مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227914 / تحميل: 6434
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وطالبوه بالإجابات المقنعة الكافية، وجعلوا ذلك شرطاً لإسلامهم والتصديق به وبرسالته، فأجابهم الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأجوبة كافية شافية مذكورة بتفصيلها في محلّها فأسلموا على أثر ذلك(١) ، والقصة بطولها جديرة بالمطالعة.

وقد بلغت هذه الحملات المعادية للإسلام ذروتها بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وغياب شخصه الكريم عن الساحة فشهد عهد الخلفاء موجات هائلةً من التيارات الإلحادية، والمحاولات التشكيكيّة وطرح التساؤلات العويصة، التي هبّت على المجتمع الإسلاميّ لتزعزع المسلمين عن عقيدتهم، وذلك عندما أخذ يتوافد على المدينة جموع القساوسة والرهبان والأحبار يحملون إلى المسلمين الأسئلة العويصة، والشبهات المريبة.

ولمـّا كان مجرد الاطلاّع على الأحكام والمعارف الإسلاميّة وحدها لا يكفي في مواجهة تلكم الحملات والتيارات، بل ينبغي أن يكون المتصدّي للرد على تلك الشبهات مضطلعاً ومطّلعاً على ما في الأديان والمباديء الاخرى من عيوب ونواقص، وثغرات، لذلك، فإنّ المتصدّرين لمقام الخلافة كانوا يعانون صعوبات جمّةً وعجزاً ذريعاً في الإجابة عليها، أو كانت الردود غير مقنعة ولا كافية.

إنّ التأريخ الإسلاميّ يحدثنا أنّ المسلمين لم يبلغوا من الناحية الفكريّة والعلميّة والإحاطة بالمبادئ والأديان الاخرى درجةً تؤهلهم للقيام بذلك، ولم يقدر أحد منهم، على مجابهة اولئك العلماء المتوافدين من أرباب الأديان أو الملحدين إلى عاصمة الدولة الإسلاميّة من كلِّ فج عميق بهدف الإيقاع بالإسلام والمسلمين.

وقد أثبتت الوقائع التي وقعت في ذلك العهد، أنّ الشخص الوحيد الذي كانت ترجع إليه الاُمّة، ويرجع إليه من تسلّموا مسند الخلافة والحكومة بعد النبيّ لحلِّ تلك المعضلات وردِّ تلك الشبهات والإجابة على تلك التساؤلات، كان هو الإمام عليّعليه‌السلام .

وإليك نماذج من تلك الأسئلة :

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسيّ ( من علماء القرن السادس الهجريّ ) ١: ١٦ ـ ٢٤.

١٤١

١. جاء بعض أحبار اليهود إلى أبي بكر فقال: أنت خليفة نبيّ هذه الاُمّة ؟

قال: نعم.

فقال: إنّا نجد في التوراة أنّ خلفاء الأنبياء أعلم اممهم ؛ فأخبرني عن الله تعالى، أين هو أفي السماء أم في الأرض ؟

فقال أبو بكر: هو في السماء على العرش.

فقال اليهوديّ: فأرى الأرض خاليةً منه وأراه على هذا القول في مكان دون مكان.

فقال أبو بكر: هذا كلام الزنادقة.

فولىّ الحبر متعجّباً يستهزئ بالإسلام فاستقبله أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فقال: « يا يهوديّ قد عرفت ما سألت عنه وما أجبت به، وإنّا نقول: إنّ الله عزّ وجلّ أيّن الأين فلا أين له، وجلّ أن يحويه مكان وهو في كلِّ مكان بغير مماسة ولا مجاورة يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره وإنّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدِّق ما ذكرته لك »(١) .

٢. حضر مجلس عليعليه‌السلام في جامع الكوفة أحد يهود اليمن فقال: يا أمير المؤمنين صف لنا خالقك وانعته لنا كأنّا نراه وننظر إليه، فسبح عليّعليه‌السلام ربّه وقال :

« الحمد لله الذي هو أوّل بلا بديء ممّا، ولا باطن فيما، ولا يزال مهما، ولا ممازج مع ما، ولا خيال وهما. ليس بشبح فيُرى، ولا بجسم فيتجزّأ، ولا بذي غاية فيتناهى، ولا بمحدَث فيبصر، ولا بمستتر فيكشف، ولا بذي حجب فيحوى، كان ولا أماكن تحمله أكنافها، ولا حملة ترفعه بقوّتها، ولا كان بعد أن لم يكن، بل حارت الأوهام أن تكيّف المكيّف للأشياء، ومن لم يزل بلا مكان، ولا يزول باختلاف الأزمان وكيف يوصف بالأشباح، وينعت بالألسن الفصاح » إلى آخر المفصّل(٢) .

٣. عن سلمان الفارسيّ في حديث طويل ذكر فيه قدوم كبير النصارى ( الجاثليق )

__________________

(١) الإرشاد للمفيد: ١٠٨ في قضايا أمير المؤمنين.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ٤٩٠ ـ ٤٩١.

١٤٢

إلى المدينة مع مائة من النصارى بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

وسأل أبا بكر عن مسائل لم يجبه عنها ثمّ ارشد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فسأله عنها وكان ممّا سأل عنه أنّه قال: ( اخبرني عن وجه الربِّ تبارك وتعالى )، فدعا عليّ بحطب ونار فأضرمه، فلمّا اشتعلت قال عليّعليه‌السلام له: « أين وجه هذه النّار ؟ ».

قال النصرانيّ هي وجه من جميع حدودها فقالعليه‌السلام : « هذه النار مدّبرة مصنوعة لا يعرف وجهها، وخالقها لا يشبهها، ولله المشرق والمغرب، فأينما تولّوا فثمّ وجه الله، لا يخفى على ربِّنا خافية »(١) .

٤. وسأله رأس الجالوت ( اليهودي )عن مسائل بعد ما سأل أبا بكر فلم يجبه

سأله: ما أصل الأشياء ؟

فقالعليه‌السلام : هو الماء لقوله سبحانه:( وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) ( الانبياء: ٣٠ ).

وما جمادان تكلّما ؟

فقالعليه‌السلام : هما الأرض والسماء لقوله تعالى:( فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) ( فصلت: ١١ ).

ما شيئان ينقصان ويزيدان ولا يرى الخلق ذلك ؟فقالعليه‌السلام : هما الليل والنهار لقوله تعالى:( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) ( الحديد: ٦ ).

إلى غير ذلك من المسائل العويصة، والصعبة التي أجاب عنها الإمام عليّعليه‌السلام بسرعة أدهشت الجاثليق وأثارت إعجابه(٢) .

هذا ولم تقتصر الموارد التي واجه فيها قادة المسلمين شبهات وأسئلة عجزوا عن

__________________

(١) قضاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب: ٨٨ ( طبعة النجف ).

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ١: ٤٩٠ ـ ٤٩١ عنه البحار٤٠: ٢٢٤.

١٤٣

ردهّا والإجابة عليها على ما ذكرناه، بل هناك عشرات الموارد الاخرى نذكر بعضها إجمالاً :

١. سؤال الغلام اليهوديّ من عمر بن الخطاب في اليوم الأوّل من خلافته وإرجاع الخليفة له إلى الإمام عليّعليه‌السلام (١) .

٢. بعد أن ارتد الحارث بن سنان الأسدي الذي كان أحد الصحابة، والتحق بالروم، حث الروم على طرح بعض الأسئلة على المسلمين، فتوجّه ممثل الروم إلى المدينة وطرح بعض الأسئلة(٢) .

٣. سؤال القائد الروميّ من عمر(٣) .

٤. الأسئلة التي طرحها علماء اليهود على عمر حول أصحاب الكهف(٤) .

٥. سؤال كعب الأحبار من عمر(٥) .

٦. وفود أسقف نجران على عمر وطرح بعض الأسئلة عليه(٦) .

٧. وفود جماعة من اليهود على عمر وطرح بعض الشبهات والمواضيع عليه(٧)

٨. وفود جماعة من اليهود على عمر أيضاً وطرح بعض الأسئلة عليه(٨) .

٩. سؤال كعب الأحبار من عمر، وإحالة عمر له على الإمام أيضاً(٩) .

__________________

(١) الغدير ٦: ١٦٨، نقلاً عن كتاب زين الفتى في تفسير هل أتى تأليف أحمد بن محمّد بن عليّ العاصميّ الشافعيّ ( مخطوط )، علي والخلفاء: ١٣٨ ـ ١٤٥، نقلاً عن فرائد السمطين ١: باب ٦٦ ( مخطوط ).

(٢) قضاء أمير المؤمنين: ٢٦٣.

(٣) تذكرة الخواص لابن الجوزيّ المتوفّي عام ( ٦٥٦ ه‍ ): ١٤٤ ـ ١٤٧ ( طبع النجف الأشرف ).

(٤) غاية المرام للبحرانيّ المتوفّي عام ( ١١٠٧ ه‍ ): ٥١٧، والغدير ٦: ٤٧ نقلاً عن العرائس في قصص الأنبياء: ٢٢٧.

(٥) كنز العمال للمتّقي الهنديّ ٤: ٥٥ نقلاً عن طبقات ابن سعد المتوفّي عام ( ٢٠٧ ه‍ ).

(٦) تفسير البرهان ٢: ١٠٧، عليّ والخلفاء: ١٧١ نقلاً عن كتاب زين الفتى.

(٧) قضاء أمير المؤمنين للتستريّ: ٦٧ ( طبعة النجف )، عليّ والخلفاء: ١٧٦.

(٨) قضاء أمير المؤمنين: ٨٢ ( طبعة النجف )، عليّ والخلفاء: ١٧٨.

(٩) قضاء أمير المؤمنين: ٦٤، البحار ٩: ٤٨٣ ( الطبعة القديمة ).

١٤٤

١٠. سؤال كعب الأحبار من عثمان وإرجاع عثمان له على الإمام عليّ(١) .

١١. طرح سؤال عويص من الروم على معاوية والتماس معاوية الجواب من الإمام عليّ بطريقة ماكرة(٢) .

١٢. طرح أسئلة اُخرى من جانب البلاط الرومانيّ على معاوية واستمداد معاوية الأجوبة من الإمام عليّعليه‌السلام (٣) .

١٣. طرح أسئلة للمرّة الثالثة من جانب الامبراطور الرومانيّ على معاوية والتماس معاوية الأجوبة من الإمام عليّعليه‌السلام أيضاً(٤) .

إنّ هذه الوقائع ووقائع كثيرةً اُخرى تشير بوضوح إلى عدم قدرة الاُمّة، على مواجهة الشبهات والشكوك التي كان يبثّها ويلقيها أعداء الإسلام على المسلمين لتقويض عقيدتهم، فهل كان من الجائز أن يترك الله سبحانه الاُمّة الإسلاميّة ـ والحال هذه ـ من دون أن يربّي ويخلّف فيهم من يصون الدين ويحفظ عقيدة اتباعه من أخطار التشكيك، وذلك بالوقوف في وجه كلّ مشكّك وصاحب شبهة بالمنطق أو الجدل المفحم، وهل يمكن ذلك إلا لمن يكون عارفاً بأبعاد الدين وقضاياه تفصيلاً، ويكون محيطاً بما في الأديان الاخرى وما في كتبها وعند علمائها ؟

أليس أي نكسة تصيب المسلمين في هذا المجال من شأنها أنّ تؤثر على معنويّتهم وتزعزع اعتقادهم، وتزيد من جرأة الأعداء وطمعهم في إخراج المسلمين من دينهم ؟.

إنّ بقاء أي دين وعقيدة، يرتبط بمدى قدرة المدافعين عن حياضه، والذبّ عن كيانه الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ، إمّا بقوّة السلاح أو بقوّة المنطق من قبل

__________________

(١) عليّ والخلفاء: ٣١٣ نقلاً عن كتاب عجائب أحكام أمير المؤمنين: ١١٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) قضاء أمير المؤمنين: ٧٨ و ١١٤، عليّ والخلفاء: ٣٢٠.

(٤) قضاء أمير المؤمنين: ١٦ نقلاً عن مناقب ابن شهر بن آشوب.

١٤٥

الشخصيات المؤهلة القادرة على الدفاع الحازم.

بل لابدّ من الاعتراف بأنّ القوّة العسكريّة وحدها غير كافية للمحافظة على سطوع الدين وبقائه، وسلامته على مدار الزمان، فلابدّ ـ مضافاً إلى ذلك ـ من وجود الشخصيّات العلميّة اللائقة التي تحرس سياج الدين، وتلبّي احتياجات الاُمّة، وتمدّها وتمدّ عقيدتها بطاقة البقاء والاستقامة والحياة.

من هنا يتعين على صاحب الدعوة تربية وتعيين من يكون جديراً بتحمل هذه المسؤولية وقادراً على القيام بها لينير للمسلمين طريقهم، ويصون من شبهات العابثين المغرضين إيمانهم وعقيدتهم.

* * *

٥. الفراغ في مجال صيانة الدين من التحريف

إنّ من أهم ما كان يقوم به النبيّ العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو محافظته الشديدة على الدين وصيانته من التحريف والدسّ، فقد كان يعلم المسلمين كتابهم العزيز، ويراقب ما أخذوه عنه من اُصول وفروع فينبّه على خطأهم، ويدلّهم على الحق.

ولا ريب أنّ من أبرز ما تتمتّع به أمّة من الامم، هو قدرتها على حفظ دينها من كيد الكائدين ودس الداسيّن وتحريف المحرفين، وهو الخطر الذي تعرضت له جميع الأديان السالفة والمذاهب السابقة وعانت منه أسوء أنواع الدسّ والتحريف وإلى هذا يشير القرآن إلى ما عانى منه دين موسى على أيدي أتباعه اليهود، إذ قال:( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) ( النساء: ٤٦ ).

ولقد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم بهذه المهمة الخطيرة في حياته الشريفة فكيف يمكن تحقيق ذلك بعد وفاته ؟ وكيف يمكن حفظ الدين من التحريف بعده ؟!

إنّ صيانة الدين من التحريف والدسّ، لا تمكن إلّا إذا توفرت لدّى الاُمّة اُمور ثلاثة :

١٤٦

١. أنّ تكون الاُمّة قد بلغت في الرشد الفكريّ والعقليّ مبلغاً يؤهلها للحفاظ على أسس الشريعة ومفاهيمها من أي دسّ وتحريف.

٢. أن تكون فروع الدين واُصوله واضحةً ومعلومةً لدى الاُمّة، وضوحاً يمكِّنها من تمييز الحقّ عن الباطل، والدخيل عن الأصيل في مفاهيمه، وعقائده وتشريعاته.

٣. أن يكون لديها كلّ ما صدر من النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من أحاديث ونصوص كاملة، لتقدر بمراجعة ما لديها من الحديث وعلم الكتاب ومعارفه، على أن تميِّز الصحيح من المجعول والوارد من الموضوع.

ولا ريب أنّ الاُمّة الإسلاميّة قد وصلت آنذاك بفضل جهود صاحب الدعوة، إلى درجة مرموقة من الوعي والحفظ لنص الكتاب الكريم ما يجعلها قادرةً على حفظ النصّ القرآنيّ من التحريف، وصونه من محاولات الزيادة والنقصان كما نرى ذلك في قصة الصحابيّ الجليل « ابيّ بن كعب » الذي كان له موقف عظيم من عثمان في قضية إثبات الواو في آية الكنز، وإليك الواقعة كما ينقلها تفسير الدرّ المنثور عن علباء بن أحمر: ( انّ عثمان بن عفان لـمّا أراد أن يكتب المصاحف أرادوا(١) أن يلقوا ( الواو ) التي في سورة البراءة في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( التوبة: ٣٤ ).

قال ابيّ: ( لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي ) فألحقوها(٢) .

فقد كان عثمان يريد أن يقرأ قوله تعالى:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ) بدون واو العطف لتكون هذه الجملة وصفاً للأحبار اليهود وهذا مضافاً إلى كونه خلاف التنزيل وتغييراً في ما نزل به الوحي كما تلاه الرسول وقرأه على مسامع القوم، فإنّ حذف الواو كان يعني، أنّ آية حرمة الكنز لا ترتبط بالمسلمين، بل هي صفة للأحبار والرهبان وكان يقصد من

__________________

(١) هكذا في الأصل، والصحيح: أراد إلّا أن يراد الكتّاب.

(٢) الدرّ المنثور ٣: ٢٣٢.

١٤٧

هذا إضفاء طابع الشرعيّة على اكتناز الأموال الطائلة الذي كان يقوم به جماعة من بطانة الخليفة كما يشهد بذلك التأريخ.

ولكن عثمان لم يستطع تحقيق هذا المطلب فقد عارضه أبّي بن كعب، واعترض عليه هذا التغيير الطفيفة اللفظي في الظاهر.

وهذا يكشف عن مدى حفظ الاُمّة لنصّ الكتاب بهذه الصورة الدقيقة الأمينة. بيد أنّ حفظ الاُمّة كان محدوداً لا يتجاوز هذا الحدّ، إذ كان غير شامل لجوانب اخرى من الشريعة واُصولها ومصادرها وينابيعها.

ويدل على ذلك :

أوّلاً: أنّ الامّة اختلفت في تفسير الكثير من آيات القرآن، وبيان مقاصده ومعارفه اختلافاً جرّ إلى تعدّد المذاهب، ونشوء الاتّجاهات المختلفة، والتيارات المتضاربة وكلّ يتمسّك بالكتاب وربّما بالسنّة.

فمن جبريّة إلى معتزلة، إلى صفاتيّة إلى خوارج، إلى مرجّئة، وشيعة، وكلّ منها يتفرع إلى فرق وطوائف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في العقيدة والمسلك، وفي الاُصول والفروع(١) .

فهل يمكن أن يكون كلّ ذلك هو الحقّ الذي تضمّنه القرآن، ودعا إليه ؟!!

أليس ذلك يدل على أنّ الاُمّة لم تبلغ في الإحاطة بالشريعة والنضج الفكريّ الإسلاميّ ذلك المستوى الذي يؤهلها لحفظ الاُصول والفروع، والمحافظة على ما يتّصل بالكتاب والسنة، وطرح ما لا يمتّ إليهما بصلة.

ثانياً: أنّ التأريخ يشهد بأنّ الأمّة الإسلاميّة ـ في عصر الخلفاء ـ يوم اتّسعت رقعة البلاد الإسلاميّة واستوعبت شعوباً كثيرةً، شهدت دخول جماعات عديدة من أحبار

__________________

(١) راجع للوقوف على هذه المذاهب وفروعها: الملل والنّحل للشهرستانيّ والفرق بين الفرق وغيرهما ممّا ألّف في هذا المجال.

١٤٨

اليهود وعلماء النصارى في الإسلام، مثل كعب الأحبار وتميم الداريّ ووهب بن منبّهوعبد الله بن سلام، الذين تسللوا إلى صفوف المسلمين، وراحوا يدسون الأحاديث الإسرائيليّة، والخرافات والأساطير النصرانيّة في أحاديث المسلمين وكتبهم وأذهانهم.

وقد ظلت هذه الأحاديث المختلفة، تخيِّم على أفكار المسلمين ردحاً طويلاً من الزمن، وتؤثر في حياتهم العمليّة، وتوجّهها في الوجهة المخالفة لروح الإسلام الحنيف في غفلة من المسلمين وغفوتهم. ولم ينتبه إلى هذا الأمر الخطير، إلّا من عصمه الله كعليّعليه‌السلام الذي راح يحذّر المسلمين عن الأخذ بمثل هذه الأحاديث المختلفة فقال: « ولو علم النّاس أنّه منافق كذّاب، لم يقبلوا منه ولم يصدّق، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله ورآه وسمع منه وأخذ عنه وهم لا يعرفون حاله »(١) .

نماذجٌ وأرقامٌ عن الأحاديث الموضوعة :

وحسبك لمعرفة ما أصاب المسلمين وما تعرضت له أحاديثهم ولمعرفة الذين لعبوا هذا الدور الخبيث في غفلة من الاُمّة ما كتب في هذا الصدد مثل كتاب :

ميزان الاعتدال للذهبيّ.

وتهذيب التهذيب للعسقلانيّ.

ولسان الميزان للعسقلانيّ

ونظائرها من الكتب التي صنفت في هذا المجال.

ولعل فيما قاله البخاري صاحب « الصحيح » المعروف، إشارة إلى طرف من هذه الحقيقة المرّة، حيث قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري :

إنّ أبا عليّ الغسّانيّ روي عنه أنّه قال: خرّجت الصحيح من ٦٠٠ ألف

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٢٠٥.

١٤٩

حديث(١) .

وروى عنه الإسماعيليّ أنّه قال :

أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح(٢) .

ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمّة الحديث أخبار تآليفهم ( الصحاح والمسانيد ) من أحاديث كثيرة هائلة، والصفح عن غيرها، وقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديثاً وقال، انتخبته من خمسمائة ألف حديث(٣) .

ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار على ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستين حديثاً اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث(٤) .

وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث اُصول دون المكررات صنفه من ثلاثمائة ألف(٥) .

وذكر أحمد في مسنده ثلاثين ألف حديث وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة وخمسين وألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث(٦) .

وقد قام الباحث الكبير المجاهد العلامة الأمينيّ في موسوعته ( الغدير ) ـ الجزء الخامس ـ باستخراج أسماء الكذّابين والوضّاعين للحديث على حسب الحروف الهجائية فبلغ عددهم ٧٠٠.

وما قام به رحمه الله وإن كان عملاً كبيراً يشكر عليه، غير أنّه لو قام بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا على أضعاف ما ذكره ذلك الباحث الكبير.

__________________

(١) من الهدى الساري مقدمة فتح الباري: ٤.

(٢) من الهدى الساري مقدمة فتح الباري: ٥.

(٣) طبقات الحفّاظ للذهبيّ ٢: ١٥٤، تاريخ بغداد ٩: ٥٧.

(٤) إرشاد الساري ١: ٢٠٨، صفوة الصفوة ٤: ١٤٣.

(٥) طبقات الحفاظ للذهبيّ ٢: ١٥١، ١٥٧، شرح صحيح مسلم للنووي ١: ٣٢.

(٦) طبقات الذهبيّ ٩: ١٧.

١٥٠

والذي يرشدك إلى كثرة الاحاديث الموضوعة الكاذبة ما يوجد في ترجمة شرذمة قليلة من أولئك الجمّ الغفير من الكذّابين، من أنّه وضع عشرة آلاف حديث كما ذكروه في ترجمة أحمد بن عليّ الجويباريّ.

فقد قام الباحث المتقدم الذكر بعد ما أورد من الأرقام في ترجمة اولئك الكذابين بإحصاء عدد الأحاديث التي وضعوها أو قلبوها فبلغت ما يقارب النصف مليون حديثاً.

وهذه الأرقام راجعة إلى واحد وأربعين شخصاً(١) .

وقد الفّت في تمييز الأحاديث الموضوعة من الأحاديث الصحيحة كتب نذكر منها ما ألّفه أبو الفرج عبد الرحمان بن عليّ المعروف بابن الجوزيّ البغداديّ المتوفّى ( ٥٩٧ ه‍ ) الذي ذكر كلّ حديث موضوع.

وقد تنبّأ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بما سيصيب سنتّه الشريفة ويصيب المسلمين فيما بعد على أيدي الكذّابين، ووضّاعي الحديث وأعداء الإسلام، وأخبر عن وجود من يقف في وجه هذا الخطر العظيم إذ قال: « يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد »(٢) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: « إنّ فينا أهل البيت في كلِّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين »(٣) .

أليس كلّ هذا يستوجب، أن يربّي النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعده من يتمتّع بالعصمة الكافية والعلم الواسع ليحفظ الدين من محاولات التحريف، ويصون الشريعة من أي خيانة ودسّ ؟

__________________

(١) راجع الغدير ٥: ٢٤٧ ـ ٢٤٩ تحت عنوان ( قائمة الموضوعات والمقلوبات ).

(٢) رجال الكشّيّ: ٥.

(٣) الكافي ١: ٢٥.

١٥١

خلاصةُ ما سبق

لقد تبين مما تقدم أنّ الإمام الذي يخلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو من يقوم مقامه في سدّ ما حدث بوفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله من فراغ هائل بل فراغات كبرى في الحياة الإسلاميّة :

فكما أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقوم إلى جانب مهمّة التبليغ للدين الإلهيّ ب‍ :

١. بيان معالم الشريعة وأحكامها حسب الحاجات المتجددة في حياة الاُمّة.

٢. شرح معاني القرآن الكريم، وتفسير آياته، وبيان مقاصده وكشف القناع عن أسراره ورموزه وأبعاده حسب اقتضاء الظروف والنفوس.

٣. هداية الاُمّة نحو التكامل الروحيّ والمعنويّ بتوحيد صفوف الاُمّة وجمع شملها، وتعاهدها بالتربية والتزكية

٤. الدفاع عن حمى الشريعة، بالرد على الشبهات، والإجابة على الأسئلة العويصة وتبديد الشكوك التي يثيرها أعداء الإسلام.

٥. صيانة الدين عن محاولات الدسّ والتحريف، في مفاهيمه وشرائعه.

أقول: كما أنّ وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يملأ هذه الفراغات الهائلة، فإنّ فقدانه يوجب حدوثها، فلابدّ من إمام معصوم ليملأها كما كان النبيّ يملأها بحزمه وعلمه، وقيادته وهدايته.

فعلى الإمام ـ بما لديه من علم شامل بأبعاد الشريعة وجزئياتها ـ أن يعالج مشاكل الاُمّة المستحدثة، ويفسّر لهم الكتاب العزيز ويكشف لهم ما لم يكشف من أبعاده ووجوهه، ويعين الاُمّة على مواصلة طريق التكامل الذي بدأته بدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدافع عن حمى الشريعة برد الشبهات، والإجابة الوافية على الأسئلة العويصة التي يثيرها الأعداء، بهدف احراج المسلمين وزعزعتهم عن عقيدتهم، ويصون الدين والعقيدة من أي تحريف ودسّ.

وبالتالي، يقوم بكل ما يقوم به النبيّ من قيادة وهداية، وتربية وتزكية.

١٥٢

ولمّا كانت هذه المسؤوليات لا ينهض بها إلّا الإمام اللاّئق بخلافة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله القادر على سدّ الفراغ الكبير الذي يحدثه غياب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا توجد هذه اللياقة بالتربية العاديّة المتعارفة بل لا بدّ من عناية ربانية واعداد إلهيّ.

ولمّا كانت معرفة مثل هذا الإمام اللائق المعصوم متعذرةً على الاُمّة، يتعين على الله سبحانه العارف بعباده، المحيط بهم، أن يعرّف الاُمّة بالإمام وينصبه لهم. ولا يترك الأمر إلى نظر الاُمّة ورأيها لتختار حسب ما ترى، وتشاء.

ثمّ إنّ الشيخ الرئيس ( ابن سينا ) أشار في بعض كلماته إلى فوائد تنصيب الإمام، التي ترجع إلى بعض ما ذكرنا، وإليك بعض نصوص كلماته: ( ثمّ إنّ هذا الشخص الذي هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليس ممّا يتكرر وجود مثله في كلّ وقت فإنّ المادة التي تقبل كمال مثله يقع في قليل من الأمزجة، فيجب لا محالة، أن يكون النبيّ قد دبّر لبقاء ما يسنّه ويشرّعه في اُمور المصالح الإنسانية تدبيراً عظيماً ).

إلى أن قال ـ في الفصل الخامس ـ: ثمّ يجب أن يفرض السانّ ( أي الشارع ) طاعة من يخلفه، وأن لا يكون الاستخلاف إلّا من جهته ( أي من جهة السانِّ الشارع ) أو بإجماع من أهل السابقة على من يصححون، علانيةً، عند الجمهور أنّه مستقل بالسياسة وأنّه أصيل العقل حاصل عنده الأخلاق الشريفة من الشجاعة والعفة وحسن التدبير، وأنّه عارف بالشريعة حتّى لا أعرف منه تصحيحاً.

إلى أن قال: ويسنّ عليهم أنّهم إذا افترقوا وتنازعوا للهوى والميل، أو أجمعوا على غير من وجدوا الفضل فيه والاستحقاق فقد كفروا بالله.

والاستخلاف بالنصّ أصوب، فإنّ ذلك لا يؤدي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف )(١) .

__________________

(١) الشفاء ٢ ( الفن الثالث عشر في الإلهيّات ـ المقالة العاشرة الفصل الثالث والخامس ـ في المبدأ والمعاد ): ٥٥٨ و ٥٦٤ ( طبعة إيران ).

١٥٣

الطريق الثالث

٣

الخلافة عند النبيّ

والصحابة والاُمم السابقة

١. تصوّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مسألة القيادة بعده.

٢. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ.

٣. صيغة القيادة والخلافة عند الأمم السالفة.

لقد دلّت المحاسبات العقليّة والاجتماعيّة السابقة على لزوم تعين الإمام من جانب الله تعالى، وأثبتت أنّ إيكال الأمر إلى نظر إلامّة وانتخابها وتعيينها خطأ فاضح، يأباه العقل وترفضه المصالح العامّة وتعارضه المحاسبات الاجتماعيّة.

هذا ويمكن الاستدلال أيضاً على لزوم نصب الإمام من جانب الله بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم إيكال ذلك إلى رأي الاُمّة، بالأدلّة النقلية والتاريخيّة وهي تشمل :

١ / تصوّرهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مسألة القيادة من بعده.

٢ / تصوّر الصحابة عن هذه المسألة.

٣ / صيغة القيادة ـ لدى الأمم السابقة ـ وسيرتهم في ذلك بعد غيبة أنبيائهم.

وإليك فيما يلي بيان هذه الاُمور والأدلة بالتفصيل :

١٥٤

١. تصوّر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن القيادة بعده :

لا ريب أنّ من أهمّ الأدلة على لزوم نصب الإمام والقائد بعد النبيّ هو تصوّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه عن هذه المسألة، فماذا كان هذا التصوّر ؟

هل كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يعتقد بلزوم نصب الإمام والقائد من جانب الله ؟ أم كان يعتقد ترك ذلك إلى نظر الاُمّة وإرادتها وإختيارها ؟ أم كان يعتبر ذلك من شؤونه واختصاصاته على الأقل ؟

إنّ الكلمات المأثورة عن الرسول الأكرم وموقفهصلى‌الله‌عليه‌وآله من قضية القيادة بعده، تدلّ على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعتبر أمر القيادة وتعيين القائد مسألةً إلهيّةً وحقاً إلهيّاً فالله سبحانه هو الذي له أن يعين القائد وينصب الخليفة الذي يخلِّف النبيّ بعد وفاته. ولا نجد في كلّ ما نقل عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ما يدل على إرجاع الأمر إلى اختيار الاُمّة ونظرها، أو إلى اراء أهل الحلّ والعقد واجتماعهم، أو غير ذلك من صور الانتخاب والتعيين غير الإلهيّ.

إنّ الأدلة والشواهد النقليّة تشهد برمتها بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر للاُمّة مراراً بأنّ تعيين الأمير من بعده أمر إلهيّ، وليس له في ذلك شيء، فلا يمكنه أن يقطع لأحد عهداً بأن يستخلفه من بعده، دون أن يأذن الله تعالى له في ذلك أو يأتيه منه سبحانه أمر ووحي.

وفيما يأتي نذكر شاهدين تأريخيين على ذلك، والشاهد الأوّل أكثر صراحة في ما ذكرناه :

١. لـمّا عرض الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه على بني عامر الذين جاؤوا إلى مكة في موسم الحجِّ ودعاهم إلى الإسلام قال له كبيرهم: ( أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ ).

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء »(١) .

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

١٥٥

٢. لما بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله سليط بن عمرو العامريّ إلى ملك اليمامة ( هوذة بن عليّ الحنفيّ ) الذي كان نصرانياً، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً، فقدم على هوذة، فأنزله وحباه وكتب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه: ( ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي، وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك ).

فقدم سليط على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بما قال هوذة، وقرأ كتابه فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو سألني سيابةً من الأرض ما فعلت باد وباد ما في يده »(١) .

ونقل ابن الأثير على نحو آخر فقال: أرسل هوذة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفداً يقول له :

( إن جعل له الأمر من بعده أسلم وصار إليه ونصره، وإلاّ قصد حربه ).

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فمات بعده قليل لا ولا كرامة أللّهم اكفنيه »(٢) .

إنّ هذين النموذجين التاريخيين الذين لم تمسّهما أيدي التحريف والتغيير يدلان بوضوح كامل على تصوّر النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مسألة الخلافة والقيادة من بعده، فهما يدلاّن على أن هذه المسألة كانت إذا طرحت على النبيّ، وسئل عمّن سيخلّفه في أمر قيادة الأمّة كان يتجنب إرجاعها إلى نفسه، أو إلى نظر الاُمّة، بل يرجع أمرها إلى الله تعالى. أو يتوقّف في إبداء النظر فيه على الأقل.

على أنّ مسألة انتخاب الخليفة القائد بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لو كانت من شؤون الاُمّة وصلاحياتها وجب أن يصرح النبيّ بذلك أو يشير إلى أصل الموضوع ولو بالإجمال.

بل وجب أن يبيّن للاُمّة الطريقة الصحيحة للانتخاب، ويذكر لهم الشروط والضوابط اللازمة في الناخب، والمنتخب، لكي يتحقق هذا الأمر بوجه صحيح، بينما نجد النبيّ لا يتعرض لهذا الأمر أبداً، ولم يؤثر عنه أي نقل، وإرشاد وتعليم في هذا المجال، رغم أهميّة الموضوع وخطورته البالغة، مع أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد تعرّض لاُمور أسهل وأبسط

__________________

(١) طبقات ابن سعد الكبرى ١: ٢٦٢.

(٢) الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢: ١٤٦.

١٥٦

من ذلك فهل مسألة القيادة، والإدارة والإمرة ـ وخصوصاً في تلك الظروف العصيبة وبالنسبة إلى تلك الاُمّة الناشئة ـ أقلّ شأناً، وأهميّةً من المستحبّات والمكروهات التي ورد فيها الكثير الكثير من الأحاديث النبويّة ؟

* * *

٢. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ

إنّ المتتبع في تاريخ الصحابة والخلفاء والذين تعاقبوا على مسند الحكومة بعد النبيّ، يرى بوضوح أنّ الطريقة التي اتبعها أولئك الصحابة، والخلفاء كانت هي الطريقة الانتصابيّة لا الانتخابيّة الشعبيّة.

فالخليفة السابق كان يعين الخليفة اللاحق، إمّا مباشرة أو بتعيين شورى تتولى هي تعيين الخليفة والاتفاق عليه ولم يترك أحد من أولئك الخلفاء أمر القيادة إلى نظر الاُمّة وإرادتها واختيارها، أو يتكل على آراء المهاجرين والأنصار، أو أهل الحلّ والعقد ليختاروا هم ـ بمحض إرادتهم ـ من يشاؤون للخلافة والإمرة.

فمن يلاحظ تاريخ الصدر الأوّل يرى، أنّ خلافة ( عمر بن الخطاب ) تمت بتعيين من أبي بكر.

وأمّا خلافة ( عثمان بن عفان ) فتمت بواسطة شورى عيّن ( عمر بن الخطاب ) أفرادها وأمرهم بانتخاب الخليفة من بين انفسهم، ولم يترك أحد من هؤلاء أمر القيادة إلى اختيار الاُمّة.

وإليك تفصيل الأمر في كيفية استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب ويليه تفصيل لكيفية استخلاف عمر بن الخطاب لعثمان بن عفان.

أ ـ استخلاف أبي بكر لعمر

قال ابن قتيبة الدينوري في تاريخ الخلفاء: ( دعا ( أبو بكر ) عثمان بن عفان ،

١٥٧

فقال: اكتب عهدي، فكتب عثمان، وأملى عليه: ( بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها، إنّي استخلف عليكم عمر بن الخطاب فإن تروه عدل فيكم ظنّي به ورجائي فيه، وإن بدّل وغيّر فالخير أردت، ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )(١) .

ويظهر من ابن الاثير ـ في كامله ـ أنّ أبا بكر أملى على عثمان عهده، ولكنّه غشي عليه أثناء الإملاء، فأكمله عثمان وكتب فيه استخلاف عمر من عند نفسه، ثمّ إنّه لـمّا أفاق أبو بكر من غشيته، وافق على ما كتبه عثمان، وإليك نصّ ما كتبه ابن الأثير: ( إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خالياً ليكتب عهد عمر فقال له: اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة، أمّابعد ثم اغمي عليه فكتب عثمان: فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً.

ثمّ أفاق أبو بكر فقال: اقرأ عليّ، فقرأ عليه، فكبّر أبو بكر، وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي )(٢) .

قال عثمان: نعم.

قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله.

فلمّا كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس فجمعهم، وأرسل الكتاب مع مولىً له مع ( عمر ) وكان عمر يقول للناس: انصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله إنّه لم يألكم نصحاً.

فسكت الناس فلمّا قرأ عليهم الكتاب سمعوا له وأطاعوا(٣) .

__________________

(١) الإمامة والسياسة للدينوريّ المتوفّي ( ٢٦٢ ه‍ ): ١٨ ( طبعة مصر ).

(٢) هل يمكن أن يلتفت الخليفة إلى الخطر الكامن في ترك الأمّة دون خليفة يستخلفها عليهم ولا يلتفت إليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

(٣) الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢: ٢٩٢ وطبقات ابن سعد الكبرى ٣: ٢٠٠ ( طبعة بيروت ).

١٥٨

وقد نقل موضوع استخلاف ( أبي بكر ) ل ( عمر ) عدة من أعلام التأريخ والحديث بهذين النحوين من النقل.

ب ـ استخلاف عثمان

وأمّا قصة استخلاف عثمان فهي كالآتي، كما نقلها وأثبتها كتّاب التأريخ وأعلام السيرة :

قال ابن قتيبة الدينوريّ في كتابه الإمامة والسياسة: ( قال عمر: ساستخلف النفر الذين توفيّ رسول الله وهو عنهم راض

فأرسل إليهم فجمعهم، وهم عليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن عوّام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمان بن عوف وكان طلحة غائباً فقال :

يا معشر المهاجرين الأولين: إنّي نظرت في أمر الناس، فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم، فتشاوروا ثلاثة أيام، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك، وإلاّ فأعزم عليكم بالله أن لا تتفرقوا من اليوم الثالث حتّى تستخلفوا أحدكم )(١) .

وكتب ابن الأثير في كامله: ( انّ عمر بن الخطاب لـمّا طعن قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت ؟ فقال: من استخلف ؟ لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته ولو كان سالم مولى حذيفة حياً لاستخلفته

فقال رجل: أدلّك عليه ؟ عبد الله بن عمر، فقال ( عمر ): قاتلك الله كيف استخلف من عجز عن طلاق امرأته الى أن قال :

عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنهّم من أهل الجنّة وهم عليّ

__________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوريّ المتوفّي عام ( ٢٦٢ ه‍ ): ٢٣.

١٥٩

وعثمان وعبد الرحمان وسعد والزبير بن عوّام وطلحة بن عبد الله.

فلمّا أصبح عمر، دعا عليّاً وعثمان وسعداً وعبد الرحمان والزبير، فقال لهم :

إنّي نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلّا فيكم. وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض. فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها، واختاروا منكم رجلاً، فإذا متّ فتشاوروا ثلاثة أيّام، وليصلّ بالناس صهيب، ولا يأتي اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير ».

فاجتمع هؤلاء الرهط في بيت حتّى يختاروا رجلاً منهم.

قال لصهيب: « صلِّ بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما وإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا، فحكّموا عبد الله بن عمر فان لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس )(١) .

وممّا يدلّ على أنّ هذا الموقف والرأي لم يكن موقف الصحابة ورأيهم خاصّة في مسألة الاستخلاف والقيادة بل إنّ الرأي العام في ذلك العهد كان يعتقد ضرورة استخلاف القائد والحاكم، وعدم ترك الأمر إلى نظر الناس وإرادتهم وانتخابهم، نظريات لطائفة من الشخصيّات نذكر بعضها فيما يأتي :

١. نقل أنّ عمر بن الخطاب لـمّا أحس بالموت قال لابنه [ عبد الله ]: ( اذهب إلى عائشة واقراها مني السلام، واستأذن منها أن أقبر في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر.

فأتاها عبد الله بن عمر فأعلمها فقال: ( نعم وكرامة ).

ثمّ قالت: ( يا بنيّ أبلغ عمر سلامي فقل له: لا تدع أمّة محمّد بلا راع استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملا، فإنّي أخشى عليهم الفتنة )(٢) . فأتى عبد الله

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٣: ٣٥.

(٢) وهل يمكن أن تلتفت أمّ المؤمنين إلى هذه النكتة ولا يلتفت إليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

٦. قال الإمام أبو حفص النسفي: والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر بالمستفيض من الأخبار خلافاً للمعتزلة(١) .

٧. وقد أيّد التفتازاني في شرح العقائد النسفيّة هذا الرأي وصدّقه دون أي تردّد وتوقف(٢) .

٨. قال الطبرسي في تفسيره: إنّ الأمّة أجمعت على أنّ للنبي شفاعة مقبولة، وان اختلفوا في كيفيتها، فعندنا هي مختصة بدفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين، وقالت المعتزلة: هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين، وهي ثابتة عندنا للنبي ولأصحابه المنتجبين والأئمّة من أهل بيته الطاهرين ولصالح المؤمنين، وينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين، ويؤيده الخبر الذي تلقته الأمّة بالقبول وهو قوله: « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » وما جاء في روايات أصحابنا رضي الله عنهم ـ مرفوعاً إلى النبي ـ أنّه قال: « إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليعليه‌السلام فيشفّع، ويشفع أهل بيتي فيشفّعون، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفّع في أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار » وقوله تعالى مخبراً عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ *وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (٣) .

وقال أيضاً: أصل الشفاعة من الشفع الذي هو ضد الوتر، فإنّ الرجل إذا شفع بصاحبه فقد شفعه أي صار ثانيه، ومنه الشفيع في الملك لأنّه يضم ملك غيره إلى ملك نفسه، واختلفت الأمّة في كيفية شفاعة النبي يوم القيامة، فقالت المعتزلة ومن تابعهم: يشفع لأهل الجنّة ليزيد الله درجاتهم. وقال غيرهم من فرق

__________________

(١ و ٢) العقائد النسفية: ١٤٨.

(٣) مجمع البيان: ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

١٨١

الأمّة: بل يشفع لمذنبي الأمّة ممّن ارتضى الله دينهم ليسقط عقابهم بشفاعته(١) .

٩. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى:( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) (٢) : كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأُويسوا.

فإن قلت: هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة ؟

قلت: نعم، لأنّه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلّت به من فعل أو ترك، ثم نفى أن تقبل منها شفاعة شفيع، فعلم أنّها لا تقبل للعصاة(٣) .

١٠. قال الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه الانتصاف فيما تضمّنه الكشاف من الاعتزال :

وأمّا من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها، وأمّا من آمن بها وصدّقها وهم أهل السنّة والجماعة فأُولئك يرجون رحمة الله، ومعتقدهم أنّها تنال العصاة من المؤمنين وإنّما ادّخرت لهم، وليس في الآية دليل لمنكريها، لأنّ قوله:( يَوْماً ) في قوله:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) أخرجه منكراً، ولا شك أنّ في القيامة مواطن، يومها معدود بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة، وبعضها هو الوقت الموعود، وفيه المقام المحمود لسيد البشر، عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدّد أيامها واختلاف أوقاتها، منها قوله تعالى:( فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (٤) مع قوله:( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) (٥) فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين، ووقتين متغايرين، أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس له، وكذلك

__________________

(١) مجمع البيان: ٢ / ٨٣.

(٢) البقرة: ٤٨.

(٣) الكشاف: ١ / ٢١٤ ـ ٢١٥. وما ذكره صاحب الكشاف في تفسير الشفاعة راجع إلى منهجه الذي هو منهج المعتزلة في معنى الشفاعة، والهدف من نقل كلامه هو الإيعاز إلى كون أصل الشفاعة أمراً متفقاً عليه بين المسلمين، وأمّا الخصوصية فسنبحث عنها في الفصول القادمة.

(٤) المؤمنون: ١٠١.

(٥) الصافات: ٢٧.

١٨٢

الشفاعة، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة، ورزقنا الله الشفاعة »(١) .

وقال الزمخشري أيضاً في تفسير قوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) ( لا بَيْعٌ فِيهِ ) حتى تبتاعوا ما تنفقونه و( لا خُلَّةٌ ) حتى يسامحكم أخلاّؤكم به، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات، لأنّ الشفاعة ثمّة في زيادة الفضل(٣) .

وقال صاحب الانتصاف: أمّا القدرية فقد وطّنوا أنفسهم على حرمان الشفاعة، وهم جديرون أن يُحرموها، وأدلّة أهل السنّة على إثباتها للعصاة من المؤمنين أوسع من أن تحصى، وما أنكرها القدرية إلّا لإيجابهم مجازاة الله للمطيع على الطاعة وللعاصي على المعصية، إيجاباً عقلياً ـ على زعمهم ـ فهذه الحالة في إنكار الشفاعة نتيجة تلك الضلالة(٤) .

وعلى أي تقدير، فالحاصل من المناظرة التي دارت بين الفريقين هو اتفاق الأمّة الإسلاميّة على الشفاعة وان اختلفوا في تفسيرها.

١١. قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (٥) تمسّكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر، وأجيبوا بأنّها مخصوصة بالكفار، للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة.

__________________

(١) الانتصاف بهامش الكشاف: ١ / ٢١٤، المطبوع عام ١٣٦٧.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) الكشاف: ١ / ٢٩١.

(٤) الانتصاف بهامش الكشاف: ١ / ٢٩١.

(٥) البقرة: ٤٨.

١٨٣

ويؤيده أنّ الخطاب هنا مع الكفار، والآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم(١) .

١٢. قال الفتّال النيسابوري ـ الذي هو أحد علمائنا في القرن السادس الهجري ـ: لا خلاف بين المسلمين أنّ الشفاعة ثابتة، إلّا أنّ أصحاب الوعيد ـ وهم المعتزلة ـ قالوا: مقتضاها زيادة الثواب والدرجات. وقلنا مقتضاها: إسقاط المضار والعقوبات(٢) .

١٣. يقول الرصاص ـ الذي هو من علماء القرن السادس الهجري ـ في كتابه « مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم »: إنّ شفاعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ثابتة قاطعة(٣) .

١٤. قال الرازي في تفسير قوله:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٤) .

أجمعت الأمّة على أنّ لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعة في الآخرة، وذهبت المعتزلة إلى أنّ تأثير الشفاعة هو حصول الزيادة من المنافع على قدر ما استحقوه، غير إنّ الحق هو ما اتفقت عليه الأمّة من أنّ تأثير الشفاعة هو إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب، إمّا بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار، أو إن دخلوا النار فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنّة، واتفقوا على أنّها ليست للكفار(٥) .

__________________

(١) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ١ / ١٥٢.

(٢) روضة الواعظين: ٤٠٦.

(٣) مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم المعروف بالثلاثين مسألة.

(٤) البقرة: ١٢٣.

(٥) مفاتيح الغيب: ٣ / ٥٥ ـ ٥٦.

١٨٤

١٥. قال المحقق الطوسي: والإجماع على الشفاعة ( أي الإجماع قائم على ثبوت الشفاعة ) وقيل لزيادة المنافع، ويبطل منّا في حقهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

يريد بقوله: « يبطل » انّ الشفاعة لو كانت لطلب زيادة المنافع لكنّا شافعين للنبي، لأنّا نطلب زيادة المنافع وهو مستحق للثواب، والتالي باطل، لأنّ الشفيع أعلى مرتبة من المشفوع له، وهنا ليس كذلك.

ثم استدل المحقق الطوسي على الشفاعة بالحديث المروي: « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي »(٢) .

١٦. وقال العلّامة الحلّي في شرحه لعبارة المحقق الطوسي: اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدل عليه قوله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) قيل انّه الشفاعة، واختلفوا فقالت الوعيدية: إنّها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. وذهبت التفضلية إلى أنّ الشفاعة للفسّاق من هذه الأمّة في إسقاط عقابهم وهو الحق(٣) .

ويقول أيضاً في كتابه « نهج المسترشدين »: يجوز العفو عن الفاسق، لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثبت له الشفاعة، وليست في زيادة المنافع، وإلاّ لكنا شافعين فيه، فثبت في انتفاء المضار وإسقاط العقوبة(٤) .

١٧. قال ابن تيمية الحراني الدمشقي: للنبي في القيامة ثلاث شفاعات ـ إلى أن قال ـ وأمّا الشفاعة الثالثة فيشفع في من استحق النار، وهذه الشفاعة لهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولسائر النبيّين والصدّيقين، وغيرهم في من استحق النار أن لا يدخلها

__________________

(١) وقوله يبطل أي: لا يقع منّا في حق النبي.

(٢) شرح تجريد الاعتقاد: ٢٦٢ ـ ٢٦٣، طبعة صيدا.

(٣) شرح تجريد الاعتقاد: ٢٦٢ ـ ٢٦٣، طبعة صيدا.

(٤) نهج المسترشدين: ٢٠٥.

١٨٥

ويشفع في من دخلها.

ثم قال: وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء والإثارة من العلم المأثور عن الأنبياء وفي العلم الموروث عن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وله رسالة أُخرى أسماها بالاستغاثة، وقد اعتبر فيها المعتزلة والخوارج الذين أنكروا الشفاعة بمعناها المعروف، وهو إسقاط العقوبة، أهل ضلال وبدعة، وقال: وأمّا من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة(٢) .

١٨. وقال ابن كثير الدمشقي ـ في تفسير قوله سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٣) ـ: هذا من عظمته وجلاله، وكبريائه عزّ وجلّ أنّه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده، إلّا بإذنه له في الشفاعة، كما في حديث الشفاعة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : « آتي تحت العرش فأخرّ ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع، واشفع تشفّع، قال: فيحدّ لي حداً فأُدخلهم الجنة »(٤) .

١٩. قال نظام الدين القوشجي في شرحه على شرح التجريد: اتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة لقوله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وفسّر بالشفاعة.

ثم أشار إلى اختلاف المعتزلة والأشاعرة في معنى الشفاعة واختار المذهب المعروف فيها(٥) .

__________________

(١) مجموعة الرسائل الكبرى: ١ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٢) الاستغاثة في ضمن مجموعة الرسائل الكبرى: ١ / ٤٨١.

(٣) البقرة: ٢٥٦.

(٤) تفسير ابن كثير: ١ / ٣٠٩.

(٥) شرح التجريد للقوشجي: ٥٠١.

١٨٦

٢٠. قال الفاضل المقداد: في شرحه منهج المسترشدين: وأمّا ثبوت الشفاعة فلوجوه: الأوّل: الإجماع، والثاني قوله تعالى:( اسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ) والفاسق مؤمن لِما يجئ فوجب دخوله في من يستغفر له النبي(١) .

٢١. قال المحقق الدواني: الشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن اذن له الرحمان من الأنبياءعليهم‌السلام ، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (٢) .(٣)

٢٢. قال الشعراني في المبحث السبعين: إنّ محمداً هو أوّل شافع يوم القيامة وأوّل مشفّع، وأولاه فلا أحد يتقدم عليه. ثمّ نقل عن جلال الدين السيوطي: انّ للنبي يوم القيامة ثمان شفاعات، ولهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ثمان شفاعات، وثالثها في مَنْ استحق دخول النار أن لا يدخلها(٤) .

٢٣. قال العلّامة المجلسي: أمّا الشفاعة فاعلم أنّه لا خلاف فيها بين المسلمين بأنّها من ضروريات الدين، وذلك بأنّ الرسول يشفع لأمّته يوم القيامة، بل للأمم الأخرى، غير أنّ الخلاف إنّما هو في معنى الشفاعة وآثارها، وهل هي بمعنى الزيادة في المثوبات أو إسقاط العقوبة عن المذنبين ؟

وخصّها المعتزلة والخوارج بالمعنى الأوّل، قائلين: بأنّه يجب عليه سبحانه أن يفي بوعيده في موارد العقاب، وليس بإمكان الشفاعة أن تنقض هذه القاعدة المسلّمة. والشيعة ذهبت إلى أنّ الشفاعة تنفع في إسقاط العقاب، وان كانت ذنوبهم من الكبائر، ويعتقدون أيضاً بأنّ الشفاعة ليست منحصرة في النبي والأئمّة من بعده بل للصالحين أن يشفعوا بعد أن يأذن الله لهم بذلك(٥) .

__________________

(١) إرشاد الطالبين: ٢٠٦.

(٢) طه: ١٠٩.

(٣) شرح العقائد العضدية: ٢ / ٢٧٠.

(٤) اليواقيت والجواهر: ٢ / ١٧٠.

(٥) راجع بحار الأنوار: ٨ / ٢٩ ـ ٦٣، وحق اليقين: ٤٧٣.

١٨٧

٢٤. وقال محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي: وثبتت الشفاعة لنبينا محمد يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد، ونسألها من المالك لها والآذن فيها بأن نقول: أللّهمّ شفّع نبينا محمداً فينا يوم القيامة. أو أللّهمّ شفّع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم. إلى أن قال: إنّ الشفاعة حق في الآخرة، ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته، بل وغيره من الشفعاء، إلّا أنّ رجاءها من الله فالمتعيّن على كل مسلم صرف وجهه إلى ربّه فإذا مات استشفع الله فيه نبيّه.

ويظهر من أكثر كلماته أنّه معتقد بأصل الشفاعة، ولكن اختلافه مع غيره من المسلمين في طلبها، فذهب إلى أنّه لا يطلب إلّا من الله لا من الشفعاء(١) .

٢٥. وقال السيد شبّر: اعلم أنّه لا خلاف بين المسلمين في ثبوت الشفاعة لسيد المرسلين في أُمّته، بل في سائر الأمم الماضين، بل ذلك من ضروريات الدين، قال الله تعالى:( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) وإنّما اختلف في معناها، فالذي عليه الفرقة المحقة وأكثر العامة: أنّ الشفاعة كما تكون في زيادة الثواب كذلك تكون لإسقاط العقاب عن فسّاق المسلمين المستحقين للعذاب. والخوارج والمعتزلة: على أنّها لا تكون إلّا في طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب. ولكن الأدلة النقلية والعقلية تبطل مذهبهم في الواقع(٢) .

٢٦. وقال الشيخ محمد عبده: ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم وإنّها مزية يختص الله بها من يشاء يوم القيامة ـ عبر عنها سبحانه بهذه العبارة « الشفاعة » ـ ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعروف في معنى الشفاعة في لسان

__________________

(١) راجع الهدية السنية الرسالة الثانية: ٤٢.

(٢) حق اليقين: ٢ / ١٨٦.

١٨٨

التخاطب العرفي، وأمّا مذهب الخلف فلنا أن نحمل الشفاعة فيه على أنّها دعاء يستجيبه الله تعالى، والأحاديث الواردة في الشفاعة تدل على هذا، ثم ذكر حديثاً من الصحيحين، وقال في الهامش بمثل هذا « أي دعاء يستجيبه الله تعالى » قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ولم يعدّوه تأويلا(١) .

والعجب أنّ الأستاذ محمد عبده ـ مع ماله من الاطّلاع الوسيع على المعارف الإسلامية وبالأخص فيما يرجع إلى تفسير القرآن ـ انّه كلّما مر على أُمور ترتبط بأولياء الله مثل الشفاعة والاستشفاع منهم والتوسل والزيارة يضطرب بيانه، ولا يعمد إلى كشف الحقيقة بحرية كاملة ـ كما هو دأبه في سائر المسائل ـ ونرى الأستاذ في هذه المسائل يبدو كأنّه قد تأثر بمقالة الوهابيين، وأغلب الظن أنّ الأستاذ بريء عن أكثر ما نسب إليه بالصراحة في هذه المباحث في التفسير فأنّي أُجلّه عن النزعة الوهابية، ولعل تلميذه السيد محمد رشيد رضا قد أودع كلمات الأستاذ في قوالب خاصة تتناسب مع نزعاته الوهابية، ومع ذلك فالعلم عند الله سبحانه. أللّهمّ(٢) اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.

ولأجل ذلك نرى تلميذه الكاتب لدروسه يثير إشكالات ثلاثة حول الشفاعة، التي هي دون شأن الأستاذ، وهي :

١. ليس في القرآن نص قطعي في وقوع الشفاعة، ولكن ورد الحديث بإثباتها فما معناها ؟!

٢. الشفاعة لا تتحقق إلّا بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع، فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلّا إذا تغيّر علمه بما كان أراده، أو حكم به، كأن

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧.

(٢) نعم ما ذكره الأستاذ في تفسير سورة الفاتحة: ٤٦ ـ ٤٧ يؤيد أنّ الأستاذ كان يميل إلى الحركة الوهابية التي بلغت موجتها إلى تلك الديار في ذلك الأوان.

١٨٩

كان قد أخطأ ثمّ عرف الصواب ورأى أنّ المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به.

٣. ما ورد في إثبات الشفاعة من المتشابهات(١) .

وستوافيك الإجابة عن هذه الإشكالات في فصله الخاص على وجه الإجمال، وأمّا التفصيل فموكول إلى الرسالة التي أفردناها في الشفاعة وأبحاثها، وقد نقلت الرسالة إلى اللغة العربية بواسطة الأخ الفاضل الشيخ جعفر الهادي دامت إفاضاته.

٢٧. وقال السيد سابق: المقصود بالشفاعة سؤال الله الخير للناس في الآخرة، فهي نوع من أنواع الدعاء المستجاب، ومنها الشفاعة الكبرى، ولا تكون إلّا لسيدنا محمد رسول الله فإنّه يسأل الله سبحانه أن يقضي بين الخلق ليستريحوا من هول الموقف فيستجيب الله له فيغبطه الأوّلون والآخرون، ويظهر بذلك فضله على العالمين، وهو المقام المحمود الذي وعد الله به في قوله سبحانه:( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ثم نقل الآيات والروايات المربوطة بالشفاعة والمثبتة لها، وقد ذكر بعض شروط قبولها(٢) .

٢٨. قال الشيخ الجليل محمد جواد البلاغي: إنّ الشفاعة قد نفاها القرآن من جهة وهي الشفاعة للمشركين، أو الشفاعة التي يزعمها المشركون للذين يتخذونهم آلهة مع الله بزعم أنّهم قادرون بإلهيتهم بحيث تنفذ شفاعتهم طبعاً وحتماً، أو شفاعة الشافع الذي يطاع حتماً كما في سورة ياسين الآية ٢٢، والمؤمن الآية ١٨، والزمر الآية ٤٤، والمدثر الآية ٤٨، وأثبتها من جهة أُخرى بالاستثناء بل بالاستدراك الدافع لإيهام نفيها المطلق عن كل أحد فقال تعالى:( إِلا بِإِذْنِهِ ) ،

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧.

(٢) العقائد الإسلامية: ٧٣. والسيد سابق مؤلف إسلامي مصري قدير.

١٩٠

( إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ،( إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) ،( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) ،( إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) ،( إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) ،( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ ) ،( إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) ، كما في سورة البقرة الآية ٢٥٦، ويونس الآية ٦، ومريم الآية ٩٠، وطه الآية ١٠٨، والأنبياء الآية ٢٩، وسبأ الآية ٢٢، والزخرف الآية ٨٦، والنجم الآية ٢٧. وانّ الشفاعة المستثناة والمستدركة في آيات البقرة ويونس وسبأ مطلقة غير مختصة بيوم القيامة ولا بما قبل وفاة الشافع في الدنيا(١) .

٢٩. قال الدكتور سليمان دنيا: والشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن أذن له الرحمن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) وقوله تعالى:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٢) .

٣٠. قال الحكيم المتألّه العلّامة الطباطبائي: إنّ الآيات الواردة حول الشفاعة بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عزّ اسمه، وبين ما يعمّمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه.

ثمّ ذكر وجه الجمع بين الآيات والذي سيوافيك توضيحه عند البحث عن الآيات(٣) .

٣١. يقول الأستاذ الشيخ محمد الفقيّ: وقد أعطى الله الشفاعة لنبيه ولسائر

__________________

(١) آلاء الرحمان: ١ / ٦٢.

(٢) محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين: ٢ / ٦٢٨.

(٣) الميزان: ١ / ١٥٦.

١٩١

الأنبياء والمرسلين وعباده الصالحين، وكثير من عباده المؤمنين لأنّه وإن كانت الشفاعة كلّها لله كما قال:( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (١) إلّا أنّه تعالى يجوز أن يتفضّل بها على من اجتباهم من خلقه واصطفاهم من عباده، وكما يجوز أن يعطي من ملكه ما شاء لمن شاء، ولا حرج.

ثم أخذ يستدل على الشفاعة بالآيات والروايات والأشعار المأثورة عن الصحابة(٢) .

٣٢. قال المحقّق الكبير السيد أبو القاسم الخوئي: يستفاد من القرآن الكريم أنّ الله تعالى قد أذن لبعض عباده بالشفاعة إلّا أنّه لم ينوّه بذكرهم عدا الرسول الأكرم فقد قال الله تعالى:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) ـ إلى أن قال ـ: والروايات الواردة عن النبي الأكرم وعن أوصيائه الكرام في هذا الموضوع متواترة(٣) .

هذا نزر من كثير، وغيض من فيض، أتينا به ليكون القارئ على بصيرة من موقف علماء الإسلام ـ من الفريقين ـ من هذه المسألة الهامة، وهي نصوص وتصريحات لا تترك ريباً لمرتاب ولا شكاً لأحد، غير انّ لبعض الكتّاب المصريين الذين تأثّروا بالموجة الوهابية(٤) التي وصلت إليهم في أوائل القرن الرابع عشر وقد دعمتها السياسات الحاكمة في ذلك الزمان، موقفاً آخر يتنافى مع هذا الموقف الإسلامي العام وها نحن نأتي بنص كلامه.

٣٣. قال محمد فريد وجدي في دائرة معارفه: الشفاعة هي السؤال في

__________________

(١) الزمر: ٤٤.

(٢) التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية: ٢٠٦، ط. مصر.

(٣) البيان: ١ / ٣٤٢.

(٤) مع أنّ مؤسس الوهابية لا ينكر أصل الشفاعة وإنّما ينكر جواز طلبها من الشفيع ويقول: إنّه يجوز أن يقال: أللّهمّ شفّع رسول الله في حقي، ولا يجوز أن يقال: اشفع يا رسول الله في حقي، وللبحث مع هؤلاء في هذا الموضوع مقام آخر.

١٩٢

التجاوز عن الذنوب، وفي الاصطلاح الديني سؤال بعض الصالحين من الله التجاوز عن معاقبة بعض المذنبين، وقد أضرت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلّا تحريف تقصّده الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس، وقد جاء الإسلام فقوّم عقائد الأمم من هذه الجهة، فذكر الشفاعة ثم قال:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) وقال تعالى:( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو الله وانّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربّه، وناهيك بهذا بعداً عن الوثنية وقرباً من الديانة الإلهية(١) .

لم يكن المتوقع من مثل عالم بارع قد أفنى عمره في الذب عن الإسلام بتآليفه القيمة أن يتعامل مع الشفاعة بمثل ما تعامل به « فريد وجدي » فإنّ كلامه هذا يكشف عن عدم تدبّره في معنى الشفاعة التي نطق بها القرآن وأثبتتها الأحاديث واختارها العلماء، فإنّك ترى أنّه ينكر الشفاعة في بدء كلامه ويتلقّاها اعتقاداً ضاراً صنعه الكهنة وبثّوه بين الأمّة، حيث قال: وقد أضرّت هذه العقيدة بأكثر الأديان وما هي إلّا تحريف تقصّده الكهان ليكون لهم شأن عند الناس. ولكنه سيعود في ذيل كلامه إلى العقيدة الوهابية في باب طلب الشفاعة الظاهرة في ثبوتها في نفس الأمر، غير أنّه ليس لنا إلّا أن نطلبها من الله سبحانه حيث قال: فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو الله وأنّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربِّه.

وسوف توافيك الآثار التربوية للشفاعة الصحيحة التي كشف عنها القرآن وأيّدها العقل والبرهان، وأنّ ما رآه فريد وجدي عقيدة ضارة فما هي إلّا الشفاعة التي اخترعتها الوثنية أو اليهودية البعيدة عن العقيدة الإسلامية، وليس من

__________________

(١) دائرة معارف القرن الرابع عشر: ٥ / ٤٠٢، مادة شفع.

١٩٣

الصحيح في منطق العقل أن يفسر أصل من أُصول الإسلام ببعض العقائد الدارجة بين الأقوام.

٣٤. وليعلم أنّه ليس الكاتب فريداً في هذا الخلط والخبط بل تبعه معاصره الشيخ الطنطاوي حيث يعترف في تفسيره بأنّ الشفاعة من أُصول الإسلام المسلّمة وانّه لا اختلاف بين المعتزلة والفلاسفة وسائر الفرق الإسلامية في أصل ثبوتها، ولو كان هناك اختلاف فإنّما الاختلاف في مفادها ومرماها، وحيث إنّه لم يتمكن من تحليلها بالمعنى الصحيح الذي يؤيده العقل أخذ يفسّرها بتفسير بعيد عن واقع الشفاعة، وإليك نص كلامه :

إنّ النبي كالشمس المشرقة وهي مشرقة على اليابسة والبحار والآكام والنبات والشجر والأرض السبخة والأرض الطيّبة، وكل من تلك المواضع يأخذ حظه من ضوئها على مقدار استعداده، فهكذا الأمّة التي تتبع نبياً في أطوارها وأحوالها الدينية على حسب أمزجتها وأخلاقها وعوائدها وبيئتها فلا جرم يختلفون في قبوله اختلاف أحوالهم وتكون أحوالهم في الآخرة على مقتضى ذلك الاختلاف إلى أن قال: ـ واعلم أنّ للشفاعة بذوراً ونباتاً وثمراً، فبذورها العلم، ونباتها العمل، وثمرها النجاة في الآخرة، فالأنبياء: علّموا الناس في الدنيا وفيها غرسوا البذور، والناس إذا عملوا بما سمعوا منهم ينالون تلك الثمرة وهي النجاة والارتقاء، فمبادئ الشفاعة العلم وأوسطها العمل ونهايتها الفوز والرقيّ في الآخرة، فالشفاعة تابعة للاقتداء فمن لم يعمل بما أنزل الله وتجافى عن الحق فقد عطّل ما وهب له من بذر الشفاعة(١) .

وقد نسب هذا المقال إلى محي الدين بن العربي، والإمام الغزالي، وسيوافيك بقية كلامه عند البحث عن الإشكالات.

__________________

(١) الجواهر في تفسير القرآن الكريم: ١ / ٦٤ ـ ٦٥، بتلخيص منا.

١٩٤

لو صحّ ما ذكره من المعنى للشفاعة لما كان منافياً للمعنى الآخر الذي ورد في الكتاب وتضافرت به الروايات كما سيجيئ.

ولا يخفى أنّ تفسير الشفاعة بما يتراءى في كلامه وان كان صحيحاً في حدّ ذاته، ويليق أن يسمّى الأوّل بالشفاعة القيادية، والثانية بالشفاعة العملية، غير أنّ هذين المعنيين لا يمتان إلى ما اتفقت عليه الأمّة في معنى الشفاعة بصلة، حيث إنّهم فسروها بالحديث المتواتر عنه من ادّخار شفاعته لأصحاب الكبائر أو للمذنبين من الأمّة، وأين هذا من الشفاعة القيادية التي لا تختص بصنف دون صنف، بل هي فيض إلهي عام شامل لجميع الناس حيث بعث الله سبحانه نبيّه بشيراً ونذيراً للعالمين كافة ؟

وكما أنّ الشفاعة القيادية لا تمّت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة، فهكذا الشفاعة بمعنى العمل بالأحكام الإلهية والوظائف الدينية، فإنّها وإن كانت تنجي الإنسان يوم التناد والعذاب، لكنها غير مربوطة بما هو المصطلح في ذاك الباب.

وبالجملة فإنّ الكاتب لما لم يتوفّق لحل بعض معضلات الباب أخذ يؤوّل الشفاعة إلى المعنيين الآخرين، وليست لهما أية صلة بالمراد من الآيات والروايات الواردة في الباب.

وسيوافيك المعنى الحقيقي للشفاعة بعد سرد الآيات وتفسير بعضها ببعض ولأجل ذلك يجب علينا أن نقدم البحث عن مفاد الآيات، وتفسير بعضها ببعض حتى يرتفع الاختلاف الذي يلوح للقارئ لأوّل وهلة ثم البحث عن معنى الشفاعة ولأجل ذلك أفردنا الفصل التالي.

١٩٥

٢

الشفاعة في القرآن الكريم

قد وردت مادة الشفاعة ـ بصورها المتنوعة ـ ثلاثين مرّة في سور شتى، ووقعت فيها مورداً للنفي تارة، والإثبات أُخرى، هذا وكثرة الورود والبحث عنها ينم عن عناية القرآن بهذا الأصل، سواء في مجال النفي أو في مجال الإثبات.

غير أنّ الاستنتاج الصحيح من الآيات يحتاج إلى جمع الآيات في صعيد واحد، حتى يفسر بعضها ببعض، ويكون البعض قرينة على الأخرى، إذ من الخطأ الواضح أن نقتصر في تفسير الشفاعة وأخواتها بآية واحدة، ونغمض العين عن أُختها التي ربّما يمكن أن تكون قرينة للمراد، وهذا الاسلوب أي البحث عن آية بمفردها مع الغض عن أُختها جرّ الويل والويلات على الباحثين في الأبحاث القرآنية، وأدّى إلى ظهور مذاهب مختلفة في المعارف والعقائد، بحيث نرى أنّ صاحب كل عقيدة يستدل على اتجاهه بآية قرآنية، أو بنص نبويّ، غير أنّه أخطأ في الاعتماد على آية قد جاء توضيحها في آيات أُخرى، وهذا النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « إنّ القرآن يصدق بعضه بعضاً » ويقول أيضاً: « إنّ القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، ولكن نزل أن يصدق بعضه بعضاً » وقال أيضاً: « إنّما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وانّما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه »(١) .

__________________

(١) الدر المنثور: ٢ / ٦.

١٩٦

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض »(١) .

ولأجل ذلك لا مناص من طرح جميع الآيات المرتبطة بالشفاعة والاستنتاج من جميعها جملة واحدة، ولذلك نقول: إنّ الآيات المربوطة بالشفاعة على أصناف يرمي كل صنف إلى هدف خاص، فنقول :

الصنف الأوّل: الآيات النافية للشفاعة

لا نجد من هذا الصنف إلّا آية واحدة تنفي الشفاعة في بادئ الأمر بقول مطلق، وهي قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) .

وهذه الآية بظاهرها تنفي الشفاعة بتاتاً، ولعل ظاهرها هو المستمسك الوحيد لمن اعتقد بأنّ الشفاعة عقيدة اختلقها الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس(٣) .

إنّ منشأ الخطأ في تفسير هذه الآية هو الاقتصار على آية واحدة والغض عمّا ورد في موردها من الآيات الأخر.

ولأجل ذلك لو نظرنا إلى الآية التالية لهذه الآية نجد أنّها تصرّح بوجود الشفاعة عند الله سبحانه إذا كانت مقترنة بإذنه فقال سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (٤) أفبعد هذا التصريح يصح لنا أن نعتقد بنفي الشفاعة

__________________

(١) نهج البلاغة شرح عبده: ٢ / ٣٢ الخطبة ١٤٩.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) لاحظ الفصل السابق: ص ١٩٣.

(٤) البقرة: ٢٥٥.

١٩٧

بتاتاً وننسبها إلى القرآن، ونرمي الاعتقاد بالشفاعة إلى الكهنة ؟ كلا.

ثم إنّ الدليل الواضح على أنّ مرمى الآية هو نفي قسم خاص من الشفاعة لا جميع أقسامها هو قوله سبحانه:( وَلا خُلَّةٌ ) فإنّ الظاهر من هذه الكلمة انقطاع أواصر الرفاقة يوم القيامة، من غير فرق بين المؤمن والكافر، والحال أنّ القرآن يصرح بانقطاعها بين الكفار خاصة حيث يقول سبحانه:( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) (١) فإنّ الظاهر من الاستثناء وإن كان عدم العداوة بين المتقين إلّا أنّ المتبادر من مجموع الآية هو بقاء الرفاقة الدنيوية مضافاً إلى انتفاء العداوة.

قال في الكشاف: تنقطع في ذلك اليوم كل خلّة بين المتخالّين في غير ذات الله، وتنقلب عداوة ومقتاً، إلّا خلّة المتصادقين في الله فإنّها الخلّة الباقية المزدادة قوة إذا رأوا ثواب التحابّ في الله تعالى والتباغض في الله(٢) .

وقال العلّامة الطباطبائي: إنّ من لوازم المخالة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهام أُموره، فإذا كانت لغير وجه الله كان الإعانة على الشقوة الدائمة والعذاب الخالد كما قال تعالى حاكياً عن الظالمين يوم القيامة:( يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً *لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ) (٣) .

وأمّا الأخلاّء من المتقين فإنّ خلّتهم تتأكد وتنفعهم يومئذ.

وفي الخبر النبوي: « إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام وقلّت الأنساب وذهبت الاخوة إلّا الاخوة في الله، وذلك قوله:( الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ ) »(٤) .

__________________

(١) الزخرف: ٦٧.

(٢) الكشاف: ٣ / ١٠٢.

(٣) الفرقان: ٢٨ ـ ٢٩.

(٤) الميزان: ١٨ / ١٢٠ ـ ١٢١.

١٩٨

وعلى الجملة: إنّ انقلاب المخالة إلى العداوة لأجل ما جاء في قوله سبحانه:( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ) فهذه العلّة منتفية في حق المتقين، فأواصر الرفاقة باقية في يوم القيامة.

وعلى ذلك فكما أنّ المنفي هو قسم خاص من المخالة دون مطلقها، فهكذا الشفاعة، فالمنفي بحكم السياق قسم خاص من الشفاعة.

أضف إلى ذلك أنّ الظاهر هو نفي الشفاعة في حق الكفّار بدليل ما ورد في ذيل الآية حيث قال:( وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أفبعد هذه الوجوه الثلاثة يصح لنا أن نجعل الآية دليلاً على انتفاء الشفاعة من أصلها يوم القيامة ؟ كلا.

الصنف الثاني: ما يفنّد عقيدة اليهود في الشفاعة

هذا الصنف من الآيات ـ الذي ستوافيك نصوصه ـ يهدف إلى نفي عقيدة اليهود في الشفاعة حيث كان لهم في هذا المجال عقيدة خاصة كشفت عنها الآيات القرآنية، وكانوا يعتقدون بأنّهم الشعب المختار، وهم أبناء الله وأحباؤه، قال سبحانه حاكياً عنهم:( وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ ) (١) .

كانوا يعتقدون بأنّ الأواصر القومية القائمة بينهم وبين أنبيائهم هي التي تنجيهم وتدخلهم الجنة ويكفي في ذلك مجرّد الانتماء القومي والنسبي إلى أنبيائهم، حيث قالوا:( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ ) (٢) .

وقد بلغت مغالاتهم في هذا المجال إلى درجة أنّهم زعموا أنّهم لا تمسهم النار إلّا أياماً معدودة، قال سبحانه حاكياً عنهم:( لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يرد على تلك المزعمة في ذيل تلك الآية

__________________

(١) المائدة: ١٨.

(٢) البقرة: ١١١.

١٩٩

بقوله:( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً ) (١) .

كما يرد عليهم في آية أُخرى بقوله:( تِلْكَ ( أي عدم دخول الجنة إلّا من كان هوداً أو نصارى )أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢) .

فهؤلاء كانوا يعتقدون بأنّ أنبياءهم وأسلافهم سوف يشفعون لهم وينجونهم من العذاب سواء أكانوا عاملين بشريعتهم أم عاصين، وأنّ مجرد الانتماء والانتساب سوف يكفيهم في ذلك المجال.

كانت هذه عقيدتهم في باب الشفاعة، وفي هذا المجال وردت آيات تندد بعقيدتهم وترفض وتفند ما يذهبون إليه قائلة:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ *وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٣) .

وأنت ترى أن وحدة السياق تقضي بأنّ المراد من نفي قبول الشفاعة هو الشفاعة الخاطئة التي كانت تعتقدها اليهود في ذلك الزمان من دون أن يشترطوا في الشفيع والمشفوع له شرطاً أو أمراً، ونظير ذلك قوله سبحانه حيث يقول بعد قوله:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ) ،( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (٤) .

ولأجل ذلك لا يمكن أن يُتمسَّك بهاتين الآيتين لنفي أصل الشفاعة في يوم القيامة.

__________________

(١) البقرة: ٨٠.

(٢) البقرة: ١١١ ـ ١١٢.

(٣) البقرة: ٤٧ ـ ٤٨.

(٤) البقرة: ١٢٢ ـ ١٢٣.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627