مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228384 / تحميل: 6446
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

تَخْلُ صفحة فيه من ذكر ابن الراونديّ، ومقدّمته النفيسة بقلم نيبرج(١) ، والفهرست ٤-٥ من ملحق طبعة مصر، ومروج الذهب ٧: ٢٣٧ من الطبعة الأجنبيّة، ووفيات الأعيان ١: ٢٨ طبعة طهران، والبداية والنّهاية، والمنتظم، وتلبيس إبليس ٧٢ و١١٨، وتبصرة العوامّ ٣٩٨ و٤٤٠، ومواضع متعدّدة من مقالات الإسلاميّين، وشرح نهج البلاغة، والفَرق بين الفِرق، والملل والنحل، والفِصَل في الملل والنحل، وكتاب الشافي في الإمامة، والفصول، وروضات الجنّات ٥٤، ورسالة ابن القارح في مجموعة رسائل البلغاء ٢١٠ طبعة مصر، وكنز الفوائد ٥١ وغيرها.

١٣ - أبو جعفر بن قبّة الرازي

(أوائل القرن الرابع)

أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازيّ من كتبار متكلّمي الشيعة، كان في بادئ أمره من المعتزلة، ثمّ صَدَف عن الاعتزال وركن إلى المذهب الشيعيّ الإماميّ، وكان أحد تلامذة أبي القاسم الكعبيّ البلخيّ، ثمّ أصبح من مخالفيه، وصنّف عدداً من الكتب في الردّ على الزيديّة وإثبات الإمامة، أشهرها كتاب في الإمامة بعنوان الإنصاف، وهو الكتاب الذي نقل منه بعض العلماء كالشيخ الصدوق في كمال الدين، والشريف المرتضى في الشافي والفصول،وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، وغيرهم.

وينقل أبو الحسين محمّد بن بشر السوسنجرديّ تلميذ أبي سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ أنّه زار مرقد الإمام الرضاعليه‌السلام في طوس، ثمّ ذهب إلى أبي القاسم الكعبيّ في بلخ، وكان معه كتاب الإنصاف، فقرأه الكعبيّ وصنّف كتاباً في نقضه بعنوان المُستَرشَد، ثمّ عاد إلى الريّ ومعه الكتاب المذكور، فعرضه على أبي جعفر،

____________________

١ - H. S. Nyberg.

١٢١

فصنّف كتاباً في تفنيده عنوانه المُستَثبَت، ولمّا أرجع هذا الكتاب إلى الكعبيّ ردّ عليه بكتاب آخر تحت نقض المُستَثَبت، وعندما عاد إلى الريّ مرّة أُخرى وجد أبا جعفر قد مات(١) ، فوفاته كانت قبل وفاة الكعبيّ، أي: قبل سنة ٣١٩هـ.

للاطّلاع على ترجمته، يُنظَر: رجال الطوسيّ ٢٩٧، رجال النجاشيّ ٢٦٥-٢٦٦، الفهرست ١٧٦، كمال الدين ٣١، ٣٦، الشافي ١٠٠، الفصول (مخطوط)، شرح نهج البلاغة ١: ٦٩، وغيرها.

____________________

١ - رجال النجاشيّ: ٢٦٦.

١٢٢

الفصل السادس

أبو سهل إسماعيل بن عليّ

(٢٣٧-٣١١هـ)

أبو سهل إسماعيل بن عليّ بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت، أحد كبار البيت النوبختيّ بل من أشهرهم، كان من رؤساء الشيعة العظام ومن مشاهير متكلّميهم في عصره المتزامن مع الغيبة الصغرى، ويعدّ أحد الشعراء والمصنّفين والمشجّعين على الأدب والشعر، وكان صدراً في الأعمال الإداريّة إذ تَسلّم منصباً قريباً من منصب الوزارة في ديوان الحكومة، وألّف كتباً كثيرة في دعم المذهب الشيعيّ الإماميّ ودحض كتب المناوئين للشيعة.

وهو أحد النوبختيّين الذين نجد معلومات مفصّلة نسبيّاً عن سيرتهم، فقد اهتمّ المؤرّخون القدماء وعلماء الأخبار والرجال بترجمته، ونقل أقواله، وتدوين عناوين كتبه بسبب منصبه المهمّ وكثرة مؤلّفاته.

وعلى الرغم من أنّ أبا سهل كان شاعراً وكاتباً بليغاً(١) ، وكانت له مناصب إداريّة مهمّة في ديوان الحكومة، بَيْد أنّ شهرته تعود إلى اشتغاله في علم الكلام،

____________________

١ - تاريخ الإسلام للذهبيّ fol. ٦٠ b. نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس.

١٢٣

واحتجاجه على مناوئي الإماميّة، ومحاولته إدخال الإمامة في أُصول الدين. وأكثر كتبه ترتبط بهذه الموضوعات، وإذا كان كلام البُحتريّ الشاعر عنه خالياً من الأغراض، فإنّ شعره ليس فيه رقّة، بل هو يشبه مضغ الماء، ليس له طعم ولا معنى، على ما ذكره هذا الشاعر(١) ، ولم يَبقَ أثر من أعماله الإدارية له أهمية تفضي إلى ذيوع صيته.

١ - الحياة الإداريّة لأبي سهل النوبختيّ

إنّ ما في أيدينا من المعلومات عن الحياة الإداريّة لأبي سهل يعود إلى الأشهر الستّة الأخيرة من عمره البالغ أربعاً وسبعين سنة، ومن الثابت أنّه كان يتصدّر بعض الأعمال في الجهاز الحاكم قبل هذا التاريخ، أو كان يُكلّف بإنجاز بعضها في الأمصار مبعوثاً من قبل رؤساء الدواوين، بخاصّة في عهد المقتدر (٢٩٥-٣٢٠هـ) وما رافقه من تبدّلات(٢) ، ذلك أنّ المقتدر وآل الفرات الذين كانت في أيديهم الوزارة والمناصب الإداريّة الأُخرى، كانوا حماة الشيعة المائلين إليهم، وأبو سهل يومئذ رئيس الشيعة في بغداد، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى ذكر بعض المؤلّفين أنّ له منصباً في الشؤون الدنيويّة وأنّه كان بين الكتّاب تالياً منصب الوزراء(٣) . وهذا يدلّ على أنّ أبا سهل كان يتمتّع بنفوذ كبير في البلاط العبّاسيّ خلال الشطر الأوّل من حكومة المقتدر ووزارات ابن الفرات، وكان الإماميّة يعيشون بعزّ يومذاك بتأثير أبي سهل إسماعيل، وكان رجال من آل نوبخت ذوي رئاسة وقدرة في بغداد، كأبي

____________________

١ - الأغاني ١٨: ١٧٠.

٢ - ممّا يدعم ذلك وجوده في الأهواز ومناظراته فيها مع أبي علي الجبّائيّ (٢٣٥-٣٠٣هـ) قبل سنة ٣٠٣هـ التي توفّي فيها أبو عليّ (الفهرست للطوسيّ ٥٨ ورجال النجاشيّ ٢٣)، وكذلك مناظرته مع الحلاّج في الأهواز قبل سنة ٣٠١هـ وبُعده عن بغداد.

٣ - رجال النجاشيّ ٢٣.

١٢٤

الحسين علىّ بن عبّاس (٢٤٤-٣٢٤هـ)، وأبي القاسم الحسين بن روح المتوفّى سنة ٣٢٦هـ.

يعدّ عهد المقتدر من عهود النكسة في الحكم العبّاسيّ؛ لأنّ الأُمور في عصر هذا الحاكم الضعيف، الشهوانيّ، الخائر الإرادة كانت تُدار من قبل نساء القصر وعمّال الديوان والكتّاب والغلمان وأُمراء الجيش، ولمّا كان هؤلاء من المغرضين الطمّاعين اللاهثين وراء المناصب، فإنّهم كانوا يَسْعَون في تحطيم بعضهم بعضاً.

وممّا كان يزيد التنافس بينهم موضوع الخلاف بين الشيعة والسنّة، ذلك أنّ المقتدر كان كالمأمون يُبدي ميلاً إلى بني هاشم وآل عليّ، وأنّ آل الفرات الذين تسلّموا الوزارة والأعمال الديوانيّة المهمّة الأُخرى في عهده مراراً كانوا يدعمون الشيعة بكلّ جدّ، ويسندون الوظائف إلى بني العبّاس وآل أبي طالب. وسنرى لا حقاً أنّ عدد المخالفين لأهل السنّة بعامّة، والإماميّة بخاصّة كان أخذاً بالازدياد في ظلّ دعم آل الفرات، وعلى هذا المنوال نجد أنّ خصماء مذهب آل الفرات من السنّة كانوا يتعاملون مع الشيعة بعنف مستغلّين ضعف السلطان العبّاسيّ عندما كانوا يتقلّدون بعض المناصب، وأهمّ هذه الصراعات السياسيّة والمذهبيّة الصراع الذي كان قائماً بين آل الجرّاح وآل الفرات، حيث كان عملاء السلطان، وهو نفسه، وأنصار الأُسرتين المذكورتين الطامحون إلى الوزارة يوقدون ناره تشفّياً وطمعاً في المال، وكانوا يجرحون كرامة من قلّدهم المناصب ويسلبون أموالهم، ثمّ يستميلونهم، وهكذا تتجدّد اللعبة نفسها.

واستوزر المقتدر أبا الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات في ٢١ ربيع الأوّل سنة ٢٩٦هـ، بَيْد أنّه حبسه بعد ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً، أي: في الرابع من ذي الحجّة سنة ٢٩٩هـ، وصادر أمواله وأموال أعوانه وهتك حرمته، واختار أبا عليّ محمّد بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان للوزارة، ولما لم يكن هذا الوزير بصيراً، وكانت الأمور قد اضطربت في عهده، قرّر المقتدر استيزار

١٢٥

أبي الحسن بن الفرات ثانية في العاشر من المحرّم سنة ٣٠١هـ، لكنّ بعض الأُمراء حالوا دون هذا الأمر، فاستوزر أبا الحسن عليّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح وقبض على الخاقانيّ، وآخَذَه، وصادر أمواله.

واستمرّت وزارة عليّ بن عيسى حتّى سنة ٣٠٤هـ، ولكن لمّا كانت الأوضاع غير قابلة للإصلاح بسهولة بسبب الفساد الإداريّ، ونفوذ الأمراء، وعمّال الدواوين، وطمع قادة الجيش، وعدم لياقة السلطان العبّاسيّ، فإنّ المقتدر كان يستشير أبا الحسن بن الفرات دائماً مع أنّه كان قد حبسه، ولمّا أحسّ عليّ بن عيسى بغلبة أنصار ابن الفرات اعتزل الوزارة، فاستوزر المقتدر أبا الحسن بن الفرات مرّة أُخرى في الثامن من ذي الحجّة سنة ٣٠٤هـ، فسلك نفس المسلك الذي كان عليه أسلافه من حبس، وتكبيل، ومصادرة للأموال، وهكذا تعامل مع أبي الحسن عليّ بن عيسى بن الجرّاح بأمر المقتدر.

ولم تَدُم وزارة ابن الفرات الثانية طويلاً إذ خوّل المقتدر حامدَ بن العبّاس هذا المنصب في جمادى الآخرة سنة ٣٠٦هـ، بعد مضيّ سنة وخمسة أشهر وتسعة عشر يوماً، ولم يكن الوزير الجديد مطّلعاً على شؤون الوزارة فاختار أبا الحسن عليّ بن عيسى نائباً له، فأضحت شؤون الوزارة في الواقع كلّها بيده، واكتفى حامد باسم الوزارة وتولّي خراج واسط وضرائبها، إذ كان قد ضمنها.

وكان أبو محمّد حامد بن العبّاس لئيماً سفيهاً متعصّباً حاقداً، وارتكب أنواع الرذائل عند مؤاخذة أبي الحسن بن الفرات وبطانته بمؤازرة عليّ بن عيسى. كما أنّ بطانته نالت من أبي الحسن بن الفرات وآذته وأرغمته على دفع مال كثير، وعذّبت ولده مُحسّناً وأعوانه بضربهم بالعصا، وحامد بن العبّاس هو الذي صلب الحسين بن منصور الحلاّج في بغداد سنة ٣٠٩هـ، وهو الذي سجن النائب الثالث للإمام المهديّعليه‌السلام أبا القاسم الحسين بن روح النوبختيّ في دار الخلافة في أواخر وزارته.

١٢٦

وقرّر المقتدر في ربيع الآخر سنة ٣١١هـ عزل حامد بن العبّاس وعليّ بن عيسى من الوزارة ورئاسة الدواوين، وكانا من حماة السنّة ومن خصوم مخالفيهم، وخلع على أبي الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات، وعيّنه وزيراً للمرّة الثالثة.

وأقرّ ابن الفرات حامد بن العبّاس على ما كان عليه في وزارة الخاقانيّ من تولّي خراج واسط وضرائبها، حيث كان ذلك على عاتقه وبضمانه، ولكنّ الوزير سرعان ما أجبره أعداء حامد على مطالبته بالمال الذي كان في ذمّته، فاستجب ابن الفرات الذي كان قد استُوزِر للمرّة الثالثة في الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة ٣١١هـ، وكلّف الإماميّة في بغداد الذي كان له منصب في الديوان أيضاً بالتوجّه إلى واسط ومطالبة حامد بالحسابات الماليّة التي كانت في ذمّته للديوان، وكان ذلك بعد مضيّ فترة قصيرة على تسلّمه مقاليد الوزارة.

وتصرّف أبو سهل مع حامد بن العبّاس في هذا المجال على طريقة كتّاب الدواوين، ولم يخرج عن أُسلوب الرفق والمصانعة، أمّا البزوفريّ فقد تعامل معه بعنف، وطالبه مُغلِظا مقرّعاً، لكنّه لم يستطع أن يأخذ منه شيئاً نتيجة للنفوذ الذي كان يتمتّع به في واسط، فاضطرّ المقتدر إلى إيفاد عدد من غلمانه وجنوده من أجل دعم البزوفريّ وأبي سهل النوبختيّ، لكنّ حامد بن العبّاس فرّ من واسط وقد غيّر هيئته إثر تحذير المقتدر إيّاه فيمّم بغداد، بَيْد أنّ المقتدر قبض عليه وسلّمه أبا الحسن بن الفرات، فتولّى تعذيبه ابن أبي الحسن - وهو محسّن المعروف بقساوته وظلمه وسوء سيرته، والمشهور بالخبيث بن الطيّب - وأرسله إلى واسط مع بعض أعوانه من أجل محاسبته، ثمّ أمر بسمّه في رمضان سنة ٣١١هـ(١) .

ولما لم تتمّ مهمّة محمّد بن عليّ البزوفريّ في واسط حتّى تاريخ وفاة حامد بن

____________________

١ - تاريخ الوزراء ٣٤-٣٥. وتتمّة تاريخ الطبريّ f.٢٤ b (نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس).

١٢٧

العبّاس، وكان أبو سهل النوبختيّ معه كما في السابق على الأعمّ الأغلب فإنّنا نحتمل أنّ أبا سهل كان مشغولاً في أداء مهمّته بواسط حتّى تاريخ وفاة حامد (رمضان سنة ٣١١هـ)، ثمّ وافاه الأجل بعده بقليل، في شوّال من نفس السنة، وهو ابن أربع وسبعين عاماً(١) .

ولعلّ رفق أبي سهل النوبختيّ ومصانعته حامدَ بن العبّاس المتعصّب المعترف بعدائه للرافضة وابن الفرات (صديق أبي سهل والإماميّة وحاميهما) يعودان إلى أسباب سياسيّة؛ لأنّ أبا سهل - كما سنرى - ناهَضَ دعوة الحسين بن منصور الحلاّج بشدّة سواء في وزارة ابن الفرات أم في وزارة حامد بن العبّاس، وعارض هذا الداعية الجديد الذي كان يهدّد الأساس الذي يقوم عليه الكيان الشيعيّ، وكاد أن يجتثّ جذور نفوذه في البلاط. ولم يَدَعْ دعوته تنتظم في بغداد والبلاط ممّا أفضى إلى القبض على الحلاّج، وقتله على يد حامد بن العبّاس سنة ٣٠٩، ويُحتَمل بعامّة أنّ أبا سهل النوبختيّ كان متّفقاً مع حامد بن العبّاس في قتل الحلاّج، ولعلّه كان من محرّضيه على ذلك، وهذه السابقة في وحدة الاتّجاه السياسيّ هي التي دفعت أبا سهل إلى رعاية الحقوق القديمة عند قيامه بمهمّته في واسط.

٢ - حياته العلميّة والأدبيّة

تزامنت حياة أبي سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ مع برهة من أيّام الغيبة الصغرى من جهة، ومع وقت بلغ الشيعة فيه مستوى من النُّضج بفعل جهاد الطبقة الأُولى من متكلّميهم، ومساعي أنصارهم العاملين في البلاط الحاكم من جهة أُخرى، وعلى الرغم من جميع ضروب المعارضة السياسيّة والدينيّة التي أبدتها الفرق الأُخرى واحتجاجات المعتزلة وردودهم، فقد قام المذهب الشيعيّ على

____________________

١ - تاريخ الإسلام للذهبيّ f.٦٠ b (نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس).

١٢٨

سُوقه، ودوّن رجاله أُسسه المذهبيّة والكلاميّة، واستقرّ على قواعد متّفق عليها عند الشيعة الإماميّة كلّهم.

أمّا مخالفو الإماميّة فإنّهم كانوا ما يزالون يتمتّعون بقدرة تامّة آنذاك، ولم يَرعَووا عن انتقاد عقائد ومقالات الإماميّة ونقضها، يضاف إلى ذلك أنّ الإماميّة أنفسهم تعرّضوا إلى محنة كبيرة في عصر الغيبة الصُّغرى بسبب بروز الخلافات الكثيرة وظهور عدد من الفرق بين الشيعة القطعيّة، فتدخّل أبو سهل الذي انتهت إليه رئاسة الفرقة المذكورة في بغداد يومئذٍ، وكانت له شوكته ومنزلته العلميّة، يعاضده سائر أعضاء الأُسرة النوبختيّة وأفراد من الأُسر الأُخرى، وقام بإزالة التفرقة التي طرأت على الإماميّة، وصدّ مخالفيهم من جهة، ومن جهة أُخرى استعمل علم الكلام، وبذل جهوداً علميّة، فأفلح في الحصول على نتائج كبيرة، وبذل خدمات جُلّى في تثبيت الأُصول الدينيّة للمذهب الشيعيّ الاثني عَشَريّ والمحافظة عليها، فخلد ذكره في تاريخ هذا المذهب، وأصبح جديراً بلقب (شيخ المتكلّمين).

ومع أنّ أبا سهل النوبختيّ كان تلميذ المتكلّمين الأُوّل من الشيعة في علم الكلام، وأنّه دافع عن مسائل كانت مطروحة قبله، ثمّ دوّنها في كتبه بعد تدقيق كثير، لكنّه قام بعملين من أجل اكتمال علم الكلام على مذهب الإماميّة، كما يُستشفّ ذلك من قائمة كتبه وإشارات أُخرى غيرها، وهذان العملان أهمّ الأعمال، وهما لافتان للنظر قابلان للتدوين من كلّ جهة:

١ - دافع أبو سهل عن العقائد التي كان قد دوّنها عدد من متكلّميّ الإماميّة قبله، بعد أن حَظِيت بتأييد أئمّة الهدىعليهم‌السلام وقبول جمهور الإماميّة، يضاف إلى ذلك أنهّ احتذى - أكثر من ذي قبل - أصول الاعتزال في تقرير القضايا الكلاميّة وفقاً لعقيدة الإماميّة، بخاصّة أنّه خلّص الفرقة القطعيّة من بعض التُّهم الّتي رُمي بها عدد من متكلّمي الإماميّة الأُوَل في باب الرّؤية والتّشبيه والتجسيم وغيرها، وأعلن عن نفسه - كالمعتزلة - مناصراً لاستحالة رؤية الله تعالى، و(حدوث العالم)، ومخالفاً

١٢٩

للمجبّرة في باب (المخلوق)، و(الاستطاعة)، كما أنّه سلك سبيل المعتزلة في باب (الإنسان)، والردّ على (أصحاب الصّفات)، ومنذ ذلك الوقت تقارب المذهبان المعتزليّ والإماميّ أكثر من السابق، وبثّ تلاميذ أبي سهل تلك العقائد من بعده من الإماميّة دون تغيير كبير.

٢ - نلحظ في مسألة الإمامة التي كانت من أهمّ المسائل الخلافيّة بين الفرق الإسلاميّة أنّ متكلّمي الشيعة قبل أبي سهل - كما رأينا - قد تحدّثوا عن موضوع النصّ الجليّ والخفيّ، وأثبتوا خلافة الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بلا فصل كما أثبتوا أحقّيّة أولاده في الإمامة بالأدلّة السمعيّة والنقليّة، من خلال المقالات أو الكتب التي صنّفوها، بَيْد أنّ أبا سهل النوبختيّ واثنين من معاصريه هما ابن أُخته أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختيّ، وأبو الأحوَص داود بن أسد البصريّ(١) كانوا أوّل من استخدم الأدلّة العقليّة في إثبات وجوب الإمامة وبيان أوصاف الإمام تبعاً لأبي عيسى الورّاق وابن الراونديّ، وإذا كان قد استظهر بالأدلّة السمعيّة فمن أجل تأييد الأدلّة العقليّة والتصرّف في الاستدلال، وكان الشريف المرتضى يقتني كتب أبي سهل وأبي محمّد النوبختيّ، فكتب في ردّه على القاضي عبد الجبّار المعتزليّ قائلاً: (... وهذه كتب أبي محمّد وأبي سهل رحمهما الله في الإمامة تشهد بما ذكرناه، وتتضمّن نصرة جميع ما ذكره أبو عيسى الورّاق، وابن الراونديّ في كتبهما في الإمامة، بل قد اعتمدا على أكثر ما ذكراه من الأدلّة، وسلكا في نصرة أُصول الإمامة تلك الطرق بعينها، ومَن خَفِي عليه ما ذكرناه من قولهم ظالم لنفسه بالتعرّض للكلام في الإمامة(٢» .

وكان لاحتجاج الورّاق وابن الراونديّ وأبي الأحوص وأبي محمّد وأبي سهل

____________________

١ - انظر ما ذكرناه عن أبي الأحوص في هذا الكتاب.

٢ - الشافي في الإمامة ١٤-١٥.

١٣٠

في إثبات وجوب الإمامة وتقرير صفات الإمام بالأدلّة العقليّة دور في جعل الإمامة من أُصول الدين عند الإماميّة مَثَلها مَثَل التَوحيد، والعدل، والنبوّة، وإدخالها في المباحث الكلاميّة، وأبو سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ هو الذي ثبّت ذلك وجعله قطعيّاً، وجمع الأدلّة والاحتجاجات التي عرضها السبّاقون في هذا المجال، وصيّر مسألة الإمامة تابعة للنبوّة من المسائل الكلاميّة لمذهب الإماميّة(١) . وصنّف أبو سهل - كما سيأتي لاحقاً - في موضوع الإمامة كتباً عديدة، ووقف عمره على الدفاع عن عقائد الإماميّة و ردّ الغلاة والواقفة وأهل السنَّة، ويمكن القول: إنّ كتبه وآراءه في موضوع الإمامة قد بزّت جميع مؤلّفات المتكلّمين الذين سبقوه، وأصبحت مرجعاً للمتكلّمين الذي جاؤوا بعده، وهذا من بركات الطلاّب الكثيرين الذين تربّوا على يده ونشروا كتبه وعقائده، إضافة إلى ما كان له من منزلة علميّة ونفوذ واعتبار وشوكة.

وكان أبو سهل من الأُدباء والشعراء أيضاً، مضافاً إلى مكانته السياسيّة والعلميّة، وكان معاشراً لاثنين من فحول شعراء العرب هما البحتريّ (٢٠٦-٢٨٣هـ)، وابن الروميّ (٢٢١-٢٨٣هـ)، علماً أنّنا نقلنا سابقاً رأي البحتريّ في شاعريّة أبي سهل، وكان البحتريّ مادحاً لأبي سهل وابنه أبي يعقوب إسحاق (المقتول سنة ٣٢٢هـ )، وآخرين من آل نوبخت، وله قصائد في الثناء عليهم، كنّا قد نقلنا طرفاً منها في فصول متقدّمة.

وكان الشاعر الشيعيّ المشهور عليّ بن العبّاس بن جريج الروميّ ربيب نعمة آل نوبخت، بخاصّة أبي سهل وأخيه أبي جعفر محمّد، وله معهم أخبار أشار إليها المسعوديّ باختصار(٢) . منها أنّ ابن الروميّ نظم مرّةً مقطوعة في مدح آل نوبخت ذكر فيها أنّهم اعلم الناس بالنجوم، فشكره أبو سهل بن عليّ في مقطوعة أُخرى وقال:

____________________

١ - نخبة المقال ١٣٢.

٢ - مروج الذهب ٨: ٢٣٣ (الطبعة الأجنبيّة).

١٣١

إنّ آل نوبخت عاجزون عن نظم جواب لشعر ابن الروميّ بما فيه من ماء ورواء(١) .

يضاف إلى ذلك أنّ أبا سهل كان معاشراً لكثير من العلماء والمتكلّمين والشعراء والأُدباء المعاصرين له، وكانت له مراسلات شعريّة، وقرأ عليه الأدبَ جماعة من الأُدباء ورواة الشعر، ونلحظ في كتب الرجال والتاريخ ذكراً لمجالسه مع أبي علي الجُبّائيّ في الأهواز، ومع الحكيم الرياضيّ المعروف ثابت بن قرّة، كما نقرأ فيها قصيدة أبي الحسين عليّ بن العبّاس النوبختيّ (المتوفّى سنة ٣٢٤هـ) في مدحه، وسنأتي على ذلك كلّه في موضعه.

ونزيد على ما مرّ أنّ أبا سهل نفسه كان من رواة الأشعار، وقد رويَ عنه قسم من أخبار أبي نواس(٢) ، وكان له تلاميذ كثر أيضاً كلّهم من الكتّاب والشعراء والمتكلّمين المعروفين، أخذوا منه الأدب والشعر والكلام، وتلمذوا له في هذه العلوم.

٣ - تلاميذه

كان لأبي سهل عدد من التلاميذ في الكلام والأدب، قد بثّوا آراء أُستاذهم بين الإماميّة وطلاّب العلم والأدب، وذكرت كتب الأدب والتاريخ أسماء ستّة منهم على النحو الآتي:

١ -عليّ بن إسماعيل ولده: أخذ العلم والأدب عن أبيه(٣) ، ودرس أيضاً عند العالم النحويّ اللغويّ الشهير أبي العبّاس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب (٢٠٠-٢٩١هـ)، وكنّاه الخطيب البغداديّ أبا الحسين تارةً، وأبا الحسن تارة أُخرى.

____________________

١ - المقطوعتان كلتاهما في ديوان ابن الروميّ ١: ١٢٢-١٢٣ (طبعة مصر، سنة ١٩٢٧م).

٢ - الجزء الثاني من كتاب أخبار أبي نواس (مخطوط).

٣ - تاريخ الإسلام الذهبيّ، fol. ٦٠ b، نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس.

١٣٢

وكان يروي الشعر عن أبيه أبي سهل، وعن ثعلب، وسمع أبو محمّد الحسن بن الحسين بن عليّ بن العبّاس بن إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت (٣٢٠-٤٠٢هـ) منه بعض أشعار ثعلب ودوّنها وروى الخطيب البغداديّ بواسطةٍ واحدة مقطوعةً شعريّة لثعلب عن أبي محمّد النوبختيّ الذي ستأتي ترجمته، وكان أبو محمّد قد أخذها من عليّ بن إسماعيل النوبختيّ(١) .

٢ -أبو الحسين عليّ بن عبد الله بن وصيف: الناشئ الأصغر (٢٧١-٣٦٥هـ)(٢) الشاعر والمتكلّم المعروف الذي كان من مشاهر المدّاحين لأهل البيت الأطهارعليهم‌السلام ، ومن مصنّفي الشيعة المعروفين. وكان تلميذ أبي سهل النوبختيّ في الكلام(٣) ، وألّف كتاباً في الإمامة(٤) .

وكان المترجَم له أُستاذ الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان وشيخه في الرواية(٥) ، ويُعدّ الشيخ المفيد تلميذاً لأبي سهل النوبختيّ عن طريقين: الأوّل: تلمذته للناشئ الأصغر، والثاني: تعلّمه على أبي الجيش مظفّر بن محمّد البلخيّ (م٣٦٧هـ)(٦) .

٣ -أبو الحسن محمّد بن بشر السوسنجرد يّ: صاحب كتاب الإنفاذ في الإمامة(٧) .

____________________

١ - تاريخ بغداد ١١: ٣٤٧.

٢ - أو ٣٦٦.

٣ - وفيات الأعيان ١: ٣٨٩.

٤ - فهرست الطوسيّ ٢٣٣؛ رجال النجاشيّ ١٩٣.

٥ - فهرست الطوسيّ ٢٣٣.

٦ - الناشئ الأصغر في مقابل الناشئ الأكبر، وهو أبو العبّاس عبد الله بن محمّد الملقّب بابن شرشير، شاعر ومتكلّم مشهور من أهل الأنبار، توفّي سنة ٢٩٣هـ، وتعود شهرته غالباً إلى مخالفته أهلَ المنطق والشعراء وعلماء العَروض، وإنكاره عموم المعاني المسلّمة عندهم، وله كتاب في نقض المنطق، ونظم قصيدة نونيّة في أربعة آلاف بيت تقريباً ذكر فيها أهل الآراء والنحل والمذاهب والملل، (للاطّلاع على ترجمته، انظر: مروج الذهب ٢: ٢٦٦ طبعة مصر، الفِصَل ٤: ١٩٤؛ تاريخ بغداد ١٠: ٩٢-٩٣).

٧ - انظر: ص١١٥ من هذا الكتاب، والفهرست ١٧٧، ورجال النجاشيّ ٢٦٦.

١٣٣

٤ -أبو عليّ الحسين بن القاسم الكوكبيّ: الكاتب (المتوفّى في ربيع الأوّل سنة ٣٢٧هـ)(١) .

٥ -أبو الجيش مظفّر بن محمّد بن أحمد البلخيّ: (المتوفّى سنة ٣٦٧هـ) أُستاذ الشيخ المفيد، له كتاب في الإمامة(٢) .

٦ -أبو بكر محمّد بن يحيى الصُّوليّ: (المتوفّى سنة ٣٣٥هـ) الكاتب والأديب المشهور(٣) .

وكان جميع المتكلّمين الكبار من الإماميّة في القرن الرابع والخامس كالشيخ المفيد، والنجاشيّ، والشريف المرتضى، والشيخ الطوسيّ، وغيرهم تلاميذ أبي سهل النوبختيّ بواسطةٍ واحدة أو بواسطتين؛ لذلك نجد أنّ آراءهم في موضوع الإمامة وغيره من المسائل الكلاميّة تُشبه إلى حدٍّ ما آراء أبي سهل التي شرحها ودوّنها في كتبه العديدة.

٤ - أبو سهل النوبختيّ وموضوع الغَيبة

ولد أبو سهل النوبختيّ سنة ٢٣٧هـ في عصر الإمام العاشر أبي الحسن عليّ بن محمّد الهادي (٢٢٠-٢٥٤هـ)، وعندما توفّي الإمام الحادي عشر أبو محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ سنة ٢٦٠هـ، كان له من العمر ثلاث وعشرون سنة، وكانت وفاة أبي سهل سنة ٣١١هـ، وهو ابن أربع وسبعين، أمضى منها إحدى وخمسين سنة من عمره في أيّام الغيبة الصُّغرى، وصادفت وفاته في أيّام سفارة النائب الثالث الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح النوبختيّ، وهما من بيت واحد.

____________________

١ - تاريخ الإسلام fol. ٦٠ b، نسخة المكتبة الوطنيّة بباريس، وتاريخ بغداد ٨: ٨٧.

٢ - الفهرست ١٧٨، رجال النجاشيّ ٢٩٩؛ روضات الجنّات ٣١.

٣ - تاريخ الإسلام fol. ٦٠ b.

١٣٤

وتعدّ الفترة التي أمضاها أبو سهل في عصر الغيبة الصغرى - وهي إحدى وخمسون سنة كانت له في الأيام الأخيرةِ منها الرئاسة على الإماميّة الاثني عشريّة، ويكاد يكون هو الموجّه لهذه الطائفة هو وسائر أفراد البيت النوبختيّ - من أشدّ الفترات توتّراً بالنسبة إلى الطائفة المذكورة، ذلك أنّ أعداءها من جانب، والسلطان العبّاسيّ من جانب آخر قد بذلوا قصارى جهودهم من أجل تقويض الكيان الشيعيّ، ولم يدّخروا وسعاً في إذاقة الشيعة شتّى صنوف الأذى والعذاب، والذي أثارهم أكثر في هذه المرحلة هو حادث وفاة الإمام الحادي عشرعليه‌السلام واختفاء ولده، وهذا الأمر لم يُجرّئ مناوئي الشيعة على معارضتهم فحسب، بل ترك المؤمنين بهذا المذهب يموجون في قلق وحيرة عجيبة، فبرز الخلاف بين صفوفهم وبلغ بهم مبلغاً أنّهم صاروا أربع عشرة فرقة يكفّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، وكاد الكيان الشيعيّ الذي كانت أركانه قد توطّدت بجهود بذلها رجاله على امتداد السنين يتقوّض بفعل تلك الخلافات، ومضافاً إلى مكائد الأعداء، وإقبال الدنيا على مناوئي هذه الفرقة وعلى السلطان العبّاسيّ الذي سئم من تحكّم الكتّاب والعاملين الفرس الشيعة في الجهاز الحكوميّ، ونفد صبره من طعن رؤساء الإماميّة ولومهم المتواتر، وكان يفكّر بعموم الوسائل والخطط لإنقاذ نفسه من هذه الورطة.

روى الشيعة أنّ الإمام الحادي عشر أبا محمّد الحسن بن عليّ العسكريّ توفّي في سُرّ من رأى يوم الجمعة لثمانٍ خلون من ربيع الأوّل سنة ٢٦٠هـ بعد خمس سنين وثمانية أشهر وخمسة أيّام مضت على إمامته، وأعقب ولداً مكتوماً أمره لم يَرَه عامّة الناس، من هنا أمر المعتمد العبّاسيّ (٢٥٦-٢٧٩هـ) بتفتيش دار الإمام وحجراتها، وكبس جميع ما فيها، وجَدَّ رجاله في البحث عنه، وكلّفوا القوابل بالتحقيق من جواري الإمام، وعندما ذكرت إحداهنّ أنّ جارية من جواري الإمام حامل، جعلوها في غرفة خاصّة من غرف الدار، ووكّلوا بها أحد الخدم مع أصحابه وعدداً من النسوة، وصلّى أبو عيسى بن المتوكّل أخو المعتمد على جنازة الإمام.

١٣٥

وأشهدَ كبار العلويّين والعبّاسيّين, وأُمراء الجيش، والكتّاب، والقضاة، والفقهاء، والمعدّلين على أنّ الإمام مات حتف أنفه، ثمّ دفنوا جثمانه الطاهر في البيت الذي دُفن فيه أبوه، وبذل الحاكم العبّاسيّ وأعوانه قصارى جهودهم في البحث عن ابن الإمام، ولمّا لم تُثمر جهودهم شيئاً، ولم تلد تلك الجارية التي توهّموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين أو أكثر، عزم السلطان العبّاسيّ على تقسيم ميراث الإمام العسكريّعليه‌السلام ، فنشب نزاع بين حديث والدة الإمام وبين أخيه جعفر لأجل ذلك، ومع أنّ والدة الإمام أثبتت عند القاضي أنّها الوارثة الوحيدة للإمام لكنّ جعفر عارضها وسعى بها عند السلطان، واستعان به في الحصول على ميراث أخيه، ومكث السلطان سبع سنين، ثمّ قسّم تركة الإمام بين حديث وجعفر(١) .

وكان جعفر مقبلاً على الدنيا لاهياً، طالباً لمنصب أخيه، فتشبّث بشتّى الحيل كي يُعرَفَ بهذا المنصب، وكان يشي عند المعتمد بأصحاب الإمام العسكريّ الذين كانوا يَرَون أنّ ولده الصغير الغائب هو الإمام الثاني عشر وهو حجّة الحقّ على الخلق، وممّا قام به أنّه حرّض السلطان على تكبيل صَيقل(٢) جارية الإمام العسكريّ ووالدة الإمام المهديّ، ومطالبتها بولدها القائم، فأنكرت ذلك وادّعت الحَبل لتردع جلاوزة السلطان عن التجسّس في أمر الإمام، فأوقفها المعتمد في حرمه، وتولّى نساؤه وجواريه وأخوه الموفّق وخدمه ونساء القاضي ابن أبي الشوارب(٣) رعايتها والقيام بأمرها. واستمرّت هذه الحالة إلى أن تضعضعت أركان الحكومة سنة ٢٦٣هـ، بفعل الهزّات التي تعرّضت لها، كاستيلاء يعقوب بن ليث الصفّار على

____________________

١ - كمال الدين ٢٥-٢٦ و٣٤ و٤٧ و٢٦١ و٢٦٢، فرق الشيعة ٧٩، الغيبة للشيخ الطوسيّ ١٤١-١٤٢؛ الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحَل ٤: ٩٣.

٢ - اختلف الرواة والمؤلّفون في اسم أُمّ الإمام، فمنهم من قال: صيقل، ومنهم من قال: ريحانة، ومنهم من قال: سوسن، ومنهم من قال: نرجس.

٣ - المقصود عليّ بن أبي الشوارب محمّد الذي نُصب قاضياً للقضاة في سنة ٢٦٢هـ.

١٣٦

الأهواز ومحاولته الهجوم على بغداد، وفتنة صاحب الزنج، وموت الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأةً؛ ولذلك أُنسِيَت صيقل فنجت من مخالب جلاوزة السلطان(١) .

وبرز خلاف وعداء شديد بين أصحاب جعفر، وأصحاب صيقل، وانحاز جماعة من أفراد الحكومة وجلاوزة السلطان إلى جانب جعفر، وجماعة إلى جانب صيقل، واصّاعد لهب الفتنة، فقام أحد النوبختيّين - وهو الحسن بن جعفر الكاتب - بإخفاء صيقل في داره، وآلَ الأمرُ إلى أن قام المعتضد (٢٧٩-٢٨٩هـ) - الذي كان مناوئاً شديداً للإماميّة كالمتوكّل - بإخراجها من بيت الحسن بن جعفر النوبختيّ بعد مضيّ بضع وعشرين سنة على وفاة الإمام الحسن العسكريّعليه‌السلام ، فأقامت في قصره حتّى وافاها الأجل أيّام حكم المقتدر (٢٩٥-٣٢٠هـ)(٢) .

إنّ وفاة الإمام العسكريّعليه‌السلام ، وغيبة ولده القائم، وادّعاء أخيه جعفر الذي لقّبه الإماميّة: الكذّاب، كما أشرنا إلى ذلك سلفاً، كلّ أولئك مهّد الأرضيّة لمناوئي الإماميّة - بخاصّة المعتزلة، والزيديّة، وأصحاب الحديث والسُّنّة، والحاكم العبّاسيّ - لأن ينالوا من الإماميّة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، أدّى إلى انقسامها أربع عشرة فرقة، منها من أنكر وجود ولد للإمام العسكريّ، ومنها من تردّد في ذلك، ومنها من اعتقد بانتهاء الإمامة، لكن أفراد هذه الفرقة الأخيرة لم يتّفقوا على ذلك، فمنهم من اعتقد بأنّه خليفة أبيه العسكريّ، ومنهم من رأى أنّه منصوب للإمامة من قِبل أخيه الآخر محمّد الذي كان قد مات في حياة أبيه الإمام الهادي، ومنهم من ذهب إلى أنّ أباه هو الذي اختاره إماماً، وهبّ جماعة من الفَطحيّة والمحمّدية (أصحاب محمّد بن الإمام الهادي توفّي قبل أبيه) إلى تأييد جعفر

____________________

١ - كمال الدين ٢٦٢ و٢٦٣.

٢ - الفصل ٤: ٩٣-٩٤.

١٣٧

على رغم الإماميّة الاثني عشريّة، والتفّ حوله جمع من متكلّمي الفطحيّة الحاذقين، وأُخت فارس بن حاتم بن ماهَوَيه القزوينيّ، وهي من أصحاب الإمام الهادي، وكان الإمامعليهم‌السلام قد لعنها وطردها؛ لإظهارها الغلوّ والفساد، لكنّ جعفر برّأها وزكّاها(١) . وأفضى التفافهم حوله إلى تقويته، وإلى خلق المتاعب للشيعة الاثني عشريّة.

ومن الملاحَظ في ذلك العصر الذي نشبت فيه الفتنة الممتدّة من عهد المعتمد إلى عهد المقتدر، وعانى فيه الإماميّة ما عانَوا من الجور والاضطهاد، أنّ للأُسرة النوبختيّة الشيعيّة دورها بما كانت تتمتّع به من نفوذ مطلق في بغداد يعود إلى منزلتها العلميّة والرسميّة، وهيبتها الشخصيّة وما كانت تمتلكه من عقارات وثروات. فتطلّع إليها الشيعة وعقدوا عليها الأمل في الذبّ عنهم و ردّ مخالفيهم، وكان رئيس الأُسرة والموجّه للشيعة الإماميّة في فترة من فترات ذلك العصر المتكلّم الشاعر الأديب المعروف أبو سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ.

وقد أمضى أبو سهل القِسم الأعظم من حياته في تحصيل علم الكلام والاحتجاج على المخالفين ومناظرتهم، وكان فَطِناً واعياً، ومن الطبيعيّ أنّه لم يكن بوسعه في تلك الظروف المحفوفة بالأخطار أن يسكت، ولا يدافع عن مسألة الإمامة التي كان قد دوّن لها صورة تامّة وفقاً للأُصول المذهبيّة عند الإماميّة، ولا يُبرز العقيدة الصحيحة في الغيبة - وكان يراها حقّاً - في حين كان كلّ شخص يُبدي رأياً في الغَيبة ممّا يبعث على تشتّت الشيعة.

وبلغ الخلاف بين الشيعة في موضوع الإمامة والغَيبة يومئذٍ درجة أنّهم اختلفوا حتّى في عدد الأئمّة أيضاً. فذهبت طائفة منهم إلى أنّهم ثلاثة عشر استناداً إلى

____________________

١ - فرق الشيعة ٨٢، كمال الدين ٣٤.

١٣٨

حديث رواه سُلَيم بن قيس الهلاليّ(١) ، وهو من أصحاب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ومن وحي هذا الحديث عدّ أبو نصر هبة الله بن محمّد الكاتب - وهو من المعاصرين لأبي القاسم الحسين بن روح النوبختيّ في أيّام الغيبة الصغرى وسيأتي ذكره - زيدَ بنَ عليّ بن الحسين في الأئمّة(٢) ، وكان الحسين بن منصور الحلاّج الصوفيّ المعروف يعتقد باثني عشر إماماً ويقول: إنّ الإمام الثاني عشر قد مات، ولن يظهر إمام، وانّ أمر الساعة قريب(٣) .

ونسب ابن النديم في الفهرست رأياً خاصّاً لأبي سهل في الغيبة لم يُسبَق إليه، وهو أنّه كان يقول: (أنا أقول: إنّ الإمام محمّد بن الحسن ولكنّه مات في الغيبة، وقام بالأمر في الغيبة ابنه، وكذلك فيما بعد من ولده إلى أن يُنفِذ اللهُ حكمَه في إظهاره)(١) .

ولعلّ نسبة هذا الرأي إلى أبي سهل بالشكل المذكور مثار شكّ وترديد؛ لأنّه لم يَرد في أي من كتب الشيعة. ويضاف إليه أنّ الشيخ الصدوق نقل في كتاب كمال الدّين مقطوعة في باب الإمامة عن كتاب التنبيه لأبي سهل، وهي تتّفق مع عقيدة علماء الإماميّة الاثني عشريّة في الغيبة(٢) ، بل يمكن القول: إنّ أبا سهل الذي كان ممّن شهد على ولادة الإمام الثاني عشر(٣) ورؤيته وغيبته، وممّن أيّد نيابةَ السفير الثالث أبي القاسم الحسين بن روح النوبختيّ(٤) ، كان من أعظم العلماء الذين دافعوا عن مسألة الغيبة حسب عقيدة الإماميّة، ثمّ دوّنوها في كتبهم، وسار على خطاه مَن جاء بعده من علماء الطائفة، ولو صحّ ما نسبه إليه ابن النديم، وكان له مثل ذلك

____________________

١ - وهو راوٍ لأوّل كتاب شيعيّ، للاطّلاع على ترجمته، انظر: الفهرست ٢١٩، وكتب الرجال المعتبرة.

٢ - رجال النجاشيّ ٣٠٨.

٣ - Louiz Massignon, passion d`al-Hallady p. ١٥١.

٤ - الفهرست ١٧٦.

٥ - كمال الدين ٥٣-٥٥.

٦ - الغيبة للطوسيّ ١٧٥-١٧٦.

٧ - نفسه ٣٢٥.

١٣٩

الرأي في بادئ أمره، فإنّه تراجع عنه فيما بعد، وأقرّ بما يقرّ به جمهور الإماميّة ودافع عنه.

٥ - أبو سهل النوبختيّ والحسين بن منصور الحلاّج

نلحظ في أيّام الغيبة الصغرى - حيث كان الإماميّة ينتظرون نهاية الغيبة وظهور الإمام الغائب، وحيث كان زمام شؤونهم الدينيّة والدنيويّة بيد النوّاب الأربعة - أنّ الحسين بن منصور الحلاّج البيضاويّ الصوفيّ المعروف كان يبثّ آراءه وعقائده في المراكز المهمّة للشيعة، بخاصّة قمّ وبغداد، فأفلح في استقطاب عدد من الشيعة، ورجال البلاط الحاكم بعد سنين أمضاها في السفر والتبليغ والوعظ.

وكان في بداية أمره يزعم أنّه رسول الإمام الغائب ووكيله وبابه، كما ذكر ذلك مصنّفو الإماميّة؛ من هنا أوردوا اسمه في عداد مدّعي البابيّة(١) ، وعندما التقى برؤساء الإماميّة في قمّ، ودعاهم إلى قبول العنوان المذكور، أبدى رأيه في الأئمّة - كما تطرّقنا إلى ذلك سلفاً - فتبرّأ الشيعة في قمّ منه وطردوه من مدينتهم.

وكان ادّعاء الحلاّج البابيّة، وإبداء رأيه الخاصّ حول عدد الأئمّة، بمنزلة إعلان العداء السافر لآل نوبخت، ذلك أنّ أحدهم - وهو أبو القاسم الحسين بن روح - كان نائباً للإمام الغائب منذ سنة ٣٠٥هـ، وكان قبل ذلك من خاصّة النائب الثاني أبي جعفر محمّد بن عثمان، والشخص الآخر من هذه الأُسرة هو أبو سهل إسماعيل بن عليّ، وكان يعدّ رئيساً للإماميّة في بغداد عند تحرّك الحلاّج، كما كان له نفوذ بين الوزراء وكتّاب البلاط والعاملين في الأجهزة الحكوميّة، وكان راعياً للأُصول المذهبيّة الشيعيّة ومدافعاً عنها، ويضاف إلى ما كان عليه سياسيّاً

____________________

١ - الغيبة للطوسيّ ٢٦٢.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

[ إلى أبيه ] فأعلمه )(١) .

٢. نقل الحافظ أبو نعيم الأصفهانيّ المتوفىّ عام (٤٣٠) أنّ عبد الله بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته فقال: ( انّي سمعت الناس يقولون مقالةً فآليت أن أقولها لك وزعموا أنّك غير مستخلف وأنّه لو كان لك راعي إبل ـ أو راعي غنم ـ ثمّ جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيّع، فرعاية الناس أشدّ )(٢) .

٣. قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهل المدينة البيعة ليزيد، فاجتمع مع عدة من الصحابة إلى أن أرسل إلى ابن عمر، فأتاه وخلا به فكلّمه بكلام وقال: إنّي كرهت أن أدع أمّة محمّد بعدي كالضأن لا راعي لها.(٣) .

كلّ هذه النصوص، تدلّ بجلاء على أنّ ادّعاء انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبيّ أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد، أو اتفاق الأنصار والمهاجرين لم يكن له أصل ولا ذكر في دراسات المتقدمين من أعلام التاريخ وكتّاب السيرة وعلماء المسلمين.

ولو دل هذا الأمر على شيء فإنّما يدلّ على، أنّ الأصل الذي كان يعتقد به الصحابة والخلفاء في مسألة الخلافة والقيادة، كان هو التنصيص والتعيين، وعدم ترك الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها.

* * *

نظرية تفويض الأمر إلى الاُمّة بعد النبيّ

إنّ في الاُمّة الإسلاميّة طائفةً كبيرةً تعتقد، بأنّ أمر الحكومة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مفوضاً إلى انتخاب الاُمّة ونظرها، وهم يستندون في ذلك إلى عمل المسلمين في تعيين الخليفة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) الإمامة والسياسة للدينوريّ: ٣٢.

(٢) حلية الأولياء ١: ٤٤.

(٣) الإمامة والسياسة ١: ١٦٨ ( طبعة مصر ).

١٦١

ولكنّك ـ أيّها القارئ الكريم ـ اطّلعت على كيفية تصدي الخليفة الثاني والثالث للحكم، وعرفت أنّه لم يكن هناك أي انتخاب من جانب المسلمين، بل تم الأمر للخليفتين بالاستخلاف من جانب الخليفة السابق.

نعم، يمكن أن يستند القائل إلى انتخاب ( ابي بكر ) و ( الإمام علي ) للحكم، فهما تسلّما زمام الحكم والأمر بهذا الطريق.

والحق أنّ هذين الموردين هما من أهم وأوضح ما يمكن أن يستدلّ به القائل بتفويض الأمر إلى نظر الاُمّة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على مذهبه، وهو بظاهره يتصادم مع ما شرحناه وأوردناه من الأدلة على كون صيغة الحكومة الإسلاميّة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان على التنصيص والاستخلاف لا على التفويض والانتخاب.

ولنتناول البحث حول خلافة ( ابي بكر ) اولاً، ونعقبه بالبحث حول كيفية استتباب الأمر للإمام عليّ ثانياً.

تحليل لخلافة أبي بكر

إنّ الاستدلال على نظرية تفويض الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها، أو إلى أهل الحلّ والعقد منهم، أو ما شابه ذلك، بتصدي أبي بكر للخلافة، يتوقف على أثبات أمرين، لولا ثبوتهما لما صح الاستناد بهذا الطريق على هذا الانتخاب أبداً :

الأوّل: هل كان هناك انتخاب شعبيّ واقعيّ بحيث اجتمع المسلمون عامّة، وتشاوروا في الأمر ودرسوا الموضوع، فانتخبوا أبا بكر وفق الضوابط والمعايير الإسلاميّة، أو كان هناك انتخاب محدود من جانب عدّة قليلة يهاب منها، واتبعها الآخرون بلا تفكير ولا مشاورة بينما تخلف عن ذلك عدّة اُخرى ؟

الثاني: هل كان انتخاب المنتخبين لأبي بكر بأسلوب المبايعة، ينبع من تعليم اسلاميّ ويرتكز إلى أصل جاءت به الشريعة، وكان الداعي لهم إلى ذلك هو ما أخذوه وتعلموه من الرسول، أو كان اتخاذهم لذلك الاسلوب، مستنداً إلى ما كان مركوزاً في

١٦٢

أذهانهم ممّا قبل الإسلام، حيث كانوا يعيّنون الأمير والرئيس بالبيعة ؟

والحقّ أنّ هاتين النقطتين في خلافة أبي بكر قابلتان للمناقشة و التحقيق والتأمّل فنقول:(١)

أمّا النقطة الاُوّلى: فإنّ دراسة التأريخ الإسلاميّ في هذه القظية خير دليل على أنّ خلافة أبي بكر لم تأت نتيجة مشاركة الاُمّة الإسلاميّة في اختياره وانتخابه للحكم والقيادة، بل لم ينتخبه إلّا أربعة أنفار لا غير، وهؤلاء النفر هم، عمر بن الخطاب وأبو عبيدة من المهاجرين وبشير بن سعد واسيد بن حضير من الأنصار. وأمّا الباقون من رجال الأوس لم يبايعوا أبا بكر إلّا تبعاً لرئيسهم أسيد بن حضير، في حين غاب عن هذا المجلس كبار الصحابة وأفاضلهم كالإمام عليّ بن أبي طالب، والمقداد، وأبي ذر وحذيفة بن اليمان، وأبّي بن كعب وطلحة والزبير، وعشرات اخرين من الصحابة.

كما أنّ الخزرجيين ـ رغم حضورهم في السقيفة ـ امتنعوا من البيعة لأبي بكر.

وحتّى لو سلّم بوقوع الانتخاب المزعوم فإنه لا ريب كان فريداً من نوعه، لأنّه لم يقترع فيه الحاضرون على أبي بكر كما هو المتّبع في الانتخابات الحرّة المتعارفة، بل تمّ بمبادرة ( عمر ) إلى مبايعة أبي بكر، ثمّ بايعه المهاجر الآخر وبايعه بشير ورئيس الأوس أسيد بن حضير، وتبعه الأوسيون بينما تخلّف الخزرجيون الحاضرون في السقيفة عن مبايعة أبي بكر كما تبين لك ذلك من ما ذكرناه سابقاً من تهاجيهم.

ثمّ أخذوا البيعة من كلّ من صادفوه في الطريق خارج السقيفة، واستمرّ ذلك إلى ستة أشهر بالتهديد والترغيب وهذا أمر واضح لمن درس تاريخ السقيفة وما تلاها من الأحداث والوقائع.

__________________

(١) البحث عن النقطة الاولى، بحث في الصغرى وهو كون خلافة أبي بكر كانت بالانتخاب الشعبيّ.

والبحث عن النقطة الثانية ؛ بحث عن الكبرى أي كون صيغة الحكومة بعد وفاة رسول الله ـ بلا فصل ـ هي تعيين الخليفة باسلوب المبايعة، واللازم على القارئ أن لا يخلط بين الأمرين.

١٦٣

ومن الواضح أنّ بيعةً بهذه الصفة، لا يمكن انّ تكون انتخاباً حقيقيّاً واستفتاءً حرّاً.

فأيّ انتخاب شعبيّ حرّ جاء بالخليفة الأوّل، وهذا التأريخ يروي لنا ما جرى في السقيفة وما وقع من التهديد والتنديد والسيف، والشتيمة والمهاترات.

فها هو الحبّاب بن المنذر الصحابيّ البدريّ الأنصاريّ العظيم وقد انتضى سيفه على أبي بكر ـ يوم السقيفة ـ وهو يقول: ( والله لا يرد عليّ أحد ما أقول إلّا حطّمت أنفه بالسيف أنا جذيلها المحكّك [ أي أصل الشجرة ] وعذيقها المرجب [ أي النخلة المثقلة بالثمر ] أنا أبو شبل في عرينة الأسد يعزى إليّ الأسد )(١) .

وهو بكلامه هذا يتهدّد كلّ من يحاول إخراج القيادة من الأنصار وإقرارها لغيرهم.

وها هو آخر ( وهو سعد بن عبادة ) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي: ( انا أرميكم بكلِّ سهم كنانتي من نبل واخضّب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي )(٢) .

وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشبّ نار الحرب بقوله: ( انّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلّا دم )(٣) .

وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار، يداس بالأقدام، وينزى عليه وينادى عليه بغضب: ( اقتلوا سعداً قتله الله إنّه منافق، أو صاحب فتنة ) وقد قام الرجل على رأسه ويقول: ( لقد هممت أنّ أطأك حتّى تندر عضوك أو تندر عيونك )(٤) .

فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول: ( والله لو حصصت منه شعرةً ما

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٢: ١٦.

(٢) الغدير ٧: ٧٦.

(٣) الإمامة والسياسة ١: ١١، تاريخ الطبري ٣: ٢١٠.

(٤) مسند أحمد ١: ٥٦، تاريخ الطبري ٣: ٢١٠ وغيرهما.

١٦٤

رجعت وفي فيك واضحة !!! أو: لو خفضت منه شعرةً ما رجعت وفيك جارحة )(١) .

وهذا الزبير لـمّا رأى أنّ الأمر قد عقد لأبي بكر يخترط سيفه ويقول: ( لا أغمده حتّى يبايع عليّ ) فيقول عمر: عليكم الكلب، فيؤخذ سيفه من يده، ويضرب به الحجر ويكسر(٢) .

وها هو المقداد ذلك الرجل الصحابيّ العظيم يدافع في صدره(٣) .

وها هو أبو بكر يبعث عمر بن الخطاب إلى بيت الإمام عليّ وفاطمة، ويتهدّد اللائذين به الممتنعين عن مبايعته ويقول له: إن أبوا فقاتلهم.

فيأتي عمر إلى بيت فاطمة ويقول: والله لتحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فتقول فاطمة الزهراء بنت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وتصيح وتنادي: « يا أبت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة »(٤) .

وها هو الإمام عليّعليه‌السلام يقاد إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش ويساق سوقاً عنيفاً ويقال له: بايع فيقول: « إن أنا لم أفعل فمه » ؟ فيقال: إذن والله الذي لا إله إلّا هو نضرب عنقك، فيقول: « إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله »(٥) .

وهؤلاء لـمّا يتناقشون الأمر في السقيفة فيقول الأنصار: منّا أمير ومنكم أمير، يردّ عليه عمر قائلاً: إذا كان ذلك فمت إن استطعت !!

وهذا عمر يعترف أنّ هذه البيعة كانت فلتةً لا تخضع لضابطة، ولا تقوم على أساس من المبادئ الإسلاميّة والمنطلقات الصحيحة والمشروعة إذ يقول: ( كانت بيعة أبي بكر فلتةً كفلتة الجاهليّة، وقى الله شرّها ».

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣: ٢١٠، السيرة الحلبيّة ٣: ٣٨٧.

(٢) الإمامة والسياسة ١: ١١، تاريخ الطبري ٣: ١٩٩.

(٣) تاريخ الطبري ٣: ٢١٠.

(٤) تاريخ الطبري ٣: ٢١٠، الإمامة والسياسة ١: ١٣.

(٥) الإمامة والسياسة ١: ١٣، أعلام النساء ٣: ٢٠٦.

١٦٥

ولهذا يحذِّر المسلمين من الأخذ بها لأنّها لم تكن تمثّل أي صورة انتخابيّة صحيحة حتّى لو قيل بمشروعية تعين الخليفة عن طريق الانتخاب فيقول: ( فمن عاد إليها فاقتلوه )(١) .

تحليل لخلافة الإمام عليّ

وأمّا خلافة الإمام عليّعليه‌السلام فهي وإن أجمع المسلمون عليها، وأقبل عليه الناس برمّتهم، إلّا أنّهعليه‌السلام لم يستدلّ لخلافته باجتماع الآراء والأصوات عليه وانتخاب الناس له، بل كان يستند غالباً بالنصوص النبويّة الواردة في حقّهعليه‌السلام والتي تنص على خلافته من جانب الله سبحانه.

وما عليك إلّا أنّ تستعرض ما قاله في يوم الرحبة.

عن الصحابيّ أبي الطفيل الليثي قال: جمع عليّرضي‌الله‌عنه الناس في الرحبة، ثم قال لهم: « أنشد الله كلّ أمرء مسلم سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول يوم غدير خم ما سمع لـمّا قام »، فقام ثلاثون من الناس وقال، أبو نعيم: فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس: « أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم » قالوا: نعم يا رسول الله، قال: « من كنت مولاه فهذا مولاه، أللّهم وال من والاه وعاد من عاداه » قال: فخرجت وكأنّ في نفسي شيئاً، فلقيت زيد بن أرقم فقلت له: إنّي سمعت عليّاًرضي‌الله‌عنه تعالى يقول: كذا وكذا. قال: فما تنكر ؟ قد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له ذلك(٢) .

وفي رواية أنّ علياًعليه‌السلام نشد الناس من سمع رسول الله يقول من كنت مولاه فهذا مولاه فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد، وكان يعلمها فدعا عليّعليه‌السلام عليه بذهاب البصر فعمي فكان يحدّث الناس بالحديث بعد ما كفّ بصره(٣) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ١٢٣ ( طبعة مصر ).

(٢ و ٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٣٦٢، اسد الغابة٣: ٣٠٧ و ٥: ٢٠٥، والإصابة ٤: ٨٠، ومسند أحمد بن حنبل ١: ٨٤، ومجمع الزوائد ٩: ١٠٧، ومطالب السؤل: ٥٤، شرح المواهب ٧: ١٣، ذخائر العقبى: ٦٧، خصائص النسائيّ: ٢٦ وأسنى المطالب: ٣.

١٦٦

هذا كله في البحث عن النقطة الاولى، أي البحث عن الصغرى وهو هل كان انتخاب الخليفة الأوّل انتخاباً شعبياً أو لا ؟

وأمّا النقطة الثانية: أعني البحث عن الكبرى أي كون صيغة الحكم بعد رسول الله بلا فصل هو تفويض الأمر إلى الاُمّة لانتخاب القائد عن طريق البيعة.

نقول: أنّ تعيين القائد والرئيس بهذه الكيفيّة ( أي البيعة ) لم يكن تعليماً إسلاميّاً، سار على ضوئه من حضر في السقيفة وأخذوا به بما أنّه قانون نصّت عليه الشريعة، وأتى به الإسلام.

لأنّ تعيين الحاكم في منطق الدين الإسلاميّ لم يكن بمبايعة أحد على ذلك، وما قد يتبادر إلى الذهن من وقوع ذلك مع الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ بايعه بعض الناس أو بايعه اصحابه، فإنّ تلك البيعة لم تكن إلّا بعد الإقرار بنبوّته وحاكميّته وقيادته وكانت البيعة بمثابة إظهار الإخلاص والوفاء القلبيين له، وعهداً لفظياً وظاهرياً على التقيد بطاعته، وتنفيذ اوامره في الحروب والوقائع المهمّة، لا أنّ البيعة كانت بمعنى نصبه للقيادة، فالقيادة كانت مجعولة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من جانب الله تعالى، وهي لا تخضع للبيعة وعدم البيعة.

وعلى كلّ حال، فإنّ البيعة كانت بعد الإقرار بالقيادة النبويّة المجعولة إلهيّاً ولأجل الإخلاص والوفاء للنبيّ المعترف بنبوّته قبلاً.

ومن المحتمل جداً أنّ طريقة تعيين الخليفة بالبيعة له التي تمّت في السقيفة وبموجبها عيّنوا الخليفة كانت تقليداً لما كان مرتكزاً في نفوس البعض ممّا قبل الإسلام، حيث كان المتبع في الجاهلية إذا أرادوا أن ينصبوا لأنفسهم رئيساً بايعوا أحداً، وكانت البيعة بمعنى نصبه للقيادة، وبمثابة جعل الإمرة والرئاسة لشخص(١) .

__________________

(١) وسيوافيك عند البحث عن طرق انتخاب الحاكم، أنّ البيعة المذكورة في الآيات القرآنيّة لم تكن إلّا تأكيداً لاعترافهم بالنبوّة وقيادة النبيّ المجعولة من جانب الله سبحانه، ولطمأنة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يكنّون له من إخلاص وثبات.

١٦٧

وممّا يدلّ على أنّ تعيين الخليفة والقائد بهذا النمط الذي تمّ في السقيفة كان أسلوباً يعتمد على ما كان مرتكزاً ومترسِّباً في نفوسهم ممّا قبل الإسلام، أنّهم لم يلتفتوا ولم يعتنوا ـ في تعيين الخليفة ـ بالشروط اللازمة في الحاكم الإسلاميّ، ولم يستندوا في ذلك إلى أصل قرآنيّ واسلاميّ لتصحيح عملهم ـ في وقته ـ كآيات الشورى والمشورة، أو الآيات التي تضمنت كلمة البيعة، بل كان كلّ من الطائفتين المتنازعتين على نيل الرئاسة والقيادة، يرجِّح نظره وموقفه باُمور لا أساس لها في الإسلام ولا عبرة بها في تعيين الحاكم وتقرير مصير الحاكميّة كالنسب والنصرة، حيث ادّعى المهاجرون أنّ الخلافة يجب أنّ تكون فيهم لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان من قريش، وعارضهم الأنصار بأنّهم أولى بالخلافة، لأنّهم آووا الرسول ونصروه وفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم.

ومن المعلوم، أنّ ما استندوا إليه واستدلوا به من الملاكات لم تكن ملاكات إسلاميّة في تعيين الخليفة.

وإلى عدم اعتبار تلك الملاكات الواهية، يشير الإمام عليّعليه‌السلام وينتقد أهل السقيفة على تمسكهم بها إذ يقول محتجاً عليهم :

فإن كنت بالشّورى حججت خصيمهم

فكيف بهذا والمشيرون غيّب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنّبيِّ وأقرب(١)

أمّا ما ورد في كلامهعليه‌السلام من الاستدلال بالشورى. ورأي المهاجرين والأنصار وأهل الحلّ والعقد، فلم يكن إلّا لإبطال ادِّعاء معاوية في الخلافة من باب إفحام الخصم بما يعتقده ويدّعيه، وذلك لأنّ موضوع القيادة ـ كما أسلفناه ـ، كان ينحصر في التنصيص والاستخلاف، وهوما ظلّ يعتقد به المسلمون بعد الرسول حتّى انّهم قد بنوا سيرتهم العمليّة عليه.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨: ٤١٦.

١٦٨

٣. صيغة القيادة والخلافة عند الأمم السابقة :

إنّ ملاحظة الآيات القرآنيّة الواردة حول القيادة، ومراجعة ما نقل وصحّ من الأحاديث والتأريخ في هذا المجال، تفيد ثلاث نقاط بارزة تؤيّد فكرة التنصيص على الخليفة، وما أسميناه بالاستخلاف، وتفيد ـ بالتالي ـ أنّ المتّبع بين الأمم الغابرة كان هو التنصيص والتعيين للقائد، وليس ترك الأمر إلى نظر الناس وانتخابهم.

وإليك هذه النقاط :

١. لقد كان المتّبع بين الانبياء السابقين هو تسليم أمر من قاموا بهدايتهم وتربيتهم من الأمم وسهروا في صياغتهم، واجتهدوا في تعليمهم، إلى خلفاء صالحين لائقين(١) . ليتسنّى لتلك الأمم والأقوام والجماعات ـ في ظلِّ الرعاية والتربية الصحيحة التي يوليها الخلفاء والأوصياء ـ أن تستمر في طريق التكامل والرشد.

صحيح أنّ أكثر الذين كانوا يخلّفون الانبياء كانوا من الانبياء أيضاً، إلّا أنّ بعضهم لم يكونوا من الانبياء، بل كانوا مجرد أوصياء يقومون بما يقوم به الإمام في الاُمّة الإسلاميّة.

وحتّى لو كان الخلفاء المذكورين من الانبياء أيضاً، فان ذلك يفيد قانوناً كليّاً هو أنّ مسألة القيادة والزعامة والرئاسة بعد غياب النبيّ كان من الأهميّة والخطورة، بحيث لم يترك أمرها إلى اختيار الناس ونظرهم، بل كانت تعهد على طول التاريخ إلى رجال أكفّاء، يعيّنونهم بالاسم والشخص، لأنّ ترك تعيين القائد إلى اختيار الاُمّة قد يؤدي إلى الاختلاف والفرقة والفتنة، أو الاشتباه والخطأ في تعيين الراعي الصالح والقائد الكفوء.

٢. إنّ القيادة والرئاسة بين الأمم السالفة كانت تتحقّق بصورة وراثيّة غالباً، فيتوارثها أفراد من سلالة الأنبياء والرسل خلفاً عن سلف كما نلاحظ في الآيات التالية :

__________________

(١) هذا معلوم على نحو الإجمال، وإن لم نعلم خصوصيّات ولا أسماء تلكم الشخصيات الذين كانوا يخلفّون الأنبياء السابقين.

١٦٩

أ ـ ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران: ٣٣ ).( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( آل عمران: ٣٤ ).

ب ـ ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( العنكبوت: ٢٧ ).

ج ـ ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) ( الحديد: ٢٦ ).

ففي هذه الآيات، نرى كيف ينتقل مقام الحاكميّة والقيادة بين أفراد من سلالة الانبياء وذريتهم فيتوارثون ذلك المقام الخطير خلفاً عن سلف.

د ـ وعندما يختار الله تعالى إبراهيم لمقام النبوّة والقيادة، يدعو إبراهيم ربّه أن يجعل هذا المقام في ذرّيّته أيضاً كما جعله فيه، ولا يردّ الله دعاءه ولا يستنكر عليه مطلبه، بل يخبره بأنّه لا ينيلها الظالمين منهم إذ يقول:( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ( البقرة: ١٢٤ ).

ه‍ ـ وعند ما يطلب موسىعليه‌السلام أن يكون أخاه هارون مساعداً ومعيناً له في القيادة يحكي الله ذلك عنه دون أن يستنكر طلبه إذ يقول:( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي ) ( طه: ٣٠ ).

وهذه الآيات، تكشف بوضوح عن توارث النبوّة والقيادة خلفاً عن سلف وصالحاً عن صالح، فلا تخرج من سلالة الانبياء وذرياتهم غالباً.

٣. إنّ مراجعة تاريخ الانبياء والاُمم السالفة، تكشف عن أنّ الأنبياء كانوا ينصّون على الخلفاء من بعدهم بصورة الوصاية، ونذكر فيما يأتي طائفةً من الانبياء، وأوصيائهم كما يرويها المسعوديّ :

ونبدأ ذلك من النبيّ إبراهيمعليه‌السلام :

١. إسماعيل بن إبراهيم.

١٧٠

٢. إسحاق بن إبراهيم.

٣. يوسف بن يعقوب.

٤. ببرز بن لاوي بن يعقوب.

٥. أحرب بن ببرز.

٦. ميتاح بن أحرب.

٧. عاق بن ميتاح.

٨. خيام بن عاق.

٩. مادوم بن خيام.

١٠. شعيب بن مادوم.

* * *

١١. موسى بن عمران.

١٢. يوشع بن نون.

١٣. فيخاس بن يوشع.

١٤. بشير بن يوشع.

١٥. جبرئيل بن بشير.

١٦. أبلث بن جبرئيل.

١٧. أحمر بن أبلث.

١٨. محتان بن أحمر.

١٩. عوق بن محتان.

٢٠. طالوت بن عوق.

* * *

٢١. داود.

٢٢. سليمان بن داود.

٢٣. آصف بن برخيا.

١٧١

٢٤. صفورا بن برخيا.

٢٥. منبه بن صفورا.

٢٦. هندوا بن منبه.

٢٧. أسفر بن هندوا.

٢٨. رامي بن أسفر.

٢٩. إسحاق بن رامي.

٣٠. أيم بن إسحاق.

٣١. زكريا بن أيم.

و

وقد أخرجنا هذا الفهرس من كتاب إثبات الوصيّة للمسعوديّ المتوفىّ عام (٣٤٥) تاركين الاطِّلاع على بقيّة أسماء الانبياء وأوصيائهم وأسباطهم للقارئ.

إنّ مراجعة هذا الفهرس من الأسماء، ومراجعة ذلك الكتاب، تهدينا إلى نقطتين بوضوح :

الاُوّلى: إنّ القيادة وإن كانت مقرونةً بالنبوّة غالباً، غير أنّها كانت وراثيّةً في الأمم السالفة، يرثها صالح عن صالح وكابر عن كابر ممّا يعني أنّها لم يكن أمرها متروكاً إلى الناس ومفوضاً إلى آرائهم.

الثانية: أنّ جميع الزعامات والقيادات كانت بأمر الله وبنصّ الانبياء السابقين. وممّا يدلّ على أنّ الاُمّة الناشئة لا يجوز ترك أمرها إلى نفسها، دون تعيين قائد محنّك وراع صالح منصوص عليه يأخذ بزمام أمرها. ويحفظها عن الانحراف، ما جرى في أمّة موسىعليه‌السلام وذلك لـمّا أراد النبيّ موسى بن عمران الاعتزال عن قومه مدّة أربعين ليلةً لمناجاة ربّه سبحانه، لم يترك امّته دون تعيين الخليفة عليهم بل عيّن هارون خليفةً وأميراً في غيابه وإلى هذا يشير قول الله سبحانه منبّهاً إلى هذه الواقعة:( وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ

١٧٢

اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) ( الاعراف: ١٤٢ ).

فإذا كان هذا هو المتّبع عند الأمم السالفة في مسألة القيادة والخلافة بعد الانبياء، وكان ذلك أمراً متكرراً ومتعارفاً بينهم، فالانصراف عن تلك الطريقة والإعراض عنها في الإسلام يحتاج إلى التصريح والبيان.

الخلافة بالوصاية

ومن طالع الكتاب والسنّة بتتبّع وتوسّع، لا يجد أي دليل يدلّ على ما يخالف هذه الطريقة ولا أي صارف عن الأخذ بها، بل يجد في ذينك المصدرين العظيمين المقدسين ما يدلّ على أنّ كلّ ما جرى على الأمم السابقة يجري على هذه الاُمّة إلّا ما استثني، وهو مبيّن.

ويدل على ذلك بصراحة لا تقبل جدلاً ما روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ، وإنّه لا نبيّ بعدي وسيكون خلفاء »(١) .

وبما أنّ التلازم بين النبوّة والاستخلاف ممّا تقتضيه طبيعة الحياة الاجتماعيّة وتؤكّده حياة الأمم السالفة كما ذكرنا لك، لهذا نجد أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمجرد أنّ يصدع بنبوّته، يواجه الناس بمسألة الخلافة من بعده ويشير إلى الخليفة الذي سيخلفه، والوصيّ الذي سيلي مهمّاته ومهامّه بعد وفاته

وهذا يدلّ على أنّ النبوة والاستخلاف ( وتعيين الخليفة بالوصاية ) متلازمان لا ينفصلان وتوأمان لا يفترقان

وإليك ما جرى في يوم الدار المعروف، وهو يثبت ما قلناه :

أخرج الطبريّ في تاريخه عن عبد الله بن عبّاس عن علي بن أبي طالب قال: « لمّا

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم كما في جامع الاُصول لابن الاثير الجزريّ ٤: ٤٨.

١٧٣

نزلت هذ الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء: ٢١٤ )، دعاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا علي إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أنّي متى ابادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليه حتى جاء جبرئيل فقال: يا محمّد إنّك إن لا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة، وأملأ لنا عسّاً من لبن، ثمّ أجمع لي بني عبد المطلب حتّى أكلّمهم وأبلغهم ما أمرت به. ففعلت ما أمرني به ثمّ دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الّذي صنعت لهم فجئت به فلمّا وضعته تناول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حذيةً من اللحم فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصّحفة ثمّ قال: خذوا بسم الله، فأكل القوم حتّى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلّا موضع أيديهم، وأيم الله الذي نفس عليّ بيده وإنّه كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله اسق القوم، فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا منه جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلمّا أراد رسول الله أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لقدما سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال الغد: يا عليّ إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثمّ أجمعهم إليّ، قال ففعلت، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتّى ما لهم بشيء حاجة ثمّ قال اسقهم فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا منه جميعاً، ثمّ تكلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ».

قال: « فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثمّ قال :

١٧٤

إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ».

قال: « فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع »(١) .

إنّ الناظر في كلمات الإمام عليّعليه‌السلام يرى أنّ الإمام يصرّح بوجود النصّ النبويّ على خلافته وولايته بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول في أهل البيتعليه‌السلام وهو منهم يقولعليه‌السلام : « هم موضع سرّه وملجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه وهم أساس الدين وعماد اليقين، وإليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصيّة »(٢) .

وهذه العبارة صريحة في أنّهعليه‌السلام الصاحب الشرعيّ لمقام الخلافة، لوجود خصائص الولاية في أهل البيت وهو رئيسهم، ولوجود الوصيّة في أعيانهم وهو أوّلهم.

كما يرى أنّهعليه‌السلام يصرّح، بأنّ الولاية حقّ شرعيّ له خاصّةً ولكنّ قريشاً حالوا بينه وبين ذلك الحقّ إذ يقول: « إنّ الله لـمّا قبض نبيّه استأثر علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من النّاس كافةً، ورأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثوا عهد بالإسلام، والدّين يمخض مخض الرّطب، يفسده أدنى وهن ويقلبه أقلّ خلق »(٣) .

وفي عبارة أخرى يصرّح الإمامعليه‌السلام بهذا الحقّ بأشدّ وضوح إذ يقول: « أللّهم استعينك على قريش ومن أعانهم، فإنّهم قطعوا رحمي وصغّروا عظيم منزلتي وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي »(٤) .

__________________

(١) تاريخ الطبريّ ٢: ٢١٦، نقض العثمانيّة كما في شرح نهج البلاغة ٣: ٢٦٣، شرح الشفاء للقاضي عياض ٣: ٣٧، تفسير الخازن: ٣٩٠، وحياة محمّد لهيكل: ١٠٤، مسند أحمد ١: ١٥٩ وغيرها.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٢.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٨: ٣٠.

(٤) نهج البلاغة لعبده: الخطبة ١٦٨.

١٧٥

وفي عبارة رابعة قال مجيباً على اعتراض أبي عبيدة الجّراح على الإمام حرصه على الخلافة والإمرة: « بل أنتم ـ والله ـ أحرص وأبعد وأنا أخصّ وأقرب، وإنّما طلبت حقّاً لي، وأنتم تحولون بيني وبينه وتصرفون وجهي دونه »(١) .

ووجه الدلالة لهذا الكلام العلويّ يتّضح إذا درسنا هذا الحقّ الذي يدّعيه الإمام لنفسه، ماهيّته وحقيقته.

وفي عبارة خامسة يقول الإمامعليه‌السلام : « فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقّي مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يوم النّاس هذا »(٢) .

والعجيب، أنّ ابن أبي الحديد فسّر هذا ( الحقّ ) الذي صرّح به الإمام في مواضع عديدة بما يخالف ظاهره. إذ قال ما توضيحه :

إنّ الإمام لـمّا كان أقرب الناس إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان أعلمهم وأعدلهم كان له بذلك ( حقّ طبيعيّ ) بأن يكون هو الخليفة، وأن يقع اختيار الاُمّة عليه للقيادة والإمرة، غير أنّ الاُمّة ـ مع ماله من الحقّ المذكور ـ عدلت عنه، وقدّمت المفضول على الفاضل لمصلحة كانت تراها، فعمد الإمام إلى التظلّم والشكوى واللوم على الناخب والمنتخب.

فالحقّ الذي يدّعيه الإمامعليه‌السلام في هذه العبارات، والذي حرمته قريش وأزالته عنه ليس حقّاً شرعيّاً، وليس انتخاب غيره عدولاً عن أمر الشرع، بل كان حقاً طبيعيّاً، وعقليّاً واجباً يوجب على الإنسان ان لا يعدل مع وجود الأعلم إلى العالم، ومع وجود الأفضل إلى المفضول، ومع وجود اللائق إلى غير اللائق، بل لابدّ أن يعطى زمام الأمر إلى العالم المستجمع لشرائط القيادة روحيّاً وجسميّاً.

بيد أنّ هذا التوجيه والتفسير، ينبع عن رأي مسبّق اتخذه صاحبه، ودرس ( الحقّ ) مستنداً على ذلك الرأي والموقف المسبّق وهو غير مقبول.

__________________

(١) نهج البلاغة لعبده: الخطبة ١٦٧.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٥٩.

١٧٦

فإنّه إذ ذهب إلى تصحيح خلافة الخلفاء الذين تسلّموا قيادة المسلمين بعد الرسول، صار إلى تأويل هذه العبارات وتفسير الحقّ على النحو المخالف لظواهرها الواضحة.

والناظر إلى هذه العبارات والعارف بكلمات الإمامعليه‌السلام يعلم أنّ الإمام يقصد غير ما قاله ابن ابي الحديد، فإنّه :

أوّلاً: يعتمد على كلمة ( الوصاية )، وهو يبطل بصراحة ما أدّعاه ابن أبي الحديد إذ المراد من الوصاية هو إيصاء النبيّ بالخلافة والولاية الشرعيّة له بعده.

وكلمات الوصاية هذه وردت في كلمات كثيرة للإمام مرّ عليك بعضها في العبارات السابقة، كما وصف الإمام بها في بعض كلمات المسلمين وأشعارهم(١) .

ثانياً: إنّ اللياقة التي توجد في الإمام عليّعليه‌السلام لا تولّد لوحدها حقّاً لعليّعليه‌السلام ما لم ينضّم إليه انتخاب الاُمّة على مبنى ابن أبي الحديد، الذي يرى أنّ الخلافة عمليّة انتخابيّة، فإنّ الحقّ في الخلافة على هذا المبنى يعتمد على أمرين :

١. اللياقة الذاتيّة.

٢. انتخاب الشعب.

فلو انتفى أحد الجزئين، انتفى الحقّ في الخلافة، فلا يبقى حقّ لكي يدّعيه الإمام ويركّز عليه.

وبتعبير آخر: إنّ أمر القيادة لو كان راجعاً إلى المشاورة والاستفتاء ومفوّضاً إلى انتخاب الصحابة أو أهل الحلّ والعقد، فإذا لم ينتخبوا أحداً لا يكون الشخص ذا حقّ في الخلافة والإمرة والقيادة، وإن كان ذا فضائل وكفاءات وصفات قياديّة، ولا يعدّ العدول عنه عدولاً عن الحقّ، وميلاً إلى الظلم والإجحاف بأحد، مع أنّ كلمات الإمامعليه‌السلام صريحة في أنّ هذا العدول كان عدولاً من الحقّ إلى غير الحقّ إذ قال: « وأجمعوا

__________________

(١) لاحظ شرح النهج ١: ١٤٣ ـ ١٥٠.

١٧٧

على منازعتي أمراً هو لي ».

وأمّا أنّ الإمام لماذا لم يقم على اخذ الحقّ مع ما يتمتّع به من الشرعيّة والقوّة ؟ فقد أشار الإمام إلى سببه في كلماته إذ قال معزياً ذلك إلى حرصه على وحدة المسلمين ودمائهم: « فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من فرقة المسلمين وسفك دمائهم والناس حديثوا عهد بالإسلام، والدّين يمخض مخض الرّطب يفسده أدنى وهن ويقلبه أقلّ خلق ».

وإلى هذا السبب أشار في موضع آخر إذ قال: « لـمّا قبض الله نبيّه قلنا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون النّاس وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن لا يعود الكفر ويبور الدّين لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه »(١) .

ولمّا طالب بعض اصحاب الإمام في أبيات له أن يطالب الإمام بذلك الحقّ الشرعيّ قالعليه‌السلام : « سلامة الدّين أحبّ إلينا من غيره »(٢) .

وفي كلام آخر لهعليه‌السلام نجده يعزي سكوته العظيم وإحجامه عن استخدام القوّة إلى عدم وجود النصير الحقيقيّ له إلّا أهل بيته الذين كان يحرص على المحافظة عليهم: « فنظرت فإذا ليس معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت وأغضيت على القذى وشربت على الشّجى، وصبرت على أخذ الكظم وعلى أمر من طعم العلقم »(٣) .

ويؤيّد أنّ الحقّ الذي كان يدّعيه الإمامعليه‌السلام إنّما هو حقّ شرعيّ، أنّه حكّم الله بينه وبين من دفعوه عن مقامه إذ قال لمن سأله وهو أحقّ به: « فاعلم فأمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً والأشدّون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نوطاً ( أي تعلّقاً ) فإنّها كانت أثرةً شحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين والحكم الله، والمعود إليه يوم القيامة »(٤) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٣٠٧.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ٤١.

(٣ و ٤) نهج البلاغة: الخطبة ٢٦ ـ ١٥٧.

١٧٨

وهذا يفيد بوضوح أنّ ذلك الحقّ كان حقّاً شرعيّاً إلهيّاً ستسئل الاُمّة الإسلاميّة عنه يوم القيامة.

وخلاصة القول: أنّ النصوص متضافرة على أنّ الإمام كان موصى له بالخلافة ومنصوصاً عليه بالإمرة والولاية ولكنّهعليه‌السلام لم يجد الظروف مناسبةً للمطالبة بذلك المقام المنصوص والحقّ المصرّح به، حفاظاً على مصلحة الإسلام والمسلمين، وتجنباً من سفك الدماء وتفرق وحدة الاُمّة وسقوط هيبتها. وهو أمر تقتضيها مصلحة القيادة الحكيمة.

وهكذا تبيّن ممّا سبق من البحث المفصّل، أنّ القاعدة الأصليّة في صيغة الحكومة الإسلاميّة بعد النبيّ هو التنصيص الإلهيّ على حاكم معين باسمه وشخصه وهذا هو ما يعبر عنه بالوصاية.

وحاصلها، أنّ الحاكم الأعلى في نظام الحكم الإسلاميّ يجب أن يكون منصوصاً عليه من جانب الله سبحانه، فكما أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان نبيّاً ورسولاً وحاكماً وقائداً من جانب الله سبحانه، فلابدّ أن يكون خليفته المتولّي لشؤون المسلمين من بعده، منصوصاً عليه، وعلى قيادته من جانبه سبحانه أيضاً.

فذلك كما أسلفنا، ممّا يقتضيه العقل ويدلّ عليه الكتاب والسنّة ويؤكّده موقف الصحابة والخلفاء، وتكشف عنه سيرة الأمم السالفة والأنبياء السابقين.

وقد اقتصرت مهمّتنا في هذا البحث الموسّع، على الاستدلال والبرهنة على هذه القاعدة الأصيلة في صيغة الحكومة الإسلاميّة ولا يهمّنا هنا إثبات من ورد في شأنه النصّ الإلهيّ، وعيّنه الله سبحانه لإمرة المسلمين وقيادتهم فذلك موكول إلى الكتب المعتبرة والمصادر الموثوقة التي تهتمّ بهذا الأمر وتحتوي على النصوص المرتبطة به.

وصفوة القول، أنّ جميع الأدلة النقليّة والمحاسبات العقليّة والاجتماعيّة والشواهد التأريخيّة تدلّ بالإجماع على، أنّ الأصل الأصيل في الحاكميّة هو أنّ الحكم لله سبحانه وحده بالأصالة والاستقلال، وهو يستخلف من يشاء من عباده الصالحين اللائقين

١٧٩

القادرين على إدارة البشريّة وكفايّة اُمورهم وهم ممن تتوفر فيهم مؤهّلات، وكفاءات عالية ولا تعرف بالطريق العاديّ، ولا تكشف بالتجربة والاختيار ولا تحصل إلّا بإعداد إلهيّ وتربية ربانيّة.

بيد أنّ الإسلام إذ لم يشرّعه الله سبحانه إلّا ليكون منهج حياة للبشريّة يتكفّل تنظيم حياتهم عامّةً، ولم يكن له بدّ من التخطيط لموضوع الحكومة والدولة التي هي محور الحياة الاجتماعيّة وأساسها في جميع الأحوال وجميع الظروف والأزمنة، فإذا لم يتسنّ للمجتمع التوصّل إلى الحاكم المنصوص عليه من جانب الله بالاسم، لأسباب استثنائيّة، وظروف خاصّة، ولم يجز للإسلام إهمال مسألة الحكومة، فلابدّ أن يكون له منهج رصين في هذا المجال ايضاً.

وبتعبير آخر أنّ ما ذكرناه لك في الصفحات الماضية والبحوث المتقدمة إنّما هو راجع إلى الظروف التي يوجد فيها إمام منصوص عليه يمكن التوصّل إليه بالأسباب العاديّة، ويتسنّى له أن يباشر إدارة المجتمع وتدبيره.

غير أنّ المفروض في هذا العصر هو عدم وجود مثل ذلك الإمام فلابدّ أن يكون للدين الإسلاميّ تخطيط آخر قطعاً ولا شكّ أنّه تخطيط موجود في الشريعة ويمكن تحصيله بالدراسة والتحقيق، إذ لا يمكن للإسلام أن يهمل هذه الناحية الحساسّة من حياة المجتمع على كلّ حال.

فلابدّ إذن للباحث عن الحقيقّة، أن يتحرّى برنامج الإسلام في هذا المجال في الكتاب والسنّة ونصوص الأئمّة الإسلامييّن، حتّى يستنبط ما يقرره الإسلام في مجال الحكم في هذه الظروف.

وهذا هو ما سنفعله في البحث القادم.

رأي الخُضريّ ومناقشته

وفي الختام نأتي بما قاله الاستاذ محمّد الخضرّي :

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627