مفاهيم القرآن الجزء ١

مفاهيم القرآن8%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-249-8
الصفحات: 672

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154529 / تحميل: 6001
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٤٩-٨
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١
٢

٣

٤

مقدمة الطبعة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحيم

القرآن

كتاب القرون والأجيال

الحمد لله الذي نزّل القرآن تبياناً لكلّ شيء، والصّلاة والسّلام على عبده ورسوله الذي نُزّل القرآنُ على قلبه ليكون من المنذِرين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيش العلم وموت الجهل.

أمّا بعد، فانّ القرآن كتاب أبديّ خالد ينطوي على أبعاد مختلفة وبطون لا يمكن للبشر أن يكتشف جميعها جملة واحدة، وإنّما يكتشف في كلّ عصر بُعداً من أبعاده، وحقيقةً من حقائقه.

وقد استخرج المحقّقون بفضل جِدّهم ومثابرتهم حقائق في غاية الأهمية لم يخطر على بال القدامى من المحقّقين، وهذا دليل واضح على أبعاد القرآن اللامتناهية، وإليها يشير ابن عباس بقوله: إنّ القرآن يفسّره الزمان(١) .

وهذه حكمة بالغة نطق بها حبر الأُمّة تلميذ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأثبتتها التجارب على مرّ الزمان.

__________________

(١) راجع النواة في حقل الحياة، تأليف مفتي الموصل الشيخ العبيدين.

٥

والحقّ يقال: انّ السير التكاملي للعلوم على مرّ الزمان لم يمنع علماء الطبيعة فحسب من إمكانية استنباط حقائق هامّة وجديدة من القرآن في حقول العلوم الطبيعية، بل وأتاح للمفسّرين أيضاً إمكانية استخراج حقائق قرآنية هامّة لم تكن معروفة من ذي قبل، وذلك بفضل تطور المناهج العلميّة المتداولة.

إنّ القرآن الكريم صدر من لدن حكيم خبير لا يحد ولا يتناهى، ومقتضى السنخية بين الفاعل والفعل أن يكون في فعله أثر من ذاته، فإذا كانت ذاته لا متناهية ولا أوّل لها ولا آخر، فاللازم أن ينعكس شيء من كمالات الذات على الفعل أيضاً، وإلى ذلك يشير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في كلامه إذ يتحدّث حول أبعاد القرآن وأغواره، فيقول :

« فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فانّه شافع مشفّع، وماحل مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم، وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جالٍ بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، ويتخلّص من نشب، فانّ التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور »(١) .

كما أشار أمير المؤمنين عليعليه‌السلام إلى هذه الأبعاد اللا متناهية، وقال في معرض كلامه عن القرآن: « ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يدرك قعره، فهو ينابيع العلم وبحوره، وبحراً لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون »(٢) .

__________________

(١) الكافي: ٢ / ٥٩٩، كتاب فضل القرآن.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة رقم ١٩٨.

٦

إنّ هذه الميزة ( البعد اللا متناهي للقرآن ) لم تكن أمراً خفيّاً على بلغاء العرب في صدر الرسالة، وهذا هو الوليد بن المغيرة ريحانة العرب، يشيد بالقرآن ويصفه بقوله :

والله لقد سمعت من محمّد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وانّه ليعلو وما يعلى عليه(١) .

إنّه سبحانه خصَّ نبيّه بتلك المعجزة الخالدة، وما هذا إلّا لأنّ الدين الخالد يستدعي معجزة خالدة، ودليلاً وبرهاناً أبدياً لا يختص بعصر دون عصر، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنْ جاء بمعاجز ودلائل باهرة لم ترها عيون الأجيال المتعاقبة ولكن عوّضهم الله سبحانه بمعجزة هي كشجرة مثمرة تعطي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها، وينتفع كلّ جيل من ثمارها حسب حاجاته، وإلى هذا يشير الإمام علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام حين سأله السائل، وقال: ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلّا غضاضة ؟ فقال الإمام: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة »(٢) .

اهتمام المسلمين بالكتاب العزيز

ارتحل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وترك بين الأُمة تركتين ثمينتين، إحداهما: الكتاب، والأُخرى: العترة.

وقد أكبّ المسلمون بعد رحيله على قراءة القرآن وتجويده وكتابته ونشره بين الأُمم. وأسّسوا علوماً كثيرة خدموا بها القرآن الكريم، كما أنّهم وراء ذلك اهتموا

__________________

(١) مجمع البيان: ٥ / ٣٨٧، طبع صيدا، وقد سقط عن النسخة لفظة « عليه » من قوله: « وما يعلى ».

(٢) البرهان في تفسير القرآن، للسيد البحراني: ١ / ٢٨.

٧

بتفسير غريب القرآن وتبيين مفرداته، ومجازاته وتفسير جمله وتراكيبه، وردّ متشابهه إلى محكماته، وتمييز ناسخه عن منسوخه، وتفسير آيات أحكامه، وإيضاح قصصه وحكاياته، وأمثاله وأقسامه، واحتجاجاته ومناظراته، إضافة إلى بيان أسباب نزوله، وكلّ ذلك يعرب عن الأهمية الفائقة التي يحظى بها القرآن الكريم.

وفي ظل هذه الجهود المضنية ظهرت تفاسير في كلّ قرن وعصر لو جمعت في مكان واحد لشكلت مكتبة ضخمة لا يستهان بها.

التفسير الترتيبي والتفسير الموضوعي

إنّ التفسير الرائج في الأجيال الماضية هو تفسير القرآن حسب السور والآيات الواردة في كلّ سورة، فمنهم من سنحت له الفرصة أن يفسّر آيات القرآن برمتها، ومنهم من لم يسعفه الحظ إلّا بتفسير بعض السور، وهذا النوع من التفسير الذي يطلق عليه اسم التفسير الترتيبي، ينتفع به أكثر شرائح المجتمع الإسلامي، وكلّ حسب استعداده وقابلياته.

بيد أنّ هناك لوناً آخر من التفسير يطلق عليه اسم التفسير الموضوعي الذي ظهر في العقود الأخيرة، واستقطب قسطاً كبيراً من اهتمام العلماء نظراً لأهميته، وهو تفسير القرآن الكريم حسب الموضوعات الواردة فيه بمعنى جمع الآيات الواردة في سور مختلفة حول موضوع واحد، ثمّ تفسيرها جميعاً والخروج بنتيجة واحدة، وقد أُطلق على هذا اللون من التفسير بالتفسير الموضوعي.

وأوّل من طرق هذا الباب لفيف من علماء الشيعة عند تفسيرهم آيات الأحكام الشرعية المتعلّقة بعمل المكلّف في حياته الفرديّة والاجتماعيّة فانّ النمط السائد على تآليفهم في هذا الصعيد هو جمع الآيات المتفرقة الراجعة إلى موضوع واحد في مبحث واحد، فيفسّرون ما يرجع إلى الطهارة في القرآن في باب واحد، كما

٨

يفسّرون ما يرجع إلى الصلاة في مكان خاص، وهكذا سائر الآيات، وهذا ككتاب « منهاج الهداية في شرح آيات الأحكام » للشيخ جمال الدين ابن المتوج البحراني ( المتوفّى عام ٨٢٠ ه‍ )، و « آيات الأحكام » للشيخ السيوري الأسدي الحلّي المعروف بالفاضل المقداد ( المتوفّى عام ٨٢٦ )، إلى غير ذلك مما أُلف في هذا الصدد، وهذا على خلاف ما كتبه أهل السّنة في تفسير آيات الأحكام كالجصّاص وغيره، فانّهم فسّروا آيات الأحكام حسب السور، وقد اعترف بذلك الشيخ الذهبي في كتابه « التفسير والمفسّرون ».

يقول الذهبي عند ما يتطرق إلى تفسير « كنز العرفان في فقه القرآن »: يتعرض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط، وهو لا يتمشّى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف ذاكراً ما في كلّ سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصّاص وابن العربي مثلاً، بل طريقته في تفسيره: أنّه يعقد فيه أبواباً كأبواب الفقه، ويدرج في كلّ باب منها الآيات التي تدخل تحت موضوع واحد، فمثلاً يقول: باب الطهارة، ثمّ يذكر ما ورد في الطهارة من الآيات القرآنية، شارحاً كلّ آية منها على حدّه، مبيناً ما فيها من الأحكام على حسب ما يذهب إليه الإماميّة الاثنا عشريّة(١) .

ثمّ إنّ أوّل من توسّع في التفسير الموضوعي هو شيخنا العلاّمة المجلسي، فقد اتّبع هذا المنهج في جميع أبواب موسوعته النادرة « بحار الأنوار » حيث جمع الآيات المربوطة بكلّ موضوع في أوّل الأبواب وفسّرها تفسيراً سريعاً، وهذه الخطوة وإن كانت قصيرة، لكنّها جليلة في عالم التفسير، وقد قام بذلك مع عدم وجود المعاجم القرآنية الرائجة في تلك الأعصار.

وبما أنّ القرآن الكريم بحث في أُمور ومواضيع كثيرة لا يحيط بها أحد، لذا

__________________

(١) التفسير والمفسّرون: ٢ / ٤٦٥.

٩

فقد آثرنا دراسة الجانب العقائدي من هذه المواضيع الكثيرة جداً، لأهميته في ترسيم معالم الإيمان وترسيخه في حياة الإنسان. وتؤلّف قضايا التوحيد والشرك حجر الأساس في العقيدة الإسلاميّة، بل حجر الأساس في كلّ الشرائع السماويّة.

فبإلقاء نظرة سريعة على الآيات القرآنية يتضح أنّ القرآن الكريم بذل حيال مسألة التوحيد الأُلوهي والربوبي من العناية ما لم يبذل مثلها حيال أيّة مسألة أُخرى من المسائل العقائديّة والمعارف العقليّة. بل حتى قضية « المعاد » والبعث في يوم القيامة التي تعد من القضايا المهمّة جداً في نظر القرآن بحيث لا يمكن لأيّ دين أنْ يتجلى في صورة « عقيدة سماويّة » ومنهج إلهي دون الاعتقاد بها، كما لا يمكن لذلك المنهج أنْ ينفذ إلى الأعماق والأفئدة بدونها.

ويجدر بالذكر أنّ عناية القرآن تركزت أساساً على إبلاغ وبيان « أُصول الدين » وبذر بذورها في الأفئدة، والعقول أكثر من العناية ببيان المسائل الفرعية العملية.

ويشهد على ذلك أنّ الآيات التي وردت في القرآن حول موضوع « المعاد » تتجاوز (٢٠٠٠) آية، في حين يقارب مجموع الآيات الواردة حول الأحكام المبينة لفروع الدين (٢٨٨) آية أو يتجاوزها بقليل.

وهذا هو بذاته يكشف عن الاهتمام الواسع والعناية الفائقة التي يوليها القرآن الكريم للمسائل الفكرية والقضايا الاعتقادية.

وعلى هذا الأساس قد خصصنا الجزء الأوّل للتوحيد والشرك بمختلف مراتبهما، ولما انتهى بحثنا في آخر الجزء إلى التوحيد في الحكومة التي هي لله سبحانه فقط، آثرنا أن نركز في الجزء الثاني على معالم الحكومة الإسلامية، ثمّ تدرّجنا في البحث في سائر الأجزاء إلى الجزء العاشر الذي اهتم بالعدل والإمامة، وما يمتُّ لهما بصلة.

١٠

وبذلك انتهت هذه الموسوعة القرآنيّة المبتكرة في موضوعها، وهي نعمة منَّ الله سبحانه بها على عبده الفقير.

وفي الختام لا يسعني هنا إلّا أنْ أقدّم بخالص الشكر إلى ولدي الروحي الحجة الفاضل الشيخ جعفر الهادي ( حفظه الله) حيث قام بتدوين ما ألقيته من محاضرات في الجزء الأوّل والثاني على أحسن ما يمكن.

وقد بذل وقته الثمين لتحرير هذين الجزءين وإخراجهما بهذه الحلّة القشيبة، وهو ( حفظه الله ) ذو باع طويل في هذا المضمار.

وأمّا الأجزاء الثمانية الباقية فقد قمت بكتابتها وتحريرها بفضل من الله سبحانه فجاءت هذه الموسوعة في عشرة أجزاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادقعليه‌السلام

١٤ ذي الحجة الحرام من شهور عام ١٤٢٠ ه‍

١١
١٢

مراتب التوحيد

لقد لخّص المحقّقون الإسلاميون البحوث المرتبطة بالتوحيد في أربعة أقسام نذكرها فيما يأتي باختصار :

١. التوحيد في الذات

والمقصود به أنّ الله واحدٌ أحدٌ لا شريك له ولا نظير ولا يتصور له شبيه ولا مثيل.

بل إنّ ذاته المقدّسة بسيطة غير مركبة، من أجزاء كما هو شأن الأجسام.

٢. التوحيد في الصفات

ويراد منه أنّ الله تعالى وإن كان متّصفاً بصفات عديدة كالعلم والقدرة والحياة، إلّا أنّ هذا التعدّد إنّما هو باعتبار المفهوم الذهني وليس باعتبار الوجود والواقع الخارجي، بمعنى أنّ كل واحدة من هذه الصفات هي « عين » الأُخرى وليست « غير » الأُخرى، وهي أجمع « عين » الذات وليست « غير » الذات.

فعلم الله ـ مثلاً ـ هو « عين » ذاته، فذاته كلّها علم، في حين تكون ذاته كلها

١٣

« عين » القدرة، لا أنّ حقيقة العلم في الذات الإلهية شيء، وحقيقة القدرة شيء آخر، بل كل واحدة منهما « عين » الأُخرى، وكلتاهما « عين » الذات المقدّسة.

ولتقريب المعنى المذكور نلفت نظر القارئ الكريم إلى المثال التالي فنقول :

من الواضح أنّ كل واحد منّا « معلوم » لله، كما أنّه « مخلوق » لله في نفس الوقت.

صحيح أنّ مفهوم « المعلوميّة » غير مفهوم « المخلوقيّة » في مقام الاعتبار الذهني وعند التحليل العقلي البحت، ولكنَّهما في مقام التطبيق الخارجي واحد، فإنّ وجودنا بأسره معلوم لله، كما أنّ وجودنا بأسره مخلوق لله في نفس الوقت هكذا وجود واحد باعتبارين.

فهما ( أي المعلومية والمخلوقية ) المتّصف بهما وجودنا ليسا في مقام المصداق الخارجي إلّا « عين » الأُخرى، وهما « عين » ذاتنا، لا أنّ قسماً من ذاتنا هو المعلوم لله والقسم الآخر هو المخلوق له تعالى، بل كل ذاتنا بأسره مخلوق ومعلوم لله في آنٍ واحد.

٣. التوحيد في الأفعال

نحن نعلم أنّ هناك في عالم الطبيعة سلسلة من العلل والأسباب الطبيعية لها آثار خاصة ك‍ :

الشمس والإشراق الذي هو أثرها ومعلولها، والنار والإحراق الذي هو أثرها ومعلولها، والسيف والقطع الذي هو أثره ومعلوله.

١٤

والتوحيد الأفعالي هو أنْ نعتقد بأنّ هذه « الآثار » المخلوقة هي أيضاً لله تعالى كما أنّ عللها مخلوقة له سبحانه.

بمعنى أنّ الله الذي خلق العلل المذكورة هو الذي منحها تلك « الآثار ».

فخلق الشمسَ وأعطاها خاصيّة الإشراق، وخلقَ النار وأعطاها خاصية الإحراق، وخلق السيف وأعطاه خاصية القطع، إلى آخر ما هنالك من العلل والمعلولات، والأسباب والمسببات والمؤثرات وآثارها.

وبعبارة أُخرى: إنّ « التوحيد الافعالي » هو أنْ نعترف بأنّ العالم بما فيه من العلل والمعاليل، والأسباب والمسببات، ما هو إلّا فعل الله سبحانه، وأنّ الآثار صادرة عن مؤثراتها بإرادته ومشيئته.

فكما أنّ الموجودات غير مستقلة في ذواتها بل هي قائمة به سبحانه، فكذا هي غير مستقلة في تأثيرها وعلّيَّتها وسببيَّتها.

فيستنتج من ذلك أنّ الله سبحانه كما لا شريك له في ذاته، كذلك لا شريك له في فاعليته وسببيته، وأنّ كل سبب وفاعل ـ بذاتهما وحقيقتهما وبتأثيرهما وفاعليتهما ـ قائم به سبحانه وأنّه لا حول ولا قوة إلّا به.

ويندرج في ذلك « الإنسان »، فبما أنّه موجود من موجودات العالم وواحد من أجزائه فإنّ له فاعلية، وعلّية بالنسبة لأفعاله، كما أنّ له حرية تامّة في مصيره وعاقبة حياته، ولكنَّه ليس موجوداً مفوّضاً(١) إليه ذلك، بل هو بحول الله وقوّته يقوم ويقعد ويتسبب ويؤثر.

__________________

(١) المراد من التفويض هو أنّ الله أعطاه الفاعليّة ثمّ هو يفعل ما يريد دون مشيئة الله وعلى نحو الاستقلال، وسيأتي شرح التفويض في الفصول القادمة مسهباً.

١٥

إنّ « التوحيد الأفعالي » لا يعني إنكار العلل الطبيعيّة أو إنكار مشاركتها في التأثير وفي حدوث معلولاتها، بل يعني مع الاعتراف بأنّ للعلل تمام المشاركة في ظهور الآثار، وأنّ هذه الآثار هي من خواص هذه العلل.

أقول: يعني مع الاعتراف بهذا، الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في صفحة الوجود إلّا « الله » وأنّ تأثير ما سواه من المؤثرات إنّما هو في ظل قدرة الله، ذلك المؤثر الحقيقي الأصيل، وأنّ هذه العلل ما هي إلّا وسائط للفيض الإلهي.

فمنه تعالى تكتسب « الشمس » القدرة على الإشراق والإضاءة كما استمدت منه أصل وجودها.

ومنه تعالى تكتسب « النار » خاصية الإحراق والحرارة كما استمدت منه أصل وجودها، وأنّه تعالى هو الذي منح هذه العلل والأسباب هذه الخواص، وأعطاها هذه الآثار كمامنحها: وجودها أساساً وأصلاً.

وبتعبير آخر نقول: إنّ التوحيد الأفعالي يعني أنّه لا مؤثر بالذات ـ في هذا الوجود ـ إلّا « الله »، فهو وحده الذي لا يحتاج إلى معونة أحد أو شيء في الإيجاد والتأثير والإبداع والابتكار.

وأمّا تأثير ما عداه « من العلل »، فجميعه يكون بالاعتماد على قدرته وقوته سبحانه.

بهذا البيان يتضح الفرق بين مدرستين في هذا المجال :

مدرسة الأشاعرة القائلين بعدم دخالة العلل في الآثار مطلقاً.

والمدرسة القائلة بالتوحيد الافعالي.

١٦

فتذهب المدرسة الأُولى إلى أنّ الشمس والنار والسيف غير مؤثرة إطلاقاً، وغير دخيلة مطلقاً في وجود النور والحرارة والقطع، بل إنّ عادة الله هي التي جرت على أنْ يوجد الله النور بعد طلوع الشمس، والحرارة عند حضور النار، والقطع عند حضور السيف، وإنْ لم تكن لهذه الأشياء [ أي الشمس والنار والسيف ] أيّة مشاركة في إيجاد هذه الآثار ووقوعها.

ولا شكّ أنّ هذه النظرية مرفوضة في نظر العقل ومنطق القرآن(١) .

فبينما تنفي مدرسة الأشاعرة دور العلل ومشاركتها رأساً، تذهب المدرسة الثانية ( القائلة بالتوحيد الافعالي ) إلى الاعتراف بأنّه لا مؤثر حقيقي في الوجود إلّا « الله »(٢) ولكن مع الاعتراف ـ إلى جانب ذلك ـ بدخالة « العلل » في إيجاد « الآثار »، مستمدة هذه القدرة على التأثير من ذلك المؤثر الحقيقي الواحد، ونعني « الله » سبحانه وتعالى.

ولهذا يغدو أي اعتقاد بالثنوية أو التثليث مرفوضاً في منطق هذه المدرسة.

وبهذا يتبيّن أنّ القائلين بأنّ الإنسان محتاج إلى الله في أصل وجوده، ولكنه مستغن عنه تعالى في أفعاله ومستقل في تأثيره، قد سقطوا في الشرك من حيث لا يعلمون، ذلك لأنّهم بمثل هذا الاعتقاد يكونون قد اعترفوا ـ في الحقيقة ـ بمؤثرين أصيلين مستقلين غنيين وخرجوا بذلك عن إطار « التوحيد الافعالي » !!

__________________

(١) فالقرآن يصرح بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها حيث يقول:( يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ ) ( النحل: ١١ ) فإنّ قوله( بِهِ ) صريح في تأثير الماء في إنبات هذه الثمار، وسيوافيك تفصيل القول في ذلك عند البحث في التوحيد الربوبي.

(٢) الاعتراف بوحدانية المؤثر في صفحة الوجود لا ينافي القول بتأثير العلل الطبيعية في معاليلها.

١٧

كما أنّ الذين اعتقدوا بوجود « مبدأين » لهذا العالم، وتصوّروا بأنّ خالق الخير هو غير خالق الشر هم أيضاً خرجوا عن دائرة التوحيد الافعالي وارتطموا في الشرك والثنويّة في الفاعلية والتأثير(١) .

٤. التوحيد في العبادة

ونعني أنّ العبادة لا تكون إلّا لله وحده، وأنّه لا يستحق أحدٌ أنْ يُتّخذ معبوداً مهما بلغ من الكمال والجلال وحاز من الشرف والعلاء.

ذلك لأنّ الخضوع العبودي أمام أحد لا يجوز إلّا لأحد سببين، لا يتوفران إلّا في « الله » جل جلاله :

١. أن يبلغ المعبود حداً من الكمال يخلو معه عن أي عيب ونقص، فيستوجب ذلك الكمال أن يخضع له كل منصف ويعبده كل من يعرف قيمة ذلك

__________________

(١) ونظنك أيّها القارئ قد وقفت على الفرق بين التوحيد الافعالي، وبين ما يذهب إليه الأشاعرة والمجبرة.

فإنّ الفاعل عند هاتين الطائفتين ( الأشاعرة والمجبرة ) لا مشاركة له في أفعاله وآثاره أصلاً، وإنّها تستند إلى الله سبحانه مباشرة وبلا واسطة فهو الذي ينفذ الفعل عن طريق الفاعل دون إرادة ومشاركة من الفاعل في الفعل مطلقاً » !!

وأمّا الذي نقوله نحن فهو أنّ كل فاعل إنّما يعتمد ـ في فعله وأثره ـ على الله من حيث إنّه فقير محتاج إلى الغني بالذات في جميع شؤونه وأطواره. وأنّ للفاعل ـ مريداً كان أو غير مريد ـ دوراً في حدوث الأثر وبروزه وأنّ الأثر لا يمكن أن يتحقق على صعيد الوجود إلّا عن طريق هذا الفاعل.

وكم فرق بين أنْ ننسب أفعال الفاعل كلّها إلى الله مع نفي مشاركته فيها، وبين أنْ نعزي إمكانية التأثير إلى الله مع الاعتراف بمشاركة الفاعل في فعله.

وسوف يظهر لك الفرق بين المدرستين ـ بنحو أكثر تفصيلاً ـ في البحوث الآتية.

١٨

« الكمال المطلق ».

ونعني ببلوغ أقصى درجات الكمال ومراتبه أن يتحلّى ـ مثلاً ـ بالوجود اللامتناهي الذي لا يشوبه عدم، والعلم اللامحدود الذي لا يخالطه جهل، والقدرة المطلقة التي لا يمازجها عجز أو عيّ.

فهذه الأُمور هي التي تدفع كل ذي وجدان سليم وضمير حي إلى التعظيم والخضوع لصاحبها وإظهار العبودية أمام ذلك الكمال المطلق.

٢. أن يكون ذلك المعبود بيده مبدأ الإنسان ومنشأ حياته فيكون خالقه وواهب الجسم والروح له ومانح الأنعم والبركات إياه ومسبغها عليه بحيث لو قطع عنه فيضه لحظة من اللحظات عاد عدماً واستحال خبراً بعد أثر.

ترى هل يتوفر هذان الوصفان في أحد غير الله ؟ وهل سواه يتصف بأكمل الكمال ؟ أم هل سواه منح للأشياء وجودها وخلق الإنسان ويسر له سبل الحياة ؟ وهل سواه المبدأ الفياض الذي لو وكل الحياة إلى ذاتها، وترك الإنسان لنفسه آناً من الآونة صارت الحياة كأن لم تكن ؟

هذا والجدير بالذكر أنّ عبادة الأنبياء والأئمّة والأولياء الصالحين لله سبحانه لم تكن إلّا ل‍ ( كمال ) ذلك المعبود المطلق.

فهم لمعرفتهم الأفضل، واطّلاعهم الأعمق على عالم الغيب عبدوا الله سبحانه لـِما وجودوا فيه من الجمال المطلق، والكمال اللامحدود، ولأجل أنّهم وجدوه أهلاً للعبادة، والتقديس والخضوع والتعظيم فعبدوه وقدّسوه وخضعوا له وعظّموه.

أجلْ لذلك فحسب وليس لسواه عبدوه، وأعطوه بلاءهم وولاءهم، حتى

١٩

أنّهم كانوا سيعبدونه ـ حتماً ـ حتى ولو لم يك هناك العامل والملاك الآخر للعبادة، في حين أنّ الآخرين إنّما يعبدون « الله » لكونه خالقهم، ومصدر وجودهم وسابغ النعم عليهم، وواهب القدرة والطول لهم، ولأنّ بيده مفتاح كل شيء وناصية كل موجود(١) .

على كل حال سواء كان الأولى هو الأخذ بالملاك الأوّل للعبادة أم الثاني، فإنّ العبادة بكلا الملاكين المذكورين مخصوصة بالله وليس معه في ذلك شريك، لعدم وجودهما في غيره تعالى.

وبذلك تكون عبادة غير الله أمراً مرفوضاً بشدة في منطق العقل والشرع على السواء.

كان هذا هو مقصود علماء الإسلام من مراتب وأقسام التوحيد الأربعة، التي ذكرناها باختصار وسنذكرها مفصّلة، كما سنذكر غيرها من مراتب التوحيد في الصفحات القادمة مع استعراض الآيات الدالة عليها إنْ شاء الله.

غير أنّنا مع تقديرنا لـِما قام به أُولئك العلماء والمحقّقون المسلمون من خدمات علمية جليلة على هذا الصعيد نقول: إنّ مراتب التوحيد ـ حسب نظر القرآن ـ لا تنحصر في ما ذكروه من المراتب، بل يستفاد من آيات الكتاب العزيز أنّ هناك مراتب توحيدية أُخرى يمكن استنباطها واستفادتها من القرآن، من الصعب، ادراجها تحت المراتب الأربع المذكورة.

وإليك فيما يلي هذه المفاهيم باختصار :

__________________

(١) هناك عوامل أُخرى للعبادة سيوافيك بيانها في موضعه.

٢٠

المرتبطة بهذا الجزء »(1) .

ويقول الفيلسوف اليوناني اشين(2) :

« الآن قد بلغت الشيخوخة ، كنت اتصور انني تعلمت ما كان عليّ ان اتعلمه ، ولم يبق شيء مجهول بالنسبة لي ، لكني ارىٰ انني لا افهم شيئاً ، فأنا اعجز عن ادراك وفهم الذرّة ، لكنني عندما شابّاً ورغم ان معلوماتي كانت قليلة ، كنت اتصور انني اعلم كل شيء ».

ويقول العالم الانجليزي المعروف اسحاق نيوتن(3) :

« كأنني طفل صغير يقف علىٰ ساحل بحر ، يرىٰ احياناً حجراً أو رملاً براقاً ، لكنَّ امامه بحراً عظيماً من المعرفة مجهولاً ».

ويقول احد فلاسفة بريطانيا المعروفين وهو ليدج(4) :

« ان الذي نعلمه حالياً ضئيل جداً مقابل ما يجب علينا معرفته ، لربما يردد هذه الكلمات البعض دون الايمان بها ، لكني اقولها مؤمناً بها تام الايمان ، والذين يرون العلم في المعلومات الحالية فقط ، هم في الحقيقة خانوا اولئك الذين ناضلوا في سبيل المعرفة ».

________________

(1) تكامل علم الفيزياء ، ص 266.

(2) Echin

(3) Nivoton ، الدكتور اراني أيضاً قال بذلك ، لكنه أخذه من نيوتن.

(4) Ledeg

٢١

لا أعلم

يقول الدكتور الكسيس كارل(1) :

( لم تتطوّر العلوم التي تتحدث عن الكائن الحيّ بشكل عام وعن الانسان علىٰ نحو خاص كثيراً ، ولا زالت في مرحلة الوصف ).

ويضيف في بحث آخر :

( مع ان البشرية بذلت جهوداً كبيرة لنفسها ، ومع اننا اليوم نرث خزائن من دراسات العلماء والفلاسفة والعرفاء والشعراء ، لكن معلوماتنا لا تزال ضئيلة ووليدة الأساليب العلمية التي اخترعناها نحن انفسنا ، ولا زالت حقيقة وجودنا مجهولة بين الاشباح التي صنعتها ايدينا ، والحقيقة ان جهلنا بانفسنا كبير ولا زالت نواح كثيرة من عالمنا الداخلي غير معروفة بالنسبة لنا ، كما لازالت اكثر التساؤلات التي يطرحها الباحثون في حياة الانسان متروكة دون جواب ).

ثم يطرح الدكتور كارل بعد ذلك تساؤلات لم يستطيع العلم المعاصر الاجابة عليها رغم تقدمه ، يقول الدكتور كارل :

( لا نزال نجهل كيفية ارتباط الاعمال النفسية بالخلايا المخية ، بل ولا زلنا نجهل الفيزيولوجيا الحقيقية لخلايا المخِّ ، فما هي حدود سيطرة الارادة علىٰ الجسم ؟ لا نعلم.

كيف يؤثر وضع الاعضاء على حالتنا النفسية ؟ لا نعلم.

ما هي العلاقة بين نمو العظام والعضلات واجزاء الجسم الاُخرىٰ بالنشاط

________________

(1) الانسان ذلك المجهول.

٢٢

النفسي والروحي ؟ لا نعلم.

وما هو العامل الذي يضمن توازن الجهاز العصبي ومقاومة الجسم امام الامراض والارهاق ؟

وما حجم الاهمية النسبية للنشاطات الفكرية والاخلاقية والجمالية والعرفانية في حياتنا ؟ لا نعلم ).

في النهاية وبعد طرحه للعديد من التساؤلات ، يقول :

( هذه والعديد من التساؤلات الاُخرىٰ التي يمكن طرحها علىٰ اساس القضايا التي تهتم بها الانسانية ولكن دون الاجابة عليها ).

بعد ذلك أيضاً يتحدّث الدكتور كارل في بحث آخر عن الفكر وتأثيره والعوامل المكونة له والقضايا المرتبطة به ويطرح تساؤلات اخرىٰ ، ثم يقول :

( هناك فلاسفة كبار في كل عصر وفي كل بلد ، صرفوا سنوات عمرهم لحلِّ هذه القضايا ، لكن أيّاً منهم لم يوفّق في حلِّ هذا اللغز ).

فيلسوف آخر من المعاصرين يقول في مقدمة كتاب له ، وبعد طرح سلسلة من التساؤلات الفلسفية المتنوعة :

( المسائل التي ذكرتها هي الموضوع في الفلسفة القديمة والجديدة ، الشرقية والغربية ، لقد ضلت هذه الافكار في مخيلة البشر منذ ظهورهم ، ومن اجل فهم هذا السرِّ استخدموا جميع الطرق من العقل والفكر والشعور والتجربة الىٰ الوهم والخيال في اليقظة والمنام ، لقد تجاوز عدد فلاسفة كل عصر عشرات بل مئات الآلاف اما وزن الكتب التي ألفوها فهو بالاطنان ، وقد بقيت منهم

٢٣

كلمات كثيرة ومتنوعة لا يمكن احصاؤها ، لكنهم يتفقون في واحدة ، وهي خلاصة وحصيلة جهودهم ، تلك الجملة هي : « لا نستطيع ان نفهم »(1) ).

أصدقائي الاعزاء !

اذا اردت ان انقل لكم نماذج من اعترافات اشهر العلماء فيما يتعلق بالمجهولات البشرية ، سوف احتاج الىٰ اطنان من الورق !

خلاصة الكلام ، فيما لو سألتم اعظم بروفسور أو فيلسوف أو افضل عالم في الكيمياء أو الفيزياء : هل هناك ما يجهله الانسان ولم يُحط به علماً ؟

بالتأكيد سوف يجيبكم مستهزئاً : ما هذا السؤال الساذج ؟ هذا سؤال الأطفال.

أيُّها السادة !

لكم الآن ان تحكموا : هذا العالم المليء بالالغاز والتعقيد ، العالم الذي يعترف كبار علمائه بالمجاهيل التي لا زال البشر لا يستطيع الوصول إليها ، كما انه لا يعرف متىٰ ستحلَّ بالنسبة له ، أليس بعيداً عن العقل والمنطق ، ان ننفي قانون مسلَّم جاء به الاسلام ، ذلك الدين المقدّس الذي لا يخفىٰ دوره في حياة الانسانية العلمي ، لمجرد إنّ أحد العلماء لم يستطيع فهمه أو انه لم يرَهُ مطابقاً

________________

(1) فيلسوفي الشرق والغرب.

٢٤

لبعض القواعد العلمية الناقصة أو بعض النظريات العلمية المعاصرة ؟!

رفيق السفر : من باب الانصاف ، الحق ما تقوله ، لكن ذلك بالنسبة للذين

يمتلكون عقلاً سليماً ، وليس لمجموعات تتحرك عقولها الناقصة بصعوبة في ضجيج الحضارة المعاصرة.

تأييد الجميع : لا يحق لأي شخص التدخل في أي عمل.

الشيخ : لا شك ان بلدنا فيه الكثير من المتعلمين والفضلاء والمتخصصين في شتىٰ المجالات ، لكن الطامّة الكبرىٰ هي ان الشخص الذي يتخصّص في احد الفروع العلمية ، يتصوّر عقله معياراً لجميع حقائق العالم ، لذلك تراه يتدخل باستعجال خاص في كل موضوع ويسمح لنفسه بالحكم فيه ! فإذا تخصّص شخص في مجال الطب وحاز علىٰ شهادة دكتوراه في الطب بعد اتمامه فترة الدراسة ، فإن بعضهم يتصوّر انه سيكون بالاضافة الىٰ انه طبيب جيد ، مهندساً وتاجراً وقاضياً ومجتهداً وسياسياً ومزارعاً و الخ ، جيداً أيضاً ، لذلك فهو يحاول حل مشكلة كلّ تخصص بعقله هو ، وإذا ما لم يستطع عقله حل تلك المشكلة أو فهمها. سوف ينفيها ولن يقبل بها ، غافلاً عن ضرورة الرجوع في كل الىٰ المتخصص فيها ، وانه لا يحق لأي شخص التدخل في اي مسألة.

خطأ اديسون(1)

يقول الدكتور الكسيس كارل ضمن احد المواضيع :

________________

(1) Edison

٢٥

« المتخصّص في مجال معين لا يحق له التدخل في مجال آخر لا يمت اليه بصلة ».

وفي موضع آخر يقول :

« العلماء الذين يمتازون علىٰ غيرهم بواسطة كشفياتهم واختراعاتهم ، يتصورون انهم متبحرون في سائر المجالات كما هو الحال في مجال تخصصهم ، علىٰ سبيل المثال ، « اديسون » احياناً كان يتحدث للناس عن الفلسفة والدين ويطرح نظريات في ذلك ، فكان الناس يستمعون باحترام الىٰ آرائه لاعتقادهم بتبحره في هذين المجالين ايضاً ، لانه كاشف ومخترع كبير.

وبهذا الشكل نرىٰ ان بعض العظماء الذين مهدوا السبيل لرقي وتقدم البشرية من خلال اختراعاتهم وعلومهم ، يصبحون من جهة اخرىٰ سداً امام ذلك التقدم عندما يتكلمون في مجالات ليست من اختصاصهم وليسوا ملمين بها جيداً »(1) .

اصدقائي الاعزاء !

في ضوء ما قلته ، اليس من العجيب ان تنظروا الىٰ الدين الاسلامي المقدس والملتزمين به نظرة تشاؤمية بهذا الشكل ؟! في حين وعلىٰ حدّ قولكم انكم لم تطالعوا علىٰ مدىٰ حياتكم كتاباً في التعاليم الدينية وكذلك لم تلتقوا بعالم دين ولا اي مسلم واع يحملان معلومات وافرة عن الاسلام.

________________

(1) الانسان ذلك المجهول.

٢٦

ورغم ذلك ، تنفرون من الاسلام وتحقدون عليه للحد الذي اغضبكم وجودي معكم لفترة يوم واحد في هذا القطار لأن مظهري يوحي بأني متدين ، بشكل اخذتم بالاستهزاء بي ، وعدم احترام شيبتي ، وصرتم تتهامسون وتتغامزون فيما بينكم ؟! فمرّة تشيرون الىٰ قبعة الصوف التي اضعها علىٰ رأسي ، واُخرىٰ تتضاحكون علىٰ لحيتي.

أيُّها السادة :

انا وكما تقولون رجعي ، أمّا أنتم المتربّون في أحضان الحضارة الغربية ، لماذا كل تلك التصرفات القبيحة وغير الصحيحة ، علىٰ رجل لم تكونوا تعرفونه ولا رأيتموه من قبل ولم يصدر منه ذنب أو خيانة ؟!

هل هذه الحضارة التي ابتلينا بها والتي لا تستطيع ان تربي ابناءها إلّا بهذا الشكل ؟!

رفاق السفر : كان لكلام الشيخ تأثير قوي في نفوسهم ، اخذ بعضهم ينظروا الىٰ بعض ويوافقون الشيخ كلامه ، واعتذر كل واحد منهم مباشرة من الشيخ بكلمات ودّ واحترام خجولة عمّا بدر منهم من قبل ، ثم قالوا : من دواعي سعادتنا ان نلتقي شخصاً عالماً مثلك ، نأمل ان نسعد ونستفيد من وجودك خلال هذه السفرة القصيرة ـ للأسف

ودار حديث بين رفقة السفر : قال أحد الرفاق :

اصدقائي ! أتصوّر انّنا اليوم اُتيحت لنا فرصة مناسبة ، بوجود هذا الشيخ

٢٧

العالم الذي يجب علينا احترامه ، للبحث والكلام الاسلام وقوانينه ، لكي نطلع علىٰ منطق الدين والمؤمنين به.

باقي الاصدقاء : أنّنا سعيدون باقتراحك هذا ، ونستقبله بكل شوق ، لان ما تحدث به الشيخ يظهر فضل هذا الرجل وسعة اطلاعه بالاسلام وغزارة علمه.

الشيخ : من دواعي الاعتزاز ان تحيطوني بكل هذا اللطف والود ، ولكن قبل البدء بالبحث ، ومن أجل تطبيق حكم الاسلام الاخلاقي في التعامل مع الاشخاص ، لابدّ من ان نتعرّف علىٰ بعضنا ، لكي نبدأ هذا البحث والمناظرة بجو من الود.

التعارف

في البداية ، اعرف لكم نفسي ، اسمي تقي رستگار من مدينة همدان ، مهني.

احد الحاحزين : انا رضا سخنوّر ، أحمل شهادة الدكتوراء في القانون.

الثاني : احمد تاجور ، ضابط برتبة عقيد.

الثالث : حسن سماوي ، طالب في كلية الطب.

الرابع : علي امامي ، موظف في دائرة المخازن ( السايلو ).

الخامس : عباس بيضاوي ، رئيس دائرة التربية والتعليم في بندر شاه.

٢٨

الشيخ : من دواعي السرور ان اكون برفقة مجموعة من المتعلمين والمطلعين علىٰ العصر ، خاصة سعادة السيد الدكتور رضا سخنور الذي يحمل شهادة في القانون والذي سنستفيد كثيراً من آرائه في بحثنا ( البحث في قوانين الدين الاسلامي المقدّس ). فهو يستطيع ، ومن خلال المامه الواسع بالقانون ، ادراك القيمة الحقيقية للقوانين الاسلامية ، من مقارنتها بقوانين الشعوب المتقدّمة في العالم.

الدكتور : يا عمّ ! أودُّ في البداية ان نتحدث حول الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وموضوع نبوته ورسالته ، لكي نتناول فيما بعد مسألة القوانين الاسلامية ، بعد ان ترتفع الشبهات العالقة في اذهاننا ( انا وسائر اصدقائي ) حول النبوة.

٢٩

محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله رجل فذّ

الشيخ : سعادة الدكتور ! من اجل توضيح الموضوع الذي سألتموه ، لا بدّ من بحث عدة نواحي ، لكي نصل الىٰ هذه النتيجة وهي إنَّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله رجل فذّ في تاريخ الانسانية ، ورسول من جانب الله سبحانه وتعالىٰ ، وإنّ القوانين التي جاء بها الىٰ البشرية ، جميعها اُوحيت إليه من قبل رب العالمين ، وهذه النواحي التي لابدّ من بحثها هي بالترتيب التالي(1) :

أ ـ وضع الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل فترة الرسالة.

ب ـ البلاد التي ولد ونشأ فيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من حيث الجغرافيا والسكان.

ج‍ ـ دراسة مختصرة في وضع القوم الذين نشأ وعاش رسول الاسلام بينهم.

الناحية الاُولىٰ : ولد محمد بن عبداللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من اسرة طاهرة وشريفة في مكّة ، ولأن اُمّه آمنةعليها‌السلام لم تستطع ارضاعه لشحة حليبها ، فقد اعطاه جدّه

________________

(1) في هذا الصدد يمكنكم الرجوع الىٰ كتابنا « القادة الصديقون » ( بالفارسية ) فقد بحثت هذه المسائل بالتفصيل هناك.

٣٠

عبد المطلب إلىٰ مرضعة تسمىٰ حليمة السعدية(1) حتىٰ ترضعه ، فأخذته الىٰ قومها وبقي مع تلك القبيلة حتىٰ بلغ الخامسة من العمر ، وبعد ذلك عاش مع جدّه عبدالمطلب ثلاثة سنوات ، ومنذ سن الثامنة حيث توفي جدّه عبد المطلب ، عاش في كنف عمّه أبي طالب حتىٰ بُعث بالرسالة وهو في سن الأربعين ، إلّا انّ ما يهمنا من ذلك هو أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرسل الىٰ مدرسة ، ولم يدرس عند أي استاذ إلى أن بُعث رسولاً ، وخلال تلك الاربعين سنة لم يقرأ ويكتب سطراً واحداً ولا كان يدعي ذلك ، وهذا ما يعترف به جميع المؤرخين واصحاب السير. وانما كانت له حياته العادية كسائر العرب ( سوىٰ انه لم يرَ منه ذنب أو خيانة في كل فترة حياته ) ، وهنا يكمن السرّ ، فلو كان محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله قد ذهب الىٰ مدرسة أو تتلمذ علىٰ يد احد العلماء ، لربما شُكَّ في الأحكام التي جاء بها كنبي.

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) (2) .

وهذه القضية من أهم القضايا التي احتارت الدنيا بتفسيرها وجعلت علماء العالم يستسلمون أمامها ، لأنه لم يسبق ان رأت البشرية شخصاً اُمّيّاً ينشأ في بيئة مثل الجزيرة العربية وبعد أربعين سنة من حياة عادية ، يأتي وكرجل إلهي ومرسل من قبل الله بأحكام وقوانين لسعادة الانسان ، وبعد اربعة عشر

________________

(1) حليمة ، امرأة من قبيلة بني ساعدة التي تسكن اطراف مكة المكرمة ، وكانت قد جاءت الىٰ مكة بعد القحط الذي أصاب قبيلتها ، لأخذ طفل ترضعه ، فتنال من عملها ذلك مالاً ترمّ به معاشها.

(2) سورة العنكبوت : 48.

٣١

قرناً عجز البشر ان يأتي بمثلها وبعظمتها رغم جميع التطورات العلمية والفكرية التي حدثت.

أجل ، فهذا الأمر هو اكبر دليل علىٰ ان الرجل كان رسولاً من قبل ربّ العالمين ، وانه كان مرتبطاً بمبدأ الوحي.

٣٢

التشريع في عالمنا المعاصر

اصدقائي الاعزاء !

رغم اننا نعيش في عصر العلم والمعرفة ، وقد وصل فيها البشر الىٰ كل هذا التطور العلمي ، إلّا انّ تدوين مادة قانونية في الدول المتقدّمة يحتاج الرجوع الىٰ أصحاب الاختصاص والعلماء الكبار واساتذة الجامعات ، وهؤلاء بعد مشاورات عديدة يقدمونها علىٰ شكل لائحة الىٰ البرلمان ، هناك ايضاً يطرحونها في لجانهم المختصّة(1) وبعد مداولات عديدة تطرح اللائحة في البرلمان للتصويت عليها ، فيتكلم العديد من النواب حولها(2) ثم يصوت عليها بعد ان صرفت اموال طائلة من اجل وضعها ، هذه المادة وبعد فترة قد تكون شهراً أو بضع سنين وعندما تظهر نواقصها الواحدة بعد الاُخرىٰ ، يجبرون علىٰ الغاءها.

فهذا هو الاسلوب المتّبع في التشريع اليوم في العالم المتحضر الذي ينظر

________________

(1) Fraction

(2) هذا الكلام يصدق في الدول التي ينتخب فيها اعضاء البرلمان بشكل حرٍّ ومن قبل الشعب ، وأن يكون الانتخاب ايضاً علىٰ اساس العلم والكفاءة والاخلاص ، وليس في الدول التي تحكمها دكتاتوريات فردية تتسلط علىٰ مقدرات الشعوب ، والتي فيها الاجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية الّا ديكورات وكاريكاتورات ليس إلّا.

٣٣

الىٰ الاُمور من زاوية العلم.

نظرة الىٰ عالم الامس

مع الأخذ بأسلوب التشريع في عالمنا المعاصر ، ننظر الىٰ الوراء الىٰ عالم الظلمات قبل الف وأربعمائة سنة ، في ذلك العصر لم يكن هناك علم ومعرفة فاكثر البلدان تطوراً آنذاك ـ مثل ايران ـ كانوا بمستوىٰ من الانحطاط الفكري بحيث يعبدون النار ، وفي ذروة تطورهم أي العصر الساساني كان تحصيل العلم والمعرفة مقتصراً علىٰ أبناء الاُمراء وعلماء الدين المجوسي ، في حين انّ بعض البلدان الاُخرىٰ كانوا يعبدون البقر! فقد كانت آفاق افكارهم محصورة بشكل يصنعون من التمر آلهة يأكلونها إذا ما جاعوا ، فكانوا يحضرون تمراً من جديد ويصنعون آلهة أُخرىٰ للاستغفار أمامها علىٰ ما قاموا به.

وفي تلك الحقبة المظلمة ظهر رجل يسمىٰ محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك الماضي الذي ذكرناه عنه ، كرسول من قبل الله عزّ وجلّ ، وجاء بأحكام وقوانين للبشرية جعلت عصر الذرة الحالي يستسلم امام دقتها العلمية ، فإذا كنّا اليوم نشاهد في بعض الموارد قوانين مشابهة لقوانين الاسلام وذلك في اكثر الدول تقدّماً ، فهذا لا يبعث علىٰ العجب ، لانّنا نعيش في عصر العلم والمعرفة ، في حين ان العصور الماضية كانت مظلمة مليئة بالجهل والخرافة.

فلو استطاع الشخاص اليوم التعليم وقضوا عمرهم في المدارس والجامعات وزوايا المكتبات ، فقرأوا لكبار العلماء ، ونشأوا في بيئة ساعدتهم

٣٤

في تنمية افكارهم ، هؤلاء الاشخاص لو تمكنوا من الوصول الىٰ حقائق في عالم الوجود ، او قاموا بوضع قانون ذا فائدة فهو ليس امراً مستغرباً وليس كما يسمىٰ « طفرة علمية » ، لأن عملهم ذلك يتناغم وينسجم مع المرحلة التاريخية والظروف البيئة والثقافية والاجتماعية التي يعيشونها.

لكن إذا ظهر شخص اُمّي في عصر مظلم قبل الف واربعمائة عام ومن بيئة متوحشة وملوّثة بمعنىٰ الكلمة ، وتمكن من ايجاد ذلك التغيير الفكري والعلمي في العالم الذي يتّسع شعاعه بمرور الأيام والقرون ، وكلّما اتّسعت دائرة العلم والمعرفة ، اتّضحت عظمة الاسلام العلمية مع تطور العلم في شتىٰ المجالات ، فهذا هو الذي يبعث علىٰ العجب والدهشة ، وهو الذي لم يسبق ان حدث مثله.

مثل هذه الحادثة ، ومع الأخذ بالحالة الثقافية ، والظروف التاريخية والاجتماعية لذلك العصر ، لهو دليل قاطع في ان الذي جاء بكل تلك القوانين مرسل من جانب الله سبحانه وتعالىٰ ، وانه يوحىٰ اليه من مبدأ العلم المطلق( الله ) ، لأن ذلك غير ممكناً بالحسابات المادية ، وهو كيف يمكن لرجل أُمّي أن يؤسس ديانة علمية تتعامل وواقع العالم والانسانية ، فهذا الامر حتىٰ في البيئة العلمية والثقافية تماماً غير ممكناً.

فلو كانت القضية « نبوغاً فكرياً » وتتعلّق بالظروف البيئية ، لحدث مثل ذلك ولو لمرة اُخرىٰ في تاريخ البشرية ، لكن هذا الامر لم يحدث في اكبر واهم المراكز العلمية وبين من لهم افضل الظروف العلمية والفكرية ، فضلاً عن ذلك العصر المظلم وتلك البيئة المتخلفة ، وهذا دليل قاطع علىٰ ارتباط الذي جاء

٣٥

بتلك القوانين والاحكام بمبدأ العلم ومصدره ، أي رب العالمين ، فهو نبي وما يقوله هو وحي إلهي :

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (1)

اعتراف الدكتور لورافاكسيا فاغليري

الدكتور لورافاكسيا فاغليري ، البروفيسور الايطالي المعروف واستاذ جامعة نابل ، يقول في كتابه حول القرآن : ( نشاهد في هذا الكتاب خزائن وذخائر من المعرفة فوق قابليات واستعداد اذكىٰ الاشخاص واعظم الفلاسفة واقوىٰ رجال السياسة ، ولذلك لا يمكن ان يكون القرآن نتاج رجل متعلم ، افنىٰ عمره في مجتمع غير ديني ، لأن هذا الأمر لا يقوىٰ عليه رجال العلم والدين ، ذلك الرجل كان يؤكد علىٰ الدوام انه بشر مثل الآخرين ، لذا فبدون الله القادر لا يستطيع القيام بأية معجزة ، ومصدر القرآن ومنشأه لا يمكن ان يكون غير الله الذي احاط بعلمه السموات والارض وما بينهما ).

اصدقائي الاعزاء !

حقيقة الأمر هي كما قال الدكتور فاغليري ، لأنَّه إذا أراد شخص ان يصبح عالماً كبيراً ومعروفاً في عصرنا من خلال الانصراف بجميع سنوات عمره الىٰ كسب العلم ، فأن تخصصه في النهاية ايضاً سيكون في فرع معين ، فهو اما طبيب ـ مثلاً ـ أو خبير اقتصادي ، او عالم في القانون أو صاحب رتبة عالية في الجيش

________________

(1) سورة النجم : 3.

٣٦

أو الخ ، فلا يمكن ان تجدوا اليوم في كل العالم شخصاً تخصص في مختلف الفروع والمجالات.

لكن رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان فرداً بلا مستشار ، جاء من قبل الباري عزّ وجلّ تلك القوانين المتنوعة ، من المسائل العبادية حتىٰ المسائل القانونية ، ومن الاحكام الفردية حتىٰ المسائل الاقتصادية والاجتماعية ، وجميعها علىٰ اساس مسلَّمات حقائق عالم الوجود.

أليس ذلك دليل علىٰ ان محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله رسول من قبل رب العالمين ، وليس عصارة ظروف تاريخية خاصة ؟!

الدكتور : النقطة التي اشرت اليها جديرة جداً بالالتفات ، لأننا نرىٰ في اكثر دول العالم تقدماً ، يوجهون كل فرد أو مجموعة الىٰ مجال معيَّن ، فالقضايا القانونية ـ علىٰ سبيل المثال ـ يوكلونها الىٰ اصحاب الاختصاص في القانون. ولم نشاهد الرجوع اليهم في قضايا الاقتصاد او الامور العسكرية. لأنهم لا يملكون معلومات فيها. اما فيما يتعلّق بالرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكما تفضلت ، لم يحدث ذلك من قبل وهو أن يأتي شخص ويقدم للبشرية قوانين محكمة وغير قابلة للأنكار في جميع المجالات.

الشيخ : أجل ، هكذا الدين الاسلامي ، له قوانين حيّة وغنية في مختلف شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والأقتصادية ، وهو ما يميّز ديننا عن سائر الأديان ، ويقدّمه عليها.

فالانجيل ـ مثلاً ـ الذي يعتبر الكتاب الديني المقدّس لجميع الدول الغربية ، اذا تصفحتموه بدقّة ستجدون اكثر احكامه اخلاقية ، ويحتوي

٣٧

علىٰ مباحث روحية ، بحيث لو تركت البلدان الغربية قوانينها الاجتماعية وارادت ان تعمل علىٰ ضوء تعاليم الانجيل ، ستشلّ وتقف عن الحركة جميع مؤسساتها ومرافقها الاجتماعية والاقتصادية ، وستسقط دفعة واحدة ، لانّه لا نجد في الانجيل كلّه حتىٰ خمسين مادة قانونية حول القضايا الاجتماعية(1) .

في حين ان الدين الاسلامي المقدس ، ليس فقط يملك اسمىٰ التعاليم الاخلاقية والروحية ، بل ان قوانينه واحكامه تشمل جميع المجالات ، مثل : الزراعة والاقتصاد والسياسة والاُمور العسكرية والجيش والصحة والثقافة والتجارة والقضاء. وبشكل عام فهو يمتلك كل وافضل القوانين التي تحتاجها اُمة متحضرة ، حتىٰ في السباقات.

محطة بندرگز

في تلك اللحظة وصل القطار الىٰ محطة بندرگز ، كانت جماعة من الناس مستعدة للركوب ، ومجموعة من المسافرين أيضاً مستعدة للنزول ، ولذلك اختل النظام العادي في القطار.

شرطي المحطة واقف الىٰ جانب السلم ، ويصيح : أيُّها السادة أرجو منكم مراعاة النظام ، افسحوا المجال للمسافرين يخرجون من داخل القطار ، ومن ثم اصعدوا.

________________

(1) لدراسة محتويات التوراة والانجيل ومقارنتها بالقرآن ، يمكنكم الرجوع إلى كتاب « الانسان وسائر الكتب السماوية ». ( بالفارسية )

٣٨

ولكن لم يكن احد يستمع اليه في تلك اللحظات ، فكرر الشرطي : أيُّها السادة ارجو ان تراعوا القانون ، لماذا تصعدون ، فلا زالوا لم ينزلوا ؟!

اهانة عقيد لسائق سيارة اجرة

أحد المسافرين كان يحمل حقيبة بيده وهو مستعد مع أخيه للصعود ، قال : دعك من هذا غفر الله لك ، اين يُراعىٰ القانون في هذا البلد ، حتىٰ يُراعىٰ هنا بجنب سلّم القطار ، إذا كان حقيقاً ما تدّعي اذهب وقل لمرؤوسيك ان لا يتصرفوا خلاف القانون.

فقال الشرطي : ما هذا الذي تقوله ؟

المسافر : ليس قول وإنّما حقيقة.

في هذا العام كان أحد أصدقاءنا يقود سيارته في احد شوارع طهران وفجأة استدارت سيارة خاصة امامه ، لم يكن يبق شيئاً ان يتصادما ، فضغط صديقنا علىٰ الكابح وأوقف السيارة قبل ان تصطدم بتلك السيارة المخالفة ، ممّا ادىٰ الىٰ جرح احد الركاب الذين كانوا معه برأسه ، فنزل من سيارته واتّجه الىٰ سائق تلك السيارة فوجده يحمل علىٰ صدره واكتافه طناً من الميداليات والأوسمة وإلىٰ جانبه سيدة نصف عارية ، فقال له : أيُّها السيد المحترم ، ما هذا الذي عملته ، لماذا استدرت هنا ؟

صدقني أيُّها الشرطي ! ما ان أتم كلامه حتىٰ أتته صفعة قوية من ذلك

٣٩

الرجل ، فردّها صديقنا المسكين إليه بصفعة مماثلة.

عند ذلك قال له الرجل : يجب ان نذهب الىٰ مركز الشرطة ، فقبل صديقنا بذلك ، وذهبوا جميعاً الىٰ هناك ، وما أن وصلوا المركز حتىٰ رأىٰ صديقنا ان جميع الضباط والشرطة قد وقفوا احتراماً لذلك الرجل ، فتبيّن ان ذلك الرجل برتبة عقيد.

فأمر الشرطة ، الذين قاموا بضرب صديقنا للحد الذي لم يتمكن النهوض من فراشه ليومين ، ثم أمرهم بحلق رأسه وسجنوه ليلة عندهم ، مع ان ضابط المرور كان قد أشار بالتقصير الىٰ العقيد ، فما كان عليه ان يستدير في ذلك المكان ، لكن سيادة العقيد لا يهمه القانون ، لانه يعتبر نفسه فوق القانون ، القانون يجب ان يكون للجميع وليس لي ولأمثالي من المساكين.

هنا قال اخو المسافر : أخي ، ما هذا الذي تقوله ، لا حاجة لنا بوجع الرأس ، فلو القوا القبض عليك الآن بتهمة الاستهزاء بالمقدّسات الوطنية ! والتجاسر علىٰ ، من الذي سينجيك ؟!

وبعد دقائق من التوقّف ، تحرك القطار ثانية وعاد النظام الىٰ ما كان عليه.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672