مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154863 / تحميل: 6017
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الْكَرِيمِ ) (١) .

٢.( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) (٢) .

والآية تعرب عن أنّ نفي الغاية لخلق السماوات والأرض وما بينهما كان شعار الكافرين بل ربما أنكر البعضُ العلّةَ الفاعلية، قال سبحانه:( وَقَالُوا مَا هِيَ إلّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلّا الدَّهْرُ ) (٣) .

تجد أنّهم كانوا ينسبون الإحياء والإماتة إلى الدهر والزمان.

٣.( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ *مَا خَلَقْنَاهُمَا إلّا بِالحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ *إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) (٤) .

وهذه الآية تصف فعله سبحانه بالحقّ، وأنّ الخلق كان فعلاً موصوفاً بالحقّ المحض، وما هو كذلك يلازم الغرض ويفارق العبث وإلّا لم يكن حقّاً مطلقاً.

٤.( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ *عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ *الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ *كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ *ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ) (٥) .

والمراد من النبأ العظيم هو يوم القيامة، ويصفه بكونه نبأً قطعياً لا ريب فيه.

إنّه سبحانه يذكر في الآيات التالية النظام السائد في الكون، ويقول:( أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا *وَالجِبَالَ أَوْتَادًا *وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا *وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا *وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا *وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا *وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا *وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا *وَأَنزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا *لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا *وَجَنَّاتٍ

__________________

١. المؤمنون: ١١٦.

٢. ص: ٢٧.

٣. الجاثية: ٢٤.

٤. الدخان: ٣٨ ـ ٤٠.

٥. النبأ: ١ ـ ٥.

٢١

أَلْفَافًا ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يردف هذه الآيات بآيات القيامة التي يصفها بيوم الفصل، ويقول:( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا *يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ) .(٢)

والنظم المنطقي بين هذه الطوائف الثلاث من الآيات في سورة واحدة عجيب جداً، ففي الطائفة الأُولى يذكر المعاد بما أنّه أمر مفروغ عنه.

وفي الطائفة الثانية يذكر شيئاً من النظام السائد في الكون.

وفي الطائفة الثالثة يذكر يوم القيامة مشعراً بأنّه لولا هذا اليوم لعاد خلق النظام السائد فيه أمراً عبثاً.

وبذلك تظهر الصلة بين الآيات.

وأمّا ما يدل على الطائفة الثانية ـ أعني: انّ الحقّ المطلق يلازم الهدف وليس هو إلّا استمرار الحياة في النشأة الأُخرى ـ فلفيف من الآيات :

١.( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(٣)

ترى أنّه سبحانه يصف نفسه ب‍( هُوَ الحَقُّ ) ويردفه بقوله:( وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَىٰ ) مشعراً بأنّ الحقّ المطلق لا ينفك عن إحياء الموتى لاستمرار الحياة وصون الفعل عن اللغوية.

وبعبارة أُخرى: إنّ الموجود لا يوصف بكونه حقّاً على الإطلاق إلّا إذا كانت

__________________

١. النبأ: ٦ ـ ١٦.

٢. النبأ: ١٧ ـ ١٨.

٣. الحج: ٦.

٢٢

ذاته وصفاته وفعله نزيهة عن النقص، ولا يكون فعله كذلك إلّا إذا كان مقروناً بالغاية.

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على كونه حقّاً مطلقاً ويقول:( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ) .(١)

٢. وعلى ذلك المنوال جرى كلامه سبحانه في الآية التالية :

( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) .(٢)

فالذكر الحكيم يصفه بأنّه الحقّ وأنّ ما يدعونه من دونه هو الباطل والحقّ المطلق ما يكون نزيهاً من النقص في ذاته ووصفه وفعله، ولـمّا كانت نزاهته في الأوّلين أمراً لا غبار عليه، برهن على نزاهة فعله بالآية التالية وقال :

( وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ ) .(٣)

٣. وربما يتفنّن القرآن فيذكر إحياء الموتىٰ واستمرار الحياة أوّلاً، ثمّ يذكر برهانه بأنّ وعد الله حقّ على خلاف ما مضىٰ في الآيات السابقة، ويقول :

( مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إلّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) .(٤)

ثمّ يذكر في آية أُخرى قوله:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) .(٥)

ثمّ يعقبها قوله:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا

__________________

١. الحج: ٧.

٢. الحج: ٦٢.

٣. الحج: ٦٦.

٤. لقمان: ٢٨.

٥. لقمان: ٣٠.

٢٣

يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ ) .(١)

والإمعان في تلك الآيات يورث الإعجاب، فهو يذكر بعث النفوس أوّلاً، ثمّ يردفه في آية أُخرى بأنّه سبحانه هو الحقّ.

ثمّ يطرح في آية أُخرىٰ مسألة الجزاء وانّه لا يجزي والد عن ولده، ويصف وعد الله بالحقّ، ففي كلا المقامين جاء المدّعىٰ مرفقاً بالدليل، فوصفه بالحقّ كوصف وعده به آية صحّة المدعىٰ وانّه لا مناص من إحياء الموتىٰ و إلّا لعاد الحقّ المطلق حقّاً نسبياً.

وهذا النوع من الكلام من إنسان أُمّي لا يجيد القراءة والكتابة دليل على أنّ كتابه ليس وليد فكره ونتاج عقله، بل هو وحي إلهي نزل به الروح الأمين علىٰ قلبه ليكون من المنذرين.

ثمّ إنّ الذكر الحكيم يحثّ المؤمنين على التفكير في خلق السماوات والأرض واختلاف اللّيل والنَّهار وغيرها من الأنظمة السائدة في الكون حتّى يعلموا أنّ فعله سبحانه لم يكن باطلاً ولا عبثاً. قال سبحانه:( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ *الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) .(٢)

وقد نقل عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « الدنيا مزرعة الآخرة ».

وكأنّ الإنسان يزرع في هذه الحياة الدنيا ويحصد ما زرعه في الآخرة، وهو يشير إلى وجود الغاية لخلق الإنسان والعالم.


__________________

١. لقمان: ٣٣.

٢. آل عمران: ١٩٠ ـ ١٩١.

٢٤

الإمام عليٌّعليه‌السلام وهدف الخلقة

وقد نقل عن أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب وكلمات تشير إلىٰ سرّ الخلقة وهدفها وانّها لا تتحقق إلّا بالبعث بعد الموت والنشأة بعد النشأة، وها نحن نسرد بعض كلماته :

١. قالعليه‌السلام : « وإنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة، مُرقِلين في مضمارها إلى الغاية القصوى ».(١)

٢. ويقولعليه‌السلام أيضاً في نفس تلك الخطبة: « قد شخصوا من مستقر الأجداث، وصاروا إلىٰ مصائر الغايات ».(٢)

٣. ويقولعليه‌السلام : « فانّ الغاية القيامة، وكفىٰ بذلك واعظاً لمن غفل، ومعتبراً لمن جهل، وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الارماس، وشدّة الإبلاس، وهول المطلع ».(٣)

٤. وفي وصية كتبها لولده الإمام الحسنعليه‌السلام يقول: « واعلم يا بنيّ أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنّك في قلعة ودار بلغة، وطريق إلى الآخرة ».(٤)

٢. المعاد مظهر العدل الإلهي

القول بالعدل وأنّه يلزم على الله سبحانه أن يتعامل مع عباده بالعدل، من فروع القول بالتحسين والتقبيح العقليين. وقد ذهبت العدلية إلىٰ أنّ العقل له

__________________

١ و ٢. نهج البلاغة: الخطبة ١٥٦.

٣. نهج البلاغة: قسم الخطب، الخطبة ١٩٠.

٤. نهج البلاغة: قسم الرسائل، الرسالة ٣١.

٢٥

قابلية إدراك الفعل الحسن أو القبيح واقعاً، فالموضوع لحكمه هو فعل الفاعل المختار وأنّه ينقسم إلى حسن وقبيح.

وبذلك يظهر أنّ حكمه على الموضوع بأحد الوصفين حكم عام يعمّ فعل الواجب والممكن دون مدخلية لوجود الفاعل وجوباً أو إمكاناً، فالفعل بما هو صادر عن فاعل عالم مختار إمّا حسن يجب العمل به، وإمّا قبيح يجب الاحتراز عنه. إلّا أنّ الله سبحانه لا يقوم إلّا بالفعل الحسن، وبالتالي لا يتعامل مع عباده إلّا بالعدل، يقول سبحانه :

( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) .(١)

وقال سبحانه:( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ) .(٢)

بل هو لا يظلم ولا ينسب إليه الظلم أبداً، قال سبحانه:( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) .(٣)

أي لا ينسب الظلم إليه، نظير قول القائل في النيل من خصمه: « وليس بنبّال » أي لا صلة بينه وبين رمي النبل.

نعم ربما يقال بعجز العقل عن إدراك محاسن الأفعال ومساويها وبالتالي لا يمكن الوصول إليها إلّا من خلال تنصيص الشرع. وقد أوضحنا وهن ذلك القول في بحوثنا الكلاميّة، وذكرنا أنّ لازمه عدم إمكان الحكم بالحسن والقبح مطلقاً لا عقلاً ولا شرعاً.(٤)

__________________

١. آل عمران: ١٨.

٢. يونس: ٤٤.

٣. فصلت: ٤٦.

٤. لاحظ كشف المراد: ٥٩، الفصل الثالث، المسألة الأُولىٰ في إثبات الحسن والقبح العقليين عند قول
الماتن: « ولانتفائهما مطلقاً لو ثبت شرعاً ».

٢٦

فخلاصة القول: إنّ فعله سبحانه يوصف بالعدل لا بالجور والظلم، وعليه فمقتضى حكمته أن يتعامل مع العباد بالعدل.

هذا من جانب، ومن جانب آخر إنّ عباده أمام تكاليفه علىٰ صنفين، مطيع وعاص، فيتصور بادئ الأمر أربعة احتمالات :

الف. أن يُثيب الجميع.

ب. أن يُعاقب الجميع.

ج. أن يغض النظر عن إثابتهم أو عقابهم.

د. أن يثيب المطيع ويعاقب العاصي.

والاحتمالات الثلاثة الأُول من الوهن بمكان، لأنّها تناقض العدل، فالتسوية بين المطيع والعاصي سواء أكانت بإثابة الجميع أو عقابهم كذلك أو تركهم سدى يعد ظلماً وجوراً، وهو أمر قبيح، وفعله سبحانه نزيه عنه، فيتعيّن الاحتمال الرابع.

وبتعبير آخر: إنّ التسوية بين العباد سواء أكانت بشكل إثابة الجميع أو عقوبتهم أو تسويتهم إنّما يتجه إذا كان الجميع سالكاً طريقاً واحداً من سبيلي الإطاعة والعصيان، فلو أطاع الجميع لكانت إثابتهم نفس العدل، ولو عصوا لكانت عقوبتهم كذلك، كما أنّ له سبحانه أن يتركهم سدىٰ، وأمّا إذا كانوا مطيعين فلأنّ الثواب تفضّل من الله سبحانه فله أن لا يتفضل وليس بحقّ عليه، كما أنّ عقوبتهم حقّ فله أن يتغاضىٰ عن حقّه.

إنّما الكلام فيما إذا كان العباد على صنفين بين مطيع وعاص، فالتسوية في هذه الصورة سواء أكانت بصورة إثابة الجميع أو عقوبتهم، أو تركهم سُدى ظلم قبيح على الله سبحانه، فلا محيص عن التفريق بإثابة المطيع ومعاقبة العاصي.

٢٧

وحيث أنّ الحياة الدنيا يتساوىٰ في الانتفاع بنعمها المطيع والعاصي، فلابدّ من يوم آخر يكون مجلى لعدله سبحانه ومظهراً له، وليس هو إلّا يوم القيامة.

يقول سبحانه:( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .(١)

ويقول أيضاً:( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ *مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(٢)

ويقول أيضاً:( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) .(٣)

وهذه الآيات تثبت أنّ التسوية بين المطيع والعاصي لا يليق بساحته سبحانه. وثمة آيات أُخرى تعيّن اليوم الذي يكون مظهراً لعدله.

١. يقول سبحانه:( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) .(٤)

٢.( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ *وَتَرَى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ *سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ *لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) .(٥)

__________________

١. ص: ٢٨.

٢. القلم: ٣٥ ـ ٣٦.

٣. الجاثية: ٢١.

٤. يونس: ٤.

٥. إبراهيم: ٤٨ ـ ٥١.

٢٨

٣.( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ *لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) .(١)

٤.( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ ) .(٢)

٥.( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ) .(٣)

وممّا يلفت النظر انّه سبحانه بعدما يطرح الحياة الأُخروية وقيام القيامة، يعقبها بقوله: «لتجزى» أو « ليجزىٰ » أو « ليروا » مشعراً بأنّ الهدف الإلهي من حشر الناس في ذلك اليوم هو إثابة المطيع ومعاقبة العاصي.

وأنت إذا قارنت هذه الطائفة من الآيات التي تصرّح بأنّ الهدف من الحشر هو الجزاء مع ما مضى في الطائفة الأُولى من الآيات تجد أنّ التسوية لا تتماشىٰ مع عدله وأنّ الجزاء هو مقتضى العدل الإلهي.

ما ذكرناه هو المستفاد من الآيات الكريمة، وثمة كلمات منقولة عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وفيها إشارة إلى أنّ يوم الجزاء مجلىٰ لعدله سبحانه :

١. « وذلك يوم يجمع الله فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب وجزاء الأعمال ».(٤)

٢. « فجدّدهم بعد إخلاقهم، وجمعهم بعد تفرّقهم، ثمّ ميّزهم لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال وجعلهم فريقين: أنعم علىٰ هؤلاء وانتقم من هؤلاء ».(٥)

__________________

١. سبأ: ٣ ـ ٥.

٢. طه: ١٥.

٣. الزلزلة: ٦.

٤. نهج البلاغة: الخطبة١٠٢.

٥. نهج البلاغة: الخطبة ١٠٩.

٢٩

٣. المعاد مجلى الوعد الإلهي

وعد سبحانه المطيعَ بالثواب والعاصيَ بالعقاب، فله أن يغضَّ النظر عن عقاب العاصي لأنّه حقّه، ولكن ليس له غضّ النظر عن الوعد للفرق بين الوعد والوعيد.

أمّا الأوّل فيجب العمل به ويعدُّ خُلْفه قبيحاً، بخلاف الوعيد فلا يعدُّ خُلفه إخلالاً بالعدل، وقد صبّ الشاعر المفلق هذا المعنى في قالب شعريّ وقال :

وإنّي إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف ميعادي ومنجز موعدي

وقال الآخر :

إذا وعد السّراء أنجز وعده

وإن أوعد الضرّاء فالعفو مانع

وإن شئت قلت: الخلف في الوعد إسقاط لحقّ الغير. وإمساك عن أداء ما عليه من الحقّ، وأمّا الوعيد فانّه إسقاط لحقّ نفسه، والعقل يستقل بقبح الأوّل دون الثاني.

وعلى ضوء ذلك فله سبحانه أن يغضَّ النظر عن العاصي دون العمل بوعده للمطيع فلابدّ من يوم يكون مجلىٰ لإنجاز وعده وإظهار عدله.

وهذا البرهان يمتاز عمّا سبقه، بأنّ السابق بصدد بيان أنّ التسوية بين المطيع والعاصي أمر قبيح سواء أكان هناك وعداً ووعيداً أم لا، ولذلك قلنا: إنّه لو كان الجميع مطيعين فلا يضرّ عدم الإثابة بعدله، أو كانوا عاصين فلا يخلُّ العفو كذلك، وإنّما المخل هو التسوية بين المطيع والعاصي.

وأمّا هذا البرهان، فهو مبني علىٰ مقدمة شرعية وحكم عقلي.

٣٠

أمّا المقدمة فقد أرشدنا القرآن إليها، إذ وعد فيها المؤمنين كما أوعد الكافرين والمنافقين.

وأمّا الحكم العقلي فهو أنّ غضّ النظر عن عقاب العاصي لا يخلُّ بالعدل، ولكن الخلف بالوعد قبيح عند العقل.

وليس لإنجاز وعده وقت سوى حشر الناس بعد الموت.

وأمّا الآيات الواردة في هذا المضمار فهي على أصناف :

فصنف يدل على أنّ قيام القيامة وعد من الله سبحانه، وصنف آخر يدل على أنّه ظرف لمجلى وعده ووعيده.

وصنف ثالث يدلّ على أنّ هذا الوعد قطعيّ الوقوع والتحقق، وإليك البيان :

أمّا الصنف الأوّل فيدل عليه الآيتان التاليتان :

قال سبحانه:( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) .(١)

وقال سبحانه:( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) .(٢)

وأمّا الصنف الثاني فقد وردت فيه الآيات التالية :

قال سبحانه:( وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ *هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ ) .(٣)

وقال سبحانه:( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) .(٤)

__________________

١. الأنبياء: ١٠٤.

٢. الزخرف: ٨٣.

٣. ق: ٣١ ـ ٣٢.

٤. الحجر: ٤٣.

٣١

وقال سبحانه:( وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ) .(١)

وهناك صنف ثالث يدل على أنّ هذا الوعد قطعي الوقوع والتحقّق.

قال سبحانه:( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ ) .(٢)

وقال سبحانه:( وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ ) .(٣)

ثمّ إنّ المتكلّمين استدلوا على لزوم المعاد بأمرين، أشار إليهما المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد، بقوله: « ووجوب إيفاء الوعد والحكمة تقتضي وجوب البعث ».(٤)

ففي هذه العبارة إشارة إلى دليلين :

الأوّل: وجوب إيفاء الوعد، وهذا هو الذي مرّ بيانه آنفاً.

الثاني: الحكمة، ولعلّها إشارة إلى ما مرّ من أنّ الحشر هو رمز الخلقة.

٤. المعاد مظهر رحمته الواسعة

يستفاد من بعض الآيات أنّ حشر الناس يوم القيامة من مظاهر رحمته سبحانه وأنّه التزم على نفسه أن ينظر إلى العباد بعين الرحمة ولذلك حشرهم يوم القيامة، قال سبحانه :

( قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ

__________________

١. هود: ١٧.

٢. آل عمران: ٩.

٣. آل عمران: ١٩٤.

٤. كشف المراد: المقصد السادس، المسألة الرابعة.

٣٢

لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .(١)

تجد أنّه سبحانه يردف قوله:( كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) بقوله:( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) مشعراً بأنّ جمع الناس يوم القيامة من مظاهر رحمته.

وثمة سؤال وهو أنّه كيف يكون حشر الناس من مظاهر رحمته مع أنّ الكفّار والمنافقين معذّبون في الدرك الأسفل من النّار ؟

والإجابة عنها واضحة.

إذ انّ الهدف من وراء البعث والنشور إيصال كلّ ممكن إلى كماله المطلوب، ونيل الرحمة الإلهية وهو غاية طبيعية للحشر، فلو تخلّف الكافر عن نيل ذلك الكمال والرحمة فلا يضرّ بالهدف المتوخّى من البعث.

وهذا نظير الامتحان، فانّ الغاية منه إظهار ما في كنه الممتَحن من الكمال على نحو لولاه لما ظهر، فمثلاً ابتلاء إبراهيم بذبح إسماعيل كان سبباً لظهور الكمالات الكامنة فيه كالاخلاص لله.

وعلى ضوء هذا فانّ رسوب شخص لا يضرّ بالغاية المتوخاة منه، مادام التقصير يعود إلى الراسب لا غير.

ونظيره المقام، فالغرض من خلق الإنسان وبعثه شيء واحد، وهو إيصاله إلى الكمال المطلوب، فلو قصّر الكافر فيكون هو المسؤول في ذلك المجال فحسب.


__________________

١. الأنعام: ١٢.

٣٣

٥. المعاد نهاية السير التكاملي للإنسان

قالت الحكماء: إنّ الحركة تتوقف علىٰ أُمور ستة :

١. المقولة، أي ما يقع فيه الحركة كالكيف.

٢. العلّة الفاعلية التي يعبر عنها بالمحرّك.

٣. العلّة المادية التي تقبل الحركة.

٤. الزمان أي مقدار الحركة.

٥. المبدأ.

٦. المنتهىٰ ( العلّة الغائية ).

فهذه الأُمور ممّا لا تنفك عن الحركة ومنها الغاية التي تتحرك المقولة إليها وتسكن عندها، والإنسان منذ نشوئه في رحم أُمّه لم يزل متحركاً من صورة إلىٰ صورة ومن حالة إلىٰ حالة، وتستمرّ الحركة معه حتىٰ بعد ولادته فلا تزال تتوارد عليه الصور، فلا ترىٰ له قراراً وثباتاً مادام في عالم الطبيعة.

وحيث إنّ الغاية من لوازم الحركة فيجب أن تكون لحركة الإنسان غاية تُعد الكمال المطلوب لحركته، وهذه الغاية غير متحققة في عالم الطبيعة بل في الآخرة ليصل المتحرك إلى كماله المطلوب.

وهذا البرهان الفلسفي يثبت وجود النشأة الأُخرىٰ التي تعد غاية وهدفاً لحركة الإنسان من النقص إلى الكمال.

ويمكن استظهار ذلك البرهان من طوائف من الآيات :

١. الآيات التي تتكفل لبيان المراحل التي مرّت على خلقة الإنسان وانتهت إلى بعثه يوم القيامة.

٣٤

قال سبحانه:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ *ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ *ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ *ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ *ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) .(١)

فالمراحل التي مرّت على الإنسان منذ أن كان خلية في رحم أُمّه إلى أن صار بشراً سوياً تحكي عن عدم ثباته وقراره وحركته وتحوله المرافق لعدم تحقق الغاية وإنّما يستقر بانتقاله من هذه النشأة إلى نشأة أُخرى وبعثه يوم القيامة.

فالآيات الآنفة الذكر إلى قوله:( ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ) تُبيّن حركة الإنسان وتحوله المستمر، وقوله:( ثُمَّ إِنَّكُم ) تبيّن حصول الغاية التي تلازم قراره وثباته واستقراره.

٢. الآيات التي تتكفّل لبيان خلق الإنسان من نطفة ثمّ يحكم عليه بالنشأة الأُخرى إيماء إلى ذلك البرهان، قال سبحانه:( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَىٰ *مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ *وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَىٰ ) .(٢)

وكأنّ النشأة الأُخرى غاية لحركة الإنسان من الصورة المنوية إلى الصورة الإنسانية.

٣. الآيات التي تصف يوم القيامة بأنّه المنتهىٰ والمستقر والمساق والرجعىٰ ودار القرار.

قال سبحانه:( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إلّا مَا سَعَىٰ *وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ *ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَىٰ *وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ المُنتَهَىٰ ) .(٣)

__________________

١. المؤمنون: ١٢ ـ ١٦.

٢. النجم: ٤٥ ـ ٤٧.

٣. النجم: ٣٩ ـ ٤٢.

٣٥

وقال سبحانه:( إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ ) .(١)

وقال سبحانه:( إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ ) .(٢)

وقال تعالى:( إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ) .(٣)

وقال عزّ من قائل:( إِنَّمَا هَٰذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) (٤) .

وكأنّ وجود الإنسان في خِضمِّ بحر متلاطم تسوقه الأمواج العاتية من جانب إلى آخر فلم يزل في حركة وسيلان وتصرم حتى انتقاله إلى النشأة الأُخرى، فعندئذ يصل إلىٰ غايته المنشودة وتكون منتهىٰ حركته واستقرار ذاته ووجوده ونهاية سيره إلىٰ ربّه.

وفي كلمات الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام لمحاتٌ إلى هذا البرهان لمن تأمل فيها وأمعن النظر، قال: « وإنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة، مرقلين في مضمارها إلى الغاية القصوى ».(٥)

وقد اعتمد علىٰ ذلك البرهان صدرالمتألهين وقرره بوجه واضح وقال :

الآيات التي فيها ذكرت النطفة وأطوارها الكمالية وتقلّباتها من صورة أنقص إلىٰ صورة أكمل ومن حال أدون إلىٰ حال أعلىٰ، فالغرض من ذكرها إثبات أنّ لهذه الأطوار والتحوّلات غاية أخيرة، فللإنسان توجه طبيعي نحو الكمال ودين إلهي فطري في التقرب إلى المبدأ الفعال، والكمال اللائق بحال الإنسان المخلوق

__________________

١. القيامة: ١٢.

٢. القيامة: ٣٠.

٣. العلق: ٨.

٤. غافر: ٣٩.

٥. نهج البلاغة: الخطبة ١٥٦.

٣٦

أوّلاً من هذه المواد الطبيعية، والأركان لا يوجد في هذا العالم الأدنىٰ، بل في عالم الآخرة التي إليها الرجعى وفيها الغاية والمنتهى، فبالضرورة إذا استوفى الإنسان جميع المراتب الخلقية الواقعة في حدود حركته الجوهرية الفطرية من الجمادية والنباتية والحيوانية وبلغ أشدّه الصوري وتمّ وجوده الدنيوي الحيواني فلابدّ أن يتوجّه نحو النشأة الآخرة، ويخرج من القوة إلى الفعل، ومن الدنيا إلى الأُخرى، ثمّ المولىٰ وهو غاية الغايات منتهى الأشواق والحركات.(١)

٦. المعاد، مظهر ربوبيته

الربّ في اللغة بمعنى الصاحب، يقال: « ربّ الدار » و « رب الضيعة » وشأن الرب هو تدبير المربوب وإيصاله إلى الكمال وصيانته عن الزوال كما هو حال صاحب الدار والضيعة، وبذلك يعلم أنّ الربوبية غير الخالقية، فالثانية هي مرحلة الإيجاد والإنشاء، وأمّا الأُولى فهي مرحلة المحافظة على الـمُنشأ وتربيته وسوقه إلى الكمال.

وحيث إنّ حقيقة الربوبية والمربوبية في الإنسان تتجلّىٰ في كونه عبداً لله تبارك وتعالىٰ، وشأن العبد هو الإطاعة بما أمر ونهىٰ عنه والتجنّب عن معصيته ومخالفته، ولا ينفك ذلك عن يوم يحاسب فيه العبد حتى يتجلّى مدىٰ إطاعته وامتثاله، ولذلك نرى أنّه سبحانه حينما يخبر عن لقاء الإنسان يوم القيامة يؤكد علىٰ ربوبيته ويقول:( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ) (٢) فكأنّ مقتضى الربوبية مثول العبد أمام الله تبارك وتعالى في يوم يحاسب فيجزى حسب ما عمل، وقال سبحانه:( وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي

__________________

١. الأسفار: ٩ / ١٥٩.

٢. الانشقاق: ٦.

٣٧

خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ) .(١)

فكأنّ منكر المعاد يكفر بربوبية الله تبارك وتعالى ولو أذعن بها لما أنكر المعاد، إذ هو اليوم الذي يحشر فيه جميع العباد للسؤال بمقتضى الربوبية.

الدوافع والشبهات لإنكار المعاد

إنّ الإيمان بالمعاد كالتوحيد أصلان لا ينفكان، وقد أُمر الأنبياء بتبليغهما وتعليمهما للناس ليؤمنوا بأنّ الربَّ واحد وأنّ الله يبعث من في القبور.

وقد كان الإيمان بالمعاد شديد الوقع علىٰ أكثر الناس في العهود السابقة لا سيّما في العهد النبوي فراحوا ينكرونه بشدة، ودفعهم إلى ذلك أمران :

الأمر الأوّل: الدوافع النفسية التي تدفعهم إلى إنكار المعاد وعدم قبوله.

الأمر الثاني: الشبهات الطارئة على أذهانهم.

وقد ذكر القرآن شيئاً من الدوافع والشبهات، فها نحن نستعرض الدوافع أوّلاً، ثمّ نعقبه ببيان الشبهات :

الدوافع النفسية لإنكار المعاد

إنّ الإيمان بيوم الحساب وأنّ الإنسان سيجزى بعمله إنْ خيراً فخير وإنْ شراً فشر، يفرض بحسب طبيعته، قيوداً وحدوداً لا ينبغي تجاوزها هذا من جانب، ومن جانب آخر فالإنسان بطبعه ميّال إلى الدعة والراحة وإرضاء الغرائز الحيوانية بأي أُسلوب أمكن، وهذان الأمران لا يجتمعان ولذلك وقفوا أمام دعوة الأنبياء بإنكار المعاد، وقد أُشير إلى ذلك في القرآن الكريم، قال سبحانه :

__________________

١. الرعد: ٥.

٣٨

( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ *بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ) .(١)

ففي هذه الآية يذكر القرآن الشبهة الطارئة علىٰ أذهانهم ويجيب عنها كما يأتي، ولكنّه سبحانه يتعرض بعد هاتين الآيتين إلى الدافع الحقيقي من وراء إنكار المعاد، وهو أنّ الإنسان يريد أن يتحرّر عن كلّ قيد وحاجز، والإيمان بالمعاد يكبّله بالقيود، يقول سبحانه :

( بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ *يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ) .(٢)

فالفجر في اللغة بمعنى الشق، فكأنّ الإنسان العاصي يريد أن يشقَّ القيود والحدود ويرفع الموانع أمام غرائزه الجامحة ويكون إنساناً متحرراً عن كلّ التزام وشرط.

الدوافع السياسية لإنكار المعاد

وهناك دافع آخر، وهو أنّ المنكرين كانوا أصحاب قدرة ونفوذ وكبر ونخوة، والعقيدة بالمعاد تنازع سلطتهم وتحدّ من نفوذهم، وهؤلاء هم الذين يعبّر عنهم القرآن الكريم بالملأ، يقول سبحانه :

( وَقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إلّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ *وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ *أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا

__________________

١. القيامة: ٣ ـ ٤.

٢. القيامة: ٥ ـ ٦.

٣٩

وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ *هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ *إِنْ هِيَ إلّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ *إِنْ هُوَ إلّا رَجُلٌ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ) .(١)

إنّ الإمعان في هذه الآيات يثبت أنّ المنكرين للمعاد كانوا من الأشراف والأعيان الذين يعبّر عنهم القرآن بالملأ، وكانوا ينكرون المعاد لدافعين :

الأوّل: الدافع النفسي، وهو الترف والرفاه كما يعرّفهم قوله سبحانه:( وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ومن الواضح أنّ الإيمان بالمعاد يحدَّ من ترفهم ويضع قيوداً لروحهم ورواحهم.

الثاني: الدافع السياسي، وهو توطيد سلطانهم وحفظ نفوذهم فراحوا يخاطبون من يخضع لسياستهم ونفوذهم بالقول( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ *هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ) .

ويشير في آية أُخرى إلى أنّ ما يطرحه هؤلاء من الشبهات تعد واجهة لما يكنّون من الدوافع، وهو تكذيب الأنبياء، ولولا التكذيب لخضعوا للحق، يقول سبحانه :

( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ *قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ *بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ) .(٢)

فالآية تطرح شبهاتهم في صدرها ( وسيوافيك بيانها ) ولكن تعود وتؤكد على أنّ الدافع الحقيقي شيء آخر وهو( بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ) .

وقد تكرّر ذلك في آية أُخرى، قال سبحانه:( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ

__________________

١. المؤمنون: ٣٣ ـ ٣٨.

٢. ق: ٣ ـ ٥.

٤٠

ويقولون: كما أنّ الإنسان يحب الخير فطرياً، أو يكره الشر فطرياً كذلك يبحث عن الله فطرياً وذاتياً، ويريد معرفة ما وراء الطبيعة فطرياً أيضاً، وما كل ذلك إلّا لأنّ البحث عن الله والتفتيش عن الخالق أمر جبل عليه الإنسان وفطر عليه تكوينه وعجنت به سريرته، فإذا به يميل إلى الإذعان بالله ذاتياً بينما يكره الإلحاد ونكران الله ذاتياً كذلك.

وفي هذا الباب نواجه نوعين من الآيات :

نوعاً يعتبر التعاليم الدينية بأُصولها ( من عقيدة وعمل ) قضايا فطرية مغروسة في جبلة البشر وخلقته، فإذا هي ( أي هذه التعاليم ) ليست سوى نداءات الضمير، ومحاكاة للفطرة.

ونوعاً آخر يصرح بأنّ الإيمان بالله وألتوجه إليه في الشدائد من الأُمور الفطرية التي ولدت مع الإنسان.

وإليك فيما يلي كلا النوعين من الآيات :

التعاليم الدينية أُمور فطرية

قال الله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلّدِينِ حَنِيفاً فِطْرةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

ففي هذه الآية لم تجعل مسألة « معرفة الله والإيمان به » فقط أمراً، فطرياً بل وصف الدين بأُصوله ( والتي تعني تلك الأُصول والكليات التي تؤلّف أساس

__________________

(١) الروم: ٣٠.

٤١

الدين الإلهي ) بكونه فطرياً جبلياً(١) .

ويشهد الواقع على ذلك إذ نرى أنّ كل التعاليم الّتي جاء بها الدين من عقيدة وعمل، تنطبق على مجموع الاحتياجات الفطرية سواء بسواء.(٢)

والإمعان في الآية المذكورة يفيدنا أنّ الدين عجن بفطرة البشر عجناً، فإذا هو منها وإذا هي منه، وجزء من كيانه.

وحقيقة الدين ليست سوى الطريق الأفضل الذي يجب أن تسلكه البشرية للوصول إلى السعادة.

وبتعبير آخر: انّ الهدف والغاية من خلق البشر ليس إلّا الحصول على السعادة والكمال، وقد هدى الله تعالى كل فرد من أفراد البشر بل وكل نوع من أنواع مخلوقاته إلى ذلك إذ جهزه بما يوصله إلى شواطئ السعادة المنشودة والكمال المطلوب بوسيلة مناسبة.

وقد أشار الكتاب العزيز بصراحة إلى هذه « الهداية التكوينية » العامة والتي لا تقتصر على بني آدم بل تشمل كل الكائنات على الإطلاق.

__________________

(١) الاستدلال بالآية في المقام موقوف على كون الدين بمعنى مجموع العقيدة والشريعة لا بمعنى الطاعة كما هو الظاهر من قوله تعالى:( وَمَا أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ( البينة: ٥ ) أي مخلصين له الطاعة.

فإنّ الدين في تلك الآية وأضرابها بمعنى الطاعة.

فلو قلنا بكون الدين في هذه الآية بمعنى الطاعة، لصارت من شواهد التوحيد في الطاعة.

غير أنّ مشاهير المفسّرين قد فسروا الدين في الآية المبحوثة هنا بمجموع العقيدة والشريعة، وجعلوا العقائد الإسلامية وأُصول الشريعة وكليّاتها ( لا جزئياتها وتفاصيلها ) من الأُمور الفطرية.

(٢) هذا بالإضافة إلى أنّنا نجد أغلبية الناس يميلون إليها طوعاً ورغبة إذا عرضت عليهم على النحو الصحيح، وإذا هم تجرّدوا عن العصبية ـ الهادي ـ.

٤٢

فقد صرح بذلك في آيات أُخرى مضافاً إلى ما سبق، إذ قال :

( رَبُّنُا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) (١) .

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ *وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) (٢) .

هذه الآيات تفيد ـ بوضوح كامل ـ أنّ الله زوّد كل كائنات هذا العالم ـ بشراً وغير بشر ـ بهداية فطرية تكوينية تتبين بموجبها طريقها في الحياة فتأخذ ما يناسبها وتدع ما لا يناسبها، وتعينها تلك الهداية الفطرية على معرفة ما هو مفيد لها وما هو مضر.

وفي خصوص الهداية الفطرية التي زود بها البشر خاصة يقول القرآن الكريم:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (٣) .

( أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ *وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ *وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (٤) .

( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ *ثُمَّ السَّبيلَ يَسَّرَهُ ) (٥) .

كل هذه الآيات حاكية عن أنّ جميع الموجودات ـ أعم من الإنسان وغير الإنسان ـ تعيش في ظل هداية تكوينية فطرية، هداية تقودها إلى الكمال المنشود المطلوب.

والهادي للإنسان في هذا المسير إنّما هو خلقته وتكوينه. وجميع البشر سواسية في هذه الموهبة الإلهية المعنوية ونعني الهداية الفطرية فلم يفضل الله فيها

__________________

(١) طه: ٥٠.

(٢) الأعلى: ٢ ـ ٣.

(٣) الشمس: ٧ ـ ٨.

(٤) البلد: ٨ ـ ١٠.

(٥) عبس: ١٩ ـ ٢٠.

٤٣

بعضاً على آخر، ولم يعطها لفريق ويحرم منها آخرين. إنّما هي فطرة فطر عليها عامة البشر بلا استثناء إذ يقول :

( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) .

فلم يخلق جماعة على غريزة الإيمان، وجماعة أُخرى على غريزة الإلحاد. جماعة على الميل إلى الخير، وجماعة أُخرى على الميل إلى الشر.

كلاّ، إنّما هي فطرة واحدة فطر عليها جميع الناس دون تمييز وتفضيل. إذ لا ريب أنّه لو لم يقم مجتمع ما على أساس مشترك لما أمكن سوقه إلى هدف الخلقة ( ونعني به التكامل ).

فإذا كانت التعاليم الدينية بأُصولها ذات طابع فطري وصفة جبلية، فمن الأحرى أن تكون مسألة « معرفة الله والإيمان به » التي تعد أساس كل التعاليم الدينية أمراً فطرياً كذلك.

تجلّي الفطرة عند الشدائد

من المعلوم أنّ فطرية الإيمان بالله لا تعني بالضرورة أن يكون الإنسان متوجهاً إلى الله دائماً ملتفتاً إليه متذكراً إيّاه في جميع حالاته وآونة حياته اليومية، إذ رب عوامل تتسبب في إخفاء هذا الإحساس في خبايا النفس وحناياها وتمنع من تجليه، وظهوره على سطح الذهن، وفي مجال الوعي والشعور.

وأمّا عند ما يرتفع ذلك الحجاب المانع عن الفطرة فالإنسان يسمع نداء فطرته بوضوح.

أجل هذه حقيقة لا تنكر فعندما يواجه المرء حوادث مخيفة نجده

٤٤

يتوجه إلى الله، ويستنجد به بحكم فطرته طالباً منه تيسير عمله، وتسهيل أمره.

عندما تقع للإنسان حوادث خطيرة كهجوم الأمواج العاتية على السفينة التي يركبها في عرض البحر، أو حدوث عطل فني في الطائرة التي يمتطيها في الجو، أو انحراف السيارة التي يستقلها، أو يتعرض لهجوم سيل كاسح على قريته أو مدينته.

أقول: عندما يواجه الإنسان أحد هذه المخاطر نراه يتوجه من فوره ـ وبصورة تلقائية فطرية ـ إلى الله، وتحدث لديه حالة عرفانية قلبية، يطلب فيها من الله سبحانه الخلاص والنجاة.

ففي هذه الحالة صار الخوف مذكراً له بنداء الفطرة وكاشفاً عنها لا موجداً للإيمان بالله.

فلا يصح لنا أن نستنتج من توجه البشر إلى الله في هذه الحالة وفي هذه اللحظات من حياته بأنّ الإيمان وليد الخوف والرهبة من الطبيعة الغاضبة كما يدعي الماركسيون ومن حذا حذوهم بل الخوف مجرد وسيلة تكشف الغطاء عن ذلك الإيمان المغروس في أعماق البشر، المودوع في الفطرة بيد الخالق العظيم.

إنّ غريزة حب الجمال واكتناز الثروة وطلب العلم رغم أنّها أُمور مجبولة مع فطرتنا ومعجونة مع خلقتنا فهي لا تظهر ولا تتفتّح ولا تبرز في كل الأوقات والظروف، ولا تتجلّى في عالم الذهن في كل الأزمنة والأحوال ما لم تتهيّأ الظروف المناسبة لها في وجودنا.

وكذلك تكون غريزة التديّن وفطرة الإيمان بالله.

وها هو القرآن الكريم يذكرنا بهذه الحقيقة فيخبرنا كيف أنّ فريقاً من البشر

٤٥

يذكرون الله ويتوجهون إليه في مواقع الشدة، والخطر أي عندما تواجه سفنهم طغيان الأمواج ـ مثلاً ـ.

ففي هذا الموضع ـ بالذات ـ يتذكّرون الله وينسون ما سواه من العلل المادية حتى الأصنام التي كانوا يتصورون بأنّـها مقربة لهم إلى الله، فيدعون الله ويطلبون منه بكل إخلاص أن ينجيهم مما هم فيه :

( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِريح طَيِّبَة وَفَرِحُوا بِها جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكَان وَظَنَّوا أَنَّهُمْ أُحِيْطَ بِهِمْ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَاكِرِينَ *فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحَقِّ ) (١) .

( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوا الله مُخْلِصِينَ لهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَىٰ البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (٢) .

( وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَىٰ البَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إلّا كُلُّ خَتَّار كَفُور ) (٣) .

( وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤) .

( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ *ثمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (٥) .

__________________

(١) يونس: ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) العنكبوت: ٦٥.

(٣) لقمان: ٣٢.

(٤) يونس: ١٢.

(٥) النحل: ٥٣ ـ ٥٤.

٤٦

( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَىٰ البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُوراً ) (١) .

( وَإَذَا مَس النَّاسَ ضُرٌّ دَعوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (٢) .

هذه الآيات كلها تفيد أنّ الإيمان بالله مزروع في فطرة الإنسان، غاية ما في الأمر أنّ الإنسان قد يغفل عن ذلك بعض الأحيان بسبب ما يعتريه من سهو ولهو ولذات منسية سريعة الفوت، ولكنَّه سرعان ما يعود بحكم فطرته إلى الله ـ عندما يواجه الشدائد وتفقد الحياة رتابتها ـ فهنالك لا يرى سوى الله منقذاً ومخلصاً، ولا يرى في غيره ولياً ولا نصيراً.

هل الإيمان بوحدانية الله فطري أيضاً ؟

يعتقد فريق من العلماء أنّ الآيات المذكورة ناظرة إلى مسألة « فطرية الاعتقاد بوحدانية الله » لا إلى مسألة « فطرية الاعتقاد بوجوده تعالى ».

فقد كتب من هذا الفريق من يقول :

لو كانت هذه الآيات تتحدث عن فطرية شيء، فهي إنّما تتحدث ـ في الحقيقة ـ عن فطرية « وحدانية الله » لا عن فطرية « أصل وجوده ».

وذلك لأنّ هذه الآيات موجهة ـ أساساً ـ إلى المشركين الذين كانوا يتخذون مع الله إلهاً أو آلهة أُخرى.

__________________

(١) الإسراء: ٦٧.

(٢) الروم: ٣٣.

٤٧

وبذلك يكشف شأن نزولها عن أنّ الأمر الموصوف بالفطرية والمنعوت بكونه جبلياً هنا ليس هو « الاعتقاد بوجود الله » بل هو « الاعتقاد بوحدانيته » كما لا يخفى.

الجواب :

ويمكن الإجابة على هذا الاعتراض بجوابين :

١. أنّ هذا الكلام ـ لو صح ـ إنّما هو صادق بالنسبة للآيات التي تتحدث عن حالة راكبي الفلك(١) حينما تعتريهم الأمواج الطاغية فيتوجهون ـ في غمرة الخوف والانقطاع ـ إلى الله فيما يتوجهون في غير هذه اللحظات إلى معبوداتهم وآلهتهم المزعومة المصطنعة مشركين، حائدين عن جادة التوحيد.

وأمّا تلكم الآيات التي تصف أُصول التعاليم الدينية بالفطرية، وتعتبرها أُموراً نابعة من صميم ذاته ومنطبقة مع جبلته، ومقتضى خلقته فخارجة عن مجال هذا الكلام والاعتراض.

ففي هذه الآيات الأخيرة لم يعتبر التوحيد فقط أمراً فطرياً جبلياً بل اعتبر العلم بالمحسنات والمقبحات والعلم بالتقى والفجور كما في قوله تعالى:( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (٢) أو العلم بالدين كما في قوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله ) (٣) .

أقول: اعتبر العلم بهذه الأُمور فطرياً.

__________________

(١) يونس: ٢٣، والعنكبوت: ٦٥، لقمان ٣٢، والإسراء: ٦٧.

(٢) الشمس: ٨.

(٣) الروم: ٣٠.

٤٨

وفي هذه الصورة لا منافاة بين فطرية الاعتقاد بأصل وجود الله والاعتقاد بوحدانيته فطرياً، لأنّ كل ذلك يندرج تحت إطار « التعاليم الدينية » على السواء.

٢. وحتى لو أغمضنا النظر عن هذا الجواب وقصرنا النظر على آيات راكبي الفلك، فإنّ الاعتراض لن يصح في موردها أيضاً.

وذلك لأنّ المشركين رغم اعتقادهم بالله، فإنَّهم ما كانوا يعبدون ـ في الأوقات الاعتيادية ـ إلّا أوثانهم خاصة، فلم يكن لديهم في تلك الأحيان أي توجه إلى الله أبداً، بينما كان هذا الأمر ينعكس تماماً عند مواجهة الأخطار والشدائد فكانوا يتوجهون إلى الله وحده، يعبدونه وحده، ويتضرعون إليه وحده، وأمّا الأصنام فكانت تسلم إلى يد الإهمال والنسيان.

من هذا الأمر يمكن استنباط الحقيقة التالية، وهي أنّه كما أنّ وحدانية الله أمر فطري كذلك الاعتقاد بأصل وجوده فطري أيضاً.

لأنّ المشرك ـ كما لاحظنا ـ لم يتوجه في الشدائد إلّا إلى الله الذي كان ينسى وجوده وصفته في الحالات الاعتيادية نسياناً مطلقاً وكأنّ الله لم يكن.

ولا ريب أنّ هذه الالتفاتة بعد تلك الغفلة الشاملة للذات أيضاً، علامة أنّ الذات والصفة، ونعني ذات الله ووحدانيته كلاهما أمران فطريان.

وبعبارة أُخرى: إذا كان الاعتقاد بصفة من صفات الله فطرياً فمن الأحرى أن يكون « أصل الاعتقاد بوجوده » كذلك أمراً فطرياً لدى الإنسان، ولذلك فإنّ الآيات المذكورة حتى إذا كانت تعني فطرية التوحيد ـ حسبما ادّعوا ـ فإنّها تعني بالضرورة والأولوية فطرية الإيمان بوجود الله.

٤٩

تنبيه إلى عدّة نقاط

لقد قادنا التحقيق السابق إلى فطريّة مباني الدين وأُسسه وأُصوله، ويتعين علينا الآن أن ننبّه القارئ الكريم بعدة نقاط نراها ضرورية في المقام :

الأُولى: الفرق بين التوحيد الفطري والتوحيد الاستدلالي

يمكن البحث والتحدّث حول معرفة الله والتوصل إليها عن طريقين هما :

١. طريق الفطرة.

٢. طريق الاستدلال.

والمراد من « طريق الفطرة » هو أنّ كل إنسان يشعر في قرارة ضميره، ومن تلقاء نفسه بانجذابه نحو الله، وميله العفوي الفطري إليه دون أن يكون في ذلك متأثراً ببرهان، أو خاضعاً لدليل، أو نابعاً من تعليم معلّم، أو دعوة أحد، أو ما شابه ذلك من المؤثرات الخارجية.

والمقصود بالطريق الثاني أي التوحيد الاستدلالي، هو أن يجد المرء طريقه إلى معرفة الله عبر الاستدلال وإقامة البراهين العقليّة والفلسفيّة فلا يكون دليله في هذا السبيل، إلّا تلك البراهين ليس إلاّ.

وقد يحْدث خلط والتباس بين هذين الطريقين وهذين النوعين من « التوحيد » لذلك لا بد من التلميح إلى ما يساعدنا على التمييز بين « الفطري » و « غير الفطري » من الأُمور. وهذا هو ما نبينه في النقطة الثانية التالية :

٥٠

الثانية: كيف نميّز العمل الفطري عن غير الفطري ؟

يصدر من الإنسان في حياته نوعان من الأفعال :

١. الأفعال الفطرية.

٢. الأفعال العادية.

والأفعال الفطرية هي تلك الأفعال التي تنبع من جِبِلّة الإنسان وفطرته وغريزته كالتنفس، والدفاع عن النفس عند مواجهة الخطر.

وهذه الأعمال لا تختلف عمّا تفعله الحيوانات من أعاجيب الأفعال بحكم الغريزة وتحت هداية الفطرة وتأثير الجبلّة ودون أنْ تخضع في شيء من ذلك لأيِّ عامل خارجي عن وجودها.

والأفعال العادية هي التي لا يكون لها أيّة جذور غريزية باطنية بل يقوم بها الإنسان تحت تأثير العوامل الخارجية عن ذاته.

ولمزيد من التوضيح نمثل للأفعال الفطرية بالأمثلة التالية :

١. الغريزة الجنسية وميل كل جنس إلى مخالفه من الأُمور الفطرية التي تتجلّى لدى كل فرد من أبناء البشر في سنين متفاوتة.

فكل أبناء البشر ـ بلا استثناء ـ يميلون في هذه الفترة من العمر إلى الزواج واللقاء الجنسي دون أن يدعوهم إلى ذلك داع أو مبلّغ ودون أن يسوقهم إلى ذلك مرشد أو معلّم.

٢. الميل إلى الجاه والمكانة الاجتماعية هو الآخر من الأُمور الفطرية التي تنبع من أعماق الباطن البشري، وحنايا النفس الإنسانية.

٥١

فالحكم على الناس والحصول على المناصب ليس شيئاً لا يريده أحد أو يحتاج إلى تعليم معلّم.

٣. حب المال واكتناز الثروة وجمعها من الأُمور الفطرية كذلك.

ألا ترى كيف لا يشبع الإنسان من جمع المال، ولا يمل من تكديس الثروة وكأنّ جبلته عجنت بطلب الدنيا وحبها.

هذه هي بعض النماذج من الأفعال الفطرية، وهي كما نرى لا تخضع لأي تغيير وتبدّل، كما لا تخضع لأي عامل خارج الذات.

ويقابل ذلك مجموعة من الأفعال العادية التي تخضع لحالة التغيّر والتبدّل باستمرار.

فإذا كانت الحاجة إلى اللباس فطرية فإنّ كيفية اللباس الذي يلبسه الإنسان ليست فطرية، ولأجل هذا نرى التفاوت الكبير في كيفية الثياب والألبسة والأزياء واختلافها من شعب إلى شعب ومن أُمّة إلى أُخرى.

واليوم حيث يتزايد تقارب الشعوب بفضل المواصلات وأجهزة الإعلام بحيث يكاد يصبح العالم عائلة واحدة نجد أنّ مواصفات الأزياء وطُرُز الألبسة تتعرض للتغير والتبدل في كل عام في أغلب نقاط عالمنا، فتذهب طُرُز وتحل محلها طُرُز أُخرى جديدة بينما تبقى الحاجة إلى اللباس ثابتة لا تتغير.

وعلى غرار الأزياء تخضع أساليب تجميل النساء وطرق الزينة، وهكذا زخارف المنازل والمحلات والمخازن، للتغيّـر والتبدّل كل عام وينتخب كل شعب لنفسه زياً من الأزياء وطرازاً من الطُرُز، وشكلاً من الأشكال.

مع ملاحظة الأمثلة التي ذكرناها للنوعين يمكن تمييز الأمر الفطري عن

٥٢

الأمر غير الفطري بمعونة العلامات التالية :

١. حيث إنّ الأُمور الفطرية ذات جذور غريزية باطنية، لذلك فهي تتصف بالشمولية والعمومية، فليس هناك أحد من أبناء البشر يفقدها ويخلو منها.

٢. الأُمور الفطرية تتحقق بوحي الفطرة وهدايتها، ولا تحتاج إلى تعليم معلّم.

٣. كل فكرة أو عمل تكون له جذور فطرية لا تخضع لتأثير العوامل السياسية والاقتصادية والجغرافية، بل هي تعمل وتتحقق بعيداً عن نطاق هذه العوامل وتأثيرها.

٤. الدعايات المكثفة والمستمرة ضد الأُمور الفطرية يمكن أن تضعفها وتحد من نموها ولكن لا تتمكن ـ أبداً ـ من استئصالها والقضاء عليها بالمرة.

هكذا تكون الأُمور الفطرية بينما تكون الأُمور العادية ـ على العكس ـ.

فهي محلية.

وهي تتأثر بالعوامل والمؤثرات المحيطية والبيئية.

وهي تخضع لتعليم معلم.

وأخيراً هي مما تتمكن الدعايات المضادة من استئصالها بالمرة.

والآن علينا أن نرى ما إذا كانت غريزة التديّن تتصف بالصفات والعلامات الأربع التي ذكرناها أو لا ؟

٥٣

١. البحث عن الله ظاهرة عالمية

لقد كشف التحقيق الكلّي الذي قمنا به في مطلع هذا الفصل كشف النقاب عن « عالمية » هذا الإحساس، ونعني حس البحث عن الله والانجذاب إلى ما وراء المادة « الميتافيزيقيا ».

ونضيف هنا أنّ علماء التنقيب والآثار عثروا ويعثرون باستمرار ـ وخلال حفرياتهم ـ على معابد وهياكل للعبادة وأصنام تصور معبودات جميلة كان يتخذها البشر القدامى وتقدّسها الأجيال الغابرة البائدة، وتعود إلى أقدم العصور.

فها هو فريد وجدي يكتب في دائرة معارفه :

إنّ نتيجة التنقيبات في باطن الأرض تفيد أنّ الوثنية كانت من أظهر وأبرز الإدراكات البشرية، وكأنّ الاعتقاد بالمبدأ نشأ مع ظهور البشر جنباً إلى جنب(١) .

ويكتب « جان دايورث » الأُستاذ بجامعة كولومبيا حول الدين وأصالته في المجتمع البشري(٢) :

إنّك لن تجد أية ثقافة لدى أية أُمَّة من الأُمم وقوم من الأقوام إلّا ويكون في تلك الثقافة شكل من أشكال التديّن وأثر بارز للدين.

إنّ جذور التديّن ممتدة إلى أعماق التاريخ إلى الأعماق المجهولة من التاريخ السحيق البعيد غير المدون(٣) .

__________________

(١) دائرة المعارف: مادة « إله » و « وثن ».

(٢) الدين في التجارب.

(٣) المصدر السابق.

٥٤

٢. الفطرة هي الهادية إلى الله وليس التعليم

يستيقظ الشعور الديني في باطن كل إنسان ـ تماماً ـ كبقية الأحاسيس الباطنية دون معلم ودون إرشاد أو توصية من أحد.

فكما يحس الإنسان باطنياً وذاتياً في فترة من فترات حياته أو في كل الفترات بميل شديد إلى أُمور كالجاه أو الثروة أو الجمال أو الجنس وذلك تلقائياً ودون تعليم معلم، كذلك يستيقظ في باطنه « ميل إلى الله » وإحساس تلقائي يدفعه بدون إرادته إلى التفتيش عنه، وهو إحساس يتعاظم ويتزايد ويظهر ويتجلّى أكثر فأكثر أثناء البلوغ حتى أنّ علماء النفس يتفقون في أنّ بين « ازمة البلوغ » و « القفزة المفاجئة في المشاعر الدينية » في الفرد ارتباطاً وتلازماً لا ينكر.

ففي هذه الأوقات نشاهد نهضة قوية، واندفاعة شديدة في الشعور الديني حتى عند أُولئك الذين كانوا قبل تلك الفترة غير مكترثين بالدين وقضايا الإيمان.

ويبلغ الشعور الديني ذروته في سن السادسة عشرة حسب نظرية « استانلي هال ».

وأمّا الأشخاص الذين سبق لهم أن تلقّوا تربية دينية في عهد الطفولة، فلا توجد لديهم مثل تلك النهضة المفاجئة، بل يمتد الشعور الديني الموجود قبل البلوغ إلى ذلك الوقت دونما مفاجأة.

إنّ ظهور الميل المفاجئ إلى الدين وإلى الله ومسائل الإيمان دون تعليم أو توجيه، لهو أحد الدلائل القاطعة على فطرية هذا الأمر، وكون هذا الإحساس يظهر فطرياً شأن بقية الأحاسيس الإنسانية الفطرية الأُخرى.

٥٥

ولكن علينا أن لا نغفل عن نقطة مهمة وهي: أنّ هذا الإحساس، وكذا بقية الأحاسيس والمشاعر الإنسانية لو لم تحط بالمراقبة الصحيحة والرعاية اللازمة أمكن ـ بل من المحتم ـ أن تعروها سلسلة من الانحرافات وتتعرض للاعوجاج كما هو الحال عند الوثنيين وغيرهم ممن تركوا عبادة الله، وأخذوا بعبادة الآلهة.

٣. الشعور الديني ليس وليد العوامل المحيطية

عندما نجد الشعور الديني منتشراً وسائداً في كل مكان وكل صقع من هذا العالم، وفي كل عصر من عصور التاريخ البشري، فإنّ من البديهي أن نستنتج أنّ هذا الشعور نداء باطني فطري لا محرك له سوى الفطرة، ولا مقتضي له سوى الجبلة.

لأنّه لو كان للظروف الجغرافية أو العوامل الأُخرى دخل في نشوء هذا الشعور، لوجب أن يوجد في مكان دون مكان، ولدى شعب دون شعب، ولدى طبقة خاصة دون أُخرى.

وبتعبير آخر لوجب أن يكون هذا الشعور لدى من تتوفر لديه الظروف الجغرافية أو السياسية أو الاقتصادية الخاصة دون من لا تتوفر فيه تلكم الخصوصيات. في حين أنّ الأمر على العكس من هذا تماماً، فالشعور الديني موجود في جميع المناطق ولدى جميع الشعوب وفي جميع أدوار التاريخ البشري الطويل وهذا هو بالذات شأن كل ما لا يخضع لتأثير العوامل الخارجية وبالتالي شأن كل أمر فطري.

وفي هذا الصدد يقول « بلورتاك » المؤرخ الإغريقي الشهير منذ نحو من ألفي سنة :

٥٦

من الممكن أن نجد مدناً بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب ولا مسارح ولكن لم ير قط مدينة بلا معبد، أو لا يمارس أهلها عبادة(١) .

ويقول العالم الأثري الراحل الدكتور سليم حسن :

دلت البحوث العلميّة البحتة الآن على أنّ لكل قوم من أقوام العالم عامة ـ مهما كانت ثقافتهم منحطة ـ ديناً يسيرون على هديه ويخضعون لتعاليمه(٢) .

٤. الدعايات حدّدت هذا الشعور ولم تستأصله

لا شك في أنّ الدعايات المناوئة، في مقدورها أن تحد من نمو كثير من الأحاسيس والمشاعر الدينية، ولكنّها لا تستطيع ـ بتاتاً ـ أن تقضي عليها وتستأصلها.

وحتى الآن ورغم سيطرة الأفكار اليسارية على ما يقرب من ثلث عالمنا المعاصر ومحاولة البعض لحبس « الشعور الديني » في سجن الاستعمار الشيوعي أو القضاء عليه بالمرة(٣) فإنّ هذه الجهود المناوئة للدين لم تحقق أي قسط مهم من النجاح في القضاء على الدين، أو تفريغ قلوب أكثرية سكان هذا العالم من هذا الشعور.

فها هو الشعور الديني ـ في نفس الاتحاد السوفياتي البلد الشيوعي الأُم ـ رغم مرور أزيد من ستين عاماً على الثورة الشيوعية فيها لا يزال يحتفظ بمكانته في أعماق القلوب، ولذلك عمدت السلطات ـ في الأوان الأخير ـ إلى إعطاء بعض

__________________

(١) بين العلم والدين: ٣٦.

(٢) بين العلم والدين: ٢٥.

(٣) حتى أنّ بعض الأحزاب التقدمية رفعت مؤخراً شعار: « القضاء على الدين دين ».

٥٧

الحريات للمسلمين والمسيحيين لإقامة شعائرهم الدينية.

وفعلت الصين مثل ذلك مؤخراً كما تنقل نشرات الأخبار ووكالات الأنباء.

كل ذلك برهان ساطع ودليل قاطع على أنّ الشعور الديني فطرة فطر عليها الناس، جميع الناس لا تمحوها الدعايات المناوئة، ولا أي شيء آخر، وإن كانت تقلل من اندفاعاتها وتحد من نموها، بعض الوقت، وبعض الشيء.

الثالثة: الشعور الديني أو البعد الرابع في الروح الإنسانية

إذا كان القرآن الكريم وأحاديث أئمّة الإسلام تعتبر الشعور الديني أمراً نابعاً من الفطرة، وراجعاً إليها وأمراً جبل عليه الإنسان يوم خلق فإنّ علماء النفس منهم خاصة يصفون هذا الشعور بأنّه « البعد الرابع » للروح الإنسانية.

وإذا تهافتت في الغرب نظرية الأبعاد الثلاثة للجسم إثر ظهور النظرية النسبية التي أضافت بعداً رابعاً للأجسام هو الزمان مضافاً إلى أبعاده الثلاثة المنظورة ( وهي الطول والعرض والعمق ) فقالت: كما أنّ الجسم لا يخلو من هذه الأبعاد الثلاثة كذلك لا يخلو من الزمن الذي هو وليد الحركة بما أنّ الأجسام في حركة دائمة.

أقول: كما تهافتت نظرية الأبعاد الثلاثة بظهور البعد الرابع للأجسام، كذلك مع اكتشاف الشعور الديني في الإنسان والاطلاع على أنّ هذا الشعور يمثل أحد العناصر الثابتة والطبيعية في الروح والنفس الإنسانية تهافتت النظرية القائلة بأنّ للروح الإنسانية ثلاثة أبعاد فحسب، وثبت في المآل أنّ في الروح والفطرة البشرية حسّاً آخر علاوة على الأحاسيس والغرائز الثلاث المعروفة، وهذا

٥٨

الحس هو « حس التدّين » الذي لا يقل أصالة عن بقية الأحاسيس الأصيلة والمشاعر المتأصلة في وجود الإنسان.

وإليك فيما يلي بيان الغرائز والأحاسيس الثلاث باختصار :

١. غريزة حب الاستطلاع

وهذه الغريزة هي التي دفعت وتدفع الفكر الإنساني ـ منذ البداية ـ إلى البحث وإلى دراسة المسائل والمشاكل والسعي لاكتشاف المجهولات وفك الرموز واستكناه الحقائق. وهي الغريزة التي نشأت في ظلها العلوم والصناعات وتوسعت المعارف وتطوَّرت وتقدّمت وهي الغريزة التي ساعدت المكتشفين والمخترعين منذ القدم وكانت معواناً ومشجعاً لهم على مواصلة البحث المضني لاكتشاف ألغاز الطبيعة وأسرار الحياة وكشف القناع عنها، وتحمل كل الصعوبات والمتاعب في ذلك الطريق الوعر.

٢. غريزة حب الخير

وهي منشأ ظهور الأخلاق، ومعتمد الفضائل والسجايا الإنسانية والصفات النفسانية المتعالية.

وهي الغريزة التي تدفع الإنسان إلى أن يحب بني نوعه ويطلب العدل، والحق، والسلام.

وهي التي توجد في المرء نوعاً من الميل الفطري الباطني إلى الأخلاق النبيلة والسجايا الحميدة ونفوراً من الرذائل والصفات الذميمة.

٥٩

٣. غريزة حب الجمال

وهي منشأ الفنون الجميلة قديماً وحديثاً وسبب ظهور الأعمال الفنية في شتى مجالات الحياة.

٤. غريزة التدّين

وتعني بأنّ كل فرد من أبناء الإنسان يميل بنحو ذاتي وفطري، وبحكم غريزته إلى الله ويميل إلى التدّين، وينجذب عفوياً إلى معرفة ما وراء الطبيعة والقوة الحاكمة على هذا الكون الذي يعيش ضمنه ويكون وجود الإنسان فرعاً من وجوده وجزءاً من أجزائه.

تلك القوة التي بيدها أمر العالم ويمكن أن تنقذه من البلايا، وتدفع عنه كل مكروه إن شاءت.

ولقد أوجد اكتشاف هذا الشعور وهذا البعد الأخير حركة عظيمة في الأوساط العلمية، إذ حط هذا الاكتشاف العلمي النفساني الهام من غرور ماديي القرن العشرين وكبريائهم.

فإذا كان إنكار ما وراء الحس « الميتافيزيقيا » دليلاً على الفهم والعلم والتحقيق ذات يوم، فقد أصبح هذا الأمر ـ بعد اكتشاف البعد الرابع ـ علامة الجهل والتعصب والتحجّر، والإنكار لأبده الحقائق الحاضرة.

وإذا كانت مقالة لينين حول الدين، تعتبر ذات يوم في نظر البعض أصلاً لا يقبل النقاش والجدل، وكانت جماهير السواد تتصور بأنّه قد اكتشف لغزاً وسراً عظيماً من أسرار الكون، فقد أصبحت هذه النظرية بعد اكتشاف البعد الرابع ،

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672