الأحمق. و الله ليظهرنَّ لي براءتكم أو لآتينّكم بقوم اقيم بهم أودكم وصعركم. فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا رأيٌ إلّا طاعتك وما فيه رضاك. قال: فليقم كلُّ رجل منكم فليدعُ من عند حُجر من عشيرته وأهله ففعلوا وأقاموا أكثر أصحابه عنه، وقال زياد لصاحب شرطته: انطلق إلى حُجر فإن تبعك فأتني به وإلّا فشدّوا عليهم بالسيوف حتّى تأتوني به. فأتاه صاحب الشرطة يدعوه فمنعه أصحابه من إجابته فحمل عليهم فقال أبو العمرطة الكندي لحجر: انَّه ليس معك رجلُ معه سيفٌ غيري فما يغني سيفي؟ قم فألحق بأهلك يمنعك قومك. فقام وزياد ينظر إليهم وهو على المنبر وغشيهم أصحاب زياد فضرب رجلٌ من

____________________

١ - تاريخ ابن عساكره: ٤٢١.

٢ - فى لفظ الطبرى: الهجهاجة الاحمق المذبوب.

٣٩

الحمراء يقال له: بكر بن عبيد رأس عمرو بن الحمق بعمود فوقع وحمله رجلان من الأزد وأتيا به دار رجل يقال له: عبيد الله بن موعد الأزدي، وضرب بعض الشرطة يد عائذ بن حملة التميمي وكسر نابه، وأخذ عموداً من بعض الشرط فقاتل به وحمى حُجراً وأصحابه حتى خرجوا من أبواب كندة.

مضى حُجر وأبو العمرطة إلى دار حُجر واجتمع إليهما ناسٌ كثيرٌ ولم يأته من كندة كثير أحد فأرسل زياد وهو على المنبر مذحج وهمدان إلى جبَّانة كندة وأمرهم أن يأتوه بحُجر، وأرسل سائر أهل اليمن إلى جبَّانة الصائدين وأمرهم أن يمضوا إلى صاحبهم حُجر فيأتوه به، ففعلوا فدخل مذحج وهمدان إلى جبّانة كندة فأخذوا كلَّ من وجدوا، فأثنى عليهم زياد فلمّا رأى حُجر قلّة من معه أمرهم بالانصراف وقال لهم: لا طاقة لكم بمن قد اجتمع عليكم وما اُحبّ أن تهلكوا، فخرجوا فأدركهم مذحج و همدان فقاتلوهم وأسروا قيس بن يزيد ونجا الباقون فأخذ حُجر طريقاً إلى بني حوت فدخل دار رجل منهم يقال: له سليم بن يزيد، وأدركه الطلب فأخذ سليم سيفه ليقاتل فبكى بناته فقال حُجر: بئسما أدخلت على بناتك إذا قال: والله لا تؤخذ من داري أسيراً ولا قتيلاً وأنا حي، فخرج حُجر من خوخة في داره فأتى النخع فنزل دار عبد الله بن الحرث أخي الأشتر فأحسن لقاءه فبينما هو عنده إذ قيل له: إنّ الشرط تسأل عنك في النخع. وسبب ذلك انَّ أمة سوداء لقيتهم فقالت: من تطلبون؟ فقالوا: حُجر بن عدي. فقالت: هو في النخع. فخرج حُجر من عنده فأتى الأزد فاختفى عند ربيعة بن ناجد فلمّا أعياهم طلبه دعا زياد محمّد بن الأشعث وقال له: والله لتأتيني به أو لأقطعنَّ كلَّ نخلة لك وأهدم دورك، ثمَّ لا تسلم منّي حتّى اُقطِّعك إرباً إربا. فاستمهله فأمهله ثلاثاً واُحضر قيس بن يزيد أسيراً فقال له زياد: لا بأس عليك قد عرفت رأيك في عثمان وبلاءك مع معاوية بصفّين وإنّك إنّما قاتلت مع حُجر حميَّة وقد غفرتها لك ولكنّي ائتني بأخيك عُمير. فاستأمن له منه على ماله ودمه فأمنه فأتاه به وهو جريحٌ فأثقله حديداً وأمر الرِّجال أن يرفعوه ويلقوه ففعلوا به ذلك مراراً فقال قيس بن يزيد لزياد: ألم تؤمنه؟ قال: بلى قد أمنته على دمه ولست اُهريق له دماً، ثمَّ ضمنه وخلّى سبيله.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672