مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن2%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154628 / تحميل: 6007
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) (١) .

والمراد بحبل الله الذي يجب الاعتصام به هو دينه المفسر بالإسلام، كما قال:( إِِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإسْلامُ ) (٢) ، والإسلام هو إظهار الشهادتين ولا ريب في وجوده في طوائف المسلمين إلّا من اتفقت كلمتهم على تكفيرهم كالخوارج والنواصب.

ومن راجع الكتاب والسنّة يجد انّهما يركزان دعوتهما على لزوم التوادد والتحابب بين المسلمين لا على التنافر، ورمي بعضهم بعضاً بالكفر، والتعدي بالضرب والشتم والقتل.

وأخرج البخاري بطرق عديدة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله انّه قال في حجة الوداع :

« انظروا ولا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ».(٣) .

فكيف يسمح الوهابيون لأنفسهم إذن بأن يرموا المسلمين الموحدين بالشرك ليس إلّا لأنّهم يظهرون ما يضمرونه من محبة وود للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بتقبيل ضريحه وتعظيمه.

٢. هل القدرة والعجز حدّان للشرك ؟

ربما يستفاد من كلمات الوهابيين أنّ هناك معياراً آخر للشرك في العبادة ،

__________________

(١) آل عمران: ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٢) آل عمران: ١٩.

(٣) البخاري: ج ٩ كتاب الفتن الباب السابع الحديث الأوّل والثاني، ورواه أيضاً في مختلف كتبه، ورواه ابن ماجة في باب سباب المسلم فسوق، راجع ٢ / ٤٦٢، ط مصر.

٥٤١

وهو « قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة وعجزه عنه »، فإذا طلب أحد من آخر حاجة لا يقدر عليها إلّا الله عدّ عمله عبادة وشركاً، فها هو ابن تيمية يكتب في هذا الصدد قائلاً :

« من يأتي إلى قبر نبي أو صالح، ويسأله حاجته، ويستنجد به، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه، أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلّا الله عزّ وجلّ، فهذ شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلاّ قتل »(١) .

لقد جعل في هذه العبارة للشرك معياراً آخر، وهو قدرة المسؤول وعجزه عن تلبية السائل، ولو كان هذا هو الميزان يجدر بابن تيمية أن يضيف بعد قوله: « قبر نبي أو صالح » جملة أُخرى هي: « أو ولي حي » ليتضح أنّ المعيار الذي اعتمده ـ هنا ـ ليس هو موت المستغاث وحياته، بل قدرته على تلبية الحاجة وعدم قدرته على ذلك، كما فعل الصنعاني ( وهو أحد مؤلّفي الوهابيين ) إذ قال: « من الأموات أو من الأحياء ».

وإليك فيما يأتي نص عبارة الصنعاني في المقام :

الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه مما لا ينكرها أحد، وإنّما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم، وطلبهم منهم أُموراً لا يقدر عليها إلّا الله تعالى من عافية المريض وغيرها، وقد قالت أُم سليم: يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له.

وقد كانت الصحابة يطلبون الدعاء منه وهو حي وهذا أمر متفق على جوازه.

__________________

(١) زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور: ١٥٦. وفي رسائل الهدية السنية: ٤٠ نجد ما يقرب من هذا المطلب أيضاً يراجع كتاب كشف الارتياب.

٥٤٢

والكلام في طلب القبوريين، من الأموات أو من الأحياء أن يشفوا مرضاهم ويردوا غائبهم، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلّا الله(١) .

وهكذا نعرف أنّ المعيار هنا هو غير ما سبق.

ففي المبحث السابق كان المعيار هو: حياة وموت المستغاث، فلم يكن الطلب من الحي موجباً للشرك بينما كان الطلب من الميت موجباً لذلك، ولكن في هذا المبحث جعلت قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة المطلوبة منه، أو عجزه عنها هي الميزان والمدار للتوحيد والشرك.

فلو سأل أحد حاجة من آخر غير الله، وكانت تلك الحاجة مما لا يقدر عليها غيره سبحانه، فإنّه يعتبر ـ حسب هذا المعيار الجديد ـ مشركاً دون أن يكون لحياة وموت المستغاث أي ربط بذلك.

فإذن لا تفاوت في هذا المعيار بين المستغاث الحي والميت.

مناقشة هذا الرأي

والحق أنّ هذا الرأي أضعف من أن يحتاج إلى مناقشة ونقد، وذلك لأنّ قدرة المستغاث أو عجزه إنّما يكون معياراً لعقلائية مثل هذا الطلب وعدم عقلائيته لا معياراً للتوحيد والشرك، فالساقط في بئر مثلاً لو استغاث بالأحجار والصخور المحيطة به واستنجد بها عد ـ في نظر العقلاء ـ عابثاً، أمّا لو استغاث بإنسان واقف عند البئر قادر على إنقاذه كان طلبه عملاً عقلائياً.

وأغلب الظن أنّ مراد الوهابيين من قولهم: « مما لا يقدر عليه إلّا الله عزّ

__________________

(١) كشف الارتياب: ٢٧٢.

٥٤٣

وجل » ليس هو التفريق بين القادر والعاجز، وانّ طلب الحاجة من الثاني شرك دون الأوّل، وإن كان هذا تفيده ظواهر كلماتهم وعباراتهم، بل المقصود من تلك الجملة هو التفريق بين طلب ما هو من فعل الله وشأنه وما لا يكون من فعله وشأنه فتكون النتيجة أنّه لو طلب واحد من غير الله ما هو من فعل الله وشأنه ارتكب شركاً، كما تشعر بذلك عبارة ابن تيمية إذ قال: « أن يسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلّا الله عزّ وجلّ »، ومثله عبارة الصنعاني إذ قال: « من عافية المريض وغيرها ».

ولا شك أنّ طلب ما هو من فعل الله وشأنه من غيره من أقسام الشرك، ويعد السائل عابداً له، وعمله عبادة، وقد سبق منّا بيان هذا القسم من الشرك عند الكلام في التعريف الثالث للعبادة، ونحن والمسلمون جميعاً نوافقهم في هذا الأصل.

إلاّ أنّ الكلام كله إنّما هو في تشخيص ما يعد فعلاً لله سبحانه عن فعل غيره، وقد سلم ابن تيمية بأنّ إشفاء المريض وقضاء الدين على وجه الإطلاق من أفعاله سبحانه، ولذلك لا يجوز طلبه من غيره مطلقاً، بيد أنّ الحق أنّ هذه الأُمور ليست من فعل الله مطلقاً بل القسم الخاص منها يعد فعلاً له سبحانه، وهو قضاء حاجة المستنجد « كإبراء المريض وقضاء الدين ورد الضالّة وغيرها من الأفعال » على وجه الاستقلال من دون استعانة بأحد.

وأمّا القسم الذي يقوم به غيره بإذنه سبحانه، وإقداره فلا يعد فعلاً خاصاً به، ولأجل ذلك لو طلب أحد هذه الأُمور من غير الله مع الاعتقاد بأنّ المستغاث يقوم بهذه الأُمور مستمداً من قدرة الله ونابعاً عن إذنه ومشيئته لم يكن شركاً.

كيف لا وقد نسب القرآن الكريم إشفاء المرضى والأكمه إلى المسيحعليه‌السلام

٥٤٤

مع التلويح بالإذن الإلهي، إذ قال:( وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي ) (١) .

كما ونسب القرآن: الخلق والتدبير والإحياء والإماتة والرزق إلى كثير من عباده مع أنّها ـ ولا شك ـ من أوضح أفعاله سبحانه ولا يقل وضوح انتسابه إلى الله مما مثل به ابن تيمية.

وليست هذه النسبة إلى غير الله إلّا لأجل ما أشرنا إليه، في محله(٢) من أنّ ما يعد فعلاً للباري سبحانه ليس هو مطلق الخلق والرزق، والتصرف والتدبير، والإحياء والإماتة، حتى يناقض نسبتها إلى غيره سبحانه ( كما في كثير من الآيات ) بل القسم الخاص منها وهو ما يكون الفاعل مستقلاً في فعله، منحصر به سبحانه كما أنّه ليس ثمة مسلم يطلب هذه الأفعال بهذا النحو من غيره سبحانه حتى يعد عمله شركاً ويكون سؤاله عبادة.

فالواجب على ابن تيمية وأتباعه دراسة أفعاله سبحانه وتمييزها عن أفعال غيره أوّلاً، فإنّه المفتاح الوحيد لحل هذه المشكلة، بل هو المفتاح والطريق لحل كل الاختلافات بين ظواهر الآيات التي تبدو متعارضة مع بعضها في نسبة الأفعال.

وعلى ذلك فإنّ طلب إزالة المرض ورد الضالّة وغيرهما على نحوين :

قسم يختص به سبحانه ولا يجوز طلبه من غيره وإلاّ لعاد الطالب مشركاً وعابداً لغير الله.

وقسم يجوز طلبه من غيره ولا يعد الطالب مشركاً، ولا يكون بطلبه عابداً لغير الله.

__________________

(١) المائدة: ١١٠.

(٢) راجع للوقوف على كيفية انتساب هذه الأفعال إلى الله سبحانه الفصل الثامن ص ٤٠٤.

٥٤٥

وأمّا أنّ المسؤول والمستغاث هل يقدر على تحقيق الحاجة أو لا ؟ وإنّ الله هل أقدره على ذلك أو لا ؟ فهي أُمور خارجة عن موضوع بحثنا الفعلي.

٣. هل طلب الأُمور الخارقة حد للشرك ؟

لا شك أنّ لكل ظاهرة ـ بحكم قانون العلية ـ علَّة لا يمكن للمعلول أن يوجد بدونها، فليس في الكون الفسيح كله من ظاهرة حادثة لا ترتبط بعلة، ومعاجز الأنبياء، وكرامات الأولياء غير مستثناة من هذا الحكم فهي لا تكون دون علة، غاية الأمر أنّ علتها ليست من سنخ العلل الطبيعية، وهو غير القول بكونها موجودة بلا علة مطلقاً.

فإذا ما تبدلت عصا موسىعليه‌السلام إلى ثعبان يتحرك ويبتلع الأفاعي، وإذا ما عادت الروح إلى جسد ميت بال، بإعجاز المسيحعليه‌السلام ، وإذا ما انشق القمر نصفين بإعجاز خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو تكلم الحصى معه، أو سبّح في يده، فليس معنى ذلك إنّها لا ترتبط بعلة كسائر الظواهر الحادثة، بل ترتبط بعلل خاصة غير العلل الطبيعية المألوفة.

فلو استمد إنسان من انسان آخر لقضاء حاجته عن علله الطبيعية لقد جرى على السنة المألوفة بين العقلاء، إنّما الكلام في الاستمداد لقضاء الحاجة عن الطرق الغيبية والعلل غير الطبيعية، وهذا هو ما يتصور أنّه شرك، وفي ذلك يقول المودودي لو طلب حاجة وأمراً لتعطى له من غير المجرى الطبيعي وخارجاً عن إطار السنن الطبيعية كان شركاً وملازماً للاعتقاد بإلوهية الجانب الآخر المسؤول(١) .

__________________

(١) راجع المصطلحات الأربعة: ١٤.

٥٤٦

غير أنّ هذا التفصيل لا يمكن الركون إليه إذ جرت سيرة العقلاء على طلب المعجزة والأُمور الخارقة للعادة من مدعي النبوة، وقد نقل القرآن تلك السيرة عن الذين عاصروا الأنبياء من دون أن يعقب على ذلك بالرد والنقد، قال سبحانه حاكياً عنهم:( قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَة فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (١) .

وقد كان الأنبياء يدعون الناس ليشهدوا ما يقع على أيديهم من خوارق العادات، وعلى هذا فالإنسان المستهدي المتطلب لمعرفة صدق دعوى المتنبئ كالسيد المسيح وغيره إذا طلب منه أن يبرئ الأكمه ويشفي الأبرص ـ بإذن الله ـ(٢) لا يكون مشركاً، ومثله فيما إذا طلب ذلك منه بعد رفعه إلى الله سبحانه، فلا يمكن التفريق بين الصورتين باعتبار الأوّل عملاً توحيدياً والثاني عملاً ممزوجاً بالشرك.

أضف إلى ذلك أنّ بني إسرائيل طلبوا من موسى الماء والمطر وهم في التيه ليخلصهم من الظمأ إذ يقول سبحانه:( وَأَوْحَيْنَا إِلىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الحَجَرَ ) (٣) .

وقد طلب سليمان من حضّار مجلسه إحضار عرش المرأة التي كانت تملك قومها كما يحكي سبحانه:( قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ *قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ) (٤) .

فلو كان طلب الخوارق من غيره سبحانه شركاً كيف طلب بنو إسرائيل من

__________________

(١) الأعراف: ١٠٦.

(٢) راجع للوقوف على معاجز سيدنا المسيح سورة آل عمران: ٢٤٩، والمائدة: ١١٠.

(٣) الأعراف: ١٦٠.

(٤) النمل: ٣٧ ـ ٣٨.

٥٤٧

نبيّهم موسى ذلك الأمر ؟ أو كيف طلب سليمان من أصحابه إحضار ذلك العرش من المكان البعيد ؟! وكل ذلك يعطي بأنّ طلب الخوارق أو طلب الشيء عن غير مجاريه الطبيعية ليس حداً للشرك كما أنّ الحياة والموت ليسا حدّين للشرك، فلا يمكن أن يقال بأنّ طلب الخوارق جائز من الحي دون الميت، ولأجل ذلك يجب أن نركز البحث في التعرف على ملاك الشرك والتوحيد.

وتصور أنّ طلب الخوارق ملازم للاعتقاد بالسلطة الغيبية الملازمة للإلوهية، فقد عرفت جوابه في ذلك الفصل(١) .

وتصور أنّ طلب شفاء المريض وأداء الدين طلب لفعل الله من غيره، مدفوع بما عرفت من أنّ الملاك في تمييز فعله سبحانه عن غيره ليس هو كون الفعل خارجاً عن إطار السنن الطبيعية وخارقاً للقوانين الكونية ليكون طلب مثل هذا من غير الله طلباً للفعل الإلهي من غيره.

بل المعيار في الفعل والشأن الإلهي هو ما كان الفاعل مستقلاً في الخلق والإيجاد غير معتمد على غيره سواء أكان الأمر أمراً طبيعياً أم غير طبيعي، ويجب على متطلب الحقيقة أن يدرس فعل الله وفعل غيره دراسة معمقة نابعة عن الكتاب والسنّة والعقل السليم.

وبكلام آخر: انّه ليس القيام بأمر عن طريق عادي فعلاً للإنسان، والقيام به عن طريق غير عادي فعلاً لله سبحانه، بل الفعل على قسمين: قسم منه يعد فعلاً له سبحانه لا يجوز طلبه من غيره سواء أكان عادياً أم غير عادي، وقسم يعد فعلاً لغير الله يجوز طلبه من غيره سواء أكان عادياً أم غير عادي أيضاً، وبذلك يعلم أنّ طلب الشفاء من الأولياء على النحو الذي بيناه لا يخالف أُصول التوحيد.

__________________

(١) راجع في الوقوف على حقيقة الأمر ص ٤٩٧.

٥٤٨

ولما كان البحث في المقام عن تحديد معايير التوحيد والشرك يجب علينا أن نعود ونبحث في مسائل أربع :

١. هل طلب الشفاء من غيره سبحانه شرك ؟

٢. هل طلب الشفاعة من عباد الله سبحانه شرك ؟

٣. هل الاستعانة بأولياء الله شرك ؟

٤. هل دعوة الصالحين شرك ؟

أمّا الوهابيُّون فقد اتفقت كلمتهم على أنّ هذه الطلبات عبادة محرمة وأنّ المسؤول سيعود معبوداً حتى أنّهم ـ مثلاً ـ لا يجوِّزون أن يقول الإنسان في باب الشفاعة: يا رسول الله ! اشفع لي عند الله بل يقولون إنّما يجوز أن يقول: أللّهم شفّعه فيَّ، غير أنّ الفرق الأُخرى من المسلمين قد أجازوا ذلك واستدلّوا عليه بأدلة محررة في كتبهم، ونحن نبحث هذه المسائل الأربع من زاوية خاصة وهي أنّ هذه الطلبات هل هي شرك أو لا ؟

وبعبارة أُخرى: هل هي من باب طلب فعل الله من غيره سبحانه أو لا ؟ والجواب في هذه المسائل هو النفي قطعاً ويظهر وجهه مما حررناه في تحديد فعله سبحانه عن فعل غيره بمعنى أنّ الشفاء على وجه الاستقلال فعله سبحانه، وعلى النحو المعتمد على قدرته سبحانه فعل للغير، ومثله الشفاعة والإعانة فإنَّهما يتصوّران على قسمين: قسم يختص به سبحانه، وقسم يعم عباده.

غير أنّنا طلباً للوضوح الأكثر سندرس هذه المسائل الأربع في ضوء الآيات القرآنية، وإن كان في ما تقدم غنى وكفاية.

٥٤٩

٩

هل طلب الإشفاء والشفاعة والإعانة

ودعوة الصالحين شرك ؟

١. هل طلب الإشفاء من غيره سبحانه شرك ؟

لا شك في أنّ هذا الكون عالم منظم، فجميع الظواهر الكونية فيه تنبع من الأسباب والعلل التي ـ هي بدورها ـ مخلوقة لله تعالى، ومعلولة له سبحانه.

وحيث إنّ هذه العلل والأسباب لا تملك من لدن نفسها أي كمال ذاتي، بل وجدت بمشيئة الله، وصارت ذات أثر بإرادته سبحانه لذلك صح أن ينسب الله آثارها وأفعالها إلى نفسه، كما يصح أن تنسب إلى عللها.

هذا ما أوضحناه في ما سبق أتم إيضاح وبذلك يظهر أنّ الشفاء تارة ينسب إلى الله سبحانه وأُخرى إلى علله القريبة المؤثرة بإذنه، وبذلك يرتفع التعارض الابتدائي بين الآيات، فبينما يخص القرآن الإشفاء بالله سبحانه ويقول :

( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (١) .

__________________

(١) الشعراء: ٨٠.

٥٥٠

وبينما ينسب الشفاء إلى غيره كالقرآن والعسل، والجواب انّه ليس هنا في الحقيقة إلّا فعل واحد وهو الإشفاء ينسب تارة إلى الله على وجه التسبيب، وإلى غيره من الأسباب العادية كالعسل والأدوية وغيرها على وجه المباشرة.

فهو الذي وهب أنبياءه وأولياءه القدرة على الإشفاء والمعافاة والإبراء، وهو الذي أذن لهم بأن يستخدموا هذه القدرة الموهوبة ضمن شروط خاصة.

فهذا القرآن إذ يصف الله تعالى بأنّه هو الشافي الحقيقي ( كما في آية ٨٠ الشعراء ) يصف العسل بأنّه الشافي أيضاً عندما يقول :

( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) .(١)

أو ينسب الشفاء إلى القرآن عندما يقول :

( وننَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ ) (٢) .

وطريق الجمع الذي ذكرناه وارد هنا وجار في هذا المقام كذلك، وهو بأن نقول :

إنّ الإبراء والإشفاء ـ على نحو الاستقلال ـ من فعل الله لا غير.

وعلى نحو التبعية واللااستقلال من فعل هذه الأُمور والأسباب، فهو الذي خلقها، وأودع فيها ما أودع من الآثار، فهي تعمل بإذنه وتؤثر بمشيئته.

ففي هذه الصورة إذا طلب أحد الشفاء من أولياء الله وهو ملتفت إلى هذا الأصل(٣) كان عمله جائزاً ومشروعاً وموافقاً للتوحيد المطلوب تماماً.

__________________

(١) النحل: ٦٩.

(٢) الإسراء: ٨٢.

(٣) نعني كونهم يؤثرون بإذن الله وقدرته ومشيئته.

٥٥١

لأنّ الهدف من طلب الشفاء من الأولياء هو تماماً مثل الهدف من طلب الشفاء من العسل والعقاقير الطبية، غاية ما في الباب أنّ العسل والعقاقير تعطي آثارها بلا إرادة وإدراك منها، بينما يفعل ما يفعله النبيُّ والولي عن إرادة واختيار، فلا يكون الهدف من الاستشفاء من الولي إلّا مطالبته بأن يستخدم تلك القدرة الموهوبة له ويشفي المريض بإذن الله، كما كان يفعل السيد المسيحعليه‌السلام ، إذ كان يبرئُ من استعصى علاجه من الأمراض بإذن الله والقدرة الموهوبة له من الله.

وواضح أنّ مثل هذا العمل لا يعد شركاً، إذ لا ينطبق على ذلك معايير الشرك، أو قل المعيار الواحد الحقيقي.

نعم يمكن المناقشة في أنّهم هل يقدرون على ذلك أو لا ؟ وهل أُعطيت لهم تلك المقدرة أو لا ؟ غير أنّ البحث مركز على كونه طلباً توحيدياً أو غير توحيدي.

ومما يوضح ذلك أنّ الفراعنة كانوا يطلبون من موسى كشف الرجز، كما في قوله سبحانه قالوا :

( يَا مُوسَىٰ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِننَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (١) .

ولا نريد أن نستدل بطلب فرعون أو قومه، بل الاستدلال إنّما هو بسكوت موسى أمام مثل هذا الطلب.

٢. هل طلب الشفاعة من غيره سبحانه شرك ؟

لا مرية في أنّ الشفاعة حق خاص بالله سبحانه، فالآيات القرآنية ـ مضافة

__________________

(١) الأعراف: ١٣٤.

٥٥٢

إلى البراهين العقلية ـ تدل على ذلك، مثل آية :

( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (١) .

إلاّ أنّ في جانب ذلك دلت آيات كثيرة أُخرى على أنّ الله أذن لفريق من عباده أن يستخدموا هذا الحق، ويشفعوا ـ في ظروف وضمن شروط خاصة ـ حتى أنّ بعض هذه الآيات صرّحت بخصوصيات وأسماء طائفة من هؤلاء الشفعاء، كقوله تعالى :

( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمٰوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ الله لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) (٢) .

كما أنّ القرآن أثبت لنبيِّ الإسلام « المقام المحمود »، إذ يقول :

( عَسَىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (٣) .

وقد قال المفسرون: إنّ المقصود بالمقام المحمود هو: مقام الشفاعة، بحكم الأحاديث المتضافرة التي وردت في هذا الشأن.

كل هذا مما اتفق عليه المسلمون، إنّما الكلام في أنّ طلب الشفاعة ممن أُعطي له حق الشفاعة كأن يقول: « يا رسول الله اشفع لنا » هل هو شرك أو لا ؟

وليس البحث في المقام ـ كما ألمعنا إلى ذلك غير مرّة ـ في كون هذا الطلب مجدياً أو لا، إنّما الكلام في أنّ هذا الطلب هل هو عبادة أو لا ؟

فنقول: قد ظهر الجواب مما أوضحناه في الأبحاث السابقة، فلو اعتقدنا بأنّ من نطلب منهم الشفاعة، لهم أن يشفعوا لمن أرادوا ومتى أرادوا وكيفما ارتأوا، دون

__________________

(١) الزمر: ٤٤.

(٢) النجم: ٢٦.

(٣) الإسراء: ٧٩.

٥٥٣

رجوع إلى الإذن الإلهي أو حاجة إلى ذلك، فإنّ من المحتّم أنّ هذا الطلب والاستشفاع عبادة وإنّ الطالب يكون مشركاً حائداً عن طريق التوحيد، لأنّه طلب الفعل الإلهي وما هو من شؤونه من غيره.

وأمّا لو استشفعنا بأحد هؤلاء الشفعاء ونحن نعتقد بأنّه محدود مخلوق لله لا يمكنه الشفاعة لأحد إلّا بإذنه، فهذا الطلب لا يختلف عن طلب الأمر العادي ماهية، ولا يكون خارجاً عن نطاق التوحيد.

وإنّ تصوّر أحد أنّ هذا العمل، أعني: طلب الشفاعة من أولياء الله، يشبه ـ في ظاهره ـ عمل المشركين، واستشفاعهم بأصنامهم، فهو تصوّر باطل بعيد عن الحقيقة.

لأنّ التشابه الظاهري لا يكون أبداً معياراً للحكم، بل المعيار الحقيقي للحكم إنّما هو: قصد الطالب، وكيفية اعتقاده في حق الشافع، ومن الواضح جداً أنّ المعيار هو النيّات والضمائر، لا الأشكال والظواهر، هذا مع أنّ الفرق بين العملين واضح من وجوه :

أوّلاً: أنّه لا مرية في أنّ اعتقاد الموحّد في حق أولياء الله يختلف ـ تماماً ـ عن اعتقاد المشرك في حق الأصنام.

فإنّ الأصنام والأوثان كانت ـ في اعتقاد المشركين ـ آلهة صغاراً تملك شيئاً من شؤون المقام الإلوهي من الشفاعة والمغفرة، بخلاف أهل التوحيد فإنّهم يعتقدون بأنّ من يستشفعون بهم: عباد مكرمون لا يعصون الله وهم بأمره يعملون، وأنّهم لا يملكون من الشفاعة شيئاً، ولا يشفعون إلّا إذا أذن الله لهم أن يشفعوا في حق من ارتضاه.

٥٥٤

وبالجملة فإنّ تحقق الشفاعة منهم يحتاج إلى وجود أمرين :

١. أن يكون الشفيع مأذوناً في الشفاعة.

٢. أن يكون المشفوع له مرضياً عند الله.

فلو قال مسلم لصالح من الصالحين: ( اشفع لي عند الله )، فإنّه لا يفعل ذلك إلّا مع التوجّه إلى كونه مشروطاً بالشرطين المذكورين.

ثانياً: أنّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام مضافاً إلى استشفاعهم بها، بحيث كانوا يجعلون استجابة دعوتهم واستشفاعهم عوضاً عما كانوا يقومون به من عبادة لها، بخلاف أهل التوحيد فإنّهم لا يعبدون غير الله طرفة عين أبداً.

وأمّا استشفاعهم بأُولئك الشفعاء فليس إلّا بمعنى الاستفادة من المقام المحمود الذي أعطاه الله سبحانه لنبيّه في المورد الذي يأذن فيه الله، فقياس استشفاع المؤمنين بما يفعله المشركون ليس إلّا مغالطة. وقد مر غير مرّة أنّه لو كان الملاك التشابه الظاهري للزم أن نعتبر الطواف بالكعبة المشرفة، واستلام الحجر، والسعي بين الصفا والمروة، موجباً للشرك وعبادة للحجر.

الوهابيون وطلب الشفاعة

إنّ الوهابيّين يعتبرون مطلق طلب الشفاعة شركاً وعبادة، ويظنون أنّ القرآن لم يصف الوثنيين بالشرك إلّا لطلبهم الشفاعة من أصنامهم كما يقول سبحانه:( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ ) (١) .

__________________

(١) يونس: ١٨.

٥٥٥

وعلى هذا فالشفاعة وإن كانت حقاً ثابتاً للشفعاء الحقيقيين، إلّا أنّه لا يجوز طلبه منهم، لأنّه عبادة لهم، قال محمد بن عبد الوهاب :

إن قال قائل: الصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصدهم وأرجو من الله شفاعتهم، فالجواب أنّ هذا قول الكفار سواء بسواء، واقرأ عليهم قوله تعالى:( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَىٰ اللهِ زُلْفَىٰ ) (١) وقوله:( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ ) (٢) .(٣)

وإن قال: إنّ النبي أُعطي الشفاعة، وأنا أطلبه ممّن أعطاه الله، فالجواب أنّ الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن طلبها منه، فقال تعالى:( فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدَاً ) (٤) وأيضاً فإنّ الشفاعة أُعطيها غير النبي فصح أنّ الملائكة يشفعون والأفراد يشفعون والأولياء يشفعون، أتقول إنّ الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم ؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله في كتابه(٥) .

استدل ابن عبد الوهاب على حرمة طلب الشفاعة بآيات ثلاث :

الأُولى: قوله سبحانه:( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ ) إذ قال بأنّ عبادة المشركين للأوثان كانت متحققة بطلب الشفاعة منهم لا بأمر آخر.

الثانية: قوله سبحانه:( وَالَّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ

__________________

(١) الزمر: ٣.

(٢) يونس: ١٨.

(٣) و (٥) كشف الشبهات: ٧ ـ ٩ طبعة القاهرة.

(٤) الجن: ١٨.

٥٥٦

لِيُقَرِّبُونَا إِلَىٰ اللهِ زُلْفَىٰ ) (١) قائلاً بأنّ عبادة المشركين للأصنام كانت متحققة بطلب شفاعتهم منها.

الثالثة: قوله سبحانه:( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) (٢) .

ولابد من البحث حول الآيات التي استدل بها القائل على أنّ طلب الشفاعة ممّن له حق الشفاعة عبادة له فنقول :

أمّا الاستدلال بالآية الأُولى فالإجابة عنه بوجهين :

١. ليس في قوله سبحانه:( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ) إلى آخر الآية، أيّة دلالة على مقصودهم، وإذا ما رأينا القرآن يصف هؤلاء بالشرك فليس ذلك لأجل استشفاعهم بالأوثان، بل لأجل أنّهم كانوا يعبدونها لتشفع لهم بالمآل.

وحيث إنّ هذه الأصنام لم تكن قادرة على تلبية حاجات الوثنيين، لذلك كان عملهم عملاً سفهياً، لا أنّه كان شركاً.

فالإمعان في معنى الآية وملاحظة أنّ هؤلاء المشركين كانوا يقومون بعملين: ( العبادة، وطلب الشفاعة كما يدل عليه قوله:( وَيَعْبُدُونَ ) و( وَيَقُولُونَ ) ) يكشف عن أنّ علّة اتّصافهم بالشرك واستحقاقهم لهذا الوصف كانت عبادتهم لتلك الأصنام وليس استشفاعهم بها، كما لا يخفى.

ولو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها في الحقيقة لما كان هناك مبرر للإتيان بجملة أُخرى، أعني: قوله « ويقولون هؤلاء شفعاؤنا » بعد قوله « ويعبدون » إذ كان حينئذ تكراراً.

__________________

(١) الزمر: ٣.

(٢) الجن: ١٨.

٥٥٧

إنّ عطف الجملة الثانية على الأُولى يدل على المغايرة بينهما، إذن لا دلالة لهذه الآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة، فضلاً عن كون: الاستشفاع بالأولياء المقربين عبادة لهم، نعم قد ثبت أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة لهم بأدلّة أُخر.

٢. أنّ هناك فرقاً بين الاستشفاعين، فالوثني يعتبر الصنم ربّاً مالكاً للشفاعة يمكنه أن يشفع لمن يريد وكيفما يريد، والاستشفاع بهذه العقيدة شرك، ولأجل ذلك يقول سبحانه نقداً لهذه العقيدة:( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (١) والحال أنّ المسلمين لا يعتقدون بأنّ أولياءهم يملكون هذا المقام، فهم يتلون آناء الليل وأطراف النهار قوله سبحانه :

( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإِذْنِهِ ) (٢) .

ومع هذا التفاوت البيّن، والفارق الواضح، كيف يصح قياس هذا بذلك ؟

والدليل على أنّ المشركين كانوا معتقدين بكون أصنامهم مالكة للشفاعة أمران :

الأوّل: تأكيد القرآن في آياته بأنّ شفاعة الشافع مشروطة بإذنه سبحانه وارتضائه.

قال سبحانه:( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإِذْنِهِ ) (٣) .

وقال:( مَا مِنْ شَفِيعٍ إلّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) (٤) .

__________________

(١) الزمر: ٤٤.

(٢) البقرة: ٢٥٥.

(٣) البقرة: ٢٥٥.

(٤) يونس: ٣.

٥٥٨

وقال:( يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ) (١) .

وقال:( لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ ) (٢) .

وقال:( وَلا يَشْفَعُونَ إلّا لِمَنْ ارْتَضَىٰ ) (٣) .

الثاني: تأكيد القرآن على أنّ الأصنام لا تملك الشفاعة، بل هي لمن يملكها :

قال سبحانه:( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلّا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ ) (٤) .

وقال سبحانه:( لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إلّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) (٥) .

فالشفاعة محض حق لمالكها، وليس هو إلّا الله، كما تصرّح بذلك الآيات السابقة، وأمّا المشركون فكانوا يعتقدون أنّ أصنامهم تملك هذا الحق، ولذلك كانوا يعبدونها أوّلاً، ويطلبون منها الشفاعة عند الله ثانياً.

نعم: انّ الظاهر من قوله سبحانه:( لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إلّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) (٦) .

وقوله سبحانه:( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلّا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ ) (٧) هو: انّ المتخذين للعهد والشاهدين بالحق يملكون الشفاعة كما هو

__________________

(١) طه: ١٠٩.

(٢) النجم: ٢٦.

(٣) الأنبياء: ٢٨.

(٤) الزخرف: ٨٦.

(٥) مريم: ٨٧.

(٦) مريم: ٨٧.

(٧) الزخرف: ٨٦.

٥٥٩

مقتضى الاستثناء.

لكن المراد من المالكية في هاتين الآيتين هو: المأذونية بقرينة سائر الآيات، لا المالكية بمعنى التفويض، وإلاّ لزم الاختلاف والتعارض بين مفاد الآيات، وما ورد في السير والتواريخ من أنّ المشركين كانوا يقولون عند الإحرام والطواف: ( الا شريك هو لك تملكه وما ملك )(١) يحتمل الأمرين.

وبذلك يظهر ضعف الاستدلال بالآية الثانية:( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا ) إذ حمل ابن عبد الوهاب قوله سبحانه:( مَا نَعْبُدُهُمْ ) على طلب الشفاعة، مع أنّ الآية المتقدّمة صريحة في مغايرة العبادة لطلب الشفاعة.

نعم إنّما يكون عبادة إذا اتخذ المستشفع المدعو إلهاً، أو من صغار الآلهة ـ كما تقدم ـ.

وأمّا ما اعترف به ابن عبد الوهاب ( ضمن كلامه المنقول سلفاً ) من أنّ الله أعطى الشفاعة لنبيّه ولكنَّه تعالى نهى الناس عن طلبها منه، فغريب، إذ لا آية ولا سنّة تدل على النهي عن طلبها، مضافاً إلى غرابة هذا النهي من الناحية العقلية، إذ مثله أن يُعطي للسقّاء ماء وينهى الناس عن طلب السقي منه، أو يُعطي الكوثر لنبيّه وينهى الأُمّة عن طلبه.

وأمّا قوله:( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) وهي ثالثة الآيات التي استدل بها ابن عبد الوهاب فسيوافيك مفادها عن قريب حيث نبيّن ـ هناك ـ انّ المراد من الدعوة في الآية المذكورة هو: العبادة، فيكون معنى: فلا تدعوا هو: فلا تعبدوا مع الله أحداً، فالحرام المنهي عنه عبادة غير الله، لا مطلق دعوة غير الله، وليس طلب الشفاعة إلّا طلب الدعاء من الغير لا عبادة الغير، وبين الأمرين بون شاسع.

__________________

(١) الملل والنحل: ٢ / ٢٥٥.

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672