مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227992 / تحميل: 6439
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

فإنّ يد الله على الجماعة وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشاذّ من النّاس للشّيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب ألا من دعا إلى هذا الشّعار فاقتلوه، ولو كان تحت عمامتي هذه »(١) .

وقالعليه‌السلام في حديث آخر: « من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الإمام جاء إلى الله عزّ وجلّ أجذم »(٢) .

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام : « من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه »(٣) .

إلى غير ذلك من النصوص الإسلاميّة الداعية إلى رصّ الصفوف، وتعميق الوحدة، وجمع الكلمة، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يمكن أن يتحقّق إلّا بوجود دولة وجهاز يؤلّف بين الآراء ويجمع الكلمة، ويوفّق بين المصالح، ويحافظ على العلاقات، ويعيد الشاذّ إلى رشده والخارج إلى صفّه، إذ لولا ذلك الجهاز( الدولة ) لذهب كلُّ فريق مذهباً، واتّخذت كلُّ جماعة طريقاً، وتمزّق المجتمع أشتاتاً، وعادت الوحدة اختلافاً وتفرقة.

وصفوة القول: أنّ الدولة عامل الوحدة ورمز التآلف، بقدر ما هي طاردة للفرقة، وما نعة عن التخالف.

الثانية: أنّ ملاحظة ذات القوانين الإسلاميّة في مختلف المجالات الحقوقيّة والاجتماعيّة والماليّة تفيد أنّ طبيعتها تقتضي وجود الدولة.

فالإسلام الذي دعا إلى الجهاد والدفاع، ودعا إلى إجراء الحدود والعقوبات على العصاة والمجرمين ودعا إلى انصاف المظلوم، وردع الظالم، وسنّ نظاماً خاصاً وواسعاً للمال.

إنّ الدعوة إلى كلّ هذه الأحكام تدلُّ ـ بدلالة التزاميّة ـ على أنّ الله قد فرض وجود دولةً قويةً تقوم بإجرائها في المجتمع.

إنّ الإسلام ليس مجرد أدعية خاوية أو طقوس ومراسيم فرديّة يقوم بها كلُّ فرد في

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ١٢٣ طبعة عبده.

(٢) الكافي ١: ٤٠٥ كتاب الحجة.

(٣) الكافي ١: ٤٠٥ كتاب الحجة.

٢١

بيته ومعبده، بل هو نظام سياسيّ وماليّ وحقوقيّ واجتماعيّ واقتصاديّ واسع وشامل، وما ورد في هذه المجالات من قوانين وأحكام تدلُّ بصميم ذاتها على أنّ مشرّعها افترض وجود حاكم يقوم بتنفيذها ورعايتها. لأنّه ليس من المعقول سنُّ مثل هذه القوانين دون وجود قوة مجرية وسلطة تنفيذيّة تتعهد إجراءها وتتولّى تطبيقها، مع العلم بأنّ سنّ القوانين وحده لا يكفي في تنظيم المجتمعات.

ولقد استدلّ السيد المرتضى على لزوم الحكومة ببيان لطيف هذا حاصله: « إنّ بقاء الخلق يتوقّف على اُمور منها الأمر والنهي. قال الله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) ( الأنفال: ٢٤ )، وفسّر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولقوله سبحانه:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ) ( البقرة: ١٧٩ )، فصار الأمر بالمعروف هنا المتمثّل في الاقتصاص من القاتل مبدءاً للحياة.

فإذا كان الأمر والنهي كما توحي هذه الآيات مبدءاً للحياة، وجب أن يكون للناس إمام يقوم بأمرهم ونهيهم، ويقيم فيهم الحدود، ويجاهد فيهم العدو، ويقسّم الغنائم، ويفرض الفرائض ـ أبواب ما فيه صلاحهم ـ ويحذّرهم عمّا فيه مضارّهم ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب بقاء الخلق فوجبا وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع أحد، ولفسد التدبير، وكان ذلك سبباً لهلاك العباد »(١) .

هذا هو ما تفيده النظرة إلى الأحكام والتشريعات الإسلاميّة التي لم تنزّل إلّا للتنفيذ، ولم تشرّع إلّا للتطبيق.

أمّا النصوص الإسلاميّة المصرّحة بضرورة قيام الدولة ووجودها فهي أكثر من أن تحصى، وقد مرّ في الجزء الأوّل قسم منها ونشير هنا إلى ما لم نشر إليه هناك :

قال الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام في حديث طويل حول ضرورة وجود

__________________

(١) المحكم والمتشابه للسيد المرتضى: ٥٠.

٢٢

الحكومة في الحياة البشريّة: « إنّا لا نجد فرقةً من الفرق ولا ملّةً من الملل بقوا وعاشوا إلّا بقيّم ورئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدّين والدُّنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق لما يعلم أنّه لابدّ لهم منه، ولاقوام لهم إلّا به فيقاتلون به عدوّهم ويقسّمون به فيئهم، ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم »(١) .

وقد بلغت أهمية الدولة والحكومة في نظر الإسلام حداً جعلت هي السبب الأساسيُّ في صلاح أو فساد الاُمّة، حيث قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي، وإذا فسدا فسدت امّتي ».

قيل: يا رسول الله ومن هم ؟

قال: « الفقهاء والامراء »(٢) .

إنّ ضرورة وجود الدولة والحكومة في الحياة البشريّة الاجتماعيّة بديهيّة جداً عقلاً وشرعاً وتاريخيّاً بحيث لا تحتاج إلى سرد المزيد من الأدلة والاستشهادات ولذلك نكتفي بهذا القدر.

* * *

ولأجل هذه الأهمية التي تحظى بها الحكومة الإسلاميّة يتعيّن على علماء الإسلام أن يبذلوا غاية الجهد في توضيح معالمها ومناهجها وخطوطها وخصائصها في جميع العصور والعهود.

وسوف نذكر أنّ هذه الناحية الحسّاسة من حياتنا الاجتماعيّة قد أهملت في أكثر القرون كتابةً وتحقيقاً ودراسةً.

نماذج من الوظائف الحكوميّة في الأحاديث

لم يكن وجود( الحكومة ) ووظائفها في النظام الإسلاميّ بدعاً يمكن أن يدّعيه

__________________

(١) علل الشرائع: ٢٥٣، الحديث مفصّل وجدير بالمطالعة.

(٢) تحف العقول: ٤٢.

٢٣

أحد بدون دليل في القرآن أو السُّنّة.

فمن يطالع الأحاديث والأخبار الواردة عن النبيّ والأئمّة الطاهرين يجد سلسلةً من الوظائف المخوّلة إلى ( الإمام ) وهو يدلُّ بالدلالة الإلتزاميّة على وجود الحكومة في النظام الإسلاميّ، وأنّ الأئمّة كانوا يعتبرون وجود الإمام والحاكم أمراً مفروضاً ولذلك كانوا يعتبرون هذه الاُمور من وظائف الحاكم.

وبالتالي، أنّ ما يمكن أن يستظهر من خلال الروايات الكثيرة لزوم وجود ( دولة ) تقوم بالأعمال الاجتماعيّة الكثيرة التي لم يكلّف بها في الإسلام مسؤول خاص من عامّة الناس، بل جعل أمر إجرائها والقيام بها على عاتق الإمام ( أو الحاكم ).

وذلك يدل على لزوم وجود جهاز تنفيذيّ يقوم بهذه المسؤوليات والأعمال الاجتماعيّة الحيويّة، ويدلُّ على أنّ الحكومة قد كانت مفروضة الوجود في نظرهم.

واليك نماذج من الأحاديث التي توكل بعض الأعمال إلى ( الإمام ) والحاكم اللّذين يعدّان رمزاً للحكومة. وما ذكرناه في هذه الصحائف قليل من كثير، ولم نأت بالجميع ابتغاءً للإختصار، ويمكن للقارئ الكريم أن يجد أكثر ما ذكرناه إذا تصفّح المجاميع الحديثيّة لا سيّما الأجزاء العشرة الأخيرة من وسائل الشيعة :

* * *

١. يقول الإمام الصادق في الأنفال: « وما أخذ بالسّيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذّي يرى كما صنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بخيبر »(١) .

٢. وفي الزكاة لـمّا سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عمّا يعطى المصّدّق ( أي الذي يجبي الصّدقات ) قال: « ما يرى الإمام ولا يقدّر له شيء »(٢) .

٣. وفي تقسيم الزكاة قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « والغارمين يجب على الإمام أن يقضي عنهم ويفكّهم من مال الصدّقات ».

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦: ١٢٩.

(٢) وسائل الشيعة ٦: ١٤٤.

٢٤

« وفي سبيل الله قوم يخرجون في الجّهاد ليس عندهم ما يتقوُّون به، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجُّون به أو في جميع سبل الخير فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصّدقات حتّى يقووا على الحجّ والجهاد، وابن السبيل أبناء الطريق يكونون في الأسفار في طاعة الله فيقطع عليهم ويذهب مالهم فعلى الإمام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصّدقات »(١) .

٤. وفي احياء الأراضي الميّتة قال الإمام أمير المؤمنين: « من أحيا أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤدّيه إلى الإمام في حال الهدنة فإذا ظهر القائم فليوطّن نفسه على أن تؤخذ منه »(٢) .

٥. سئل الباقرعليه‌السلام عن المفطر في رمضان بلا عذر مستحلاًّ، فقالعليه‌السلام : « يسأل هل عليك من افطارك إثم ؟ فإن قال: لا، فإنّ على الإمام أن يقتله، وإن قال: نعم فإنّ على الإمام أن ينهكه ضرباً »(٣) .

٦. وفي رؤية الهلال قال الإمام الباقرعليه‌السلام : « إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشّمس، وإن شهدا بعد زوال الشّمس، أمر الإمام بافطار ذلك اليوم وأخّر الصلاة ( أي صلاة العيد ) إلى الغد فصلّى بهم »(٤) .

٧. وفي أمر إقامة الحجّ قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لو عطّل النّاس الحجّ لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحجّ إن شاؤوا وإن أبوا فإنّ هذا البيت إنّما وضع للحجّ »(٥) .

٨. وفي ادارة اُمور الحجّ روي أنّه لـمّا حجّ إسماعيل بن عليّ بالنّاس سنة أربعين ومائة ( أي كان أمير الحجّ ) فسقط أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام عن بغلته فوقف عليه إسماعيل ( أي توقّف ) فقال له الصادقعليه‌السلام : « سر فإنّ الإمام لا يقف »(٦) .

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ٦: ١٤٥ ـ ٣٨٢.

(٣ و ٤) وسائل الشيعة ٧: ١٧٨ ـ ١٩٩.

(٥ و ٦) وسائل الشيعة ٨: ٨٥ ـ ٢٩٠.

٢٥

٩. ومثله ما روي عن علي بن يقطين قال: رأيت أبا عبد الله ( الصادق )عليه‌السلام وقد حجّ فوقف الموقف فلمّا دفع الناس منصرفين سقط أبو عبد اللهعليه‌السلام عن بغلة كان عليها فعرفه الوالي الذي وقف بالناس تلك السّنة وهي سنة أربعين ومائة فوقف على أبي عبد اللهعليه‌السلام [ أي توقّف لأجله ] فقال له أبو عبد اللهعليه‌السلام : « لا تقف فإنّ الإمام إذا دفع بالنّاس لم يكن له أن يقف »(١) .

وكان الذي وقف بالناس في تلك السنة اسماعيل بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس.

١٠. قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أداء دين الغريم: « ما من غريم ذهب إلى وال من ولاة المسلمين واستبان للوالي عسرته إلّا برء هذا المعسر من دينه وصار دينه على والي المسلمين فيما يديه من أموال المسلمين »(٢) .

١١. قال الإمام الصادقعليه‌السلام في ذلك أيضاً: « إنّ الإمام يقضي عن المؤمنين الدّيون ما خلا مهور النّساء »(٣) .

١٢. قال الإمام الكاظمعليه‌السلام في ذلك أيضاً: « من طلب هذا الرّزق من حلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله، فإن غلب عليه فليستدن على الله ورسوله ما يقوت به عياله، فإن مات ولم يقض كان على الإمام قضاؤه، فإن لم يقض كان عليه وزره. إنّ الله تبارك وتعالى يقول:( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ـ إلى قوله ـوَالْغَارِمِينَ ) ( التوبة: ٦٠ ) فهو فقير مسكين مغرم »(٤) .

١٣. قال الإمام الرضاعليه‌السلام في ذلك أيضا: « المغرم إذا تديّن أو استدان في حقّ أجّل سنةً فإن اتّسع، وإلاّ قضى عنه الإمام من بيت المال »(٥) .

١٤. قال الإمام عليّعليه‌السلام في مسؤولية الحاكم اتجاه ثقافة الاُمّة: « على الإمام

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨: ٢٩٠.

(٢) مستدرك الوسائل ٢: ٤٩١.

(٣) وسائل الشيعة ١٥: ٢٢.

(٤) قرب الإسناد: ١٧٩.

(٥) الكافي ١: ٤٠٧ ونقله العيّاشي في تفسيره ١: ١٥٥.

٢٦

أن يعلّم أهل ولايته حدود الإسلام والإيمان »(١) .

١٥. قال الإمام عليّعليه‌السلام من كتاب له إلى قثم بن العبّاس وهو عامله على مكّة: « واجلس لهم العصرين فافت المستفتي، وعلّم الجاهل وذاكر العالم »(٢) .

١٦. قال الإمام علّيعليه‌السلام في مسؤوليّة الحاكم اتجاه أصحاب الفكر والمهن: « يجب على الإمام أن يحبس الفسّاق من العلماء والجهّال من الأطبّاء والمفاليس من الأكرياء »(٣) .

١٧. قال الإمام الباقرعليه‌السلام في مسؤولية الحاكم اتّجاه الاسر والعوائل: « من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها، ويطعمها ما يقيم صلبها كان حقاً على الإمام أن يفرّق بينهما »(٤) .

١٨. قال الإمام الصادقعليه‌السلام في مسؤوليّة الحاكم في أمر المساجين: « على الإمام أن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة ويوم العيد إلى العيد فيرسل معهم، فإذا قضوا الصلاة والعيد ردّهم إلى السّجن »(٥) .

١٩. قال الإمام الصادقعليه‌السلام أيضاً في مسؤوليات الحكام اتّجاه الفسّاق والمنحرفين خلقيّاً: « الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره، لأنّه أمين الله في خلقه وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه، ويمضي ويدعه ».

قلت: وكيف ذلك ؟

قال: « لأنّ الحقّ إذا كان لله، فالواجب على الإمام إقامته، وإذا كان للنّاس فهو للنّاس »(٦) .

٢٠. في موقف الإمام اتجاه المحارب، قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « إذا كانت

__________________

(١) غرر الحكم: ٢١٥.

(٢) نهج البلاغة قسم الكتب الرقم ٦٧.

(٣) وسائل الشيعة ١٨: ٢٢١.

(٤) وسائل الشيعة ١٥: ٢٢٣.

(٥) وسائل الشيعة ١٨: ٢٢١ ـ ٢٤٤.

(٦) وسائل الشيعة ١٨: ٢٢١ ـ ٢٤٤.

٢٧

الحرب قائمةً ولم تضع أوزارها ولم يثخن أهلها فكلُّ أسير أخذ في تلك الحال فإنّ الإمام فيه بالخيار إن شاء وإن »(١) .

٢١. وفي أمر القصاص قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « إذا اجتمعت العدّة على قتل رجل واحد حكم الوالي أن يقتل أيُّهم شاؤوا »(٢) .

٢٢. وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : « من قتله القصاص بأمر الإمام فلا ديّة له في قتل ولا جراحة »(٣) .

٢٣. وقال الإمام الباقرعليه‌السلام في رجل قتل مجنوناً كان يقصد قتل الرجل: « أرى أن لا يقتل به ولا يغرّم ديّته وتكون ديّته على الإمام ولا يبطل دمه »(٤) .

٢٤. وقال الإمام الباقرعليه‌السلام حول أعمى فقأ عين صحيح: « إنّ عمد الأعمى مثل الخطأ، هذا فيه الديّة في ماله، فإن لم يكن له مال فالدّية على الإمام ولا يبطل حقُّ امرئ مسلم »(٥) .

٢٥. وقال الإمام الباقرعليه‌السلام في رجل جرح رجلاً في أوّل النهار وجرح آخر في آخر النّهار: « هو بينهما ما لم يحكم الوالي في المجروح الأوّل الخ »(٦) .

٢٦. وقال في حكم من قتل وعليه دين وليس له مال: « إن قتل عمداً قتل قاتله وأدّى عنه الإمام الدّين من سهم الغارمين »(٧) .

٢٧. وقال الإمام الصادقعليه‌السلام في الرجل يقتل وليس له وليّ إلّا الإمام: « إنّه ليس للإمام أن يعفو، له أن يقتل أو يأخذ الديّة »(٨) .

٢٨. وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في قتيل في زحام ونحوه لا يدرى من قتله: « إن كان عرف له أولياء يطلبون ديّته أعطوا ديّته من بيت مال المسلمين ولا يبطل دم امرئ مسلم لأنّ ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته على الإمام »(٩) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٥٣.

(٢ ـ ٩) وسائل الشيعة ١٩: ٣١ ـ ٤٧ ـ ٥٢ ـ ٦٥ ـ ٧٧ ـ ٩٢ ـ ٩٣ ـ ١٠٩.

٢٨

٢٩. وقال الإمام عليعليه‌السلام فيمن لم يكن له من يحلف معه ولم يوثق به على ما ذهب من بصره وأبى أن يحلف: « الوالي يستعين في ذلك بالسّؤال والنّظر والتثبُّت في القصاص والحدود والقود »(١) .

٣٠. وقال الإمام الصادقعليه‌السلام في ميّت قطع رأسه قال: « عليه الديّة »، فقيل فمن يأخذ ديّته ؟ قال: « الإمام هذا لله »(٢) .

٣١. وقالعليه‌السلام في القاتل عمداً إذا هرب: « إن كان له مال أخذت الديّة من ماله وإلاّ فمن الأقرب فالأقرب، وإن لم يكن له قرابة أدّاه الإمام، فإنّه لا يبطل دم امرئ مسلم ».

وفي رواية اخرى: « ثمّ للوالي بعد أدبه وحبسه »(٣) .

٣٢. وقال الصادقعليه‌السلام في من قتل خطأً إذا مات قبل دفع الديّة وليس له عاقلة: « إن لم يكن له عاقلة ؛ فعلى الوالي من بيت المال »(٤) .

هذا والملحوظ ؛ أنّ بعض الروايات وإن كان ظاهراً في الإمام المعصوم إلّا أنّ كثيراً من هذه الروايات ظاهر في مطلق القائم بالإعمال المذكورة سواء أكان معصوماً أم غير معصوم، وهو يعني مطلق الحاكم الإسلاميّ.

ويدلُّ على ذلك رواية ٨ و ٩ حيث يسمّي فيهما الإمام الصادقعليه‌السلام أمير الحاجّ والوالي بالإمام ممّا يدلّ على أنّ لفظ الإمام الموجود في هذه الرواية وأشباهها يراد به مطلق الحاكم الإسلاميّ ووليّ أمر المسلمين وليس الإمام المعصوم المصطلح في علم الكلام.

ويؤيّد هذا الاتّجاه ما قاله صاحب وسائل الشيعة في تعليقه على إحدى الروايات المشتملة على لفظ الإمام كالروايات المذكورة هنا: « الإمام العدل أعمُّ من المعصوم »(٥) .

وصفوة القول، أنّ الناظر في هذه الروايات يجد أنّ هناك أحكاماً اجتماعيّةً

__________________

(١ ـ ٥) وسائل الشيعة ١٩: ٢٢٠ ـ ٢٤٨ ـ ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ـ ٤٠٢.

٢٩

اقتصاديّةً أخلاقيّةً وغيرها، جعلها الإسلام على عاتق الإمام أو الوالي أو من شابههما وذلك يفيد أنّ ماهيّة هذه الأحكام ماهيّة خاصّة يتوقّف تحقيقها في الخارج على وجود سلطة وجهاز يجريها في المجتمع، وقد عبّر في هذه الروايات ـ عن تلك السلطة والجهاز ـ بالإمام والوالي أو السلطان أي صاحب السلطة، وذلك يدلُّ ـ بالدلالة الإلتزاميّة ـ على أنّ هذه أحكام سلطانيّة، وواجبات حكوميّة لا تنفكُّ عن وجود السلطة والدولة وقد فرضها الأئمّة: مسلّمة الوجود في الواقع الخارجي.

وإنمّا أدرجنا لك نموذجاً من هذه الأحاديث لإثبات أمر واحد هو، أنّ الحكومة الإسلاميّة أمر مسلّم الوجود وإيجادها فريضة يتوقّف عليها الكثير من الأحكام الدينيّة، ومع ذلك كيف يسمح البعض لأنفسهم أن يقولوا: إنّ الإسلام يمكن أن يطبّق في المجتمع دون حاجة إلى حكومة قويّة، وسلطة سياسيّة قادرة.

قال الإمام الخميني قائد الثورة الإسلاميّة في محاضراته عن الحكومة الإسلاميّة: « والحقُّ أنّ القوانين والأنظمة الاجتماعيّة بحاجة إلى منفّذ. في كلّ دول العالم لا ينفع التشريع وحده، ولا يضمن سعادة البشر، بل ينبغي أن تعقب سلطة التشريع سلطة التنفيذ فهي وحدها التي تنيل الناس ثمرات التشريع العادل.

لهذا قرّر الإسلام إيجاد سلطة التنفيذ إلى جانب سلطة التشريع فجعل للأمر وليّاً للتنفيذ إلى جانب تصدّيه للتعليم والنشر والبيان »(١) .

وصفوة القول، أنّ ضرورة وجود الحكومة في الحياة الاجتماعيّة ممّا دلّ عليه العقل والكتاب والسُّنّة وسيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة بما لا يقبل جدلاً، ولذلك نكتفي بما سردناه لك وفيه كفاية.

__________________

(١) الحكومة الإسلاميّة للإمام الخمينيّ: ٢٤.

٣٠

٢

لماذا يرفض البعض وجود الحكومة ؟

« إنّ المنكرين لضرورة وجود الدولة في الحياة الاجتماعيّة على طائفتين :

الاولى: من يقول بعدمها، ويعلّل ذلك بفلسفة ونظرية معتبرة عنده وهم ماركس وأتباعه.

الثانية: من ينكر ذلك لمجرّد عوامل نفسيّة وهم على فرق ثلاث ».

رغم أنّ ضرورة قيام الدولة وايجادها لم تكن موضع ترديد وشكّ ـ كما أثبتت البحوث المتقدّمة ـ لما فيها من ضمان لسعادة الحياة الانسانيّة وتقدم الحضارة وديمومتها واستقامتها، فإنّ هناك شرذمةً قليلةً من الناس تستوحش من قيام الدولة وتتوجّس خيفةً من وجودها وتنفي ضرورتها وربّما يصبُّ بعضهم هذا المذهب الباطل في قالب منطقيّ فيقول: إنّ وجود الحكومة ضرورة ملحّة للبشر لفترة خاصة من الزمان فقط، وليس دائماً.

وينقسم أصحاب هذا الرأي إلى طوائف أربع :

الطائفة الاُولى: هم ماركس ومؤيّدوه، فهم يعتقدون بضرورة وجود الدولة مادام المجتمع البشريّ يعاني من « الصراع الطبقي » ولكنّه بعد استقرار الشيوعيّة وزوال جميع

٣١

الفوارق والمشكلات الاقتصاديّة تنتفي الحاجة إلى الدولة.

وقد مضت الإجابة الكاملة على هذه النظرية الخاطئة في الجزء الأوّل من كتابنا.

فهناك قلنا: بأنّ الدوافع الحقيقية إلى وجود الدولة لا تنحصر في المسائل الماديّة، والمشاكل الاقتصاديّة، ليزول الاختلاف والتصارع بمجرّد محو الفوارق الطبقيّة، وزوال الصراع الطبقي وتنتفي الحاجة إلى الدولة. بل هناك دوافع أخلاقيّة وغرائزيّة إلى جانب المسائل الاقتصاديّة ـ سبق شرحها ـ(١) ولأجلها لامناص للمجتمع ـ كيفما كان ـ من تأسيس الدولة وإقامتها.

الطائفة الثانية: هم أصحاب السوابق السوداء الذين تضمن الأوضاع الفوضويّة وغياب السلطة الحكومية مصالحهم الخاصّة، ويخشون طائلة الحساب والعقاب والملاحقة والمؤاخذة، ولذلك نجدهم يعارضون وجود الدولة ليتسنّى لهم المضيُّ في ما يريدون دون محاسب أو رقيب، ودون شيء يعرّض مصالحهم للخطر، ويسدّ عليهم طريق النهب والسلب !!

الطائفة الثالثة: وهم الذين لم يعهدوا من الحكومات إلّا العنف والجور والاستبداد وخدمة الأقوياء، وسحق المستضعفين وهضم حقوقهم، وامتصاص دمائهم، ونهب خيراتهم وهدر كرامتهم. فهم بمجرد سماع لاسم الدولة يتذكرون فوراً تلك الحكومات الجائرة وسجونها المخيفة، وتعذيبها الوحشيّ الذي كان ينتظر أي معارض أو معترض ولذلك فهم ينفرون من سماعهم اسم الدولة، ويخشون من قيامها أشدّ خشيةً لما يلازمها من صور الاستبداد والعنف والظلم !!

غير أنّ هذا الفريق لو تسنّى له أن يقف على صيغة ( الحكومة الإسلاميّة ) بخصائصها المطلوبة منها، وما تتّسم به من إنسانيّة ورحمة وعدل، لما اتخذ هذا الموقف السلبيّ من الحكومة التي يدعو الإسلام إلى انشائها وايجادها. بل لاستقبلها برحابة صدر، ولسعى إلى إيجادها وإقامتها سعياً.

__________________

(١) راجع الجزء الاول من كتابنا: ٥٧٢.

٣٢

الطائفة الرابعة: هم الذين يبتغون الحرّيات الفرديّة مطلقةً لا تحدُّها حدود، أو يتصورون أنّ قيام الدولة والحريّة الفرديّة أمران متناقضان لا يجتمعان فالدولة تزاحم هذه الحريات وتحدّها على الإطلاق.

والحقُّ أنّ هذا الفريق لم يفرّق بين الحرية اللائقة بالإنسان، اللازمة له، والحريّة السائدة في عالم الغاب.

فالحريّة السائدة في الغاب، تعني عدم التقيّد بأيّة سنّة معقولة، وأي قانون يحفظ الحقوق وأيّ حدود تحفظ الكرامات فهناك تفعل الحيوانات والوحوش ما تشاء، بمجرّد أن تكون ذات قوّة غالبة، وشهوة عارمة ومخالب أشدّ فتكاً وبأساً.

وأمّا الحرية اللائقة بالانسان الجديرة بشأنه ومكانته، فهي التي تكون ضمن قوانين وسنن وحدود وموازين معقولة تضمن نموّ القوى البشريّة، وتكامل المواهب الإنسانيّة وسيرها في الاتجاه الصحيح، وبلوغها إلى كمالها الممكن، ولا يتأتّى ذلك إلا في إطار حريّة معقولة محسوبة.

وبعبارة اخرى: أنّ الحريّة الصحيحة اللائقة بالإنسان إنّما هي توفير الفرص المناسبة لنموّ الاستعدادات والقابليّات الانسانيّة في الفرد والمجتمع، لانتقالها من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعليّة، وبالتالي رشدها وبلوغها إلى درجة الكمال الممكن.

وحيث إنّ هذا النمو والبلوغ لا يمكن أن يتمّ في جو من الفوضى، بل لابدّ من شروط وحدود، تكون القوانين والسنن الصالحة هي تلك الشروط التي تضمن ذلك البلوغ، لا أن تقيّده وتمنع من تحقُّقه كما يتوهّم.

وحول الحريّة المعقولة الصحيحة يقول الإمام الصادقعليه‌السلام لإسماعيل البصريّ: « تقعدون في المكان فتحدّثون وتقولون ما شئتم، وتتبرّؤون ممّن شئتم، وتولّون من شئتم ؟ ».

قال إسماعيل: نعم.

٣٣

قال الإمامعليه‌السلام : « وهل العيش إلا هكذا »(١) .

إنّ الحريّة الصحيحة في نظر الإمامعليه‌السلام هو أن يستطيع الإنسان أن يختار عقيدته وولاءه بنفسه بعد أن يتبيّن له الرشد من الغيّ، ليستطيع في ظلّ الاختيار الإراديّ الصحيح، أن يسير في طريق التكامل الإنسانيّ المطلوب.

إنّ الحكومة النابعة من إرادة الشعب فضلاً عن الحكومة التي يدعو إليها الإسلام، لا تهدف إلّا حراسة مثل هذه « الحريّة المعقولة » التي تساعد المواهب والقابليات على التفتُّح والنموّ والتكامل، فلا مخالفة ولا منع ولا تحديد.

هذا مضافاً إلى أنّ الحاكم في نظام الحكم الإسلاميّ بما أنّه من جانب الله سبحانه، لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر الله به أو نهى عنه، وهو تعالى لا ينهي عن شيء ولا يأمر إلّا بما فيه كمال الإنسان وارتقاؤه وتفتُّح مواهبه ونموّها، ودفع قابلياته واستعداداته إلى مرحلة الفعليّة والتحقّق، والنضج.

وإليك شطراً من النصوص الإسلاميّة التي ترسم لنا بعض ملامح الحكومة التي ينشد الإسلام إيجادها وإقامتها، آخذين هذه النصوص من القرآن الكريم والأحاديث الإسلاميّة الصحيحة.

ملامح الحكومة الإسلاميّة حسب النصوص :

إنّ الحاكم الإسلاميّ ـ في منطق القرآن وحسب تشريعه ـ ليس مجرّد من يأخذ بزمام الجماعة كيفما كان، ويأمر وينهى بما تشتهيه نفسه، ويحكم على الناس لمجرّد السلطة وشهوة الحكم، بل هو ذو مسؤوليّة كبيرة وثقيلة أشار إليها القرآن الكريم بقوله :

( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج: ٤١ ).

__________________

(١) الكافي ٨: ٢٢٩.

٣٤

فالمسؤوليّات الملقاة على عاتق الحاكم في الإسلام عبارة عن :

١. إقامة الصلاة، وتوثيق عرى المجتمع الإسلاميّ بربّه الذي فيه كلّ الخير.

٢. إيتاء الزكاة الذي فيه تنظيم اقتصاده ومعاشه.

٣. الأمر بالمعروف، وإشاعة الخير والصلاح في المجتمع.

٤. النهي عن المنكر، ومكافحة كلّ ألوان الفساد والانحراف، والظلم والزور.

ومن المعلوم، أنّ حكومةً كهذه، توفّر للاّئقين والصالحين وذوي القابليات والمواهب فرصاً مناسبةً لإبراز مواهبهم، وتهيّئ الظروف المساعدة لتنمية استعداداتهم العلميّة والفكريّة، في جميع المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وتدفعها في طريق التقدُّم والازدهار.

فإذا كانت هذه الحكومة التي ينشدها الإسلام ويدعو النّاس كافّة إلى إقامتها فأيُّ شيء يبرّر الخوف والاستيحاش منها ؟ ولماذا يخشى البعض من إقامتها وهي أجدر الحكومات بإسعاد الشعوب، وإصلاح أمرها، وضمان مصالحها، وحماية حقوقها وكرامتها على أحسن وجه ؟

وسيوافيك بعض الآيات الاخرى في المباحث الآتية.

وأمّا ما يصور لنا ملامح الحكومة الإسلاميّة من الأخبار والأحاديث، فقول الرسول الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال :

ورع يحجزه عن معاصي الله.

وحلم يملك به غضبه

وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرّحيم »(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ردّ من قال: بئس الشّيء الإمارة، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم الشّيء الإمارة لمن أخذها بحلّها وحقّها، وبئس الشّيء الامارة لمن أخذها بغير حقّها وحلّها تكون عليه

__________________

(١) الكافي ١: ٤٠٧.

٣٥

يوم القيامة حسرةً وندامةً »(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في جواب من سأله عن الإمارة، فقال: « إنّها أمانة وإنّها يوم القيامة حسرةً وندامةً، إلّا من أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها »(٢) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لعمل الإمام العادل في رعيّته يوماً واحداً أفضل من عبادة العابد في أهله مائة عام »(٣) .

ولمّا دخل « سعد » على « سلمان » عندما كان حاكماً في المدائن، يعوده في مرضه، قال له سعد: « اعهد علينا أبا عبد الله عهداً نأخد به ».

فقال: « اذكر الله عند همّك إذا هممت، وعند يدك إذا قسمت، وعند حكمك إذا حكمت »(٤) .

وهذه صورة عن التربية الإسلامية التي ربّى بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه وأتباعه. فهو ربّاهم على، أن يذكروا الله عند العزم على كلّ شيء، وعند القسمة، والحكم.

ثمّ هاهو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتحدّث عن مسؤولية الحاكم، اتّجاه الاُمّة الإسلاميّة التي يأخذ بزمام حكمها فيقول: « كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته.

فالأمير الذي على النّاس، راع عليهم وهو مسؤول عنهم.

والرّجل، راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم.

وامرأة الرّجل، راعية على بيت زوجها، وولدها وهي مسؤولة عنهم

ألا فكلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته »(٥) .

كما يمكن أن تستجلى ملامح الحكومة الإسلاميّة وصفات الحاكم الإسلاميّ من قول الإمام عليّعليه‌السلام الذي يرسم لنا ما على الحاكم الإسلاميّ، اتّجاه الشعب، وما

__________________

(١) كتاب الأموال للحافظ أبي عبيد سلام بن القاسم المتوفّى عام ٢٢٥ ه‍: ١٠.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الأموال: ١٠ ـ ١٣ ـ ١٣ ـ ١.

٣٦

على الشعب، اتّجاه الحاكم إذ يقول ـ في وضوح كامل ـ :

« وأعظم ما افترض الله من تلك الحقوق، حقُّ الوالي على الرّعيّة وحقُّ الرّعيّة على الوالي، فريضةً فرض الله سبحانه، لكلّ على كلّ، فجعلها نظاماً لالفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرّعيّة إلا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرّعيّة.

فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إليها حقّها عزّ الحقُّ بينهم، وقامت مناهج الدّين، واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السُّنن، فصلح بذلك الزّمان، وطمع في بقاء الدّولة ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرّعيّة واليها أو أجحف الوالي برعيّته اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدّين، وتركت محاجُّ السُّنن، فعمل بالهوى، وعطّلت الأحكام وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذلُّ الأبرار، وتعزُّ الأشرار، وتعظّم تبعات الله عند العباد »(١) .

ثمّ إنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام يصرّح في هذه الخطبة ذاتها بالحقوق المشتركة والمسؤوليات المتقابلة إذ يقول: « أمّا بعد، فقد جعل الله لي عليكم حقّاً بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم ».

ثمّ يشير الإمامعليه‌السلام في هذه الخطبة إلى واحدة من أنصع القوانين الإسلاميّة، وهو قانون التسوية بين جميع أفراد الاُمّة الإسلاميّة حكّاماً ومحكومين، رؤوساء ومرؤوسين، وزراء ومستوزرين، وبذلك ينسف فكرة: أنا القانون، أو أنا فوق القانون، فيقولعليه‌السلام : « الحقُّ لا يجري لأحد إلّا جرى عليه، ولا يجري عليه إلّا جرى له ».

وعلى هذا، فلا تمييز ولا تفرقة بين الحاكم والمحكوم بل الجميع أمام القوانين الإسلاميّة المدنيّة والجزائيّة وغيرها سواء، وعلى الحاكم والرئيس أن يؤدّي حقوق الناس كأيّ فرد من أفراد الاُمّة العاديين، وبذلك يدعم الإمام ما روي عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول: « النّاس أمام الحقّ سواء ».

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٢١١، طبعة عبده.

٣٧

وهوعليه‌السلام في موضع آخر يلخّص هدف الحكم الإسلاميّ في كلمتين لا أكثر، يقول ابن عبّاس: دخلت خيمة عليّعليه‌السلام بذي قار، فوجدته يخصف نعله، فقال لي: « ما قيمة هذه النعل » ؟

فقلت: لا قيمة لها.

فقال: « والله لهي أحبُّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً »(١) .

ثمّ ها هوعليه‌السلام يوصي أحد ولاته بقوله: « وأشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدّين أو نظير لك في الخلق »(٢) .

فإذن ليست الحكومة في ظلّ الإسلام إلّا الرحمة والمحبّة واللطف التي يجب أن تعمّ كلّ المواطنين، لا السبعيّة والغلظة التي تتّصف بها الحكومات غير الإسلاميّة.

كما يمكن أن نعرف طبيعة الدولة الإسلاميّة من كلام الإمام الشهيد الحسين بن عليّعليه‌السلام إذ يقول: « أللّهمّ، إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك »(٣) .

إنّ المتخوّفين من قيام الدولة مطلقاً أو من قيام الحكومة الإسلاميّة خاصّةً، إمّا أنّهم يجهلون أهداف الحكومة الإسلاميّة، وإمّا أنّهم من ذوي السوابق السوداء والمطامع الرخيصة، فيرعبهم قيام الحكومة الإسلاميّة العادلة خيفةً من الفضيحة، أو خشيةً من العقاب.

إنّ الدولة الإسلامية لا تشمل المواطنين المسلمين فقط، بعدلها ورحمتها ولطفها، بل تشمل من سواهم من أهل الملل الاخرى كاليهود والنصارى وغيرهم، بذلك حتّى

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٣٢.

(٢) نهج البلاغة: الرسالة ٥٣ لمالك الأشتر واليه على مصر.

(٣) تحف العقول: ١٧٢، طبعة بيروت.

٣٨

أنّهم يجدون في ظلّها من كرامة العيش، وشرف الحياة ما لا يجدون نظيره في ظّل الدول المتديّنة بدينهم، والمنتحلة لعقائدهم، والتاريخ الإسلاميّ المدوّن أفضل دليل على ذلك.

ففي التاريخ الإسلاميّ نرى، كيف كان يرجّح النصارى واليهود الحياة في ظلّ الدولة الإسلاميّة ورعايتها على الحياة في ظلّ السلطات والدول التي كانوا يعيشون فيها، وكيف أنّهم كانوا يفتحون صدورهم للفتوحات الإسلاميّة، ويقبلون بسيادة المسلمين لأنّهم كانوا يجدون في كنفهم دفء الرحمة وحرارة الإيمان وبرد الإحسان.

ولأجل ذلك، فإنّ أوّل خطوة خطاها رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد استقراره في يثرب ـ المدينة ـ وبعد تشكيل أوّل حكومة إسلاميّة هو عقد وثيقة تعايش بين المسلمين وغيرهم وقّعها النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمون وأهل المدينة من اليهود وغيرهم، تحدّد العلاقات الإنسانيّة، والحقوق المتقابلة بين المسلمين وغيرهم، وهي بذلك تعتبر قانوناً أساسياً للدولة الإسلاميّة، بل تمثّل وثيقةً عالميّةً خالدةً لحقوق الإنسان.

وإليك مقتطفات مهمّة من هذه الوثيقة: « بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا كتاب من محمّد النبيّ [ رسول الله ] بين المؤمنين والمسلمين من قريش و [ أهل ] يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنّهم أمّة واحدة من دون النّاس ».

ثمّ بعد أن ذكر النبيّ القبائل الإسلاميّة وما يقع عليها من مسؤوليّة حفظ الأمن ومساعدة الضعيف وإجراء العدل والقسط، ذكر اُموراً ترتبط بعامة المسلمين فكتبصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « وأن لايخالف مؤمن مولى مؤمن دونه [ أي لا ينقض عهداً عهده مع غيره ] وإنّ المؤمنين المتّقين أيديهم على كلّ من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثماً، أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإنّ أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم

وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النّصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.

وإنّ يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم

٣٩

وأنفسهم، إلّا من ظلم وأثم فإنّه لا يوتغ إلّا نفسه وأهل بيته.

وإنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإنّ بينهم النّصر على من حارب أهل هذه الصّحيفة وإنّ بينهم النُّصح والنّصيحة والبرّ دون الإثم »(١) .

وخلاصة هذا الكتاب ـ الميثاق ـ هي :

١. جعل المسلمين أمّة واحدةً على اختلاف شعوبهم وقبائلهم.

٢. إقرار المهاجرين من قريش على عاداتهم وسننهم في أحكام الديات والدماء، وقد نسخ ذلك فيما بعد بفرض الحدود والديات على أسلوب خاص.

٣. مسؤولية المهاجرين عن فداء أسيرهم وتخليصه من أيدي المشركين.

٤. المسؤوليّة الشاملة لجميع الطوائف والقبائل بأن تفدي أسيرها بالقسط والمعروف.

٥. إقرار القبائل التي وردت أسماؤها في الصحيفة على عاداتهم، وإنّ كلّ طائفة منهم مسؤولة عن فداء عانيها.

٦. قيام المؤمنين بإعانة المثقل منهم بالديون من أجل الفداء.

٧. إنكار البغي والظلم وشجبه في جميع المجالات ومناهضة القائم به وإن كان ولداً لأحدهم فإنّهم مسؤولون عنه جميعاً لو أخلّوا به.

٨. عدم قود المؤمن بالكافر لو قتله، فتؤخذ منه الديّة لا غير.

٩. منح أدنى المسلمين أن يجير أي شخص شاء.

١٠. عدم السماح للمشركين بأن يجيروا مالاً أو دماً للمشركين من قريش.

١١. إنّ القاتل للمؤمن من غير سبب يقاد به إلّا أن يرضي أولياء المقتول بالديّة فتؤخذ منه.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٥٠١، الأموال: ٥١٧ طبعة مصر، البداية والنهاية ٣: ٢٢٤ ـ ٢٢٦.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

وكأنّ أوراق الكتاب التكويني ـ على غرار الكتاب التدويني ـ شد بعضها إلى بعض بيد واحدة، وأُخرجت في صورة واحدة.

إنّ القوانين والسنن الحاكمة على الموجودات الطبيعية كلية وشاملة بحيث لو أُتيح لأحد أن يكتشف بالتجربة سنة في نقطة خاصة من نقاط الكون أمكنه أن يكتشف قانوناً كلياً وشاملاً، ويهتدي إلى سنة كونية عمومية وهذا هو أفضل دليل على وحدة النظام الحاكم على العالم الطبيعي.

إنّ وحدة النظام الكوني « وعمومية » السنن والقوانين الطبيعية تقودنا إلى موضوعين :

١. أنّه ليس للعالم إلّا خالق واحد، وتوضيح ذلك هو ما قرأته في الفصل السابق.

٢. انّه ليس للعالم إلّا مدبِّر واحد.

وبعبارة أُخرى، فإنّ وحدة النظام والسنن الكونية لدليل واضح على صحة ما قاله القرآن الكريم.

( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (١) .

إنّ جملة:( لَهُ الخَلْقُ ) إشارة إلى التوحيد في الخالقية.

وجملة:( وَالأمْرُ ) إشارة إلى التوحيد في التدبير الذي هو نوع من الحاكمية على عالم الوجود.

وهنا ينطرح سؤال هو: كيف تدل « وحدة القوانين » وعموميتها على « وحدة المدبِّر »؟

__________________

(١) الأعراف: ٥٤.

٤٠١

وجواب ذلك واضح: إذ عندما يحكم على الكون نوعان من الرأي والحاكمية يكون من الطبيعي والحتمي عدم وجود أي أثر لهذا النظام الواحد، انّ وحدة النظام لا تتحقّق ولا تكون إلّا إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم ومدبِّر واحد، ولو خضع الكون لإدارة حاكمين ومنظمين ومدبِّرين لما كان للنظام الموحد أي أثر.

لأنّ تعدّد المدبِّر والمنظِّم ـ بحكم اختلافهما في الذات أو بعض الجهات منها ـ يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير والإدارة، ويستلزم تعدّد التدبير ـ بالضرورة ـ فناء النظام الموحد، وغيابه.

وبعبارة أُخرى: انّ المدبِّرين إن كانا متساويين من كل الجهات لم تصدق هناك اثنينية قهراً، وإن تعدّد المدبِّر يعني ـ بالضرورة ـ اختلاف المدبِّرين من جهة أو جهات، ومعلوم أنّ اختلافاً ـ كهذا ـ يؤثر لا محالة في تدبير المدبِّر.

* * *

ويمكن بيان هذا البرهان بصورتين :

١. أن نلتفت ـ في بيان البرهان ـ إلى الجوانب الإيجابية فيه ونقول: إنّ ترابط أجزاء الكون، وتأثيرها في بعضها يدلّ على خضوعها لحاكمية حاكم واحد على جميع العالم يقودها تحت نظام واحد وخطة واحدة.

وقد أكد في أحاديث أئمّة أهل البيت: على هذه النقطة أحياناً، إذ يقول أحدهم وهو :

« فلما رأيت الخلق منتظماً، والفلك جارياً، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر، دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبِّر

٤٠٢

واحد »(١) .

٢. وربما أُشير إلى الجوانب السلبية في هذا البرهان وأنّ تعدّد التدبير يوجب فساد النظام الكوني.

وقد استند القرآن الكريم على هذا الجانب، إذ قال:

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٢) .

وربما ورد في بعض نصوص أهل بيت الرسالة الإشارة إلى كلا الجانبين في هذا البرهان، إذ يقول أحدهم: في جواب هشام الذي سأل عن دليل وحدانية الرب :

« اتصال التدبير وتمام الصنع، كما قال الله عزّ وجل:( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا ) (٣) .

النتيجة

١. انّ وحدة النظام ووحدة الكون وشمول السنن لجميع أجزاء هذا العالم وعمومية القوانين الطبيعية كل ذلك يمكن أن يكون أفضل دليل على وحدة الخالق، وكذا وحدة المدبِّر.

٢. أنّ هذا البرهان يمكن أن يبين في صورتين، وكلا الصورتين اللّتين هما ـ في الحقيقة ـ برهان واحد وردا في القرآن الكريم.

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٢٤٤.

(٢) الأنبياء: ٢٢.

(٣) توحيد الصدوق: ٢٥٠ وسيوافيك الاستدلال بهذه الآية بشكل آخر.

٤٠٣

ما معنى المدبِّرات في القرآن ؟

فإذا كانت الظواهر الطبيعية وليدة عللها التي هي الموجدة والمدبِّرة لهذه الظواهر بنحو من الأنحاء، فكيف ينسجم هذا مع حصر المدبّرية المطلقة في الله تعالى ؟

فإنّ التدبير الطبيعي عبارة عن تكفّل شيء لشيء آخر، فإنّ كل علة في هذا النظام الكوني متكفّلة لوجود معلولها وسبب لاستمرار بقائه ودوامه، وبمقتضى ذلك تكون كل علة مدبّراً، وعند ذلك فكيف ينحصر التدبير في الله سبحانه ؟

مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم يعترف بسلسلة من المدبِّرات ويقول :

( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (١) .

( وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) (٢) .

ولا شك أنّ هؤلاء الحفظة لو كانوا يراقبون البشر ويحفظونه من الشرور والأخطار، فإنّ من الحتمي أن يعدوا مدبِّرين له بنحو ما ؟

الجواب

قد سبق منّا ـ عند البحث عن التوحيد في الخالقية ـ أنّ التوحيد في الأفعال ليس بمعنى تعطيل فاعلية الأسباب والعلل وإحلال الله تعالى محلها للتأثير في الظواهر مباشرة، لأنّ هذا عين ما اختارته الأشاعرة، الذي أبطلناه.

بل التوحيد في الأفعال ـ سواء أكان في الخالقية أم في التدبير ـ إنّما هو

__________________

(١) النازعات: ٥.

(٢) الأنعام: ٦١.

٤٠٤

بمعنى أنّه لا يوجد في الكون مؤثر مستقل سواه، وإنّ تأثير سائر العلل إنّما هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه ومشيئته، والاعتراف بمثل هذه المدبّرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في الله سبحانه، ومن ليس له إلمام بألفباء المعارف والمفاهيم القرآنية يواجه حيرة كبيرة تجاه طائفتين من الآيات، إذ كيف يمكن أن تنحصر بعض الشؤون والأفعال كالشفاعة، والمالكية، والرازقية والعلم بالغيب والإحياء في بعض الآيات بالله سبحانه بينما تنسب هذه الأفعال في آيات أُخرى إلى غير الله من عباده، فكيف ينسجم ذلك الانحصار مع هذه النسبة ؟

وإليك نماذج من هاتين الطائفتين من الآيات :

١. يعد القرآن ـ في بعض آياته ـ قبض الأرواح فعلاً لله تعالى، ويصرح بأنّ الله هو الذي يتوفّي الأنفس حين موتها إذ يقول ـ مثلاً ـ :

( اللهُ يَتَوفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) .

بينما نجده يقول في موضع آخر، ناسباً التوفّي إلى غيره :

( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) (٢) .

* * *

٢. يأمر القرآن ـ في سورة الحمد ـ بالاستعانة بالله وحده إذ يقول :

( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

في حين نجده في آية أُخرى يأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة إذ يقول :

__________________

(١) الزمر: ٤٢.

(٢) الأنعام: ٦١.

٤٠٥

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (١) .

* * *

٣. يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقاً مختصاً بالله وحده، إذ يقول :

( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (٢) .

بينما يخبرنا ـ في آية أُخرى ـ عن وجود شفعاء غير الله كالملائكة :

( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمٰوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يأْذَنَ اللهُ ) (٣) .

٤. يعتبر القرآن الاطّلاع على الغيب والعلم به منحصراً في الله، حيث يقول :

( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ والأرضِ الغَيْبَ إلّا اللهُ ) (٤) .

فيما يخبر الكتاب العزيز في آية أُخرى عن أنّ الله يختار بعض عباده لاطّلاعهم على الغيب، إذ يقول :

( وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَىٰ الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (٥) .

__________________

(١) البقرة: ٤٥.

(٢) الزمر: ٤٤.

(٣) النجم: ٢٦.

(٤) النمل: ٦٥.

(٥) آل عمران: ١٧٩.

٤٠٦

٥. ينقل القرآن عن إبراهيمعليه‌السلام قوله بأنّ الله يشفيه إذا مرض حيث يقول :

( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (١) .

وظاهر هذه الآية هو حصر الإشفاء من الأسقام في الله سبحانه، في حين أنّ الله يصف القرآن والعسل بأنّ فيهما الشفاء أيضاً، حيث يقول :

( فِيهِ [ العسل ]شِفَاءٌ لِلنّاسِ ) (٢) .

( وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ) (٣) .

٦. إنّ الله تعالى ـ في نظر القرآن ـ هو الرازق الوحيد حيث يقول :

( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ ) (٤) .

بينما نجد القرآن يأمر المتمكنين وذوي الطول بأن يرزقوا من يلوذ بهم من الضعفاء إذ يقول :

( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) (٥) .

٧. الزارع الحقيقي ـ حسب نظر القرآن ـ هو الله كما يقول :

__________________

(١) الشعراء: ٨٠.

(٢) النحل: ٦٩.

(٣) الإسراء: ٨٢.

(٤) الذاريات: ٥٨.

(٥) النساء: ٥.

٤٠٧

( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ *ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) (١) .

في حين أنّ القرآن الكريم ـ في آية أُخرى ـ يطلق صفة الزارع على الحارثين إذ يقول :

( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ ) (٢) .

* * *

٨. إنّ الله هو الكاتب لأعمال عباده إذ يقول :

( واللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) (٣) .

في حين يعتبر القرآن الملائكة ـ في آية أُخرى ـ بأنّهم المأمورون بكتابة أعمال العباد، إذ يقول :

( بَلَىٰ وَرُّسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (٤) .

* * *

٩. وفي آية ينسب تزيين عمل الكافرين إلى نفسه سبحانه يقول :

( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) (٥) .

وفي الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان :

__________________

(١) الواقعة: ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) الفتح: ٢٩.

(٣) النساء: ٨.

(٤) الزخرف: ٨١.

(٥) النمل: ٤.

٤٠٨

( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ ) (١) .

وفي آية أُخرى نسبها إلى آخرين وقال :

( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ ) (٢) .

* * *

١٠. مر في هذا البحث حصر التدبير في الله حتى إذا سئل من بعض المشركين عن المدبّر لقالوا: هو الله، ، إذ يقول في الآية ٣١ من سورة يونس :

( وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ ) .

بينما اعترف القرآن بصراحة في آيات أُخرى بمدبّرية غير الله حيث يقول :

( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) (٣) .

فمن لم يكن له إلمام بمعارف القرآن يتخيّل لأوّل وهلة أنّ بين تلك الآيات تعارضاً، غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ حقيقة هذه الأُمور أعني: الرازقية، والإشفاء و و، قائمة بالله على نحو لا يكون لله فيها أي شريك، فهو تعالى يقوم بها بالأصالة وعلى وجه « الاستقلال » في حين أنّ غيره محتاج إليه سبحانه في أصل وجوده وفعله، فما سواه تعالى يقوم بهذه الأفعال والشؤون على نحو « التبعية » وفي ظل القدرة الإلهية.

وبما أنّ هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات، وأنّ كل ظاهرة لا بد أن تصدر وتتحقّق من مجراها الخاص بها المقرر لها في عالم الوجود ينسب القرآن هذه

__________________

(١) الأنفال: ٤٨.

(٢) فصلت: ٢٥.

(٣) النازعات: ٥.

٤٠٩

الآثار إلى أسبابها الطبيعية دون أن تمنع خالقية الله من ذلك، ولأجل ذلك يكون ما تقوم به هذه الموجودات فعلاً لله في حين كونها فعلاً لنفس الموجودات غاية ما في الأمر أنّ نسبة هذه الأُمور إلى الموجود الطبيعي نفسه إشارة إلى الجانب « المباشري »، فيما يكون نسبتها إلى « الله » إشارة إلى الجانب « التسبيبي ».

ويشير القرآن إلى كلا هاتين النسبتين في قوله سبحانه :

( وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَىٰ ) (١) .

ففي حين يصف النبي الأعظم بالرمي، إذ يقول بصراحة( إذْ رَمَيْتَ ) نجده يصف الله بأنّه هو الرامي الحقيقي، وذلك لأنّ النبي إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها الله له، فيكون فعله فعلاً لله أيضاً، بل يمكن أن يقال: إنّ انتساب الفعل إلى الله ( الذي منه وجود العبد وقوته وقدرته ) أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلاً لله لا غير، ولكن شدة الانتساب هذه لا تكون سبباً لأن يكون الله مسؤولاً عن أفعال عباده، إذ صحيح أنّ المقدمات الأوّلية للظاهرة مرتبطة بالله وناشئة منه إلّا أنّه لما كان الجزء الأخير من العلة التامة هو إرادة الإنسان ومشيئته بحيث لولاها لما تحقّقت الظاهرة يعد هو مسؤولاً عن الفعل.

وحدة المدبِّر في العالم

إنّ القرآن استدل على وحدة المدبِّر في العالم ببرهان ذي شقوق، وقد جاء البرهان ضمن آيتين تتكفل كل واحدة منهما بيان بعض الشقوق من البرهان، وإليك الآيتين :

__________________

(١) الأنفال: ١٧.

٤١٠

( لَو كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (١) .

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِله إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْض سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ ) (٢) .

وإليك مجموع شقوق البرهان :

إنّ تصوّر تعدّد المدبِّر لهذا العالم يكون على وجوه :

قدس‌سره . أن يتفرد كل واحد من الآلهة المدبِّرة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كل واحد ما يريده في الكون دونما منازع، ففي هذه الصورة يلزم تعدد التدبير لأنّ المدبِّر متعدّد ومختلف في الذات، فيلزم تعدد التدبير، وهذا يستلزم طروء الفساد على العالم وذهاب الانسجام المشهود، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانهعليهم‌السلام

(قُلْ لَو كانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .

٢. وأمّا أن يدبِّر كل واحد قسماً من الكون الذي خلقه وعندئذ يجب أن يكون لكل جانب من الجانبين نظام مستقل خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير مرتبط به أصلاً، وعندئذ يلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام من الكون، في حين أنّنا لا نرى في الكون إلّا نوعاً واحداً من النظام يسود كل جوانب الكون من الذرة إلى المجرة.

__________________

(١) الأنبياء: ٢٢.

(٢) المؤمنون: ٩١.

٤١١

وإلى هذا الشق أشار بقوله: في الآية الثانية:( إذَنْ لَذَهَبْ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ ) .

٣. أن يتفضّل أحد هذه الآلهة على البقية ويكون حاكماً عليهم ويوحّد جهودهم، وأعمالهم ويسبغ عليها الانسجام والاتحاد، وعندئذ يكون الإله الحقيقي هو هذا الحاكم دون الباقي.

وإلى هذا يشير قوله سبحانه:( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) فتلخّص أنّ الآيتين بمجموعهما تشيران إلى برهان واحد ذي شقوق تتكفل كل واحدة منهما بيان شق خاص.

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي اعتبر في تفسيره القيم ـ الميزان ـ الآية الثانية برهاناً مستقلاً عن الآية الأُولى وجعل كل جملة منها مشيرة إلى برهان خاص، وإليك توضيح ما أفاده في كتابه :

توضيح البرهان الأوّل

إذا افترضنا أنّ للكون خالقين وأنّ العالم مخلوق لإلهين، فإنّه لا بد أن نقول ـ وبحكم كونهما اثنين ـ أنّهما يختلفان عن بعض في جهة أو جهات، وإلاّ لما صحت الاثنينية والتعدد أي لما صح ـ حينئذ ـ أن يكونا اثنين دون أن يكون بينهما أي نوع من الاختلاف.

ومن المعلوم أنّ الاختلاف في الذات سبب للاختلاف في طريقة التدبير والإرادة بين المختلفين ذاتاً.

فإذا كان تدبير العالم العلوي ـ مثلاً ـ من تدبير واحد من الإلهين وتدبير العالم السفلي من تدبير إله آخر، فإنّ من الحتمي أن ينفصم الترابط بين نظامي

٤١٢

العالمين ويزول الارتباط بينهما، لأنّه من المستحيل أن يكون ارتباط ووحدة بين أجزاء عالم واحد يدار بتدبيرين متنافيين متضادين.

وينتج من ذلك التفكك بين جزئي العالم، وبالتالي فساد الكون بأسره من سماوات وأرض وما بينهما.

لأنّنا جميعاً نعلم بأنّ بقاء النظام الكوني ـ حسب التحقيقات العلميّة ـ ناشئ من الارتباط الحاكم على أجزاء المنظومة الشمسية بحيث لو فقد هذا الارتباط على أثر الاختلاف في التدبير ـ مثل أن تختل قوتا الجذب والدفع ـ لتعرض الكون بأسره للخلل ولم يبق للكون وجود ولا أثر.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا البرهان بالعبارة التي يقول فيها :

( إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إلهٍ بِمَا خَلَقَ ) .

أي أنّ كل إله ـ في صورة التعدّد ـ يدبِّر مخلوقه حسب طريقته الخاصة، وعلى أثر تعدّد التدبير يزول الارتباط والترابط الحاكم على أجزاء الكون، ذلك الترابط الذي هو علّة بقاء النظام الكوني وعلّة استمراره واستقامته، وثباته على النمط الذي هو عليه.

توضيح البرهان الثاني

إنّ في عالم الكون سلسلة من النظم والسنن الكونية الكلية والعامة التي يوجد بينها سلسلة من النظم الجزئية، التي تدار في خلالها وأثنائها.

فالإنسان والحيوان والنبات وما يعيش على الأرض ذوات أنظمة صغيرة محدودة خاصة بها، وهي جزء من النظام الكلي للكرة الأرضية.

٤١٣

ولكن النظام الكلي للكرة الأرضية هو بدوره يعد جزءاً من النظام الكلي للعالم، وبهذه النسبة يكون وضع نظام المجموعة الشمسية إذا ما قورن إلى نظام المجرة.

فإذا كان النظام العالي الكلّي للكون مرتبطاً بأحد الإلهين ومحكوماً لتدبيره دون الآخر، ففي هذه الصورة سيتعالى مدبّر النظام الكلي على مدبِّر النظام الذي يندرج فيه بحيث إذا ذهب وانتفى النظام الكلي لم يبق للنظام الجزئي المندرج فيه أي أثر.

فمثلاً إذا بطل نظام الكرة الأرضية، فإنّه يبطل ـ بالضرورة ـ نظام الإنسان والحيوان وبقية الأحياء ويتعرض أمرهم للزوال والفناء والخطر، بحكم التبعية والارتباط بينهما.

وإذا تعرض النظام الكلي للمنظومة الشمسية للخلل فإنّ من القطعي أن يختل كذلك النظام الجزئي للمنظومة مثل نظام الكرة الأرضية على أثر ذلك، ولا يصح العكس طبعاً(١) .

وفي هذه الحالة يصح ( بحكم تفوق النظام العالي الكلي على النظام الجزئي السفلي ) أن يقال أنّ مدبِّر النظام العلوي يتفضّل ويستعلي ويتفوّق على مدبِّر النظام السفلي الجزئي، وتكون نتيجة هذا الفرض أن يستغني مدبِّر النظام العلوي الكلي عن مدبِّر النظام السفلي الجزئي، بينما يستلزم أن يكون مدبّر النظام السفلي الجزئي محتاجاً في إرادته وتدبيره لمخلوقه للمدبِّر الأعلى.

لأنّ الفرض أنّ النظام السفلي مرتبط ـ كمال الارتباط ـ بالنظام العلوي

__________________

(١) لأنّ فساد الكل يستتبع فساد الجزء.

٤١٤

ويستمد من الأخير دائماً، ومعلوم أنّ نتيجة هذا الاستمداد هو أن لا يكون موجد النظام السفلي، مستقلاً في تأثيره وتدبيره، بل يكون معتمداً على غيره دائماً وأبداً.

ومن البديهي أنّ الموجود المحتاج إلى غيره في التدبير والإيجاد لا يمكنه أن يكون « الإله الغني ».

إنّ القرآن الكريم يشير إلى هذا النحو من الاستدلال بالجملة التالية :

( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) .

وعلّة هذا العلو والاستعلاء هو اعتماد تدبير أحدهما على تدبير الآخر بحيث لو اختل أو انتفى التدبير الكلي العلوي لانتفى التدبير السفلي الجزئي ولم يعد له أثر ولا خبر، ولا ريب أنّ تفوق التدبير مستلزم لتفوق المدبِّر وعلوه(١) .

سؤال وجواب

نرى في قوله سبحانه :

( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً *مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰٰ باللهِ شَهِيداً ) (٢) .

إنّ الآية الأُولى تنسب كلاّ من الحسنة والسيئة إلى الله، وفي الوقت نفسه

__________________

(١) قد تقدم في صفحة ٤٠٣ الاستدلال بمضمون الآية الأُولى على « وحدة المدبر » غير أنّ الاستدلال هنا يكون بنفس هذه الآية منضمة إلى آية أُخرى، وجعل الآيتين بمنزلة برهان واحد ذي شقوق تتكفل الآيتان بيان شقوق البرهان.

(٢) النساء: ٧٨ ـ ٧٩.

٤١٥

تنسب الآية الثانية الحسنة إليه سبحانه والسيئة إلى نفس الإنسان، فكيف تجتمع هاتان النسبتان ؟

والخطاب في الآية الثانية وإن كان للنبي إلّا أنّ الغاية منه أعم، فهو وإن كان قد خوطب بالكلام، ولكن المقصود الناس جميعاً، وعندئذ ينطرح هذا السؤال: إذا كان المؤثر الحقيقي في العالم هو الله سبحانه وكان تأثير غيره منوطاً بإذنه ومشيئته وقدرته وأقداره، كما يفيده قوله سبحانه:( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ اللهِ ) ، لأجل أنّ للحسنة والسيئة عوامل وعللاً تنتهي إلى الله سبحانه وتقوم به، فيكون الكلّ مستنداً إليه، ومعه كيف يستدرك في الآية الثانية ويقرن بين الحسنة والسيئة فينسب الأُولى إلى الله والثانية إلى نفس النبي وبالنتيجة إلى مطلق الإنسان ويقول:( ومَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) ؟ فهل هذا إلا تفكيك في الحوادث وجعل بعضها منتهياً إلى الله دون البعض الآخر.

الجواب

إنّ المقصود من الحسنة في الآية، الأُمور التي تلائم وتنطبق مع المزاج والمصالح البشرية بينما تكون السيئة عكس ذلك، كما في قوله سبحانه :

( إِنْ تَمسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُم سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ) (١) .

وليس المراد منها الطاعة والمعصية ولا الثواب والعقاب بل الحوادث التي تعد خيراً أو شراً للإنسان طيلة حياته.

إنّ بعض المنضمين إلى صفوف المؤمنين كانت ألسنتهم طويلة وعملهم

__________________

(١) آل عمران: ١٢٠.

٤١٦

قليلاً، فكانوا يتفلسفون، فإنْ حصل نصر قالوا: هو من عند الله، وإن كانت هزيمة قالوا إنّ سوء القيادة هو سبب الهزيمة.

وبعبارة أُخرى قد كان المنافقون ـ لجهلهم بمعارف الكتاب العزيز ـ يعدون الظفر والغلبة في الحروب كحرب بدر ـ مثلاً ـ من الله، والانكسار والهزيمة كحرب أُحد من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولم يكن هذا النوع من التفسير بجديد، فقد سبقهم في ذلك أعداء موسى، فقد كان منطقهم، على شكل آخر، فكانوا ينسبون الحسنة إلى أنفسهم والسيئة إلى موسى ومن معه.

فإذا واجهوا نعمة كانوا يرون أنّ ذلك نتيجة صلاحيتهم، وإذا واجهوا نقمة أو بلاء تشاءموا بموسيعليه‌السلام وتطيّروا به، واعتبروا وجوده ووجود جماعته المؤمنين سبباً لنزول ذلك البلاء، كما يقول سبحانه :

( فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هذِهِ وِإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَعَهُ ) (١) .

ولكنَّ القرآن الكريم يواجه هذا الزعم الأعوج الذي تنسب فيه « الحسنات » تارة إلى الله و « السيئات » إلى النبي وأُخرى تنسب الحسنات إلى أنفسهم، والسيئات إلى موسىعليه‌السلام ، فكأنّ هناك مؤثرين مستقلين في عالم الكون، لكل واحد منهما خالق خاص ينافي الآخر ويقول في قبال هذا المنطق:( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) .

لأنّه ليس للعالم ـ بحكم التوحيد في الخالقية ـ إلّا خالق واحد لا أكثر ،

__________________

(١) الأعراف: ١٣١.

٤١٧

وكل ما يحدث في هذا العالم من انتصارات أو هزائم وانكسارات ونزول نعم أو نقم ـ من حيث وجودها في الخارج ـ تكون من الله، وليس من الصحيح أبداً أن نعتبر بعضها من جانب الله، والبعض الآخر من جانب النبي أو غيره، ولأجل هذا يقول القرآن( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) .

إلى هنا اتضح مفاد الآية الأُولى، وبقي الكلام في الآية الثانية وإنّه كيف تعود فتنسب الحسنة إلى الله والسيئة إلى النبي، والمراد منه مطلق الإنسان ؟

غير انّ الإجابة عنه واضحة، بعد الوقوف على موضوع البحث فيهما فإنّ الآية الأُولى تركز على أنّ وجود الحسنة والسيئة من الله سبحانه، ولا خالق ولا مؤثر في الوجود إلّا هو، وأمّا الآية الثانية فهي تركز على مناشئ الحسنة والسيئة ومنابعهما، فتفرّق بين مناشئ الحسنة ومنابع السيئة بأنّ منشأ الأُولى هو الله سبحانه، إذ هو مبدأ لكل خير وإليه يرجع كل فضل ومنه يفاض إلى الغير، كما أنّ منابع السيئة هي الإنسان وأفعاله وخصاله التي يمشي عليها في حياته. إذا عرفت ذلك فنقول :

السيئة ـ كالزلازل والبلايا والمصائب ـ بما أنّها ظاهرة طبيعية فوجودها من جانب الله سبحانه، ولأجل ذلك نسبها القرآن إلى الله فقال:( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) وبما أنّ أعمالنا مؤثرة في نشوء تلك الظاهرة، وكل إنسان مأخوذ بفعله فأعمالنا مبادئ لهذه الظواهر والطوارئ فنسب السيئة إلى نفس الإنسان فقال:( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) .

ويؤيد ذلك قوله سبحانه :

( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَيَّ رَبِّي

٤١٨

إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) (١) .

إنّه تعالى يأمر نبيه بأن يعترف بأنّ ضلالته من جانب نفسه وهدايته من جانب وحيه سبحانه، وليس ذلك إلّا لأنّ الضلالة مما ينشأ من موقف الإنسان نفسه في حياته، فلأجل ذلك هي أولى بأن تنتسب إلى نفس الإنسان، وأمّا الهداية فهي كالحسنة أولى بأن تنتسب إلى الله سبحانه.

وليس هذا مخصوصاً بالحوادث الطارئة في عالم الطبيعة، المذكورة، بل كل إنسان رهين بآثار عمله، فإنّ الشاب المدمن على الخمر ـ مثلاً ـ يجب بالبداهة أن ينتظر سلسلة من البلايا والمصائب والمحن، والمدينة التي لا تبني السدود في وجه السيول يجب حتماً أن تنتظر الدمار والخراب، والبيوت التي لا تبنى على أساس مقاومة الزلازل يجب حتماً أن تنتظر الخراب والدمار على أثر الزلازل.

إنّ مثل هذه المجتمعات التي تقصر في هذه الأُمور لابد أن تكون في معرض المصائب والمحن والمآسي.

ولهذا قال تعالى في الآية الثانية:( مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) وهو بذلك يشير إلى ما قلناه.

لقد كان الأنبياء: يذمّون من يتطيّر بهم ويتشاءم من وجودهم ويقولون:( قَالُوا ( أي الأنبياء )طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُم ) (٢) .

وهم بذلك يشيرون إلى أنّ علّة المحن والمصائب كامنة في نفس العصاة والمنكوبين، وهو أمر ناشئ منهم ونابع من أعمالهم هم، وأنّ داءهم فيهم ومنهم إن

__________________

(١) سبأ: ٥٠.

(٢) يس: ١٩.

٤١٩

كانوا يبصرون ويتذكرون.

ولأجل أن نعرف أنّ أعمال الإنسان هي صانعة مصيره يكفي أن نجد القرآن يخبرنا في آيات أُخرى بأنّ أعمال البشر وحالاته وسوابقه هي التي تكون علّة للمصائب والمحن والتحوّلات والتغيّرات التي تطرأ على حياته، إذ يقول :

( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (١) .

ويقول في آية أُخرى :

( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفِسِهِمْ ) (٢) .

ويقول أيضاً :

( ذِلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (٣) .

وقد أُشير إلى هذا الجمع الذي ذكرناه في روايات أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، فعن الإمام الرضاعليه‌السلام ناقلاً عن الحديث القدسي :

« ابن آدم ! بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء وتقول، وبقوتي أديت إلي فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذاك أنّي أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني »(٤) .

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام :. « فما أصابك من حسنة فمن عندي وبتوفيقي وقوتي، وما أصابك من سيئة فمن سوء اختيارك وغواية نفسك »(٥) .

__________________

(١) الشورى: ٣٠.

(٢) الرعد: ١١.

(٣) الأنفال: ٥٣.

(٤) بحار الأنوار: ٥ / ٥٦ و ٥ وقد نقل في الأخير بصورة مبسوطة.

(٥) بحار الأنوار: ٥ / ٥٦ و ٥ وقد نقل في الأخير بصورة مبسوطة.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627