مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154662 / تحميل: 6008
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

السادس تصبح عندهم (أعضاء التناسل منطقة مولدّة للذة) ثم تأتي بعدها مرحلة الكمون (1) .

ولهذا حذّر أهل البيت (عليهم السلام) من إثارة الطفل الجنسية في هذه المرحلة، وأفضل طريقة لإبعادهم عن الإثارة الجنسية هو إبعاده عن رؤية المباشرة بين الوالد والوالدة، فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: والذي نفسي بيده لو أنّ رجلاً غشي امرأته، وفي البيت صبي مستيقظ يراهما ويسمع كلامهما ونَفَسَهُما؛ ما أفلح أبداً إن كان غلاماً كان زانياً، أو جارية كانت زانية) (2) .

وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): (لا يجامع الرجل امرأته ولا جاريته، وفي البيت صبي، فإنّ ذلك ممّا يورث الزنا) (3) .

والطفل في هذه المرحلة يحاكي سلوك الأبوين ويقلدّهم (فيعمل ما يعمله أبواه) (4) .

وبما أنّ (اللعبة المفضّلة في تلك الأعمال هي لعبة العريس والعروسة) (5) .

لذا فإنّ الأطفال سيمارسون في لعبهم ما شاهدوه من ممارسات جنسية من قِبل الوالدين، وقد يستمرّون عليها في مراحل العمر

____________________

(1) علم النفس العلاجي: 106.

(2) وسائل الشيعة 20: 133 | 2 باب 67.

(3) وسائل الشيعة 20: 134 | 7 باب 67.

(4) التربية وبناء الأجيال، لأنور الجندي: 166 ـ دار الكتاب بيروت 1975 م ط1.

(5) مشاكل الآباء: 205.

٨١

المتقدّمة.

فيجب على الوالدين التجنّب عن ذلك، والتجنّب عن مقدّماته كالتقبيل وغيره ومن الخطأ الفاحش الذي يقوم به بعض الوالدين هو التحدّث عن أُمور الجنس أمام الأطفال في بعض المناسبات؛ فإنّ ذلك يدفع الأطفال إلى زيادة فضولهم. وعلى الوالدين أن يحتاطوا في إجراء المباشرة حتى في حالة نوم الطفل، خوفاً من استيقاظه فجأة، فإنّ ذلك يولّد في أعماقه صدمة نفسية تبقى كامنة في اللاشعور.

وعلى الوالدين أن يراقبوا سلوك أبنائهم وطريقة ألعابهم، وخصوصاً في أماكن اختلائهم بعضهم بالبعض الآخر.

ويجب على الوالدين وقاية الأطفال من الإثارة الجنسية، وهو التفريق بينهم في حالة المنام، بأن توضع فاصلة بينهم فلا ينامون تحت غطاء واحد بحيث يحتك جسم أحدهم بالآخر، وقد وردت عدّة روايات تؤكّد هذه الوقاية، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (يفرّق بين الصبيان في المضاجع لست سنين) (1) .

وفي رواية أُخرى عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (فرّقوا بين أولادكم في المضاجع إذا بلغوا سبع سنين) (2) .

والتفريق مطلق بين الذكور والذكور، وبين الإناث والإناث، وبين الذكور والإناث.

____________________

(1) مكارم الأخلاق: 223.

(2) مكارم الأخلاق: 223.

٨٢

وفي وقتنا الحاضر، وبعد انتشار أجهزة السينما والتلفزيون والفيديو، تكون الحاجة شديدة إلى إبعاد الطفل عن الإثارة الجنسية، ويجب على الوالدين في البلدان التي لا تتبنّى الإسلام منهجاً لها في الحياة، وتعرض الأفلام المثيرة، أن يقوما بجهدٍ إضافي في مراقبة الأطفال ووقايتهم من النظر إلى هذه الأجهزة؛ حذراً من مشاهدة الأفلام غير المحتشمة، وفي الخصوص في البلدان التي ترى أنّ أفضل أُسلوب لتحرير الأطفال من الكبت المستقبلي هو عرض الأفلام الجنسية، وقد أثبت علماء النفس والتربية صحّة النظرية الإسلامية في ذلك، فالدكتور سپوك الأمريكي يقول: (إنّ النسبة المعتدلة من التحريم التي فُرضت علينا جميعاً أثناء الطفولة، والتي نقلناها نحن بدورنا إلى أبنائنا، تلعب دوراً ايجابياً في تحرير عقل الطفل في أثناء سنوات الدراسة، للتفرّغ لاهتمامات غير ذاتية مثل الكتابة والقراءة والحساب) (1) .

ولذا نراه ينتقد الممارسات الخاطئة في أمريكا، وهو عري الرجال وعري النساء على الشواطئ الأمريكية.

وخلاصة القول: إنّ على الوالدين أن يجيبوا على أسئلة الأطفال حول مسائل الجنس بهدوء لا تزمّت فيه، وأن يبعدوهم عن الإثارة الجنسية بمختلف ألوانها وأشكالها، وخصوصاً في عصر السينما والتلفزيون والفيديو.

____________________

(1) مشاكل الآباء: 284.

٨٣

تاسعاً: تنمية العواطف

العواطف من أهم دوافع الإنسان للعمل، وتبدأ العواطف ـ كما تقدّم ـ منذ الأيام الأُولى في مرحلة الرضاعة، ثم تنمو بالتدريج حينما يتقدّم الطفل في العمر، وحينما يتّسع محيطه الاجتماعي، ويتأثّر نمو العواطف وتغيّرها بالفكر الذي يؤمن به الطفل في حدود إدراكه العقلي، فحينما يؤمن الطفل بأنّ أداء العمل الفلاني يرضي والديه أو يرضي الله تعالى فإنّه يندفع لأدائه، والعكس صحيح. ويمكن تقسيم العواطف إلى أربعة أقسام: الفردية، والعالية، والاجتماعية، والخلقية.

ونقصد بالعواطف الفردية: هي العواطف التي تتعلّق بذات الإنسان: كحب التملّك، وحب الاستقلال، وحب التفوّق على الآخرين، وحب المكانة الاجتماعية واحترام الآخرين له، وهي العواطف التي تجلب له المنفعة الشخصية والذاتية.

والعواطف العالية: هي العواطف التي تسمو بالطفل في حدود إدراكه العقلي إلى المثل الأعلى، فتحبّب إليه الارتباط والتعلّق بالمطلق وهو الله تعالى مصدر اللطف والإنعام والرأفة والرحمة، وتحبّب إليه الحقيقة والخير، وليس فيها تحصيل المنفعة الشخصية والذاتية.

والعواطف الاجتماعية: هي العواطف التي تدفعه إلى الارتباط بالآخرين، ابتداءً بالوالدين والإخوة والأخوات والأقارب وانتهاءً بالمجتمع والإنسانية جمعاء.

٨٤

والعواطف الخُلُقية: هي العواطف التي تتعلّق بالممنوع وغير الممنوع من أنواع السلوك، كالتعلّق بالصدق وترك الكذب، وسائر الأخلاق الممدوحة والمذمومة.

وأفضل الطرق والوسائل لتنمية العواطف عند الطفل من قِبل الوالدين: إشعاره بالحب عن طريق إحاطته بالحنان والرأفة، وإشباع حاجاته المادية والروحيّة، فإذا استشعر الطفل بذلك فانّه يرتبط ارتباطاً عاطفياً بمصدر الحب والحنان، وهما الوالدان، فتزداد ثقته بهما وتقليدهما، والاستجابة أو الاقتناع بكل ما يطرحانه عليه من أفكار ومفاهيم ومُثُل، ويكون مستعدّاً للاستجابة إلى أوامرهم وتنفيذ ما يطلبانه منه، فتصبح لهما القدرة على الهيمنة على عواطفه، وتوجيهها توجيهاً حسناً، ومتابعة خبراته ونشاطاته وخصوصاً أثناء اللعب، فيتمّ لهما العمل على تنمية عواطفه وتهذيبها بالصورة المنسجمة مع المفاهيم والقيم الصالحة، وخلق التوازن بين مختلف أنواع العواطف لديه، وأهم العواطف التي يجب تنميتها هي العاطفة نحو الله تعالى، فتنمو عنده مشاعر الحب والثقة بالله تعالى والتقديس له، حينما يؤمن بأنّ الله تعالى هو مصدر الإنعام والرحمة والمغفرة، وأنّه تعالى خلق النعيم الدائم في الجنّة للصالحين والمطيعين. ويجب على الوالدين تنمية عواطف الطفل اتجاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسائر الرسل والأنبياء وأهل البيت (عليهم السلام)، وأفضل طريقة في هذا المجال هي طريق السرد القصصي الهادف، والذي يحقّق فائدتين:

الأُولى: تعميق حبّهم في قلبه.

والثانية: محاولة الاقتداء بهم بعد التعلّق بسلوكهم في الحياة.

٨٥

فتنمو في داخله العواطف المختلفة: كحب الإخلاص، وحب الكرامة، وحب الشجاعة والكرم والإيثار، وحب القيم والسلوك الصالح، والابتعاد عن كلِّ ما ابتعدوا عنه. وتنمو عواطف البغض والكره والنفور من الذين خالفوهم ووقفوا في مواجهتهم، واجتناب سلوكهم في الحاضر أو في المستقبل.

ومن الأساليب الأُخرى لتنمية العواطف: هو الإرشاد والتوجيه المستمرّين، حتى يفهم الطفل المسموح والممنوع من السلوك، وكذلك التشجيع على الارتباط والتعلّق بالقيم والأعمال الصالحة، والتشجيع على ممارستها في الواقع، فحينما يعطي شيئاً من ألعابه لطفل آخر يتم تشجيعه على ذلك بالكلام الحسن، وتعويضه بإهداء لعبة أُخرى له، وحينما يصدق في قوله، أو يحترم الآخرين، أو يرأف بالفقراء، أو يساعد إخوانه أو والديه في أداء بعض الأعمال، يُشجَّع على ذلك بالمدح والثناء والإطراء أمامه وأمام الأُسرة وأمام أقاربه وأصدقائه.

والتعامل مع الطفل كصديق يشجّعه على التعبير عن عواطفه ومشاعره المكبوتة، وهذا التعبير مفيد جداً في تحقيق التوازن العاطفي، وتهذيب العواطف غير المرضية.

ونحن نجد من خلال التجربة: أنَّ الأُسلوب القصصي من أفضل الأساليب في تنمية العواطف، وخصوصاً الأُسلوب المنسجم مع إدراكه وقدرته العقلية، فيمكن أن نقصَّ عليه قصصاً عن الطيور والحيوانات، تتضمّن القيم الصالحة والقيم الطالحة التي يتخذها الطير الفلاني أو الحيوان الفلاني، فتنمو عنده العواطف اتجاه العدل أو التعاون أو الإيثار أو

٨٦

القيم الأخلاقية الأُخرى، وتنمو عنده عاطفة حبّ المظلومين وبغض الظالمين.

والقصص عن الطيور والحيوانات مرغوبة ومحبّبة لدى أطفال هذه المرحلة، فيستمعون إليها بشوق وتلهّف أكثر من القصص الواقعية، وتتضمّن أحداثاً كثيرة تتوقّف على خيال الوالدين في السرد القصصي، وتكون شاملة لإظهار جميع أنواع وأقسام العواطف.

عاشراً: الاهتمام بالطفل اليتيم

اليتيم بعد فقد والده أو والدته أو كليهما؛ يشعر بالحرمان المطلق، حرمان من إشباع حاجاته العاطفية والروحية، وحرمان من إشباع حاجاته المادية: كالحاجة إلى المأكل والمشرب والملبس؛ فتنتابه الهواجس والمخاوف، ويخيّم عليه القلق والاضطراب. فالشعور بالحرمان من العطف والحنان له تأثيراتها السلبية على كيان الطفل وعلى بناء الشخصية، ومن خلال متابعة الواقع الاجتماعي نجد أنّ أغلب الأيتام الذين لم يجدوا العناية والاهتمام من قبل الآخرين، كانوا مضطربي الشخصية تنتابهم العُقَد النفسية، وسوء التوافق مع المجتمع الذي حرمهم من العناية والاهتمام، لذا أوصى الإسلام برعاية اليتيم رعاية خاصة، لا تقل إن لم تَزِدْ، على الرعاية الممنوحة للأطفال الآخرين، فأكدَّ على إشباع جميع حاجاتهم المادية والروحية، وكانت الآيات القرآنية المختصة برعاية الأيتام أكثر من الآيات المختصة بعموم الأطفال.

وأول الحاجات التي أكدّ الإسلام على إشباعها هي الحاجات المادية.

٨٧

قال سبحانه وتعالى: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً.. ) (1) .

( ... أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ ) (2) .

( ... وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ ) (3) .

وجعل الله تعالى لليتيم حقّاً في أموال المسلمين: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ... ) (4) .

وقال تعالى: ( قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ) (5) .

ونهى تعالى عن التصرّف بأموال اليتيم إلاّ بالصورة الأحسن التي تجدي له نفعاً وربحاً: ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) (6) .

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مَن عال يتيماً حتى يستغني، أوجب الله له بذلك الجنّة) (7) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مَن كفل يتيماً من المسلمين فأدخله إلى طعامه وشرابه،

____________________

(1) الإنسان 76: 8.

(2) البلد 90: 14 ـ 15.

(3) البقرة 2: 177.

(4) الأنفال 8: 41.

(5) البقرة 2: 215.

(6) الأنعام 6: 152.

(7) تحف العقول: 198.

٨٨

أدخله الله الجنّة البتّة، إلاّ أن يعمل ذنباً لا يُغفر) (1) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أنا وكافل اليتيم في الجنّة كهاتين ـ وهو يشير بإصبعيه ـ) (2) .

وراعى المنهج الإسلامي إشباع الحاجات المعنوية لليتيم كالإحسان إليه والعدل معه.

قال سبحانه وتعالى: ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ... ) (3) .

وقال تعالى: ( ... وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ) (4) .

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (خيرُ بيتٍ من المسلمين بيتٌ فيه يتيم يُحسن إليه، وشرّ بيتٍ من المسلمين بيتٌ فيه يتيم يُساء إليه) (5) .

وأوصى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على مداراة اليتيم والرفق به وتكريمه، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (حثّ الله تعالى على برِّ اليتامى لانقطاعهم عن آبائهم، فمَن صانهم صانه الله تعالى، ومَن أكرمهم أكرمه الله تعالى، ومَن مسح يده برأس يتيم رفقاً به؛ جعل الله تعالى له في الجنّة بكلِّ شعرة مرّت تحت يده قصراً أوسع من الدنيا وما فيها...) (6) .

وشجّع الإمام الصادق (عليه السلام) على التعامل مع اليتيم بحنان ورحمة، فقال:

____________________

(1) مستدرك الوسائل 1: 148.

(2) المحجّة البيضاء 3: 403.

(3) البقرة 2: 83.

(4) النساء 4: 127.

(5) المحجّة البيضاء 3: 403.

(6) المحجّة البيضاء 3: 403.

٨٩

(ما من عبدٍ يمسح يَدَه على رأس يتيم، ترحمّاً له، إلاّ أعطاه الله تعالى بكلِّ شعرة نوراً يوم القيامة) (1) .

ومن رعاية اليتيم معالجة المشاكل التي تواجهه، والتي تسبّب له الألم والقلق والاضطراب، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إذا بكى اليتيم اهتزّ العرش على بكائه، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي اشهدوا عليّ أنَّ مَن أسكته واسترضاه أرضيته في يوم القيامة) (2) .

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إذا بكى اليتيمُ في الأرض يقول الله مَن أبكى عبدي وأنا غيّبت أباه في التراب، فو عِزّتي وجلالي إنّ مَن أرضاه بشطر كلمة أدخلته الجنّة) (3) .

ومن الوصايا بشؤون اليتيم إدخال الفرح على قلبه بإشباع حاجاته المادية أو الروحية، من احترام وتقدير ومحبّة، أو مدح وتشجيع، إلى غير ذلك.

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنَّ في الجنّة داراً يُقال لها دار الفرح، لا يدخلها إلاّ مَن فرّح يتامى المؤمنين) (4) .

ومن الاهتمام والعناية باليتيم هو القيام بتربيته تربية صالحة، وإعداده لأن يكون عنصراً صالحاً في المجتمع، قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): (أدّب

____________________

(1) المحجّة البيضاء 3: 403.

(2) مستدرك الوسائل 2: 623.

(3) مستدرك الوسائل 2: 623.

(4) كنز العمّال 3: 170 | 6008.

٩٠

اليتيم بما تؤدّب منه ولدك...) (1) .

فاليتيم الذي يحصل على العناية والرعاية والحب والحنان، يشعر بالراحة والطمأنينة، ويعيش سوّياً في عواطفه وفي شخصيته. أمّا في حالة الحرمان، فإنّه لا يصبح سويّاً، وقد يلتقطه بعض المنحرفين فيوجّهه الوجهة غير الصالحة؛ فيصبح عنصراً ضارّاً في المجتمع.

____________________

(1) الكافي 6: 47 | 8 باب تأديب الولد.

٩١

٩٢

الفصل الخامس

المرحلة الرابعة: مرحلة الصبا والفتوّة

تبدأ هذه المرحلة من نهاية العام السابع إلى نهاية العام الرابع عشر من عمر الطفل، وهي مرحلة إعداد الشخصية، ليصبح الطفل راشداً ناضجاً وعضواً في المجتمع الكبير، وفي بداية هذه المرحلة أو قبلها بعامٍ ينتهي بالتدريج تقليد الطفل للكبار، ويبدأ بالاهتمام بما حوله، وتكون إمكانيّاته العقلية قادرة على التخيّل المجرّد، وقادرة على استيعاب المفاهيم المعنوية.

وفي هذه المرحلة يبدأ الطفل بالتفكير في ذاته، وينظر إلى نفسه أنّها كائن موجود مستقل، له إرادة غير إرادة الكبار، فيحاول أن (يتحدّى وأن يفعل ما يغيظ الأهل ليعلن أنّه كائن موجود مستقل) (1) .

ويحاول التأكيد على استقلاليّته بشتّى الوسائل والمواقف، والتي تكون غالباً مخالفة لما ألفه في المرحلة السابقة، فيختار كل ما يخصّه أو يتعلّق به بأُسلوبه الخاص وبالطريقة التي يفهمها، فيكون له ذوق خاص في اختيار ملابسه، والرغبة في اكتساب المهارات العقلية والعلمية بمفرده،

____________________

(1) حديث إلى الأُمّهات: 207.

٩٣

ويحاول إقامة علاقات اجتماعية مع بقيّة الأطفال بالطريقة التي يختارها.

وهذه المرحلة هي من أهم المراحل التي ينبغي للوالدين إبداء عناية تربوية إضافية بالطفل؛ لأنّها أول المراحل التي يدخل فيها الطفل في علاقات اجتماعية أوسع من قبل، وهي مرحلة الدخول في المدرسة.

ومن العوامل المؤثّرة في إعداد وبناء شخصية الطفل، علاقاته مع والديه وباقي أفراد أُسرته، هذه العلاقة بجميع تفاصيلها تؤدّي إلى اتّصافه بصفات خاصة تصحبه حتى الكبر، وللمدرسة أيضاً أثر عميق في شخصيته؛ حيثُ يجد فيها أطفالاً من مختلف المستويات العلمية، أكثر أو أقل منه ذكاءً أو أكثر أو أقل نشاطاً منه، (فيباريهم أو يتغلّب عليهم، أو يخضع لهم فيؤثّر ذلك في تكوين شخصيته) (1) .

وهنالك عوامل أُخرى مؤثّرة في بناء الشخصية، وهي مواصفات الجسم من حيثُ الطول والقصر، ومن ناحية الضخامة والضعف، ومن ناحية الصحّة والمرض.

ومن أهم العوامل الأُخرى هو تأثير الأفكار التي تعلّمها الطفل في بناء شخصيته، وفي هذه المرحلة تزداد حاجاته، فيجب على الوالدين إشباعها ومنها (2) : الدوافع الحيوية كالحاجة إلى المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك.

والحاجة إلى السلامة النفسية والعاطفية والتحرّر من القلق.

____________________

(1) علم النفس، لجميل صليبا: 385.

(2) علم النفس التربوي، لفاخر عاقل: 478 ـ 486.

٩٤

والحاجة إلى القبول من قِبل المجتمع أثناء علاقته به.

والحاجة إلى الاهتمام به وتقدير مكانته.

والحاجة إلى تعلّم المهارات اللازمة للنجاح في الحياة الجديدة.

ونضيف إلى ذلك الحاجة إلى فلسفة وأفكار ومفاهيم ملائمة لمستواه العقلي، وهذه المرحلة هي مرحلة الحاجة إلى التربية المكثّفة والمتابعة المكثّفة، مع ملاحظة الحاجة إلى الاستقلال المتولّدة عند الطفل.

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (الولد سيّد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين) (1) .

وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (يرخى الصبي سبعاً، ويؤدّب سبعاً، ويُستخدم سبع) (2) .

وقال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدّب سبعاً، وألزمه نفسك سبع سنين) (3) .

فهذه المرحلة مرحلة تربوية شاقّة لرغبة الطفل في الاستقلال، ولتوسع علاقاته خارج الأُسرة، فتحتاج إلى جهد متواصل في التربية والمراقبة في جميع ما يخصُّ الطفل، في أفكاره وعواطفه وفي علاقاته، وفي دراسته وتعلمّه، وفي إشباع حاجاته المختلفة، فهو بحاجة إلى التوجيه المستمر والإرشاد والتعليم، والمساعدة في رسم طريق الحياة وتحمّل ما يصدر

____________________

(1) مكارم الأخلاق: 222.

(2) مكارم الأخلاق: 223.

(3) مكارم الأخلاق: 222.

٩٥

منه برحابة صدر وانفتاح، مصحوباً بالحسم في كثير من الأحوال.

وتتحدّد معالم هذه المرحلة بما يأتي:

أولاً: تكثيف التربية

التربية الصالحة وحسن الأدب من أهم المسؤوليات الملقاة على عاتق الوالدين، وهي حق للطفل أوجبه الإسلام على الوالدين، والطفل في هذه المرحلة التي تسبق بلوغ سن الرشد، بحاجة إلى تربيّة مكثّفة وجهد إضافي، قال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (وأمّا حق ولدك... أنّك مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب والدلالة على ربّه، والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذر إلى ربّه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه والأخذ له منه) (1) .

ولحراجة المرحلة التي يمرُّ بها الطفل فانّ الوالدين بحاجة إلى الرعاية الإلهية للقيام بمهام المسؤولية التربوية، قال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (اللهّم ومُنّ عليّ ببقاء ولدي... وربِّ لي صغيرهم... وأصِحّ لي أبدانهم وأديانهم وأخلاقهم... واجعلهم أبراراً أتقياء بُصراء... وأعنّي على تربيتهم وتأديبهم وبرِّهم... وأعذني وذرّيّتي من الشيطان الرجيم) (2) .

وقد أكدّت الروايات على المبادرة إلى التربية وحسن الأدب.

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم) (3) .

____________________

(1) تحف العقول: 189.

(2) الصحيفة السجّادية الجامعة: 128 ـ 129 مؤسّسة الإمام المهدي قم 1411 هـ ط1.

(3) مستدرك الوسائل 2: 625.

٩٦

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّ للولد على الوالد حقاً، وإنّ للوالد على الولد حقّاً، فحقُّ الوالد على الولد أن يطيعه في كلِّ شيء، إلاّ في معصية الله سبحانه. وحقُّ الولد على الوالد أن يحسِّن اسمه، ويحسِّن أدبه، ويعلمّه القرآن) (1) .

والتربية في هذه المرحلة أكثر ضرورة من المراحل الأُخرى؛ لأنّ فطرة الطفل في هذه المرحلة لا تزال سليمة ونقيّة، تتقبّل ما يُلقى إليها من توجيهات وإرشادات ونصائح، قبل أن تتلوّث ويستحكم التلوّث فيها، فيجب على الوالدين استثمار الفرصة لأداء المسؤولية التربوية.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيّته للإمام الحسن (عليه السلام): (... وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيءٍ قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبُّك، لتستقبل بجدِّ رأيكَ من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته..) (2) .

وقال (عليه السلام): (علمّوا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم) (3) .

والمنهج التربوي المراد تحكيمه في الواقع، هو المنهج الإسلامي الذي يدور حول العبودية والطاعة لله تعالى في كلِّ شؤون الحياة.

قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): (اعملوا الخير وذكّروا به أهليكم، وأدّبوهم على طاعة الله) (4) .

____________________

(1) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 546.

(2) نهج البلاغة: 393.

(3) كنز العمّال 2: 539 | 4675.

(4) مستدرك الوسائل 2: 362.

٩٧

وقال (عليه السلام): (تأمرهم بما أمر الله به وتنهاهم عمّا نهاهم الله عنه...) (1) .

وهذا الحديث جامع للقواعد الكلّيّة، التي تقوم عليها أعمدة المنهج التربوي السليم، في كلِّ جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، العاطفية والروحية، فإذا أبدى الوالدان عناية فائقة في العمل على ضوء المنهج التربوي، فإنّ الطفل سيكون عضواً صالحاً في المجتمع.

وقد كان أهل البيت (عليهم السلام) قد أبدوا عناية خاصة بتربية أبنائهم في هذه المرحلة؛ حتى أعدّوهم إعداداً متكاملاً فكانوا قمّة ونموذجاً أعلى في كلِّ شيء، فأمير المؤمنين (عليه السلام) تربّى في مرحلة الصبا في بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل أن يُبعث، فآمن في اللحظات الأُولى لدعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأخلص في إيمانه وطاعته لله ولرسوله، وكان قمّة في الشجاعة والإقدام، وفي التضحية والفداء، وفي الكرم والتواضع والصدق، وفي كلِّ الفضائل الخُلُقية، وربّى (عليه السلام) بدوره أبناءه فكانوا على شاكلته في الارتقاء إلى القمّة الشامخة في جميع المكارم والفضائل، وهكذا كان بقيّة الأئمّة (عليهم السلام).

وتزداد مسؤولية الوالدين في التربية والتأديب كلمّا ابتعد المجتمع عن الإسلام، أو كان مجتمعاً إسلامياً في الظاهر ولم يتبنَّ الإسلام منهاجاً له في الواقع العملي، لتأثير العادات والتقاليد والأفكار والمناهج التربوية غير السليمة على تربية الطفل، وخصوصاً أجهزة الإعلام: كالراديو والتلفزيون والسينما وغيرها.

ويلحق بالتربية الروحية والنفسية والعاطفية، شطرها الآخر وهو التربية

____________________

(1) بحار الأنوار 100: 74.

٩٨

البدنية، فهي ضرورية جداً للطفل للحفاظ على صحّته البدنية وإعداده للعمل البدني، حيثُ حثّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على التربية البدنية قائلاً: (علمّوا أولادكم السباحة والرماية) (1) .

وجعل الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) حمل الطفل وتدريبه على الأُمور الشاقّة من المستحبّات فقال: (تستحب عرامة الصبي في صغره ليكون حليماً في كبره) (2) .

والصحة البدنية لها تأثير واضح على الصحّة النفسيّة كما هو مشهور عند علماء النفس والتربية (3) .

ثانياً: المبادرة إلى التعليم

التعليم في هذه المرحلة ضروري للطفل، فهي أفضل مرحلة للمبادرة إلى التعليم، لنضوج القوى العقلية عند الطفل، وللرغبة الذاتية لدى الطفل في (اكتساب المهارة العلمية) (4) .

والطفل في هذه المرحلة لديه الاستعداد التام لحفظ كل ما يُلقى على مسامعه، والتعليم في هذهِ المرحلة يساعد على رسوخ المعلومات في ذهنه وبقائها محفوظة في الذاكرة، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مثل الذي يتعلّم في صغره كالنقش في الحجر) (5) .

____________________

(1) الكافي 6: 47 | 4 باب تأديب الولد.

(2) الكافي 6: 51 | 2 باب 37 من كتاب العقيقة.

(3) علم النفس، لجميل صليبا: 383.

(4) حديث إلى الأُمّهات: 217.

(5) كنز العمّال 10: 294 | 29336.

٩٩

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (حفظ الغلام كالوسم على الحجر) (1) .

ولضرورة تعليم الطفل أوصى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الوالدين به: (مروا أولادكم بطلب العلم) (2) .

وجعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تعليم الطفل باباً من أبواب الرحمة الإلهية للأب، فقال: (رحم الله عبداً أعان ولده على برّه بالإحسان إليه، والتآلف له وتعليمه وتأديبه) (3) .

والتعليم حق للطفل على والديه، قال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (... وأمّا حق الصغير فرحمته وتثقيفه وتعليمه...) (4) .

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (من حقِّ الولد على والده ثلاثة: يحسّن اسمه، ويعلّمه الكتابة، ويزوجّه إذا بلغ) (5) .

والتعليم على القراءة والكتابة في عصرنا الراهن تقوم به المؤسّسات التعليمية وخصوصاً المدرسة، ولكنّ ذلك لا يعني انتفاء الحاجة إلى الوالدين في التعليم، بل يجب التعاون بين المدرسة والوالدين في التعليم.

ويجب أن يكون التعليم غير مقتصر على القراءة والكتابة بل يكون

____________________

(1) كنز العمّال 10: 238 | 29258.

(2) كنز العمّال 16: 854 | 45953.

(3) مستدرك الوسائل 2: 626.

(4) تحف العقول: 194.

(5) مكارم الأخلاق: 220.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

التوسل بالأسباب غير الطبيعية

إلى هنا تبيَّن أنّ النظرة إلى الأسباب الطبيعية بلحاظ أنّها علل غير مستقلة عين التوحيد، وبلحاظ استقلالها في التأثير عين الشرك، وأمّا غير الطبيعية من العلل فحكمها حكم الطبيعية حيث إنّ التوسل على النحو الأوّل عين التوحيد، وعلى النحو الثاني عين الشرك حرفاً بحرف، غير أنّ الوهابيين جعلوا التوسل بغير الطبيعية من العلل توسّلاً ممزوجاً بالشرك ويقول المودودي في ذلك :

« فالمرء إذا كان أصابه العطش ـ مثلاً ـ فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء لا يطلق عليه حكم « الدعاء » ولا أنّ الرجل اتخذ الخادم إلهاً، وذلك إنّ كل ما فعله الرجل جار على قانون العلل والأسباب، ولكن إذا استغاث بولي في هذا الحال فلا شك انّه دعاه لتفريج الكربة واتَّخذه إلهاً.

فكأنِّي به يراه سميعاً بصيراً، ويزعم أنّ له نوعاً من السلطة على عالم الأسباب ممّا يجعله قادراً على أن يقوم بإبلاغه الماء، أو شفائه من المرض.

وصفوة القول: إنّ التصوّر الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرع إليه هو لا جرم تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ الطبيعة.

إنّ الحديث حول هذا المقام يقع في موردين :

الأوّل: إذا اعتقد إنسان بأنّ للظاهرة المعينة سببين: طبيعياً، وغير طبيعي. فإذا يئس من الأوّل ولاذ بالثاني، فهل يعد فعله شركاً أو لا ؟

الثاني: إذا اعتقد بأنّ لشخص خاص سلطة غيبية على الكون بإذنه سبحانه، فهل يعد هذا الاعتقاد اعتقاداً بإلوهيته ؟

٥٢١

وقد حققنا القول حول الأمر الثاني ونركّز البحث على الأمر الأوّل، فنقول :

إذا اعتقد إنسان بأنّ لبرئه من المرض طريقين أحدهما طبيعي والآخر غير طبيعي، وقد سلك الطريق الأوّل ولم يصل إلى مقصوده فعاد يتوسل إلى مطلوبه بالتمسك بالسبب الثاني كمسح المسيح يديه عليه، فهل يعد اعتقاد هذا وطلبه منه شركاً وخروجاً عن جادة التوحيد أو لا ؟

وأنت إذا لاحظت الضوابط التي قد تعرفت عليها في تمييز الشرك عن غيره لقدرت على الإجابة بأنّه لا ينافي التوحيد ولا يضاده بل يلائمه كمال الملاءمة فإنّه يعتقد بأنّ الله الذي منح الأثر للأدوية الطبيعية أو جعل الشفاء في العسل هو الذي منح المسيح قدرة يمكنه أن يبرئ المرضى بإذنه سبحانه، ومعه كيف يعد اعتقاده هذا شركاً ؟

وبكلام آخر: انّ الشرك عبارة عن الاعتقاد باستقلال شيء في التأثير بمعنى أن يكون أثره مستنداً إليه لا إلى خالقه وبارئه والمفروض عدمه، ومع ذلك كيف يكون شركاً، والتفريق بين التوسل بالأسباب الطبيعية وغيرها بجعل الأوّل موافقاً للتوحيد دون الثاني تفريق بلا جهة، فإنّ نسبتها إلى الله سبحانه في كون التأثير بإذنه سواسية.

نعم يمكن لأحد أن يخطّئ القائل في سببية شيء، ويقول بأنّ الله لم يمنح للولي الخاص تلك القدرة وانّه عاجز عن الإبراء، ولكنه خارج عن محط بحثنا، فإنّ البحث مركز على تمييز الشرك عن غيره لا على إثبات قدرة لأحد أو نفيها عنه وأظن أنّ القائلين بكون هذا الاعتقاد والطلب شركاً لو ركزوا البحث على تشخيص ملاك الشرك عن غيره لسهل لهم تمييز الحق عن غيره، إذ أي فرق بين الاعتقاد بأنّ الله وهب الإشراق للشمس والإحراق للنار وجعل الشفاء في العسل ،

٥٢٢

وبين أنّه هو الذي أقدر وليه مثل المسيح وغيره على البرء، أو أنّه أعطى للأرواح المقدسة من أوليائه قدرة على التصرف في الكون وإغاثة الملهوف.

وقد ورد في القرآن الكريم نماذج من إعطاء آثار خاصة لعلل غير طبيعية تلقي الضوء على ما ذكرنا، فإليك بيانها :

١. انّ القرآن يصف عجل السامري بقوله:( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هٰذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ ) (١) .

فبعد ما رجع موسى من الميقات ورأى الحال، سأل السامري عن كيفية عمله، وانّه كيف قدر على هذا العمل البديع ؟ فأجاب:

( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) (٢) .

فعلّل عمله هذا بأنّه أخذ قبضة من أثر الرسول فعالج بها مطلوبه فعاد العجل ذا خوار، وهذا يعطي أنّ التراب المأخوذ من أثر الرسول كان له أثر خاص وقد توسل به السامري.

٢. انّ القرآن يصف كيفية برء يعقوب مما أصاب عينيه، ويقول حاكياً عن يوسف أنّه قال :

( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) (٣) .

__________________

(١) طه: ٨٨.

(٢) طه: ٩٦.

(٣) يوسف: ٩٣.

٥٢٣

( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلْمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (١) .

فإذا اعتقد الإنسان بأنّ الذي خلق في التراب المأخوذ من أثر الرسول المعين أثراً خاصاً بحيث إذا امتزج مع الحلي يجعلها ذات خوار، أو منح للقميص ذلك الأثر العجيب هو الذي أعطى لسائر العلل غير الطبيعية آثاراً خاصة يستفيد منها الإنسان في ظروف معينة، فهل يجوز لنا رمي المعتقد بهذا، بأنّه مشرك، وأي فرق بين ما أخذ السامري من أثر الرسول وقميص يوسف وسائر العلل مع أنّ الجميع علل غير مألوفة.

إنّ التوسل بالأرواح المقدسة والاستمداد بالنفوس الطاهرة الخالدة عند ربها نوع من التمسك بالأسباب في اعتقاد المتمسك وقد قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (٢) .

وأمّا البحث عن أنّ هذه الأرواح والنفوس هل في مقدورها أن تغيث من يستغيث بها أو لا ؟ فهو خارج عما نحن بصدده.

__________________

(١) يوسف: ٩٦.

(٢) المائدة: ٣٥.

٥٢٤

٨

المعايير الثلاثة المتوهمَّة للشِّرك

١. هل الحياة والموت حدّان للتوحيد والشرك ؟

لا شك أنّ التعاون، والتعاضد بين أبناء الإنسان أساس الحياة، وما التاريخ الإنساني إلّا حصيلة الجهود البشرية التي نبعت من التعاون، وتقاسم المسؤوليات والاستفادة المتبادلة من الطاقات الإنسانية.

والقرآن حافل بنماذج كثيرة من استمداد البشر بمثله، إذ يقول :

( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَىٰ الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَى عَلَيْهِ ) (١) .

إذن فاستمداد الإنسان بالإنسان الآخر أمر واقع في الحياة البشرية وجائز عند جميع الأُمم غير أنّ للوهابيين تفصيلاً في المقام يرونه هو الحد الطبيعي الفاصل بين التوحيد والشرك.

فيقولون: إنّ التوسل بالأنبياء والأولياء جائز في حال حياتهم دون مماتهم

__________________

(١) القصص: ١٥.

٥٢٥

ويقول: محمد بن عبد الوهاب في هذا الصدد :

« وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي رجلاً صالحاً تقول له: ادع الله لي كما كان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يسألونه في حياته، وأمّا بعد مماته فحاشا وكلا أن يكونوا سألوا ذلك، بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره فكيف بدعاء نفسه »(١) .

إنّ للتوحيد والشرك معايير خاصة بها يمتاز أحدهما عن الآخر وإنّ الإسلام لم يترك تحديد تلك المعايير إلينا، بل حدّد كل واحد بحد خاص.

وقد ألمعنا بها فيما سبق ولم يذكر في تلك المعايير أنّ الحياة والموت حدّان للتوحيد والشرك.

وستعرف أنّه لا مدخلية لحياة المستغاث منه ومماته في تحديد الشرك أو التوحيد مطلقاً، لأنّ الاستمداد والاستغاثة بالحي مع الاعتقاد باستقلاله في القدرة والتأثير، وأصالته في إغاثة المستغيث يوجب الشرك، وكون الاستغاثة بالحي أمراً رائجاً بين العقلاء لا يوجب صحتها إذا كانت مقرونة مع الاعتقاد باستقلال المستغاث في الإغاثة، لأنّ الدارج بين العقلاء هو: أصل الاستغاثة بالحي لا باعتباره مستقلاً في العمل.

فلا تكون استغاثة شيعة موسى مطابقة للتوحيد إلّا في صورة واحدة وهي: أن لا يعتقد معها باستقلال موسى في التأثير، بل يجعل قدرته، وتأثيره في طول القدرة الإلهية، ومستمدة منه تعالى.

__________________

(١) كشف الارتياب: ٢٧١ نقلاً عن كشف الشبهات تأليف محمد بن عبد الوهاب، طبع مصر ص ٧٠.

٥٢٦

إنّ نفس هذه الحقيقة جارية في الاستمداد، والاستغاثة ب‍ « الأرواح المقدسة » العالمة الشاعرة حسب إخبار القرآن وتأييد العلوم الحديثة، فإذا استغاث شيعة موسىعليه‌السلام به بعد خروج روحه عن بدنه بهذه العقيدة لم يكن عمله شركاً، ولم يجعل موسى شريكاً لله لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال، ولا في العبادة، ولم يعبد موسى بهذه الاستغاثة والطلب.

وأمّا لو استغاث به وهو يعتقد باستقلال روحه في الإغاثة ويعتقد بأنّها قادرة على التأثير دون القدرة الإلهية، فإنّ هذا المستغيث يعد مشركاً ويكون موسى ـ كما يقتضي اعتقاده ـ في صف الآلهة.

ولو كانت حياة المستغاث ومماته مؤثرة في الأمر، فإنّما تكون مؤثرة في جدوائية الاستغاثة أوّلاً، لا في تحديد التوحيد والشرك، والبحث عن الجدوائية وخلافها خارج عن موضوع بحثنا.

ومن العجب العجاب اعتبار التوسل والاستغاثة بالحي والاستشفاع به عين التوحيد، وعد هذه الاستغاثة والاستشفاع ـ مع نفس الخصوصيات ـ بميت شركاً وفاعلها واجب الاستتابة مستحق القتل.

إنّ الوهابيين يسلمون انّ الله سبحانه أمر العصاة بأن يذهبوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويطلبوا منه أن يستغفر لهم أخذاً بظاهر الآية ( النساء ـ ٦٤ )، كما يسلمون أنّ أولاد يعقوب طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم ( يوسف ٩٧ ـ ٩٨ ) غير أنّهم يقولون: إنّ هذين الموردين إنّما ينطبقان مع أُصول التوحيد لأجل حياة المستغاث، وأمّا إذا سئل ذلك في مماته عدّ شركاً.

غير أنّ القارئ النابه جد عليم بأنّ حياة الرسول ومماته لا يغيِّران ماهية العمل، إذ لو كان التوسل شركاً حقيقة للزم أن يكون كذلك في الحالتين من دون

٥٢٧

فرق بين حالتي الحياة والممات.

ولو اعترض على الاستغاثة بالميت بأنّه عمل عبثي أوّلاً، وبدعة لم يرد في الشرع ثانياً فيقال في جوابه :

أوّلاً: انّ هذا العمل إنّما يصطبغ بلون البدعة إذا أتى به المستغيث بعنوان كونه وارداً في الشرع وأمّا لو أتى به من جانب نفسه من دون أن ينسبه إلى مقام فلا يعد بدعة وإحداثاً في الدين، لأنّ البدعة هو إدخال ما ليس من الدين في الدين، وهو فرع الإتيان بالعمل بما أنّه أمر ديني.

وثانياً: أنّ البحث في المقام إنّما هو عن تحديد التوحيد والشرك ولا عن كون العمل مفيداً أو غيره أو بدعة وغير بدعة، فكل ذلك خارج عن بحثنا، أضف إلى ذلك أنّه قد ثبت في محله مشروعية التوسّل بالأرواح المقدسة بالدلائل النقلية الصريحة(١) .

وعلى كل حال لا يمكن اعتبار الاستغاثة بالميت شركاً، إذ هو لم يشرك بعمله بالله أبداً لا في الذات ولا في الصفات ولا في الفعل ليخرج بذلك عن توحيد الربوبية، ولا في العبادة ليخرج عن التوحيد في العبادة.

إنّ المفتاح لحل هذه المشكلة هو ما ذكرناه في تحديد معنى الشرك والتوحيد وهو انّ الاعتقاد باستقلال الفاعل في ذاته وفعله والتوجه به كذلك يعد شركاً في العبادة، كما أنّ الاعتقاد بعدم استقلاله في ذاته وصفاته وأفعاله يعد اعترافاً بعبوديته ويعد التوجّه به تكريماً واحتراماً، ولو تناسينا هذه القاعدة لما وجد على أديم الأرض موحد أبداً.

__________________

(١) راجع للوقوف على تلك الأدلة كشف الارتياب: ٣٠١.

٥٢٨

وفيما لي نلفت نظر القارئ الكريم إلى كلام لتلميذ ابن تيمية في هذا المجال، يقول ابن القيم :

ومن أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإنّ الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً »(١) .

وما ذكره من الدليل لا يثبت مدّعاه لأنّ قوله: « فإنّ الميت قد انقطع عمله » دليل على عدم فائدة الاستغاثة بالميت، وليس دليلاً على كونها شركاً، وهو لم يفرق بين الأمرين، والأغرب من ذلك قوله: « وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً »، إذ لا فرق في ذلك بين الحي والميت، فلا يملك أحد ضراً لنفسه ولا نفعاً بدون إذن الله وإرادته، سواء أكان حياً أم ميتاً، ومع الإذن الإلهي يملكون النفع والضر أحياء كانوا أم أمواتاً.

ومن هذا اتضح ضعف ما أفاده ابن تيمية، إذ قال :

كل من غلا في نبي، أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني، فكلّ هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب، وإلاّ قتل(٢) .

إذا كانت الاستغاثة ب‍ « الأرواح المقدسة » ( الأموات حسب تعبير الوهابيين ) ملازمة لنوع من الاعتقاد بإلوهية تلك الأرواح، إذن يلزم أن تكون الاستغاثة بأي شخص ـ أعم من الحي والميت ـ ملازمة لمثل هذا الاعتقاد، لأنّ حياة المستغاث ومماته حد لجدوائية الاستغاثة ولا جدوائيتها لا أنّها حد التوحيد، وللشرك في حين

__________________

(١) فتح المجيد: ٦٨ الطبعة السادسة.

(٢) المصدر السابق: ١٦٧.

٥٢٩

انّ الاستغاثة بالحي يعد من أشد ضروريات الحياة الاجتماعية البشرية، ومما به قوامها.

وإليك فيما يلي نبذة أُخرى من كلام ابن تيمية في هذا الصدد، فهو يقول :

« والذين يدعون مع الله آلهة أُخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنّها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر وإنّما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم يقولون ما نعبدهم إلّا ليقربونا إلى الله زلفى، أو هؤلاء شفعاؤنا »(١) .

إنّ قياس الاستغاثة بأولياء الله بما كان يقوم به المسيحيون والوثنيون ابتعاد عن الموضوعية، لأنّ المسيحيين كانوا يعتقدون في حق المسيح بنوع من الإلوهية، وكان الوثنيون يعتقدون بأنّ الأوثان تملك بنفسها مقام الشفاعة، بل كان بعضهم ـ على ما نقل ابن هشام ـ يعتقد بأنّها متصرفة في الكون، ومرسلة الأمطار(٢) ـ على الأقل ـ، ولأجل هذا الاعتقاد كان طلبهم واستغاثتهم بالمسيح وبتلك الأوثان عبادة لها.

فعلى هذا إذا كانت الاستغاثة مقرونة بالاعتقاد بالوهية المستغاث كانت شركاً حتماً، وأمّا إذا كانت الاستغاثة ـ بالحي أو الميت ـ خالية وعارية عن هذا القيد لم تكن شركاً ولا عبادة بل استغاثة بعبد نعلم أنّه لا يقوم بشيء إلّا بإذنه سبحانه.

نعم يجب في موارد الاستغاثة بالموتى أن نبحث في فائدة مثل هذه الاستغاثة وعدم فائدتها، لا في كونها شركاً وعبادة لغير الله، والكلام إنّما هو في الثاني دون الأوّل.

__________________

(١) المصدر السابق: ١٦٧.

(٢) راجع قصة عمرو بن لحي المذكورة في ص ٣٨٢ من هذا الكتاب.

٥٣٠

تعظيم أولياء الله وإحياء ذكرياتهم ؟

ينزعج الوهابيون ـ بشدة ـ من تعظيم أولياء الله وتخليد ذكرياتهم، وإحياء مناسبات مواليدهم أو وفياتهم، ويعتبرون اجتماع الناس في المجالس المعقودة لهذا الشأن شركاً وضلالاً، ففي هذا الصدد يكتب محمد حامد الفقي، رئيس جماعة أنصار السنّة المحمدية في هوامشه على كتاب فتح المجيد :

« الذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم »(١) .

إنّّ هؤلاء لم يعينوا حدّاً للتوحيد والشرك، وللعبادة على الأخص، ولذلك رموا كل عمل بالشرك حتى أنّهم تصوروا أنّ كل نوع من التعظيم عبادة وشرك.

ولأجل ذلك جعل الكاتب « العبادة » إلى جانب التعظيم وتصور أنّ للّفظتين معنى واحداً، ومما لاشك فيه أنّ القرآن يعظم فريقاً من الأنبياء والأولياء بعبارات صريحة كما يقول في شأن زكريا ويحيىعليهما‌السلام :

( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) (٢) .

فلو أنّ أحداً أقام مجلساً عند قبر من عناهم الله وسماهم في هذه الآية، وقرأ في ذلك المجلس هذه الآية المادحة، معظماً بذلك شأنهم، فهل اتبع غير القرآن ؟!

كما ويقول في شأن أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (٣) .

__________________

(١) فتح المجيد: ١٥٤ ثم نقل عن كتاب قرة العيون ما يشابه هذا المضمون.

(٢) الأنبياء: ٩٠.

(٣) الدهر: ٨.

٥٣١

فهل ترى لو اجتمع جماعة في يوم ميلاد علي بن أبي طالب ـ وهو أحد الآل ـ وقالوا: إنّ علياً كان يطعم الطعام للمسكين واليتيم والأسير، كانوا مشركين ؟

أو ترى لماذا يكون مشركاً لو أنّ أحداً تلا الآيات المادحة لرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في حفلة عامة في يوم مولده الشريف كالآيات التالية :

( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) .

( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً *وَدَاعِياً إِلىٰ اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ) (٢) .

( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (٣) .

( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَىٰ النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٤) .

فلو تلا أحد هذه الآيات المثنية على النبي، أو قرأ ترجمتها بلغة أُخرى، أو سكب هذا المديح الإلهي القرآني في قالب الشعر وأنشد ذلك في مجلس كان مشركاً ؟!

إنّ عدم وجود هذه الاحتفالات في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس دليلاً على كونها شركاً، وأقصى ما يمكن أن يقال أنّها بدعة لا شركاً ولا عبادة للإنسان الصالح، بل لا تعد بدعة، إذ لو نسب إقامة الاحتفالات التكريمية أو مجالس العزاء في

__________________

(١) القلم: ٤.

(٢) الأحزاب: ٤٥ ـ ٤٦.

(٣) التوبة: ١٢٨.

(٤) الأحزاب: ٥٦.

٥٣٢

الذكريات، إلى الشارع المقدس وادّعى بأنّ الله أمر بذلك يلزم أن نفحص عن مدى صحة هذه النسبة وصدق هذا الادّعاء، لا أن نصف إقامة هذه المجالس بأنّها شرك.

وأمّا لو أقامها من جانب نفسه من دون أن يسندها إلى أمره سبحانه فلا تكون بدعة بتاتاً.

كيف لا، وهذا القرآن الكريم يثني على أُولئك الذين أكرموا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعظموا شأنه، وبجّلوه، إذ يقول :

( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (١) .

إنّ الأوصاف التي وردت في هذه الآية والتي استوجبت الثناء الإلهي هي :

١. آمنوا به.

٢. وعزّروه.

٣. ونصروه.

٤. واتّبعوا النور الذي أُنزل معه.

فهل يحتمل أحد أن تختص هذه الجمل الثلاث :

« آمنوا به، ونصروه، واتبعوا » بزمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ الجواب: لا.

فإنّ الآية لا تعني الحاضرين في زمن النبي ـ خاصة ـ، فعندئذٍ من القطعي أن لا تختص جملة « عزَّروه » بزمان النبي، أضف إلى ذلك أنّ القائد العظيم يجب أن يكون موضعاً للتكريم والاحترام والتعظيم في كل العهود والأزمنة.

__________________

(١) الأعراف: ١٥٧.

٥٣٣

فهل إقامة المجالس لإحياء ذكريات: المبعث أو المولد النبوي، وإنشاء الخطب والمحاضرات والقصائد والمدايح إلّا مصداق جلي لقوله تعالى:( وَعَزَّرُوهُ ) والتي تعني: أكرموه وعظّموه.

عجباً كيف يعظم الوهابيون أُمراءهم بالاحترام الذي يفوق ما يفعله غيرهم تجاه أولياء الله فلا يكون ذلك شركاً، وأمّا إذا أتى أحد بشيء يسير من ذلك في حقهم عد شركاً ؟!

إنّ المنع عن تعظيم الأنبياء والأولياء وتكريمهم ـ أحياءً وأمواتاً ـ يصور الإسلام في نظر الأعداء ديناً جامداً لا مكان فيه للعواطف الإنسانية كما يصور تلك الشريعة السمحاء المطابقة للفطرة الإنسانية ديناً يفقد الجاذبية المطلوبة القادرة على اجتذاب أهل الملل الأُخرى واكتسابهم.

ماذا يقول ـ الذين يخالفون إقامة مجالس العزاء للشهداء في سبيل الله ـ في قصة يعقوبعليه‌السلام ؟ وماذا يقولون فيه وهو يبكي على ابنه أسفاً وحزناً في فراق ولده يوسف، ليله ونهاره، ويسأل كل من لقيه عن ابنه المفقود حتى يفقد بصره، كما يقول سبحانه:( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ ) (١) .

فلماذا يكون إظهار مثل هذه العلاقة في حال حياة الولد جائزاً ومشروعاً ومطابقاً لأُصول التوحيد بينما إذا كان في حال مماته عد شركاً ؟!

فإذا اتبع أحد طريق يعقوب فبكى على فراق أولياء الله وأحبائه يوم استشهادهم، فلماذا لا يعد عمله اقتداء بيعقوبعليه‌السلام .

لا ريب في أنّ مودة ذوي القربى هي إحدى الفرائض الإسلامية التي دعا

__________________

(١) يوسف: ٨٤.

٥٣٤

إليها بأوضح تصريح، فلو أراد أحد أن يقوم بهذه الفريضة الدينية بعد أربعة عشر قرناً فكيف يمكنه، وما هو الطريق إلى ذلك ؟ هل هو إلّا أن يفرح في أفراحهم، ويحزن في أحزانهم ؟

فإذا أقام أحد ـ لإظهار مسرته ـ مجلساً يذكر فيه حياتهم، وتضحياتهم أو يبين مصائبهم، فهل فعل إلّا إظهار المودة، المندوبة إليها في القرآن الكريم ؟! وإذا زار أحد ـ لإظهار مودة أكثر ـ مقابر أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقام مثل هذه المجالس عند تلكم القبور، فإنّه لم يفعل ـ في نظر العقلاء ـ إلّا إظهار المودة.

التبرّك بآثار النبي والأولياء

قد جرت سنّة السلف الصالح على التبرك بآثار النبي وآله سنّة قطعية لا يشك فيها كل من له إلمام بتاريخ المسلمين(١) غير انّ الوهابيين أنكروا ذلك أشد الإنكار وعدّوه شركاً وإن كان ذلك بدافع محبة النبي وآله ومودّتهم.

غير انّ المتبرّك إذا اعتمد في عمله على عمل يعقوب حيث وضع قميص يوسف على عينيه، فارتد بصيراً، هل يصح لنا رميه بالشرك ؟! إذ أي فرق بين التبرّك بآثار النبي وآثار سائر الأولياء وتبرّك يعقوب بقميص يوسف، قال سبحانه:( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) (٢) .

__________________

(١) لقد ألّف الشيخ محمد طاهر المكي المعاصر كتاباً في ذلك وأسماه ( تبرك الصحابة بآثار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ) نقل فيه شواهد تأريخية قطعية على تبركهم وتبرك التابعين بآثارهصلى‌الله‌عليه‌وآله قاطبة، وقد طبع ذلك الكتاب عام ١٣٨٥ ه‍، ثم أُعيد طبعه عام ١٣٩٤ ه‍.

(٢) يوسف: ٩٦.

٥٣٥

خاتمة المطاف

إنّ من يلاحظ عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وما تلاه من عصور التحول العقائدي والفكري يجد إقبال الأُمم المختلفة ذات التقاليد والعادات المتنوعة على الإسلام وكثرة دخولهم واعتناقهم هذا الدين، ويجد أنّ النبي والمسلمين كانوا يقبلون إسلامهم، ويكتفون منهم بذكر الشهادتين دون أن يعمدوا إلى تذويب ما كانوا عليه من عادات اجتماعية، وصوغهم في قوالب جديدة تختلف عن القوالب والعادات والتقاليد السابقة تماماً.

وقد كان احترام العظماء ـ أحياءً وأمواتاً ـ وإحياء ذكرياتهم والحضور عند القبور، وإظهار العلاقة والتعلّق بها من الأُمور الرائجة بينهم.

واليوم نجد الشعوب المختلفة ـ الشرقية والغربية ـ تعظم وتخلد ذكريات عظمائها، وتزور قبور أبنائها، وتتردّد على مدافنهم، وتسكب في عزائهم الدموع والعبرات، وتعتبر كل هذا الصنيع نوعاً من الاحترام النابع من العاطفة والمشاعر الداخلية الغريزية.

وصفوة القول: إنّنا لا نجد مورداً عمد فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قبول إسلام الوافدين والداخلين فيه بعد أن يشرط عليهم أن ينبذوا تقاليدهم الاجتماعية هذه، وبعد أن يفحص عقائدهم، بل نجدهصلى‌الله‌عليه‌وآله يكتفي من المعتنقين الجدد للإسلام بذكر الشهادتين ورفض الأوثان.

وإذا كانت هذه العادات والتقاليد شركاً لزم أن لا يقبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام تلك الجماعات والأفراد إلّا بعد أن تتعهد له بنبذ تلكم التقاليد والمراسم.

والحاصل: أنّ ترك التوسّل بالأولياء والتبرّك بآثارهم وزيارة قبورهم لو كان

٥٣٦

شرطاً لتحقق الإيمان المقابل للشرك والصائن للدم والمال لوجب على نبي الإسلام اشتراط ذلك كله ( أي ترك هذه الأُمور ) عند وفود القبائل على الإسلام وللزم التصريح به على صهوات المنابر وعلى رؤوس الأشهاد مرة بعد أُخرى، ولو صرح بذلك لما خفي على المسلمين، إذن فكل ذلك يدل على عدم اشتراط ترك هذه الأُمور، وليس ذلك إلّا لأنّ تركها ليس شرطاً لتحقّق الإيمان ورفض الشرك ولعدم كون الآتي بها مجانباً للإيمان ومعتنقاً للشرك.

ولو كان التوسل والتبرك والزيارة ملازماً للاعتقاد بالإلوهية لما خفى ذلك على المسلمين الذين جرت سيرتهم العملية على ذلك حتى يكون عملهم مخالفاً لاعترافهم بإله واحد، وقد أوضحنا معنى الإلوهية في هذا الفصل الصفحة ٤٨٧ فراجع.

وقد تواترت الأخبار عن النبي وآله ـ صلى الله عليهم أجمعين ـ بأنّ الإسلام يحقن به الدم، ويصان به العرض، والمال، وتؤدّى به الأمانة، إلى غير ذلك من الأحكام المترتبة على الإسلام.

وحسبك أيها القارئ الكريم ما أخرجه البخاري عن ابن عباس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن :

« إنّك ستأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم »(١) .

__________________

(١) صحيح البخاري: ٥ / ١٦٢، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن.

٥٣٧

وأخرج البخاري ومسلم في باب فضائل عليعليه‌السلام أنّه(١) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم خيبر :

« لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ».

قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلّا يومئذ قال: فتساورت لها رجاء أن أُدعى لها، قال: فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال: « امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك » فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت وصرخ: يا رسول الله على ماذا أُقاتل الناس ؟

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلّا بحقها وحسابهم على الله »(٢) .

وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« بني الإسلام على خمس :

شهادة أن لا إله إلّا الله

وأنّ محمداً رسول الله

وإقام الصلاة

وإيتاء الزكاة

والحج

__________________

(١) واللفظ لمسلم، وراجع البخاري: ٢ / في مناقب عليعليه‌السلام .

(٢) صحيح مسلم: الجزء ٦، باب فضائل علي بن أبي طالب.

٥٣٨

وصوم رمضان »(١) .

وأخرج البخاري ـ أيضاً ـ عن ابن عمر انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

« أمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحق الإسلام وحسابهم على الله »(٢) .

إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية المبثوثة في كتاب الإيمان في كتب الصحاح والسنن.

وأمّا ما روي عن أئمّة أهل البيت فيكفيك ما رواه سماعة عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال :

« الإسلام: شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول الله به حقنت الدماء وجرت المناكح والمواريث »(٣) .

وكل هذه الأحاديث تصرح بأنّ ما تحقن به الدماء وتصان به الأعراض ويدخل الإنسان به في عداد المسلمين هو الاعتقاد بتوحيده سبحانه ورسالة الرسول.

وعلى ذلك جرت سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد كان يكتفي من الرجل بإظهاره

__________________

(١) راجع التاج الجامع للأُصول في أحاديث الرسول تأليف الشيخ منصور على ناصف: ١ / ٢٠.

(٢) صحيح البخاري: ج ١، كتاب الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة، وفي صحيح ابن ماجة: ٢ / ٤٥٧، باب الكف عمّن قال: لا اله إلّا الله.

(٣) الكافي ٢ / ٢٥، الطبعة الحديثة راجع باب الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان ترى فيها نصوصاً رائعة وصريحة في هذا المقام.

وراجع التاج الجزء الأوّل كتاب الإسلام والإيمان من صفحة ٢٠ إلى صفحة ٣٤.

٥٣٩

الشهادتين، ولم ير منه أنّه سأل عن الوافدين المظهرين للشهادتين: هل هم يتوسلون بالأنبياء والأولياء والقديسين أو لا ؟ هل هم يتبركون بآثارهم أو لا ؟ هل هم يزورون قبور الأنبياء أو لا ؟ فيشترط عليهم أن يتركوا التوسل والتبرك والزيارة.

أجل كل ذلك يدل على أنّ الإسلام الحاقن للدماء الصائن للأعراض والأموال هو قبول الشهادتين وإظهارهما فقط، وأمّا ما وراء ذلك فلا دخالة له في حقن الدماء والأموال والأعراض.

نعم انّ الله فرض على المسلمين عندما تنازعوا، أو اختلفوا في أمر أن يردّوه إلى الله والرسول كما قال سبحانه :.( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) (١) ، وقال سبحانه:( وَلَو رَدُّوهُ إِلَىٰ الرَّسُولِ وإلى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) .(٢) .

وعلى ذلك فليس لأحد من المسلمين سب طائفة منهم وشتمها ورميها بالكفر والإلحاد ما دامت تتمسك بالشهادتين وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وذلك لأجل توسّلهم بالأنبياء أو تبرّكهم بآثارهم، أو غير ذلك من المسائل الفكرية الدقيقة التي تضاربت فيها آراء علمائهم ونظرياتهم.

فإن طعن فيهم طاعن أو رماهم بالشرك، فقد خرج عن النهج الذي شاءه الله للمسلمين، وقال:( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) (٣) ، أو قال:( وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلمَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) .(٤) . وقال

__________________

(١) النساء: ٥٩.

(٢) النساء: ٨٣.

(٣) الأنعام: ١٥٩.

(٤) النساء: ٩٤.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672