مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154953 / تحميل: 6020
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

القرآن الكريم هذا الفصل بهذه الجملة :( وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى ) ومن المسلّم أنّ المراد من هذه الآيات هنا ليس كلّ المعجزات التي ظهرت على يد موسىعليه‌السلام طيلة حياته في مصر. بل مرتبطة بالمعجزات التي أراها فرعون في بداية دعوته ، معجزة العصا ، واليد البيضاء ، ومحتوى دعوته السماوية الجامعة ، والتي كانت بنفسها دليلا حيّا على أحقّيته ، ولذلك تطالعنا بعد هذه الحادثة مسألة المواجهة بين السّحرة وموسىعليه‌السلام ومعجزاته الجديدة.

والآن ، لنر ماذا قال فرعون الطاغي المستكبر العنود في مقابل موسى ومعجزاته ، وكيف اتّهمه كما هي عادة كلّ المتسلّطين والحكّام المتعنّتين :( قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى ) وهو إشارة إلى أنّنا نعلم أنّ مسألة النبوّة والدعوة إلى التوحيد ، وإظهار هذه المعجزات تشكّل بمجموعها خطّة منسّقة للانتصار علينا ، وبالتالي إخراجنا مع الأقباط من أرض آبائنا وأجدادنا ، فليس هدفك الدعوة إلى التوحيد ، ولا نجاة وتخليص بني إسرائيل ، بل هدفك الوصول إلى الحكم والسيطرة على هذه الأرض ، وإخراج المعارضين!

إنّ هذه التهمة هي نفس الحربة التي يستخدمها الطواغيت والمستعمرون على امتداد التاريخ ، ويلوحون بها ويشهرونها كلّما رأوا أنفسهم في خطر ، ومن أجل إثارة الناس لصالحهم يثيرون مسألة تعرّض مصالح البلد للخطر ، فالبلد يعني حكومة هؤلاء العتاة ، ووجوده يعني وجودهم!

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الهدف من جلب بني إسرائيل إلى مصر ، والاحتفاظ بهم في هذه الأرض لم يكن من أجل استغلال قواهم كعبيد وحسب ، بل إنّهم في الوقت نفسه كانوا لا يريدون لبني إسرائيل ، الذين كانوا قوما أقوياء ، أن يتحوّلوا إلى قوّة ومصدر خطر. وكذلك لم يكن الأمر بقتل الذكور للخوف من ولادة موسى فقط ، بل للوقوف أمام قوّتهم والحدّ منها ، وهذا عمل يقوم به كلّ الأقوياء الظالمين ، وبناء على هذا فإنّ خروج بني إسرائيل ـ حسب طلب موسى ـ

٢١

يعني اقتدار هذه الأمّة ، وفي هذه الحالة سيتعرّض سلطان الفراعنة وعرشهم إلى الخطر.

والنقطة الأخرى في هذه العبارة القصيرة ، هي أنّ فرعون قد اتّهم موسى بالسحر ، وهذا هو ما اتّهم به كلّ الأنبياء عند إظهار معجزاتهم البيّنة ، كما نقرأ ذلك في الآيتين (52 ـ 53) من سورة الذاريات :( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) .

وتجدر الإشارة إلى هذه المسألة أيضا ، وهي أنّ إثارة المشاعر الوطنية وحبّ الوطن في مثل هذه المواضع أمر مدروس بدقّة كاملة ، لأنّ أغلب الناس يحبّون أرضهم ووطنهم كحبّهم أنفسهم وأرواحهم ، ولذلك جعلوا هذين الأمرين في مرتبة واحدة ، كما في بعض آيات القرآن :( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) (1) .

ثمّ أضاف فرعون بأن لا تظن بأنّنا نعجز عن أن نأتي بمثل هذا السحر( فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ) ، ولكي يظهر حزما أكثر فإنّه قال :( فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً ) .

وذكر البعض في تفسير( مَكاناً سُوىً ) : إنّ المراد هو أن تكون فاصلته عنّا وعنك متساوية ، وقال بعضهم : أن تكون فاصلته متساوية بالنسبة إلى الناس ، أي أن يكون المكان في وسط المدينة تماما ، وقال بعض : المراد أن تكون الأرض أرضا مكشوفة ومسطّحة يشرف عليها الجميع ، وأن يتساوى في ذلك العالي والداني. ويمكن أن تعتبر كلّ هذه المعاني مجتمعة فيها.

وينبغي التذكير بأنّ الحكّام الطغاة ، ومن أجل أن يهزموا خصمهم في المعركة ، ويرفعوا معنويات أتباعهم وأعوانهم الذين ربّما وقعوا تحت تأثيره (كما في قصّة

__________________

(1) النساء ، 66.

٢٢

موسى ومعجزاته فلا يبعد أن يكونوا قد وقعوا تحت تأثيره) فإنّهم يعيدون إليهم المعنويات والقوّة ، ويتعاملون في الظاهر مع أمثال هذه المسائل بصرامة وشدّة ، ويثيرون الصخب حولها!

إلّا أنّ موسى لم يفقد هدوء أعصابه ، ولم يدع للخوف من عنجهيّة فرعون إلى قلبه طريقا ، بل قال بحزم :( قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) (1) .

إنّ التعبير بـ( يَوْمُ الزِّينَةِ ) إشارة إلى يوم عيد كان عندهم لا نستطيع تعيينه بدقّة ، إلّا أنّ المهمّ هو أنّ الناس كانوا يعطّلون أعمالهم فيه ، وكانوا حتما مستعدّين للمشاركة في مثل هذا «المشهد».

على كلّ حال ، فإنّ فرعون بعد مشاهدة معجزات موسى العجيبة ، وتأثيرها النفسي في أنصاره ، صمّم على مواجهة موسىعليه‌السلام بالاستعانة بالسّحرة ، ولذلك وضع الاتّفاق المذكور مع موسى( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى ) .

في هذه الجملة القصيرة تلخّصت حوادث جمّة جاءت بشكل مفصّل في سورتي الأعراف والشعراء ، لأنّ فرعون بعد تركه ذلك المجلس ومفارقة موسى وهارون ، عقد اجتماعات عديدة مع مستشاريه الخاصّين ، وأتباعه المستكبرين ، ثمّ دعا السّحرة من جميع أنحاء البلاد إلى الحضور في العاصمة ، ورغّبهم بمرغّبات كثيرة من أجل مواجهة موسىعليه‌السلام ، وامور أخرى ليس هنا مجال بحثها ، إلّا أنّ القرآن الكريم قد جمّعها كلّها في هذه الجمل الثلاث :( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ ، ثُمَّ أَتى ) (2) .

وأخيرا حلّ اليوم الموعود ، ووقف موسى أمام جميع الحاضرين ، الذين كان بعضهم السّحرة ، وكان عددهم ـ على رأي بعض المفسّرين ـ إثنين وسبعين

__________________

(1) «الضحى» في اللغة بمعنى زيادة أشعّة الشمس ، أو ارتفاع الشمس ، والواو في جملة (وأن يحشر الناس) دالّة على المعيّة.

(2) بالرغم من أنّ (تولّى) فسّرت هنا بالافتراق عن موسى ، أن عن ذلك المجلس ، إلّا أنّ من الممكن أن تعكس ـ مع ملاحظة معناها من الناحية اللغوية ـ حالة الاعتراض والغضب لدى فرعون. وموقفه المعادي تجاه موسى.

٢٣

ساحرا ، وقال آخرون إنّهم بلغوا أربعمائة ، وذكر البعض أعدادا أكبر أيضا. وكان قسم من ذلك الجمع عبارة عن فرعون وأنصاره وحاشيته ، وأخيرا القسم الثّالث الذي كان يشكّل الأكثرية ، وهم الناس المتفرّجون.

هنا توجّه موسى إلى السّحرة ، أو إلى الفراعنة ، والسّحرة ، و( قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى ) . وواضح أنّ مراد موسى من الافتراء على الله سبحانه هو أن يجعلوا شخصا أو شيئا شريكا له ، أو ينسبوا معجزات رسول الله إلى السحر ، ويظنّوا أنّ فرعون إلههم ومعبودهم ، ومن المحتّم أنّ الله سبحانه سوف لا يدع من ينسبون هذه الأكاذيب إلى الله ، ويسعون بكلّ قواهم لإطفاء نور الحقّ ، بدون عقاب.

إنّ كلام موسى المتين الذي لا يشبه كلام السّحرة بوجه ، بل إنّ نبرته كانت نبرة دعوة كلّ الأنبياء الحقيقيين ، ونابعة من صميم قلب موسى الطاهر ، فأثّرت على بعض القلوب ، وأوجدت اختلافا بين ذلك الحشد من السّحرة ، فبعض كان يناصر المواجهة والمبارزة ، وبعض تردّد في الأمر ، واحتمل أن يكون موسىعليه‌السلام نبيّا إليها ، وأثّرت فيهم تهديداته ، خاصّة وأنّ لباس موسى وهارون البسيط كان لباس رعاة الأغنام ، وعدم مشاهدة الضعف والتراجع على محيّاهما بالرغم من كونهما وحيدين ، كان يعتبر دليلا آخر على أصالة أقوالهما وصدق نواياهما ، ولذلك فإنّ القرآن يقول :( فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى ) .

إنّ من الممكن أن تكون هذه المسارّة والنجوى أمام فرعون ، ويحتمل أيضا أن لا تكون أمامه ، وهناك احتمال آخر ، وهو أنّ القائمين على إدارة هذا المشهد قد تناجوا في خفاء عن الناس.

إلّا أنّ أنصار الاستمرار في المواجهة انتصروا أخيرا وأخذوا زمام المبادرة بيدهم ، وشرعوا في تحريك السّحرة بطرق مختلفة ، فأوّلا( قالُوا إِنْ هذانِ

٢٤

لَساحِرانِ ) (1) وبناء على هذا فلا يجب أن تخافوا مواجهتهما ، لأنّكم كبار وأساتذة السحر في هذه البلاد العريضة ، ولأنّ قوتكم وقدرتكم أكبر منهما!

ثمّ إنّهما( يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما ) الوطن الذي هو أعزّ من أنفسكم ، إضافة إلى أنّهما لا يقنعان بإخراجكم من أرضكم ، بل إنّهما يريدان أيضا أن يجعلا مقدّساتكم أضحوكة ومحلّا للسخرية( وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى ) (2) .

والآن حيث أصبح الأمر كذلك ، فلا تدعوا للتردّد إلى أنفسكم طريقا مطلقا ، بل( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ) لأنّ الوحدة رمز انتصاركم في هذه المعركة المصيريّة الحاسمة( وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى ) .

* * *

__________________

(1) إنّ هذه الجملة من ناحية الإعراب هي : (إن) مخفّفة من (أنّ) ولذلك لم تعمل عملها فيما بعدها ، إضافة إلى أنّ رفع اسم (إن) ليس قليلا في لغة العرب.

(2) «الطريقة» تعني العادة والأسلوب المتبع ، والمراد منها هنا المذهب. و (مثلي) من مادّة (مثل). وهي هنا تعني العالي والأفضل ، أي الأشبه بالفضيلة.

٢٥

الآيات

( قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام ينزل إلى الساحة :

لقد اتّحد السّحرة ظاهرا ، وعزموا على محاربة موسىعليه‌السلام ومواجهته ، فلمّا نزلوا إلى الميدان( قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ اقتراح السّحرة ، هذا إمّا أن يكون من أجل أن يسبقهم موسىعليه‌السلام ، أو إنّه كان احتراما منهم لموسى ، وربّما كان هذا الأمر هو الذي هيّأ السبيل إلى أن يذعنوا لموسىعليه‌السلام ويؤمنوا به بعد هذه الحادثة.

٢٦

إلّا أنّ هذا الموضوع يبد وبعيدا جدّا ، لأنّ هؤلاء كانوا يسعون بكلّ ما أوتوا من قوّة لأن يسحقوا ويحطّموا موسى ومعجزته ، وبناء على هذا فإنّ التعبير آنف الذكر ربّما كان لإظهار اعتمادهم على أنفسهم أمام الناس.

غير أنّ موسىعليه‌السلام بدون أن يبدي عجلة ، لاطمئنانه بأنّ النصر سوف يكون حليفه ، بل وبغضّ النظر عن أنّ الذي يسبق إلى الحلبة في هذه المجابهات هو الذي يفوز( قالَ بَلْ أَلْقُوا ) . ولا شكّ أنّ دعوة موسىعليه‌السلام هؤلاء إلى المواجهة وعمل السحر كانت مقدّمة لإظهار الحقّ ، ولم يكن من وجهة نظر موسىعليه‌السلام أمرا مستهجنا ، بل كان يعتبره مقدّمة لواجب.

فقبل السّحرة ذلك أيضا ، وألقوا كلّ ما جلبوه معهم من عصي وحبال للسحر في وسط الساحة دفعة واحدة ، وإذا قبلنا الرّواية التي تقول : إنّهم كانوا آلاف الأفراد ، فإنّ معناها أنّ في لحظة واحدة ألقيت في وسط الميدان آلاف العصي والحبال التي ملئت أجوافها بمواد خاصة( فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ) !

أجل ، لقد ظهرت بصورة أفاع وحيّات صغيرة وكبيرة متنوّعة ، وفي أشكال مختلفة ومخيفة ، ونقرأ في الآيات الأخرى ، من القرآن الكريم في هذا الباب :( سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) (1) وبتعبير الآية (44) من سورة الشعراء :( وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ ) .

لقد ذكر كثير من المفسّرين أنّ هؤلاء كانوا قد جعلوا في هذه الحبال والعصي موادا كالزئبق الذي إذا مسّته أشعّة الشمس وارتفعت حرارته وسخن ، فإنّه يولّد لهؤلاء ـ نتيجة لشدّة فورانه ـ حركات مختلفة وسريعة «إنّ هذه الحركات لم تكن سيرا وسعيا حتما ، إلّا أن إيحاءات السّحرة التي كانوا يلقنونها الناس ، والمشهد

__________________

(1) الأعراف ، 116.

٢٧

الخاص الذّي ظهر هناك ، كان يظهر لأعين الناس ويجسّد لهم أنّ هذه الجمادات قد ولجتها الروح ، وهي تتحرّك الآن. (وتعبير( سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ) إشارة إلى هذا المعنى أيضا ، وكذلك تعبير( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ) يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى أيضا).

على كلّ حال ، فإنّ المشهد كان عجيبا جدّا ، فإنّ السّحرة الذين كان عددهم كبيرا ، وتمرسهم واطلاعهم في هذا الفن عميقا ، وكانوا يعرفون جيدا طريقة الاستفادة من خواص هذه الأجسام الفيزيائية والكيميائية الخفيّة ، استطاعوا أن ينفذوا إلى أفكار الحاضرين ليصدّقوا أنّ كلّ هذه الأشياء الميتة قد ولجتها الروح.

فعلت صرخات السرور من الفراعنة ، بينما كان بعض الناس يصرخون من الخوف والرعب ، ويتراجعون إلى الخلف.

في هذه الأثناء( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ) وكلمة «أوجس» أخذت من مادّة (إيجاس) وفي الأصل من (وجس) على وزن (حبس) بمعنى الصوت الخفي ، وبناء على هذا فإنّ الإيجاس يعني الإحساس الخفي والداخلي ، وهذا يوحي بأنّ خوف موسى الداخلي كان سطحيّا وخفيفا ، ولم يكن يعني أنّه أولى اهتماما لهذا المنظر المرعب لسحر السّحرة ، بل كان خائفا من أن يقع الناس تحت تأثير هذا المنظر بصورة يصعب معها إرجاعهم إلى الحقّ.

أو أن يترك جماعة من الناس الميدان قبل أن تتهيّأ الفرصة لموسى لإظهار معجزته ، أو أن يخرجوهم من الميدان ولا يتضح الحقّ لهم ، كما نقرأ في خطبة الإمام عليعليه‌السلام الرقم (6) من نهج البلاغة : «لم يوجس موسىعليه‌السلام خيفة على نفسه ، بل أشفق من غلبة الجهّال ودول الضلال»(1) . ومع ما قيل لا نرى ضرورة لذكر الأجوبة الأخرى التي قيلت في باب خوف موسىعليه‌السلام .

__________________

(1) لقد قال الإمام عليعليه‌السلام هذا الكلام في وقت كان قلقا من انحراف الناس ، ويشير إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ قلقي ليس نابعا من شكّي في الحقّ.

٢٨

على كلّ حال ، فقد نزل النصر والمدد الإلهي على موسى في تلك الحال ، وبيّن له الوحي الإلهي أنّ النصر حليفه كما يقول القرآن :( قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ) .

إنّ هذه الجملة وبتعبيرها المؤكّد قد أثلجت قلب موسى بنصره المحتّم ـ فإنّ (إنّ) وتكرار الضمير ، كلّ منهما تأكيد مستقل على هذا المعنى ، وكذلك كون الجملة اسميّة ـ وبهذه الكيفيّة ، فقد أرجعت لموسى اطمئنانه الذي تزلزل للحظات قصيرة.

وخاطبه الله مرّة أخرى بقوله تعالى :( وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) .

«تلقف» من مادة «لقف» بمعنى البلع ، إلّا أنّ الراغب يقول في مفرداته : إنّ معناها في الأصل تناول الشيء بحذق ، سواء في ذلك تناوله باليد أو الفمّ. وفسّرها بعض اللغويين بأنّها التناول بسرعة.

وممّا يلفت النظر أنّه لم يقل (الق عصاك) بل يقول (الق ما في يمينك) وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى عدم الاهتمام بالعصا ، وإشارة إلى أنّ العصا ليست مسألة مهمّة ، بل المهم إرادة الله وأمره ، فإنّه إذا أراد الله شيئا ، فليست العصا فقط ، بل أقل وأصغر منها قادر على إظهار مثل هذه المقدّرة!

وهنا نقطة تستحقّ الذكر أيضا وهي : إنّ كلمة (ساحر) في الآية وردت أوّلا نكرة ، وبعدها معرفة بألف ولام الجنس ، وربّما كان هذا الاختلاف لأنّ الهدف في المرتبة الأولى هو عدم الاهتمام بعمل هؤلاء السّحرة ، ومعنى الجملة : إنّ العمل الذي قام به هؤلاء ليس إلّا مكر ساحر. أمّا في المورد الثّاني فقد أرادت التأكيد على أصل عام ، وهو أنّه ليس هؤلاء السّحرة فقط ، بل كلّ ساحر في كلّ زمان ومكان وأينما وجد سوف لا ينتصر ولا يفلح.

* * *

٢٩

بحثان

1 ـ ما هي حقيقة السحر؟

بالرغم من أنّنا تحدّثنا بصورة مفصّلة فيما مضى عن هذا الموضوع ، إلّا أنّنا نرى أن نذكر على سبيل الإيضاح باختصار أنّ «السحر» في الأصل يعني كلّ عمل وكلّ شيء يكون مأخذه خفيا ، إلّا أنّه يقال في التعبير المألوف للأعمال الخارقة للعادة التي تؤدّى باستعمال الوسائل المختلفة. فتسمّى سحرا أيضا فأحيانا يتخذ جانب الحيلة والمكر وخداع النظر والشعوذة.

وأحيانا يستفاد من عوامل التلقين والإيحاء.

وأحيانا يستفاد من خواص الأجسام والمواد الفيزيائية والكيميائية المجهولة.

وأحيانا بالاستعانة بالشياطين.

وكلّ هذه الأمور جمعت واندرجت في ذلك المفهوم اللغوي الجامع.

إنّنا نواجه على طول التاريخ قصصا كثيرة حول السحر والسّحرة ، وفي عصرنا الحاضر فإنّ الذين يقومون بهذه الأعمال ليسوا بالقليلين ، إلّا أنّ كثيرا من خواص الأجسام والموجودات التي كانت خافية على الناس فيما مضى ، قد اتّضحت في زماننا الحاضر ، بل كتبوا كتبا في مجال آثار الموجودات المختلفة العجيبة ، فكشفت كثيرا من سحر السّاحرين وسلبته من أيديهم.

فمثلا ، إنّنا نعرف في علم الكيمياء الحديثة أجساما كثيرة وزنها أخفّ من الهواء ، وإذا ما وضعت داخل جسم فإنّ من الممكن أن يتحرّك ذلك الجسم ، ولا يتعجّب من ذلك أحد ، فحتّى الكثير من وسائل لعب الأطفال اليوم ربّما كانت تبدو سحرا في الماضي!

اليوم يعرضون في «السيرك» فعاليّات تشبه سحر السّحرة الماضين بالاستفادة من كيفيّة الإضاءة وتوليد النور ، والمرايا ، وخواص الأجسام

٣٠

الفيزياوية والكيمياوية ، ويحدثون مشاهد غريبة وعجيبة بحيث يفتح المتفرجون أفواههم أحيانا من التعجّب.

طبعا ، إنّ أعمال المرتاضين الخارقة للعادة لها قصّة أخرى عجيبة جدّا.

وعلى كلّ حال ، فانّه لا مجال لإنكار وجود السحر ، أو اعتباره خرافة سواء في الأزمنة الماضية أو هذه الأيّام.

والملاحظة التي تستحقّ الانتباه ، هي أنّ السحر ممنوع في الإسلام ، ويعدّ من الذنوب الكبيرة ، لأنّه في كثير من الأحيان سبب لضلال الناس ، وتحريف الحقائق ، وتزلزل عقائد السذج. ومن الطبيعي أنّ لهذا الحكم الإسلامي ـ ككثير من الأحكام الاخرى ـ موارد استثناء ، ومن جملتها تعلّم السحر لإبطال ادّعاء المدّعين للنبوّة ، أو لإزالة أثره ممّن رأوا منه الضرر والأذى. وقد تحدّثنا حول هذه المسألة بصورة مفصّلة في ذيل الآيتين 102 ـ 103 من سورة البقرة.

2 ـ السّاحر لا يفلح أبدا

يسأل الكثيرون : إنّ السّحرة إذا كانوا يقدرون على القيام بأعمال خارقة للعادة وشبيهة بالمعجزة ، فكيف يمكن التفريق والتمييز بين أعمال هؤلاء وبين المعجزة؟

والجواب عن هذا السؤال بملاحظة نقطة واحدة ، وهي : إنّ عمل السّاحر يعتمد على قوّة الإنسان المحدودة ، والمعجزة تستمدّ قوتها وتنبع من قدرة الله الأزليّة غير المتناهية ، ولذلك فإنّ أي ساحر يستطيع أن يقوم بأعمال محدودة ، وإذا أراد ما هو أعظم منها فسيعجز ، فهو يستطيع أن يؤدّي ما تمرّن عليه كثيرا من قبل ، وتمكّن منه وسيطر عليه ، وأصبح مطّلعا وعارفا بكلّ دقائق وزوايا وعقد ذلك العمل ، إلّا أنّه سيكون عاجزا فيما عداه ، في حين أنّ الأنبياء لمّا كانوا يستمدّون العون من قدرة الله الأزليّة ، فإنّهم قادرون على القيام بأي عمل خارق

٣١

للعادة ، في الأرض ، والسّماء ، ومن كلّ نوع وشكل.

السّاحر لا يستطيع أن يقوم بالعمل الخارق وفق اقتراح الناس ، إلّا أن يكون ذلك الاقتراح مطابقا لما تمرّن عليه (وأحيانا يتفقون مع أصدقائهم بأن ينهضوا من بين الناس ويقترحوا ابتداء القيام بالعمل المتفق عليه سابقا) إلّا أنّ الأنبياء كانوا يقومون مرارا وتكرارا بمعاجز مهمّة كان يطلبها أناس يبتغون الحقّ دعما للنبوّة ودليلا على صحتها ، كما سنلاحظ ذلك أيضا في قصّة موسى هذه.

ومع ما مرّ ، فإنّ السحر لما كان عملا منحرفا ، ونوعا من الخدعة والمكر ، فإنّه يحتاج إلى وضع روحي ينسجم معه ، والسّحرة ـ بدون استثناء ـ أفراد خدّاعون ماكرون يمكن معرفتهم بسرعة من خلال مطالعة نفسياتهم ، في حين أنّ إخلاص وطهارة وصدق الأنبياءعليهم‌السلام أمور مقرونة بمعاجزهم ، وتضاعف من تأثيرها.

(دقّقوا ذلك).

وربّما لهذه الأسباب تقول الآية :( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) لأنّ قوّته محدودة ، وأفكاره وصفاته منحرفة.

إنّ هذا الموضوع لا يختص بالسّحرة الذين هبّوا لمحاربة الأنبياء ، بل هو صادق في شأن السّحرة بصورة عامّة ، لأنّهم سوف يفتضحون بسرعة ، ولا يفلحون في عملهم.

* * *

٣٢

الآيات

( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) )

التّفسير

الإنتصار العظيم لموسىعليه‌السلام :

انتهينا في الآيات السابقة إلى أنّ موسى أمر أن يلقي عصاه ليبطل سحر السّاحرين ، وقد عقبت هذه المسألة في هذه الآية ، غاية الأمر أنّ العبارات والجمل

٣٣

التي كانت واضحة قد حذفت ، وهي (أنّ موسى قد ألقى عصاه ، فتحوّلت إلى حيّة عظيمة لقفت كلّ آلات وأدوات سحر السّحرة ، فعلت الصيحة والغوغاء من الحاضرين ، فاستوحش فرعون وارتبك ، وفغر أتباعه أفواهمم من العجب.

فأيقن السّحرة الذين لم يواجهوا مثل هذا المشهد من قبل ، وكانوا يفرّقون جيدا بين السحر وغيره ، إنّ هذا الأمر ليس إلّا معجزة إلهيّة ، وإنّ هذا الرجل الذي يدعوهم إلى ربّهم هو رسول الله ، فاضطربت قلوبهم ، وتبيّن التحوّل العظيم في أرواحهم ووجودهم).

والآن نسمع بقيّة الحديث من لسان الآيات :

( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى ) . إنّ التعبير بـ (القي) ـ وهو فعل مبني للمجهول ـ ربّما كان إشارة إلى أنّهم قد صدّقوا موسى ، وتأثّروا بمعجزته إلى الحدّ الذي سجدوا معه دون إرادة.

ونقطة أخرى يلزم ذكرها وتستحقّ الالتفات ، وهي أنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الإيمان القلبي ، بل رأوا أنّ من واجبهم إظهار هذا الإيمان بصورة جليّة ، بتعابير لا يشوبها أي إبهام ، أي التأكيد على ربوبية ربّ موسى وهارون ، حتّى يرجع أولئك الذين ضلّوا بسبب سحرهم ، ولا تبقى على عاتقهم مسئولية من هذه الجهة.

من البديهي أنّ عمل السّحرة هذا قد وجّه صفعة قويّة إلى فرعون وحكومته الجبّارة المستبدّة الظالمة ، وهزّ كلّ أركانها ، لأنّ الإعلام كان قد ركّز على هذه المسألة مدّة طويلة في جميع أنحاء مصر ، وكانوا قد جلبوا السّحرة من كلّ أرجاء البلاد ، ووعد هؤلاء بكلّ نوع من المكافئات والجوائز والامتيازات إذا ما غلبوا وانتصروا في المعركة!

إلّا أنّه يرى الآن أنّ أولئك الذين كانوا في الصفّ الأوّل من المعركة ، قد استسلموا فجأة للعدو بصورة جماعية ، ولم يسلموا وحسب ، بل أصبحوا من المدافعين الصلبين عنه ، ولم تكن هذه المسألة في حسبان فرعون أبدا ، ولا شكّ أنّ

٣٤

جمعا من الناس قد اتّبعوا السّحرة وآمنوا بدين موسى. ولذلك لم ير فرعون بدّا إلّا أن يجمع كيانه ويلملم ما تبّقى من هيبته وسلطانه عن طريق الصراخ والتهديد والوعيد الغليظ ، فتوجّه نحو السّحرة و( قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) .

إنّ هذا الجبّار المستكبر لم يكن يدّعي الحكومة على أجسام وأرواح الناس وحسب ، بل كان يريد أن يقول : إنّ قلوبكم تحت تصرّفي أيضا ، ويجب على أحدكم إذا أراد أن يصمّم على أمر ما أن يستأذنني ، وهذا هو العمل الذي يؤكّد عليه كلّ الفراعنة على امتداد العصور.

فالبعض ـ كفرعون مصر ـ يجريها على لسانه حمقا عند اضطرابه وقلقه ، والبعض احتفظ بهذا الحقّ لنفسه ويبيّنه بصورة غير مباشرة عن طريق وسائل الإعلام ، وطوابير العملاء ، ويعتقد بأنّ الناس يجب أن لا يعطوا الاستقلالية في التفكير ، بل إنّه في بعض الأحيان قد يسلب الناس الحرية باسم حرية التفكير.

وعلى كلّ حال ، فإنّ فرعون لم يكتف بذلك ، بل إنّه ألصق بالسّاحرين التهمة وقال:( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) .

لا شكّ أنّ فرعون كان على يقين ومعرفة تامّة بكذب كلامه وبطلانه ، ولم يكن بالإمكان أن تحدث مثل هذه المؤامرة في جميع أنحاء مصر ويجهل جنوده وشرطته بالأمر ، وكان فرعون قد ربّى موسىعليه‌السلام في أحضانه ، وغيبته عن مصر كانت من المسلّمات لديه ، فلو كان كبير سحرة مصر لكان معروفا بذلك في كلّ مكان ، ولا يمكن أن يخفى أمره. إلّا أنّا نعلم أنّ الطغاة لا يتورّعون عن إلصاق أي كذب وتهمة بخصومهم عند ما يرون مركزهم الذي حصلوا عليه بغير حقّ يتعرّض للخطر.

ثمّ إنّه لم يكتف بهذا ، بل إنّه هدّد السّحرة أشدّ تهديد ، التهديد بالموت ، فقال:( فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا

٣٥

أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى ) (1) .

في الحقيقة إنّ جملة( أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً ) إشارة إلى تهديد موسىعليه‌السلام له من قبل ، وكذلك تهديده للسحرة في البداية( وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ) . والتعبير بـ( مِنْ خِلافٍ ) إشارة إلى قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس ، وربّما كان إختيار هذا النوع من التعذيب للسحرة ، لأنّ موت الإنسان يكون أكثر بطأ وأشدّ عذابا في هذه الحالة ، أي أنّ النزيف سيكون أبطأ ، وسيعانون عذابا أشدّ ، وربّما أراد أن يقول : سأجعل بدنكم ناقصا من جانبيه.

أمّا التهديد بالصلب على جذوع النخل ، فربّما كان لأنّ النخلة تعدّ من الأشجار العالية ، وكلّ شخص ـ سواء البعيد أو القريب ـ يرى المعلّق عليها.

والملاحظة التي تستحقّ الذكر أنّ الصلب في عرف ذلك الزمان لم يكن كما هو المتعارف عليه اليوم ، فلم يكونوا يضعون حبل الإعدام في رقبة من يريدون صلبه ، بل كانوا يشدّون به الأيادي أو الأكتاف حتّى يموت المصلوب بعد تحمّل العذاب الشديد.

لكن نرى ماذا كان ردّ فعل السّحرة تجاه تهديدات فرعون الشديدة؟ إنّهم لم يخافوا ولم يهربوا من ساحة المواجهة ، أثبتوا صمودهم في الميدان بصورة قاطعة ، و( قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ) لكن ، ينبغي أن تعلم بأنّك تقدر على القضاء في هذه الدنيا ، أمّا في الآخرة فنحن المنتصرون ، وستلاقي أنت أشدّ العقاب( إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) .

وعلى هذا ، فإنّهم قد بيّنوا هذه الجمل الثلاث الراسخة أمام فرعون :

الأولى : إنّنا قد عرفنا الحقّ واهتدينا ، ولا نستبدله بأي شيء.

__________________

(1) من المعلوم أنّ (في) في جملة( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) تعني (على) ، أي أعلّقكم على جذوع النخل ، إلّا أنّ الفخر الرازي يعتقد أنّ (في) هنا تعطي نفس معناها ، لأنّ (في) للظرفيّة ، والظرفيّة تناسب كلّ شيء ، ونعلم أنّ خشبة الإعدام كالظرف والوعاء بالنسبة للفرد الذي يعلّق للإعدام. إلّا أنّ هذا التوجيه لا يبدو صحيحا.

٣٦

والأخرى : إنّنا لا نخاف من تهديداتك مطلقا.

والثّالثة : حكومتك وسعيك سوف يدومان إلّا أيّاما قليلة من الدينا!

ثمّ أضافوا بأنّا قد ارتكبنا ذنوبا كثيرة نتيجة السحر ، فـ( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى ) وخلاصة القول : إنّ هدفنا هو الطهارة من الذنوب الماضية ، ومن جملتها محاربة نبي الله الحقيقي ، فنحن نريد أن نصل عن هذا الطريق إلى السعادة الأبدية ، فإذا كنت تهدّدنا بالموت في الدنيا ، فإنّنا نتقبّل هذا الضرر القليل في مقابل ذلك الخير العظيم!

وهنا ينقدح سؤال ، وهو : إنّ السّحرة قد أتوا بأنفسهم إلى حلبة الصراع ظاهرا ، بالرغم من أنّ فرعون قد وعدهم وعودا كبيرة ، فكيف عبّرت الآية بالإكراه؟

ونقول في الجواب : إنّنا لا نملك أي دليل على أنّ السّحرة لم يكونوا مجبورين منذ البداية ، بل إنّ ظاهر جملة( يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ) (1) ، أنّ السّحرة العلماء بالفنّ كانوا ملزمين بقبول الدعوة ، ومن الطبيعي أنّ هذا الأمر يبدو طبيعيّا في ظلّ حكومة فرعون المستبدّة ، بأن يجبر أفرادا في طريق تحقيق نيّاته ، ووضع الجوائز وأمثال ذلك لا ينافي هذا المفهوم ، لأنّنا رأينا ـ كثيرا ـ حكومات ظالمة مستبدّة تتوسّل بالترغيبات المادية إلى جانب استعمال القوّة.

ويحتمل أيضا أنّ السّحرة عند أوّل مواجهة لهم مع موسىعليه‌السلام تبيّن لهم من خلال القرائن أنّ موسىعليه‌السلام على الحقّ ، أو أنّهم على أقل تقدير وقعوا في شكّ ، ونشب بينهم نزاع وجدال ، كما نقرأ ذلك في الآية (62) من هذه السورة :( فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) ، فأطلع فرعون وأجهزته على ما جرى ، فأجبروهم على الاستمرار في المجابهة.

ثمّ واصل السّحرة قولهم بأنّنا إذا كنّا قد آمنا فإنّ سبب ذلك واضح فـ( إِنَّهُ مَنْ

__________________

(1) الأعراف ، 112.

٣٧

يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ) ومصيبته الكبرى في الجحيم هي أنّه( لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ) بل إنّه يتقلّب دائما بين الموت والحياة ، تلك الحياة التي هي أمر من الموت ، وأكثر مشقّة منه.

( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى. جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى ) .

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّ الجمل الثلاث الأخيرة تابعة لكلام السّحرة أمام فرعون ، أم أنّها جمل مستقلّة من جانب الله سبحانه جاءت تتمّة لكلامهم؟ فبعضهم اعتبرها تابعة لكلام السّحرة ، وربّما كان الابتداء بـ (انّه) التي هي في الواقع لبيان العلّة ، يؤيّد وجهة النظر هذه.

إلّا أنّ التفصيل الذي جاء في هذه الآيات الثلاث حول مصير المؤمنين الصالحين ، والكافرين المجرمين ، الذي ينتهي بجملة( وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى ) وكذلك الأوصاف التي جاءت فيها حول الجنّة والنّار ، تؤيّد الرأي الثّاني ، وهو أنّها من كلام الله ، لأنّ السّحرة ينبغي أن يكونوا قد تلّقوا حظّا وافرا من المعرفة والعلوم الإلهيّة في هذه الفترة القصيرة بحيث يستطيعون أن يقضوا بهذا الجزم والقطع ، وعن علم واطّلاع ووعي من أمر الجنّة والنّار ومصير المؤمنين والمجرمين. إلّا أن نقول : إنّ الله سبحانه قد أجرى هذا الكلام على ألسنتهم لإيمانهم ، وإن كان هذا لا يفرّق عندنا ولا يختلف من ناحية التربية الإلهيّة والنتيجة سواء كان الله تعالى قد قال ذلك ، أو أنّ السّحرة قد تعلّموه من الله ، خاصة وأنّ القرآن ينقل كلّ ذلك بنغمة متناسقة.

* * *

٣٨

بحوث

1 ـ العلم أساس الإيمان والوعي

إنّ أهمّ مسألة تلاحظ في الآيات ـ محلّ البحث ـ هي تحوّل السّحرة السريع العميق قبال موسىعليه‌السلام ، فإنّهم عند ما وقفوا بوجه موسىعليه‌السلام كانوا أعداء ألدّاء ، إلّا أنّهم اهتزّوا بشدّة عند مشاهدة أوّل معجزة من موسى ، فانتبهوا وغيّروا مسيرهم حتّى أثاروا دهشة الجميع.

إنّ هذا التغيير السريع من الكفر إلى الإيمان ، ومن الانحراف إلى الاستقامة ، ومن الاعوجاج إلى الطريق المستقيم ، ومن الظلمة إلى النور ، قد جعل الجميع في دهشة ، وربّما كان هذا الأمر غير قابل للتصديق حتّى من قبل فرعون نفسه ، ولذا سعى إلى إيهام الناس بأنّ هذا الأمر قد دبّر من قبل ، واتّفق عليه مسبقا ، في حين أنّه كان يعلم في أعماقه أنّ هذا الاتّهام كذب محض.

أي عامل كان السبب في هذا التّحول العميق السريع؟ وأي عامل أضاء قلوبهم بنور الإيمان الوهّاج ، إلى درجة أبدوا استعدادهم فيها لأن يضعوا كلّ وجودهم في خدمة هذا العمل ، بل وضعوه فعلا على ما نقل التاريخ ، لأنّ فرعون قد نفّذ تهديده ، وقتل هؤلاء بطريقة وحشيّة؟

هل نجد هنا عاملا غير العلم والوعي؟ إنّ هؤلاء لمّا كانوا عالمين بفنون السحر وأسراره ، وأيقنوا بوضوح تامّ أنّ عمل موسى لم يكن سحرا ، بل هو معجزة إلهيّة ، غيّروا مسيرهم بتلك الشجاعة والحزم ، ومن هنا نعلم جيدا أنّه من أجل تغيير الأفراد المنحرفين ، أو المجتمع المنحرف ، وإيجاد انقلاب في المسيرة ينبغي توعيتهم قبل كلّ شيء(1) .

__________________

(1) لقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآيات 123 ـ 126 من سورة الأعراف.

٣٩

2 ـ لن نؤثرك على البيّنات

ممّا يلفت النظر أنّ هؤلاء اختاروا أكثر التعابير منطقيّة إزاء فرعون وكلامه غير المنطقي ، فقالوا أوّلا : إنّنا قد رأينا أدلّة واضحة على أحقيّة موسى ودعوته الإلهيّة ، وسوف لا نكترث بأي شيء ولا نقدّمه على هذه الدلالات البيّنة ، وأكّدوا هذا الأمر فيما بعد بجملة( وَالَّذِي فَطَرَنا ) وربّما كان هذا التعبير بحدّ ذاته ـ مع ملاحظة كلمة (فطرنا) ـ إشارة إلى ما هم عليه من الفطرة التوحيديّة ، فكأنّهم قالوا : إنّنا نشاهد نور التوحيد من أعماق وجودنا وأرواحنا ، وكذلك بالدليل العقلي ، ومع هذه الآيات البيّنات كيف نستطيع أن نترك هذا الصراط المستقيم ، ونسير في طريقك المنحرف؟

ويلزم الالتفات إلى هذه النكتة أيضا ، وهي أنّ جمعا من المفسّرين لم يعتبروا جملة( وَالَّذِي فَطَرَنا ) قسما ، بل عدّوها عطفا على( ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ ) وبناء على هذا سيصبح معنى الجملة : إنّنا سوف لن نؤثرك أبدا على هذه الأدلّة الجلية ، وعلى الله الذي خلقنا.

غير أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصحّة ، لأنّ عطف هاتين الجملتين بعضهما على بعض غير مناسب. «فلاحظوا بدقّة»!

3 ـ من هو المجرم؟

بملاحظة الآيات الشريفة التي تقول :( إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ) والتي يظهر منها خلود العذاب ، يتبادر هذا السؤال : ترى هل لكلّ مجرم هذا المصير؟

إلّا أنّه بالالتفات إلى أنّ الآية التالية قد بيّنت النقطة المقابلة لذلك ، وجاءت فيها كلمة «المؤمن» يتّضح أنّ المراد من المجرم هنا هو الكافر ، إضافة إلى أنّه ورد في القرآن كثيرا استعمال هذه الكلمة بمعنى الكافر.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أي الشعور الديني الفطري، واحدة من السخافات والمهازل.

إنّ وجود البعد الرابع في الروح الإنسانية يثبت أنّ لجميع الميول الدينية عند الإنسان جذوراً ضاربة في أعماق الوجدان، وقد تجلى هذا الشعور في جميع أدوار الحياة البشرية حتى في تلكم الأدوار والمناطق التي لم تكن فيها مشكلة العامل ورب العمل(١) مطروحة بحال.

فقد كان هذا الشعور يدفع البشر في تلك الأدوار والمناطق إلى الله وإلى ما وراء الطبيعة.

كما أنّ آثار الشعور الديني لم تختف عن الكهوف والمغارات التي كان يسكنها الإنسان الأوّل.

هذا ونظائره يكشف بوضوح عن ملازمة هذا البعد للروح الإنسانية ملازمة الظل للشاخص، وملازمة الزوجية للأربعة وكأنّ التوجه إلى الله وإلى قضايا ما وراء الطبيعة نشيد غيبي لا يفتأ ينبع من الفطرة الإنسانية

نشيد لا يهدأ

الماركسيون وتقديس المبادئ الماركسية

رغم كل الدعايات المستمرة التي يقوم بها الماديون ضد « الدين » ووصمهم له بأنّه من عوامل الجمود والتأخر، وكونه منافياً للحرية الإنسانية ومانعاً من تقدم

__________________

(١) هذا هو رد تلويحي إلى ما يردّده الماديون الماركسيون حول الدين إذ يقولون: إنّ الدين لم يوجد إلّا لإخماد ثورة العمال الكادحين على أرباب العمل.

ولكن بعد أن ثبت أنّ للدين جذوراً في ضمير البشر، وأنّه كان موجوداً حتى في النقاط التي لم يكن فيها خبر عن العامل ورب العمل لم يعد للنظرية الماركسية حول الدين أية قيمة.

٦١

البشرية في مجالات البناء الفكري والاجتماعي.

رغم كل تلك الدعايات المضادة لم يستطيعوا أن ينبذوا الدين والأفكار الدينية من أدمغة البشر، أو يقلّلوا من تقديس المجتمعات المؤمنة لمعتقداتها.

وربما عاب الماركسيون على المتدينين ذلك التقديس المفرط لمعتقداتهم والحال إنّ تقديس الماركسيين ـ أنفسهم ـ لمبادئ الماركسية ولمؤسسيها لم يقل، ولم يختلف عن معاملة المتديّنين لمعتقداتهم وكتبهم السماوية ومن جاء بها.

إنّ الماركسيين يعتبرون أُصول الماركسية وما جاء به وقاله ماركس وانجلز ولينين، أُموراً صحيحة مائة بالمائة، ويرون أنّها منزّهة عن أي غلط أو عيب وعارية عن أي اشتباه وخطأ، وإنّها قطعية لا يأتي الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يمكن أن تتغيّر أو تتبدل(١) تماماً كما يعتقد المتديِّنون والإلهيون في شأن الوحي والكتب السماوية.

ويكفي لمعرفة مدى تقديس الشيوعيين والماركسيين لشخصياتهم ومؤسسي مبادئهم ما نشرته صحيفة البرافدا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي في ٢٦ أبريل ١٩٤٩م إذ قالت :

نحن نؤمن بثلاثة أشياء: كارل ماركس، ولينين ; وستالين، ولا نؤمن بثلاثة أشياء: الله، والدين، والملكية الخاصة.

إنّهم يحرمون أية إعادة نظر في المبادئ والأُصول الماركسية، ويصمون كل من يحاول ذلك بالردة الفكرية، والمروق من اللينينية الماركسية ويعتبرونه مرتداً حزبياً، تماماً كما يفعل المتدينون، إذ يعتبرون الانحراف عن التعاليم النبوية وإنكار

__________________

(١) هذا رغم أنّ من أُصول المادية الديالكتيكية هو التغير المستمر في الأشياء !!!

٦٢

بعض الضروريات الدينية سبباً للارتداد، ويعدون منكرها « مرتدّاً دينياً » ويهدرون دمه.

إنّ الاحترام الذي يلقاه مؤسسوا الاشتراكية من قبل أتباعهم لا يختلف كثيراً عن احترام أتباع الديانات الإلهية للأنبياء والرسل إن لم يزدد عليه.

وغاية التفاوت بين السلوكين أنّ أتباع هذه الأحزاب والمبادئ المادية يحترمون قادتهم السياسيين ما داموا يحتلون المناصب، ففي مثل هذه الفترة تجدهم يصفون قادتهم بأنّهم « ملائكة الرحمة » وأنّهم « محطمو قيود الاستعمار والاستبداد » وأنّهم « ملجأ الجماهير الكادحة » وما إلى ذلك من ألفاظ المديح والثناء.

ولكن ما أن أُقصي هؤلاء القادة من مناصبهم أو حان موتهم وأُودعوا باطن الأرض إلّا ووجدت انعكاس الآية. فإذا بالأسياد المحترمين بالأمس المستحقين لأجمل وأسمى آيات المديح والثناء، ينهال عليهم كل ما في قاموس الشتائم من سباب واتهامات، فإذا بالقائد التقدمي يصبح رجعياً، ضد الكادحين، سفاكاً، خرق أُسس الماركسية وتجاوز عليها، واستهان بآراء الجماهير، إلى غير ذلك من الاتهامات الرخيصة !!!

وقد وجدنا ووجد العالم كله ـ طوال الفترة التي عشناها ـ نوعين متضادين من الوصف في حق ستالين فبينما كان يعد ذات يوم ملاكاً طاهراً مقدساً صار يعد في يوم آخر سفاكاً دموياً إلى درجة أنّ تماثيله أُزيلت من الساحات والميادين العامة في الاتحاد السوفياتي بعد موته(١) .

__________________

(١) بل وأُريد إخراج جثمانه للحرق انتقاماً، كما تتحدث عن ذلك بعض الكتب عن الاتحاد السوفياتي.

٦٣

وها نحن اليوم نشاهد بدايات لنفس الموقف في شأن « ماو »، وسوف لن يمضي زمان طويل إلّا ونجد « ماو » وقد أُصيب بما سبق أن أُصيب به سلفه ستالين المنكود الحظ.

إنّ الاحترام والتعظيم الذي يظهره أتباع الفلسفة المادية لمؤسّسي أُصول الماركسية كماركس وانجلز، لدليل قاطع على فطرية سلسلة من المفاهيم كالخلود والأبدية.

فهذه المفاهيم صحيحة في حد ذاتها وهي أُمور قطعية مائة بالمائة إلّا أنّ القوم استخدموها في غير مواضعها خطأ(١) .

فبدل أن يستخدموا وصف الخلود والأبدية في حق « الوحي الإلهي » ويعتبروا الانحراف عن ذلك الوحي ارتداداً، نجدهم وصفوا « الماركسية » بالخلود ونعتوا مؤسسيها بالأبدية فإذا بهم يواجهون ذلك التخبط الذريع.

ولو لم تكن مفاهيم كمفهوم الخلود والأبدية أُموراً فطرية لما راح الماركسيون يطلقونها على هذا أو ذاك حتى ولو خطأ.

ثم إنّنا كثيراً ما نجد الماركسيين يستخدمون في شعاراتهم ونشراتهم ألفاظاً ك‍ « التضحية والفداء » في حين أنّ هذه المفاهيم لا تتلاءم مع أُصول الماركسية لحصرها الوجود في « العالم المادي » وإنكارها لما وراء ذلك.

وإذا كنا نعلم بأنّ الإنسان لا يعمل شيئاً إلّا لتحقيق منفعة شخصية إلى

__________________

(١) يقصد الأُستاذ بأنّ الإيمان الفطري بوجود أُمور خالدة وأبدية أمر صحيح وموجود في باطن البشر، وأنّ هناك بالفعل أُموراً خالدة وأبدية في الوجود بيد أنّ الماركسيين أخطأوا في استعمال هذه الأوصاف فاستخدموها في غير مواضعها ـ الهادي ـ.

٦٤

درجة أنّ المنافع الاجتماعية أيضاً لا يريدها الإنسان إلّا لمنفعة نفسه، فلمن يضحي الماركسي ولمن يقدم نفسه فداء وهو لا يعتقد بالآخرة وما فيها من أجر وثواب ؟!

أما يعتقد المنطق الماركسي بأنّ الإنسان يفنى بالموت فناء كاملاً ولا تعود منافعه إليه بعد موته ؟

فماذا تعني التضحية والفداء عند الماركسيين ؟

أليس ذلك يدل على أنّ دوافع التضحية والفداء أُمور فطرية متأصلة في ضمير الإنسان ووجدانه، وأنّ الماركسيين أخطأوا في طريقة استخدامها ؟

المعنى الآخر لفطرية الإيمان ب الله

وقد تفسر فطرية الإيمان بالله بنحو آخر إذ يقال: يكمن في قرارة كل إنسان عشق للكمال والخير المطلق لم يزل ولا يزال يدفع الإنسان إليه.

فإذا ما وجد الإنسان في نفسه ميلاً شديداً إلى العلم أو إلى الأخلاق أو الفن والجمال، فإنّ هذا الميل إنّما هو شعبة نابعة من ذلك العشق للكمال، وإشعاعة من إشعاعاته.

إنّ أوضح دليل على وجود مثل هذا العشق للكمال المطلق في باطن البشر هو أنّ أي كمال مادي لا يروي عطش الإنسان ولا يطفئ ظمأه.

فها هو الإنسان يسعى جهده ليبلغ إلى ما يريده من المناصب الرفيعة، ويظل يطمح إلى ما هو أعلى وأعلى حتى إذا نال ما أراد، فكّر في أن يسخّر قمة أعلى ممّا ناله وكلّما ازداد رقياً ازداد عطشاً وظمأ وطموحاً أكثر فأكثر.

كل هذا ـ لو تأملنا ـ دليل واضح على أنّ للإنسان ضالة ينشدها أبداً ،

٦٥

ويبحث عنها باستمرار وقد كان يظنها في الكمالات المادية المزيجة بالنقائص والشرور وأنّها قادرة على إرواء ظمئه وغليله، ولكنَّه كلّما خطا خطوة جديدة إلى الإمام رأى خلاف ما كان يتصوره ويتوقعه، ووجده دون ما يهواه ويعشقه.

إنّ عشق الكمال المطلق لدليل ـ حقاً ـ على وجود مثل هذا الكمال، ولدليل أيضاً على وجود رابطة قائمة بين الإنسان والكمال ذاك.

إنّ الوصول إلى ذلك الكمال وبلوغه يحتاج إلى تفكّر وتدبّر، وإلى السير في الطريق المؤدّي إليه، وإلى الرياضة الدؤوبة التي تشعل الجذوة الكامنة في أعماق النفس وتوجد في حناياه شغفاً أكبر وعطشاً أعمق، وتحوله بالتالي من باحث عن الله إلى واجد لله، ثم يتحول وجدانه لله إلى الشهود، واليقين الذي لا ينفذ إليه شك، ولا يتسلل إليه تردد وارتياب.

إنّ هذا الشهود ليس برؤية العين بل بعين البصيرة التي نوّه عنها في كلام الإمام عليعليه‌السلام إذ قال :

« لم تدركه العيون بمشاهدة العيان، بل تدركه القلوب بحقائق الإيمان »(١) .

إنّ اليقين الحاصل للسالك والعارف في مسألة « وجدان الله » لهو أعلى من اليقين الحاصل من استخدام الجوارح والحواس، انّه نور لا ظلمة فيه، ويقين لا شك فيه، ولا تردد ولا احتمال ولا ظن.

والآن ما هو طريق الوصول إلى مثل هذا الكمال واليقين المطلق والشهود الأعلى ؟

إنّ القرآن الكريم يشير بنحو ما إلى هذا الطريق في آية، إذ يقول :

__________________

(١) نهج البلاغة: شرح محمد عبده، خطبة ١٧٤.

٦٦

( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ الْسَّاجِدِينَ *وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ) (١) .

ففي هذه الآية وصفت العبادة والدعاء بكونها طريقاً للوصول إلى هذا اليقين والمعرفة القلبية اليقينية(٢) .

إنّ هذا اليقين هو غير اليقين الذي يحصل لكل العابدين إنّ هذا هو ذلك الشهود الذي يكون على غرار اليقين الحاصل من الاحتكاك بالمحسوسات الذي يكون من القوة بحيث يمنع من تطرق أي شك أو ترديد إليه.

وهذا الطريق ليس في وسع كل أحد سلوكه كيفما اتفق، بل لابد لسلوكه من التهيؤ اللازم الذي لا يوجد إلّا عند القليلين من عباد الله المخلصين.

الشعور الديني الفطري في الأحاديث

نظراً للأهمية التي تتمتع بها مسألة فطرية الحس الديني في العلوم الإنسانية وردت بعض الأحاديث الصادرة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة الطاهرين الصادقين: التي تتحدّث عن ذلك وإليك طائفة منها :

١. صحيح البخاري في تفسير الآية( فطرة الله ) نقل الحديث التالي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« ما من مولود إلّا يولد على الفطرة ثمّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو

__________________

(١) الحجر: ٩٨ ـ ٩٩.

(٢) انّ التفسير المذكور في المتن للآية هو أحد المداليل والأبعاد التي يمكن استخراجها من الآية ولا ينافي تفسير بعض الأحاديث اليقين هنا بالموت.

٦٧

يمجّسانه » ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (١) .

وقد ورد في أحاديث أهل البيت: في تفسير آية الفطرة ما يقارب (١٥) حديثاً فسرت الفطرة بالتوحيد، وهي تفيد أنّ توحيد الله والإيمان بذاته ووجوده وصفاته ممّا جبل عليه البشر وعجنت به فطرته(٢) .

وربما فسرت بعض هذه الأحاديث الفطرة المذكورة في الآية ب‍ « الإسلام » و « معرفة الله » التي تعود في الحقيقة إلى المعنى السالف.

ونذكر هاهنا كل تلك الأصناف من الروايات مع الإشارة إلى ما هو مكرر منها :

أمّا ما صرح منها بالتوحيد فهي :

٢. سأل هشام بن سالم الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام عن معنى الفطرة فقال الإمام :

« فطرهم على التوحيد »(٣) .

وقد روى مثل هذا عن الإمام الصادقعليه‌السلام غير هشام كزرارة والعلاء بن فضيل ومحمد الحلبي وعبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر.

٣. ما رواه زرارة عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام حينما سأله قائلاً: أصلحك الله، قول الله عزّ وجلّ في كتابه:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) فقال الإمام مجيباً :

__________________

(١) التاج الجامع للأُصول: ٤ / ١٨٠، وتفسير البرهان: ٣ / ٢٦١، الحديث ٥.

(٢) و (٣) راجع تفسير البرهان: ٣ / ٢٦١ ـ ٢٦٣، والتوحيد للصدوق: ٣٢٨ ـ ٣٣١.

٦٨

« فطرهم على التوحيد(١) عند الميثاق على معرفته أنّه ربّهم »(٢) .

وأمّا ما فسرت الفطرة فيه بالمعرفة فهي :

٤. ما عن زرارة أيضاً عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجل:( حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ) وعن الحنيفية، فقال الإمام :

« هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله ».

ثم قال :

« فطرهم الله على المعرفة »(٣) .

وقد أوضح الإمام الباقر المقصود بهذه المعرفة في رواية أُخرى رواها زرارة عنه أيضاً لـمّا سأله عن نفس الآية فقالعليه‌السلام :

« فطرهم على معرفة أنّه ربهم، ولولا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم »(٤) .

وأمّا ما فسرت الفطرة بالإسلام فهي :

٥. ما عن عبد الله بن سنان، عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام لـمّا سأله عن قول الله عزّ وجلّ:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟ قال الإمام:

__________________

(١) إنَّ تفسير الدين المفطور عليه، في هذه الأحاديث بالتوحيد لا يدل على اختصاص الدين في الآية بالتوحيد خاصة بل إنّ ذكر التوحيد إنّما هو من باب ذكر أظهر المصاديق وأجلاها.

(٢) و (٣) و (٤) نفس المصادر السابقة.

٦٩

« هي الإسلام »(١) .

ثم أوضح الإمام نفسه في رواية أُخرى عن عبد الله بن سنان أيضاً المقصود بالإسلام وأنّه هو التوحيد ومعرفة الله إذ قالعليه‌السلام :

« هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد »(٢) .

٦. سأل محمد بن حكيم الإمام الصادقعليه‌السلام عن المعرفة من صنع من هي ؟ فقالعليه‌السلام :

« من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع »(٣) .

٧. سأل أبو بصير الإمام الصادقعليه‌السلام فقال الإمامعليه‌السلام :

« نعم وليس للعباد فيها صنع »(٤) .

٨. ولقد تعرض الإمام عليعليه‌السلام إلى هذا المطلب « أي فطرية الاعتقاد بالله » في نهج البلاغة في أوّل خطبة فيه عندما ذكر بأنّ الأنبياء أُرسلوا لإثارة دفائن العقول، أي لإحياء ما هو مرتكز في عقول البشر وما هو كامن في حنايا فطرتهم من الاعتراف بوجود الله والإذعان بإلهيته، إذ يقولعليه‌السلام :

« فبعث الله فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول »(٥) .

مع ملاحظة هذا الكلام العلوي يمكننا القول بأنّ المقصود من قول الله

__________________

(١) و (٢) المصادر السابقة.

(٣) أُصول الكافي: ١ / ٨٥، ٩٣، ١٦٥.

(٤) أُصول الكافي: ١ / ١٦٣.

(٥) نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.

٧٠

تعالى:( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (١) في حق الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو: أن يذكّر الرسول الأكرم الناس بما هو كامن ومودوع ـ أساساً ـ في فطرتهم أو أنّ هذا هو أحد أبعاد الآية ومعانيها ـ على الأقل ـ.

٩. ما دار بين رجل والإمام جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام قال الرجل: يابن رسول الله دلّني على الله ما هو ؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.

فقال له الإمام: « يا عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟ » قال: نعم، قال: « فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك ؟ » قال: نعم.

قال: « فهل تعلَّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ » قال: نعم.

قال الصادقعليه‌السلام : « فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث »(٢) .

تنبيه

دلّت الأبحاث الماضية على أنّ للإنسان إدراكات فطرية منذ أن يولد، وهي تواكب جميع مراحل حياته، وتتكامل بتكامل وجوده وتتفتح بتفتح مشاعره ولكن ربّما يتوهم أنّ هذا منقوض بقوله تعالى :

( واللهُ أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٣) .

__________________

(١) الغاشية: ٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٣ / ٤١، نقلاً عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق.

(٣) النحل: ٧٨.

٧١

فهذه الآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس من خلو صفحة النفس من المعلومات في بدء تكونها، بلا فرق بين العلوم الفطرية وغيرها.

والجواب عن هذا واضح بعد الوقوف على مقدمة وهي: انّ التصورات والتصديقات إمّا كسبية أو بديهية، والكسبية إنّما يمكن تحصيلها بواسطة تركيب البديهيات فلابد من سبق هذه العلوم البديهية.

أمّا العلوم البديهية فلم تكن حاصلة في نفوسنا، بل حصلت هي أيضاً بمعونة الحواس كالسمع والبصر، فالطفل إذا أبصر أو سمع شيئاً مرّة بعد أُخرى ارتسمت ـ في ذهنه ـ ماهيّة ذلك المبصر أو المسموع، وكذا القول في بقية الحواس.

فالمدركات على قسمين: ما يكون نفس حضورها موجباً تاماً في جزم الذهن باسناد بعضها إلى بعض كما إذا حضر في الذهن إنّ الواحد ما هو ؟ وانّ نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصوّرين في الذهن علّة تامة في جزم الذهن بأنّ الواحد محكوم عليه بأنّه نصف الاثنين وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.

والقسم الثاني ما لا يكون كذلك، وهو العلوم النظرية، مثلما إذا أُحضر في الذهن انّ الجسم ما هو ؟ وإنّ المحدث ما هو ؟ فإنّ مجرد هذين التصوّرين لا يكفي في جزم الذهن بأنّ الجسم محدث بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة.

وهذا هو الملاك في تقسيم العلوم إلى بديهية وكسبية(١) .

والآية ناظرة إلى العلوم الحصولية التي تنقسم إلى البديهي والنظري لا العلوم الحضورية مثل علم النفس بذاتها، ولا العلوم الفطرية التي ليس لها إلّا قوة العلم

__________________

(١) راجع مفاتيح الغيب للرازي: ٥ / ٣٤٩.

٧٢

وإنّما تنفتح إذا خرج الإنسان إلى هذا العالم واعمل حواسه، ولامس الحقيقة الخارجية، فعند ذاك ينقلب ما هو علم بالقوة إلى العلم بالفعل.

وصفوة القول: إنّ هناك في النفس البشرية سلسلة من المعلومات على صورة خمائر تتجلّى وتظهر وتتفتح شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن ومع احتكاك الإنسان بالوقائع الخارجية ولا يسمّى هذا علماً فعلياً وإدراكاً حاضراً.

وبالتالي فالآية ناظرة إلى ذلك أي انّ الإنسان منذ يخرج من بطن أُمّه ليس فيه علم فعلي ولا ينافي وجود ما يشبه خمائر العلوم التي تحتاج إلى أرضية للتفتح والظهور.

٧٣
٧٤

الفصل الثاني

الله وعالم الذر

٧٥

ما هو عالم الذر وما هو الميثاق ؟

١. استعراض الآيات أوّلاً.

٢. نقاط جديرة بالاهتمام.

٣. آراء العلماء حول « الميثاق في عالم الذر ».

٤. النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث.

٥. انتقادات على هذه النظرية.

٦. النظرية الثانية.

٧. إشكالات على هذه النظرية.

٨. النظرية الثالثة.

٩. أسئلة حول هذه النظرية.

١٠. بحث حول الأحاديث الواردة في تفسير الآية.

٧٦

استعراض الآيات أوّلاً

قبل أن نعطي رأينا في حقيقة ذلك العالم وواقع ذلك الميثاق المأخوذ في العالم المذكور، ولأجل أن نتجنب اتخاذ أي موقف قبل دراسة ومراجعة الآية المرتبطة بهذا الموضوع يتعين علينا استعراض هذه الآية، أوّلاً، لكي ندفع القارئ نفسه إلى التأمل فيها والتفكير حولها لمعرفة معنى هذه الآية ومغزاها.

وإليك فيما يأتي نص الآية المتعلّقة بالموضوع مضافاً إلى آيتين لاحقتين لها :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ *وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (١) .

نقاط جديرة بالاهتمام

١. لقد وردت لفظة ( الذرية ) في (١٨) موضعاً آخر ما عدا هذا الموضع أيضاً والمقصود بها في كل تلك الموارد هو: « النسل البشري » وليس في ذلك خلاف، انّما وقع الخلاف في أصل هذه اللفظة وانّها مأخوذة من ماذا ؟

__________________

(١) الأعراف: ١٧٢ ـ ١٧٤.

٧٧

فذهب فريق إلى أنّ لفظة « الذرية » مشتقة من « الذرء » بمعنى الخلق، وفي هذه الصورة تكون الذرية بمعنى: المخلوق.

وذهب فريق آخر إلى أنّها مشتقة من « الذر » بمعنى الكائنات الصغيرة الدقيقة جداً كذرات الغبار وصغار النمل.

وذهب فريق ثالث إلى أنّها مأخوذة من « الذرو » أو « الذري » بمعنى التفرّق والانتشار وانّما تطلق « الذرية » على ولد آدم ونسله لتفرقهم على وجه الأرض وأكناف البسيطة(١) .

٢. تستعمل لفظة الذرية ـ غالباً ـ في الأولاد الصغار مثل قوله تعالى :

( وَلَهُ ذُرِيَّةٌ ضُعَفَاءُ ) (٢) .

وقد تستعمل في مطلق الأولاد مثل قوله سبحانه :

( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) (٣) .

كما أنّها قد تستعمل في فرد واحد مثل قوله سبحانه :

( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) (٤) .

وفيها يطلب زكريا ولداً صالحاً(٥) .

وقد تستعمل في الجمع مثل قوله تعالى :

__________________

(١) راجع في هذا الصدد: مفردات الراغب مادة « ذرو »، ومجمع البيان: ١ / ١٩٩ تفسير آية( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) .

(٢) البقرة: ٢٦٦.

(٣) الأنعام: ٨٤.

(٤) آل عمران: ٣٨.

(٥) ويؤكد هذا أنّ طلب زكريا تكرر في آية أُخرى بلفظ « ولي » إذ يقول:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيْاً *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ( مريم: ٦ ).

٧٨

( وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) (١) .

٣. يجب المزيد من الدقة والعناية في عبارة الآية

فالآية تفيد أنّ الله أخذ من ظهور كل أبناء آدم، أنسالهم وذرياتهم، وليس من ظهر آدم وحده.

وذلك بدليل أنّ الله تعالى يقول :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَم ) .

ولم يقل: وإذ أخذ ربك من آدم وعلى هذا الأساس فإنّ مفاد هذه الآية هو غير ما هو معروف عند المفسّرين الذاهبين إلى أنّ الذرية أُخذت من ظهر آدم فحسب.

٤. تصرح الآية بأنّ الله أخذنا شهداء على أنفسنا، وأننا جميعاً اعترفنا بأنّه إلهنا، وانّ هذا الاعتراف كان بحيث لم يبق من ذكراها في ذاكرتنا شيء.

٥. كما تفيد الآية بأنّ هذا الاستيثاق والاستشهاد سيسد باب العذر في يوم القيامة في وجه المبطلين والمشركين، فلا يحقّ لهم بأن يدّعوا بأنّهم لم يعطوا مثل هذه الشهادة، ولم يكن عندهم علم بمثل هذا الميثاق والاعتراف كما يشهد به قوله سبحانه :

( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ) .

من هنا يتخذ المفاد لنفسه شكلاً خاصاً وطابعاً مخصوصاً.

فمن جانب لم يك عندنا أي علم بهذا الميثاق والاعتراف.

__________________

(١) الأعراف: ١٧٣.

٧٩

فمن جانب آخر لا يحق لنا أن ندعي الغفلة عن هذا الميثاق، وعن مثل هذا الإقرار كما تقول الآية :

( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) .

أي أن لا تقولوا(١) .

في هذه الصورة ينطرح هذا السؤال :

كيف يمكن أن يسد اقرار لا نعلم به هنا أبداً (باب العذر) علينا ؟!

وكيف يمكن أن نلزم بميثاق لا نتذكره وعهد لا نعرف عنه شيئاً ؟!

وبعبارة أُخرى: إنّنا ـ لا شك ـ لا نعلم مثل هذا الميثاق على نحو العلم الحصولي، في حين أنّ الآية (١٧٢) تقول بمنتهى الصراحة والتأكيد: إنّه لا حق لأحد أن يغفل أو يتغافل عن هذا الميثاق فكيف تتلاءم هذه الغفلة وعدم تذكرنا له في هذه الدنيا مع قوله تعالى:( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) ؟

٦. لا شك أنّ الخطاب في هذه الآية إمّا موجه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإمّا إلى

__________________

(١) إنّ للمفسّرين في أمثال هذه الآية مذهبين :

أحدهما: تقدير لا، ففي مثل قوله سبحانه :

( يُبَيّن الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) ( النساء: ١٧٦ ) قالوا: إنّ المعنى هو أن لا تضلّوا.

فهم جعلوا قوله:( أَنْ تَضِلُّوا ) مفعولاً له ليبين، بنحو « التحصيلي » فيكون المعنى « يبيّن الله لكم لأجل أن لا تضلوا ».

الثاني: عدم تقدير لا وجعل المفعول له من باب « الحصولي » كقول القائل ضربته لسوء أدبه، أي لوجود هذا وحصوله فعلاً ضربته.

فيكون معنى الآية السابقة هو « يبين الله لوجود الضلالة فيكم » ومنه يعلم حال الآية المبحوثة عنها، فيجوز فيها وجهان.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672