مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228496 / تحميل: 6450
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الصفحة ٥٢٣

معذور، لا من حيث العقاب ولا من جهة سائر الاثار، بمعنى أن شيئا من آثار الشئ المجهول عقابا أو غيره من الاثار المترتبة على ذلك الشئ في حق العالم لا يرتفع عن الجاهل لاجل جهله.

وقد إستثنى الاصحاب من ذلك القصر والاتمام والجهر والاخفات، فحكموا بمعذورية الجاهل في هذين الموضعين.

وظاهر كلامهم إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعي، وهي الصحة بمعنى سقوط الفعل ثانيا دون المؤاخذة.

وهو الذي يقتضيه دليل المعذورية في الموضعين أيضا.

فحينئذ يقع الاشكال في أنه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي كسائر الاحكام المجهولة للمكلف المقصر، فيكون تكليفه بالواقع وهو القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا.

وما يأتي به من الاتمام المحكوم بكونه مسقطا، إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط الواجب، وإن كان مأمورا به فكيف يجتمع الامر به مع فرض وجود الامر بالقصر.

ودفع هذا الاشكال، إما بمنع تعلق التكليف فعلا بالواقعي المتروك، وإما بمنع تعلقه بالمأتي به، وإما بمنع التنافي بينهما.

فالاول: إما بدعوى كون القصر مثلا واجبا على المسافر العالم، وكذا الجهر والاخفات.

وإما بمعنى معذوريته فيه، بمعنى كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع، يعذر صاحبه ويحكم عليه ظاهرا، بخلاف الحكم الواقعي.

وهذا الجاهل وإن لم يتوجه إليه خطاب مشتمل على حكم ظاهري، كما في الجاهل بالموضوع، إلا أن مستغنى عنه بإعتقاده لوجوب هذا الشئ عليه في الواقع.

وإما من جهة القول بعدم تكليف الغافل بالواقع وكونه مؤاخذا على ترك التعلم، فلا يجب عليه القصر، لغفلته عنه.

نعم يعاقب على عدم إزالة الغفلة، كما تقدم إستظهاره من صاحب المدارك و من تبعه.

وإما من جهة تسليم تكليفه بالواقع، إلا أن الخطاب بالواقع ينقطع عند الغفلة لقبح خطاب العاجز.

وان كان العجز بسوء إختياره فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر، لكنه ليس مأمورا به حتى يجتمع مع فرض وجود الامر بالاتمام.

لكن هذا كله خلاف ظاهر المشهور، حيث أن الظاهر منهم كما تقدم بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل.

ولذا يبطلون صلاة الجاهل بحرمة الغصب، إذ لولا النهي حين الصلاة لم يكن وجه للبطلان.

والثاني: منع تعلق الامر بالمأتي به وإلتزام أن غير الواجب مسقط عن الواجب، فإن قيام ما

١٢١

الصفحة ٥٢٤

اعتقد وجوبه مقام الواجب الواقعي غير ممتنع.

نعم قد يوجب إتيان غير الواجب فوات الواجب فيحرم، بناء على دلالة الامر بالشئ على النهي عن الضد، كما في آخر الوقت، حيث يستلزم فعل التمام فوت القصر.ويرد هذا الوجه أن الظاهر من الادلة كون المأتي به مأمورا به في حقه.

مثل قوله عليه السلام في الجهر والاخفات: (تمت صلاته)، ونحو ذلك.

والموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب نمنع عدم وجوب البدل، بل الظاهر في تلك الموارد سقوط الامر الواقعي وثبوت الامر بالبدل، فتأمل.

والثالث: بما ذكره كاشف الغطاء، رحمه الله، من أن التكليف بالاتمام مرتب على معصية الشارع بترك القصر، فقد كلفه بالقصر والاتمام على تقدير معصية في التكليف بالقصر.

وسلك هذا الطريق في مسألة الضد في تصحيح فعل غير الاهم من الواجبين المضيقين، إذا ترك المكلف الامتثال بالاهم.

ويرده: أنا لا نعقل الترتب في المقامين، وإنما يفعل ذلك فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقق معصية الاول.

كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة الترابية فكلف لضيق الوقت بالبراء‌ة.

الثالث إن وجوب الفحص إنما هو في إجراء الاصل في الشبهة الحكمية الناشية من عدم النص أو إجمال بعض ألفاظه او تعارض النصوص.

أما إجراء الاصل في الشبهة الموضوعية: فإن كانت الشبهة في التحريم، فلا إشكال ولا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص.

ويدل عليه إطلاق الاخبار، مثل قوله عليه السلام: (كل شئ لك حلال حتى تعلم)(١)، وقوله: (حتى يستبين لك غير هذا او تقوم به البينة)(٢)، وقوله: (حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه الميتة)(٣)، وغير ذلك، السالم عما يصلح لتقييدها.

وإن كانت الشبهة وجوبية، فمقتضى أدلة البراء‌ة حتى العقل كبعض كلمات العلماء عدم وجوب الفحص أيضا وهو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد.

مثل قول المولى لعبده: (أكرم العلماء أو المؤمنين)، فإنه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين، إلا أنه قد يترا اى أن بناء

____________________

(١) الكافي (الفروع) ج ٦، ص ٣٣٩.

(٢) الكافي، ج ٥، ص ٣١٣.

(٣) الكافي (الفروع)، ج ٦، ص ٣٣٩: (كل شئ كل حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة).

ص ٢٢٤.

١٢٢

الصفحة ٥٢٥

العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط.

كما إذا أمر المولى بإحضار علماء البلد أو أطبائها أو إضافتهم أو إعطاء كل واحد منهم دينارا.

فإنه قد يدعى أن بناء‌هم على الفحص عن أولئك وعدم الاقتصار على المعلوم إبتداء مع إحتمال وجود غيرهم في البلد.

قال في المعالم، في مقام الاستدلال على وجوب التبين في خبر مجهول الحال بآية التثبت في خبر الفاسق: (إن وجوب التثبت فيها متعلق بنفس الوصف، لا بما تقدم العلم به منه.

ومقتضى ذلك إرادة الفحص والبحث عن حصوله وعدمه.

ألا ترى أن قول القائل: (أعط كل بالغ رشيد من هذه الجماعة مثلا درهما)، يقتضي إرادة السؤال والفحص عمن جمع الوصفين، لا الاقتصار على من سبق العلم بإجتماعهما فيه)(١)، إنتهى.

وأيد ذلك المحقق القمي، رحمه الله، في القوانين ب‍ (أن الواجبات المشروطة بوجود شئ إنما يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده.فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط.مثل أن من شك في كون ماله بمقدار إستطاعة الحج، لعدم علمه بمقدار المال.

لا يمكنه أن يقول: إني لا أعلم أني مستطيع ولا يجب علي شئ، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنه واجد للاستطاعة أو فاقد لها.

نعم لو شك بعد المحاسبة في أن هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا، فالاصل عدم الوجوب حنيئذ)(١).

ثم ذكر المثال المذكور في المعالم بالتقريب المتقدم عنه(٢).

وأما كلمات الفقهاء فمختلفة في فروع هذه المسألة: فقد أفتى جماعة منهم، كالشيخ والفاضلين وغيرهم، بأنه لو كان له فضة مغشوشة بغيرها وعلم بلوغ الخالص نصابا وشك في مقداره وجب التصفية، ليحصل العلم بالمقدار أو الاحتياط بمقدار ما تيقن معه البراء‌ة.

نعم إستشكل في التحرير في وجوب ذلك، وصرح غير واحد من هؤلاء، مع عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب، بأنه لا يجب التصفية، والفرق بين المسألتين مفقود إلا ما ربما يتوهم من أن العلم بالتكليف ثابت مع العلم ببلوغ النصاب، بخلاف ما لم يعلم به.

وفيه: أن العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع القدرة المتيقن ودوران الامر بين الاقل والاكثر مع كون الزائد على تقدير وجوبه تكليفا مستقلا.ألا ترى أنه لو علم بالدين وشك في قدره، لم

____________________

(١) معالم الدين، ص ٢٠١.

(٢) القوانين المحكمة، ص ٢٢٤.

١٢٣

الصفحة ٥٢٦

يوجب ذلك الاحتياط والفحص، مع أنه لو كان هذا المقدار يمنع من إجراء البراء‌ة قبل الفحص لمنع منها بعده، إذ العلم الاجمالي لا يجوز معه الرجوع إلى البراء‌ة ولو بعد الفحص.

وقال في التحرير في باب نصاب الغلات: (ولو شك في البلوغ، ولا مكيال هنا ولا ميزان، ولم يوجد، سقط الوجوب دون الاستحباب)(١) إنتهى.وظاهره جريان الاصل مع تعذر الفحص وتحصيل العلم.

وبالجملة فما ذكروه من إيجاب تحصيل العلم بالواقع مع التمكن في بعض افراد الاشتباه في الموضوع مشكل.

وأشكل منه فرقهم بين الموارد، مع ما تقرر عندهم من أصالة نفي الزائد عند دوران الامر بين الاقل والاكثر.

وما ما ذكره صاحب المعالم، رحمه الله، وتبعه عليه المحقق القمي، رحمه الله، من تقريب الاستدلال بآية التثبت على رد خبر مجهول الحال من جهة إقتضاء تعلق الامر بالموضوع الواقعي المقتضي وجوب الفحص عن مصاديقه وعدم الاقتصار على القدر المعلوم(٢) فلا يخفي ما فيه، لان رد خبر مجهول الحال ليس مبنيا على وجوب الفحص عند الشك وإلا لجاز الاخذ به ولم يجب التبين فيه بعد الفحص واليأس عند العلم بحاله، كما لا يجب الاعطاء في المثال المذكور بعد الفحص عن حال المشكوك وعدم العلم بإجتماع الوصفين فيه، بل وجه رده قبل الفحص وبعده أن وجوب التبين شرطي، ومرجعه إلى إشتراط قبول الخبر في نفسه من دون إشتراط التبين فيه بعدالة المخبر.

فإذا شك في عدالته شك في قبول خبره في نفسه، والمرجع في هذا الشك والمتعين فيه عدم قبول، لان عدم العلم بحجية شئ كاف في عدم حجيته.

ثم الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص أنه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيرا على الفحص بحيث لو أهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا تعين هنا بحكم العقلاء إعتبار الفحص ثم العمل بالبراء‌ة، كبعض الامثلة المتقدمة.فإن إضافة جميع علماء البلد أو أطبائهم لا يمكن للشخص الجاهل إلا بالفحص.

فإذا حصل العلم ببعض، واقتصر على ذلك نافيا لوجوب إضافة من عداه بأصالة البراء‌ة من غير تفحص زائد على ما حصل به المعلومين عد مستحقا للعقاب والملامة عند إنكشاف ترك إضافة من يتمكن من تحصيل العلم به بفحص زائد.ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحج المتقدم: إن العلم بالاستطاعة في أول ازمنة حصولها

____________________

(١) تحرير الاحكام، ص ٦٢.

(٢) معالم الدين، ص ٢٠١.

١٢٤

الصفحة ٥٢٧

يتوقف غالبا على المحاسبة.فلو بنى الامر على تركها ونفي وجوب الحج بأصالة البراء‌ة لزم تأخير الحج عن أول سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الاشخاص، لكن الشأن في صدق هذه الدعوى.

وأما ما استند إليه المحقق المتقدم من أن الواجبات المشروطة يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا العلم بوجوده ففيه: أنه مسلم، ولا يجدي، لان الشك في وجود الشرط يوجب الشك في وجوب المشروط وثبوت التكليف والاصل عدمه.

غاية الامر الفرق بين إشتراط التكليف بوجود الشئ وإشتراطه بالعلم به، إذ مع عدم العلم في الصورة الثانية نقطع بإنتفاء التكليف من دون حاجة إلى الاصل وفي الصورة الاولى يشك فيه، فينفى بالاصل.

١٢٥

الصفحة ٥٢٨

وأما الكلام في مقدار الفحص

فملخصه أن حد الفحص هو اليأس عن وجدان الدليل فما بأيدينا من الادلة ويختلف ذلك بإختلاف الاعصار.

فإن في زماننا هذا إذا ظن المجتهد بعدم وجود دليل التكليف في الكتب الاربعة وغيرها من الكتب المعتبرة في الحديث التي يسهل تناولها على نوع أهل العصر، على وجه صار مأيوسا، كفى ذلك منه في إجراء البراء‌ة.

أما عدم وجوب الزائد، فللزوم الحرج وتعطيل إستعلام سائر التكاليف، لان إنتهاء الفحص في واقعة إلى حد يحصل العلم بعدم وجود دليل التكليف يوجب الحرمان من الاطلاع على دليل التكليف في غيرها من الوقائع.

فيجب فيها إما الاحتياط، وهو يؤدي إلى العسر، وإما لزوم التقليد لمن بذل فيها جهده على وجه علم بعدم دليل التكليف فيها.

وجوازه ممنوع، لان هذا المجتهد المتفحص ربما يخطئ ذلك المجتهد في كثير من مقدمات إستنباطه للمسألة.

نعم لو كان جميع مقدماته مما يرتضيها هذا المجتهد وكان التفاوت بينهما أنه أطلع على ما لم يطلع هذا، أمكن أن يكون قوله حجة في حقه.

لكن اللازم حينئذ أن يتفحص في جميع المسائل إلى حيث يحصل الظن بعدم وجود دليل التكليف، ثم الرجوع إلى هذا المجتهد.فإن كان مذهبه مطابقا للبراء‌ة كان مؤيدا لما ظنه من عدم الدليل.وإن كان مذهبه مخالفا للبراء‌ة كان شاهد عدل على وجود دليل التكليف.

فإن لم يحتمل في حقه الاعتماد على الاستنباطات الحدسية أو العقلية من الاخبار، أخذ بقوله في وجود دليل وجعل فتواه كروايته.

ومن هذا القبيل ما حكاه غير واحد، من أن القدماء كانوا يعملون برسالة الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عن إعواز النصوص.

والتقييد بإعواز النصوص مبني على ترجيح النص المنقول بلفظه على الفتوى التي يحتمل الخطأ في النقل بالمعنى.

وإن احتمل في حقه إبتناء فتواه على الحدس والعقل، لم يكن دليل على إعتباره في حقه وتعين العمل بالبراء‌ة.

١٢٦

الصفحة ٥٢٩

تذنيب ذكر الفاضل التوني لاصل البراء‌ة شروطا أخر الاول: أن لا يكون إعمال الاصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى، مثل أن يقال، في أحد الانائين المشتبهين: الاصل عدم وجوب الاجتناب عنه، فإنه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الاخر أو عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرا و عدم تقدم الكرية حيث يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة، فإن إعمال الاصول يوجب الاجتناب عن الاناء الاخر أو الملاقي أو الماء.

أقول: توضيح الكلام في هذا المقام أن إيجاب العمل بالاصل لثبوت حكم آخر إما بإثبات الاصل المعمول به لموضوع أنيط به حكم شرعي، كأن يثبت بالاصل براء‌ة ذمة الشخص الواجد لمقدار الدين مانع عن الاستطاعة، فيدفع بالاصل ويحكم بوجوب الحج بذلك المال.

ومنه المثال الثاني، فإن أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا يوجب الحكم بقلته التي أنيط بها الانفعال.

وإما لاستلزام نفي الحكم به حكما يستلزم عقلا أو شرعا أو عادة ولو في هذه القضية الشخصية لثبوت حكم تكليفي في ذلك المورد أو في مورد آخر، كنفي وجوب الاجتناب عن أحد الانائين.

فإن كان إيجابه للحكم على الوجه الاول، كالمثال الثاني، فلا يكون ذلك مانعا عن جريان الاصل، لجريان أدلته من العقل والنقل من غير مانع.ومجرد إيجابه حكما وجوديا آخر لا يكون مانعا عن جريان أدلته.كما لا يخفى على من تتبع الاحكام الشرعية والعرفية.ومرجعه في الحقيقة إلى رفع المانع.

فإذا إنحصر الطهور في ماء مشكوك الاباحه بحيث لو كان محرم الاستعمال لم يجب الصلاة لفقد الطهورين.

فلا مانع من إجراء أصالة الحل وإثبات كونه واجدا للطهور فيجب عليه الصلاة.

١٢٧

الصفحة ٥٣٠

ومثاله العرفي ما إذا قال المولى لعبده: (إذا لم يكن عليك شغل واجب من قبلي فاشتغل بكذا).

فإن العقلاء يوجبون عليه الاشتغال بكذا إذا لم يعلم بوجوب شئ على نفسه من قبل المولى.

وإن كان على الوجه الثاني الراجح إلى وجود العلم الاجمالي بثبوت حكم مردد بين حكمين: فإن أريد بإعمال الاصل في نفي أحدهما إثبات الاخر، ففيه: أن مفاد أدلة أصل البراء‌ة مجرد نفي التكليف دون إثباته وإن كان الاثبات لازما واقعيا لذلك النفي.

فإن الاحكام الظاهرية إنما تثبت بمقدار مدلول أدلتها ولا يتعدى إلى أزيد منه بمجرد ثبوت الملازمة الواقعية بينه وبين ما ثبت، إلا أن يكون الحكم الظاهري الثابت بالاصل موضوعا لذلك الحكم الاخر، كما ذكرنا في مثال براء‌ة الذمة عن الدين والحج، وسيجئ توضيح ذلك في باب تعارض الاستصحابين.

وإن أريد بإعماله في أحدهما مجرد نفيه دون الاثبات، فهو جار، إلا أنه معارض بجريانه في الاخر.

فاللازم إما إجراؤه فيهما، فيلزم طرح ذلك العلم الاجمالي لاجل العمل بالاصل، وإما إهماله فيهما، فهو المطلوب، وإما إعمال أحدهما بالخصوص، فترجيح بلا مرجح.نعم لو لم يكن العلم الاجمالي في المقام مما يضر طرحه لزم العمل بهما.كما تقدم أنه أحد الوجهين فيما إذا دار الامر بين الوجوب والتحريم.

وكيف كان، فسقوط العمل بالاصل في المقام لاجل المعارض، ولا إختصاص لهذا الشرط بأصل البراء‌ة، بل يجري في غيره من الاصول والادلة.

ولعل مقصوده صاحب الوافية ذلك، وقد عبر هو، رحمه الله، [ عن هذا الشرط ] في باب الاستصحاب بعدم المعارض.

وأما أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا، فقد عرفت أنه لا مانع من إستلزام جريانها الحكم بنجاسة الملاقي، فإنه نظير أصالة البراء‌ه من الدين المستلزم لوجوب الحج.

وقد فرق بينهما المحقق القمي، رحمه الله، حيث إعترف بأنه لا مانع من إجراء البراء‌ة في الدين وإن إستلزم وجوب الحج، ولم يحكم بنجاسة الماء مع جريان أصالة عدم الكرية، جمعا بينها وبين أصالة طهارة الماء.

ولم يعرف وجه فرق بينهما أصلا.(١)

____________________

(١) القوانين المحكمة، ص ٢٧٢

١٢٨

الصفحة ٥٣١

ثم إن مورد الشك في البلوغ كرا الماء المسبوق بعدم الكرية.وأما المسبوق بالكرية، فالشك في نقصانه من الكرية والاصل هنا بقاؤها.

ولو لم يكن مسبوقا بحال، ففي الرجوع إلى طهارة الماء، للشك في كون ملاقاته مؤثرة في الانفعال، فالشك في رافعيتها للطهارة، أو إلى النجاسة، لان الملاقاة مقتضية للنجاسة والكرية مانعة عنها بمقتضى قوله عليه السلام: (إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ)، ونحوه، مما دل على سببية الكرية، لعدم الانفعال المستلزمة لكونها مانعة عنه، والشك في المانع في حكم العلم بعدمه، وجهان.

وأما أصالة عدم تقدم الكرية على الملاقاة، فهو في نفسه ليس من الحوادث المسبوقة بالعدم حتى يجري فيه الاصل، نعم نفس الكرية حادثة، فإذا شك في تحققها حين الملاقاة حكم بأصالة عدمها.وهذا معنى عدم تقدم الكرية على الملاقاة.

لكن هنا أصالة عدم حدوث الملاقاة حين حدوث الكرية، وهو معنى عدم تقدم الملاقاة على الكرية فيتعارضان.

ولا وجه لما ذكره من الاصل.

وقد يفصل فيها بين ما كان تاريخ واحد من الكرية والملاقاة معلوما، فإنه يحكم بأصالة تأخر المجهول بمعنى عدم ثبوته في زمان يشك في ثبوته فيه فيلحقه حكمه من الطهارة والنجاسة، وقد يجهل التأريجاه بالكلية.

وقضية الاصل في ذلك التقارن، ومرجعه إلى نفي وقوع كل منهما في زمان يحتمل وقوعه فيه، وهو مقتضى ورود النجاسة على ما وكر حال الملاقاة فلا يتنجس به)(١)، إنتهى.

وفيه: أن تقارن ورود النجاسة والكرية موجب لانفعال الماء، لان الكرية مانعة عن الانفعال بما يلاقيه بعد الكرية على ما هو مقتضى قوله عليه السلام: (إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ)، فإن الضمير المنصوب راجع إلى الكر المفروض كريته، فإذا حصلت الكرية حال الملاقاة كان المفروض الملاقاة غير كر، فهو نظير ما إذا حصلت الكرية بنفس الملاقاة فيما إذا تمم الماء النجس كرا بطاهر والحكم فيه النجاسة، إلا أن ظاهر المشهور فيما نحن فيه الحكم بالطهارة.

بل إدعى المرتضى، قدس سره، عليه الاجماع حيث استدل بالاجماع على طهارة كر رأى فيه نجاسة لم يعلم تقدم وقوعها على الكرية على كفاية تتميم النجس كرا في زوال نجاسته.

ورده الفاضلان وغيرهما بأن الحكم بالطهارة هنا لاجل الشك في حدوث سبب النجس، لان الشك مرجعه إلى الشك في كون الملاقاة مؤثرة لوقوعها قبل الكرية أو غير مؤثرة، لكنه يشكل، بناء

____________________

(١) الفصول الغروية، ص ٣٥٤.

١٢٩

الصفحة ٥٣٢

على أن الملاقاة سبب للانفعال والكرية مانعة.

فإذا علم بوقوع السبب في زمان لم يعلم فيه وجود المانع، وجب الحكم بالمسبب، إلا أن الاكتفاء بوجود السبب من دون إحراز عدم المانع ولو بالاصل محل تأمل، فتأمل.

الثاني: أن لا يتضرر بأعمالها مسلم.كما لو فتح قفس طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسك رجلا فهرب دابته.

فإن إعمال البراء‌ة فيها يوجب تضرر المالك، فيحتمل إندراجه في قاعدة الاتلاف وعموم قوله: (لا ضرر و لا ضرار).

فإن المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع، وإلا فالضرر غير منفي، فلا علم حينئذ ولا ظن بأن الواقعة غير منصوصه، فلا يتحقق شرط التمسك بالاصل من فقدان النص، بل يحصل القطع بتعلق حكم شرعي بالضار، ولكن لا يعلم أنه مجرد التغزير أو الضمان أو هما معا، فينبغي له تحصيل العلم بالبراء‌ة ولو بالصلح(١).

ويرد عليه: أنه إن كان قاعدة نفي الضرر معتبرة في مورد الاصل، كان دليلا، كسائر الادلة الاجتهادية الحاكمة على البراء‌ة، وإلا فلا معنى للتوقف في الواقعة وترك العمل بالبراء‌ة، ومجرد إحتمال إندراج الواقعة في قاعدة الاتلاف أو الضرر لا يوجب رفع اليد عن الاصل.

والمعلوم تعلقه بالضار فيما نحن فيه هو الاثم والتعزير إن كان متعمدا، وإلا فلا يعلم وجوب شئ عليه، فلا وجه لوجوب تحصيل العلم بالبراء‌ة ولو بالصلح.

وبالجملة، فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره في خصوص أدلة الضرر، كما لا وجه لما ذكره في تخصيص مجرى الاصل بما إذا لم يكن جزء عبادة، بناء على أن المثبت لاجراء العبادة هو النص، لان النص قد يصير مجملا وقد لا يكون نص في المسألة.

فإن قلنا بجريان أصل عدم العبرة بالعلم بثبوت التكليف المردد بين الاقل والاكثر فلا مانع منه، وإلا فلا مقتضي له، وقد قدمنا ما عندنا في المسألة.

____________________

(١) الوافية، ص، مخطوط.

١٣٠

الصفحة ٥٣٣

[ قاعدة لا ضرر ] وحيث جرى ذكر حديث نفي الضرر والضرار ناسب بسط الكلام في ذلك في الجملة فنقول: قد إدعى فخرالدين في الايضاح، في باب الرهن، تواتر الاخبار على نفي الضرر والضرار.

فلا نتعرض من الاخبار الواردة في ذلك إلا لما هو أصح ما في الباب سندا وأوضحه دلالة.وهي الرواية المتضمنة لقصة سمرة بن جندب مع الانصاري.

وهي ما رواه غير واحد عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: (إن سمرة بن جندب كان له عذق، وكان طريقه إليه في جوف منزل لرجل من الانصار، وكان يجئ إلى عذقه بغير إذن من الانصاري.

فقال الانصاري: يا سمرة ! لا تزال تفجأنا على حال لا نحب أن تفجأنا عليها، وإذا دخلت فاستأذن.

فقال: لا أستأذن في طريقي إلى عذقي.

فشكاه الانصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله.

فأتاه، فقال: إن فلانا قد شكاك وزعم أنك تمر عليه وعلى أهله بغير إذنه فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل.

فقال: يا رسول الله ! أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول الله " ص ": خل عنه ولك عذق في مكان كذا.

قال: لا.

قال: فلك إثنان.

فقال: لا أريد.

فجعل " ص " يزيد حتى بلغ عشر أعذق.

فقال " ص ": خل عنه ولك عشر أعذق في مكان كذا، فأبى، فقال: خل عنه ولك بها عذق في الجنة.

فقال: لا أريد.

فقال له روسول الله " ص ": إنك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن.

قال عليه السلام: ثم أمر بها رسول الله " ص " فقلعت، ثم رمي بها إليه.

وقال له رسول الله " ص " إنطلق

١٣١

الصفحة ٥٣٤

فاغرسها حيث شئت)(١)، الخبر.

وفي رواية أخرى موثقة: (إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط رجل من الانصار وكان منزل الانصاري بباب البستان وفي آخرها -: قال رسول الله صلى الله عليه وآله للانصاري: إذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار)(٢)، الخبر.

وأما معنى اللفظين، فقال في الصحاح: (الضر خلاف النفع.وقد ضره وضاره بمعنى.والاسم الضرر ثم قال: والضرار المضارة)(٣).

وعن النهاية الاثيرية: (في الحديث: (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام).الضر ضد النفع.

ضره يضره ضرا وضرار. وأضر به يضره إضرار. فمعنى قوله: لا ضرر: لا يضر الرجل أخاه بنقصه شيئا من حقه. والضرار فعال من الضر، أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه. والضرر فعل الواحد، والضرار فعل الاثنين، والضرر إبتداء الفعل، والضرار الجزاء عليه. وقيل: الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع أنت به. والضرار أن تضره بغير أن تنفع. وقيل: هما بمعنى. والتكرار للتأكيد)(٤) إنتهى.

وعن المصباح: (ضره يضره)، من باب قتل: إذا فعل به مكروها، وأضر به. يتعدى بنفسه ثلاثيا وبالباء رباعيا.

والاسم الضرر.

وقد يطلق على نقص في الاعيان.

وضاره مضارة وضرارا بمعنى ضره)(٥)، إنتهى.

وفي القاموس: (الضر ضد النفع، وضاره يضاره ضرارا.

ثم قال: والضرر سوء الحال ثم قال: الضرار الضيق)(٦) إنتهى.

إذا عرفت ما ذكرناه، فاعلم أن المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر.

بمعنى أن الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد، تلكيفيا كان أو وضعيا.

فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي بالخبر.

وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك.وكذلك وجوب

____________________

(١) الكافي، ج ٥، ص ٢٩٤.

(٢) تهذيب الاحكام، ج ٧، ص ١٤٦.

(٣) الصحاح، ج ٢، ص ٧١٩.

(٤) النهاية، ج ٣، ص ٨٢.

(٥) المصباح، ج ٢، ص ٤٩٢.

(٦) القاموس، ج ٢، ص ٧٧

١٣٢

الصفحة ٥٣٥

الوضوء على من لا يجد الماء إلا بثمن كثير.وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه وإباحته له من دون إستيذان من الانصاري.وكذلك حرمة الترافع عند حكام الجور إذا توقف أخذ الحق عليه.ومنه براء‌ة ذمة الضار من تدارك ما أدخله من الضرر.

إذ كما أنه تشريع حكم يحدث معه الضرر منفي بالخبر، كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث، بل يجب أن يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة على وجه يتدارك ذلك الضرر كأن لم يحدث.

إلا أنه قد ينافي هذا قوله (لا ضرار)، بناء على أن معنى الضرار المجازاة على الضرر.

وكذا لو كان بمعنى المضارة التي هي من فعل الاثنين، لان فعل البادي منهما ضرر قد نفي بالفقرة الاولى فالضرار المنفي بالفقرة الثانية إنما يحصل بفعل الثاني.

وكأن من فسره بالجزاء على الضرر أخذه من هذا المعنى، لا على أنه معنى مستقل.

ويحتمل أن يراد من النفي النهي عن إضرار النفس أو الغير إبتداء أو مجازاة.

لكن لا بد أن يراد بالنهي زائدا على التحريم الفساد وعدم المضي، للاستدلال به في كثير من رواياته على الحكم الوضعي دون محض التكليف.فالنهي نظير الامر بالوفاء في الشروط والعقود.فكل إضرار بالنفس أو الغير محرم غير ماض على من أضره.وهذا المعنى قريب من الاول، بل راجع إليه.

والاظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها وموارد ذكرها في الروايات وفهم العلماء هو المعنى الاول.

ثم إن هذه القاعدة حاكمة على جميع المعلومات الدالة بعمومها على تشريع الحكم الضرري، كأدلة لزوم العقود، وسلطنة الناس على أموالهم، ووجوب الوضوء على واجدإ الماء، وحرمة الترافع إلى حكام الجور، وغير ذلك.

وما يظهر من غير واحد من التعارض بين العمومات المثبتة للتكليف وهذه القاعدة، ثم ترجيح هذه، إما بعمل الاصحاب وإما بالاصول، كالبراء‌ة في مقام التكليف وغيرها في غيره، فهو خلاف ما يقتضيه التدبر في نظائرها، من أدله رفع الحرج، ورفع الخطأ والنسيان، ونفي السهو على كثير السهو، ونفي السبيل على المحسنين، ونفي قدرة العبد على شئ، ونحوها.مع أن وقوعها في مقام الامتنان يكفي في تقديمها على العمومات.

والمراد بالحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال دليل آخر من حيث إثبات حكم لشئ أو نفيه عنه.

فالاول مثل ما دل على الطهارة بالاستصحاب أو بشهادة العدلين، فإنه حاكم على ما دل على أنه لا صلاة إلا بطهور، فإنه يفيد بمدلوله اللفظي على أن ما

١٣٣

الصفحة ٥٣٦

ثبت من الاحكام للطهارة، في مثل لا صلاة إلا بطهور وغيرها، ثابت للمتطهر بالاستصحاب أو بالبينة.

والثاني مثل الامثلة المذكورة.

وأما المتعارضان فليس في أحدهما دلالة لفظية على حال الاخر من حيث العموم خصوص، وإنما يفيد حكما منافيا لحكم الاخر.

وبملاحظة تنافيهما وعدم جواز تحققهما واقعا يحكم بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما المعين إن كان الاخر أقوى منه.

فهذا الاخر الاقوى قرينة عقلية على المراد من الاخر.وليس في مدلوله اللفظي تعرض لبيان المراد منه.

ومن هنا ملاحظة الترجيح في القرينة، لان قرينيته بحكم العقل بضميمة المرجح.

أما إذا كان الدليل بمدلوله اللفظي كاشفا عن حال الاخر، فلا يحتاج إلى ملاحظة مرجح له بل هو متعين للقرينة بمدلوله له، وسيأتي لذلك توضيح في تعارض الاستحصابين، إن شاء الله تعالى.

ثم إنه يظهر مما ذكرنا من حكومة الرواية وورودها في مقام الامتنان نظير أدلة نفي الحرج والاكراه أن مصلحة الحكم الضرري المجعول بالادلة العامة لا تصلح أن تكون تداركا للضرر، حتى يقال إن الضرر يتدارك بالمصلحة العائدة إلى المتضرر وإن الضرر المقابل بمنفعة راجحة عليه ليس بمنفي، بل ليس ضررا.

توضيح الفساد: أن هذه القاعدة تدل على عدم جعل الاحكام الضررية وإختصاص ادلة الاحكام بغير موارد الضرر.

نعم لولا الحكومة ومقام الامتنان كان للتوهم المذكور مجال.

وقد يدفع: بأن العمومات الجاعلة للاحكام إنما تكشف عن المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر.

وهذه المصلحة لا يتدارك بها الضرر الموجود في مورده، فإن الامر بالحج والصلاة مثلا يدل على عوض ولو مع عدم الضرر.

ففي مورد الضرر لا علم بوجود ما يقابل الضرر.

وهذا الدفع أشنع من أصل التوهم، لانه إن سلم عموم الامر بصورة الضرر كشف عن وجود مصلحة يتدارك بها الضرر في هذا المورد.

مع أنه يكفي حينئذ في تدارك الضرر الاجر المستفاد من قوله صلى الله عليه وآله: (أفضل الاعمال أحمزها)(١)، وما اشتهر في الالسن وارتكز في العقول من: (أن الاجر على قدر المشقة)، فالتحقيق في دفع التوهم المذكور ما ذكرناه من (الحكومة) و (الورود) في مقام الامتنان.

____________________

(١) نهج البلاغة، الحكم ٢٤٩: (أفضل الاعمال ما أكرهت نفسك عليه).

١٣٤

الصفحة ٥٣٧

ثم إنك قد عرفت بما ذكرنا أنه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سندا أو دلالة.

إلا أن الذي يوهن فيها هي كثيرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي.كما لا يخفى على المتتبع.

خصوصا على تفسير الضرر بإدخال المكروه، كما تقدم، بل لوبني عى العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد.

ومع ذلك فقد إستقرت سيرة الفريقين على الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للاحكام وعدم رفع اليد عنها إلا بمخصص قوي في غاية الاعتبار، بحيث يعلم منهم إنحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة.

ولعل هذا كاف في جبر الوهن المذكور وإن كان في كفايته نظر، بناء على أن لزوم تخصيص الاكثر على تقدير العموم قرينة على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك.

غاية الامر تردد بين العموم وإرادة ذلك المعنى، وإستدلال العلماء لا يصلح معينا خصوصا لهذا المعنى المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة إلا أن يقال مضافا إلى منع أكثرية الخارج وإن سلمت كثرته -: إن الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد جامع لها وإن لم نعرفه على وجه التفصيل.

وقد تقرر أن تخصيص الاكثر لا إستهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لافراد هي أكثر من الباقي.

كما إذا قيل: (أكرم الناس)، ودل دليل على إعتبار العدالة، خصوصا إذا كان المخصص مما يعلم به المخاطب حال الخطاب.ومن هنا ظهر وجه صحة التمسك بكثير من العمومات مع خروج أكثر أفرادها.

كما في قوله عليه السلام: (المؤمنون عن شروطهم)(١) وقوله تعالى: (أوفوا بالعقود)(٢)، بناء على إرادة العهود، كما في الصحيح.

ثم إنه يشكل الامر من حيث أن ظاهرهم في الضرر المنفي الضرر النوعي لا الشخصي، فحكموا بشرعية الخيار للمغبون نظرا إلى ملاحظة نوع البيع المغبون وإن فرض عدم تضرره في خصوص مقام.

كما إذا لم يوجد راغب في المبيع وكان بقاؤه ضررا على البائع، لكونه في معرض الاباق أو التلف أو الغصب.

وكما إذا لم يترتب على ترك الشفعة ضرر على الشفيع، بل كان له فيه نفع.

وبالجملة، فالضرر عندهم في بعض الاحكام حكمة لا يعتبر إطرادها، وفي بعض المقامات يعتبرون إطرادها، مع أن ظاهر الرواية إعتبار الضرر الشخصي، إلا أن يستظهر منها إنتفاء الحكم

____________________

(١) الكافي (الفروع)، ج ٥، ص ٤٠٤ وسائل الشيعة، ج ٦ ص ٣٢٥.

(٢) المائدة: ١

١٣٥

الصفحة ٥٣٨

رأسا إذا كان موجبا للضرر غالبا وإن لم يوجب دائما، كما قد يدعى نظير ذلك في أدلة نفي الحرج.

ولو قلنا بأن التسلط على ملك الغير بإخراجه عن ملكه قهرا عليه بخيار أو شفعة ضرر أيضا، صار الامر أشكل.

إلا أن يقال: إن الضرر أوجب وقوع العقد على وجه متزلزل يدخل فيه الخيار، فتأمل.

ثم إنه قد يتعارض الضرران بالنسبة إلى شخص واحد أو شخصين، فمع فقد المرجح يرجع إلى الاصول والقواعد الاخر.

كما أنه إذا أكره على الولاية من قبل الجائر المستلزمة للاضرار على الناس، فإنه يرجع إلى قاعدة نفي الحرج، لا إلزام الشخص تحمل الضرر لدفع الضرر عن غيره حرج.وقد ذكرنا توضيح ذلك في مسألة التولي من قبل الجائر من كتاب المكاسب.

ومثله: إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر جاره وتركه موجبا لتضرر نفسه، فإنه يرجع إلى عموم: (الناس مسلطون على أموالهم)(١)، ولو عد مطلق حجره عن التصرف في ملكه ضررا، لم يعتبر في ترجيح المالك ضرر زائد على ترك التصرف فيه، فيرجع إلى عموم التسلط.

ويمكن الرجوع إلى قاعدة نفي الحرج، لان منع المالك لدفع الضرر الغير حرج وضيق عليه، إما لحكومته إبتداء على نفي الضرر وإما لتعارضهما والرجوع إلى الاصل.

ولعل هذا أو بعضه منشأ إطلاق جماعة وتصريح آخرين بجواز تصرف المالك في ملكه وإن تضرر الجار: بأن يبني داره مدبغة أو حماما أو بيت القصارة أو الحدادة بل حكي عن الشيخ والحلبي وإبن زهرة دعوى الوفاق عليه.

ولعله أيضا منشأ ما في التذكرة من: (الفرق بين تصرف الانسان في الشارع المباح بإخراج روشن أو جناح وبين تصرفه في ملكه) حيث اعتبر في الاول عدم تضرر الجار بخلاف الثاني، فإن المنع من التصرف في المباح لا يعد ضررا بل فوات إنتفاع.

نعم ناقش في ذلك صاحب الكفاية - مع الاعتراف بأنه المعروف بين الاصحاب بمعارضة عموم التسلط لعموم نفي الضرر، قال في الكفاية: (ويشكل جواز ذلك فيما إذا تضرر الجار تضررا فاحشا.

كما إذا حفر في ملكه بالوعة ففسد بها بئر الغير، أو جعل حانوته في صف العطارين حانوت حداد، أو جعل داره مدبغة أو مطبخة)(٣)، إنتهى.

واعترض عليه تبعا للرياض بما حاصله: (إنه لا معنى للتأمل بعد إطباق

____________________

(١) عوالي اللئالي، ج ٣، ص ٢٠٨.

(٢) تذكرة الفقهاء، ج ٢، ص ١٨٢.

(٣) كفاية الاحكام، ص ٢٤١.

١٣٦

الصفحة ٥٣٩

الاصحاب نقلا وتحصيلا والخبر المعمول عليه بل المتواتر من: (أن الناس مسلطون على أموالهم)، وأخبار الاضرار على ضعف بعضها وعدم تكافؤها لتلك الادلة محمولة على ما إذا لم يكن له غرض إلا الاضرار، بل فيها كخبر سمرة إيماء إلى ذلك.

سلمنا، لكن التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه، والترجيح للمشهور للاصل والاجماع)(١)، إنتهى.

ثم فصل المعترض بين أقسام التصرف بأنه إن قصد به الاضرار من دون ان يترتب عليه جلب نفع أو دفع ضرر، فلا ريب في أنه يمنع.

كما دل عليه خبر سمرة بن جندب، حيث قال له النبي صلى الله عليه وآله: (إنك رجل مضار) وإذا ترتب عليه نفع أو دفع ضرر وعلى جاره ضرر يسير، فإنه جائز قطعا.وعليه بنوا جواز رفع الجدار على سطح الجار.وأما إذا كان ضرر الجار كثيرا يتحمل عادة، فإنه جائز على كراهية شديدة.وعليه بنوا كراهة التولي من قبل الجائز لدفع ضرر يصيبه.وأما إذا كان ضرر الجار كثيرا لا يتحمل عادة لنفع يصيبه، فإنه لا يجوز له ذلك.وعليه بنوا حرمة الاحتكار في مثل ذلك.وعليه بنى جماعة كالفاضل في التحرير والشهيد في اللمعة الضمان إذا أجج نارا بقدر حاجته مع ظنه التعدي إلى الغير.

وأما إذا كان ضرره كثيرا وضرر جاره كذلك، فإنه يجوز له دفع ضرره وإن تضرر جاره أو أخوه المسلم.

وعليه بنوا جواز الولاية من قبل الجائر إلى أن قال والحاصل: أن أخبار الاضرار فيما يعد إضرار معتدا به عرفا، والحال أنه لا ضرر بذلك على المضر، لان الضرر لا يزال بالضرر)(٢)، إنتهى.

أقول: الاوفق بالقواعد تقديم المالك، لان حجر المالك عن التصرف في ماله ضرر يعارض ضرر الغير، فيرجع إلى عموم قاعدة السلطنة ونفي الحرج، نعم في الصورة الاولى التي يقصد المالك مجرد الاضرار من غير غرض في التصرف يعتد به لا يعد فواته ضررا.

والظاهر عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك التصرف أشد من ضرر الغير أو أقل، إما لعدم ثبوت الترجيح بقلة الضرر كما سيجئ، وإما لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر.

فإن تحمل الغير على الضرر ولو يسيرا، لاجل دفع الضرر عن الغير ولو كثيرا، حرج وضيق.

ولذا إتفقوا على أنه يجوز للمكره الاضرار على الغير بما دون

١٣٧

الصفحة ٥٤٠

القتل، دفع الضرر عن نفسه، ولو كان أقل من ضرر الغير.هذا كله في تعارض ضرر المالك و ضرر الغير.

وأما في غير ذلك فهل يرجع إبتداء إلى القواعد الاخر أو بعد الترجيح بقلة الضرر؟ وجهان بل قولان.

يظهر الترجيح من بعض الكلمات المحكية عن التذكرة وبعض موارد الدروس ورجحه غير واحد من المعاصرين.

ويمكن أن ينزل عليه ما عن المشهور، من أنه لو أدخلت الدابة رأسها في القدر بغير تفريط من أحد المالكين كسر القدر وضمن قيمته صاحب الدابة، معللا بأن الكسر لمصلحته، فيحمل إطلاق كلامهم على الغالب، من أن ما يدخل من الضرر على مالك الدابة، إذا حكم عليه بتلف الدابة وأخذ قيمتها، أكثر مما يدخل على صاحب القدر بتلفه وأخذ قيمته.

وبعبارة أخرى: تلف إحدى العينين وتبدلها بالقيمة أهون من تلف الاخرى.

وحينئذ فلا يبقى مجال للاعتراض على تعليل الحكم بكونه لمصلحة صاحب الدابة، بما في المسالك من (أنه قد يكون المصلحة لصاحب القدر فقط يكون المصلحة مشتركة بينها).

وكذلك حكمهم بضمان صاحب الدابة إذا دخلت في دار لا تخرج إلا بهدمها، معللا بأنه لمصلحة صاحب الدابة.

فإن الغالب أن تدارك المهدوم أهون من تدراك الدابة.

والله العالم.

قد تمت الكتاب بعون الملك الوهاب وباعانة جناب المستطاب ميرزا محمد هادي سلمه الله طالقاني الاصل وطهراني المسكن بيد أقل الطلاب [..] تحريرا في شهر ذي حجة الحرام سنة ١٢٦٧.

[ وقد كتب المصنف، عليه الرحمة، في الهامش: ](بسم الله الرحمن الرحيم) (قد قوبل بنسخة صححها بيده الجانية العبد الاحقر مرتضى الانصاري) [ وفي أدناه نقش خاتمة الشريف: ] (لا إله إلا الله الملك الحق المبين، عبده مرتضى الانصاري)

١٣٨

الصفحة ٥٤١

المقام الثاني في الاستصحاب وهو، لغة، أخذ الشئ مصاحبا.

ومنه: إستصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة.

وعند الاصوليين عرف بتعاريف، أسدها وأخضرها: (إبقاء ما كان).

والمراد بالابقاء الحكم بالبقاء.ودخل الوصف في الموضوع مشعر بعليته للحكم.

فعلة الابقاء هو أنه كان، فيخرج إبقاء الحكم لاجل وجود علته او دليله.

وإلى ما ذكرنا يرجع تعريفه في الزبدة ب‍ (أنه إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الاول)(١).

بل نسبه شارح الدروس إلى القوم، فقال: (إن القوم ذكروا أن الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه)(٢).

وأزيف التعاريف تعريفه ب‍ (أنه كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الان السابق مشكوك البقاء في الان اللاحق)(٣).

إذ لا يخفى أن كون حكم أو وصف كذلك هو محقق مورد الاستصحاب ومحله، لا نفسه.

ولذا صرح في المعالم كما عن غاية المأمول ب‍ (أن أستصحاب الحال، محله أن يثبت حكم في وقت ثم يجئ وقت آخر ولا يقوم دليل على إنتفاء ذلك الحكم، فهل يحكم ببقائه على ما كان، وهو الاستصحاب)(٤)، إنتهى.

ويمكن توجيه التعريف المذكور: بأن المحدود هو الاستصحاب المعدود من الادلة.

وليس الدليل إلا ما أفاد العلم أو الظن بالحكم، والمفيد للظن الحكم في الان اللاحق ليس إلا

____________________

(١) زبدة الاصول، ص ٧٢.

(٢) مشارق الشموس في شرح الدروس، ص ٧٦.

(٣) القوانين المحكمة، ص ٢٧٥.

(٤) معالم الدين، ص ٢٣١

١٣٩

الصفحة ٥٤٢

كونه يقيني الحصول في الان السابق مشكوك البقاء في الان ا للاحق، فلا مناص عن تعريف الاستصحاب المعدود من الامارات إلا بما ذكره، قدس سره.

لكن فيه: أن الاستصحاب كما صرح به هو، قدس سره، في أول كتابه -: (إن أخد من العقل كان داخلا في الدليل العقلي، وإن أخذ من الاخبار فيدخل في السنة)(١).

وعلى كل تقدير فلا يستقيم تعريفه بما ذكره، لان دليل العقل هو حكم عقلي يتوصل به إلى حكم شرعي.

وليس هنا إلا حكم العقل ببقاء ما كان على ما كان.

والمأخوذ من السنة ليس إلا وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان، فكون الشئ معلوما سابقا مشكوكا فيه لا ينطبق على الاستصحاب بأحد الوجهين.

نعم ذكر المختصر: (أن معنى إستصحاب الحال أن الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه، وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء)(٢).

فإن كان الحد هو خصوص الصغرى على التعريف المذكور، وإن جعل خصوص الكبرى إنطبق على تعاريف المشهور.

وكأن صاحب الوافية إستظهر منه كون التعريف مجموع المقدمتين، فوافقه في ذلك، فقال: (إن الاستصحاب هو التمسك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت أو في غير تلك الحال، فيقال: إن الامر الفلاني قد كان ولم يعلم عدمه، وكل ما كان كذلك فهو باق)(٣)، إنتهى.ولا ثمرة مهمة في ذلك.

____________________

(١) القوانين المحكمة، ج ٢ ص ١٣.

(٢) شرح مختصر الاصول، ج ٢، ص ٢٨٤.

(٣) الوافية، ص مخطوط

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وبين من يحتسب تطوّعاً ( أي يقوم بالقسم الفرديّ من تلك الوظيفة »(١) .

وقد أشار ابن الاخوة في مقدّمة كتابه إلى أنّ الحسبة منصب سياسيّ حكوميّ، فالمحتسب يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موقع الحكم فقال: « لقد رأيت أن أجمع ـ في هذا الكتاب ـ أقاويل العلماء مستنداً به إلى الأحاديث النبويّة ما ينتفع به من استند لمنصب الحسبة وقلّد النظر في مصالح الرّعية وكشف أحوال السوقة، واُمور المتعيّشين على الوجه المشروع ليكون ذلك عماداً لسياسته وقواماً لرئاسته »(٢) .

وممّا يدلّ على أنّ القسم الاجتماعيّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ المصطلح عليه في لسان الفقهاء بالحسبة لا يختصّ بمجرّد بيان المحرّمات والواجبات بل يقع على عاتق المحتسبين ما يتعدّى الوعظ والإرشاد إلى إستعمال القوّة والسلطة، ما ذكره الفقهاء للمحتسبين من وظائف كثيرة تشمل كافّة مناحي الحياة الاجتماعيّة وتقترن ـ في الأغلب ـ باستخدام الردع العمليّ والإشراف القاطع والمؤاخذة والعقاب. وإليك نماذج من وظائف المحتسب(٣) التي توزّعت اليوم في وزارات ومديريّات مختلفة :

١. الحسبة على الآلات المحرّمة والخمر، فإذا جاهر رجل بإظهار الخمر أراقه المحتسب، وأدّبه إن كان ذلك الرجل مسلماً، أو أدّبه على إظهاره إن كان ذميّاً وهكذا بالنسبة إلى الالات المحرّمة، فإنّ المحتسب يفصلها حتى تعود خشباً، ويؤدّب صاحبها.

ويمكن أن يدخل هذا في شؤون وزارة الداخليّة.

٢. الحسبة على أهل الذمة ومراقبة أحوالهم وتصرّفاتهم، ومدى التزامهم بعهودهم، ومراعاتهم لشروطها، ويدخل هذا في شؤون وصلاحيّات وزارة الداخليّة.

__________________

(١) معالم القربة في أحكام الحسبة: ١١.

(٢) معالم القربة: ٣.

(٣) لقد وردت كلمة الحسبة في مجمع البحرين هكذا: الحسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واختلف في وجوبها عيناً أو كفاية. راجع باب حسب ص ١٠٦.

٣٠١

٣. الحسبة على أهل الجنائز، ومراقبة شؤونها من جهة الاُمور الصحيّة والحقوقيّة ويدخل في شؤون وزارة الداخليّة، ووزارة الصحّة.

٤. الإشراف على المعاملات التجاريّة لمنع المعاملات الفاسدة كالبيوع الفاسدة وتعاطي الربا، والمسلم الفاسد، والإجارة الفاسدة وهي تدخل في شؤون وزارة العدل.

٥. الإشراف على العلاقات الاجتماعيّة والأخلاقيّة ومنع الناس من مواقف الريب ومظانّ التهم ممّا يدخل في شؤون وزارة الداخليّة.

٦. مراقبة شؤون النقد ومنع التعامل بالنقود الزائفة، بعد تحديدها وتعيينها وهو يدخل في شؤون وزارة المال والدوائر التابعة لها.

٧. الحسبة على منكرات الأسواق كمنع بعض السوقة من سدّ طرقات المارّة بمتاعهم وما شابه مما يدخل في صلاحيات الدوائر التابعة للاُمور البلديّة. وكمنع الحمّالين من أشياء بنحو يلحق الضرر بالمارّة، إمّا بتمزيق ثيابهم أو تلويثها.

٨. ضبط المكاييل والمقاييس والأوزان المستعملة في الأسواق، وتعيينها والمنع من التلاعب فيها ممّا يدخل في شؤون البلديّة.

٩. مراقبة تجّار الغلاّت للحيلولة دون احتكارها، أو التلاعب فيها وتعيين أسعارها عند الضرورة ممّا يدخل في صلاحيّات وزارة التجارة والاقتصاد.

١٠. مراقبة الخبّازين وأصحاب الأفران من الناحية الصحيّة منعاً من إصابة الناس بالأمراض والأوبئة، وهو يدخل في شؤون وزارة الصحة وكذا مراقبة كلّ باعة الأغذية، والحلويّات والشرابت لنفس الغرض وأيضاً من ناحية الأسعار.

١١. ملاحظة القصّابين واللحّامين لمنعهم من فعل ما يوجب التلوث كذبح الحيوانات في الأسواق أو بيع اللحوم الفاسدة، وتحديد أسعارها وإعطائهم التعليمات الصحيّة وهو يدخل في صلاحيّات وزارتي الصحة والتجارة. والدوائر التابعة لها.

١٢. مراقبة البزّازين وبيّاع الألبسة وما يتعلّق بهذه المهن من شؤون لمنع أي تلاعب

٣٠٢

في هذا المجال، أو تلاعب في الأسعار والقيم، وكذا مراقبة الخيّاطين وصنّاع الثياب.

١٣. مراقبة كلّ المشاغل والمهن وأصحاب الحرف كالصاغة والحدّادين، والنحاسين، والصبّاغين، والبياطرة، والحمّامات وأصحابها والفصّادين والحجّامين والأطبّاء والمجبّرين والجرّاحين مراقبة شاملة من ناحية الأسعار والمبالغ التي يتقاضونها، أو شروط العمل، أو مواصفاته الصحيّة ممّا يدخل بعضها في شؤون وزارة التجارة والاقتصاد، وبعضها الآخر في شؤون وزارتي الصحّة والداخليّة.

١٤. مراقبة المساجد والمؤذنيين والوعّاظ والقرّاء، وعدم السماح لتصدّي هذه المشاغل إلّا لمن اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة ويكون عالماً بالاُمور والعلوم الشرعيّة ممّا يدخل الآن في نطاق صلاحيّات وزارة الأوقاف.

١٥. الحسبة على مؤدّبي الصبيان ومعلّمي الأولاد، ومراقبة شروط الدراسة ومكانها وكيفيتها وما يرتبط بذلك ممّا يدخل في مسؤوليّات وزارة التربية والتعليم.

١٦. الحسبة على كتّاب الرسائل لمنع تصدّي من لا أهليّة له لذلك لما في هذا الأمر من خطر على أسرار الناس وأعراضهم.

١٧. القيام ببعض التعزيرات والتأديبات لمن يتخلّف عن القوانين الإسلاميّة المقرّرة.

١٨. الحسبة على أصحاب السفن والمراكب ومراقبة الطرق ووسائط النقل ممّا يكون من شؤون وزارة الطرق والمواصلات.

١٩. الحسبة على شؤون العمل والعمّال ومراقبة شؤونهم وحقوقهم وظروف عملهم ممّا يدخل في شؤون ومسؤوليّات وزارة العمل، والشؤون الاجتماعيّة و ( الضمان الاجتماعي ).

وغير ذلك(١) .

__________________

(١) راجع هذه التفاصيل في كتاب معالم القربة تصفّح كلّ الأبواب.

٣٠٣

وللوقوف على وظائف المحتسب باختصار ؛ نذكر لك ما كتبه ابن خلدون في مقدمته: « أمّا الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم باُمور المسلمين يعيّن لذلك من يراه أهلاً له فيتعيّن فرضه عليه ويتّخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزّر ويؤدّب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامّة في المدينة، مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمّالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقّع من ضررها على السابلة والضرب على أيدي المعلّمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلّمين، ولا يتوقّف حكمه على تنازع واستعداء بل له النظر فيما يصل إلى علمه من ذلك بل فيما يتعلّق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين، وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك »(١) .

إنّ من يلاحظ هذه المهام الموكلة إلى المحتسب والمحتسبين يرى أنّها نفس الصلاحيّات والمهام التي تقوم بها أجهزة السلطة التنفيذيّة المتمثّلة في الوزارات وما يتبعها من دوائر ومديريّات بتنظيم دقيق وعلى نطاق أوسع، غاية ما هنالك أنّ الحياة الإسلاميّة في العصور الغابرة والعهود الإسلاميّة الاُولى لم تستلزم التوسّع في الأجهزة والتشكيلات على غرار ما نلاحظ اليوم، بل اكتفي بالمحتسب أو المحتسبين ولكن التطوّر الحضاريّ، واتّساع البلاد، وتزايد الحاجات تطلّبت إحالة تلك المهام والمسؤوليّات والصلاحيّات إلى وزارات وأجهزة ومديريات هذا مضافاً إلى أنّ الإسلام اهتمّ ببيان الخطوط العريضة للحكم والولاية، واعتنى ببيان جوهر الوظائف، تاركاً اختيار الظواهر والشكليّات للزمن والحاجة، ما دامت تتّفق مع ما رسمه من خطوط ووظائف وغايات.

إنّ الإسلام وإن أوكل الكثير من القضايا الاجتماعيّة إلى الحاكم كما مرّ عليك باختصار ؛ ولكن هل يمكن للحاكم، وهو يواجه كلّ يوم آلاف المشاكل والقضايا أن

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون المتوفّي ( ٨٠٨ ه‍ ): ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٣٠٤

يقوم بكلّ أعباء الولاية والحكومة لوحده دون معاونين ووزراء، ودون أجهزة وتشكيلات ؟ الجواب لا قطعاً.

هذا ولقد ورد ذكر الوزير والوزراء في عهد الإمام عليّعليه‌السلام لمالك الأشتر النخعيّ لـمّا ولاّه على مصر حيث قال: « إنّ شرَّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شركهم في الآثام فلا يكونّن لك بطانة فإنّهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة »(١) .

وهذا يعني أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى للبلاد أن يتّخذ لنفسه ( وزراء ) يعينونه على إدارة البلاد، وتنفيذ القوانيين، وأنّ عليه ـ وراء ذلك ـ أن يختار بدقّة وعناية اُولئك الوزراء وأفراد السلطة التنفيذيّة ؛ لما لهم من أثر حسّاس في الأحوال الاجتماعيّة والسياسيّة.

وربمّا عبّر في الإسلام عن الوزير بالكاتب كما جاء في عهد الإمام عليّعليه‌السلام لمالك الأشتر، قال الاُستاذ توفيق الفكيكي في كتابه « الراعي والرعية »: « قال الإمام عليّ: « ثمَّ انظر في حال كتّابك »، ولم يقل ( كاتبك ) علمنا أنّ معنى الكاتب يراد به الوزير في عرف اليوم فقد جوّزعليه‌السلام تعدّد الوزراء على قدر الحاجة التي تدعو إليها المصلحة العامّة ويؤكّد هذا ما جاء في آخر كلامه المتقدّم: ( و اجعل لرأس كلّ أمر من أُمورك رأساً منهم لا يقهره كبيره ولا يتشتَّت عليه كثيرها ) »(٢) .

ثمّ إنّ السلطة التنفيذيّة اجتمعت في القرآن تحت كلمة ( اُولي الأمر ) وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في عدّة مواضع:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ( النساء: ٥٩ ).

( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) ( النساء: ٨٣ ).

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة ٥٣.

(٢) الراعي والرعيّة: ١٦٢ ـ ١٦٣ وهو شرح وتحليل سياسيّ لعهد الإمام عليّعليه‌السلام للأشتر النخعيّ.

٣٠٥

وغير خفيّ على المتتبّع في الآثار النبويّة أنّ المراد من اُولي الأمر حين نزول الآية هو الذي نصّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على أسمائهم من أوّلهم إلى آخرهم، بيد أنّهم كانوا مصاديق كاملة لهذا العنوان وكان الإشارة إليهم من باب أظهر المصاديق فعندما لا تتمكّن الاُمّة الإسلاميّة من هؤلاء المنصوص عليهم تتمثّل هذه القضية الكليّة في ( العدول ) من أئمّة المسلمين الذين يديرون دفّة البلاد.

ثمّ قد سبق القرآن الكريم إلى هذا بصورة ضمنيّة عند حكايته لقول موسىعليه‌السلام وطلبه من الله تعالى إذ قال:( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي *اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) ( طه: ٢٩ ـ ٣١ ).

وهو يكشف عن وجود الوزراء للحاكم الأعلى في النظام السياسيّ الإسلاميّ ليشدّوا أزره، ويعينوه على الإدارة والولاية.

ولقد أقرّ الإسلام وجود السلطة التنفيذيّة وأخذ بها عمليّاً حيث كان النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يقسّم المسؤوليّات الإداريّة والسياسيّة على الأفراد، وإن لم يكن هذا التقسيم تحت عنوان إلاستيزار، واتّخاذ الوزراء، كما ستعرف.

وخلاصة القول ؛ أنّ القارئ الكريم إذا لاحظ برامج الحكومة الإسلاميّة التي يجب أن يقوم بها النظام الإسلاميّ، يقف على أنّها لا يمكن تطبيقها بدون أجهزة كاملة، وسلطة تنفيذيّة في مجالات الاقتصاد والزراعة والماليّة والدفاع والمواصلات وغير ذلك من البرامج وستقف عليها بإذن الله سبحانه في فصلها الخاصّ، وكلّ من يقوم على هذه البرامج يعدّ جزء من السلطة التنفيذيّة.

السلطة التنفيذيّة على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

لا شكّ أنّ الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان إلى جانب مهامه الرساليّة، يتولّى القسم الأكبر من إدارة شؤون المسلمين السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ولا شكّ أنّ رقعة البلاد الإسلاميّة ـ آنذاك ـ لم تبلغ من السعة والانتشار بحيث تتطلّب إنشاء تشكيلات

٣٠٦

تنفيذيّة واسعة الأطراف والأبعاد، ولذلك لم يكن في ( العهد النبوي ) سلطة باسم السلطة التنفيذيّة، ولا وزارة ولا وزارات(١) ولا مديريّات مركزيّة ومحليّة على غرار ما يوجد الآن، بل كان هناك فيما وقفنا عليه من خلال مطالعة ذلك العهد ـ تقسيم بعض المسؤوليّات الإداريّة والمهامّ السياسيّة على الأفراد القادرين على تحمّلها، والصالحين للقيام بها، وهذا هو المهمّ معرفته في هذا المقام، فإنّ المهمّ هو معرفة كيفيّة إدارة المجتمع على عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والاطّلاع على ما إذا اتّخذ النبيّ الأكرم وهو أوّل حاكم إسلاميّ أعلى للاُمّة الإسلاميّة من وازروه وعاونوه في مسألة الإدارة، وتدبير شؤون الاُمّة في مجالات السياسة والعسكريّة والقضاء وما شابه أم لا، لنرى ما إذا كان يتعيّن على الدولة الإسلاميّة أن تتّخذ مثل هذه السلطة أم لا، وكيف ؟

إنّ المراجع لتاريخ الحكومة النبويّة يرى بوضوح ؛ أنّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يمارس حكومته على المسلمين من خلال توزيع بعض المسؤوليّات على أفراد صالحين، وكان ذلك يمثّل التشكيلات الإداريّة في ذلك العهد والتي تعادل الوزارات في هذا العصر ونحن لا ننكر أنّها كانت تشكيلات إداريّة بسيطة، ولكنّها توسّعت فيما بعد واتّخذت أشكالاً أكثر تنظيماً وسعة باتّساع رقعة البلاد الإسلاميّة، وتطوّر الحاجات الاجتماعيّة وتشعّبها، واتّساع نطاقها الذي اقتضى ـ بدوره ـ التوسّع في التشكيلات الإداريّة وإحداث الوزارات والدواوين والدوائر والأجهزة التنفيذيّة المتعدّدة.

إنّ من يراجع تاريخ الحكومة النبويّة يجد أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعيّن الاُمراء العامّين على النواحي ويقيم الولاة على البلاد ويعيّن رجالاً للقضاء، وآخرين لجباية الصدقات وجلب الزكوات، وآخرين للكتابة، وربّما أمّر الرجل على قومه لأنّه أيقظ عيناً وأدرى بفنون الحرب من غيره، أو خلّف أحداً مكانه عند غيابه، كما كان يخلّف ابن اُمّ مكتوم في بعض الأحيان عند غيابه عن المدينة(٢) . وكما خلف عليّاًعليه‌السلام عند خروجه لغزوة

__________________

(١) نعم اتّخذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاًعليه‌السلام وزيراً لنفسه كما يدلّ عليه حديث بدء الدعوة، لاحظ الصفحة ٨٣ من هذا الكتاب.

(٢) الكنى والألقاب ( للقمّي ) ١: ٢٠٨.

٣٠٧

تبوك(١) وأمّر عتّاب بن أسيد على مكّة وأوكل إليه إقامة المواسم والحجّ للمسلمين عام الفتح.

النبيّ يعيّن الولاة ويحدّد مسؤوليّاتهم

وكان يعيّن الولاة ( الذين هم الآن بمثابة المحافظين ) وكان يرسم لهم منهجهم في الحكم وسياستهم الداخليّة

فقد بعث معاذ بن جبل إلى اليمن ووصّاه بما يلي :

« يا معاذ علّمهم كتاب الله، وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة وأنزل النّاس منازلهم خيرهم وشرّهم وأنفذ فيهم أمر الله، ولا تحاش في أمره. ولا ماله أحداً، فإنّها ليست بولايتك ولا مالك وأدّ إليهم الأمانة في كلّ قليل وكثير، وعليك بالرفق والعفو في غير ترك للحقّ، يقول الجاهل قد تركت من حقّ الله، واعتذر إلى أهل عملك من كلّ أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتّى يعذروك، وأمت أمر الجاهلية إلّا ما سنّه الإسلام.

وأظهر أمر الإسلام صغيره وكبيره، وليكن أكثر همّك الصّلاة فإنّها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدّين وذكّر النّاس بالله واليوم الآخر، واتبع الموعظة فإنّه أقوى لهم على العمل بمّا يحبُّ الله، ثمّ بثّ فيهم المعلّمين وأعبد الله الذّي إليه ترجع ولا تخف في الله لومة لائم.

وأوصيك بتقوى الله وصدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الخيانة ولين الكلام وبذل السلام وحفظ الجار ورحمة اليتيم وحسن العمل وقصر الأمل وحبّ الآخرة والجزع من الحساب ولزوم الإيمان والفقه في القرآن، وكظم الغيظ، وخفض الجناح.

وإيّاك أن تشتم مسلماً، أو تطيع آثماً، أو تعصي إماماً عادلاً أو تكذّب صادقاً، أو

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٥٢٠ وبحار الأنوار ٢١: ٢٠٧.

٣٠٨

تصدّق كاذباً واذكر ربّك عند كُلّ شجر وحجر واحدث لكلّ ذنب توبةً، السرّ بالسرّ والعلانيّة بالعلانيّة.

يا معاذ لولا أنّني أرى إلّا نلتقي إلى يوم القيامة لقصّرتُ في الوصيّة ولكنّني أرى أنّنا لا نلتقي أبداً

ثمّ أعلم يا معاذ إنّ أحبّكُم إليّ من يلقاني على مثل الحال التّي فارقني عليها »(١) .

وبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عمرو بن حزم إلى بني الحارث وجعله والياً عليهم ليفقّههم في الدين، ويعلّمهم السنُّة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم الصدقات وكتب له كتاباً عهد إليه فيه عهده وأمره فيه بأمره: « بسم الله الرّحمن الرّحيم، هذا بيان من الله ورسوله، يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقُود، عهد من محمّد النّبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثهُ إلى اليمن أمرهُ بتقوى الله في أمره كُلّه، فإنّ الله مع الّذين اتّقوا، والّذين هم محسنون.

وأمره أن يأخذ بالحقّ كما أمره الله وأن يبشّر النّاس بالخير، ويأمرهم به، ويعلّم النّاس القرآن ويفقّههم فيه، وينهى النّاس فلا يمس القران إنسان إلّا وهو طاهر ويخبر النّاس بالذي لهم والذي عليهم ويلين للنّاس في الحقّ ويشتدّ عليهم في الظّلم فإنّ الله كره الظّلم ونهى عنه، فقال:( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ( هود: ١٨ ) ويبشر النّاس بالجنّة وبعملها وينذر النّاس النّار وعملها ويستألف النّاس حتّى يفقهوا في الدّين ويعلّم النّاس معالم الحجّ وسنّته وفريضته، وما أمر الله به، والحجّ الأكبر: الحجّ الأكبر والحجّ الأصغر هُو العُمرة إلى آخر العهد »(٢) .

ومن هذين العهدين، ونظائرهما، يتبيّن لنا أنّ النبيّ كان يعهد بعض السلطات والمسؤوليّات إلى من يراه صالحاً من المسلمين ليقوموا بإدارة بعض أنحاء البلاد، ويزوّدهم ببرامج وأنظمة للحكم والعمل السياسيّ والإداريّ، ممّا يكشف عن وجود صورة مصغّرة عن السلطة التنفيذيّة إلى جانب الحاكم الأعلى للبلاد.

وقد كان لهصلى‌الله‌عليه‌وآله عمّال للبريد، وله تعليمات خاصّة لهم في هذا الشأن ومن ذلك

__________________

(١) تحف العقول: ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) سيرة ابن هشام ٤: ٥٩٥.

٣٠٩

قوله: « إذا أبردتم إليّ بريداً فأبردوه حسن الوجه حسن الاسم »(١) .

وقوله لأحد عمّال البريد: « إذا جئت أرضهم فلا تدخل ليلاً حتّى تصبح وتطهّر فأحسن طهورك وصلّ ركعتين وسل الله النّجاح والقبول وأستعد لذلك وخذ كتابي بيمينك وادفعه بيمينك في أيمانهم »(٢) .

وربّما اتّخذ بعض الحراس الليليين ليتتبّعوا أهل الريب، وقد عدّ من ذلك سعد ابن أبي وقّاص(٣) ، وربّما اتّخذ حرساً خاصّاً في بعض الأحيان غير العادية ويذكر أنّ سعد بن معاذ كان حرسه يوم بدر(٤) .

وقد روي أنّ بعض المسلمين كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتّى ينقلوه حيث يباع الطعام، قال ابن عبد البرّ: استعمل النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله سعيد بن سعيد العاص على سوق مكّة(٥) .

كما كان له كتاب الرسائل الذين كانوا يكتبون للملوك والاُمراء والبوادي وغيرهم وكان له من يقوم بمهمّة الحسبة التي مرّ ذكرها مفصّلاً(٦) .

وهكذا كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يتّخذ المعاونين والمساعدين لإدارة ما يمكن لهم إدارته من الأعمال والمهامّ ويوكل إليهم من الصلاحيّات والمسؤوليّات ما تعارف إيكاله الآن إلى الوزارات والمديريّات والإدارات التي تشكّل حقيقة السلطة التنفيذيّة، وقد كان إيكاله المهامّ للأشخاص مشفوعاً بإعطاء البرامج والتوجيهات الإداريّة المفصّلة التي مرّ عليك ذكر بعضها، وتجد المزيد منها في كتب السير والتاريخ.

* * *

كيفيّة السلطة التنفيذيّة الآن

بعد أن عرفت أيّها القارئ الكريم من البحثين السابقين ؛ أنّ جانباً كثيراً من

__________________

(١) التراتيب الإداريّة ١: ٢٤٧.

(٢ ـ ٥) راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة ٢٩٤ إلى ٤٢٨.

(٦) التراتيب الإداريّة ٢: ٢٨٥.

٣١٠

النظم الإداريّة والتوجيهات الضروريّة لتنظيم الحياة الاجتماعيّة في مجالات العلاقات والحقوق والتعامل ( كالتبادل التجاريّ مثلما جاء في الكتاب العزيز ضمن آيات أطولها آية الدين التي حثّت على كتابة الدين وتسجيله ) يتطلّب وجود جهاز تنفيذيّ وقد كان هذا الأمر يتم في العهد النبويّ ببساطة ؛ وان استوجب تزايد حجم الاُمور واتسّاع رقعة البلاد، تطوير الترتيبات اللازمة لذلك، وتوسيع التشكيلات، يصبح الجواب على السؤال المطروح وهو ؛ كيف يجب أن تكون السلطة التنفيذيّة في العصور الحاضرة ؟ واضحاً من وجهة نظر الإسلام.

فإنّ ذكر الترتيبات والتشكيلات ليس من مهمّة الدين الإسلاميّ فذلك متروك للزمن المتحوّل، والحاجات المتطوّرة، لأنّ تحديدها وتعيينها بصورة لا يجوز تخطّيها لا ينسجم مع خاتميّة الرسالة الإسلاميّة التي نزلت لتكون دين الأبديّة، ومنهج البشريّة إلى يوم القيامة، فإنّ مثل هذه الخاصّية في الدين الإسلاميّ تقتضي أن يبيّن الإسلام الجوهر ويترك اختيار الشكل واللباس إلى الزمن والحاجة حتّى يستطيع مسايرة الزمن ويتمشّى مع تقدم الحياة البشريّة وتطوّرها، إذ ذكر الخصوصيّات والأشكال يفرض على الدين الإسلاميّ جموداً هو منه براء، ويحصره في زمن خاصّ دون زمن آخر ؛ لأنّ الحاجات البشريّة متجدّدة ومتحوّلة ومتزايدة ولا يمكن الجمود ـ في رفعها ـ على نمط خاصّ من التشكيلات والأشكال، ولهذا نجده يذكر ـ مثلاً ـ موضوع تسجيل المعاملات الماليّة التي فيها أجل دون أن يحدّد نوع تنفيذ هذا الأمر وما يلزم من أجهزة ودوائر فيقول في أطول آية قرآنية :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَىٰ وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ

٣١١

ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ إلّا تَرْتَابُوا إلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ إلّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( البقرة: ٢٨٢ ).

إنّ هذه الآية ترسم أهمّ الاُسس التي يجب أن يبنى عليها التعامل التجاريّ، ويكتفي فيها الإسلام بذكر الجوهر تاركاً اختيار الترتيبات الفنيّة، والتشكيلات الإداريّة التي تقوم بهذه الاُمور إلى الأوضاع البشريّة المتجدّدة.

وعلى ذلك فإنّ ما نجده في الكتب التي أُلّفت حول النظم السياسيّة مثل ما كتبه الباحث العلاّمة الشيخ عبد الحيّ الكتاني في تأليفه القيّم « التراتيب الإداريّة » والدكتور صبحي الصالح في « النظم الإسلاميّة » لا يمثّل إلّا تصوير ما توصّلت إليه الحكومات السابقة من تشكيلات وأساليب للعمل الإداريّ والحكوميّ ولا تمثّل بعينها وشكلها أمراً إسلاميّاً يجب الأخذ به حتماً دون زيادة أو نقصان ودون تغيير أو تحوير، تستدعيه الحاجة ويستلزمه الظرف.

ويدلّ على ذلك ؛ أنّ هذه الاُمور في العهد النبويّ كانت تمارس بأساليب بسيطة وبدائيّة ومختصرة كما عرفت، وتطوّرت فيما بعد في العهود اللاحقة، ولكنّها كانت على كلّ حال تدلّ على وجود السلطة التنفيذيّة حتّى في العهد النبويّ وإن لم تكن بالتفاصيل والخصوصيّات المتعارفة الآن.

* * *

مواصفات أعضاء السلطة التنفيذيّة

يعتبر دور السلطة التنفيذيّة في الدولة دوراً بالغ الخطورة والأهميّة، لأنّه على عاتقها تقع مهمّة القيام بشؤون الناس، وإدارة اُمورهم وسدّ حاجاتهم، وحلّ مشكلاتهم، فإذا قامت هذه السلطة بواجباتها أفضل قيام استطاعت أن تكتسب رضا الاُمّة، وتجلب مودّتهم التي يقوم عليها بقاء الدولة، واستقرار الأمن.

٣١٢

إنّ ضمان استقامة السلطة التنفيذيّة وسلامة سلوكها يتوقّف ـ بالدرجة الاُولى ـ على نوع الشروط والمواصفات المعتبرة في أعضاء تلك السلطة فإنّ أكثر المشاكل التي تعانيها أنظمة الحكم في العالم ترجع إلى سوء اختيار أعضاء هذه السلطة ويعود ذلك إلى الخطأ الحاصل في المواصفات والشروط التي تقيم الأنظمة البشريّة اختيار الوزراء والمدراء والمسؤولين، على أساسها.

ولقد أدرك الإسلام كلّ هذا من قبل فاعتبر لأعضاء السلطة التنفيذيّة شروطاً ومواصفات يضمن توفّرها فيهم، سلامة هذه السلطة، واستقامة تصرّفاتها وأبرز هذه المواصفات هي :

١. التخصّص

لقد كان الإسلام أوّل من اشترط وجود هذا الشرط في أفراد السلطة التنفيذيّة وهو أمر اشترطه في جميع المناصب الدينيّة والزمنيّة حيث يقول:( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ( النحل: ٤٣ )، وهو حثّ على إرجاع كل أمر إلى أهله والعارفين به.

ولذلك قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الرّئاسة لا تصلحُ إلّا لأهلها »(١) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من عمل على غير علم كان ما يُفسدُ أكثر ممّا يُصلحُ »(٢) .

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام : « العاملُ على غير بصيرة كالسّائر على غير الطّريق لا يُزيدُهُ سُرعة السّير إلّا بُعداً »(٣) .

إنّ إيكال الأمر إلى من لا يعرفه ولا يعرف مدخله ومخرجه إضاعة لذلك الأمر وإيذان بسوء العواقب فالعقل لا يسمح بإيكال أمر إلى من لا يعرف القيام به فكيف بالمسؤوليّة الاجتماعيّة وإدارة البلاد ولذلك قالوا: الحكمة هي وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ومن الحمق وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب.

__________________

(١ ـ ٣) الكافي ١: ٤٧ و ٤٥ و ٤٤.

٣١٣

على أنّ من التخصّص أيضاً معرفة الزمان وأهله وما يقتضيانه من التدبير والحيلة. ولذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام : « العالمُ بزمانه لا تهجُمُ عليه اللّوابسُ »(١) .

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام وهو يصف المسؤول الصالح، والراعي الناجح: « يعملُ ويخشى رجلاً، داعياً، مشفقاً مُقبلاً على شأنه، عارفاً بأهل زمانه مُستوحشاً من أوثق إخوانه، فشدّ الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه »(٢) .

إن قوله « مُقبلاً على شأنه، عارفاً بأهل زمانه » إشارة إلى شرط التخصّص بجانبيه: معرفة الأمر، ومعرفة الزمان وأهله.

٢. الوثاقة

إنّ أهمّ شرط بعد شرط التخصّص هو: الوثاقة وكون المسؤول الحكوميّ أميناً ومأموناً على إدارته ومسؤوليّته فإنّ أكثر المآسي الاجتماعيّة الناشئة من رجال الحكومات في الأنظمة البشريّة ترجع ـ في الحقيقة ـ إلى خيانة هؤلاء الرجال لما أوكل إليهم من مسؤوليّات ومهامّ، فقاموا بها دون ورع، وتصرّفوا فيما فوّض إليهم دون تقوى ولأجل ذلك يؤكد القرآن الكريم على تفويض الاُمور إلى الأمناء من الرجال، المأمونين على أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم إذ يقول عن لسان ابنة شعيب:( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) ( القصص: ٢٦ ).

فإنّ كانت القوّة والأمانة شرطان ضروريّان في راعي شويهات وأغنام، كان اشتراطهما في من يراد تسليطه على أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم ضروريّاً بطريق أولى.

٣. الزهد والتعفّف

والمراد من الزهد هو أن لا يكون المرء متعلّقاً بالدنيا وحطامها، وآخذاً بها على وجه

__________________

(١ و ٢) اُصول الكافي ١: ٢٧ و ٣٩.

٣١٤

الغاية والهدف فإنّ من جعل الدنيا وزبارجها غايته وهدفه، جعلها همّته، ومن جعلها همّته تجاوز الحدود وضيّع الحقوق، ونسي رعيّته وضيّع من ولي أمرهم فخسرهم، وضيّع مودّتهم.

إنّ على المسؤول الحكوميّ أن يجعل الزهد نصب عينيه فيأخذ من الدنيا ما يكفيه. ومن كان كذلك لم يمدّ عينيه إلى أموال الناس حبّاً في العاجلة، وغفلة عن الآجلة وكان جديراً بأن يراعي أضعف الناس. فلا يضيع منهم حقّاً ولا يغفل فاقة وفقراً ولذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام في كلام له: « إنّ الله فرض على أئمّة العدل أن يقدروا معيشتهم على قدر ضعفة الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقرهُ »(١) .

ونجده يوبّخ أحد ولاته ـ وهو عثمان بن حنيف ـ لأنّه دعي إلى وليمة فأجاب لأنّ ذلك ـ في نظر الإمام عليّ يعرّض الوالي والمسؤول الحكوميّ لخطر الإنبهار بحطام الدنيا وبريقها وهو أمر فيه ما فيه من العواقب مضافاً إلى تضييع محتمل لحقّ الحاضر: « أمّا بعدُ يا بن حنيف فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ، وغنيُّهم مدعوّ فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنورعلمه ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك فأعينوني بورع، واجتهاد وعفّة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طِمراً ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلّا كقوتِ أتانٍ دَبِرة ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصة مقرة »(٢) .

إنّ الزهد الذي يتحلّى به الحاكم والمسؤول الإداريّ هو الذي يمنعه من أن يمدّ عينيه إلى أموال الناس وأشيائهم وهو الذي يجعله يحس بآلام الرعيّة وحاجاتها ،

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٢٠٧).

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٤٥).

٣١٥

ونواقصها وإنّ أسوأ ما يعاني منه عالمنا اليوم هو جشع الحكّام وحرصهم على الدنيا، وتعلّقهم الشديد بحطامها، الذي يسوّغون في سبيله كلّ حرام ويرتكبون كلّ معصية، ويقترفون كلّ جريمة.

إنّ الزهد هو العامل الفعال الذي يردع عن اقتحام الشبهات فضلاً عن نيل الحرام.

هذه هي أهمّ الشروط والمواصفات المعتبرة في أعضاء السلطة التنفيذيّة، وهي مواصفات إن توفّرت فيهم سلمت هذه السلطة من الآفات الجسيمة التي تعاني منها أنظمة الحكم، والحكومات الراهنة. وتتخلّص الشعوب من العناء والعذاب الذي تلقاه على أيدي الحكام والمسؤولين، بدل أن تنال على أيديهم السعادة والخير والرفاه.

ولا شكّ أنّ هذه المواصفات تتوفّر ـ في الأغلب ـ في المسلم المؤمن العارف بدينه، ولذلك يتعيّن تقديمه على غيره في تفويض المسؤوليّات الحكوميّة إليه.

غير أنّه لا بدّ من التنبيه ـ بعد ذكر هذه المواصفات ـ إلى نقطة هامة وهي: أنّ صلاحيّة المسؤول الحكوميّ وحدها لاتكفي في استقامة الاُمور وصلاح الرعيّة وعمارة البلاد وتقدمها، بل لا بدّ إلى جانب ذلك من أن يتحلى المسؤول بالصفات الأخلاقيّة العليا كالحلم والصبر والأناة، والعطف والشفقة وغير ذلك من نبيل الأخلاق.

بيد أنّ الأهمّ من ذلك كلّه هو ( طاعة الرعيّة للحاكم الصالح ) والانقياد لأوامره، لأنّ الحاكم غير المطاع لا يمكن أن يقيم أمناً، أو ينشر عدلاً، فلا رأي لمن لا يطاع كما قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وإليك مفصّل الكلام في هذا الأمر :

إطاعة الحاكم الصالح

إنّ نفوذ السلطة التنفيذيّة، يتقوّم بطاعة الناس لها وإلاّ صار وجود السلطة هذه لغواً، لا فائدة فيه ولا أثر له ولذلك وردت عن النبيّ العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الطاهرين أحاديث كثيرة تحثّ على طاعة الحاكم الصالح، وصاحب السلطة العادل :

٣١٦

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « طاعة السُّلطان [ أي صاحب السلطة العادل ] واجبة، ومن ترك طاعة السُّلطان فقد ترك طاعة الله عزّ وجلّ »(١) .

وقد خطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم في مسجد الخيف وقال: « نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها فربّ حامل فقه غير فقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

ثلاثة لا يغلُّ عليهنّ قلب امرئ مسلم :

إخلاص العمل لله

والنّصيحة لأئمّة المسلمين.

واللّزوم لجماعتهم فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم: المسلمون اخوة تتكاتفأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم »(٢) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « لا تختانوا ولاتكم، ولا تغشّوا هداتكم ولا تجهلوا أئمّتكم، ولا تصدّعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم وعلى هذا فليكن تأسيس اُموركم والزموا هذه الطريقة »(٣) .

وقال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام في رسالة الحقوق: « فأمّا حقٌّ سائسك بالسلطان فأن تعلم أنّك جعلت له فتنةً وأنّه مبتلى بك بما جعله الله له عليك من السُّلطان، وأن تخلص له في النّصيحة وأن لا تماحكه وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه »(٤) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « أيّها النّاس إنّ لي عليكم حقّاً ولكم عليّ حقٌّ :

فأمّا حقّكم عليّ فالنّصيحة لكم وتوفير فيئكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٤٧٢.

(٢ و ٣) الكافي ١: ٢٣٢ ـ ٢٣٣، ٢٣٥.

(٤) مكارم الأخلاق للطبرسيّ: ١٨٧.

٣١٧

وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة والنّصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم »(١) .

ولمّا سئل الإمام الباقر محمّد بن عليّعليه‌السلام : ما حقّ الإمام على الناس ؟ قال: « حقُّه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ».

فقيل: فما حقُّهم عليه ؟ قال: « يقسّم بينهم بالسّويّة ويعدل في الرّعيّة »(٢) .

وقال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : « إنّ السُّلطان العادل بمنزلة الوالد الرّحيم فأحبُّوا له ما تحبُّون لأنفسكم واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم »(٣) .

وعن أبي سعيد الخدري، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سُلطان جائر »(٤) .

إنّ طاعة الشعب للحكّام الصالحين والإخلاص لهم وإنفاذ أوامرهم يشكّل عاملاً أساسيّاً في نجاح الحكومة الإسلاميّة وموفقيّتها في إدارة البلاد على أحسن وجه.

إنّ السلطة التنفيذيّة في الحكومة الإسلاميّة ليست جهازاً غريباً عن الشعب فليس أعضاؤها جماعة تسلّطت على الناس بالقهر والغلبة بل هم خزّان الرعيّة وخدّامها واُمناء الشعب على الحكم والسلطة وهذا يجعل طاعة الولاة واجباً مقدّساً مفروضاً على الناس يسألون عنه ويعاقبون على تركه وهذا هو سبب نجاح الحكومة الإسلاميّة وعلّة بقائها، واستمرارها.

هذا وإنّ الأحاديث التي ذكرناها في باب طاعة الرعيّة للولاة، تدلّ بصورة ضمنيّة على ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الإسلاميّة ولزوم إيجادها أيضاً.

إنّ ما ذكرناه لك من الأحاديث في باب طاعة الحاكم العادل والراعي الصالح

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٣٣).

(٢) الكافي ١: ٣٣٤.

(٣) وسائل الشيعة ١١: ٤٧٢.

(٤) رواه الترمذيّ ١: ٢٣٥ كما في جامع الاُصول ( الطبعة الاُولى ).

٣١٨

والسلطة التنفيذيّة الصالحة ؛ ما هو إلّا قليل من كثير تجده في المجاميع الحديثيّة كما في أبواب الحجّة من اُصول الكافي، وأبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وسائل الشيعة ورسائل الإمام عليّ وعهوده في نهج البلاغة.

لا طاعة للحاكم الجائر

ثمّ إنّ ها هنا أمراً لابدّ من التنبيه عليه وهو أنّه قد تُنقل أحاديث وروايات تدلّ على وجوب إطاعة مطلق الحاكم والخضوع لمطلق السلطات عادلة كانت أو ظالمة، صالحة كانت أو جائرة وإليك فيما يأتي بعض هذه الروايات :

١. ما رووه عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « لا تسبُّوا الولاة فإنّهُم إن أحسنُوا كان لهُم الأجر وعليكُمُ الشُّكر وإن أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، وإنّما هم نقمة ينتقم الله بهم ممّن يشاء فلا تستقبلوا نقمة الله بالحميّة واستقبلوها بالاستكانة والتضرُّع »(١) .

٢. ما رووه عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال: « سيأتيكم ركب مبغوضون يطلبون منكم ما لا يجب عليكم فإذا سألوا ذلك فاعطوهم ولا تسبُّوهم وليدعوا لكم »(٢) .

٣. ما رواه سلمة عن النبيّ لـمّا سأل النبيّ قائلاً: يا نبيّ الله أرأيت إن قامت علينا اُمراء يسألونا حقّهم ويمنعونا حقّنا فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه، ثمّ سأله فأعرض عنه، ثمّ سأله في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اسمعوا وأطيعوا فإنّما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم »(٣) .

٤. ما رواه ابن مسعود عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « إنّها ستكون بعدي إثرة واُمور تنكرونها »، قالوا يا رسول الله: كيف تأمر من أدرك ذلك منّا ؟

__________________

(١) النظام السياسيّ في الإسلام: ١١٤، نقلاً عن الخراج لأبي يوسف.

(٢) النظام السياسيّ في الإسلام: ١١٤، نقلاً عن سنن أبي داود.

(٣) رواه مسلم ونقله جامع الاُصول ٤: ٦٤.

٣١٩

قال: « تؤدوُّن الحقّ الذّي عليكم، وتسألون الله الذّي لكم »(١) .

إنّها إذن دعوة إلى السكوت على الظالم والرضا بما يفعل ؟!!

٥. وما رواه عوف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ قال: « شرار اُمّتكم الذّين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم »، قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم [ عند ذلك ؟ ].

قال: « لا ما أقاموا فيكم الصّلاة، لا ما أقاموا فيكم الصّلاة، ألا من ولّي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنّ يداً من طاعة »(٢) .

٦. ما روته اُمّ سلمة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « إنّه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون ما تنكرون فمن كره فقد بريء ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضى وتابع ».

قالوا: أفلا نقاتلهم ؟

قال: « لا ما صلُّوا »(٣) .

وهكذا تبدو من هذه الروايات الدعوة إلى السكوت على فعل الظالم والحاكم الجائر والرضا بأفعاله المخالفة للدين والعدل، والاكتفاء بالصلاة فهو ما دام يصلّي جاز له أن يفعل ما يفعل، وأن يخالف كتاب الله وسنّة نبيّه !!!

٧. ما رواه ابن عباس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنّه من خرج من طاعة السلطان شبراً مات ميتةً جاهليّةً »(٤) .

ولكن هذه الروايات وهذه الدعوة مردودة ومدفوعة بما ورد في الكتاب الكريم من النهي عن المنكر، والردّ على الظالم، والضرب على يده وعدم الركون إليه كقوله تعالى:( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ( هود: ١١٣ ).

__________________

(١) جامع الاُصول ٤: ٦٤، نقلاً عن مسلم والترمذيّ.

(٢) جامع الاُصول ٤: ٦٧، نقلاً عن مسلم.

(٣) جامع الاُصول ٤: ٦٨، نقلاً عن مسلم وأبي داود والترمذيّ.

(٤) جامع الاُصول ٤: ٦٩، نقلاً عن البخاريّ ومسلم.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627