مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228616 / تحميل: 6455
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

[ إلى أبيه ] فأعلمه )(١) .

٢. نقل الحافظ أبو نعيم الأصفهانيّ المتوفىّ عام (٤٣٠) أنّ عبد الله بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته فقال: ( انّي سمعت الناس يقولون مقالةً فآليت أن أقولها لك وزعموا أنّك غير مستخلف وأنّه لو كان لك راعي إبل ـ أو راعي غنم ـ ثمّ جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيّع، فرعاية الناس أشدّ )(٢) .

٣. قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهل المدينة البيعة ليزيد، فاجتمع مع عدة من الصحابة إلى أن أرسل إلى ابن عمر، فأتاه وخلا به فكلّمه بكلام وقال: إنّي كرهت أن أدع أمّة محمّد بعدي كالضأن لا راعي لها.(٣) .

كلّ هذه النصوص، تدلّ بجلاء على أنّ ادّعاء انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبيّ أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد، أو اتفاق الأنصار والمهاجرين لم يكن له أصل ولا ذكر في دراسات المتقدمين من أعلام التاريخ وكتّاب السيرة وعلماء المسلمين.

ولو دل هذا الأمر على شيء فإنّما يدلّ على، أنّ الأصل الذي كان يعتقد به الصحابة والخلفاء في مسألة الخلافة والقيادة، كان هو التنصيص والتعيين، وعدم ترك الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها.

* * *

نظرية تفويض الأمر إلى الاُمّة بعد النبيّ

إنّ في الاُمّة الإسلاميّة طائفةً كبيرةً تعتقد، بأنّ أمر الحكومة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مفوضاً إلى انتخاب الاُمّة ونظرها، وهم يستندون في ذلك إلى عمل المسلمين في تعيين الخليفة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) الإمامة والسياسة للدينوريّ: ٣٢.

(٢) حلية الأولياء ١: ٤٤.

(٣) الإمامة والسياسة ١: ١٦٨ ( طبعة مصر ).

١٦١

ولكنّك ـ أيّها القارئ الكريم ـ اطّلعت على كيفية تصدي الخليفة الثاني والثالث للحكم، وعرفت أنّه لم يكن هناك أي انتخاب من جانب المسلمين، بل تم الأمر للخليفتين بالاستخلاف من جانب الخليفة السابق.

نعم، يمكن أن يستند القائل إلى انتخاب ( ابي بكر ) و ( الإمام علي ) للحكم، فهما تسلّما زمام الحكم والأمر بهذا الطريق.

والحق أنّ هذين الموردين هما من أهم وأوضح ما يمكن أن يستدلّ به القائل بتفويض الأمر إلى نظر الاُمّة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على مذهبه، وهو بظاهره يتصادم مع ما شرحناه وأوردناه من الأدلة على كون صيغة الحكومة الإسلاميّة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان على التنصيص والاستخلاف لا على التفويض والانتخاب.

ولنتناول البحث حول خلافة ( ابي بكر ) اولاً، ونعقبه بالبحث حول كيفية استتباب الأمر للإمام عليّ ثانياً.

تحليل لخلافة أبي بكر

إنّ الاستدلال على نظرية تفويض الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها، أو إلى أهل الحلّ والعقد منهم، أو ما شابه ذلك، بتصدي أبي بكر للخلافة، يتوقف على أثبات أمرين، لولا ثبوتهما لما صح الاستناد بهذا الطريق على هذا الانتخاب أبداً :

الأوّل: هل كان هناك انتخاب شعبيّ واقعيّ بحيث اجتمع المسلمون عامّة، وتشاوروا في الأمر ودرسوا الموضوع، فانتخبوا أبا بكر وفق الضوابط والمعايير الإسلاميّة، أو كان هناك انتخاب محدود من جانب عدّة قليلة يهاب منها، واتبعها الآخرون بلا تفكير ولا مشاورة بينما تخلف عن ذلك عدّة اُخرى ؟

الثاني: هل كان انتخاب المنتخبين لأبي بكر بأسلوب المبايعة، ينبع من تعليم اسلاميّ ويرتكز إلى أصل جاءت به الشريعة، وكان الداعي لهم إلى ذلك هو ما أخذوه وتعلموه من الرسول، أو كان اتخاذهم لذلك الاسلوب، مستنداً إلى ما كان مركوزاً في

١٦٢

أذهانهم ممّا قبل الإسلام، حيث كانوا يعيّنون الأمير والرئيس بالبيعة ؟

والحقّ أنّ هاتين النقطتين في خلافة أبي بكر قابلتان للمناقشة و التحقيق والتأمّل فنقول:(١)

أمّا النقطة الاُوّلى: فإنّ دراسة التأريخ الإسلاميّ في هذه القظية خير دليل على أنّ خلافة أبي بكر لم تأت نتيجة مشاركة الاُمّة الإسلاميّة في اختياره وانتخابه للحكم والقيادة، بل لم ينتخبه إلّا أربعة أنفار لا غير، وهؤلاء النفر هم، عمر بن الخطاب وأبو عبيدة من المهاجرين وبشير بن سعد واسيد بن حضير من الأنصار. وأمّا الباقون من رجال الأوس لم يبايعوا أبا بكر إلّا تبعاً لرئيسهم أسيد بن حضير، في حين غاب عن هذا المجلس كبار الصحابة وأفاضلهم كالإمام عليّ بن أبي طالب، والمقداد، وأبي ذر وحذيفة بن اليمان، وأبّي بن كعب وطلحة والزبير، وعشرات اخرين من الصحابة.

كما أنّ الخزرجيين ـ رغم حضورهم في السقيفة ـ امتنعوا من البيعة لأبي بكر.

وحتّى لو سلّم بوقوع الانتخاب المزعوم فإنه لا ريب كان فريداً من نوعه، لأنّه لم يقترع فيه الحاضرون على أبي بكر كما هو المتّبع في الانتخابات الحرّة المتعارفة، بل تمّ بمبادرة ( عمر ) إلى مبايعة أبي بكر، ثمّ بايعه المهاجر الآخر وبايعه بشير ورئيس الأوس أسيد بن حضير، وتبعه الأوسيون بينما تخلّف الخزرجيون الحاضرون في السقيفة عن مبايعة أبي بكر كما تبين لك ذلك من ما ذكرناه سابقاً من تهاجيهم.

ثمّ أخذوا البيعة من كلّ من صادفوه في الطريق خارج السقيفة، واستمرّ ذلك إلى ستة أشهر بالتهديد والترغيب وهذا أمر واضح لمن درس تاريخ السقيفة وما تلاها من الأحداث والوقائع.

__________________

(١) البحث عن النقطة الاولى، بحث في الصغرى وهو كون خلافة أبي بكر كانت بالانتخاب الشعبيّ.

والبحث عن النقطة الثانية ؛ بحث عن الكبرى أي كون صيغة الحكومة بعد وفاة رسول الله ـ بلا فصل ـ هي تعيين الخليفة باسلوب المبايعة، واللازم على القارئ أن لا يخلط بين الأمرين.

١٦٣

ومن الواضح أنّ بيعةً بهذه الصفة، لا يمكن انّ تكون انتخاباً حقيقيّاً واستفتاءً حرّاً.

فأيّ انتخاب شعبيّ حرّ جاء بالخليفة الأوّل، وهذا التأريخ يروي لنا ما جرى في السقيفة وما وقع من التهديد والتنديد والسيف، والشتيمة والمهاترات.

فها هو الحبّاب بن المنذر الصحابيّ البدريّ الأنصاريّ العظيم وقد انتضى سيفه على أبي بكر ـ يوم السقيفة ـ وهو يقول: ( والله لا يرد عليّ أحد ما أقول إلّا حطّمت أنفه بالسيف أنا جذيلها المحكّك [ أي أصل الشجرة ] وعذيقها المرجب [ أي النخلة المثقلة بالثمر ] أنا أبو شبل في عرينة الأسد يعزى إليّ الأسد )(١) .

وهو بكلامه هذا يتهدّد كلّ من يحاول إخراج القيادة من الأنصار وإقرارها لغيرهم.

وها هو آخر ( وهو سعد بن عبادة ) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي: ( انا أرميكم بكلِّ سهم كنانتي من نبل واخضّب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي )(٢) .

وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشبّ نار الحرب بقوله: ( انّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلّا دم )(٣) .

وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار، يداس بالأقدام، وينزى عليه وينادى عليه بغضب: ( اقتلوا سعداً قتله الله إنّه منافق، أو صاحب فتنة ) وقد قام الرجل على رأسه ويقول: ( لقد هممت أنّ أطأك حتّى تندر عضوك أو تندر عيونك )(٤) .

فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول: ( والله لو حصصت منه شعرةً ما

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٢: ١٦.

(٢) الغدير ٧: ٧٦.

(٣) الإمامة والسياسة ١: ١١، تاريخ الطبري ٣: ٢١٠.

(٤) مسند أحمد ١: ٥٦، تاريخ الطبري ٣: ٢١٠ وغيرهما.

١٦٤

رجعت وفي فيك واضحة !!! أو: لو خفضت منه شعرةً ما رجعت وفيك جارحة )(١) .

وهذا الزبير لـمّا رأى أنّ الأمر قد عقد لأبي بكر يخترط سيفه ويقول: ( لا أغمده حتّى يبايع عليّ ) فيقول عمر: عليكم الكلب، فيؤخذ سيفه من يده، ويضرب به الحجر ويكسر(٢) .

وها هو المقداد ذلك الرجل الصحابيّ العظيم يدافع في صدره(٣) .

وها هو أبو بكر يبعث عمر بن الخطاب إلى بيت الإمام عليّ وفاطمة، ويتهدّد اللائذين به الممتنعين عن مبايعته ويقول له: إن أبوا فقاتلهم.

فيأتي عمر إلى بيت فاطمة ويقول: والله لتحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فتقول فاطمة الزهراء بنت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وتصيح وتنادي: « يا أبت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة »(٤) .

وها هو الإمام عليّعليه‌السلام يقاد إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش ويساق سوقاً عنيفاً ويقال له: بايع فيقول: « إن أنا لم أفعل فمه » ؟ فيقال: إذن والله الذي لا إله إلّا هو نضرب عنقك، فيقول: « إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله »(٥) .

وهؤلاء لـمّا يتناقشون الأمر في السقيفة فيقول الأنصار: منّا أمير ومنكم أمير، يردّ عليه عمر قائلاً: إذا كان ذلك فمت إن استطعت !!

وهذا عمر يعترف أنّ هذه البيعة كانت فلتةً لا تخضع لضابطة، ولا تقوم على أساس من المبادئ الإسلاميّة والمنطلقات الصحيحة والمشروعة إذ يقول: ( كانت بيعة أبي بكر فلتةً كفلتة الجاهليّة، وقى الله شرّها ».

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣: ٢١٠، السيرة الحلبيّة ٣: ٣٨٧.

(٢) الإمامة والسياسة ١: ١١، تاريخ الطبري ٣: ١٩٩.

(٣) تاريخ الطبري ٣: ٢١٠.

(٤) تاريخ الطبري ٣: ٢١٠، الإمامة والسياسة ١: ١٣.

(٥) الإمامة والسياسة ١: ١٣، أعلام النساء ٣: ٢٠٦.

١٦٥

ولهذا يحذِّر المسلمين من الأخذ بها لأنّها لم تكن تمثّل أي صورة انتخابيّة صحيحة حتّى لو قيل بمشروعية تعين الخليفة عن طريق الانتخاب فيقول: ( فمن عاد إليها فاقتلوه )(١) .

تحليل لخلافة الإمام عليّ

وأمّا خلافة الإمام عليّعليه‌السلام فهي وإن أجمع المسلمون عليها، وأقبل عليه الناس برمّتهم، إلّا أنّهعليه‌السلام لم يستدلّ لخلافته باجتماع الآراء والأصوات عليه وانتخاب الناس له، بل كان يستند غالباً بالنصوص النبويّة الواردة في حقّهعليه‌السلام والتي تنص على خلافته من جانب الله سبحانه.

وما عليك إلّا أنّ تستعرض ما قاله في يوم الرحبة.

عن الصحابيّ أبي الطفيل الليثي قال: جمع عليّرضي‌الله‌عنه الناس في الرحبة، ثم قال لهم: « أنشد الله كلّ أمرء مسلم سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول يوم غدير خم ما سمع لـمّا قام »، فقام ثلاثون من الناس وقال، أبو نعيم: فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس: « أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم » قالوا: نعم يا رسول الله، قال: « من كنت مولاه فهذا مولاه، أللّهم وال من والاه وعاد من عاداه » قال: فخرجت وكأنّ في نفسي شيئاً، فلقيت زيد بن أرقم فقلت له: إنّي سمعت عليّاًرضي‌الله‌عنه تعالى يقول: كذا وكذا. قال: فما تنكر ؟ قد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له ذلك(٢) .

وفي رواية أنّ علياًعليه‌السلام نشد الناس من سمع رسول الله يقول من كنت مولاه فهذا مولاه فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد، وكان يعلمها فدعا عليّعليه‌السلام عليه بذهاب البصر فعمي فكان يحدّث الناس بالحديث بعد ما كفّ بصره(٣) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ١٢٣ ( طبعة مصر ).

(٢ و ٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٣٦٢، اسد الغابة٣: ٣٠٧ و ٥: ٢٠٥، والإصابة ٤: ٨٠، ومسند أحمد بن حنبل ١: ٨٤، ومجمع الزوائد ٩: ١٠٧، ومطالب السؤل: ٥٤، شرح المواهب ٧: ١٣، ذخائر العقبى: ٦٧، خصائص النسائيّ: ٢٦ وأسنى المطالب: ٣.

١٦٦

هذا كله في البحث عن النقطة الاولى، أي البحث عن الصغرى وهو هل كان انتخاب الخليفة الأوّل انتخاباً شعبياً أو لا ؟

وأمّا النقطة الثانية: أعني البحث عن الكبرى أي كون صيغة الحكم بعد رسول الله بلا فصل هو تفويض الأمر إلى الاُمّة لانتخاب القائد عن طريق البيعة.

نقول: أنّ تعيين القائد والرئيس بهذه الكيفيّة ( أي البيعة ) لم يكن تعليماً إسلاميّاً، سار على ضوئه من حضر في السقيفة وأخذوا به بما أنّه قانون نصّت عليه الشريعة، وأتى به الإسلام.

لأنّ تعيين الحاكم في منطق الدين الإسلاميّ لم يكن بمبايعة أحد على ذلك، وما قد يتبادر إلى الذهن من وقوع ذلك مع الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ بايعه بعض الناس أو بايعه اصحابه، فإنّ تلك البيعة لم تكن إلّا بعد الإقرار بنبوّته وحاكميّته وقيادته وكانت البيعة بمثابة إظهار الإخلاص والوفاء القلبيين له، وعهداً لفظياً وظاهرياً على التقيد بطاعته، وتنفيذ اوامره في الحروب والوقائع المهمّة، لا أنّ البيعة كانت بمعنى نصبه للقيادة، فالقيادة كانت مجعولة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من جانب الله تعالى، وهي لا تخضع للبيعة وعدم البيعة.

وعلى كلّ حال، فإنّ البيعة كانت بعد الإقرار بالقيادة النبويّة المجعولة إلهيّاً ولأجل الإخلاص والوفاء للنبيّ المعترف بنبوّته قبلاً.

ومن المحتمل جداً أنّ طريقة تعيين الخليفة بالبيعة له التي تمّت في السقيفة وبموجبها عيّنوا الخليفة كانت تقليداً لما كان مرتكزاً في نفوس البعض ممّا قبل الإسلام، حيث كان المتبع في الجاهلية إذا أرادوا أن ينصبوا لأنفسهم رئيساً بايعوا أحداً، وكانت البيعة بمعنى نصبه للقيادة، وبمثابة جعل الإمرة والرئاسة لشخص(١) .

__________________

(١) وسيوافيك عند البحث عن طرق انتخاب الحاكم، أنّ البيعة المذكورة في الآيات القرآنيّة لم تكن إلّا تأكيداً لاعترافهم بالنبوّة وقيادة النبيّ المجعولة من جانب الله سبحانه، ولطمأنة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يكنّون له من إخلاص وثبات.

١٦٧

وممّا يدلّ على أنّ تعيين الخليفة والقائد بهذا النمط الذي تمّ في السقيفة كان أسلوباً يعتمد على ما كان مرتكزاً ومترسِّباً في نفوسهم ممّا قبل الإسلام، أنّهم لم يلتفتوا ولم يعتنوا ـ في تعيين الخليفة ـ بالشروط اللازمة في الحاكم الإسلاميّ، ولم يستندوا في ذلك إلى أصل قرآنيّ واسلاميّ لتصحيح عملهم ـ في وقته ـ كآيات الشورى والمشورة، أو الآيات التي تضمنت كلمة البيعة، بل كان كلّ من الطائفتين المتنازعتين على نيل الرئاسة والقيادة، يرجِّح نظره وموقفه باُمور لا أساس لها في الإسلام ولا عبرة بها في تعيين الحاكم وتقرير مصير الحاكميّة كالنسب والنصرة، حيث ادّعى المهاجرون أنّ الخلافة يجب أنّ تكون فيهم لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان من قريش، وعارضهم الأنصار بأنّهم أولى بالخلافة، لأنّهم آووا الرسول ونصروه وفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم.

ومن المعلوم، أنّ ما استندوا إليه واستدلوا به من الملاكات لم تكن ملاكات إسلاميّة في تعيين الخليفة.

وإلى عدم اعتبار تلك الملاكات الواهية، يشير الإمام عليّعليه‌السلام وينتقد أهل السقيفة على تمسكهم بها إذ يقول محتجاً عليهم :

فإن كنت بالشّورى حججت خصيمهم

فكيف بهذا والمشيرون غيّب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنّبيِّ وأقرب(١)

أمّا ما ورد في كلامهعليه‌السلام من الاستدلال بالشورى. ورأي المهاجرين والأنصار وأهل الحلّ والعقد، فلم يكن إلّا لإبطال ادِّعاء معاوية في الخلافة من باب إفحام الخصم بما يعتقده ويدّعيه، وذلك لأنّ موضوع القيادة ـ كما أسلفناه ـ، كان ينحصر في التنصيص والاستخلاف، وهوما ظلّ يعتقد به المسلمون بعد الرسول حتّى انّهم قد بنوا سيرتهم العمليّة عليه.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨: ٤١٦.

١٦٨

٣. صيغة القيادة والخلافة عند الأمم السابقة :

إنّ ملاحظة الآيات القرآنيّة الواردة حول القيادة، ومراجعة ما نقل وصحّ من الأحاديث والتأريخ في هذا المجال، تفيد ثلاث نقاط بارزة تؤيّد فكرة التنصيص على الخليفة، وما أسميناه بالاستخلاف، وتفيد ـ بالتالي ـ أنّ المتّبع بين الأمم الغابرة كان هو التنصيص والتعيين للقائد، وليس ترك الأمر إلى نظر الناس وانتخابهم.

وإليك هذه النقاط :

١. لقد كان المتّبع بين الانبياء السابقين هو تسليم أمر من قاموا بهدايتهم وتربيتهم من الأمم وسهروا في صياغتهم، واجتهدوا في تعليمهم، إلى خلفاء صالحين لائقين(١) . ليتسنّى لتلك الأمم والأقوام والجماعات ـ في ظلِّ الرعاية والتربية الصحيحة التي يوليها الخلفاء والأوصياء ـ أن تستمر في طريق التكامل والرشد.

صحيح أنّ أكثر الذين كانوا يخلّفون الانبياء كانوا من الانبياء أيضاً، إلّا أنّ بعضهم لم يكونوا من الانبياء، بل كانوا مجرد أوصياء يقومون بما يقوم به الإمام في الاُمّة الإسلاميّة.

وحتّى لو كان الخلفاء المذكورين من الانبياء أيضاً، فان ذلك يفيد قانوناً كليّاً هو أنّ مسألة القيادة والزعامة والرئاسة بعد غياب النبيّ كان من الأهميّة والخطورة، بحيث لم يترك أمرها إلى اختيار الناس ونظرهم، بل كانت تعهد على طول التاريخ إلى رجال أكفّاء، يعيّنونهم بالاسم والشخص، لأنّ ترك تعيين القائد إلى اختيار الاُمّة قد يؤدي إلى الاختلاف والفرقة والفتنة، أو الاشتباه والخطأ في تعيين الراعي الصالح والقائد الكفوء.

٢. إنّ القيادة والرئاسة بين الأمم السالفة كانت تتحقّق بصورة وراثيّة غالباً، فيتوارثها أفراد من سلالة الأنبياء والرسل خلفاً عن سلف كما نلاحظ في الآيات التالية :

__________________

(١) هذا معلوم على نحو الإجمال، وإن لم نعلم خصوصيّات ولا أسماء تلكم الشخصيات الذين كانوا يخلفّون الأنبياء السابقين.

١٦٩

أ ـ ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران: ٣٣ ).( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( آل عمران: ٣٤ ).

ب ـ ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( العنكبوت: ٢٧ ).

ج ـ ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) ( الحديد: ٢٦ ).

ففي هذه الآيات، نرى كيف ينتقل مقام الحاكميّة والقيادة بين أفراد من سلالة الانبياء وذريتهم فيتوارثون ذلك المقام الخطير خلفاً عن سلف.

د ـ وعندما يختار الله تعالى إبراهيم لمقام النبوّة والقيادة، يدعو إبراهيم ربّه أن يجعل هذا المقام في ذرّيّته أيضاً كما جعله فيه، ولا يردّ الله دعاءه ولا يستنكر عليه مطلبه، بل يخبره بأنّه لا ينيلها الظالمين منهم إذ يقول:( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ( البقرة: ١٢٤ ).

ه‍ ـ وعند ما يطلب موسىعليه‌السلام أن يكون أخاه هارون مساعداً ومعيناً له في القيادة يحكي الله ذلك عنه دون أن يستنكر طلبه إذ يقول:( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي ) ( طه: ٣٠ ).

وهذه الآيات، تكشف بوضوح عن توارث النبوّة والقيادة خلفاً عن سلف وصالحاً عن صالح، فلا تخرج من سلالة الانبياء وذرياتهم غالباً.

٣. إنّ مراجعة تاريخ الانبياء والاُمم السالفة، تكشف عن أنّ الأنبياء كانوا ينصّون على الخلفاء من بعدهم بصورة الوصاية، ونذكر فيما يأتي طائفةً من الانبياء، وأوصيائهم كما يرويها المسعوديّ :

ونبدأ ذلك من النبيّ إبراهيمعليه‌السلام :

١. إسماعيل بن إبراهيم.

١٧٠

٢. إسحاق بن إبراهيم.

٣. يوسف بن يعقوب.

٤. ببرز بن لاوي بن يعقوب.

٥. أحرب بن ببرز.

٦. ميتاح بن أحرب.

٧. عاق بن ميتاح.

٨. خيام بن عاق.

٩. مادوم بن خيام.

١٠. شعيب بن مادوم.

* * *

١١. موسى بن عمران.

١٢. يوشع بن نون.

١٣. فيخاس بن يوشع.

١٤. بشير بن يوشع.

١٥. جبرئيل بن بشير.

١٦. أبلث بن جبرئيل.

١٧. أحمر بن أبلث.

١٨. محتان بن أحمر.

١٩. عوق بن محتان.

٢٠. طالوت بن عوق.

* * *

٢١. داود.

٢٢. سليمان بن داود.

٢٣. آصف بن برخيا.

١٧١

٢٤. صفورا بن برخيا.

٢٥. منبه بن صفورا.

٢٦. هندوا بن منبه.

٢٧. أسفر بن هندوا.

٢٨. رامي بن أسفر.

٢٩. إسحاق بن رامي.

٣٠. أيم بن إسحاق.

٣١. زكريا بن أيم.

و

وقد أخرجنا هذا الفهرس من كتاب إثبات الوصيّة للمسعوديّ المتوفىّ عام (٣٤٥) تاركين الاطِّلاع على بقيّة أسماء الانبياء وأوصيائهم وأسباطهم للقارئ.

إنّ مراجعة هذا الفهرس من الأسماء، ومراجعة ذلك الكتاب، تهدينا إلى نقطتين بوضوح :

الاُوّلى: إنّ القيادة وإن كانت مقرونةً بالنبوّة غالباً، غير أنّها كانت وراثيّةً في الأمم السالفة، يرثها صالح عن صالح وكابر عن كابر ممّا يعني أنّها لم يكن أمرها متروكاً إلى الناس ومفوضاً إلى آرائهم.

الثانية: أنّ جميع الزعامات والقيادات كانت بأمر الله وبنصّ الانبياء السابقين. وممّا يدلّ على أنّ الاُمّة الناشئة لا يجوز ترك أمرها إلى نفسها، دون تعيين قائد محنّك وراع صالح منصوص عليه يأخذ بزمام أمرها. ويحفظها عن الانحراف، ما جرى في أمّة موسىعليه‌السلام وذلك لـمّا أراد النبيّ موسى بن عمران الاعتزال عن قومه مدّة أربعين ليلةً لمناجاة ربّه سبحانه، لم يترك امّته دون تعيين الخليفة عليهم بل عيّن هارون خليفةً وأميراً في غيابه وإلى هذا يشير قول الله سبحانه منبّهاً إلى هذه الواقعة:( وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ

١٧٢

اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) ( الاعراف: ١٤٢ ).

فإذا كان هذا هو المتّبع عند الأمم السالفة في مسألة القيادة والخلافة بعد الانبياء، وكان ذلك أمراً متكرراً ومتعارفاً بينهم، فالانصراف عن تلك الطريقة والإعراض عنها في الإسلام يحتاج إلى التصريح والبيان.

الخلافة بالوصاية

ومن طالع الكتاب والسنّة بتتبّع وتوسّع، لا يجد أي دليل يدلّ على ما يخالف هذه الطريقة ولا أي صارف عن الأخذ بها، بل يجد في ذينك المصدرين العظيمين المقدسين ما يدلّ على أنّ كلّ ما جرى على الأمم السابقة يجري على هذه الاُمّة إلّا ما استثني، وهو مبيّن.

ويدل على ذلك بصراحة لا تقبل جدلاً ما روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ، وإنّه لا نبيّ بعدي وسيكون خلفاء »(١) .

وبما أنّ التلازم بين النبوّة والاستخلاف ممّا تقتضيه طبيعة الحياة الاجتماعيّة وتؤكّده حياة الأمم السالفة كما ذكرنا لك، لهذا نجد أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمجرد أنّ يصدع بنبوّته، يواجه الناس بمسألة الخلافة من بعده ويشير إلى الخليفة الذي سيخلفه، والوصيّ الذي سيلي مهمّاته ومهامّه بعد وفاته

وهذا يدلّ على أنّ النبوة والاستخلاف ( وتعيين الخليفة بالوصاية ) متلازمان لا ينفصلان وتوأمان لا يفترقان

وإليك ما جرى في يوم الدار المعروف، وهو يثبت ما قلناه :

أخرج الطبريّ في تاريخه عن عبد الله بن عبّاس عن علي بن أبي طالب قال: « لمّا

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم كما في جامع الاُصول لابن الاثير الجزريّ ٤: ٤٨.

١٧٣

نزلت هذ الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء: ٢١٤ )، دعاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا علي إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أنّي متى ابادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليه حتى جاء جبرئيل فقال: يا محمّد إنّك إن لا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة، وأملأ لنا عسّاً من لبن، ثمّ أجمع لي بني عبد المطلب حتّى أكلّمهم وأبلغهم ما أمرت به. ففعلت ما أمرني به ثمّ دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الّذي صنعت لهم فجئت به فلمّا وضعته تناول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حذيةً من اللحم فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصّحفة ثمّ قال: خذوا بسم الله، فأكل القوم حتّى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلّا موضع أيديهم، وأيم الله الذي نفس عليّ بيده وإنّه كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله اسق القوم، فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا منه جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلمّا أراد رسول الله أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لقدما سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال الغد: يا عليّ إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثمّ أجمعهم إليّ، قال ففعلت، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتّى ما لهم بشيء حاجة ثمّ قال اسقهم فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا منه جميعاً، ثمّ تكلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ».

قال: « فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثمّ قال :

١٧٤

إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ».

قال: « فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع »(١) .

إنّ الناظر في كلمات الإمام عليّعليه‌السلام يرى أنّ الإمام يصرّح بوجود النصّ النبويّ على خلافته وولايته بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول في أهل البيتعليه‌السلام وهو منهم يقولعليه‌السلام : « هم موضع سرّه وملجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه وهم أساس الدين وعماد اليقين، وإليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصيّة »(٢) .

وهذه العبارة صريحة في أنّهعليه‌السلام الصاحب الشرعيّ لمقام الخلافة، لوجود خصائص الولاية في أهل البيت وهو رئيسهم، ولوجود الوصيّة في أعيانهم وهو أوّلهم.

كما يرى أنّهعليه‌السلام يصرّح، بأنّ الولاية حقّ شرعيّ له خاصّةً ولكنّ قريشاً حالوا بينه وبين ذلك الحقّ إذ يقول: « إنّ الله لـمّا قبض نبيّه استأثر علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من النّاس كافةً، ورأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثوا عهد بالإسلام، والدّين يمخض مخض الرّطب، يفسده أدنى وهن ويقلبه أقلّ خلق »(٣) .

وفي عبارة أخرى يصرّح الإمامعليه‌السلام بهذا الحقّ بأشدّ وضوح إذ يقول: « أللّهم استعينك على قريش ومن أعانهم، فإنّهم قطعوا رحمي وصغّروا عظيم منزلتي وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي »(٤) .

__________________

(١) تاريخ الطبريّ ٢: ٢١٦، نقض العثمانيّة كما في شرح نهج البلاغة ٣: ٢٦٣، شرح الشفاء للقاضي عياض ٣: ٣٧، تفسير الخازن: ٣٩٠، وحياة محمّد لهيكل: ١٠٤، مسند أحمد ١: ١٥٩ وغيرها.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٢.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٨: ٣٠.

(٤) نهج البلاغة لعبده: الخطبة ١٦٨.

١٧٥

وفي عبارة رابعة قال مجيباً على اعتراض أبي عبيدة الجّراح على الإمام حرصه على الخلافة والإمرة: « بل أنتم ـ والله ـ أحرص وأبعد وأنا أخصّ وأقرب، وإنّما طلبت حقّاً لي، وأنتم تحولون بيني وبينه وتصرفون وجهي دونه »(١) .

ووجه الدلالة لهذا الكلام العلويّ يتّضح إذا درسنا هذا الحقّ الذي يدّعيه الإمام لنفسه، ماهيّته وحقيقته.

وفي عبارة خامسة يقول الإمامعليه‌السلام : « فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقّي مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يوم النّاس هذا »(٢) .

والعجيب، أنّ ابن أبي الحديد فسّر هذا ( الحقّ ) الذي صرّح به الإمام في مواضع عديدة بما يخالف ظاهره. إذ قال ما توضيحه :

إنّ الإمام لـمّا كان أقرب الناس إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان أعلمهم وأعدلهم كان له بذلك ( حقّ طبيعيّ ) بأن يكون هو الخليفة، وأن يقع اختيار الاُمّة عليه للقيادة والإمرة، غير أنّ الاُمّة ـ مع ماله من الحقّ المذكور ـ عدلت عنه، وقدّمت المفضول على الفاضل لمصلحة كانت تراها، فعمد الإمام إلى التظلّم والشكوى واللوم على الناخب والمنتخب.

فالحقّ الذي يدّعيه الإمامعليه‌السلام في هذه العبارات، والذي حرمته قريش وأزالته عنه ليس حقّاً شرعيّاً، وليس انتخاب غيره عدولاً عن أمر الشرع، بل كان حقاً طبيعيّاً، وعقليّاً واجباً يوجب على الإنسان ان لا يعدل مع وجود الأعلم إلى العالم، ومع وجود الأفضل إلى المفضول، ومع وجود اللائق إلى غير اللائق، بل لابدّ أن يعطى زمام الأمر إلى العالم المستجمع لشرائط القيادة روحيّاً وجسميّاً.

بيد أنّ هذا التوجيه والتفسير، ينبع عن رأي مسبّق اتخذه صاحبه، ودرس ( الحقّ ) مستنداً على ذلك الرأي والموقف المسبّق وهو غير مقبول.

__________________

(١) نهج البلاغة لعبده: الخطبة ١٦٧.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٥٩.

١٧٦

فإنّه إذ ذهب إلى تصحيح خلافة الخلفاء الذين تسلّموا قيادة المسلمين بعد الرسول، صار إلى تأويل هذه العبارات وتفسير الحقّ على النحو المخالف لظواهرها الواضحة.

والناظر إلى هذه العبارات والعارف بكلمات الإمامعليه‌السلام يعلم أنّ الإمام يقصد غير ما قاله ابن ابي الحديد، فإنّه :

أوّلاً: يعتمد على كلمة ( الوصاية )، وهو يبطل بصراحة ما أدّعاه ابن أبي الحديد إذ المراد من الوصاية هو إيصاء النبيّ بالخلافة والولاية الشرعيّة له بعده.

وكلمات الوصاية هذه وردت في كلمات كثيرة للإمام مرّ عليك بعضها في العبارات السابقة، كما وصف الإمام بها في بعض كلمات المسلمين وأشعارهم(١) .

ثانياً: إنّ اللياقة التي توجد في الإمام عليّعليه‌السلام لا تولّد لوحدها حقّاً لعليّعليه‌السلام ما لم ينضّم إليه انتخاب الاُمّة على مبنى ابن أبي الحديد، الذي يرى أنّ الخلافة عمليّة انتخابيّة، فإنّ الحقّ في الخلافة على هذا المبنى يعتمد على أمرين :

١. اللياقة الذاتيّة.

٢. انتخاب الشعب.

فلو انتفى أحد الجزئين، انتفى الحقّ في الخلافة، فلا يبقى حقّ لكي يدّعيه الإمام ويركّز عليه.

وبتعبير آخر: إنّ أمر القيادة لو كان راجعاً إلى المشاورة والاستفتاء ومفوّضاً إلى انتخاب الصحابة أو أهل الحلّ والعقد، فإذا لم ينتخبوا أحداً لا يكون الشخص ذا حقّ في الخلافة والإمرة والقيادة، وإن كان ذا فضائل وكفاءات وصفات قياديّة، ولا يعدّ العدول عنه عدولاً عن الحقّ، وميلاً إلى الظلم والإجحاف بأحد، مع أنّ كلمات الإمامعليه‌السلام صريحة في أنّ هذا العدول كان عدولاً من الحقّ إلى غير الحقّ إذ قال: « وأجمعوا

__________________

(١) لاحظ شرح النهج ١: ١٤٣ ـ ١٥٠.

١٧٧

على منازعتي أمراً هو لي ».

وأمّا أنّ الإمام لماذا لم يقم على اخذ الحقّ مع ما يتمتّع به من الشرعيّة والقوّة ؟ فقد أشار الإمام إلى سببه في كلماته إذ قال معزياً ذلك إلى حرصه على وحدة المسلمين ودمائهم: « فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من فرقة المسلمين وسفك دمائهم والناس حديثوا عهد بالإسلام، والدّين يمخض مخض الرّطب يفسده أدنى وهن ويقلبه أقلّ خلق ».

وإلى هذا السبب أشار في موضع آخر إذ قال: « لـمّا قبض الله نبيّه قلنا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون النّاس وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن لا يعود الكفر ويبور الدّين لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه »(١) .

ولمّا طالب بعض اصحاب الإمام في أبيات له أن يطالب الإمام بذلك الحقّ الشرعيّ قالعليه‌السلام : « سلامة الدّين أحبّ إلينا من غيره »(٢) .

وفي كلام آخر لهعليه‌السلام نجده يعزي سكوته العظيم وإحجامه عن استخدام القوّة إلى عدم وجود النصير الحقيقيّ له إلّا أهل بيته الذين كان يحرص على المحافظة عليهم: « فنظرت فإذا ليس معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت وأغضيت على القذى وشربت على الشّجى، وصبرت على أخذ الكظم وعلى أمر من طعم العلقم »(٣) .

ويؤيّد أنّ الحقّ الذي كان يدّعيه الإمامعليه‌السلام إنّما هو حقّ شرعيّ، أنّه حكّم الله بينه وبين من دفعوه عن مقامه إذ قال لمن سأله وهو أحقّ به: « فاعلم فأمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً والأشدّون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نوطاً ( أي تعلّقاً ) فإنّها كانت أثرةً شحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين والحكم الله، والمعود إليه يوم القيامة »(٤) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٣٠٧.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ٤١.

(٣ و ٤) نهج البلاغة: الخطبة ٢٦ ـ ١٥٧.

١٧٨

وهذا يفيد بوضوح أنّ ذلك الحقّ كان حقّاً شرعيّاً إلهيّاً ستسئل الاُمّة الإسلاميّة عنه يوم القيامة.

وخلاصة القول: أنّ النصوص متضافرة على أنّ الإمام كان موصى له بالخلافة ومنصوصاً عليه بالإمرة والولاية ولكنّهعليه‌السلام لم يجد الظروف مناسبةً للمطالبة بذلك المقام المنصوص والحقّ المصرّح به، حفاظاً على مصلحة الإسلام والمسلمين، وتجنباً من سفك الدماء وتفرق وحدة الاُمّة وسقوط هيبتها. وهو أمر تقتضيها مصلحة القيادة الحكيمة.

وهكذا تبيّن ممّا سبق من البحث المفصّل، أنّ القاعدة الأصليّة في صيغة الحكومة الإسلاميّة بعد النبيّ هو التنصيص الإلهيّ على حاكم معين باسمه وشخصه وهذا هو ما يعبر عنه بالوصاية.

وحاصلها، أنّ الحاكم الأعلى في نظام الحكم الإسلاميّ يجب أن يكون منصوصاً عليه من جانب الله سبحانه، فكما أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان نبيّاً ورسولاً وحاكماً وقائداً من جانب الله سبحانه، فلابدّ أن يكون خليفته المتولّي لشؤون المسلمين من بعده، منصوصاً عليه، وعلى قيادته من جانبه سبحانه أيضاً.

فذلك كما أسلفنا، ممّا يقتضيه العقل ويدلّ عليه الكتاب والسنّة ويؤكّده موقف الصحابة والخلفاء، وتكشف عنه سيرة الأمم السالفة والأنبياء السابقين.

وقد اقتصرت مهمّتنا في هذا البحث الموسّع، على الاستدلال والبرهنة على هذه القاعدة الأصيلة في صيغة الحكومة الإسلاميّة ولا يهمّنا هنا إثبات من ورد في شأنه النصّ الإلهيّ، وعيّنه الله سبحانه لإمرة المسلمين وقيادتهم فذلك موكول إلى الكتب المعتبرة والمصادر الموثوقة التي تهتمّ بهذا الأمر وتحتوي على النصوص المرتبطة به.

وصفوة القول، أنّ جميع الأدلة النقليّة والمحاسبات العقليّة والاجتماعيّة والشواهد التأريخيّة تدلّ بالإجماع على، أنّ الأصل الأصيل في الحاكميّة هو أنّ الحكم لله سبحانه وحده بالأصالة والاستقلال، وهو يستخلف من يشاء من عباده الصالحين اللائقين

١٧٩

القادرين على إدارة البشريّة وكفايّة اُمورهم وهم ممن تتوفر فيهم مؤهّلات، وكفاءات عالية ولا تعرف بالطريق العاديّ، ولا تكشف بالتجربة والاختيار ولا تحصل إلّا بإعداد إلهيّ وتربية ربانيّة.

بيد أنّ الإسلام إذ لم يشرّعه الله سبحانه إلّا ليكون منهج حياة للبشريّة يتكفّل تنظيم حياتهم عامّةً، ولم يكن له بدّ من التخطيط لموضوع الحكومة والدولة التي هي محور الحياة الاجتماعيّة وأساسها في جميع الأحوال وجميع الظروف والأزمنة، فإذا لم يتسنّ للمجتمع التوصّل إلى الحاكم المنصوص عليه من جانب الله بالاسم، لأسباب استثنائيّة، وظروف خاصّة، ولم يجز للإسلام إهمال مسألة الحكومة، فلابدّ أن يكون له منهج رصين في هذا المجال ايضاً.

وبتعبير آخر أنّ ما ذكرناه لك في الصفحات الماضية والبحوث المتقدمة إنّما هو راجع إلى الظروف التي يوجد فيها إمام منصوص عليه يمكن التوصّل إليه بالأسباب العاديّة، ويتسنّى له أن يباشر إدارة المجتمع وتدبيره.

غير أنّ المفروض في هذا العصر هو عدم وجود مثل ذلك الإمام فلابدّ أن يكون للدين الإسلاميّ تخطيط آخر قطعاً ولا شكّ أنّه تخطيط موجود في الشريعة ويمكن تحصيله بالدراسة والتحقيق، إذ لا يمكن للإسلام أن يهمل هذه الناحية الحساسّة من حياة المجتمع على كلّ حال.

فلابدّ إذن للباحث عن الحقيقّة، أن يتحرّى برنامج الإسلام في هذا المجال في الكتاب والسنّة ونصوص الأئمّة الإسلامييّن، حتّى يستنبط ما يقرره الإسلام في مجال الحكم في هذه الظروف.

وهذا هو ما سنفعله في البحث القادم.

رأي الخُضريّ ومناقشته

وفي الختام نأتي بما قاله الاستاذ محمّد الخضرّي :

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

جمادى الأولى إلى واسط الأمير محمد بن بوقا التُّركماني؛ فمَلكها وأخرج منها أصحاب صدقة، وأنفذ خيله إلى بلد قوسان مِن أعمال صدقة فنهبه. وأقام أيَّاماً حتَّى بعث صدقة ابن عمه ثابت بن سلطان في عسكرٍ؛ فخرج منها الأمير محمد، ومَلكها ثابت وأقاموا على دجلة. وخرج ثابت لقتاله فهزموه واقتحموا البلد، ومنعهم الأمير محمد مِن النهب، ونادى بالأمان. وأمر السلطان الأمير محمداً بنَهب بلاد صدقة، فسار إليها وأقطع مدينة واسط لقسيم الدولة البُرسقي. ثُمَّ سار السلطان مِن بغداد آخر رجب، ولقيه بالناشرة بالعرب ورغَّب الأكراد بالمواعد، ثُمَّ غَشيه التُّرك فحَمل عليهم وهو ينادي: أنا مَلِك العرب أنا صدقة؛ فأصابه سهم أثبته، وتَعلَّق به غلام تركي يسمى برغش فجذبه إلى الأرض، فقال: يا برغش ارفِق؛ فقتله وحمل رأسه إلى السلطان فأنفذه إلى بغداد، وأمر بدفن شلوه، وقُتِل مِن أصحابه ثلاثة آلف أو يَزيدون، ومِن بني شيبان نحو مائة وأُسر ابنه دبيس، ونجا ابنه بدران إلى الحِلَّة، ومنها إلى البطيحة عند صِهره مُهذّب الدولة، وأُسر سرجان ابن كيخسرو المُستجير بصدقة على السلطان، وسعيد بن حميد العمدي صاحب الجيش. وكان مَقتل صدقة لإحدى وعشرين سنة مِن إمارته، وهو الذي بنى الحِلَّة بالعراق. وكان قد عظُم شأنه، وعلا قدره بين المُلوك، وكان جَواداً حليماً صدوقاً عادلاً في رعيَّته، وكان يَقرأ ولا يكتب وكانت له خُزانة كتب مَنسوبة الخطِّ ألوف مُجلَّدات. ورجع السلطان إلى بغداد مِن دون الحِلَّة، وأرسل أماناً لزوج صدقة، فجاءت إلى بغداد. وأمر السلطان الأُمراء بتلقِّيها وأطلق لها ولدها دُبيساً، واعتذر لها مِن قتل صدقة، واستحلف دُبيساً على الطاعة وأنْ لا يُحدِث حَدثاً وأقام في ظلِّه وأقطعه إقطاعاً كثيراً. ولم يَزل دُبيس مُقيماً عند السلطان محمد إلى أنْ تُوفِّي، وملك ابنه محمود سنة إحدى عشرة، فرغب دُبيس مِن السلطان محمود أنْ يُسرِّحه إلى بلده؛ فسرَّحه وعاد إليها فمَلكها. واجتمع عليه خَلق كثير مِن العرب والأكراد واستقام أمره.

خبر دُبيس مع البُرسقي ومع الملك مسعود

لما تُوفِّي الخليفة المستظهر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة وبويع ابنه

٣٢١

المسترشد، خاف ابنه الآخر مِن غائلة أخيه، وانحدر في البحر إلى المدائن وسار منها إلى الحلَّة، فأبى أنْ يكرهه، فتلطَّف علي بن طراد لأخي الخليفة، فأجاب وتكفَّل دُبيس بما يطلبه. وبينما هو في خلال ذلك برز البُرسقي من بغداد مُجلِباً على دُبيس الجموع، وسار أخو الخليفة إلى واسط فملَكها في صفر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة؛ وقوي أمره وكثُرت جموعه، فبعث الخليفة إلى دُبيس في شأنه وأنَّه خرج عن جِواره؛ فلقي أمره بالطاعة؛ وبعث إليه وهو باسط عسكراً مِن قبله فتلقَّاه، وقبض عليه وبعثه إلى أخيه المسترشد. وكان مسعود أخو السلطان محمد بالموصل ومعه اتابكه جيوس بك فاعتزما على قصد العراق لغيبة السلطان محمود عنه. فسار لذلك ومعه وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس وقسيم الدولة زنكي بن أَقسنقر أبو المعالي أبو الملك العادل وكروباوي بن خراسان التُّركماني صاحب البوازيج وأبو الهيجاء صاحب أربل وصاحب سنجار. فلما قاربوا بغداد خاف البُرسقي شأنهم وبعث إليه الملك مسعود وجيوس بك انهم إنما جاءوا نجدة على دُبيس. وكان البُرسقي إنَّما ارتاب مِن جيوس بك فصالحهم. ودخل مسعود بغداد ونزل دار المَملكة، وجاء منكبرس في العساكر، فسار البُرسقي مِن بغداد لمحاربته ودفاعه، فمال إلى النعمانية وعبر دجلة واجتمع مع دُبيس بن صدقة وكان دُبيس قد صانع مسعوداً وصاحبه بالهدايا والألطاف مدافعة عن نفسه، فلما لقيه منكبرس اعتضد به. وسار الملك مسعود والبُرسقي وجيوس بك إلى المدائن للقائهما، ثم خاموا عن لقائهما لكثرة جموعهما، ونكبوا عن المدائن وعبروا نهر صرصر، وأكثروا النهب في تلك النواحي مِن الطائفتين. وبعث إليهما المسترشد بالمَوعظة، ويأمرهم بالموادعة والمصالحة، فأجابوا إلى ذلك. ثُمَّ بلغهم أنَّ دُبيساً ومنكبرس قد بعثا العساكر مع منصور أخي دُبيس حسين بن أوزبك ربيب منكبرس ليخالفوهم إلى بغداد، فخلوها من الحامية. فأغذ البُرسقي السير إلى بغداد وترك ابنه عز الدين مسعود على العسكر، وصحبه عماد الدين زنكي بن آقسنقر وانتهى إلى ديالي، ومنع العسكر مِن العبور. ثُمَّ جاءه الخبر ليومين بصِلح الفريقين كما أشار الخليفة، ففتر نشاطه وعبر إلى الجانب الغربي مِن بغداد، وجاء في أثره منصور أخو دُبيس وحسين ربيب منكبرس، فنزلا في الجانب الشرقي مِن بغداد. وأغار البُرسقي على نعم

٣٢٢

الملك مسعود فأخذها، وعاد فخيَّم بجانب آخر مِن بغداد، وخيَّم مسعود وجيوس بك مِن جانبٍ آخر، ودُبيس ومنكبرس مِن جانبٍ ومعهما عِزُّ الدولة بن البُرسقي مُنفرداً عن أبيه. وكان جيوس بك قد بعث إلى السلطان مَحمود بطلب الزيادة له وللملك مسعود، فجاء كتاب مع رسوله يذكر أنَّ السلطان كان اقطعهم آذربيجان حتَّى إذا بلغه مَسيرهم إلى بغداد تثاقل عن ذلك، وقد جهَّز العساكر إلى الموصل. ووقع الكتاب بيد منكبرس؛ فبعث إلى جيوس بك وضَمن له إصلاح الحال وكان يؤثِر مصلحته؛ إذ كان مُتزوِّجاً بأمِّه. فتَمَّ الصلح وافترق عن البُرسقي أصحابه، وبطل ما كان يحدّث به نفسه مِن الاستبداد بالعراق، وصار مع الملك مسعود واستقرَّ منكبرس شحنة ببغداد، ورجع دُبيس إلى الحلَّة.

فتنة دُبيس مع السلطان محمود

كان دُبيس بن صدقة كثيراً ما يُكاتب جيوس بك أتابك الملك مسعود، ويغريهم بطلب السلطنة ويعدهم بالمساعدة ليحصل له بذلك علوُّ اليد كما كان لأبيه مع بركيارق ومحمد ابني ملك شاه، وكان قسيم الدولة البُرسقي شحنة بغداد قد سار للملك مسعود وأقطعه مراغة مع الرحبة، وكانت بينه وبين دُبيس عداوة مُستحكمة، فأغراهم دُبيس بالقبض عليه، ففارقهم البُرسقي إلى السلطان محمود فأكرمه. ثُمَّ اتصل الاستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي الأصفهاني الطغرائي بالملك مسعود، وكان ولده أبو المؤيَّد محمد يكاتب الطغرائي عن الملك مسعود. فلمَّا وصل أبوه عزل أبا علي بن عمار صاحب طرابلس واستوزره، وحسن لهم ما أشار به دُبيس، فعزموا عليه، ونُمي الخبر إلى السلطان محمود، فكاتبهم بالوعيد، فأظهروا أمرهم وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة وضربوا له النوب الخمس، وبلغهم أنَّ عساكر محمود مُتفرِّقة، فأغذُّوا السير لمُحاربته والتقوا عند عقبة استرآباد في ربيع سنة أربع عشرة وأبلى البُرسقي وكان في مقدَّمته. ثُمَّ انهزم مسعود وأُسر كثير مِن أصحابه وجيء بالوزير أبي إسماعيل الطغرائي فأمر بقتله لسنةٍ مِن ولايته. وسار مسعود يَطلب الموصل بعد أنْ استأمن البُرسقي، وأدركه فرده إلى أخيه وعفا عنه وعطف عليه. ولحق جيوس بك بالموصل، ثُمَّ بلغه فعل السلطان محمود ومعه ألف سفينة لعبوره، فبادر دُبيس لطلب الأمان

٣٢٣

بعد أنْ أرسل حُرَمه إلى البطيحة، وسار بأمواله عن الحلَّة وأمر بنهبها ولحق بإيلغازي بن أرتق بماردين. ووصل السلطان إلى الحلَّة؛ فوجدها خاويةً على عروشها فرجع عنها. وأرسل دُبيس أخاه منصوراً مِن قلعة صَفد في عسكر إلى العراق بالحلَّة والكوفة، وانحدر إلى البصرة وبعث إلى يرنقش الزكوي في صلاح حالهما مع السلطان محمود، فقبض على منصور أخي دُبيس وولده، وحبسهما ببعض القلاع حِذاء الكرخ، ثُمَّ أذِنَ دُبيس لجماعةٍ مِن أصحابه بالمسير إلى أقطاعهم بواسط، فمنعهم أتراك واسط، فبعث إليهم عسكراً مع مهلهل بن أبي العسكر. وأمر مظفر بن أبي الخير فساعده واستمد أهل واسط البُرسقي فأمدهم بعسكر. وسار مهلهل للقائهم قبل مجيء المظفر، فهُزِم وأُخِذ أسيراً في جماعةٍ مِن أصحابه، وأصعد المظفر مِن البطيحة يَنهب ويُفسد حتَّى قارب واسط. وسمع بالهزيمة فأسرع مُنحدراً ووقع على كتاب بخط دُبيس إلى مهلهل يأمره بالقبض على مظفر بن أبي الخير ومطالبته بالأموال. فبعثوا به إلى المظفر وسار معهم، وبلغ دُبيساً أنَّ السلطان كحل أخاه؛ فلبس السواد ونهب البلاد وأخذ للمسترشد بنهر الملك. وأجفل الناس إلى بغداد، وسار عسكر واسط إلى النعمانيَّة فأوقعوا بمن هنالك مِن عساكر دُبيس وأجلوهم عنها. وكان دُبيس قد أُسر في واقعة البُرسقي عفيفاً خادم الخليفة فأطلقه وحمله إلى المسترشد عقاباً ووعيداً على كحل أخيه، فغضب الخليفة وتقدم إلى البُرسقي بالخروج لحرب دُبيس، وخرج بنفسه في رمضان سنة عشرة وأربعمائة وأتاه سليمان بن مُهارش مِن الحديثة في جماعة مِن بني عقيل وقريش بن مسلّم صاحب الموصل في كافَّة بني عقيل، وأمر المسترشد باستنفار الجند كافَّة، وفرَّق فيهم الأموال والسلاح. وجاء دُبيساً ما لم يَكُن يحتسبه، فرجع إلى الاستعطاف، وبرز الخليفة آخر ذي الحجَّة، وعبر دجلة وهو في أكمل زيِّه ومعه وزيره نظام الدين أحمد بن نظام الملك ونَقيب الطالبيين ونَقيب النُّقباء علي بن طراد وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل. وبلغ البُرسقي سَيرَ المسترشد؛ فعاد إلى خدمته ونزل معه بالحديثة، ثُمَّ سار إلى الموصل على سبيل التعبيَّة، والبُرسقي في المقدِّمة، وعبئ دُبيس أصحابه صفَّاً واحداً وجعل الرجَّالة بين يدي الخيَّالة، وقد كان وَعَد أصحابه بنهب بغداد وسبي حريمها. فالتقى الفريقان، فانهزم عساكر دُبيس وأسر جماعة مِن أصحابه فقُتِلوا صبراً

٣٢٤

وسُبيت حرمه، ورجع المسترشد إلى بغداد يوم عاشوراء مِن سنة سبع عشرة وخمسمائة، ونجا دُبيس وعبر الفرات وقصد غزنة مِن عرب نَجد مُستنصراً بهم، فأبوا عليه؛ فسار إلى المُنتفق وحالفهم على أخذ البصرة، فدخلوا ونهبوا أهلها وقتل مُقدَّم عسكرها. وبعث المسترشد إلى البُرسقي بالعِتاب على إهمال أمر البصرة، فتجهَّز البُرسقي للانحدار إليها، ففارقها دُبيس ولحق بقلعة جعبر، وصار مع الفرنج وأطمعهم في حَلب، وسار معهم لحصارها سنة ثمان عشرة وخمسمائة، فامتنعت عليهم، فعادوا عنها، ولحق هو بالملك طغرلبك ابن السلطان محمد، فأغراه بالمسير إلى العراق.

مسير دُبيس إلى الملك طغرل

لمَّا سار دُبيس مِن الشام إلى الملك طغرل بأذربيجان تلقَّاه بالمبرَّة والتكرمة، وأنظمه في خواصِّه ووزرائه، وأغراه دُبيس بالعراق وضَمن له مُلكه؛ فسار معه لذلك وانتهوا إلى دقوقا في عساكر كثيرة. وكتب مجاهد الدين بهروز صاحب تكريت إلى المسترشد بالخبر؛ فتجهَّز لمدافعتهم وجمع العساكر فبلغوا اثني عشر ألف فارس، وبرز مِن بغداد في صَفَر سنة تسع عشرة وخمسمائة وفي مقدِّمته برتقش الزكوي ونزل الخالص. وانتهى إلى طغرل خروج المسترشد، فعدل إلى طريق خراسان، ونزل جلولاء وتفرَّق أصحابه للنهب. وبرز إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في عساكر كثيرة، فنزل الدسكرة ولحقه المسترشد وكان معه. ورحل طغرل ودُبيس إلى الهارونيَّة، ثُمَّ سارا إلى تامرا ليَقطعا جِسر النهروان، فحفظ دُبيس المعابر، وتقدَّم طغرل إلى بغداد وتَملَّكها ونهبها. ثُمَّ رحل دُبيس مِن تامرا، وأقام طغرل لحُمَّى أصابته وحالت بينهما الأمطار والسيول، ثُمَّ أخذ دُبيس ثِقلاً جاء للخليفة فيه ملبوس وطعام كثير، وكان لحِقه الجوع والتعب والبرد، فأخذ مِن ذلك الملبوس ولبسه، وأكل مِن الطعام كثيراً واستقبل الشمس فأخذه النوم ورقد. وأما الخليفة لمَّا بلغه الخبر بأخذ الثقل رجع إلى بغداد، ففي حال سيره عثر على دُبيس وهو نائم فوقف وأيقظه، فحلَّ عينيه ورأى الخليفة؛ فبادر بتقبيل الأرض على العادة وسأل العفو، فرقَّ له الخليفة، وثناه الوزير ابن صدقة عن ذلك. ووقف دُبيس إزاء عسكر برتقش يحادثهم، ثُمَّ مدُّوا الجسر آخر النهار للعبور، فتسلَّل دُبيس عنهم ولحق

٣٢٥

بالملك طغرل، وسار معه إلى عمِّه الملك سنجر. وعاثوا في أعمال هَمَذان، واتبعهم السلطان محمود فلم يظفر بهم.

مسير دُبيس إلى السلطان سنجر

لمَّا أيَّس طغرل مِن مُلك العراق عندما سار إليه مع دُبيس عاد منه، وسار هو ودُبيس إلى السلطان سنجر، وهو يومئذٍ صاحب خراسان والمُتقدِّم على بني ملك شاه، فشكى إليه طغرل ودُبيس مِن المسترشد وبرتقش الشُّحنة ووعدهم النصفة منهم. ثُمَّ داخله دُبيس وأطمعه في مُلك العراق، وخَيَّل له أنَّ المسترشد والسلطان محموداً مُتَّفقان على مباعدته، ولم يَزل يَفتِل له في الذروة والغارب حتَّى حَرَّك حفيظته لذلك، وسار إلى العراق سنة ثنتين وعشرين وخمسمائة، فوصل إلى الري واستدعى السلطان محموداً مِن هَمَذان يَختبر ما خَيَّل له دُبيس. فجاء محمود مُبادراً وأكذب دُبيساً فيما خَيَّل، وأمر السلطان سنجر العساكر بتلقِّي السلطان محموداً، وأجلسه معه على التخت وأقام عنده إلى آخر سنة ثنتين وعشرين وخمسمائة. ثُمَّ عاد إلى خراسان وأوصاه بإعادة دُبيس إلى بلده، فرجع السلطان محمود إلى هَمَذان ودُبيس معه. ثُمَّ سار إلى بغداد في مُحرَّم سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وأنزل دُبيس بداره واسترضى له الخليفة، فرضي عنه، وامتنع مِن ولايته. وبذل دُبيس مائة ألف دينار لذلك فلم يَقبله. وعاد السلطان محمود إلى هَمَذان مُنتَصف السنة.

فتنة دُبيس مع محمود وأسره

كانت زوجة السلطان محمود وهي ابنة عمِّه سنجر تُعنى بأمر دُبيس، فماتت عند رحيل السلطان إلى هَمَذان، فانحلَّ أمره ثُمَّ مَرِض السلطان، فأخذ دُبيس ابنه الصغير وقصد العراق. فجمع المسترشد لمدافعته وكان بهروز شُحنة بغداد بالحلَّة، فهرب عنها، ومَلكها دُبيس في رمضان سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة. وبلغ الخبر إلى السلطان محمود؛ فأحضر الأمير ابن قزل والأحمديلي، وكانا ضَمنا دُبيساً فطالبهما بالضَمان، فسار الأحمديلي في أثره. وجاء السلطان إلى العراق، فبعث إليه دُبيس بهدايا عظيمة كان فيها مائتا ألف دينار وثلاثمائة فرس بسروج مُثقلَّة بالذهب. ثُمَّ

٣٢٦

جاء إلى البصرة، ونهبها وأخذ ما في بيوت الأموال، وبعث السلطان في أثره العساكر، فدخل البرية وجاءه عند مُفارقته البصرة قاصداً مِن صرصر يستدعيه. وكان صاحبها خِصيَّاً. فتُوفِّي في هذه السنة وخلف سَريَّةً له، فاستولت على القلعة، وأرادت أنْ تُتِمَّ أمرها برجل له قوَّة ونَجدة، فوصف لها دُبيس وحاله في العراق وكَثرة عشيرته. فكتبت تستدعيه لتتزَّوج به وتُملِّكه القلعة بما فيها، فلحقه الكتاب بعد مُفارقته البصرة، وقَفل مِن العراق إلى الشام ومعه الأدلاَّء، ومَرَّ بدمشق فحبسه واليها عنده، وبعث فيه عماد الدين زنكي وكان عدوه، وكان عنده ابن تاج الملوك مأسوراً في واقعةٍ كانت بينهما. فطلب أنْ يَبعث إليه دُبيساً ويفادي به ابنه والأمراء الذين معه؛ ففعل ذلك تاج الملوك. وحصل دُبيس في يد زنكي وقد أيقن بالهلاك، فأطلقه زنكي وحمل له الأموال والدواب والسلاح وخزائن الأمتعة كما يَفعل مع أكابر الملوك. وبلغ المسترشد خبره؛ فبعث سديد الدين ابن الانباري يطلبه مِن تاج الملوك؛ فسار لذلك مِن جزيرة ابن عمر، وبلغه في طريقه أنَّه بعثه إلى زنكي وأنَّه فاته القصد منه.

مسير دُبيس إلى بغداد مع زنكي وانهزامهما

لمَّا تُوفِّي السلطان محمود سنة خمس وعشرين وخمسمائة، وولي بعده داود، ونازعه عمومته مسعود وسلجوق. ثُمَّ استقرت السلطنة لمسعود، وكان أخوهما طغرل عند عمِّه سنجر بخراسان، وكان كبير بيت أهل السلجوقيَّة وله الحُكم على مُلوكهم. فنكَّر على السلطان محمود لقتاله سلجوق وطغرل، وسار به إلى العراق وانتهى إلى هَمَذان، وبعث إلى عماد الدين زنكي، فولاَّه شُحنة بغداد وإلى دُبيس بن صدقة، وهو عند زنكي فأقطعه الحلَّة. وتجهَّز السلطان محمود لقتال سنجر وطغرل، واستدعى الخليفة للحضور معه، فخرج مِن بغداد وعاجلهم. ورجع المسترشد إلى بغداد. وقد سمع بوصول زنكي ودُبيس، فلقيهم بالعباسيَّة فهزمهم وقتل مِن عسكرهم ودخل بغداد. وسار دُبيس إلى بلاد الحلَّة وكانت بيد إقبال المسترشد، فبعث إليها بالمَدد، فهزموا دُبيساً ونَجا مِن المعركة. ثُمَّ جمع جَمعاً وقصد واسط وانضمَّ إليه عسكرها وابن أبي الخير صاحب البطيحة، ومَلكها إلى سنة سبع وعشرين، فبعث إقبال الخادم وبرتقش الشُّحنة العساكر

٣٢٧

إلى دُبيس، فلقيهم في عسكر واسط، وانهزم وسار إلى السلطان مسعود فأقام عنده.

مقتل دُبيس وولاية ابنه صدقة

لم يَزل دُبيس مُقيماً عند السلطان مسعود إلى أنْ حدثت الفتنة بينه وبين المسترشد، ومات أخوه طغرل. وسار مسعود إلى هَمَذان بعد موت أخيه طغرل، فمَلكها وفارقه جماعة مِن أعيان أُمرائه ومعهم دُبيس بن صدقة مُستوحشين منه، واستأمنوا الخليفة، فحذَّر من دُبيس ولم يَقبلهم، فمضوا إلى خوزستان واتَّفقوا مع بُرسق بن بُرسق. ثُمَّ تدارك الخليفة رأيه وبعث إلى الأُمراء الذين مع دُبيس بالأمان، وكانوا لمَّا ردَّهم الخليفة بسبب دُبيس أجمعوا القَبض عليه وخدمة الخليفة به، وشَعَرَ بهم وهرب إلى السلطان مسعود، وبرز الخليفة مِن بغداد في رجب مِن سنة تسع وعشرين وخمسمائة لقتال مسعود، وكتب إليه أكثر أهل الأعمال بالطاعة. وأرسل إليه داود بن السلطان محمود مِن أذربيجان بأنْ يَقصد المُسترشد الدينور ليَحضر داود حربه أبى، وسار على التعبئة حتَّى بلغ وأعرج، فالتقوا هنالك، وانهزمت عساكر المسترشد، وأُخذ أسيراً، ومعه وزيره شرف الدين علي بن طراد، وقاضي القُضاة، وابن الأنباري، وجماعة مِن أعيان الدولة، وغَنِم ما في عسكره وعاد السلطان إلى بغداد. وبعث الأمير بكاية شُحنة إلى بغداد وكَثُر العويل والبكاء والضجيج ببغداد على الخليفة، وجعل الخليفة في خَيمة ووكَّل به. وراسله السلطان مسعود في الصلح وشرط عليه مالاً يؤديه، ولا يَجمع العساكر، ولا يَخرج من داره ما بقي. وانعقد ذلك بينهما. وبينما هما في ذلك وصل رسول السلطان سنجر، فركب السلطان مسعود للقائه وافترق المتوكِّلون بالمسترشد، فدخل عليه خيمته آخر ذي القعدة مِن سنة تسع وعشرين جماعة الباطنيَّة وقتلوه، وقتلوا معه جماعة مِن أصحابه. ولمَّا قُتل المُسترشد اتَّهم السلطان مسعود أنَّ دُبيس بن صدقة دس أولئك النفر عليه فأمر بقتله، وقصده غُلام فوقف على رأسه عند باب خيمته وهو يَنكث الأرض بأصبعه، فأطار رأسه وهو لا يَشعر. وبلغ الخبر إلى ابنه صدقة وهو بالحلَّة، فاجتمعت عليه عساكر أبيه ومماليكه واستأمن إليه الأمير قطلغ تكين، وأمر السلطان مسعود الشُّحنة بك أبه بمُعاجلته، وأخْذِ الحلَّة مِن

٣٢٨

يده، إلى أن قدم السلطان بغداد سنة إحدى وثلاثين. فقصده صدقة وأصلح حاله معه ولزم بابه.

مَقتل صدقة وولاية ابنه محمد

ولمَّا قُتِل المسترشد ولي ابنه الراشد بإشارة السلطان مسعود، ثُمَّ حدثت الفتنة بينه وبين السلطان مسعود. واغراه بها عماد الدين زنكي صاحب الموصل ومعه الراشد، وبايع السلطان مسعود للمُقتفي سنة ثلاثين وخمسمائة. وخَلع الراشد، ففارق الموصل وسار الأُمراء الذين كانوا مع داود إلى بلادهم وتَمسَّك بصدقة بن دُبيس وزوَّجه ابنته. وسار الراشد مِن الموصل إلى أَذربيجان قاصداً المُلك، واجتمع إليه صاحب فارس وخوزستان وجماعة الأُمراء. فسار إليهم السلطان مسعود وهزمهم، وأخذ صاحب فارس الأمير منكبرس فقتله صبراً، وتسلَّل صاحب خوزستان وعبد الرحمان طغايرك صاحب خلخال إلى السلطان مسعود وهو في خف مِن الناس، فحَملوا عليه وهزموه، وقبضوا على جماعة مِن الأُمراء الذين معه، فقتلهم منكبرس: فيهم صدقة بن دُبيس، وعنبر بن أبي العسكر. وذهب داود إلى هَمَذان فمَلكها واستقال السلطان مسعود مِن عثرته، وولَّى على الحلَّة محمد بن دُبيس وجعل معه مهلهل بن أبي العسكر أخا عنبر بربره، واستقام أمره بالحلَّة.

تغلُّب علي بن دُبيس على الحلَّة ومِلكه إيَّاها مِن أخيه محمد

لمَّا خرج سنة ست وأربعين وخمسمائة بوزاية صاحب فارس وخوزستان على السلطان مسعود، وبايع للسلطان محمد بن السلطان محمود، وسار معهم عباس صاحب الري، وملكوا كثيراً مِن البلاد سار السلطان مسعود إليهم مِن بغداد، واستخلف بها الأمير مهلهل بن أبي العسكر ونظر الخادم. وأشار مهلهل على السلطان مسعود عند رحيله مِن بغداد أنْ يَحبس علي بن دُبيس بقلعة تكريت، ونُمي إليه الخبر فهرب في نَفرٍ قليلٍ، ومضى إلى بني أسد، فجمعهم وسار إلى الحلَّة فبرز إليه محمد أخوه، فهزمه علي وملك الحلَّة. واستهان السلطان أمره أوَّلاً فاستفحل وضمَّ إليه جمعاً

٣٢٩

من غلمانه وغلمان أبيه وأهل بيته وعساكرهم وكثر جمعهم، فسار إليه مهلهل فيمَن معه في بغداد مِن العسكر، وضربوا عليه مَصافَّاً وكسرهم. وعادوا مُنهزمين إلى بغداد، وكان أهلها يتعصَّبون لعلي بن دُبيس، فكانوا يُعيِّطون إذا ركب مهلهل أو بعض أصحابه: يا علي كُلْه، فكَثُر ذلك منهم بحيث امتنع مهلهل مِن الركوب، ويَدُ عليٍّ فوق كُلِّ يد في أوضاع الأُمراء بالحلَّة، وتصرَّف فيها وصار شُحنة بغداد، ومَن فيها على وَجَلٍ منه، ووضع الخليفة الحامية على الأسوار، وأرسل إلى علي يَحضُّه على الاستقامة، فأجاب بالطاعة، فسكن الناس.

أخذ السلطان الحلَّة مِن يَد علي وعَوْده إليها

كان علي بن دُبيس كثير العَسف بالرعيَّة والظلم لهم، وارتفعت شكوى الرعيَّة به إلى السلطان مسعود سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة، فأشكاهم وأقطع الحلَّة سلاَّركرد، فسار إليها مِن هَمَذان وجمع عسكراً مِن بغداد وقَصد الحلَّة، واحتاط على أهل علي، وأقام بالحلَّة في مماليكه وأصحابه، ورجعت عنه العساكر، ولحق علي بن دُبيس بالتقشكنجر، وكان في أقطاعه باللحف مُتجنِّياً على السلطان مسعود، فاستنجده علي فأنجده، وسار معه إلى واسط وسار معهما الطرنطاي صاحب واسط، فانتزعوا الحلَّة مِن سلاَّركرد، ورجع إلى بغداد آخر ثنتين وأربعين وخمسمائة، واستولى علي على الحلَّة.

نكبة علي بن دُبيس

ثُمَّ انتقض على السلطان مسعود سنة أربع وأربعين وخمسمائة جماعة مِن الأُمراء منهم التقشكنجر والطرنطاي وعلي بن دُبيس، وبايعوا ملك شاه بن السلطان محمود، وساروا به إلى العراق، وراسلوا المُقتفي في الخُطبة له. فامتنع وجمع العساكر، وحَصَّن بغداد وأرسل إلى السلطان مسعود بالخبر، فشُغل عنهم بلقاء عمِّه السلطان سنجر، كان سار إليه بالري. ولمَّا علم التقشكنجر بذلك نهب النهروان وقبض على علي بن دُبيس، وهرب الطرنطاي إلى النعمانيَّة، ثُمَّ وصل السلطان مسعود إلى بغداد، فرحل التقشكنجر مِن النهروان، وأطلق علي بن دُبيس فسار إلى بغداد، فرحل التقشكنجر مِن النهروان، وأطلق علي بن دُبيس، فسار إلى السلطان مسعود، فلقيه ببغداد واستعطفه فرضي عنه.

٣٣٠

الجميلة والمآثر الحميدة مُطرحاً لفرائض الشريعة، مُتغافلاً عن ارتكاب المَحارم الشنيعة مُستحسناً لسبِّ الصحابة رضي الله عنهم. فكان ما نزل به عليه عاقبة هذه الأفعال الذميمة، وما ربُّك بغافلٍ عمَّا يعملون.

ابن خلكان في تَرجمة السلطان محمد بن ملكشاه ج٢ ص٦٧

لمَّا تُوفِّي ملكشاه، اقتسم مَملكته أولاده الثلاثة، وهم: بركيارق، وسنجر، ومحمد، ولم يَكُن لمحمد وسنجر وهما مِن أُمٍّ واحدة مع وجود بركيارق حديث؛ لأنَّه كان السلطان المُشار إليه، وهما كالأتباع له. ثُمَّ اختلف محمد وبركيارق، فدخل محمد وأخوه سنجر إلى بغداد، وخَلع عليهما الإمام المستظهر بالله. وكان محمد قد التمس مِن أمير المؤمنين أنْ يجلِس له ولأخيه سنجر، فأُجيب إلى ذلك وجلس لهما في قُبَّة التاج وحضر أرباب المَناصب وأتباعهم. جلس أمير المؤمنين على سدَّته، ووقف سيف الدولة صدقة بن مزيد صاحب الحلَّة عن يمين السدَّة، وعلى كَتفه بُردة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وعلى رأسه العِمامة وبين يديه القضيب. وأُفيض على محمد الخُلع السبع التي جرت عادة السلاطين بها. وأُلبس الطوق والتاج والسوارين، وعقد له الخليفة اللواء بيده وقلَّده سيفين وأعطاه خمسة أفراس بمراكبها، وخلع على أخيه سنجر خُلعة أمثاله، وخطب لمحمد بالسلطنة في جامع بغداد، كجاري عادتهم في ذلك الزمان، وتركوا الخُطبة لبركيارق.

ابن الطقطقي في كتابه الفخري قال في ذِكر خلافة المسترشد:

لمَّا بويع المسترشد بالخِلافة، هرب أخوه الأمير أبو الحسن وأخفى نفسه ومضى إلى الحلَّة مُستجيراً بدُبيس بن صدقة صاحب الحلَّة، وكان دُبيس بن صدقة مِن أجواد الدنيا، كان صاحب الدار والجار، والحِمى والذِّمار، وكانت أيَّامه أعياداً، وكانت الحلَّة في زمانه مَحطَّ الرحال، ومَلجأ بني الآمال، ومأوى الطريد، ومُعتصم الخائف الشريد، فأكرمه دُبيس إكراماً زائداً عن الحدِّ وأفرد له داراً، وأكرمه إكراماً كثيراً. ومَكث عنده مُدَّة على أحسن حال. فلمَّا عَلِم أخوه المسترشد بالله أنَّه عند دُبيس قلق لذلك

٣٣١

وخاف مِن أمرٍ يَحدِث مِن ناحيته؛ فبعث نَقيب النُّقباء علي بن طراد الزينبي إلى الحلَّة بخاتمه وأمانه، وأمره أنْ يأخذ البيعة على دُبيس، ويَطلب منه أنْ يُسلِّم إليه الأمير أبا الحسن. فقال دُبيس: أمَّا البيعة فالسمع والطاعة لأمير المؤمنين وبايع. وأمَّا تسليم جاري فلا والله لا أُسلِّمه إليكم وهو جاري ونزيلي، ولو قُتِلت دونه إلاَّ إنْ اختار. فأبى الأمير أبو الحسن التوجُّه صحبة النَقيب إلى أخيه، فمضى النَقيب وحده، ثُمَّ بعد ذلك ظفر به المسترشد، فسجنه في بعض دوره على حالة جميلة.

إمارة بني مقن فرع المقلَّد مِن آل المسيب العقيليين

أوَّل مَن ذُكِر مِن هذا الفرع محمد أبو عبد الله بن مقن بن جعفر بن عمرو بن المهيَّا المهنى، والمقن أخو المقلَّد بن جعفر، وابن المقلَّد رافع، وابن رافع المسيب، وابن محمد بن مقن الأوَّل رافع والثاني غريب.

ما جاء في كامل ابن الأثير الجزء التاسع من أخبارهم

حوادث سنة (٣٨٧): تَقدَّم ذِكر الخِلاف بين المقلَّد وأخيه علي بن المسيب على الإمارة، وإعماله الحيلة على قبض أخيه، واحضاره عسكره مِن الديلم والأكراد، وإعلامهم أنَّه يُريد قصد دقوقا. وقد حلَّفهم على الطاعة، وكانت داره مُلاصقة دار أخيه، فنَقب الحائط ودخل إليه وهو سكران، فأخذه وأدخله الخَزانة وقبض عليه، وأرسل إلى زوجته يأمرها بأخذ ولديه قرواش وبدران واللِّحاق بتكريت قبل أنْ يسمع أخوه الخبر، ففعلت ذلك وخَلَّصت، وكانت في الحلَّة التي له على أربعة فراسخ مِن تكريت، وسمع الحسن الخبر؛ فبادر إلى الحلَّة ليقبض أولاد أخيه فلم يَجدهم، وأقام المقلَّد بالموصل يستدعي رؤساء العرب ويَخلع عليهم، واجتمع عنده زهاء ألفي فارس. وسار الحسن في حلل أخيه علي ومعه أولاده وحرمه، ويستنفرهم على المقلَّد، واجتمع معه نحو عشرة آلاف، وراسل المقلَّد يؤذنه بالحرب؛ فسار عن الموصل وبقي بينهم مَنزلٌ واحدٌ. ونزل بإزاء العلْت، فحضره وجوه العرب واختلفوا عليه، فمنهم مَن أشار بالحرب منهم رافع بن محمد بن مقن، ومنهم مَن أشار بالكفِّ عن القتال وصلة الرحم منهم غريب بن محمد بن مقن؛ وانتهى الأمر بالحرب وفوز المقلَّد.

٣٣٢

سنة (٣٩٧): كان أبو الفتح بن عنّاز التجأ إلى رافع بن محمد بن مقن، ونزل عليه حين أخذ بدر بن حسنويه منه حلوان وقرميسين، فأرسل بدر إلى رافع يذُكِّره مودَّة أبيه وحقوقه عليه، ويَعتب عليه حيث آوى خَصمه، ويَطلب إليه أنْ يُبعده ليدوم له على العهد والودِّ القديم، فلم يفعل رافع ذلك فأرسل بدر جيشاً إلى أعمال رافع بالجانب الشرقي مِن دجلة فنهبها، وقصدوا داره بالمطيرة فنهبوها وأحرقوها، وساروا إلى قلعة البردان وهي لرافع أيضاً ففتحوها قهراً واحرقوا ما كان بها مِن الغَلاَّت وطمّوا بئرها. فسار أبو الفتح إلى عمي الجيوش ببغداد، فَخلع عليه وأكرمه ووعده نصره.

في هذه السنة، لما في نفس بهاء الدولة مِن الحِقد على بدر بن حسنويه، أمر عميد الجيوش بالمسير إلى بلاده. فجمع عسكراً وسار يُريد بلاده، فنَزل (جُند يسابور) فأرسل إليه بدر: إنَّك لم تَقدر على أنْ تأخذ ما تَغلَّب عليه بنو عقيل مِن أعمالكم وبينهم وبين بغداد فرسخ حتَّى صالحتهم، فكيف تَقدر على أخذ بلادي وحِصوني منِّي؟ ومعي مِن الأموال ما ليس معك مِثلها، وأنا معك بين أمرين، إنْ حاربتك فالحرب سِجال، ولا نعلم لمَن العاقبة، فإنْ انهزمت أنا لم يَنفعك ذلك لأنِّي احتمي بقلاعي ومعاقلي وأُنفق أموالي، وإذا عجزت فأنا رجل صحراوي صاحب عَمَد أبعُد ثُمَّ أقرب، وإنْ انهزمت أنت لم تَجتمع، وتَلقى مِِن صاحبك العَتب، والرأي أنْ أحمل إليك مالاً تُرضي به صاحبك، ونَصطلح؛ فأجابه إلى ذلك.

سنة (٤٠١): وفيها تُوفِّي أبو عبد الله محمد بن مقن بن مقلَّد بن جعفر بن عمرو بن المهيا العقيلي. وفي مقلد يَجتمع آل المسيب وآل مقن، وكان عُمره مائة وعشر سنين، وكان بَخيلاً شديد البُخل. وشَهِد مع القرامطة أخذ الحَجر الأسود سنة ٤١٧، نذكر هنا ما جاء مِن أخبار بَني مقن ص١٥٦ و١٥٧ يَنقلان ما ذُكِر هنا مِن غريب بن مقن في بني مقن.

سنة (٤٢١): في هذه السنة في جمادى الأولى اختلف قرواش وغريب بن مقن، وكان سبب ذلك أنَّ غريباً جَمع جَمعاً كثيراً مِن العرب والأكراد، واستمدَّ جلال الدولة فأمدَّه بجُملةٍ صالحةٍ مِن العسكر. فسار إلى تكريت فحاصرها، وهي لأبي المسيب رافع بن الحسين، وكان قد توجَّه إلى الموصل، وسأل قرواشاً النجدة، فجمعا وحشدا وسارا مُنحدرين

٣٣٣

فيمَن معهما فبَلغا الدكَّة، وغريب يُحاصر تكريت، وقد ضَيَّق على مَن بها، وأهلها يَطلبون منه الأمان فلم يُؤمِّنهم، فحفظوا نفوسهم وقاتلوا أشدَّ قتالٍ. فلمَّا بلغه وصول قرواش ورافع، سار إليهم فالتقوا بالدكَّة واقتتلوا، فغَدر بغريب بعض مَن معه، ونهبوا سَواده وسَواد الأجناد الجلاليَّة. فانهزم وتبعهم قرواش ورافع، ثُمَّ كفُّوا عنه وعن أصحابه، ولم يتعرَّضوا إلى حلَّته وماله فيها، وحفظوا ذلك أجمع. ثُمَّ إنَّهم تراسلوا واصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه مِن الوِفاق.

سنة (٤٢٥): وفيها تُوفِّي أبو سنان غريب بن محمد بن مقن في شهر ربيع الآخر في كرخ سامرا، وكان يُلقَّب سيف الدولة، وكان قد ضرب دراهم سمَّاها السيفيَّة، وقام بالأمر بعده ابنه أبو الريّان، وخَلَّف خمسمائة ألف دينار، وأمر فنودي: قد أحللْتُ كُلَّ مَن لي عنده شيء فحلِّلوني كذلك، فحلَّلوه وكان عمره سبعين سنة.

سنة (٤٢٧): في هذه السنة ثار الجُند ببغداد بجلال الدولة، وأرادوا إخراجه منها، فاستنظرهم ثلاثة أيَّام فلم يُنظروه، ورموه بالآجر فأصابه بعضهم. واجتمع الغُلمان فردُّوهم منه، فخرج مِن باب لطيف في سُميْريّة مُتنكِّراً، وصعد راجلاً منها إلى دار المرتضى بالكرخ، وخرج مِن دار المرتضى وسار إلى رافع بن الحسين بن مقن بتكريت، وكَسر التُّرك أبواب داره ودخلوها ونهبوها وقلعوا كثيراً مِن ساجها وأبوابها. فأرسل الخليفة إليه وقرَّر أمر الجُند، وأعاده إلى بغداد سنة ٤٤٤ جرى تسليم نُوَّاب الملك الرحيم الجانب الغربي مِن أوانا ونهر بيطر إلى أبي الهندي بلال بن غريب.

وفي سنة ٤٤١ جرى إقطاع أبي كامل أخي قرواش بلال بن غريب بن مقن حربى وأوانا، ولمَّا اصطلح الأخوان أرسلا إلى حربى مِن مَنع بلالاً عنها.

سنة (٤٤٤): في هذه السنة ورد سعدي بن أبي الشوك في جيش مِن عند السلطان طغرلبك إلى نواحي العراق، وعاث في البلاد فَساداً بعد انتصاره على أبي دُلف الجاواني، وفرار هذا منه بمُهجته. ثُمَّ قَصد البندنيجين وبلغ خبره إلى خاله خالد بن عمر، وهو نازل على الزرير ومطر ابني علي بن مقن العقيليين، فأرسل إليه ولده مع أولاد الزرير ومطر يَشكون إليه ما

٣٣٤

عاملهم به عمُّه مهلهل وقريش بن بدران، فلقوه بحلوان وشكوا إليه حالهم. فوعدهم المسير إليهم وإنقاذهم مِمَّن قصدهم، فعادوا مِن عنده، فلقيهم نَفر مِن أصحاب مهلهل فواقعوهم، فظفر بهم العقيليون واسروهم. وبلغ الخبر مهلهلاً، فسار إلى حلُل الزرير ومطر في نحو خمسمائة فارس، فأوقع بهم على تَلِّ عَكبرا، ونهبهم وانهزم الرجال، فلَقي خالد ومطر والزرير سعدي بن أبي الشوك على تامرا، فأعلموه الحال وحَملوه على قتال عمِّه، فتَقدَّم إلى طريقه والتقى القوم وكان سعدي في جَمعٍ كثير فظفر بعمِّه وأسره، وانهزم أصحابه في كُلِّ جِهة، وأُسِر أيضاً مالك ابن عمِّه مهلهل، وأعاد الغنائم التي كانت معهم على أصحابها وعاد إلى حلوان، ووصل الخبر إلى بغداد فارتجَّ الناس بها وخافوا، وبَرز عسكر الملك الرحيم ليقصدوا حُلوان لمُحاربة سعدي، ووصل إليهم أبو الأغر دُبيس بن مزيد الأسدي، ولم يَصنعوا شيئاً.

وفي هذه السنة قَبض عيسى بن خميس بن مقن على أخيه أبي غشام صاحب تكريت بها، وسجنه في سرداب بالقلعة، واستولى على تكريت.

وفي سنة (٤٤٨) لمَّا سار السلطان طغرلبك إلى الموصل، ووصل إلى تكريت حَصرها، وبها صاحبها نصر بن علي بن خميس، فنَصب على القلعة عَلماً أسود وبَذل مالاً، فقبله السلطان ورحل عنها إلى البوازيج ينتظر جَمع العساكر ليَسير إلى الموصل، فلمَّا رحل عن تكريت تُوفِّي صاحبها وكانت أُمُّه أميرة بنت غريب بن مقن، فخافت أنْ يَملك البلد أخوه أبو الغشان فقتلته. وسارت إلى الموصل، فنزلت على دُبيس بن مزيد، فتزوَّجها قريش به بدران. ولمَّا رحلت عن تكريت استخلفت بها أبا الغنائم بن المحَلبان، فراسل رئيس الرؤساء واستعطفه، فصَلَح ما بينهما وسلَّم تكريت إلى السلطان، ورحل إلى بغداد.

سنة (٥٠٠): في هذه السنة في صَفَر تَسلَّم الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد قلعة تكريت، وقد عرفتَ أَنَّها كانت لبني مقن العُقيليين، وكانت إلى آخر سنة سبع وعشرين وأربعمائة بيد رافع بن الحسين بن مقن، فمات ووليها ابن أخيه أبو منعة خميس بن تغلب بن حماد، ووجد بها خمسمائة ألف دينار سِوى المُصاغ. وتُوفِّي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، ووليها ولده أبو غشام، فلمَّا كان سنة أربع وأربعين وأربعمائة

٣٣٥

وَثب عليه عيسى فحبسه وملك القلعة والأموال. فلمَّا اجتاز به طغرلبك نحو سنة ثمان وأربعين وأربعمائة صالحه على بعض المال فرحل عنه. وخافت زوجته أميرة بعد موته أنْ يَعود أبو غشام ويملك القلعة، فقتلته. وكان قد بَقي في الحَبس أربع سنين، واستنابت في القلعة أبا الغنائم بن المحَلبان، فسلَّمها إلى أصحاب السلطان طغرلبك. فسارت إلى الموصل، فقتلها ابن أبي غشام بأبيه، وأخذ شرف الدولة مسلم بن قريش مالها، وردَّ طغرلبك أمر القلعة إلى إنسان يُعرف بأبي العباس الرازي، فمات بها بعد ستة أشهر. ثُمَّ تداولت مُلكها الأيدي إلى أنْ امتلكها صدقة بن مزيد في هذه السنة.

بنو دُبيس الأسديون

كان بنو مزيد، وهم مِن بَني أسد، وكانت مَحلاَّتهم مِن بغداد إلى البصرة إلى نَجْد، وكانت لهم النعمانية. وكانت بنو دُبيس مِن عشائرهم في نواحي خوزستان في جزائر مَعروفة بهم، وكان كبير بني مزيد أبو الحسن علي بن مزيد وأخوه أبو الغنائم. وقد مَرَّ في أخبار بني مزيد أنَّ أبا الغنائم كان قد سار إلى بني دُبيس وأقام عندهم، ثُمَّ فَرَّ وقد قَتل منهم رجلاً فلم يُدركوه. ولحِق بناحية أخيه، فسار إليهم أبو الحسن، واستمدَّ عميد الجيوش فأمدَّه بعسكر مِن الديلم في البحر، ولقيهم فانهزم أبو الحسن، وقُتِل أخوه أبو الغنائم، وذلك في سنة إحدى وأربعمائة.

وإليك ما جاء في كامل ابن الأثير من أخبارهم

في سنة (٤٠١) كان أبو الغنائم، محمد بن مزيد مُقيماً عند بني دُبيس في جزيرتهم بنواحي خوزستان لمُصاهرة بينهم، فقتل أبو الغنائم أحد وجوههم ولحِق بأخيه أبي الحسن علي بن مزيد، فتبعوه فلم يُدركوه. وانحدر إليهم سند الدولة أبو الحسن بن مزيد في ألفي فارس، واستنجد عميد الجيوش، فانحدر إليه عَجِلاً في زَبْزَبة في ثلاثين دَيلمياً، وسار ابن مزيد إليهم فلقيهم، واقتتلوا فقُتل أبو الغنائم وانهزم أبو الحسن بن مزيد. فوصل الخبر بهزيمته إلى عميد الجيوش وهو مُنحدرٌ فعاد.

سنة (٤٠٥): في هذه السنة في المُحرَّم، كانت الحرب بين أبي الحسن بن مزيد، وبين مضر ونبهان وحسَّان وطراد بني دُبيس؛ وسببها أنَّهم

٣٣٦

كانوا قد قتلوا أبا الغنائم بن مزيد أخا أبي الحسن في حرب بينهم كما تَقدَّم ذكر ذلك. وحالت الأيام بينه وبين الأخذ بثأره، فلمَّا كان الآنَ تَجهَّز لقصدهم وجَمع العرب والشاذنجان والجوانيَّة وغيرهما مِن الأكراد، وسار إليهم. فلمَّا قرب منهم خرجت زوجته ابنة دُبيس، وقَصدت أخاها مُضر بن دُبيس ليلاً، وقالت له: قد أتاكم ابن مزيد فيما لا قِبَل لكم به، وهو يقنع منكم بإبعاد نبهان قاتل أخيه فأبعدوه، وقد تفرَّقت هذه العساكر. فأجابها أخوها مضر إلى ذلك. وامتنع أخوه حسَّان، فلمَّا سمع ابن مزيد بما فعلته زوجته أنكره وأراد طلاقها، فقالت له: خفت أنْ أكون في هذه الحرب بين فقد أخٍ حميمٍ أو زوجٍ كريمٍ، ففعلتُ ما فعلتُ رجاء الصلاح؛ فزال ما عنده منها. وانتهت الحرب بظفر أبي الحسن بن مزيد كما ذكرنا لك في أخبار بني مزيد، فلا نعيده هنا.

سنة (٤٠٩): في هذه السنة عرض سلطان الدولة على الرُّخَّجي ولاية العراق، فقال: ولاية العراق تَحتاج إلى مَن فيه عَسفٌ وخَرقٌ، وليس غير ابن سهلان وأنا أخلفه هاهنا. فولاَّه سلطان الدولة العراق في المُحرَّم، فسار مِن عند سلطان الدولة، فلمَّا كان ببعض الطريق تَرك ثِقله والكتاب وأصحابه، وسار جريدة في خمسمائة فارس مع طراد بن دُبيس الأسدي يَطلب مُهارش ومُضر ابني دُبيس. وكان مُضر قد قبض قديماً عليه بأمر فخر الدولة، فكان يَبغضه لذلك، وأراد أنْ يأخذ جزيرة بني أسد منه ويُسلِّمها إلى طراد. فلمَّا علم مُضر ومُهارش قصده لهما، سارا عن المذار فتبعهما والحَرُّ شديدٌ؛ فكاد يَهلك هو ومَن معه عطشاً. فكان مِن لُطف الله به أنَّ بَني أسد اشتغلوا بجَمع أموالهم وإبعادها، وبقي الحسن بن دُبيس فقاتل قِتالاً شديداً، وقُتل جماعة مِن الديلم التُّرك. ثُمَّ انهزموا ونهب ابن سهلان أموالهم وصان حَرمهم ونساءهم. فلمَّا نزل في خيمته قال: الآن ولدتني أُمِّي، وبذل الأمان لمُهارش ومُضر وأهلهما، وأشرك بينهم وبين طراد في الجزيرة ورحل، وأنكر على سلطان الدولة فِعله ذلك، ووصل إلى واسط.

سنة (٤١٢): في هذه السنة قُطعت خطبة سلطان الدولة مِن العراق، وخُطب لمُشّرف الدولة، فطلب الديلم مِن مشرف الدولة أنْ يَنحدر إلى بيوتهم بخوزستان، فأذِنَ لهم، وأمر وزيره أبا غالب بالانحدار معهم. فقال له: إنْ فَعلت خاطرت بنفسي، ولكن أبذلها في خدمتك، ثُمَّ انحدر في

٣٣٧

العساكر، فلمَّا وصل إلى الأهواز نادى الديلم بشعار سلطان الدولة، وهجموا على أبي غالب فقتلوه. فسار التُّرك الذين كانوا معه إلى طراد بن دُبيس الأسدي بالجزيرة التي لبني دُبيس، ولم يَقدروا أنْ يَدفعوا عنه.

وفي سنة (٤١٩) كان منصور بن الحسين الأسدي قد ملك الجزيرة الدُبيسيَّة، وهي تُجاوز خوزستان، ونادى بشعار جلال الدولة، وأخرج صاحبها طراد بن دُبيس الأسدي سنة ثمان عشرة وأربعمائة. فمات طراد عن قريب، فلمَّا مات سار ابنه أبو الحسن علي إلى بغداد يسأل أنْ يُرسِل جلال الدولة معه عسكراً إلى بلده ليُخرج منصوراً منه، ويُسلِّمه إليه. وكان منصور قد قَطع خُطبة جلال الدولة وخطب للملك أبي كاليجار، فسيَّر معه جلال الدولة طائفةً مِن التُّرك، فلمَّا وصلوا إلى واسط لم يَقف علي بن طراد حتَّى تَجتمع معه طائفة مِن عسكر واسط، وسار عَجِلاً واتَّفق أنَّ أبا صالح كوركير كان قد هرب مِن جلال الدولة، وهو يُريد اللِّحاق بأبي كاليجار. فسمع هذا الخبر، فقال لمَن معه: المَصلحة أنَّنا نُعين منصوراً ولا نُمكِّن عَسكر جلال الدولة مِن إخراجه، ونَتَّخذ بهذا الفعل يداً عند أبي كاليجار، فأجابوه إلى ذلك، فسار إلى منصور واجتمع معه، والتقوا هم وعسكر جلال الدولة الذين مع علي بن طراد ببسبروذ، فاقتتلوا فانهزم عسكر جلال الدولة، وقُتِل علي بن طراد وجماعة كثيرة مِن التُّرك، وهَلك كثير مِن المُنهزمين بالعطش، واستقرَّ مُلك منصور بها.

سنة (٤٥٠): وفيها مات شهاب الدولة أبو الفوارس منصور بن الحسين الأسدي صاحب الجزيرة عند خوزستان، واجتمعت عشيرته على ولده صدقة، ومنصور هذا هو الذي ملك الجزيرة الدُبيسية على طراد بن دُبيس.

وجاء ذكر صدقة هذا، وهو ابن منصور في حوادث سنة (٤٥١) مِن الجزء العاشر مِن الكامل، قال: في هذه السنة انحدر السلطان طغرلبك إلى واسط بعد فُراغه مِن أمر بغداد، فرآها قد نُهِبت، وحضر عنده هزارسب بن بنكير، وأصلح معه حال دُبيس بن مزيد، واحضره معه إلى خدمة السلطان وأصعد في صحبته إلى بغداد، وكذلك صدقة بن منصور بن الحسين، إلى أنْ قال: وأصعد السلطان إلى بغداد في صَفَر سنة اثنتين وخمسين ومعه جماعة منهم صدقة المذكور.

٣٣٨

بنو خَفاجة أُمراء الكوفة

يَنتسبون لكعب بن ربيعة بن صعصعة بن معاوية، ومِن فروعهم: بنو حزن، وبنو كعب كان لهم شأن في عهد تَنازع أُمراء الأطراف مِن العرب والكُرد والتُّرك والدَّيلم إمارة الخِلافة العباسيَّة التي أصبحت في القرون الرابع والخامس والسادس نَهباً مُقسَّماً.

وإليك ما جاء مِن أخبارهم مِن كامل ابن الأثير

سنة (٣٧٤): في هذه السنة قُلِّد أبو طريف عليان بن ثمال الخفاجي حماية الكوفة، وهي أوَّل إمارة بني ثمال، وهناك حوادث مُتقطِّعة في بعض السنين ذكرت كان يَستعين فيها المُحاربون ببَني خفاجة، لا فائدة مِن ذِكرها فتركناها.

وفي سنة (٣٩٧) لمَّا هَزم أبو غالب وزير بهاء الدولة أبا العباس بن واصل صاحب البصرة، ركب أبو العباس مع حسَّان بن ثمال الخفاجي هارباً إلى الكوفة.

وفي هذه السنة في المُحرَّم جرت وقعة بين معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن المقلَّد العقيلي، وبين أبي علي بن ثمال الخفاجي؛ وكان سببها أنَّ قرواش جَمع جَمعاً كثيراً، وسار إلى الكوفة وأبو علي غائب عنها، فدخلها ونزل بها. وعرف أبو علي الخبر، فسار إليه فالتقوا واقتتلوا فانهزم قرواش وعاد إلى الأنبار مَفلولاً. وملك أبو علي الكوفة وأخذ أصحاب قرواش فصادرهم.

سنة (٣٩٩): في هذه السنة قَتل عيسى بن خلاط العقيلي أبا علي بن ثمال الخفاجي بالرحبة. وكان قد ولاَّه الحاكم بأمر الله صاحب مِصر عليها ومَلكها، ثُمَّ أخذها منه بدران بن المقلَّد العقيلي، وانتقلت إلى أيدٍ إلى أنْ آل أمرها إلى صالح بن مرداس الكِلابي صاحب حَلب.

وفي سنة (٤٠٢) لمَّا فتح الملك فخر الدولة دير العاقول، أتاه سلطان وعلوان ورجب أولاد ثمال الخفاجي ومعهم أعيان عشائرهم، وضَمنوا حِماية سَقي الفرات، ودَفْع عقيل عنها. وساروا معه إلى بغداد؛ فأكرمهم وخَلع عليهم وأمرهم بالمسير مع ذي السعادتين الحسن بن منصور إلى

٣٣٩

الانبار فساروا، فلمَّا صاروا بنواحي الأنبار أفسدوا وعاثوا، فقبض ذو السعادتين على نَفرٍ منهم، ثُمَّ أطلقهم واستحلفهم على الطاعة والكَفِّ عن الأذى. فأشار كاتب نَصراني مِن أهل دَقوقا على سلطان بن ثمال بالقبض على ذي السعادتين، وأنْ يُظهِر أنَّ عُقيلاً قد أغاروا، فإذا خرج عسكر ذي السعادتين انفرد به فأخذه. فوصل إلى ذي السعادتين الخبر.

ثُمَّ إنَّ السلطان أرسل إليه يقول: إنَّ عُقيلاً قد قاربوا الأنبار، ويطلب منه انفاذ العسكر. فقال ذو السعادتين: أنا أركب وآخذ العساكر، ثُمَّ دافعه إلى أنْ فات وقت السير. فانتقض على سلطان ما دبَّره، فأرسل يقول: قد أخذت جماعة مِن عُقيل.

ثُمَّ إنَّ ذا السعادتين صَنع طعاماً كثيراً، وحضر عنده سلطان وكاتبه النصراني وجماعة مِن أعيان خَفاجة، فأمر أصحابه بقتل كثير منهم، وقبض على سلطان وكاتبه وجماعته، ونهب بيوتهم وما فيها، وحَبس سلطاناً ومَن معه ببغداد حتَّى شَفع فيهم أبو الحسن بن مزيد وبذل مالاً عنهم فأُطلقوا.

وفي هذه السنة سارت خفاجة إلى واقصة، ونزحوا ماء البرمكي والريان وألقوا فيهما الحنظل. ووصل الحُجَّاج مِن مكة إلى العقبة، فلقيهم خفاجة ومنعوهم الماء، ثُمَّ قاتلوهم فلم يَكُن فيهم امتناع، فأكثروا القتل وأخذوا الأموال. ولم يَسلم مِن الحُجَّاج إلاَّ اليسير. فبلغ الخبر فَخْر الملك الوزير ببغداد؛ فسيَّر العساكر في أثرهم، وكتب إلى أبي الحسن علي بن مزيد يأمره بطلب العرب، والأخذ منهم بثأر الحاج والانتقام، فسار خلفهم فلحِقهم وقد قاربوا البصرة، فأوقع بهم فقتل منهم وأسر جمعاً كثيراً، وأخذ مِن أموال الحُجَّاج ما رآه، وكان الباقي قد أخذه العرب، وتَفرَّقوا وأرسل الأسرى وما استردَّه مِن أمتعة الحُجّاج إلى الوزير، فحسُن مَوقعه منه.

سنة (٤٠٤): في هذه السنة جاء سلطان بن ثمال، واستشفع بأبي الحسن بن مزيد إلى فخر الملك ليرضى عنه. فأجابه إلى ذلك فأخذ عليه العُهود بلزوم ما يُحمَد أمره. فلمَّا خرج وصلت الأخبار بأنَّهم نَهبوا سواد الكوفة، وقتلوا طائفة مِن الجُند، وأتى أهل الكوفة مُستغيثين؛ فسيَّر فَخْر الملك إليهم عسكراً، وكتب إلى ابن مزيد وغيره بمُحاربتهم. فسار إليهم وأوقع بهم بنهر الرمَّان، وأُسر محمد بن ثمال وجماعة معه ونجا سلطان. وأُدخل الأسرى إلى بغداد مُشهَّرين وحُبسوا. وهبَّ على المُنهزمين مِن بني خفاجة ريح شديدةٌ حارَّة، فقتلت منهم نحو خمسمائة رجل، وأفلت منهم جماعة

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627