مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228709 / تحميل: 6462
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

ماذا يُراد من الخلافة عن رسول الله ؟

إنّ الإمامة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والخلافة عنه تتصوّر بمعنيين :

الأوّل: أنّها إمرة إلهيّة واستمراراً لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهيّ، وهذا ما تعتقده الشيعة الإماميّة في الإمامة والخلافة، ويشترط فيه كلّ ما يشترط في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا ما استثني.

الثاني: أن تكون رئاسةً دينيّةً لتنظيم اُمور الاُمّة، من تدبير الجيوش وسدّ الثغور وردع الظالم والأخذ للمظلوم وإقامة الحدود وقسم الفيء بين المسلمين وقيادتهم في حجّهم وغزوهم(١) . وهذا ما يعتقده اخواننا أهل السنّة في الخلافة، ولأجل ذلك لا يشترط فيها نبوغ في العلم زائداً على علم الرعيّة، بل هو والاُمّة في علم الشريعة سيّان، كما لا يشترط سائر الصفات سوى القدرة على التدبير.

فلو كانت الخلافة بالمعنى الثاني الذي اختاره إخواننا أهل السّنّة، فيكفي في لزوم نصب الإمام ما مرّ في البحث السابق.

وأمّا إذا قلنا بما اختاره الشيعة الإماميّة، فيجب أن يكون الإمام ذات صفات وملكات يملأُ بها كلّ الفراغات الحاصلة بوفاة النبيّ، والإمام بهذه الخصائص يحتاج إلى تربية إلهيّة كما في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يعرف تلك الشخصيّة مع ما تتصف به من الصفات إلّا الله سبحانه، فيجب أن يعرّفها إلى الاُمّة وإلاّ جهلها الناسن ويلزم نقض الغرض.

ولأجل الاختلاف في معنى الإمامة، عقدنا هذا البحث وفصلناه عن البحث السابق.

__________________

(١) وقد أجمل الماورديّ مسؤوليّات الإمام في عشرة، لاحظ الأحكام السلطانيّة: ١٥ ـ ١٦.

١٠١

الطريق الثاني

٢

وفاة النبيّ والفراغات الهائلة

١. الفراغ في بيان الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة.

٢. الفراغ في تفسير القرآن الكريم وشرح مقاصده.

٣. الفراغ في مواصلة تكميل الاُمّة روحياً ونفسياً.

٤. الفراغ في مجال الردّ على الأسئلة والشبهات.

٥. الفراغ في صيانة الدين من محاولات التحريف.

دراسة الفراغات لماذا ؟

إنّ دراسة الفراغات الهائلة المذكورة والحاصلة بوفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والوقوف على كيفيّة سدّها بعده، تعيننا على معرفة لون الحكومة الإسلاميّة ـ بعده ـ.

وعلى القارئ، أن يتأمّل في هذه النقاط الحساسة، بتجرّد وموضوعية، حتّى يقف على ضالّته المنشودة.

لا شكّ أنّ وجود النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يملأُ فراغاً كبيراً وعظيماً في حياة الاُمّة الإسلاميّة.

فالرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تقتصر مسؤوليّاته وأعماله على تلقيّ الوحي الإلهيّ وتبليغ الرسالة الإلهيّة إلى الناس، بل كانت تتجاوز ذلك بكثير.

١٠٢

فقد كان النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم ب‍ :

١. بيان الأحكام الإسلاميّة من كليات وجزئيات.

٢. تفسير الكتاب العزيز وشرح مقاصده وبيان أهدافه، وكشف رموزه وأسراره.

٣. دفع اُمّته ـ بحسن قيادته ودرايته ـ في طريق الكمال والرّقيّ والتقدّم. وتربية المسلمين، وتهذيبهم وتزكيتهم وتخليص نفوسهم من شوائب الشرك والكفر والجاهلية، وإعداد المسلم القرآني الكامل.

٤. الردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يلقيها أعداء الإسلام، ويوجّهونها ضد الدعوة الإسلاميّة.

٥. صون الدين الإسلاميّ والرسالة الإلهيّة من أيّة محاولة تحريفية ومن أي دس في التعاليم المقدّسة.

وقد كانت كلّ هذه الاُمور تعتمد بالإضافة إلى ( الوحي ) إلى قدرات نفسيّة عالية، وقابليات فكريّة هائلة، ومعنويّات خاصّة تؤهّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله للقيام بكلّ تلك المهام الجسيمة، والاضطلاع بجميع تلك المسؤوليات الكبرى.

ولا ريب أنّ من كان يقوم بمثل هذه المسؤوليات، يعتبر فقده وغيابه من الساحة ملازماً لحدوث فراغ هائل في الحياة الاجتماعيّة، وثغرة كبرى في القيادة لا يسدّها إلّا من يقوم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في القدرة القياديّة، والإداريّة، ويتمتّع بكلّ تلك الكفاءات الذاتيّة، ويتحلّى بجميع تلك الصفات النفسية العليا، والمؤهّلات الفكريّة والعلميّة والسياسيّة، ما عدا خصيصة النبوّة وتلقّي الوحي.

ولمّا كانت هذه الكفاءات النفسيّة والمؤهّلات المعنويّة من الاُمور الباطنيّة الخفيّة التي لا يمكن الوقوف عليها ومعرفتها إلّا بتعريف من الله تعالى وتعيينه وتشخيصه.

كما أنّها لـمّا كانت لا تحصل للشخص بطريق عاديّ وبالتربية البشريّة المتعارفة بل لابدّ من اعداد إلهيّ خاص، وتربية إلهيّة خاصّة، ينطرح هذا السؤال :

١٠٣

هل كان يمكن للاُمّة أن تتعرفّ بنفسها على هذا الشخص وتكتشف من تتوفر فيه تلك المؤهّلات والكفاءات الخفيّة بالطرق العاديّة ؟ أو كان يحتاج ذلك إلى تشخيص الله تعالى، وتعيينه وتنصيبه ؟.

ولو قلت: إنّ رحيل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يوجد فراغاً في الرسالة واستمرار الوحي فكيف يمكن سد هذا الفراغ ؟ أو هل يمكن ملؤه أيضاً ؟.

قلنا: إنّ خصيصة الخاتميّة التي أخبر عنها القرآن الكريم، واتّصفت بها النبوّة المحمّديّة، تخبر عن عدم حصول مثل هذا الفراغ، وعدم احتياج الاُمّة إلى تتابع الرسالات واستمرار الوحي، والاتصال السماويّ بالأرض، لأنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء بأكمل الشرائع وأتمّها، وأوفاها بحاجات البشريّة.

وبعبارة اخرى، إنّ الرسول الخاتم قد أتى بكلّ ما تحتاج إليه البشريّة من تشريعات للحاجات الفعليّة، ومن اُصول للتشريعات اللازمة للحاجات المستجدّة فلا توجد وفاة الرسول فراغاً في ذلك الجانب، وإنّما الفراغ هو في الجوانب القياديّة الخمس المذكورة، التي تحتاج إلى الكفاءات والمؤهّلات الذاتيّة والنفسيّة التي كان يتمتّع بها الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ الوجوه التي تدلّ بصراحة كافية على أنّ الاُمّة الإسلاميّة لم يكن في مقدورها اختيار ومعرفة القائد المناسب الذي يخلّف الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقود الاُمّة بنفس المؤهّلات والكفاءات التي كان يتحلّى بها النبيّ الراحل ـ ما عدا الوحي ـ بل كان يجب تعريفه من جانب الله سبحانه، وتعيينه ونصبه لقيادة الاُمّة وسدّ ما حدث ـ بوفاة النبيّ القائد المعلّم ـ من فراغ بل فراغات

إنّ هذه الوجوه هي :

١. الفراغ في مجال الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة

لا شكّ أنّ الوحي الإلهيّ انقطع بوفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كما لا شكّ أنّ

١٠٤

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله التحق بربه وقد أدّى ما عليه من مهمّة التبليغ والدعوة خير أداء، وقام بتثقيف الاُمّة الإسلاميّة أفضل قيام، ولكن الاُمّة كانت تعاني ـ بعد وفاة النبيّ ـ من مشكلات كبيرة تشريعيّة بالنسبة للحوادث المستجدّة والوقائع الجديدة، فماذا كان السبب ؟ فهل كان هناك نقص في التشريع الإسلاميّ، أم كان هناك أمر آخر يتعلّق بالاُمّة نفسها ؟.

وبعبارة اخرى: إنّ القرآن الكريم والسنّة المطهّرة أعلنا من جانب عن إكمال الشريعة وأنّه ما من شيء تحتاج إليه الاُمّة إلّا وقد جاء به الكتاب والسنّة، وبيّنه وأتمّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهذا ممّا لا يشكّ فيه أحد من المسلمين، خصوصاً بعد القول بخاتميّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وانسداد باب الوحي الإلهيّ.

ومن جانب آخر، نرى بأن الاُمّة الإسلاميّة فوجئت بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحوادث جمّة لم تجد لها حلولاً في الكتاب والسنّة، وقد اعترفت بذلك أتم اعتراف.

فكيف يمكن الجمع بين الأمرين والتوفيق بينهما ؟.

إنّ الذي تدلّ عليه الشواهد التأريخية، هو أنّ المسلمين لم يستطيعوا ـ رغم ما بذله الرسول الأكرم من جهود كبرى في فترة رسالته ـ أن يستوعبوا التربية العلميّة الكافية والتعبئة الفكريّة اللازمة التي تؤهّلهم لمواجهة جميع المفاجئات، وحلّ جميع المشكلات والمسائل المستجدّة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك لأنّ مثل هذه التربية الكافية، وهذه التعبئة الوافية بالحاجة والحاجات المستجدّة كانت تتطلّب فترة طويلة، وجوّاً من الطمأنينة، وتركيزاً شديداً.

ولكن هذه الظروف والشرائط المساعدة لم تتوفّر لا للمسلمين، ولا للنبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله خلال مدّة الدعوة التي استغرقت ٢٣ عاماً.

وإليك فيما يأتي تفصيل العوامل التي حالت دون أن يستوعب المسلمون جميع أبعاد الشريعة، ويتلقّوا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله التعبئة الفكرية الكافية والتعليم الواسع، رغم

١٠٥

ما بذلهصلى‌الله‌عليه‌وآله في سبيل تحقيق ذلك من جانبه :

(أ): لقد قضى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله الفترة المكّيّة من حياته الرسالية ـ التي استغرقت ١٣ عاماً كاملة ـ في دعوة المشركين في مكّة، وما حولها. تلك الدعوة الرفيقة الرحيمة المخلصة التي كانت تقابل بالعناد واللجاج منهم، وتواجه بالمضايقات وخلق الصعوبات.

وحتّى لو تمكّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من إحراز بعض النجاح في مهمّته فإنّ عناد المشركين والوثنيين يجعل تلك النتائج قليلة وضئيلة واستمر هذا الحال في مكّة حتّى انتهى إلى محاولة اغتيال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والقضاء على حياته الشريفة ـ في فراشه ـ، وكانت الهجرة المباركة إلى يثرب ( المدينة ).

إنّ تركيز الدعوة في مكّة على الجوانب الاعتقادية لم يسمح بالتكلّم عن القوانين العباديّة والاجتماعيّة، والسياسيّة هذا مضافاً إلى أنّ التحدّث عن هذه الجوانب والمسائل التي تتعلّق بالنظام الاجتماعيّ في ذلك الجوّ الخانق، ومع تلك العقول البدائيّة، والنفوس غير المستعدّة، كان بعيداً عن مقتضى البلاغة، التي تقتضي أن يكون لكلّ مقام مقال ولكلّ مقال مقام.

لأجل ذلك نجد أنّ الآيات التي نزلت في مكّة تدور ـ في الأغلب ـ حول قضايا التوحيد والمعاد وإبطال الشرك ومقارعة الوثنيّة وغيرها من القضايا الاعتقاديّة الكليّة، حتّى صار أكثر المفسّرين يعرف الآيات المكّية والمدنيّة ويميّز بينهما بهذا المعيار.

وأمّا في الفترة المدنيّة التي استقبل فيها أهل المدينة رسول الإسلام بحفاوة بالغة وشوق كبير، فقد تمكّن الرسول الأكرم ـ بعد أن وجد بعض الأجواء المناسبة للتربية والتعليم ـ أن يبيّن للاُمّة بعض أحكام الإسلام ويطبق قسماً منها، ويعرّف الناس بواجباتهم وحقوقهم، وما يجب أن يعرفوه من مسائل الحلال والحرام.

غير أنّ حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة لم تسلم ولم تخل هي أيضاً من مزاحمة

١٠٦

المشاكل الكثيرة، فقد أثار تمركز المسلمين في يثرب، وتعالي شوكتهم، وتعاظم أمر الرسالة الإسلاميّة حفيظة الكفّار والمشركين، وخوفهم وقلقهم من مستقبل الأمر، ودفعهم ذلك إلى التعرّض للرسول والمسلمين في المدينة اكثر من مرة.

وهذه الحملات والتحرشات وإن كانت تواجه موقفاً شجاعاً وقوياً من المسلمين بقيادة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وكانت تعود في كل مرة بالويل والخيبة على أصحابها، كما تشهد بذلك وقائع بدر وأحد والأحزاب وغيرها، إلّا أنهّا كانت ـ ولا شكّ ـ تأخذ الكثير الكثير من أهتمام الرسول ووقته الذي كان يصرفه إلى تجهيز المسلمين وتهيئتهم لصد العدوان، ومواجهة الأعداء أو إبطال المؤامرات التي كانت تبيّت ضدّ الدولة الإسلاميّة الفتيّة، الحديثة التأسيس في المدينة المنوّرة.

هذا إلى جانب المشاكل الداخلية التي كان يثيرها المنافقون واليهود الذين كانوا ـ كما قلنا ـ بمثابة الطابور الخامس، وكان لهم دور كبير في إثارة البلبلة في صفوف المسلمين، وخلق المتاعب للقيادة من الداخل، وكانوا بذلك يفوّتون الكثير من الوقت الذي كان يمكن أن يصرف على تربية المسلمين وتعبئتهم الفكريّة واعدادهم العلميّ، وتعليمهم ما يعينهم على حلّ كلّ ما قد يطرأ على حياتهم ويستجدّ من مشكلات ومسائل وحوادث في المستقبل.

إنّ اشتراك النبيّ في (٢٧) غزوة، كان البعض منها يستغرق أكثر من شهر، والاشتغال ببعث وتسيير ما يقارب (٥٥) سرّية لقمع المؤمرات وإبطالها، وصدّ التحركات العدوانيّة.

وبالتالي، أنّ ماصرفه الرسول القائد في مواجهة المثلّث التآمري ( اليهود ـ المنافقون ـ المشركون ) اخذ من وقت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله واهتمامه وجهده ما لو اتيح له أن يصرفه على تعبئة المسلمين علميّاً، وتربيتهم فكرياً، لأتى بثمار كبيرة وكثيرة.

على أنّ الوظائف المهمة التي كان يضطلع بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم بها بنفسه لم تقتصر على هذه الاُمور، بل كانت تقع على كاهله مهمّة: ( عقد الاتفاقيّات السياسيّة

١٠٧

والمواثيق العسكريّة الهامّة ) التي يزخر بها تأريخ الدعوة الإسلاميّة(١) .

مثل هذه الحياة الحافلة بالأحداث والوقائع، الزاخرة بالصعوبات والمتاعب، كانت تحمل المسلمين من جانب آخر على صرف جلّ اهتمامهم وأوقاتهم في مسألة الدفاع عن حياض الإسلام، وحياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا ما تيسّر لهم بعض الفرصة والفراغ، وانصرفوا إلى تعلّم الأحكام والقوانين الإسلاميّة، إذا بحوادث جديدة تستقطب اهتمامهم، وتسلب منهم فرصة الأخذ، والتعلّم الواسع من النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وخاصّة إذا عرفنا أنّ أوضاع المسلمين وإمكاناتهم البشريّة وعددهم لم يبلغ حدّاً يسمح بأن تتفرّغ كل جماعة منهم لعمل خاصّ، جماعة للدفاع وجماعة للزراعة، وجماعة للتعلّم والتفقّه، ولكن كان الجميع جنوداً عند تعرّض البلاد لهجوم الأعداء، فإذا فرغوا من الحرب انصرفوا ـ بعض الوقت ـ إلى الزراعة أو التعلّم، أو التكسّب والتجارة.

(ب): لقد كان التشريع الإسلاميّ يشقّ طريقه نحو التكامل بصورة تدريجية، لأنّ حدوث الوقائع والحاجات الاجتماعيّة في عهد الرسول الأكرم، وما كانت تثيره من أسئلة وتتطلّب من حلول هي التي كانت توجب نزول التشريع عن طريق الوحي الإلهيّ، وبهذه الصورة كان التشريع الإسلاميّ يتكامل، ويتخذ صيغته الكاملة.

وهذا هو شأن كلّ تشريع، فلا يمكن أن يكون القانون وليد لحظة واحدة من الزمان أو مقتضيات يوم واحد، بل يكون وقوع الحوادث والوقائع هو السبب في اتّساع دائرة القانون وتكامله.

ثمّ إنّ تكامل التشريع الإسلاميّ ليس بالمعنى المتبادر في التشريعات البشريّة المتكاملة تدريجياً.

فإنّ الباعث على التدرّج في التشريعات ( الوضعيّة ) هو عدم علم المشرّع بما سيحدث، وأمّا التشريع الإسلاميّ فالمشرع فيه هو الله سبحانه وهوعالم بمقتضيات الأحكام ومصالحها وملابساتها وما يوجب النسخ والتخصيص فيكون معنى التكامل

__________________

(١) راجع كتاب الوثائق السياسيّة للبروفسور محمّد حميد الله. ومكاتيب الرسول للعلاّمة الأحمدي.

١٠٨

التشريعيّ في الإسلام، هو التكامل في البيان والتدريج في النزول، لأجل أنّ بيان الأحكام لا يصحّ إلّا بعد وجود مقتضيات وشروط في نفس المجتمع.

أضف إلى ذلك، أنّ التدريج في البيان والنزول إذا كان متّصلاً بالواقعة الخاصّة التي نزل في حقّها القرآن يكون أوقع في النفوس وأقرب إلى الحفظ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان: ٣٢ ) وقوله سبحانه:( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) ( الاسراء: ١٠٦ ).

هذا مضافاً إلى ناحية خاصّة بالمجتمع المدنيّ في عهد الرسول كانت تستوجب هذا التدرج، وهو كون ذلك المجتمع فاقداً لأيّ قانون اجتماعيّ وأخلاقيّ، فكان تعليمه جميع القوانين الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة دفعةً واحدةً، أو في فترة قصيرة، أمراً يكاد يكون مستحيلاً حتّى لو خلت حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من المشاكل والمتاعب التي مرّ ذكرها.

وقد كان ذلك عاملاً من عوامل عدم قدرة الاُمّة على استيعاب كلّ معالم الشريعة وأبعادها وتفاصيلها وتفريعاتها، وأخذها من النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ إنّ اُموراً وأسباباً عديدةً اخرى كانت تقتضي التدرّج في نزول القرآن الكريم إلى جانب ما ذكرناه، ويمكن تلخيصها فيما يلي :

١. تثبيت فؤاد النبيّ

إنّ النبيّ إذ كان يتحمّل مسؤوليةً ضخمةً جداً وكان يواجه في هذا السبيل صعوبات ومشقّات صعبة جدّاً، كان لابدّ له من إمداد غيبيّ مستمرّ غير منقطع ونجدة إلهيّة متّصلة، ولهذا كان نزول جبرائيل المتكرر موجباً لتسليته وتقويته الروحيّة وإلى هذا أشار القرآن إذ قال:( كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) ( الفرقان: ٣٢ ).

١٠٩

٢. تسهيل عملية التعليم

إنّ صعوبة مهمّة التعليم كانت تقتضي أن يتنزّل القرآن شيئاً فشيئاً، ليسهل تعليمه للناس وإلقاؤه إليهم.

كيف لا، والنبيّ طبيب يعالج النفوس، ويداوي الأرواح وذلك يقتضي التدرّج في العلاج كما يفعل المداوون.

٣. بيان الميزة التطبيقيّة للقرآن

إنّ القوانين التي تسنّ طبقاً للحاجات، وعند ظهور المشكلات، تكون أقرب إلى النتيجة المطلوبة منها فيما لو سنّت جملةً في وقت واحد.

ولهذا، كانت الآيات القرانية تتنزّل وفقاً للحاجات وتبعاً للحوادث التي كانت تقع شيئاً فشيئاً، فيأخذ بها المسلمون ويعالجون بها مشكلاتهم فيشاهدون النتائج العمليّة الطيّبة، فبسببها تزداد ثقتهم بالوحي ويزداد تعلقّهم به.

وبهذا كان القرآن يحقّق نجاحات كبيرةً في النفوذ إلى القلوب والأعماق لأنّه كان يقرن العلم بالعمل، ويلبّي الحاجات الفكريّة والحياتية وهي أفضل وسيلة للتأثير في القلوب.

٤. تعدّد الاحتجاجات

إنّ قسماً كبيراً من الآيات القرآنية كانت تتنزّل على النبيّ في مقام الاحتجاج على طوائف اليهود والنصارى، الذين كانوا يتوافدون على النبيّ بين فينة وأخرى، فكان طبيعياً أن تنزل الآيات في أوقات متعدّدة وأزمنة متفاوتة.

٥. التدليل على صدق الرسالة

إنّ التدرّج في التنزيل كان أحد الأدلة الساطعة على صدق هذا الكتاب في

١١٠

انتسابه إلى الله، وكونه وحياً سماوياً وليس تأليفاً بشريّاً إذ أنّ نزول الآيات في مواسم وأشهر وأعوام متفاوتة مع حفظ النمط الخاصّ بها، ورغم ما تعرّض له الرسول في حياته الرسالية من شدّة ورخاء، وعسر ويسر، وهدوء واضطراب، وسلم وحرب، كان خير دليل على أنّ هذا الكلام لم يكن إلّا وحياً يوحى إليه من إله قادر حكيم، وخالق عليّ عليم فكان ذلك أظهر لعظمة القرآن، وأقوى دليل على إعجازه.

* * *

(ج): إنّ اتساع رقعة الدولة الإسلاميّة، ومخالطة المسلمين للشعوب والأقوام المختلفة بسبب الفتوحات المتتالية التي قام بها المسلمون، جعلهم أمام مشاكل مستجدّة ومسائل مستحدثة لم تكن معهودةً ولا معروفةً في عهد النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لم تكن فيه الدولة الإسلاميّة قد توسعت كما توسعت بعد وفاته والتحاقه بالرفيق الأعلى.

فهل كان من الصحيح ـ والحال هذه ـ أنّ يبيّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله للناس، حلولاً لمشاكل لم تحدث بعد، ويتحدث عن موضوعات لم يعرفوا شيئاً عن ماهيتها وتفاصيلها، ولم يشهدوا لها نظيراً في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وانّما كانت تحدث بصورة طبيعية فيما بعد ؟.

ألم يكن بيان تلك الأحكام والحلول لتلك الموضوعات المستقبلية المجهولة عملاً غير مفيد، بل أمراً صعباً للغاية، لأنّه لم يكن في وسع المسلمين أنّ يدركوا معناه وهم لم يعرفوها عن كثب ولم يعرفوا لها أي مثيل ونظير ؟.

وهكذا لم يتسنّ للمسلمين أنّ يتعرّفوا على كلّ شيء فيما يتعلق بالحوادث والموضوعات الواقعة في المستقبل، ولذلك كانوا يجهلون الكثير من الأحكام المتعلّقة بها، والحلول اللازمة لها.

هذه كانت أهم العوامل التي حالت دون أن يستطيع المسلمين استيعاب كافة التعاليم والأحكام الإسلاميّة من النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلم يكن ما وعوه منهصلى‌الله‌عليه‌وآله وافياً بالحاجات المستجدة وهذا ما يلمسه كلّ من درس تأريخ الاُمّة الإسلاميّة في الصدر الأوّل وستقف على نماذج من هذه الحاجات

١١١

التي لم يجد فيها المسلمون الأجوبة فيما لديهم من تشريع.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر أنّ القرآن الكريم يصرّح في غاية الوضوح بأنّ الله سبحانه أكمل دينه بنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة: ٣ ).

كما يصرّح النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك في خطابه التأريخي عند عودته من حجة الوداع إذ يقول: « يا أيّها الناس والله ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به وما من شيء يقرّبكم من النّار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه »(١) .

وأكّدالإمام عليّعليه‌السلام على هذه الحقيقة أيضاً إذ قال: « أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى، أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول ـصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول:( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) وفيه تبيان لكلّ شيء(٢) .

فإذا كان الله قد أكمل دينه فلا نقصان، بل كمال وتمام، فلماذا كانت الاُمّة تعجز عن حل المعضلات الجديدة التي تواجهها في حياتها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ؟.

ترى كيف اُكمل الدين في السنة العاشرة من الهجرة، وبيّن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة من علوم ومعارف وأصول وفروع وحلول لمشاكلهم الفعليّة والحادثة فيما بعد ؟.

هل استودع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ ذلك عند الاُمّة نفسها، وقد تقدم استحالة تحقق ذلك في تلكم الفترة القصيرة ومع تلك المشاكل الكثيرة، وعدم قدرة الناس على الاستيعاب والأخذ الكامل ؟.

__________________

(١) الكافي ٢: ٧٤ وتحف العقول: ٤٠ ( طبعة إيران ).

(٢) نهج البلاغة: الخطبة رقم (١٨).

١١٢

كيف لا ؛ وكلّ الأحاديث الصحيحة التي نقلها أعلام السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في الفروع والاُصول لا تتجاوز (٥٠٠) حديثاً.

قال السيد محمّد رشيد رضا في الوحي المحمّديّ: ( إنّ أحاديث الأحكام الاُصول خمسمائة حديث تمدّها أربعة آلاف فيما أذكر )(١) .

وقال أيضاً في موضع آخر: ( يقولون: إنّ مصدر القوانين الاُمّة، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنّة كما قرره الإمام الرازيّ، والمنصوص قليل جداً )(٢) .

هذه هي كلّ الأحاديث المنقولة عن طرق أهل السنّة، وهي تتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله غالباً، بينما نعلم أنّ ما حدث ووقع بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أكثر بكثير ممّا حدث في حياته الشريفة.

ثمّ لما كانت أكثر الأحاديث ردّاً على الأسئلة التي يطرحها الصحابة، وتدور حول ما كان يحدث لهم، لذلك لم يسألوا عمّا لم يحدث ولم يقع بعد.

وقد كان هذا عاملاً مهمّاً من عوامل قلّة الحديث النبويّ في الأحكام.

هذا مضافاً إلى، أنّ السبب الآخر لقلّة الحديث النبويّ، هو ضياع طائفة كبيرة منه، لعدم اعتناء الأوائل بتدوين السنّة وهو الأمر الذي استوجب وقوع الخلاف والاختلاف حتى في أبسط المسائل، وأكثرها ابتلاء، مثل الاختلاف في عدد التكبيرات في صلاة الموتى، وهو أمر كما نعلم ممّا يبتلى به المجتمع كثيراً، ولو كان هناك شيء مكتوب لما وقع الاختلاف والحيرة.

فإذا بطل هذا الشقّ ( أي استيعاب الاُمّة جميع ما يحتاجون إليه وتكميل الدين من هذا الطريق ) تعيّن الشقّ الآخر لتفسير تكميل الدين، وهو أنّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أودع كل ما تحتاج إليه الاُمّة من اُصول وفروع لدى فرد أو طائفة خاصّة من الاُمّة، لكي يرجع إليهم المسلمون بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويعالجوا بما يخرجونه إليهم من تلك المعارف والعلوم ،

__________________

(١) الوحي المحمّديّ ( الطبعة السادسة ): ٢١٢.

(٢) تفسير المنار لرشيد رضا ٥: ١٨٩.

١١٣

مشاكلهم في العقيدة والعمل، في اُمور الدين والدنيا.

أجل لابدّ أن يكون في الاُمّة من يرفع هذه الحاجة، أي يكون حاملاً لعلم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن لم يكن له نصيب في النبوّة، إيفاءً لغرض التشريع الإلهيّ ويكون له من الكفاءات والمؤهّلات ما تؤهّله للقيام بمثل هذه العبء الثقيل والأمر الخطير، ويسدّ بالتالي ما أحدثه رحيل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وغيابه من فراغ بل فراغات هائلة وخطيرة.

على أنّ من يتحمّل هذه العلوم لا يمكن أن يتحمّلها عن طريق الأسباب العاديّة والتربية العرفيّة المتعارفة، وإلاّ لتيسّر للجميع أن يتحمّلوها ثمّ إنّ التعلّم والتربية على هذا النمط، أقصر من أن ينتج شخصيّةً متفوّقةً علميّةً كفوءةً للقيام مقام النبيّ في علمه وسياسته ودرايته وكياسته، وتدبيره وإدارته وجميع مؤهّلاته ( ما عدا النبوّة وتلقّي الوحي الإلهيّ السماوي ) ويفي بغرض التشريع ويسدّ الفراغ الحاصل بوفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

بل لابدّ أن يكون تعلّمه وأخذه لتلك المعارف والعلوم الجمّة من طرق غير متعارفة وتربية تفوق نوعاً وكيفاً ما تعارف من التربية والتعليم.

ثمّ إنّ التعرف على مثل هذا الشخص أمر متعذّر على الاُمّة لدقّة المواصفات وخفاء المؤهّلات فلابدّ أن يكون التعريف من جانب الله المحيط بجمبع عباده، العارف بأسرارهم وسرائرهم، العالم بنفوسهم ونفسياتهم، وذلك بالتنصيص عليه بالاسم والشخص.

وبعبارة اُخرى: إنّ هناك أمرين يتطلّبان أن يكون القائم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله متعيّناً بتنصيص من الله سبحانه :

الأوّل: أنّه يجب أن يكون القائم مقامه قادراً على تبيين ما لم يبيّنه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لكافّة المسلمين وعامّتهم، لأسباب خاصّة وقفت عليها في هذا المقام وهذه المقدرة لا تحصل في فرد أو طائفة، إلّا بتربية إلهيّة خاصّة، وتعليم خارج عن نطاق التعليم المألوف، ولولا هذه العناية الخاصّة لما قدر القائم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على سدّ الفراغ الحاصل من وفاته.

١١٤

الثاني: أنّ التعرف على هذا الشخص لا يتحقق بالاختبار والتجربة، أو أنّه يصعب معرفته بهذا الطريق.

وعلى هذين الأمرين، يجب أن يكون القائم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذا تربية إلهيّة أوّلاً، ومعرّفاً من جانبه سبحانه ثانياً وهذا يعيّن لون الحكومة وشكلها بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ ما ذكرناه، عن عدم إحاطة الاُمّة ومعرفتها بكلّ معالم الشريعة الإسلاميّة وأحكامها ومعارفها على النحو الذي يعينها على حلّ مشاكلها المستحدثة، لم يكن مجرّد ادّعاء خال من الدليل، فلنا أن نستدل على ذلك بوجهين :

الأوّل: اعتراف ثلّة من الصحابة بعدم وجود الحلول في الكتاب أو السنّة لبعض المسائل.

الثاني: ذكر بعض الموارد التي لم يردفيها نصٌّ اسلاميٌّ صريح، ممّا جعل المسلمين أن يأخذوا فيها بظنونهم، أو أن يأخذوا بمقاييس ومعايير لم يرد على صحّتها دليل.

وإليك أمثلة من الوجهين :

أوّلاً: اعتراف الصحابة بالقصور

أ ـ عن ميمون بن مهران قال: ( كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول الله في ذلك الأمر سنّة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين فقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قضى في ذلك بقضاء ؟ فربّما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه قضايا، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا علم نبيّنا. فإن أعياه أن يجد فيه سنّةً عن رسول الله، جمع رؤوس الناس وخيارهم فأستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به )(١) .

إنّ هذا اعتراف صريح من الخليفة والصحابيّ، بأنّ الكتاب والسنّة النبويّة

__________________

(١) دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٢١٢ ( مادة جهد ).

١١٥

ـ عندهم ـ كانا غير وافيين بالحاجات الفقهيّة، ولهذا كان يعمد إلى الأخذ بالرأي والمقاييس المصطنعة لاستنباط حكم الموضوع.

ب ـ عندما نصب عمر بن الخطاب شريحاً قاضياً للكوفة، قال له فيما قال: ( ان جاءك شيء من كتاب الله، فاقض به ولا يلفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، فانظر سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم تكن في سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول الله، ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أي الأمرين شئت إن شئت أن تجتهد برأيك لتقدّم فتقدّم، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر، ولا أرى التأخّر إلّا خيراً لك )(١) .

في حين نجد الإمام عليّاًعليه‌السلام لـمّا ولّى شريحاً القضاء يشترط عليه أن لا ينفّذ القضاء حتّى يعرضه عليه(٢) .

ج ـ عن عبد الله بن مسعود قال: ( أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك، وإنّ الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عزّ وجلّ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ولم يقض به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فليقض فيه بما قضى به الصالحون، ولا يقل إنّي أخاف وإني أرى )(٣) .

وزاد مؤلف كتاب « تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة » :

فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيّه ولم يقض به الصالحون، فليجتهد برأيه فإن لم يحسن فليقم ولا يستحيي(٤) .

__________________

(١) دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٢١٢ ( مادة جهد ).

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ٦ كتاب القضاء ( أبواب صفات القاضي، الباب الثالث ).

(٣) دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٢١٢ ـ ٢١٣ ( مادة جهد ).

(٤) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة: ١٧٧، على ما نقله مؤلّف: الإمامة في التشريع الإسلاميّ.

١١٦

د ـ كان ابن عباس إذا سئل عن أمر: فإن كان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر به، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال فيه رأيه(١) .

إنّ هذه العبارات وما يشابهها من الاعترافات، تستطيع أن تكشف عن مدى قصور الصحابة في أخذ التعاليم والأحكام الإسلاميّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فهي تكشف ـ بوضوح ـ عن أنّ الصحابة كانوا يواجهون وقائع وحوادث جديدةً لا يجدون لها حلولاً في الكتاب الكريم أو في ما تلقّوه من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولذلك كانوا يحاولون استنباط حلول لها من غير الكتاب والسنّة.

* * *

ثانياً: بعض ما لا نص فيه من المسائل

إنّ الوجه الثاني الذي يدل على عدم استيعاب الاُمّة لكل أبعاد الشريعة وتفاصيلها، هو الموارد التي لم يرد فيها نصٌّ صريحٌ، فعمد الصحابة إلى الأخذ بالرأي والقياس، التماساً للحلول والأحكام المناسبة.

ولذلك أضطرّ الصحابة منذ الأيام الاولى من وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى إعمال الرأي والاجتهاد في المسائل المستحدثة، وليس اللجوء إلى الاجتهاد بمختلف أشكاله إلّا تعبيراً واضحاً عن عدم استيعاب الكتاب والسنّة النبويّة ـ عندهم ـ للوقائع المستحدثة بالحكم والتشريع.

غير أنّ الاجتهاد في هذا العصر وما بعده، لم يكن مقصوراً على الاجتهاد المألوف بين الشيعة الإماميّة من ردّ الفروع إلى الاُصول، وتطبيق الكليات على المصاديق والجزئيات، بل كان يعبّر عن لون آخر أشبه بإبداء الرأي من عند الشخص بلا دليل وحجّة قاطعة فيما بينه وبين الله.

__________________

(١) دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٢١٣ ( مادة جهد ).

١١٧

فقد أحدثوا مقاييس للرأي، واصطنعوا معايير جديدة للاستنباط لم يكن منها أثر في الشرع، وكان القياس أوّل هذه المقاييس، ومن هذه المعايير: المصالح المرسلة، وسدّ الذرائع والاستحسان، إلى غيرها من القوانين التي اضطرّ الفقهاء إلى اصطناعها عندما طرأت على المجتمع الإسلاميّ ألوان جديدة من الحياة لم يألفوها، وتشعّبت بهم مذاهبها، ولم يجد الفقهاء بدّاً من الالتجاء إلى إعمال الرأي في مثل هذه المسائل، وللبحث حول هذه المعايير المصطنعة مقام ومجال آخر فيطلب منه.

وإليك فيما يلي بعض هذه الموارد، وهي غيض من فيض، وقليل من كثير :

(أ): فيمَنْ شرب خمراً

رفع رجل إلى أبي بكر وقد شرب الخمر، فأراد أنّ يقيم عليه الحدّ، فقال: إنّي شربتها ولا علم لي بتحريمها، لأنّي نشأت بين قوم يستحلّونها، ولم أعلم بتحريمها حتى الآن فتحيّر أبو بكر في حكمه فأرسل إلى أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فقال :

« مرّ رجلين ثقتين من المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار يناشدانهم هل فيهم أحد تلى عليه آية التحريم، أو أخبره بذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن شهد بذلك رجلان فأقم عليه الحدّ، وإنّ لم يشهد أحد بذلك، فاستتبه وخلّ سبيله ».

ففعل أبو بكر ذلك فلم يشهد أحد فاستتابه وخلاّ سبيله(١) .

(ب): ما الكَلاَلَة ؟!

سئل أبو بكر عن الكلالة في قوله تعالى( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) ( النساء: ١٧٦ ). فقال: إنّي سأقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن الله وإن يك خطأً فمنّي ومن الشيطان والله

__________________

(١) الإرشاد للمفيد: ١٠٦، مناقب ابن شهر آشوب: ٤٨٩

١١٨

ورسوله بريئان منه، أراه ما خلا الولد والوالد، فلمّا استخلف عمر قال: إنّي لأستحيي الله أن أردّ شيئاً قاله أبو بكر(١) .

وهكذا نرى من يتصدر مقام الزعامة والقيادة في المجتمع الإسلاميّ، يجهل حكماً إسلامياً ويعمد إلى رأيه الشخصيّ، والأخذ بظنه.

(ج): أمرأةٌ ولدت لستّة أشهر

رفعت إلى عمر بن الخطاب إمرأة ولدت لستة أشهر فهمّ برجمها، فبلغ ذلك عليّاً فقال: « ليس عليها رجم » فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه فسأله فقال: « قال الله تعالى:( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) ( البقرة: ٢٣٣ ) وقال:( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) ( الأحقاف: ١٥ ) فستّة أشهر حمله وحولان رضاعه فذلك ثلاثون شهراً »، فخلاّ عنها(٢) .

ولا يمكن القول بأنّ حكم هذه المسألة قد جاء في صريح الكتاب، لأنّ معنى وروده في الكتاب العزيز هو أن يكون مفهوماً لأغلبية الصحابة، ومعلوماً لهم، وخاصّةً لمن يتصدر مقام الزعامة، ولكن الواقعة بمجموعها تثبت بأن استخراجه وفهمه لم يكن مقدوراً إلّا للإمام.

(د): مسألة العوْل

لقد شغلت هذه المسألة بال الصحابة فترةً من الزمن وكانت من المسائل المستجدّة بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله التي واجهت جهاز الحكم.

__________________

(١) سنن الدارمي ٢: ٣٦٥، تفسير الطبري ٦: ٣٠، الجامع الكبير للسيوطي ٦: ٢٠، تفسير ابن كثير ١: ٢٦٠.

(٢) السنن الكبرى ٧: ٤٤٢، مختصر جامع العلم: ١٥٠، تفسير الرازي ٧: ٤٨٤، الدرّ المنثور ١: ٢٨٨، ذخائر العقبى: ٨٢.

١١٩

ويعنى من العول ؛ أن تقصر التركة عن سهام ذوي الفروض، ولا تقصر إلّا بدخول الزوج أو الزوجة في الورثة، ومثال ذلك، ما إذا ترك الميت زوجةً وأبوين وبنتين. ولـمّا كان سهم الزوجة ـ حسب فرض القرآن ـ الثمن، وفرض الأبوين الثلث، وفرض البنتين الثلثين، فإنّ التركة لا تسع للثمن والثلث والثلثين، أو إذا ماتت امرأة وتركت زوجاً وأختين للأب، فلمّا كان فرض الزوج النصف، وفرض الأختين الثلثين، زادت السهام عن التركة، فهنا ـ عندما ـ يجب إدخال النقص على من له فريضة واحدة في القرآن، وذلك كالأبوين والبنتين والأختين لاستحالة أن يجعل الله في المال ثمناً وثلثاً وثلثين، أو نصفاً وثلثين وإلاّ كان جاهلاً أو عابثاً تعالى عن ذلك.

ولكن هذه المسألة لـمّا طرحت على عمر بن الخطاب تحيّر، فأدخل النقص على الجميع استحساناً وهو يقول: ( والله ما أدري أيكم قدّم الله، ولا أيّكم أخّر، ما أجد شيئاً هو أوسع لي من أن أقسم المال عليكم بالحصص وادخل على ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة )(١) .

( ه‍ ): الطلاق في الجاهليّة والإسلام

سئل عمر بن الخطاب عن رجل طلّق امرأته في الجاهلية تطليقتين وفي الإسلام تطليقةً فقال: ( لا آمرك ولا أنهاك ).

فقال عبد الرحمان بن عمر: ( لكنّي آمرك، ليس طلاقك في الشرك بشيء )(٢) .

(و): معنى الأبّ

بينا عمر جالس في أصحابه إذ تلا هذه الآية( فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا *وَعِنَبًا وَقَضْبًا *

__________________

(١) أحكام القرآن للجصّاص ٢: ١٠٩، مستدرك الحاكم ٤: ٣٤٠ وصحّحه.

(٢) كنز العمال ٥: ١٦١.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

شئ قدير ، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم(1)

ه ـ ويستحب ان يقول ما رواه سفيان الثوري عن مولانا الصادقجعفر بن محمدعليهما‌السلام ، قال : سمعته وهو بعرفة يقول :

اللهم اجعل خطواتي هذه التي خطوتها في طاعتك كفارة لماخطوتها في معصيتك ، اللهم انك امرتنا ان نعفو عمن ظلمنا وقد ظلمناأنفسنا فاعف عنا.

اللهم انك قلت : استعينوا على كل صنعة بصالحي أهلها ، اللهم فاناصنعك فاصنع في خيرا.

اللهم اجعلنا نبات نعمتك ولا تجعلنا حصاد نقمتك ، اللهم هذهليلة عيد ولك فيها أضياف وانا ضيفك فاجعل قراي الجنة واطعمنيعنبا ورطبا.

قال سفيان : فوالله لقد هممت ان انزل واشتري له تمرا وموزا ،وأقول له : هذا عوض العنب والرطب ، فإذا انا بسلتين معاطيتين قدوضعتا بين يديه ، إحداها رطب والأخرى عنب ـ تمام الخبر.

__________________

(1) الصحيفة السجادية : الدعاء 46 ، عنها الكفعمي في مصباحه : 433 ، البلد الأمين : 490.

أورده الشيخ في مصباحه : 258 ، رواه السيد في جمال الأسبوع : 423 ، وقال : ما رويناه بعدةطرق ، ورواه أبو الحسين محمد بن هارون التلعكبري.

٤٦١

و ـ زيارة أبي عبد اللهعليه‌السلام في يوم عرفة

ومن لم يمكنه حضور الموقف للحج وقدر على اتيان قبر الحسينعليه‌السلام يوم عرفة فليحضر ، فان في ذلك فضلا كبيرا ، وقد ذكرنا فيما سلفمن هذا الكتاب ، فينبغي ان تغتسل من الفرات ان أمكنك والا فمن حيثتقدر عليه وتمشي على سكينة ووقار ، فإذا بلغت باب الحائر فكبر اللهتعالى وقل :

الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ،والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقدجاءت رسل ربنا بالحق.

ثم تسلم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى أمير المؤمنين وعلى الأئمةعليهم‌السلام من بعده ، ثم تقول :

السلام عليك يا أبا عبد الله ، عبدك وابن عبدك ، وابن أمتك ،الموالي لوليك ، المعادي لعدوك ، استجار بمشهدك ، وتقرب إليكبقصدك ، والحمد لله الذي هداني لولايتك ، وخصني بزيارتك ، وسهللي قصدك.

ثم تأتي باب القبة فتقف مما يلي الرأس وتقول :

السلام عليك يا وارث ادم صفوة الله ، السلام عليك يا وارث نوحنبي الله ، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله ، السلام عليك يا

٤٦٢

وارث موسى كليم الله ، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله.

السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله ، السلام عليك يا وارثأمير المؤمنين حجة الله ، السلام عليك يا بن محمد المصطفى ، السلامعليك يا بن علي المرتضى ، السلام عليك يا بن فاطمة الزهراء ، السلامعليك يا بن خديجة الكبرى.

السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره والوتر الموتور ، اشهد انك قدأقمت الصلاة ، واتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ،وأطعت الله حتى اتاك اليقين.

لعن الله أمة قتلتك ، ولعن الله أمة ظلمتك ، ولعن الله أمة سمعتبذلك فرضيت به ، يا مولاي يا أبا عبد الله ، اشهد الله وملائكته وأنبياءهورسله اني بكم مؤمن ، وبإيابكم موقن ، بشرائع ديني وخواتيم عملي ،فصلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وعلى أجسادكم ، وعلى شاهدكموغائبكم ، وظاهركم وباطنكم.

ثم انكب على القبر وقبله وقل :

بابي أنت وأمي يا أبا عبد الله ، لقد عظمت الرزية وجلت المصيبةبك علينا وعلى جميع أهل السماوات والأرض ، فلعن الله أمة أسرجتوألجمت وتهيأت لقتالك ، يا مولاي يا أبا عبد الله قصدت حرمكواتيت مشهدك ، اسأل الله بالثار الذي لك عنده ، والمحل الذي لك لديهان تصلي على محمد وال محمد وان يجعلني معكم في الدنيا والآخرة.

٤٦٣

ثم تصلى عند الرأس ، تقرأ فيها ما أحببت ، فإذا فرغت فقل :

اللهم إني صليت وركعت وسجدت لك ، وحدك لا شريك لك ،لان الصلاة والركوع والسجود لا تكون الا لك ، لأنك أنت الله لا إله إلا أنت، اللهم صل على محمد وال محمد وأبلغهم عني أفضل السلاموالتحية ، واردد علي منهم.

ثم صر إلى عند رجلي الحسين وزر علي بن الحسينعليهما‌السلام ورأسهعند رجلي أبي عبد اللهعليه‌السلام ، وقل :

السلام عليك يا بن رسول الله ، السلام عليك يا بن نبي الله ، السلامعليك يا بن أمير المؤمنين ، السلام عليك يا بن الحسين الشهيد ، السلامعليك أيها الشهيد ابن الشهيد ، السلام عليك أيها المظلوم وابنالمظلوم ، لعن الله أمة قتلتك ، ولعن الله أمة ظلمتك ، ولعن الله أمةسمعت بذلك فرضيت به.

ثم انكب على القبر وقبله وقل :

السلام عليك يا ولي الله وابن وليه ، لقد عظمت المصيبة وجلتالرزية بك علينا وعلى جميع المسلمين ، فلعن الله أمة قتلتك ، وابرأإلى الله واليك منهم.

ثم اخرج من الباب الذي عند رجل علي بن الحسينعليهما‌السلام فتوجههناك إلى الشهداء وزرهم وقل :

السلام عليكم يا أولياء الله وأحباءه ، السلام عليكم يا أصفياء الله

٤٦٤

وأوداءه ، السلام عليكم يا أنصار دين الله وأنصار نبيه وأنصارأمير المؤمنين والحسن والحسينعليهم‌السلام ، بابي أنتم وأمي طبتموطابت الأرض التي فيها دفنتم وفزتم فوزا عظيما ، فيا ليتني كنت معكمفأفوز معكم.

ثم عد إلى عند رأس الحسينعليه‌السلام وأكثر من الدعاء لنفسكولأهلك وإخوانك المؤمنين ، فإذا أردت الخروج فانكب على القبر وقل :

السلام عليك يا مولاي ، السلام عليك يا حجة الله ، السلام عليكيا صفوة الله ، السلام عليك يا خالصة الله ، السلام عليك يا امين الله ،سلام مودع لا قال ولا سئم ، فان امضي فلا عن ملالة ، وان أقم فلا عنسوء ظن بما وعد الله الصابرين.

لا جعله الله يا مولاي اخر العهد لزيارتك ، ورزقني العود إلىمشهدك ، والمقام في حرمك ، وان يجعلني معكم في الدنيا والآخرة.

ثم اخرج ولا تول ظهرك ، وأكثر من قول :

انا لله وانا إليه راجعون.

ثم امض إلى مشهد العباس بن عليعليهما‌السلام ، فإذا اتيته فقف عليهوقل :

السلام عليك أيها العبد الصالح ، المطيع لله ولرسولهولأمير المؤمنين والحسن والحسين ، وعليك السلام ورحمة اللهوبركاته ومغفرته على روحك وبدنك.

٤٦٥

اشهد الله انك مضيت على ما مضى البدريون والمجاهدون فيسبيل الله ، المناصحون في جهاد الأعداء ، المبالغون في نصرة أوليائه.

فجزاك الله أفضل الجزاء ، وأوفر جزاء أحد ممن وفى ببيعته ،واستجاب له دعوته ، وحشرك مع النبيين والشهداء والصديقينوالصالحين وحسن أولئك رفيقا.

ثم صل ركعتين عند الرأس وادع الله بعدهما بما أحببت ، فإذاأردت الخروج فودعه وقل :

استودعك الله واسترعيك ، واقرأ عليك السلام ، امنا باللهوبرسوله وبما جاء به من عند الله ، اللهم اكتبنا مع الشاهدين ، اللهملا تجعله اخر العهد من زيارة قبر وليك وابن أخي نبيك ، وارزقني زيارتهابدا ما أبقيتني ، واحشرني معه ومع ابائه في الجنان.

وادع لنفسك ولوالديك ولاخوانك المؤمنين.

ثم ارجع إلى مشهد الحسينعليه‌السلام للوداع ، فإذا أردت وداعه تقفكوقوفك عليه أول مرة وقل :

السلام عليك يا ولي الله ، السلام عليك يا أبا عبد الله ، أنت لي جنةمن العذاب ، وهذا أوان انصرافي ، غير راغب عنك ، ولا مستبدل بكسواك ، ولا مؤثر عليك غيرك ، ولا زاهد في قربك.

اسأل الله تعالى أن لا يجعله اخر العهد مني ومن رجوعي ، أسألالله الذي أراني مكانك ، وهداني للتسليم عليك ، ولزيارتي إياك ، ان

٤٦٦

يوردني حوضكم ويرزقني مرافقتكم في الجنان مع ابائك الصالحين

ثم سلم على النبي والأئمةعليهم‌السلام واحدا واحدا وانصرف ان شئتوتدعو بما أحببت.

وداع الشهداء رضوان الله عليهم :

ثم حول وجهك إلى قبور الشهداء فودعهم وقل :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، اللهم لا تجعله اخر العهد منزيارتي إياهم ، واشركني معهم في صالح ما أعطيتهم على نصرهم ابننبيك وحجتك على خلقك ، اللهم اجعلنا وإياهم في جنتك معالشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

استودعكم الله واقرأ عليكم السلام ، اللهم ارزقني العود إليهمواحشرني معهم يا ارحم الراحمين.

ثم اخرج ولا تول وجهك عن القبر حتى تغيب عن معاينتك ، وقفعلى الباب متوجها إلى القبلة وادع بما أحببت وانصرف إن شاء اللهتعالى(1) .

ز ـ دعاء يوم الأضحى لعلي بن الحسينعليهما‌السلام :

اللهم هذا يوم مبارك ، والمسلمون فيه مجتمعون في أقطار

__________________

(1) رواه السيد في مصباح الزائر : 114 ، والشهيد في مزاره ، عنهما البحار 101 : 363.

٤٦٧

ارضك ، يشهد السائل منهم ، والطالب والراغب ، وأنت الناظر فيحوائجهم ، فاسالك بجودك وكرمك ، وهوان(1) ما سألتك عليك ان تصليعلى محمد وال محمد.

وأسألك اللهم ربنا بان لك الملك ولك الحمد لا إله إلا أنتالحليم الكريم ، الحنان المنان ، ذو الجلال والاكرام ، بديع السماواتوالأرض ، مهما قسمت بين عبادك من خير أو عافية ، أو بركة أو هدى ، أوعمل بطاعتك ، أو خير تمن به عليهم وتهديهم به إليك ، أو ترفع لهمدرجة ، أو تعطيهم به خيرا من خير الدنيا والآخرة ، ان توفر حظيونصيبي منه.

وأسألك يا الله بان لك الملك والحمد لا إله إلا أنت ان تصلي علىمحمد ، عبدك ورسولك ، وحبيبك وصفيك ، وخيرتك من خلقك ،وعلى ال محمد الأبرار الكرام الطيبين الطاهرين الأخيار ، صلاة لا يقوىعلى احصائها الا أنت ، وان تشركنا في صالح من دعاك في هذا اليوم منعبادك المؤمنين يا رب العالمين ، وان تغفر لنا ولهم انك على كل شئقدير.

اللهم إليك تعمدت بحاجتي ، وبك أنزلت اليوم فقري وفاقتيومسكنتي ، وانا بمغفرتك ورحمتك أوثق مني بعملي ، ولمغفرتكورحمتك أوسع من ذنوبي ، فصل على محمد واله وتول قضاء كل

__________________

(1) هوان : سهولة.

٤٦٨

حاجة هي لي بقدرتك عليها ، وتيسير ذلك عليك ، وفقري إليك وغناكعني ، فاني لم أصب خيرا قط الا منك ، ولم يصرف عني سوءا قط غيرك ،ولا أرجو لأمر اخرتي ودنياي سواك.

اللهم من تهيا وتعبا واعد واستعد لوفادة إلى مخلوق رجاء رفدهوطلب نيله وجائزته ، فإليك كانت يا مولاي اليوم تهيئتي واعداديواستعدادي رجاء عفوك ورفدك ، وطلب نيلك وجائزتك.

اللهم فصل على محمد وال محمد ، ولا تخيب اليوم ذلك منرجائي ، يا من لا يحفيه(1) سائل ، ولا ينقصه نائل ، فاني لم آتك ثقة منيبعمل صالح قدمته ، ولا شفاعة مخلوق رجوته ، الا شفاعة محمد وأهل بيتهصلواتك عليه وعليهم سلامك ، اتيتك مقرا بالجرم والإساءة علىنفسي ، اتيتك أرجو عظيم عفوك الذي عفوت به عن الخاطئين ، ثملم يمنعك طول عكوفهم(2) على عظيم الجرم ان عدت عليهم بالرحمةوالمغفرة.

فيا من رحمته واسعة وعفوه عظيم ، يا عظيم يا عظيم ، يا كريم ياكريم ، صل على محمد وال محمد ، وعد علي برحمتك ، وتعطف عليبفضلك ، وتوسع علي بمغفرتك.

اللهم ان هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع امنائك في

__________________

(1) لا يحفيه : لا يمنعه.

(2) عكوفهم : ملازمتهم واستمرارهم.

٤٦٩

الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها(1) وأنت المقدر لذلكلا يغالب امرك ، ولا يجاوز المحتوم من تدبيرك ، كيف شئت وانى شئت ،ولما أنت اعلم به غير متهم على خلقك ولا لإرادتك ، حتى عاد صفوتكوخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين ، يرون حكمك مبدلا ، وكتابكمنبوذا(2) ، وفرائضك محرفة عن جهات اشراعك وسنن نبيك متروكة ،اللهم العن أعداءهم من الأولين والآخرين ، ومن رضي بفعالهموأشياعهم واتباعهم.

اللهم وصل على محمد وال محمد أفضل صلواتك وبركاتكوتحياتك على أصفيائك إبراهيم وال إبراهيم ، انك حميد مجيد ، وعجلالفرج والروح(3) والنصرة والتمكين والتأييد لهم.

اللهم واجعلني من أهل التوحيد والايمان بك ، والتصديقبرسولك والأئمة الذين حتمت(4) طاعتهم ممن يجري ذلك به وعلىيديه امين رب العالمين.

اللهم انه لا يرد غضبك الا حلمك ، ولا يرد سخطك الا عفوك ،ولا يجير من عقابك الا رحمتك ، ولا ينجي منك الا التضرع إليك ، وبينيديك ، فصل على محمد وال محمد ، وهب لنا يا الهي من لدنك فرجا

__________________

(1) ابتزوها : سلبوها.

(2) منبوذا : متروكا.

(3) الروح : الرحمة والراحة.

(4) حتمت : أوجبت.

٤٧٠

بالقدرة التي تحيي بها أموات العباد ، وتنشر(1) بها ميت البلاد ، ولا تهلكنييا الهي غما حتى تستجيب لي ، وتعرفني الإجابة في دعائي ، وأذقنيطعم العافية إلى منتهى اجلي ، ولا تشمت بي عدوي ، ولا تمكنه منعنقي ، ولا تسلطه علي.

الهي ان رفعتني فمن ذا الذي يضعني ، وان وضعتني فمن ذا الذييرفعني ، وان أكرمتني فمن ذا الذي يهينني ، وان أهنتني فمن ذا الذييكرمني ، وان عذبتني فمن ذا الذي يرحمني ، وان أهلكتني فمن ذا الذييعرض لك في عبدك ، أو يسألك عن امره.

وقد علمت أنه ليس في حكمك ظلم ، ولا في نقمتك عجلة ، إنمايعجل من يخاف الفوت ، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف ، وقد تعاليتعن ذلك يا الهي علوا كبيرا.

اللهم صل على محمد واله ، ولا تجعلني للبلاء غرضا(2) ،ولا لنقمتك نصبا(3) ، ومهلني ونفسني(4) ، وأقلني عثرتي ، ولا تبتلينيببلاء على اثر بلاء ، فقد ترى ضعفي ، وقلة حيلتي وتضرعي إليك.

أعوذ بك يا الهي اليوم من غضبك ، فصل على محمد والهوأعذني ، واستجير بك اليوم من سخطك فصل على محمد واله

__________________

(1) تنشر : تحيي.

(2) غرضا : هدفا.

(3) نصبا : علما منصوبا ، غرضا.

(4) نفست : رفهت وفرجت.

٤٧١

واجرني ، واسالك امنا من عذابك فصل على محمد واله وامنيوأستهديك فصل على محمد واله واهدني.

وأسترحمك فصل على محمد واله وارحمني ، واستنصرك فصلعلى محمد واله وانصرني ، وأستكفيك فصل على محمد واله واكفني ،واسترزقك فصل على محمد واله وارزقني ، واستعينك فصل علىمحمد واله واعني ، واستغفرك لما سلف من ذنوبي فصل على محمدواله واغفر لي ، وأستعصمك فصل على محمد واله واعصمني ، فانيلن أعود لشئ كرهته مني ان شئت ذلك يا رب يا رب.

يا حنان يا منان ، يا ذا الجلال والاكرام ، فصل على محمد والهواستجب لي جميع ما سألتك وطلبت إليك ورغبت فيه إليك ، واردهوقدره ، واقضه وامضه ، وخر لي(1) فيما تقضي منه ، وبارك لي في ذلك ،وتفضل علي به ، واسعدني بما تعطيني منه ، وزدني من فضلك وسعة ماعندك ، فإنك واسع كريم ، وصل ذلك بخير الآخرة ونعيمها يا ارحمالراحمين.

ثم تدعو بما بدا لك وصل على محمد واله الف مرة ، وهكذا كانيفعلعليه‌السلام (2) .

__________________

(1) خر لي : اجعل لي الخير.

(2) الصحيفة السجادية : الدعاء 48 ، عنها الشيخ في مصباحه : 260 ، والسيد في جمالالأسبوع : 427 ، والكفعمي في مصباحه : 434 ، وفي البلد الأمين : 492 ، والبحار 89 : 218 ،ينابيع المودة : 507 مختصرا.

٤٧٢

6 ـ زيارة أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام في يوم عاشوراء

أخبرنا الشيخ الفقيه العالم عماد الدين محمد بن أبي القاسم الطبريقراءة عليه وانا اسمع في شهور سنة ثلاث وخمسين وخمسمائةبمشهد مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، عن الشيخ المفيد أبي علىالحسن بن محمد ، عن والده الشيخ أبي جعفررضي‌الله‌عنه ، عن الشيخالمفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان ، عن ابن قولويهوأبي جعفر بن بابويه ، عن محمد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن إبراهيم ،عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الله بن سنان ، قال :

دخلت على سيدي أبي عبد الله جعفر بن محمدعليهما‌السلام في يومعاشوراء ، فألفيته كاسف اللون(1) ، ظاهر الحزن ، ودموعه تنحدر من عينيهكاللؤلؤ المتساقط ، فقلت : يا ابن رسول الله مم بكاؤك لا أبكى الله عينيك ،فقال لي : أو في غفلة أنت ، أما علمت أن الحسين بن عليعليه‌السلام قتل(2) فيمثل هذا اليوم.

فقلت : يا سيدي فما قولك في صومه ، فقال لي : صمه من غيرتبييت ، وأفطر من غير تشميت(3) ، ولا تجعله صوم يوم كملا ، وليكن

__________________

(1) عن الجوهري : رجل كاسف البال سئ الحال ، وكاسف الوجه عابس.

(2) أصيب ( خ ل ).

(3) من غير تبييت اي من غير أن تبيت نية الصوم من الليل ، وأفطر لا على وجه الشماتة والفرح بل لمخالفة من يصومه تبركا.

٤٧٣

افطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء ، فإنه في مثل ذلكالوقت من ذلك اليوم تجلت الهيجاء عن آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانكشفتالملحمة عنهم ، ومنهم في الأرض ثلاثون صريعا في مواليهم ، يعز علىرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مصرعهم ، ولو كان في الدنيا يومئذ حيا لكانصلى‌الله‌عليه‌وآله هوالمعزى بهم.

قال : وبكى أبو عبد اللهعليه‌السلام حتى اخضلت(1) لحيته بدموعه ، ثم قال :

ان الله جل ذكره لما خلق النور خلقه يوم الجمعة في تقديره فيأول يوم من شهر رمضان ، وخلق الظلمة في يوم الأربعاء يوم عاشوراء فيمثل ذلك ـ يعني يوم العاشر من شهر المحرم ـ في تقديره ، وجعل لكلمنهما شرعة ومنهاجا ، يا عبد الله بن سنان ان أفضل ما تأتي به في هذااليوم ان تعمد إلى ثياب طاهرة فتلبسها وتتسلب ، قلت : وما التسلب؟

قال : تحلل ازارك وتكشف عن ذراعيك كهيئة أصحاب المصائب ،ثم تخرج إلى ارض مقفرة(2) ، أو مكان لا يراك به أحد ، أو تعمد إلى منزلخال ، أو في خلوة منذ حين يرتفع النهار ، فتصلي أربع ركعات تحسنركوعهن وسجودهن ، وتسلم بين كل ركعتين ، تقرأ في الركعة الأولىسورة الحمد ، و( قل يا أيها الكافرون ) ، وفي الثانية الحمد ، و( قل هو اللهأحد ) ، ثم تصلي ركعتين أخريين ، تقرأ في الأولى الحمد وسورة

__________________

(1) اخضلت من باب الافعال والافعلال اي ابتلت.

(2) مقفرة : خالية.

٤٧٤

الأحزاب ، وفي الثانية الحمد و( إذا جاءك المنافقون ) أو ما تيسر منالقرآن.

ثم تسلم وتحول وجهك نحو قبر الحسينعليه‌السلام ومضجعه ، فتمثللنفسك مصرعه ومن كان معه ، وتلعن قاتليه وتبرأ من أفعالهم ، يرفع اللهعزوجل لك بذلك في الجنة من الدرجات ويحط عنك من السيئات.

ثم تسعى من الموضع الذي أنت فيه إن كان صحراء أو فضاء أو ايشئ كان خطوات ، تقول :

انا لله وانا إليه راجعون ، رضا بقضائه وتسليما لامره.

وليكن عليك في ذلك الكآبة والحزن ، وأكثر من ذكر الله سبحانهوالاسترجاع في ذلك اليوم ، فإذا فرغت من سعيك وفعلك هذا ، فقف فيموضعك الذي صليت فيه ، ثم قل :

اللهم عذب الفجرة ، الذين شاقوا رسولك ، وحاربوا أولياءك ،وعبدوا غيرك ، واستحلوا محارمك ، والعن القادة والاتباع ومن كانمنهم محبا ومن أوضع معهم ، أو رضي بفعلهم لعنا كثيرا.

اللهم وعجل فرج ال محمد واجعل صلواتك عليه وعليهم ،واستنقذهم من أيدي المنافقين المضلين والكفرة الجاحدين ، وافتحلهم فتحا يسيرا ، وأتح(1) لهم روحا وفرجا قريبا ، واجعل لهم من لدنكسلطانا نصيراً.

__________________

(1) أتاح الله لفلان : قدره وانزله به.

٤٧٥

ثم ارفع يديك واقنت بهذا الدعاء ، وقل وأنت تومئ إلى أعداء آلمحمدعليهم‌السلام :

اللهم ان كثيرا من الأمة ناصبت المستحفظين من الأئمة ، وكفرتبالكلمة ، وعكفت على القادة الظلمة ، وهجرت الكتاب والسنة ،وعدلت عن الحبلين الذين أمرت بطاعتهما والتمسك بهما ، فأماتتالحق وحادت عن القصد ، ومالأت(1) الأحزاب ، وحرفت الكتاب ،وكفرت بالحق لما جاءها ، وتمسكت بالباطل لما اعترضها ، فضيعتحقك ، وأضلت خلقك ، وقتلت أولاد نبيك وخيرة عبادك وحملةعلمك ، وورثة حكمتك ووحيك.

اللهم فزلزل اقدام أعدائك وأعداء رسولك وأهل بيت رسولك ،فاخرب ديارهم ، وافلل سلاحهم ، وخالف بين كلمتهم ، وفت فيأعضادهم(2) ، وأوهن كيدهم ، واضربهم بسيفك القاطع ، وارمهم بحجركالدامغ(3) ، وطمهم بالبلاء طما(4) ، وقمهم بالعذاب قما(5) ، وعذبهم عذابانكرا ، وخذهم بالسنين والمثلات التي أهلكت بها أعداءك ، انكذو نقمة من المجرمين.

__________________

(1) مالات : عاونت وساعدت.

(2) الفت : الدق والكسر بالأصابع ، فت في ساعده : أضعفه ، العضد : الناصر والمعين.

(3) دمغه : شجه حتى بلغت الشجة الدماغ.

(4) طمهم بالبلاء : اقلعهم واستأصلهم.

(5) قمهم بالعذاب كناية عن الاستيصال.

٤٧٦

اللهم ان سنتك ضائعة ، وأحكامك معطلة ، وعترة نبيك فيالأرض هائمة(1) ، اللهم فأعز الحق وأهله ، واقمع الباطل وأهله ، ومنعلينا بالنجاة ، واهدنا إلى الايمان ، وعجل فرجنا ، وانظمه بفرجأوليائك ، واجعلهم لنا ردءا ، واجعلنا لهم وفدا.

اللهم وأهلك من جعل يوم قتل ابن نبيك وخيرتك من خلقكعيدا ، واستهل(2) بهم فرحا ومرحا(3) ، وخذ اخرهم بما اخذت أولهم ،واضعف اللهم العذاب والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيك ، وأهلكأشياعهم وقادتهم ، وابر(4) حماتهم وجماعتهم.

اللهم ضاعف صلواتك ورحمتك وبركاتك على عترة نبيك ،العترة الضائعة ، الخائفة المستذلة(5) ، بقية من الشجرة الطيبة ، الزاكيةالمباركة ، واعل اللهم كلمتهم ، وافلج(6) حجتهم ، واكشف البلاءواللأواء(7) ، وحنادس(8) الأباطيل والغماء عنهم ، وثبت قلوب شيعتهموحزبك على طاعتهم وولايتهم ، ونصرتهم وموالاتهم ، وأعنهم

__________________

(1) هائمة : متحيرة.

(2) تهلل وجهه : استنار وظهر عليه امارات السرور.

(3) المرح : الأشر والبطر والاختيال.

(4) الابارة : الاهلاك.

(5) استذله : ذلله واستذله إذا رآه ذليلا.

(6) أفلج برهانه : قومه واظهره.

(7) اللاواء : الشدة.

(8) الحندس : الظلمة والليل المظلم.

٤٧٧

وامنحهم الصبر على الأذى فيك.

واجعل لهم أياما مشهودة ، وأوقاتا مسعودة ، يوشك(1) فيهافرجهم ، وتوجب فيها تمكينهم ونصرهم ، كما ضمنت لأوليائك فيكتابك المنزل ، فإنك قلت وقولك الحق :( وعد الله الذين امنوا منكموعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين منقبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهمامنا ) (2) .

اللهم فاكشف عنهم ، يا من لا يكشف الضر الا هو ، يا أحد يا حي ياقيوم ، وانا يا الهي عبدك الخائف منك ، والراجع إليك ، السائل لك ،المقبل عليك ، اللاجئ إلى فنائك ، العالم بك فإنه لا ملجأ منك الا إليك.

اللهم فتقبل دعائي ، واسمع يا الهي علانيتي ونجواي ، واجعلنيممن رضيت عمله ، وقبلت نسكه ، ونجيته برحمتك ، انك أنت العزيزالحكيم الكريم.

اللهم وصل أولا واخرا على محمد وال محمد ، وبارك علىمحمد وال محمد ، وارحم محمدا وال محمد بأكمل وأفضل ما صليتو باركت وترحمت على أنبيائك ورسلك وملائكتك وحملة عرشكبلا اله الا أنت.

__________________

(1) يوشك : يقرب ويسرع.

(2) النور : 55.

٤٧٨

اللهم لا تفرق بيني وبين محمد وال محمد صلواتك عليهوعليهم ، واجعلني يا الهي من شيعة محمد وعلي وفاطمة والحسنوالحسين وذريتهم الطاهرة والمنتجبة ، وهيئ لي التمسك بحبلهم ،والرضا بسبيلهم ، والاخذ بطريقهم انك جواد كريم.

ثم عفر وجهك على الأرض ، وقل :

يا من يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد ، أنت حكمت فلك الحمدمحمودا مشكورا ، ففرج يا مولاي فرجهم وفرجنا بهم ، فإنك ضمنتاعزازهم بعد الذلة ، وتكثيرهم بعد القلة ، واظهارهم بعد الخمول ، ياأصدق الصادقين ويا ارحم الراحمين.

فاسالك يا الهي وسيدي متضرعا إليك بجودك وكرمك بسطاملي ، والتجاوز عني ، وقبول قليل عملي وكثيره ، والزيادة في أيامي ،وتبليغي ذلك المشهد ، وان تجعلني ممن يدعى فيجيب إلى طاعتهم ،وموالاتهم ونصرهم ، وتريني ذلك قريبا سريعا في عافية ، انك على كلشئ قدير.

ثم ارفع يدك إلى السماء وقل :

أعوذ بك ان أكون من الذين لا يرجون أيامك ، وأعذني برحمتكمن ذلك.

فان هذا أفضل يا ابن سنان من كذا وكذا حجة ، وكذا وكذا عمرةتتطوعها ، وتنفق فيها مالك ، وتتعب فيها بدنك ، وتفارق فيها أهلك وولدك.

٤٧٩

واعلم أن الله تعالى يعطي من صلى هذه الصلاة في هذا اليومودعا بهذا الدعاء مخلصا ، وعمل هذا العمل موقنا مصدقا عشر خصال ،منها : ان يقيه الله ميتة السوء ، ويؤمنه من المكاره والفقر ، ولا يظهر عليهعدوا إلى أن يموت ، ويقيه من الجنون والبرص في نفسه وولده إلى أربعةاعقاب له ، ولا يجعل للشيطان ولا لأوليائه عليه ولا على نسله إلى أربعةاعقاب سبيلا.

قال ابن سنان : فانصرفت وأنا أقول :

الحمد لله الذي من علي بمعرفتكم وحبكم ، واسأله المعونة علىالمفترض علي من طاعتكم بمنه ورحمته(1) .

7 ـ زيارة أخرى لهعليه‌السلام في يوم عاشوراء من قريب أو بعيد ، تقول :

السلام عليك يا أبا عبد الله ، السلام عليك يا بن رسول الله ، السلام

__________________

(1) عنه البحار 101 : 313.

رواه الشيخ في مصباحه : 726 ، باسناده عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام ، عنه البحار101 : 303.

ذكره السيد في مصباح الزائر : 138 ، عنه البحار 101 : 309.

أخرجه السيد في الاقبال 3 : 67 مع اختلافات ، باسناده عن عبد الله بن جعفر الحميري ، عنالحسن بن علي الكوفي ، عن الحسن بن محمد الحضرمي ، عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام ، عنه البحار 101 : 310.

رواه السيد هذه الرواية كما في مصباح المتهجد بعينها في مصباح الزائر ، وأوردها فيالاقبال بوجه آخر بينهما اختلاف كثير.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627