مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن5%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154768 / تحميل: 6013
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الوديعة، وأخذت الرهينة، وأخلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله.

أمّا حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، وهم لا يبرح من قلبي، أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، كمد وقيح، وهم مهيج، سرعان ما فرق بيننا، وإلى الله أشكو، وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هظمها، فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً، وستقول ويحكم الله، وهو خير الحاكمين.

والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا سئم، فان انصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين.

واهاً واهاً، والصبر أيمن وأجمل، ولو لا غلبة المستولين لجعلت المقام واللبث لزاماً معكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية.

فبعين الله تدفن ابنتك سرّاً، وتهضم حقها، ويمنع إرثها، ولم يتباعد العهد، ولم يخلق منك الذكر، وإلى الله - يا رسول الله - أحسن العزاء، صلى الله عليك و عليها‌السلام والرضوان (1) .

الظلمة يلاحقون فاطمة بعد الشهادة:

عن الصادق عليه‌السلام في حديث طويل:... فلمّا أصبح أبو بكر وعمر.. فلقيا رجلاً من قريش فقالا له: من أين أقبلت؟

قال: عزّيت علياً بفاطمة.

قالا: وقد ماتت؟

قال: نعم، ودفنت في جوف الليل...

__________________

(1) البحار 43 / 194.

٢٦١

ثم أقبلا إلى علي عليه‌السلام فلقياه فقالا له: والله ما تركت شيئاً من غوائلنا ومسائتنا، وما هذا إلّا من شيء في صدرك علينا.. هل هذا إلّا كما غسلت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دوننا ولم تدخلنا معك؟؟؟!!! وكما علمت ابنك أن يصيح بأبي بكر أن: انزل عن منبر أبي....

فأجابهم أمير المؤمنين عليه‌السلام عن افتراءاتهم ثم قال: وأما فاطمة فهي المرأة التي استأذنت لكما عليها، فقد رأيتما ما كان من كلامها لكما، والله لقد أوصتني أن لا تحضرا جنازتها ولا الصلاة عليها، وما كنت الذي أخالف أمرها ووصيتها إليّ فيكما.

فقال عمر: دع عنك هذه الهمهمة، أنا أمضي إلى المقابر فأنبشها حتى أصلّي عليها.

فقال له علي عليه‌السلام : والله لو ذهبت تروم من ذلك شيئاً - وعلمت أنّك لا تصل إلى ذلك حتى يندر عنك الذي فيه عيناك - فاني كنت لا أعاملك إلّا بالسيف قبل أن تصل إلى شيء من ذلك.

فوقع بين علي عليه‌السلام وعمر كلام حتى تلاحيا واستبسل... (1) .

وفي عيون المعجزات:... ودفنها... وجدّد أربعين قبراً، فاستشكل على الناس قبرها، فأصبح الناس ولام بعضهم بعضاً، وقالوا إنّ نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف بنتاً ولم نحضر وفاتها والصلاة عليها ودفنها، ولا نعرف قبرها فنزورها.

فقال من تولّى الأمر: هاتوا من نساء المسلمين من تنبش هذه القبور حتى نجد فاطمة عليها‌السلام فنصلّي عليها ونزور قبرها، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام فخرج مغضباً قد احمرت عيناه، ودرّت أوداجه، وعليه القباء الأصفر الذي كان يلبسه في الكريهة، وهو يتوكأ على سيفه ذي الفقار حتى أتى البقيع، فسار الناس من أنذرهم وقال:

__________________

(1) البحار 43 / 205.

٢٦٢

هذا علي قد أقبل كما ترونه وهو يقسم بالله لئن حوّل من هذه القبور حجر ليضعن السيف في رقاب الآمرين.

فتلقاه الرجل ومن معه من أصحابه وقال له: مالك يا أبا الحسن، والله لننبشن قبرها ونصلّي عليها.

فأخذ علي بجوامع ثوبه ثم ضرب به الأرض وقال: يابن السوداء، أمّا حقّي فقد تركته مخافة ارتداد الناس عن دينهم، وأمّا قبر فاطمة فوالذي نفسي علي بيده لئن رمت أنت أو أصحابك شيئاً لأسقين الأرض من دمائكم، فان شئت فافعل يا ثاني.

وجاء الأول وقال له: يا با الحسن بحقّ رسول الله وبحقّ فاطمة إلّا خلّيت عنه فانا لسنا فاعلين شيئاً تكرهه، فخلى عنه وتفرّق الناس ولم يعودوا إلى ذلك (1) .

* * *

__________________

(1) دلائل الامامة: 47.

٢٦٣

أسماء بنت عميس

أسماء بنت عميس بن سعد بن الحارث بن تميم بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن معاوية بن زيد بن مالك بن نسر بن وهب الخثعمي، ولذا عرفت أسماء بالخثعمية.

وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث من كنانة.

وقد تزوجت هند مرتين:

الأول: هو الحارث بن حزن بن جبير الهلالي.

والثاني: عميس بن سعد.

وولدت منهما بنات كريمات زوجتهن من رجال كرام، وقال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هي أكرم عجوز جمعت على الأرض أصهاراً.

فبناتها:

ميمونة زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأم الفضل زوجة العباس.

وأسماء بنت عميس التي سنتحدث عنها.

وسلمى زوجة حمزة سيد الشهداء.

وسلمة زوجة عبد الله بن كعب الخثعمي.

٢٦٤

وقد وعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هؤلاء الأخوات بدخول الجنة كما روى المرحوم الصدوق - طاب ثراه - في العلل والمرحوم المجلسي في البحار عن أبي بصير عن أبي جعفر الأول عليه‌السلام قال: سمعته يقول:

رحم الله الأخوات من أهل الجنة، فسماهن: أسماء بنت عميس الخثعمية، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام ، وسلمى بنت عميس الخثعمية، وكانت تحت حمزة، وخمس من بني هلال: ميمونة بنت الحارث، وكانت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأم الفضل عند العباس، واسمها هند، والغميصاء (وقيل: القميصان) أم خالد بن الوليد، وكانت أنصارية لازمت أمير المؤمنين عليه‌السلام في صفين، وغزة، وكانت في ثقيف عند الحجاج بن غلاظ بن خالد بن حوز بن هلال المكنى بأبي عبد الله، سكن المدينة وبنا بها مسجداً (1) .

وفي الحديث مدح لهؤلاء الأخوات معاً، يعني أنهن جميعاً من أهل الجنة لا تخرج منهن واحدة.

أسماء عند جعفر:

هاجرت أسماء بنت عميس مع زوجها جعفر إلى الحبشة فراراً من مشركي مكة، وولدت هناك ثلاثة أولاد: عبد الله وعون ومحمد.

وكان عبد الله أشهر أولادها من جعفر، وكان من الأجواد الأربعة، ولد للنجاشي ولد أيام ولادة عبد الله فسماه باسمه تيمناً وتبركاً، وأمر أن يرضع ولده بلبن عبد الله بن جعفر.

تزوج عبد الله بن جعفر السيدة زينب بنت أمير المؤمنين، فولدت له ولدين استشهدا يوم الطف بين يدي الحسين الشهيد عليه‌السلام .

__________________

(1) البحار 22 / 195 ح 8 باب 2.

٢٦٥

بقيت أسماء في الحبشة مع جعفر وأبنائه إلى السنة السابعة للهجرة وقدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قلاع خيبر مع جماعة، فلما قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أو بقدوم جعفر» (1) .

ثم نظر إلى جعفر وبكى وقال له: «ألا أمنحك؟ ألا أعطيك؟ ألا أحبوك؟! فقال: بلى يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعلّمه الصلاة المعروفة باسم «صلاة جعفر»، وفضلها معروف، وهي مذكورة في كتب الأدعية والأخبار».

والعاقبة أنّ جعفر استشهد في البلقاء في أقصى أرض يثرب والحجاز على حدود الشام في جمادى الآخرة سنة ثمان للهجرة مع زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، ووجد في جسده تسعون جراحة.

وأخبر جبرئيل النبي في المدينة بمقتل جعفر، فبكى صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعى لذريته فقال: «اللهم إنّ جعفر قدم اليك فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك» (2) .

وبشّر أسماء بنت عميس أنّ الله أعطى جعفراً جناحين يطير بهما في الجنة، ثم أمر سلمى أن تصنع طعاماً شهياً من الشعير والزيت وتطعم أيتام جعفر، وكان يصحبهم معه أينما ذهب ثلاثة أيام يدور بهما على نسائه (3) .

وكان جعفر أشبه الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خَلقاً وخُلقاً، وكان يكنى «أبو المساكين» لأنه كان يحبهم ويطعمهم (4) .

أسماء عند أبي بكر:

استشهد جعفر فأخلف على أسماء بنت عميس أبو بكر بن أبي قحافة، فولدت له

__________________

(1) البحار 21 / 25 ح 22 باب 22.

(2) البحار 21 / 56 ح 8.

(3) أنظر: البحار 21 / 55 ح 8 باب 24.

(4) البحار 22 / 275 ح 5.

٢٦٦

محمداً، ومحمد بن أبي بكر يعزّ له النظير في جلالة القدر ورفعة الشان وعلو المقام وصلابة الايمان والثبات والاستقامة على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام حتى استشهد في مصر بايعاز من معاوية، فقتل قتلة شنيعة، فلما سمع أمير المؤمنين خبر شهادته قال: شهادته قصمت ظهري، ثم تكلّم كلاماً ترتعد له الفرائص وترتجف له القلوب (1) .

وكان أبو بكر قد خطب أسماء في الاسلام وعنده حبيبة بنت الحارث الأنصاري، فلما توفي أبو بكر أوصى إلى أسماء بنت عميس أن تغسله، كما رواه الطبرسي، فقبلت أسماء الوصية - ولا منص لها إلّا القبول (2) - وتحملت عناء التنفيذ.

وهذه الوصية إنّما تدلّ على طهارة أسماء وتقواها، وكمال إيمانها وتدينها: لأنه أوصى لها من دون المسلمين ومن دون بقية أزواجه، وكان له ثلاث زوجات غيرها هن: أسماء بنت عبد العزي، ولد منها عبد الله، وأسماء ذات النطاقين، وأم رومان بنت عامر بن عمير من بني كنانة، ولد منها عبد الرحمن وعائشة وحبيبة.

والعجيب أنّه في مدة خلافته القليلة - سنتين وثلاثة أشهر وأيام - كانت أسماء في بيته تغذي ابنها محمد محبة أمير المؤمنين وولايته على مرأى ومسمع من أبي بكر، فخرّجت من بيته من جُبلوا على محبة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فكأن أسماء كانت هي أشرف الأبوين لمحمد بن أبي بكر حيث ما فتأت توصيه دائماً بولاية آل طه وأهل بيت النبوة، فشبّ على ذلك، ولم يحد عنه بل بقي ثابتاً راسخاً.

ومن غرائب الوقائع وعجائب الدهر التي تكشف عن شهامة هذه المخدرة المكرمة وشدّة ولائها وصلابة إيمانها وشجاعتها أنها كانت في حبائل أبي بكر إلّا أنّها شهدت عليه، وردّت قوله في قصة فدك، ووقفت لتعلن على رؤوس الأشهاد

__________________

(1) أنظر: البحار 33 / 562 ح 722 باب 30.

(2) أنظر: تاريخ الطبرسي 3 / 421 أحداث سنة (13) قال: إنّ أسماء بنت عميس قالت: قال لي أبو بكر: غسليني قلت: لا أطيق ذلك قال: يعينك عبد الرحمن بن أبي بكر يصب الماء.

٢٦٧

كذب زوجها وتدليسه وغصبه لحق آل البيت عليهم‌السلام ، فشهدت خلافاً لهوى زوجها وهوى الآخرين، ولم تفزع من تهديداتهم، ولم تستسلم لقهرهم، وقالت لهم بشجاعة العارف بالله وبأهل بيته: «إنّكم ظلمة جائرون غصبتم حقّ من له الحق فأعيدوه إلى نصابه».

ولما أرادوا قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام وأمروا خالد بن الوليد بتنفيذ ذلك في الصلاة بعثت جاريتها إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وقالت له: ( إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (1) .

فقال أمير المؤمنين للجارية: قولي لها: «إنّ الله يحول بينهم وبين ما يريدون».

أو أنّه قال: «فمن يقتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وإنّ الله بالغ أمره»؟!

فهدأ روعها وسكن قلبها وسلّمت لما قاله أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبالفعل فقد ندم أبو بكر - وهو في الصلاة - على ما اتفق عليه مع خالد، وخاف من سيوف بني هاشم المسلولة ونفوسهم الأبية، وحال الله بينه وبين ما يريد، فقال قبل تسليم الصلاة: «أي خالد لا تفعل ما أمرتك» ثم سلم... إلى آخر الخبر (2) .

أسماء عند أمير المؤمنين عليه‌السلام :

فلمّا توفي أبو بكر انتقلت أسماء بكامل الخلوص والوفاء والصفاء الى حجرة سيد الأولياء، وسعدت بشرف الدخول في عداد زوجات سيد الأوصياء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فأولدها يحيى وعون (3) .

ويكفي أسماء بنت عميس من الفضل أمور:

__________________

(1) سورة القصص: الآية 20.

(2) أنظر: البحار 28 / 305 ح 48 باب 4.

(3) أنظر: تذكرة الخواص: 57 الباب الثالث في ذكر أولاده عليه‌السلام .

٢٦٨

منها: أنّ النبي شهد لها بأنها من أهل الجنة.

منها: أدعية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لها ولذريتها.

ومنها: أنّها كانت ممن شهد لفاطمة الزهراء عليها‌السلام في قصد فدك (بالرغم من ظروفها الخاصة) فصارت في ذلك قرينة لأم أيمن، وصارت ممن لازم الحق في تلك الفتنة العمياء في قصة شهادتها لفاطمة عليها‌السلام .

ومنها: ما قاله عمر من محبتها لآل أبي طالب وأنها تشهد لبني هاشم (1) .

ومنها: الأخبار المروية في حقها عن الحضرة النبوية والعلوية والعصمة الكبرى لفاطمة الزهراء عليها‌السلام .

ومنها: أنّها شهدت وفاة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وشاركت أمير المؤمنين عليه‌السلام في غسلها، ويا لها من مفخرة عظيمة.

ومنها: أنّها ممدوحة في كتب الشيعة والسنة، فقد مدحها العدو بالرغم من شدّة عناده، بل وثقوا ذريتها الكريمة وأثنوا عليهم وقالوا: «إنّهم خيار عباد الله» (2) .

ومنها: أنّها ولدت عبد الله بن جعفر زوج زينب الكبرى، وقد استشهد أولاده بين يدي الحسين عليه‌السلام ، فقدمت بذلك أسماء فداءً للحسين عليه‌السلام ، وولدت محمد بن أبي بكر، وكان كما قال أمير المؤمنين «محمد ابني من صلب أبي بكر» وراح شهيداً في سبيل الله دفاعاً عن ولاية أمير المؤمنين، وولدت عوناً من أمير المؤمنين وقد استشهد بين يدي الحسين عليه‌السلام في طف كربلاء.

فهنيئاً لها، والسلام عليها وعلى زوجها أمير المؤمنين وعلى أولادها المستشهدين.

* * *

__________________

(1) أنظر: العوالم 11 / 635 ح 27 باب 3.

(2) أنظر: الخصائص الفاطمية للكجوري ترجمة سيد علي أشرف 2 / 162 وما بعدها.

٢٦٩

أمامة بنت أبي العاص

أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه هند بنت خويلد أخت خديجة عليها‌السلام ، واسم أبو العاص «لقيط» أو «مقسم» بسكر الميم، أو «ياسر» (1) ، أسر يوم بدر ففدته زينب فأطلقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأمها زينب بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تزوجها ابن خالتها أبو العاص فولدت له ولداً وبنتاً، أما الولد فقد مات صغيراً، وأما البنت فاسمها «أمامة» تزوجها أمير المؤمنين عليه‌السلام تنفيذاً لوصية فاطمة الزهراء عليها‌السلام بعد تسع ليال من وفاة السيدة المخدرة الكبرى - حسب رواية المعالم - (2) .

ولدت أمامة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان يحبها، وحملها في الصلاة، وكان إذا ركع أو سجد تركها وإذا قام حملها (3) .

وأهديت له هدية فيها قلادة فدعا أمامة فأعلقها في عنقها (4) .

__________________

(1) أنظر: أسد الغابة 6 / 196 ترجمة 6035.

(2) العوالم 11 / 1082 ح 14، الخصائص الفاطمية 1 / 456 ح 6.

(3) أسد الغابة 7 / 25 ترجمة 6717.

(4) المصدر نفسه.

٢٧٠

وكان على عينها غمص فمسحه بيده (1) الشريفة فعوفيت.

تزوجها أمير المؤمنين عليه‌السلام تنفيذاً لوصية السيدة الصديقة عليها‌السلام حيث قالت عليها‌السلام :.. أوصيك أولاً أن تتزوج بعدي بابنة أختي أمامة فانها تكون لولدي مثلي، فان الرجال لابد لهم من النساء (2) .

وفي مصباح الأنوار: قالت: بنت أختي وتحنن على ولدي (3) .

وهذا وسام عظيم قلدته سيدة النساء لأمامة حيث شهدت لها بالولاء والمحبة والتحنن على ابناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولما كبرت أمامة توجعت وجعاً شديداً حتى اعتقل لسانها، فكان الامامان الحسن والحسين عليهما‌السلام يسألانها وهي تجيبهما بالاشارة (4) .

قيل: إنّها ماتت سنة خمسين للهجرة (5) .

* * *

__________________

(1) الاصابة 4 / 236.

(2) البحار 43 / 192.

(3) البحار 43 / 217.

(4) أنظر: التهذيب 8 / 258 ح 936.

(5) البحار 21 / 183.

٢٧١

ليلى النهشلية

وهي ليلى بنت مسعود بن جابر بن مالك بن ربعي بن سلم بن جندل بن نهشل بن دارم بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم (1) .

ولسلم يقول الشاعر:

تسود أقوام وليسوا بسادة

بل السيد الميمون سلم بن جندل

وأم ليلى بنت مسعود عميرة بنت قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر سيد أهل الوبر ابن عبيد بن الحارث، وهو مقاعس.

وأمها عناق بنت عاصم بن سنان بن خالد بن منقر.

وأمها بنت أعبد بن أسعد بن منقر.

وأمها بنت سفيان بن خالد بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم (2) .

في الغارات والبحار قال: لما نكح علي عليه‌السلام ليلى بنت مسعود النهشلية قالت:

__________________

(1) مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام للكوفي 2 / 48.

(2) مقاتل الطالبيين: 57.

٢٧٢

ما زلت أحبّ أن يكون بيني وبينه سبب منذ رأيته قام مقاماً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) .

وقال: تزوج علي عليه‌السلام ليلى بنت مسعود النهشلية فضربت له في داره حجلة فجاء فهتكها وقال: حسب أهل علي ما هم فيه (2) .

وولدت له عبيد الله وأبا بكر (3) .

* * *

__________________

(1) الغارات 1 / 93، البحار 42 / 139.

(2) المصدر نفسه، شرح النهج 2 / 202.

(3) المناقب (للكوفي) 2 / 48.

٢٧٣

خولة الحنفية

وهي خولة بنت إياس بن جعفر جان الصفا الحنفية

ويقال: بل كانت أمة لبني حنيفة، سندية سوداء، ولم تكن من أنفسهم، وإنّما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق ولم يصالحهم على أنفسهم.

وقيل: إنّها كانت من سبي بني حنيفة، اشتراها علي واتخذها أم ولد، فولدت له محمداً (1) .

وفي الاصابة: رأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في منزله فضحك ثم قال: يا علي أما إنّك تتزوجها من بعدي، وستلد لك غلاماً فسمه باسمي، وكنه بكنيتي وانحله (2) .

عن الكلبي، عن ميمون بن مصعب المكّي بمكّة قال: كنّا عند أبي العباس بن سابور المكّي فأجرينا حديث أهل الردّة، فذكرنا خولة الحنفيّة ونكاح أمير المؤمنين عليه‌السلام لها فقال: أخبرني عبد الله بن الخير الحسيني، قال: بلغني أنّ الباقر محمد بن علي عليهما‌السلام - قال -:

__________________

(1) الجوهرة في نسب الامام علي عليه‌السلام : 58.

(2) الاصابة 4 / 289 ترجمة 357.

٢٧٤

كان جالساً ذات يوم إذ جاءه رجلان، فقالا: يا أبا جعفر! ألست القائل أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يرض بإمامة من تقدّمه؟

فقال: بلى.

فقالا له: هذه خولة الحنفيّة نكحها من سبيهم ولم يخالفهم على أمرهم مذ حياتهم؟!

فقال الباقر عليه‌السلام : من فيكم يأتيني بجابر بن عبد الله؟ - وكان محجوباً قد كفّ بصره -.

فحضر وسلّم على الباقر عليه‌السلام فردّ عليه وأجلسه إلى جانبه.

فقال له: يا جابر! عندي رجلان كرا أنّ أمير المؤمنين رضي بإمامة من تقدّم عليه، فاسألهما ما الحجّة في ذلك؟

فسألهما فذكرا له حديث خولة، فبكى جابر حتى اخضلّت لحيته بالدموع.

ثم قال: والله - يا مولاي - لقد خشيت أن أخرج من الدنيا وأن أُسأل عن هذه المسألة، والله إنّي كنت جالساً إلى جنب أبي بكر - وقد سبى بني حنيفة مع مالك بن نويرة من قبل خالد بن الوليد - وبينهم جارية مراهقة -.

فلمّا دخلت المسجد قالت: أيّها الناس! ما فعل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قالوا: قُبض.

قالت: هل له بنية تقصد؟

قالوا: نعم هذه تربته وبنيته.

فنادت وقالت: السلام عليك يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أشهد أنّك تسمع صوتي وتقدر على ردّ جوابي، وإنّنا سبينا من بعدك، ونحن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك محمّداً رسول الله...

٢٧٥

ثم جلست فوثب إليها رجلان من المهاجرين أحدهما طلحة والآخر الزبير وطرحا عليها ثوبيهما.

فقالت: ما بالكم - يا معاشر الأعراب - تغيبون حلائلكم وتهتكون حلائل غيركم؟

فقيل لها: لأنّكم قلتم لا نصلّي ولا نصوم ولا نزكّي؟

فقال لها الرجلان اللذان طرحاً ثوبيهما: إنّا لغالون في ثمنك.

فقالت: أقسمت بالله وبمحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّه لا يملكني ويأخذ رقبتي إلّا من يخبرني بما رأت أُمّي وهي حاملة بي؟ وأيّ شيء قالت لي عند ولادتي؟ وما العلّامة التي بيني وبينها؟ وإلّا بقرت بطني بيدي فيذهب ثمني ويطالب بدمي.

فقالوا لها: اذكري رؤياك حتى نعبرها لك.

فقالت: الذي يملكني هو أعلم بالرؤيا منّي؟

فأخذ طلحة والزبير ثوبيهما وجلسوا، فدخل أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال: ما هذا الرجف في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

فقالوا: يا أمير المؤمنين امرأة حنفيّة حرّمت ثمنها على المسلمين وقالت: من أخبرني بالرؤيا التي رأت أُمّي وهي حاملة بي يملكني.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما ادّعت باطلاً، أخبروها تملكوها.

فقالوا: يا أبا الحسن! ما منّا من يعلم، أما علمت أنّ ابن عمّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قبض وأخبار السماء قد انقطعت من بعده.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أخبرها بغير اعتراض منكم؟

قالوا: نعم.

فقال عليه‌السلام : يا حنفيّة! أخبرك وأملكك؟

فقالت: لعلّك الرجل الذي نصبه لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صبيحة يوم الجمعة بغدير خم علماً للناس؟

٢٧٦

فقال: أنا ذلك الرجل.

قالت: من أجلك نهبنا، ومن نحوك أتينا، لأنّ رجالنا قالوا: لا نسلّم صدقات أموالنا ولا طاعة نفوسنا إلّا لمن نصبه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فينا وفيكم علماً.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ أجركم غير ضائع، وإن الله يوفي كلّ نفس ما عملت من خبر.

ثم قال: يا حنفيّة! ألم تحمل بك اُمّك في زمان قحط قد منعت السماء قطرها، والأرضون نباتها، وغارت العيون والأنهار حتى أنّ البهائم كانت ترد المرعى فلا تجد شيئاً، وكانت اُمّك تقول لك: انّك حمل مشوم في زمان غير مبارك، فلمّا كان بعد تسعة أشهر رأت في منامها كأن قد وضعت بك، وأنّها تقول: إنّك حمل مشوم في زمان غير مبارك، وكأنّك تقولين: يا اُمّي لا تتطيّرن بي فإنّي حمل مبارك أنشأ منشأ مباركاً صالحاً، ويملكني سيّد، واُرزق منه ولداً يكون للحنفيّة عزّاً؟

فقالت: صدقت.

فقال عليه‌السلام : إنّه كذلك وبه أخبرني ابن عمّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقالت: ما العلامة التي بيني وبين اُمّي؟

فقال لها: لمّا وضعتك كتبت كلامك والرؤيا في لوح من نحاس وأودعته عتبة الباب، فلمّا كان بعد حولين عرضته عليك فأقررت به، فلمّا كان بعد ستّ سنين عرضته عليك فأقررت به، ثم جمعت بينك وبين اللوح وقالت لك: يا بنيّة إذا نزل بساحتكم سافكٌ لدمائكم، وناهب لأموالكم، وسابٍ لذراريكم، وسبيت فيمن سبي، فخذي اللوح معك واجتهدي أن لا يملكك من الجماعة إلّا من خبرك بالرؤيا وبما في هذا اللوح.

فقالت: صدقت... يا أمير المؤمنين عليه‌السلام .

ثم قالت: فأين هذا اللوح؟

٢٧٧

فقال: هو في عقيصتك.

فعند ذلك دفعت اللوح إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام .

ثم قالت: يا معاشر الناس! اشهدوا أنّي قد جعلت نفسي له عبدة، فقال عليه‌السلام : بل قولي زوجة، فقالت: اشهدوا أن قد زوّجت نفسي - كما أمرني - بعليّ عليه‌السلام . فقال عليه‌السلام : قد قلبتكِ زوجة، فماج الناس، فقال جابر: فملكها والله يا أبا جعفر بما ظهر من حجّته وثبت من بيّنته، فلعن الله من اتّضح له الحقّ ثم جحد حقّه وفضله، وجعل بينه وبين الحقّ ستراً (1) .

* * *

__________________

(1) البحار:

٢٧٨

الصهباء

وهي أم حبيبة بنت ربيعة بن بجير بن العبد بن علقمة بن الحارث بن عتبة بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن جيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل.

وكانت سبية أصابها خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر حين أغار على بني تغلب بناحية عين تمر، ولدت له عمر ورقية (1) .

* * *

__________________

(1) الطبقات الكبرى 3 / 19، البحار 42 / 90.

٢٧٩

أم مسعود

أم مسعود (سعيد) بنت عروة بن مسعود بن معتب بن مالك الثقفي، وولدت له عليه‌السلام رملة وأم الحسن (1) .

* * *

__________________

(1) المصدر نفسه.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

وهذا كما لو أمر بتجييش الجيش، والنفر إلى الجهاد، ومكافحة الظالمين إلى غير ذلك ممّا يتقوّم به إصلاح المجتمع، ولأجل ذلك عد الله سبحانه مخالفة النبي معصية ربما توجب الخروج عن الدين.

وما ورد من الآيات الدالة على لزوم طاعة النبي ناظرة إلى هذا القسم من الأوامر الناشئة من هذا المقام، إنّ مقام النبي في هذه الصورة هو مقام القائد الذي يأمر من يكون تحت قيادته وإمرته أو ينهاه، وليس مقام الإبلاغ المحض الذي ليس له شأن سوى إبلاغ أحكامه سبحانه.

قد تقتضي المصالح الإسلامية ـ مثلاً ـ أن يدفع المسلمون ـ عدا الحقوق المالية الواجبة عليهم ـ مبالغ إضافية في سبيل المصالح الإسلامية، أو قد يطّلع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على ظلم رجل لزوجته، ويرى في استمرار العلاقة الزوجية بينهما حرجاً لا يطاق وعسراً لا يتحمّل، وفي مثل هذه الصور يأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بدفع الضرائب الخاصة للدولة الإسلامية وإطلاق سراح الزوجة حسماً لمادة الفساد، ويجب على المؤمنين إطاعته، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :

( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَىٰ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ) (١) .

ففي هذه الآية التي تتحدّث عن معصية الله والرسول ليس المقصود هو معصية الرسول بما هو مبلغ لرسالات الله وأحكامه، إذ ليس في هذه الحالة للرسول الأعظم أي أمر ونهي حتى تعد مخالفته مخالفة للرسول، بل هو في هذه الحالة ليس إلّا مبلغاً ومنبّئاً ورسولاً بين الله وعباده.

إنّ معصية الرسول إنّما تتحقّق إذا كانت الأوامر صادرة عن موقع القيادة

____________

١ ـ الأحزاب: ٣٦.

٦٤١

والإمرة، وعند ذلك يعد الأمر والنهي أمراً، ونهياً له وتعد المخالفة مخالفة له.

والعجب أنّ صاحب المنار حصر إطاعة النبي في مورد الأحكام التي أمر الله رسوله أن يبلغها عنه حيث قال: قضت سنَّة الله بأن يبلغ عنه شرعه للناس رسل منهم وتكفل عصمتهم في التبليغ، ولذلك وجب أن يطاعوا في ما يبيّنون من الدين والشرع.

مثال ذلك أنّ الله تعالى هو الذي شرع لنا عبادة الصلاة وأمرنا بها، ولكنّه لم يبيّن لنا في الكتاب كيفيتها وعدد ركعاتها ولا ركوعها ولا سجودها ولا تحديد أوقاتها، فبيّنها الرسول بأمره تعالى إيّاه بذلك في مثل قوله:( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (١) .

فهذا البيان بإرشاد من الله تعالى فاتّباعه لا ينافي التوحيد ولا كون الشارع هو الله وحده(٢) .

وضعف هذا الكلام ظاهر، إذ ليس للنبي الأكرم في هذا المضمار أي أمر ولا نهي، وإنّما هو مجرد مبلِّغ أو مذكِّر وليس له عليهم أية سلطة وسيطرة، وإليه يشير قوله سبحانه :

( فَذَكِّر إِنَّمَا أَنْت مُذَكِّرٌ *لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (٣) .

نعم في مجال الحاكمية التي يحتل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها دست الحكومة، يكون له الأمر والنهي.

__________________

(١) النحل: ٤٤.

(٢) راجع تفسير المنار: ٥ / ١٨٠.

(٣) الغاشية: ٢١ ـ ٢٢.

٦٤٢

٢. أُولو الأمر

إنّ الفريق الثاني الذي أوجب الله طاعتهم علينا من سمّاهم الله سبحانه بأُولي الأمر ويكون لهم بالتالي مقام الآمرية والقيادة في المجتمع الإسلامي، حيث قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الْرَّسُولَ وَأُوْلي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأحْسَنُ تَأْوِيلاً ) .(١)

وبما أنّ التعرف على أُولي الأمر في المجتمع الإسلامي أنسب بمباحث القيادة والحكم نرجئ البحث عنه إلى الجزء الثاني الذي يتكفّل بتحليل مباحث النبوة في الكتاب العزيز، ونبحث عنه عند البحث عن الرسول الخاتم والنبي القائد.

٣. الوالدان

اتّفق المسلمون ـ اقتداء بالكتاب العزيز ـ على حرمة مخالفة الوالدين مستندين إلى قوله سبحانه :

( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إحْسَانا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) (٢) .

إذ لو كانت لفظة( أُفٍ ) التي توجب انزعاجهما محرّمة، فمن الأولى أن

__________________

(١) النساء: ٥٩.

(٢) الإسراء: ٢٣.

٦٤٣

تكون مخالفتهما في سائر الأُمور التي توجب انزعاجهما بكثرة حراماً أيضاً، نعم إطاعتهما وإن شئت قل: حرمة مخالفتهما محددة بما إذا لم يأمرا بالشرك، بل بما إذا لم يأمرا بما فيه معصية الله.

لأنّ القرآن لـمّا نهى عن طاعة أمر المسرفين في قوله:( وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ ) (١) ، وعن طاعة الآثم والمكذِّب والغافل في قوله:( وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) (٢) ، وقوله سبحانه:( فَلاَ تُطِعِ المُكَّذِبِينَ ) (٣) ، وقوله سبحانه:( وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) (٤) ، وجب علينا أن لا نطيع أمر من يأمر بمخالفة الله ومعصيته، فإنّ ذلك يشبه أمر من أغفل الله قلبه أو صار من المكذبين والمسرفين، سواء في ذلك الوالدان وغيرهما، وبذلك تكون دائرة الإطاعة أضيق مما سبق فتتحدد الإطاعة عندئذ بما لم تكن دعوتهما دعوة إلى معصية الله ومخالفته ـ على الإطلاق ـ.

لقد دعا القرآن الكريم المجتمع البشري إلى تكريم مقام الوالدين واحترامهما، وإطاعتهما، ولكنّه ذكّر ـ في نفس الوقت ـ بنقطة مهمة وجديرة بالاهتمام وهي: أنّ محبة الأبناء لآبائهم وأُمّهاتهم يجب أن لا تكون محبة عمياء، ولا أن تكون طاعتهم لهم طاعة غير محسوبة تسبب في الخروج عن حدود العدالة.

فإنّ على الأبناء أن لا يكتموا الشهادة الحقّة حتى لو كانت ضد آبائهم وأُمهاتهم لو كانوا ظالمين حقاً.

__________________

(١) الشعراء: ١٥١.

(٢) الإنسان: ٢٤.

(٣) القلم: ٧.

(٤) الكهف: ٢٨.

٦٤٤

فها هو القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ) (١) .

فلو دعا أحد الوالدين ولده إلى الشرك، وجب أن يقاومهما، فلا تجرّه مودته وعاطفته إلى اختيار الباطل، ولا ينساق وراء ما دعا إليه الأبوان بدافع المحبة، كما يقول القرآن الكريم :

( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ) (٢) .

( وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ) (٣) .

ولقد أشار الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام إلى حق إطاعة الوالدين المحدود، في عبارة مقتضبة له، إذ قال :

« فحق الوالد على الولد أن يطيعه ـ أي الولد يطيع والده ـ في كل شيء إلّا في معصية الله »(٤) .

__________________

(١) النساء: ١٣٥.

(٢) لقمان: ١٥.

(٣) العنكبوت: ٨.

(٤) نهج البلاغة: الكلمات القصار: رقم ٣٩٩.

٦٤٥
٦٤٦

الفصل الثاني عشر

الله والتوحيد في الحاكمية

٦٤٧

الله وانحصار حق الحاكمية فيه

١. انحصار حق الحاكمية فيه سبحانه.

٢. الآثار السيئة لفقدان القائد.

٣. الاقتداء بسيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٤. الولاية والحاكمية لله سبحانه.

٥. الولاية لله سبحانه لا الإمرة والإدارة.

٦. كلمة أخيرة.

٦٤٨

الحكومة ضرورة اجتماعية

بالرغم من تصوّر البعض بأنّ « الحرية » وقيام « السلطة الحكومية » أمران متناقضان لا يجتمعان أبداً وأنّ صيانة الحرية الفردية تقتضي ـ بالضرورة ـ أن تحذف « الحكومة والدولة » من قاموس الحياة البشرية.

وبالرغم من تصوّر أنّ الدول والحكومات هي ما تتألف ـ دائماً ـ من الأقوياء، وتراعي حقوقهم ومصالحهم على حساب حقوق الضعفاء ومصالحهم.

وكذا بالرغم من تصوّر أنّ الإنسان طيب ذاتاً وأنّه مخلوق عاقل وعالم فلا حاجة إذن إلى وجود دولة تنظم أُموره وتدبّر شؤونه وتحفظ مصالحه.

على الرغم من جميع تلك التصوّرات والمزاعم التي تكشف عن نوع من السفسطة والسذاجة ولا تنتج سوى الفوضى والهرج والمرج فإنّ ضرورة وجود حكومة في حياة البشر في غاية الوضوح بحيث لا يحتاج إلى دليل وبرهان أبداً.

إنّ الضرورة تقضي بقيام دولة تصون الحريات الفردية إلى جانب المصالح الاجتماعية وتسعى في تنظيم الطاقات وتنمية المواهب، وتوقف أبناء المجتمع على واجباتهم، وتجري القوانين الإلهية أو البشرية.

ولأجل هذا اعتبر جماعة من الفلاسفة والعلماء الكبار، ( كإفلاطون وأرسطوا وابن خلدون وغيرهم(١) ، وجود الدولة ضرورة حيوية لا بد منها.

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون: ٤١ ـ ٤٢.

٦٤٩

ولم يشذ عن ذلك إلّا ماركس الذي اعتبر وجود الدولة أمراً ضرورياً ما دام هناك وجود للصراع الطبقي، أما مع انتشار الشيوعية واستقرار النظام الشيوعي في العالم كله فلا حاجة إليها.

غير أنّ ماركس نظر إلى الحياة البشرية من زاوية واحدة هي زاوية « الصراع الطبقي » في حين أنّ للحياة البشرية زوايا أُخرى لو نظر إليها ماركس، وطالعها بموضوعية ودقة، لما حكم بعدم الحاجة إلى الدولة، ولما دعا إلى زوالها حتى بعد انتشار الشيوعية ـ حسب نظره ـ.

لأنّ سبب النزاع والاختلاف بين أفراد البشر لا ينحصر في الصراع الطبقي فقط بحيث لو زال هذا الصراع لأصبحت الأرض جنة عدن، بل هناك الغرائز البشرية كغريزة حب الجاه، وحب الذات، وغيرها من الغرائز غير المهذبة، هي أيضاً منشأ الصراع والاختلاف بين البشر إلى جانب « الصراع الطبقي ».

ثم على فرض أن لا يكون هناك صراع طبقي فضرورة وجود الحكومة لأجل إدارة المجتمع من زاوية للقيام بحوائجها الاجتماعية أمر لا مناص منه.

فالمجتمع الذي زال فيه الصراع الطبقي لا يشذ عن سائر المجتمعات في احتياجه إلى من يدير أُموره من تأمين سكنه وصحته وتعليمه وتربيته ومواصلاته البرية والبحرية والجوية، والفصل في خصوماته في ما لا يرجع إلى الأُمور الطبقية إلى غير ذلك من الشؤون التي لا مناص منها لإقامة المجتمع مما يحتاج إلى المؤسسات، وإدارة شؤونها.

فلابد من مؤسسات تقوم كل واحدة منها بناحية من هذه الأُمور وتنظيمها ولا نعني من الحكومة إلّا هذا.

٦٥٠

وعلى أي حال فلابد من دولة توقف الناس على وظائفهم القانونية، وتعاقب المخالفين المتجاوزين، وتعيد الحقوق المهضمومة إلى ذويها، وتصون النظام والانضباط الاجتماعي الذي يمثل قاعدة السعادة ورمز بقاء المدنية، وأساس استمرار الحضارة وسبب تقدم البشرية في المجالات المادية والمعنوية.

وخلاصة القول: إنّ حفظ النظام الاجتماعي والحضارة الإنسانية وتعريف أفراد المجتمع بواجباتهم، ومالهم وما عليهم من الحقوق، ورفع أي نزاع وتصارع في حياة الجماعة أُمور تحتاج إلى: مرجع قوي يقوم بهذه المهام الضخمة، وهذا الواجب الإنساني الشريف ويحفظ بالتالي أساس الحضارة الذي هو حفظ النظام الاجتماعي وصيانته من التقهقر والانحطاط.

إنّ حقيقة الإسلام ليست إلّا سلسلة من « الأُصول والفروع » المنزلة من جانب الله والتي كلَّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بدعوة الناس إليها وتطبيقها على الحياة في الظروف المناسبة، ولكن حيث إنّ تطبيق طائفة من الأحكام التي تكفل استقرار النظام في المجتمع لم يكن ممكناً دون تشكيل حكومة وقيام دولة، لذلك أقدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بحكم العقل، وبحكم ما كان له من الولاية المعطاة له من قبل الله، على تشكيل دولة.

على أنّ الحكومة ليست بذاتها هدف الإسلام بل الهدف هو تنفيذ الأحكام والقوانين وضمان الأهداف الإسلامية العليا، وحيث إنّ هذه الأُمور لا تتحقق دون أجهزة سياسية، وسلطات حكومية لذلك قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه بمهمة تشكيل مثل هذه الدولة وتأسيس مثل هذه الحكومة.

والخلاصة: أنّ إجراء حد السرقة والزنا على السارق والزاني، وتنفيذ سائر الحدود والعقوبات، ومعالجة مشاكل المسلمين، وتسوية نزاعاتهم في الأُمور المالية

٦٥١

والحقوقية، ومنع الاحتكار والغلاء، وجمع الضرائب المالية الإسلامية وتوسيع رقعة انتشار الإسلام، ورفع الاحتياجات الأُخرى في المجتمع الإسلامي وغيرها، لا يمكن أن تتحقق دون وجود أمير جامع وزعيم حازم وبدون حكومة، وزعامة مقبولة لدى الأُمّة.

وحيث يتوجب على المسلمين الآن أن يطبقوا الأحكام الإسلامية بحذافيرها من جانب، وحيث إنّ تطبيقها على الوجه الصحيح لا يمكن دون تأسيس سلطة يخضع لها الجميع من جانب آخر، لهذا كله يتحتم أن تكون لهم أجهزة سياسية وتشكيلات حكومية، في إطار التعاليم والقيم الإسلامية ليستطيعوا بها أن يتقدّموا ـ في كل عصر ـ جنباً إلى جنب مع المتطلبات المستحدثة والاحتياجات المتجدّدة.

لقد أشار الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام إلى ضرورة تكوين مثل هذه الحكومة بل إلى ضرورة وجود حاكم ما مرجحاً الحاكم الجائر على الفوضى الاجتماعية والهرج والمرج الذي يستتبعه عدم وجود حاكم، وأشار في نفس الوقت إلى أنّ الحكومة في منطق الإسلام ليست هي الهدف، بل هي وسيلة لاستقرار حياة كريمة آمنة حتى يتمتع كل فرد بحقوقه العادلة.

لقد أشار الإمام علي إلى أنّ الدولة ـ في نظر الإسلام ـ وسيلة لحفظ النظام الاقتصادي والأمن والدفاع وأخذ حقوق المستضعفين من الأقوياء المستكبرين، إذ يقول :

« إنّه لابد للناس من أمير، بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع الفيء ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي ».

وفي رواية أُخرى قال :

٦٥٢

« أمّا الإمرة البرة فيعمل فيها التقي، وأمّا الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي، إلى أن تنقطع مدته، وتدركه منيته »(١) .

وعلى هذا البيان يكون وجود الدولة ضرورة اجتماعية لا مناص منها.

أضف إلى ذلك أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّف بعد رجوعه من حجة الوداع في غدير خم بأن ينصّب علياً خليفة من بعده لإمرة المسلمين، من جانب الله، وكان الأمر الإلهي مصدراً بقوله تعالى :

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (٢) .

ثم يجسد الله أهمية هذا الموضوع وخطورته القصوى بأنّ عدم إبلاغ ما أُوحي إليه في أمر الخلافة يساوي عدم إبلاغ الشريعة رأساً، إذ قال تعالى :

( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (٣) .

إنّ هذه الآية كما تدلّ على مقام الإمام وعظيم مكانته تكشف ـ كذلك ـ عن أهمية مقام الإمامة وخطورة قيادة المجتمع، لأنّه بسبب الإمام القائد تشرق أشعة العدالة على المجتمع البشري ولا تغيب، وهو الذي بسببه تبقى التعاليم الإلهية حية مصانة من كل تحريف، وبسببه تصل البشرية إلى شواطئ السعادة المادية والمعنوية على السواء.

الآثار السيئة لفقدان القائد

لقد بلغ الإسلام في حرب أحد أخطر مراحله، حيث عمد العدو إلى بث

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٣٩.

(٢) المائدة: ٦٧.

(٣) المائدة: ٦٦.

٦٥٣

الشائعات عن مقتل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي هذه اللحظة الحساسة التي شعر المسلمون فيها بفقدان الزعيم والقائد، خطرت في أذهان البعض فكرة العودة إلى الجاهلية والارتداد على الأعقاب، وراح هذا البعض يقول: لِمَ نحارب وقد مات رسول الله، فنزل القرآن يوبّخ من لهج بهذه الكلمة، وقال :

( وَمَا مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) (١) .

ولو أنّ شائعة مقتل النبي لم تكذب بظهورهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند أصحابه، لآل نظام المسلمين إلى التمزّق حتماً، ولانتهى الأمر بمقتل فريق وفرار آخرين في أسوأ نكسة عرفها التاريخ، فهل من الصحيح أن تهمل مسألة القيادة وهي بهذه الدرجة من الخطورة والأهمية في حياة الشعوب ؟

وهل من الصحيح أن لا يقدم المسلمون على إيجادها لتنظيم حياتهم لكي يستتب الأمن والسلام ؟

الاقتداء بسيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

كان الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا بعث سرية إلى الجهاد عيّن أُمراء متعددين لتلك السرية يتوالون على قيادتها، لكي لا تبقى دون آمر إذا أُصيب أحدهم، فتصبح كالقطيع بلا راع تنال الذئاب من أطرافها، وتتخطفها أيدي المخاطر من جوانبها.

ولمّا كان القرآن الكريم يأمرنا باتّباع سيرة الرسول والاقتداء به وجعله قدوة وأُسوة، فيقول :

__________________

(١) آل عمران: ١٤٤.

٦٥٤

( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ) (١) .

توجب علينا أن نجعل حياة النبي وفعله أُسوة لنا حتى في موضوع تأسيس الدولة.

ولقد أدرك المسلمون ـ بعد وفاة النبي ـ ضرورة وجود قائد للأُمّة، وإمام للمسلمين، فاتفقوا على وجود زعيم لهم بعد وفاة نبيهم، فصاروا فرقتين: فرقة تزعم أنّ حل هذه المشكلة بيد الأُمّة وأنّ لها تنصيب من يشغل هذه المنصة، في حين أنّ فريقاً آخر راح يستمد من نصوص النبي ويقول إنّ النبي قد سد هذا الفراغ ولم يهمل أمر الخلافة والقيادة، وعين القائد والخليفة من بعده، وبالتالي لم يكن بين المسلمين واحد ينكر ضرورة وجود الأمير والقائد.

وانطلاقاً من الأهمية التي تكمن في تأثير الحكومة في إصلاح أمر الناس عاجلاً وآجلاً قال الإمام الصادقعليه‌السلام في حديث مقتضب له :

« لا يستغني أهل كل بلد من ثلاثة، يفزع إليه في أمر دنياهم وآخرتهم، فإن عدموا كانوا همجاً: فقيه عالم ورع، وأمير خيّر مطاع، وطبيب بصير ثقة »(٢) .

كما صرح الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بهذه الفريضة الدينية في إحدى خطبه، إذ قال :

« والواجب في حكم الله والإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل، ضالاً كان أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدم، أو حرام الدم أن

__________________

(١) الأحزاب: ٢١.

(٢) تحف العقول: ٢٣٧.

٦٥٥

لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم، عفيفاً عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسنّة، يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم يحفظ أطرافهم، ويجبي فيئهم، ويقيم حجتهم، ويجبي صدقاتهم ».

يبقى أن نعرف أنّ هذا القانون الكلي الذي يذكره الإمام علي يرتبط بالفترة التي لم يسد هذا الفراغ من جانب الله، وتنصيب النبي الأعظم، إذ لو كان القائد معيناً من جانبه سبحانه لانتفى التكليف بانتخاب الإمام، قال سبحانه :

( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَىٰ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ) (١) .

وعلى كل حال فالضرورة قاضية بلزوم وجود قائد للناس يتحمل أعباء الحكومة، ويتصدى لأُمور الزعامة، وإدارة المجتمع، حسب الطرق الصحيحة.

الولاية والحاكمية لله سبحانه

لقد أثبت البحث السابق لزوم وجود الحكومة في المجتمع البشري بالمعنى الجامع بين السلطة التشريعية التي لها حق التشريع والتقنين، والسلطة التنفيذية التي لها حق تنفيذ الأحكام والمقررات، والسلطة القضائية التي لها حق القضاء وفصل الخصومات بين الناس.

ومن المعلوم جداً أنّ إعمال الحاكمية في المجتمع لا ينفك عن التصرف في النفوس والأموال وتنظيم الحريات من غير فرق بين أن تكون الحكومة بيد الفرد أو المجتمع.

__________________

(١) الأحزاب: ٣٦.

٦٥٦

لكن التسلط على الأموال والنفوس وإيجاد أي محدودية مشروعة بين الأُمّة يحتاج إلى ولاية بالنسبة، إلى المسلّط عليهم، ولولا ذلك لعدّ التصرف تصرفاً عدوانياً.

ولا نعني بالولاية هنا ولاية الولي بالنسبة إلى الأيتام والقصّر والغيب، بل المقصود هو الولاية التي يحق معها أن يتصرف في شؤون المجتمع نفوساً وأموالاً وينظم أُمورهم ويعمّر بلادهم ويؤمن مجتمعهم، بالسلطات الثلاث ولولا ذلك لصار النظام طاغوتياً يحكم في المجتمع من كان غالباً وقاهراً فيجب علينا أن نعرف من له الولاية أصالة على العباد والبلاد.

وبما أنّ جميع الناس سواسية أمام الله، والكل مخلوق ومحتاج إليه لا يملك شيئاً حتى وجوده وفعله وفكره، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات والأصالة، بل الولاية لله المالك الحقيقي للإنسان والكون والواهب له وجوده وحياته كما يقول سبحانه :

( هُنَالِكَ الولاَيَةُ للهِ الحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) (١) .(٢)

فقد ظهر من هذا البيان أنّ المقصود من حصر الحاكمية في الله هو حصر جذور الحاكمية وعللها المستتبعة لها، وهي الولاية فيه، فبما أنّ الولاية على العباد منحصرة في خالقهم فالحاكمية بمعنى الولاية منحصرة فيه سبحانه أيضاً، فلا يجوز لأحد أن يتولّى الحكومة إلّا أن يكون مأذوناً ممن له الولاية الحقيقية وإلاّ

__________________

(١) الكهف: ٤٤.

(٢) مجمع البيان: ٣ / ٤٧٢. والاستدلال بالآية على انحصار الولاية في الله سبحانه متفرع على أن يكون اسم الإشارة ( هنالك ) إشارة إلى الوقت الذي يتنازع فيه الكافر والمؤمن في هذه الدنيا وأن تكون الولاية بمعنى تولّي الأُمور فهو الذي يتولّى أمر عباده، وللأمين الطبرسي تحقيق حول كلمة الولاية في الآية فراجع.

٦٥٧

أصبحت حكومته حكومة جور وعدوان.

ولا نعني من عنوان « انحصار حق الحاكمية في الله » حصر الإمرة في الله بأن يتولّي هو سبحانه الإمرة على العباد، كما سيتضح ذلك، فإنّ للأنبياء والصلحاء وكل مأذون من قبله سبحانه أن يتولى الإمرة من جانب الله، بل المراد أنّ الولاية وحق الحكومة بالأصالة حق لله سبحانه وإنّما يتصدى غيره بإذنه، وذلك مثل قوله:( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (١) ، أي بيده أمر الشفاعة من تعيين الشافع والمشفوع له، ومثله المقام فإنّ بيده زمام الحكومة، فهو يعين الحاكم ويعين له وظائفه وكيفية حكمه.

وعلى هذا فالحاكمية خاصة بالله تعالى ومنحصرة فيه، وهي من إحدى مراتب التوحيد.

ولقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله :

( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (٢) .

إنّ المراد من الحكم في جملة( إِنِ الحُكْمُ ) هو الحاكمية القانونية التي تنبعث من الولاية الحقيقية المنبعثة من خالقيته ومالكيته سبحانه لا الحاكمية التكوينية بمعنى التصرف في الكون بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة، وقد أوضحنا مفاد الآية في الفصل العاشر فراجع ص ٦٠٦.

نعم لا داعي لأن نحصر لفظة « الحكم » التي لها معنى وسيع في خصوص

__________________

(١) الزمر: ٤٤.

(٢) يوسف: ٤٠.

٦٥٨

« القضاء » أو في خصوص « التشريع والتقنين »، بل الحكم في هذه الآية ذو مدلول أوسع يكون « القضاء » من إحدى شؤونه، وما ذلك المعنى إلّا السلطة والإمرة والحاكمية بمفهومها الوسيع التي تقوم بالسلطات الثلاث.

هذا وفي مقدور القارئ الكريم أن يستظهر هذه الحقيقة، ونعني: انحصار الحاكمية في الله تعالى، من آيات أُخرى أيضاً غير ما ذكرناه في مطلع هذا المبحث، مثل قوله :

( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفاصِلِينَ ) (١) .

( أَلاَ لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) (٢) .

( لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٣) .

الولاية لله سبحانه لا الإمرة والإدارة

إنّ اختصاص حق الحاكمية بالله سبحانه ليس بمعنى قيامه بإدارة البلاد وإقرار النظام وممارسة الإمرة وفصل الخصومة إلى غير ذلك مما يدور عليه أمر الحكومة، فإنّ ذلك غير معقول ولا محتمل، بل المراد أنّ من يمثّل مقام الإمرة في المجتمع البشري يجب أن يكون مأذوناً من جانبه سبحانه لإدارة الأُمور والتصرف في النفوس والأموال وأن تكون ولايته مستمدة من ولايته سبحانه، ومنبثقة منها، ولولا ذلك لما كان لتنفيذ حكمه جهة ولا دليل.

وإن شئت قلت: إنّ المقصود هو حصر الولاية التي تنبعث منها الحاكمية

__________________

(١) الأنعام: ٥٧.

(٢) الأنعام: ٦٢.

(٣) القصص: ٧٠.

٦٥٩

في الله سبحانه، لا حصر الإمرة والتصدي لنظام البلاد وإقرار الأمن في المجتمع البشري، إلى غير ذلك من الشؤون.

نعم لا مناص في إعمال الولاية لله سبحانه من تنصيب من يباشر إدارة البلاد، إذ تستحيل ممارسة الحكم لله بصورة مباشرة.

ولأجل ذلك نجد أُمّة كبيرة من جنس البشر تولّوا منصة الولاية من جانب الله سبحانه وإذنه الخاص يديرون شؤون الحياة الاجتماعية للإنسان، وفي ذلك يخاطب الله نبيه داود ويقول :

( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) (١) .

إنّ الآية وإن كانت واردة في تنصيب داود على القضاء ولكن نفوذ قضائه في زمانه كان ناشئاً عن ولايته وحاكميته الواسعة التي تشمل الحكم والإمرة بحيث يكون نفوذ القضاء من لوازمها وفروعها، فهو سبحانه لم ينصبه للقضاء فحسب، بل أعطى له الحكومة الواسعة بأبعادها، لأنّ نفوذ حكم القاضي غير ممكن من دون أن تكون له سلطة وحاكمية، ولم يكن القضاء في تلكم الأعصار منفصلاً عن سائر شؤون الحكومة كما هو الرائج في عصرنا وقد كان داودعليه‌السلام يتمتع بسلطة تامة واسعة تشمل التنفيذية والتشريعية ـ بمعنى بيان الأحكام عن طريق الوحي ـ والقضائية إذ يقول عنه القرآن :

( وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَولاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرضُ ) (٢) .

__________________

(١) ص: ٢٦.

(٢) البقرة: ٢٥١.

٦٦٠

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672