مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228283 / تحميل: 6446
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وفي هذا الصدد يكتب العلامة الطباطبائيّ في تفسيره قائلاً :

( انّ عامّة الآيات المتضمنّة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجّه خطاباتها إلى عامّة المؤمنين دون النبيّ خاصّةً كقوله تعالى:( وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) ( البقرة: ١٩٥ )

وقوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) ( آل عمران: ١٠٤ )

وقوله:( وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ) ( المائدة: ٣٥ )

وقوله:( وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) ( الحج: ٧٨ )

وقوله:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) ( البقرة: ١٧٩ )

وقوله:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) ( الطلاق: ٢ )

وقوله:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ) ( آل عمران: ١٠٣ )

وقوله:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى: ١٣ ).

إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها أنّ الدين ذو صبغة اجتماعية الشكل وقد حملها الله تعالى على الناس بصفتهم الاجتماعيّة ( كما حمل بعض الاُمور على الافراد بوصفهم الفرديّة ) ولم يرد إقامة الدين إلّا منهم أجمعهم، فالمجتمع المتكون منهم هو الذي أمره الله وندبه إلى ذلك من غير مزيّة في ذلك لبعضهم )(١) .

إنّ توجيه الخطاب بهذه التكاليف إلى المجتمع، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المجتمع بما هو مجتمع عليه أن يقوم بها كما يقوم الفرد بواجبه الدينيّ، وهي على نحو الواجب الكفائّي الذي يجب على الجميع القيام بها أوّلاً وبالذات، فإن قام بها أحد سقطت عن الآخرين، وأمّا إذا لم يقم بها أحد كان الجميع عصاةً مسؤولين.

وحيث أنّ هذه التكاليف والواجبات المتوجّهة شرعاً إلى المجتمع ممّا لا يمكن

__________________

(١) الميزان ٤: ١٢٢ ـ ١٢٣.

٢٠١

القيام بها وأدائها دون جماعة متفرّغة لذلك، ودون جهاز حكم يتولّى تنفيذها، توجّب على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بتشكيل دولة يعهد إليها مسؤولية القيام بهذه التكاليف، وتطبيق النظم الاجتماعيّة الإسلاميّة، والوظائف المتوجهة إلى المجتمع أساساً، وذلك صيانةً للمجتمع من الإنهيار، وحفظاً لمصالحه وشؤونه، إذ بغير هذه الصورة لن يكون هناك إلّا الهرج والمرج والفوضى والفساد الذي يأباه الإسلام بشدّة، وترفضه تعاليم السماء أشدّ الرفض.

من هذا البيان المقتضب، يمكن لنا أن نستنبط كون الاُمّة والمجتمع هو مصدر السلطات الحكوميّة، ولكن ليس مصدراً مطلقاً بل مصدراً في إطار الحاكميّة الإلهيّة والقوانين الإسلاميّة، فالناس في الدين الإسلاميّ هم المكلفون بتشكيل الحكومة والدولة وتعيين الحاكم وانتخابه ـ إن لم يكن هناك حاكم منصوص عليه من جانب الله ـ لقيادة الاُمّة، وإدارة شؤونها، وتطبيق الشريعة الإلهيّة في المجالات الاجتماعيّة، لأنّهم هم المخاطبون بالخطابات المذكورة ولـمّا لم يكن في مقدورهم جميعاً القيام بذلك بأشخاصهم، لزم أن يبادروا إلى استنابة من يقوم بها.

أليس المجتمع ـ حسب منطق القرآن ـ هو الذي توجه إليه الأمر بقطع السارق وحدّ الزاني وردّ المعتدي وحفظ الثغور، وإقامة النظام الدينيّ ؟؟.

أفلا يدلّ ذلك ضمناً على أن الإسلام سمح للمجتمع الإسلاميّ بأن يشكّل الدولة التي تتولّى القيام بهذه الواجبات الاجتماعيّة، لأنّ الإسلام جعل هذه التكاليف في عهدة المجتمع، وطلب منه أداءها ؟ وهل يمكن للمجتمع الذي يقوم كلّ صنف من أصنافه بتكفُّل جانب ضروريّ من الجوانب المعيشيّة، بكلّ تلك الواجبات الاجتماعيّة والإداريّة والسياسيّة، دون جهاز حكوميّ متفرّغ ينّفذ ويراقب ويضمن إجراء القوانين الإلهيّة في المجالات المذكورة ؟

وهل يمكن أن يريد الإسلام إقامة الاُمور الاجتماعيّة والنظم الاجتماعيّ ولا يريد مقدّمة ذلك وهي تشكيل دولة تقوم وتتعهّد بتوزيع المسؤوليات وحفظ الحقوق.

٢٠٢

وحراسة العلاقات ؟

وهكذا تكون الاُمّة ـ في نظر الإسلام ـ مصدر السلطة الذي له أن يختار وينتخب حكّامه، وتكون الحكومة نابعةً من إرادته.

* * *

٥. العقلُ وتشكيل الدولة

يعتبر ( العقل ) أحد الأدلّة الشرعيّة التي يستند إليها الفقهاء في استنباط الأحكام جنباً إلى جنب مع القرآن والسّنة والاجماع.

وقد أشبع العلماء البحث في حجّية العقل في الموارد التي له الحكم فيها.

لقد دلّ العقل هذا على وجوب تشكيل الدولة من جانب الاُمّة، وذلك لما في إقامة الدولة من حفظ النظام الإنسانيّ ومن المعلوم أنّ حفظ النظام الإنسانيّ من الواجبات العقليّة التي يحتِّمها العقل على البشر.

فإنّه يتوجب على البشر ـ بحكم العقل ـ أن يبذل غاية جهده في إقرار النظام وحفظه والدفاع عنه وصيانته، إذ في ظلّ النظام يمكن أن يحصل الإنسان على سعادته وسلامته ويضمن مصالحه ومستقبله.

ولأجل هذا، نجد الشعوب تقرّر أنظمةً وقوانين لحفظ هذا النظام رغم أنّ بعضها لا يتديّن بدين ولا يتمسّك بشريعة إلهيّة.

وهذا إنّما يدلّ على أنّ موضوع إقامة النظام الاجتماعيّ، ممّا يقرُّ به الناس ويذعنون له عقلاً وبديهةً، قبل أن يأتي لهم في ذلك شرع ودين.

فهذه إذن حقيقة لا نقاش فيها.

ولكن ترى، هل يمكن للمجتمع أن يقوم بنفسه ـ ورغم عدم تخصُّصه في شؤون الإدارة، وعدم تفرغه لها ـ بحفظ النظام وإقراره ؟ أو هل يمكن التوصل إلى ذلك بمجرد أن يؤمن الناس بهذه الحقيقة إيماناً مجرّداً من أي رادع، ومن دون أنّ يكون ثمة جهاز يتولّى

٢٠٣

مسؤولية الحفاط على النظام الاجتماعيّ الذي يدعو إليه العقل ويطلبه العقلاء، وينادون به.

والحقّ أنّ مجرّد الاعتقاد بضرورة حفظ النظام الاجتماعيّ وبحجّة أنّه يكفل سعادة الفرد والمجتمع، من دون إقامة ( دولة )، لا يمنع من وقوع الاختلال في هذا النظام، ولذلك فإنّ العقل نفسه يحتِّم على البشر أن يقيم جهازاً يعهد إليه حفظ النظام، ولأجل ذلك لم يخل ـ كما قلنا ـ أي مجتمع بشريّ من دولة أو دويلة وزعيم كبير أو صغير يتكفّل إقرار النظام الاجتماعيّ المطلوب.

وهذا خير دليل على، أنّ للشعوب بل عليها أن تقوم بتشكيل السلطات فهي إذن مصدرها، وهذا هو بالضبط ما يؤكّده الإسلام ويؤيّده، إذ الشرع كما يقولون يعضد العقل ويؤيّده فيما تكون فيه مصلحة الناس ومنفعتهم وخيرهم.

* * *

٦. سيرة المسلمين بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ الصحابة ـ بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أحسّوا بضرورة إقامة دولة وتشكيل جهاز حكوميّ يخلف القيادة النبويّة، يلمّون به شعثهم ويحفظون به اجتماعهم، فأقدموا على انتخاب رئيس من بينهم لزعامة الاُمّة وقيادة البلاد، وإن كان ذلك لا يخلو من علّة وعلاّت، كما أوضحناه.

إنّ الصحابة ـ وإن تناسوا وجود إمام منصوص عليه من جانب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عيّن عليّاًعليه‌السلام إماماً للمسلمين من بعده، كما تدلّ الأخبار القطعيّة والأحاديث المتواترة(١) على ذلك ـ إلّا أنّ فعلهم كان يدلّ في حدّ نفسه على أنّ الطريق الطبيعيّ لتأسيس الحكومة وإقامتها، هو انتخاب الاُمّة للحاكم والقائد، لولا النصّ.

* * *

__________________

(١) لقد أشرنا إلى بعض مصادر هذه النصوص في الصفحة ١٠٤ ـ ١٨١ من هذا الكتاب وتركنا الكثير.

٢٠٤

٧. سلطةُ الناس على أموالهم وأنفسهم

إنّ من أبرز مسلّمات الفقه الإسلاميّ هو قاعدة ( سلطة الإنسان على ماله ) التي هي مفاد قول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الناس مسلطون على أموالهم »(١) .

فإذا كان الناس مسلّطين على أموالهم بحيث لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلّا بإذن أصحابها، فهم ـ بطريق أولى ـ مسلّطون على أنفسهم، فلا يجوز لأحد أن يحدّد حرياتهم، ويحمل نفسه عليهم أو يتصرّف في مقدّراتهم وشؤونهم دون إذنهم.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر نرى ؛ أنّ إقرار النظام يستلزم بالضرورة تصرّفاً في أموال الناس ونفوسهم وتحديداً لحرياتهم المشروعة بالذات، فإنّ الجمع بين هذين الأمرين ( سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم، واستلزام أقرار النظام، التصرّف في تلك الأموال والنفوس )، هو بأن تكون الدولة التي تقيم النظام نابعةً من انتخاب الاُمّة، أو موضع رضاها على الأقلّ.

وبعبارة أوضح: إنّ سيادة أي نظام على الناس لا تخلو من السلطة على أموالهم وأرواحهم والتصرّف فيها بالضرورة لأنّ من النظام أخذ الضرائب، وتنظيم الصادرات والواردات وتحديدها، وذلك بوضع القيود اللازمة عليها، وتنظيم الحريات والعلاقات

__________________

(١) مبدأ البرهان في هذا الدليل هو القاعدة المسلّمة بين الفقهاء وهي ( الناس مسلّطون على أموالهم ) وقلنا: إذا كان الناس مسلّطين على أموالهم فبالأولى أن يكونوا مسلّطين على نفوسهم.

غير أنّه يجب التنبيه على نكتة وهي أنّ الأولوية في الجانب السلبيّ لا الجانب الإيجابيّ.

والمقصود من الجانب السلبيّ أنّه إذا كان للأنسان أن يردّ الغير عن التصرّف في ماله فبالأولى يكون له ردُّ الغير عن التصرّف في نفسه، إذ جواز الردّ في جانب الأموال يستلزم جوازه في جانب النفس بطريق أولى.

وأمّا الجانب الإيجابيّ فليست هناك أيّة ملازمة والمراد منه هو أنّه إذا جاز للرجل أن يتصرّف في ماله فبالأولى له أن يتصرّف في نفسه، ومن المعلوم بطلان هذه الملازمة.

٢٠٥

وإرسال الجيوش إلى ميادين القتال، واستحضار الأفراد للخدمة العسكريّة، وما شابه ذلك ممّا يكون به حفظ النظام وصيانته وإقراره، ولـمّا كان حفظ النظام واجباً مفروضاً عقلاً وشرعاً وكان ممّا لا يتحقّق إلّا بإقامة دولة قويّة ذات سلطة واقتدار، يتراءى ـ في بادئ النظر ـ أنّه يصطدم مع ما أقرّه الإسلام للإنسان من سلطة وسلطان على أمواله ونفسه فكان الحلّ، هو أن تكون الدولة المتصرفة واقعةً موقع رضاهم، حتّى يكون التصرّف بإذنهم ورضاهم حفظاً للقاعدة المسلّمة ( الناس مسلطون على أموالهم ) وعلى أنفسهم.

* * *

٨. الحكومة أمانةٌ عند الحاكم

إنّ تشكيل الدولة وانتخاب الحاكم الأعلى، حقّ اجتماعيّ للاُمّة ولها أن تستوفي هذا الحق متى شاءت وأرادت وهذا يعني أنّ الحكومة ( أمانة ) عند الحاكم تعطيها الاُمّة له، وعليه أن يحرص على الأمانة غاية الحرص، ويواظب على أدائها أشدّ المواظبة.

أقول: إنّ هذه الحقيقة تستفاد من بعض الآيات والأحاديث العديدة التي تصف الحكم بأنّه أمانة، ومنها قول الله سبحانه:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( النساء: ٥٨ ـ ٥٩ ).

إنّ الخطاب في قوله سبحانه( يَأْمُرُكُمْ ) موجّه إلى الحكام بقرينة قوله( وَإِذَا حَكَمْتُم ) وهذه قرينة على أنّ الأمانة المذكورة هي: الحكومة.

ويؤيّد كون المراد من الأمانة هو ( الحكومة ) ما جاء في الآية الثانية من الحثّ على إطاعة الله وإطاعة الرسول واولي الأمر، فمجيء هذه الآية عقيب الآية المتضمنة لكلمة الأمانة، يؤيّد أنّ المراد بالأمانة المذكورة هو ( الحكومة ) وأنّ الكلام في الآيتين إنمّا هو

٢٠٦

حول ( الحكومة ) وما لها وما عليها من الحقوق والواجبات.

ثمّ إنّ الاستدلال بهذه الآية يتوقف على كون المراد من أهل الأمانة هو « الناس » فعندئذ تدل الآية على، أنّ الحكومة نابعة من جانب الاُمّة، وإن كانت نابعةً من جانب الله بالأصالة، وهي أمانة بيد الحاكم، ووديعة في عنقه، يطلب منه أداؤها. غير أنّ من الممكن أن يكون المقصود من أهل الأمانة هو ( الله ) سبحانه وتعالى، فإن الحكومة له لا غير كما قال في كتابه الكريم:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ ) فعندئذ لا يتمّ الاستدلال بالآية على المطلوب، ولكنّ الإجابة عن هذا الاحتمال واضحة، فإنّ الحكومة كما قلنا في الجزء الأوّل، حقّ ذاتيّ لله تعالى، ولا يعني من كونه حقّاً للناس أنّه حقّ أصيل لهم في قبال كونه حقّاً لله سبحانه، بل المراد أنّه حقّ أعطاه الله سبحانه له.

وبعبارة أخرى: ليس المقصود أنّ للشعب سيادةً وحاكميّةً في عرض السيادة والحاكميّة الإلهيّة، بل هما حقّان من نوعين، أحدهما حقّ مستقل وذاتيّ، والآخر حقّ تبعيّ موهوب، وهما لذلك يجتمعان دونما تضادّ وتباين، ولا منافاة بين أن يكون أهل الأمانة هو الاُمّة أو الله سبحانه.

وممّا يؤيّد القول بأنّ المراد من ( اهلها ) هو الناس، ما ورد في هذا الصدد من الاحاديث التي يستفاد منها كون ( الحكومة ) أمانة في عنق الحاكم، أو أنّ الحكّام خزّان الرعيّة ومؤتمنون على الحكومة، ومسؤولون عنها، إلى غير ذلك من النصوص التالية :

يقول الإمام عليّعليه‌السلام لأحد ولاته: « إنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة وأنت مسترعىً لما فوقك ليس لك أن تفتات في رعيّة »(١) .

ويقولعليه‌السلام أيضاً: « أيّها الناس إنّ أمركم هذا ليس لأحد فيه حقّ إلّا من أمرتم، وإنّه ليس لي دونكم إلّا مفاتيح مالكم معي »(٢) .

ويقول الإمامعليه‌السلام أيضاً: « انصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٥).

(٢) الكامل لابن الأثير ٣: ١٩٣.

٢٠٧

فإنّكم خزّان الرّعيّة ووكلاء الاُمّة »(١) .

ويؤيّد ذلك أيضاً ما روي حول الآية عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدّي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوه، وأن يجيبوه إذا دعوا »(٢) .

فهذه العبارات صريحة في كون الاُمّة هي صاحبة الأمانة، التي هي الحكومة والسيادة، لأنّ الحكام حسب هذه النصوص ليسوا إلّا حفظةً للسلطة وحراسها وخزاناً لها لا أصحابها. ويؤيّد ذلك أيضاً، أنّ الروايات والأحاديث تضافرت من أهل البيت: حول الآية، وهي تفسرها بالإمامة التي يجب على كلّ إمام أن يؤدّيها إلى الإمام الذي بعده.

ففي تفسير البرهان في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى آخر قوله تعالى) عن زرارة عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا ) فقالعليه‌السلام : « أمر الله الإمام أن يؤدّي الأمانة إلى الإمام الّذي بعده ليس له أن يزويها عنه، ألا تسمع قوله:( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ) هي الحكّام يا زرارة، إنّه خاطب بها الحكّام »(٣) .

نعم، إنّ الجمع بين المعنى ( وهو كون المقصود من الأمانة هو الحكومة التي تسلمّها الاُمّة إلى الحاكم ) والمعنى الثاني ( الذي روي عن أهل البيت من أنّ المقصود هو أداء كلّ إمام الإمامة إلى من بعده ) يحتاج إلى تأمّل ودقة تفكير.

ويؤيّد ما ذهبنا إليه، أنّ المفسر الإسلاميّ الكبير الطبرسيّ فسّر ( الأمانة ) في الآية بأنّ المراد هو ( الفيء وغير الفيء ) الذي يجب إيصاله إلى الاُمّة، أصحابها

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٥١٥).

(٢) الأموال لأبي عبيد: ١٢، ٣٨٨.

(٣) تفسير الميزان ٥: ٣٨٥ نقلاً عن البرهان قال العلاّمة الطباطبائيّ: وصدر هذا الحديث مرويّ بطرق كثيرة عنهمعليهم‌السلام .

٢٠٨

الحقيقيين وهو داخل في موضوع الحكومة، وأعمالها وصلاحياتها ومسؤوليّاتها ويقول: ( ومن جملتها ( أي من جملة الأمانات ) الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات والغنائم وغير ذلك ممّا يتعلّق به حقّ الرعيّة )(١) .

ويؤيّد ذلك أيضاً أنّ الإمام الباقر محمّد بن عليّعليه‌السلام قال في ذيل هاتين الآيتين: « آيتان إحداهما لنا، والأخرى لكم »(٢) .

وعنى الإمام بالاولى قوله تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) وبالثانية قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ) .

٩. كتب الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام إلى معاوية قبل نشوب الحرب بينهما: « إنّ عليّاً لـمّا مضى لسبيله ( رحمة الله عليه يوم قبض ويوم منّ الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حيّا ) ولاّني المسلمون الأمر من بعده فادخل فيما دخل فيه النّاس »(٣) .

وهذه العبارات صريحة في أنّ القاعدة المركوزة في أذهان المسلمين ( لولا التنصيص من الله سبحانه على شخص معيّن ) هي انتخاب المسلمين لحاكمهم، بحيث يجب ـ بعد انتخابه ـ دخول المخالف والمعارض فيما دخل في جمهرة الناس، ولذلك مضى الإمام الحسنعليه‌السلام يلفت نظر معاوية إليها.

١٠. ذمّ الإمام الصادقعليه‌السلام من يجبر الناس على حكمه بالسوط والسيف: ممّا يعني أنّ الشارع المقدس لا يرضى بالحاكم الذي يحمل نفسه على رقاب الناس قهراً ويحكمهم دون رضاهم، وذلك عندما قال له رجل: إنّه ربّما تكون بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا ؟ [ أي هل فيه بأس ] فقال الإمامعليه‌السلام : « هذا ليس من ذاك إنّما ذاك الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسّوط »(٤) .

__________________

(١ و ٢) مجمع البيان ٢: ٦٣.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤: ١٢.

(٤) المستدرك ٣: ١٨٧ نقلا عن دعائم الإسلام.

٢٠٩

١١. قال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :

« الواجب في حكم الله والإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالاً كان أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدم أو حرام الدّم أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم، عفيفاً، عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسنّة يجمع أمرهم، ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم، ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم، ويقيم حجّتهم ويجبي صدقاتهم »(١) .

وهو صريح في أنّ على الاُمّة أن تبادر إلى انتخاب حاكمها ( لولا النصّ على أحد طبعاً ).

١٢. وممّا يؤيّد ما ذكرناه من أنّ القاعدة المركوزة في أذهان الناس في مجال الحاكم كانت هي أن يكون الحاكم منتخب الاُمّة، أو موضع رضاها على الأقلّ هو ما كتبه رجال من أهل الحكومة إلى الإمام الحسين بن عليّعليه‌السلام :

« بسم الله الرحمن الرحيم. سلام عليك فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتآمر عليها بغير رضا منها ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ».

ولأجل ذلك كتب الإمام الحسينعليه‌السلام إليهم قائلاً: « أن بلغني أنّه قد اجتمع رأي ملئكم ذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم »(٢) .

فهذه الوجوه الاثنا عشر ـ عند التدبّر ـ تعطي للاُمّة، الحريّة الكاملة في انتخاب حكامّها تحت الضوابط الشرعيّة أو تدلّ ـ على الأقلّ ـ على لزوم كون الحكومة مورد رضاها.

__________________

(١) أصل سليم بن قيس: ١٨٢، وبحار الأنوار ٨: ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

(٢) الكامل للجزري ٣: ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٢١٠

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل :

قد اتضح من البحث المتقدّم، أنّ رضا الاُمّة وانتخابها يعدّ منبعاً للسلطة، وعندئذ ينطرح السؤال التالي :

إذا كانت إرادة الاُمّة منبعاً للسلطة في الحكومة الإسلاميّة وهي بنفسها مصدر للسلطة في الديمقراطيّة الغربيّة أيضاً فما الفرق بين الحكومتين ؟

الجواب :

إنّ المراد بكون الاُمّة ذات سيادة وحقّ في الحكومة الإسلاميّة يختلف عن السيادة الشعبيّة التي تقول بها الأنظمة الديمقراطيّة.

فالاُمّة في ظل الإسلام يجب أن تختار حاكماً متّصفاً بالشروط والصفات المعتبرة في الحاكم الإسلاميّ، من الفقه والعدل والدراية السياسيّة والمقدرة الإدارية، وغيرها من الشروط والمواصفات التي سيأتي ذكرها مفصّلاً في صفات الحاكم بينما يختلف الأمر عمّا هو عليه في الديمقراطيّة إذ في ظل هذا النظام يحقُّ للشعب أن يختار من يريد سواء أكان صالحاً أم لا، وسواء أكان متحلّياً بالمؤهّلات والشروط المذكورة أم لا.

كما أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى أن يمشي ويسير وفق النظام الإسلاميّ وليس له أن يحيد عن ذلك قيد شعرة، بينما يكون الأمر في النظام الديمقراطيّ على غير هذا

٢١١

النحو ؛ حيث يجب على الحاكم المنتخب أن يسير وفق ما يريده الشعب ويرتضيه ويرتئيه صالحاً كان أو فاسداً، وحقّاً كان أو باطلاً.

وبذلك يظهر، أنّه لا جامع ولا تشابه بين النظامين حتّى يرد على الاسلوب الإسلاميّ في ( انتخاب الحاكم من جانب الشعب ) ما يرد على الاسلوب الديمقراطيّ ولأجل ذلك، نجد أنفسنا في غنىً عن الإجابة على تلكم الإشكالات والاعتراضات والمؤاخذات. نعم لا بأس مع ذلك بالإشارة إلى ما أورد على الديمقراطيّة من اعتراضات ومؤاخذات تتميماً للفائدة.

مؤاخذاتٌ على الديمقراطيّة

إنّ الديمقراطيّة التي يعنى منها حكومة الشعب على الشعب عن طريق انتخاب النوّاب والحكام وذلك على النمط الغربيّ الذي يعتمد على تغليب الأكثريّة وترجيح آرائها، ينطوي على ثلاثة معايب رئيسيّة :

أوّلاً: إنّ الحاكم المنتخب يكون تابعاً للناس، وليس تابعاً للمصالح والحقائق، فإنّ الحاكم الذي يعتمد على آراء الناس وأصواتهم ( لا الضوابط والمؤهّلات والمعايير ) سيحاول دائماً أن يفعل ما يرضيهم، ويخطب ودّهم ويحقّق ما يشاؤون حقّاً كان أو باطلاً، وسيحاول مثل هذا الحاكم والنائب أن يكيِّف نفسه وفق أهواء ناخبيه، لا أن يهديهم ويرشدهم إلى مصالحهم الحقيقيّة، ويعمل بما يقتضيه الواقع في شأنهم، فما أكثر النوّاب الذين تجاهلوا نداءات الضمير إرضاءً للناس وإبقاءً على تأييدهم وكسباً لآرائهم وأصواتهم في المراحل التالية والدورات الاخرى. وما أكثر الأشخاص الصالحين الذين أرادوا أن يتّبعوا الحقّ والمصلحة الحقيقيّة لإرضاء الناس فخسروا تأييد الناس، وخسروا أصواتهم.

ثانياً: إنّ الشرط الأساسيّ لصحّة الانتخاب الشعبيّ، هو أن يكون الناخبون على درجة من الرشد الفكريّ والوعي والبصيرة حتّى لا يقعوا فريسة العواطف الرخيصة

٢١٢

والحادّة عند اختيار النوّاب أو الحكّام.

فلو توفر مثل هذا الشرط كان الانتخاب انتخاباً صحيحاً، ومفيداً.

ولكنّ المشكلة هي أنّ الأكثريّة الساحقة والتي هي الملاك في النظام الديمقراطيّ تفقد مثل هذه البصيرة والوعي والرشد الفكريّ، فإنّ الوعي والتفكير يختصان بطبقة خاصّة دون جمهرة الناس وسوادهم، فهي وحدها تفعل على بصيرة وبوعي، وأمّا الأكثرية الساحقة، فتتّبع في فعلها وتركها الأهواء الشخصيّة والتوجيهات التي يقوم بها اللاعبون خلف الستار من السياسيين ومحترفي السياسة.

فهل يمكن أن ننسى ما يعمله المرشّحون للنيابة أو الرئاسة لكسب هذه الأكثريّة من التوسل بجميع الوسائل الإغرائيّة، والأجهزة الدعائيّة والإعلاميّة ؟ فهم يستخدمون كل وسيلة رخيصة حتّى الفتيات والراقصات والأفلام الخليعة وإعطاء الوعود الخلاّبة، لاكتساب المزيد من أصوات الناس، إذ بهذه الاُمور يمكن الاستحواذ على عواطف أكثرية الجماهير، واستمالتهم، تلك الأكثريّة التي تتألف ـ في الأغلب ـ من السذّج، والبسطاء وغير المثقفين، فكيف يمكن أن تكون هذه الأكثرية ملاكاً لصحّة الانتخاب ومشروعيّته ؟

ثالثاً: إنّ تغليب الأكثريّة ولو بصوت واحد لا يكون ( عدلاً ) مضافاً إلى أنّه لا يجعل ما اختارته الأكثريّة ( حقاً ) لا نقاش فيه.

وإنّما لا يكون عدلاً، لأنّ تغليب هذه الأكثريّة ـ حتّى لو حصلت باسلوب صحيح بعيد عن المؤثّرات والإغراءات والاحتيالات ـ تجاهل لحقّ ما يقارب نصف المجتمع ومصالحه وإجحاف بحقّهم وهو إجحاف أدركه الغرب نفسه وتفطّن له كبار مفكّريه، وحقوقيّيه، واجتماعيّيه، ولكنّه لم يجد مفرّاً منه لأنّه لايعرف نهجاً بديلاً عنه، ولأجل ذلك لا يكون حقاً أيضاً.

هذه بعض معايب الديمقراطيّة وانتخاب الشعب لحكّامه ونوّابه على النهج الشائع في الأنظمة الديمقراطيّة وهو قليل من كثير.

٢١٣

وهي معايب واُمور يعاني الغرب من تبعاتها وآلامها أشدّ العناء، ويتحمّل بسببها أشدّ الأذى. ولذلك يبدو ؛ أنّ الانتخاب الشعبيّ للحاكم لا يكون مثالياً ولا صالحاً.

غير أنّ ما يقرّره النظام الإسلاميّ عار عن هذه المعايب ؛ وخال عن هذه المؤاخذات وذلك لوجوه هي :

أوّلاً: أنّه لا شكّ في أنّ أفضل أنواع الحكومات هو ( الحكومة التنصيصيّة الإلهيّة ) وإنّما الكلام هو فيما إذا لم يمكن التوصّل إلى هذا النوع فإنّه لن يكون سوى طريق واحد هو، قيام الاُمّة بانتخاب حكامها، بدلاً من أن يتسلّط على مصيرها ومقدّراتها بالقوّة، من يستبدّ برأيه، ويستأثر بفيئها، ولا يكون للناس في الأمر أي إرادة وكلمة.

ثانياً: انّ هذه الاعتراضات والمؤاخذات إنّما ترد على الانتخاب على النمط الغربيّ، والذي يجري في المجتمعات والبيئات الغربيّة التي لا تتمتّع بتربية أخلاقيّة ودينيّة رفيعة، والتي لا تخضع لأيّ شروط أو مواصفات موضوعيّة ومنطقيّة لا في الناخب ولا في المنتخب، ولا يعتبر سوى المزيد من الآراء والأصوات التي تباع وتشترى، وتكتسب بالأبواق وأجهزة الإعلام، وتحت تأثير الدعايات البرّاقة والوعود المنمّقة، لا ما يجري في البيئة الإسلاميّة وعلى النمط الإسلاميّ، الذي يشترط فيه للحاكم شروط ومواصفات تجعله رجلاً مثالياً في الأخلاق، نموذجيّاً في الإدراة، ويشترط على المنتخب، أن لا يختار إلّا من تتوفّر فيه الشرائط المعتبرة في الحاكم المثاليّ(١) ، إذ لولا ذلك لكان عمله من باب الركون إلى الظالم الذي أوعد الله عليه بالعذاب الأليم وبالنار إذ قال:( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ( هود: ١١٣ ).

فيكون الانتخاب ـ في ظل النظام الإسلاميّ على العكس من النظام الديمقراطيّ ـ مسؤوليّةً للناخب والمنتخب، وليس لعبةً سياسيّة.

ثالثاً: إنّ الأدلّة الإسلاميّة تدلّ على أنّه يجب على الفقيه العادل، بل على كلّ

__________________

(١) ففي الحديث: « إنّما الإمام هو الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات الله إلى آخره » وسوف توافيك تلك الشروط في محلّها في الفصول القادمة من هذا الكتاب.

٢١٤

مسلم ملتزم إذا رأى بدعةً شائعةً، وحكومةً منكرةً القيام ضدّها، ورفض شرعيّتها، وشجب عملها بل والإعلان عن إلغائها، بحكم ماله من الولاية التي له من جانب الله سبحانه كما يقول الإمام الحسينعليه‌السلام : « أيُّها الناس إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقُّ من غيّر »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها »(٢) .

وبهذا يأمن المجتمع الإسلاميّ من مخاطر الانتخاب الشعبيّ، ويسلم من تبعاته وسيئاته.

إنّ افتقاد الانتخاب الشعبيّ على النهج الديمقراطيّ الغربيّ، الضمانات التي أقامها الإسلام في الانتخاب، هو الفارق الكبير بين الانتخابين ( الإسلاميّ والغربي ) وهو بالتالي يكون سبباً لفشل الديمقراطيّة الغربيّة بخلاف الإسلام.

إنّ المجتمع الإسلاميّ الذي يرسم القرآن ملامحه في آيات عديدة ويلخِّصها في قوله:( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

إنّ مجتمعاً كهذا، من الجدير أن لا ينتخب لإدارة شؤونه إلّا ( حكومةً ) رشيدةً أمينةً رساليّةً مؤمنةً، وفيّةً للدين، ملتزمةً بالإسلام، ومخلصةً لمصالح الاُمّة وذلك على العكس من النظام الديمقراطيّ.

إنّ الأخذ بالضوابط والمقاييس التي ذكرها واشترطها الإسلام للقادة والزعماء ،

__________________

(١) الطبري ٤: ٣٠٤.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

٢١٥

كفيل أيضاً بأن يزيل جميع الاعتراضات الواردة على الانتخاب الشعبيّ ويحقّق أفضل حكومة من نوعها بين الحكومات.

* * *

السؤال الثاني :

إذا كان انتخاب الحاكم الأعلى غير مختص بفريق معيّن من أفراد الاُمّة، فلماذا يقول الإمام عليّعليه‌السلام في بعض رسائله: « وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً »(١)

الجواب :

إنّ السبب في حصر الإمام عليّعليه‌السلام حقّ انتخاب الإمام في المهاجرين والأنصار ـ بغضِّ النظر عن الملاحظات الجديرة بالاهتمام في هذه الرسالة ـ هو تعذّّر إجراء الاستفتاء العامّ الشامل، وعدم إمكان استعلام آراء المسلمين كلّهم في ذلك العهد، الذي كان يفقد الوسائل الكافية للاتصال بجميع أفراد الاُمّة. وحيث أنّ تأخير الانتخاب للحاكم الأعلى ريثما يتمّ الوقوف على كلّ آراء المسلمين جميعاً، كان ينطوي على تعريض الاُمّة الإسلاميّة لأخطار جديّة حقيقيّة لا تخفى على كلّ من يعرف الأوضاع في تلك الحقبة من تاريخ الإسلام، نجد الإمامعليه‌السلام يختار هذا الاُسلوب ويعلّل ذلك بقوله: « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار »(٢) .

كيف لا وقد مر عليك أيّها القارئ الكريم أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام صرّح في بعض خطبه بوضوح لا يقبل جدلاً، أن إرادة الاُمّة الإسلاميّة، هي مصدر السلطات، وأنّ الحكومة يجب أن تكون موضع رضا الناس(٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٦).

(٢) نهج البلاغة: الرسالة (١٧٣) طبعة عبده.

(٣) راجع الصفحة ٢٠٧ ـ ٢٠٨ من هذا الجزء.

٢١٦

لقد كان المهاجرون والأنصار ـ في ذلك العهد ـ بحكم سبقهم إلى الإيمان بالإسلام بمنزلة وكلاء الاُمّة الإسلاميّة، فكان ما يختارونه يقرّه الآخرون. ولأجل ذلك، اعتبر الإمام عليّعليه‌السلام ما يختاره شورى المهاجرين والأنصار ومن يتّفقون عليه للحكم، حجّةً نافذةً على الآخرين.

ولا بأس بأن نذكر في خاتمة هذا الجواب، أنّ انتخاب الحاكم الأعلى للدولة كما يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب الاُمّة مباشرةً، كذلك يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب نوّابها للحاكم الأعلى، ويكون مآل ذلك إلى رأي الاُمّة أيضاً.

ولعلّ ما ذكره الإمام عليّعليه‌السلام كان إشارةً إلى هذا الاُسلوب وكأنّ المسلمين في ذلك العصر كانوا ـ لاعتمادهم على المهاجرين والأنصار ـ يعدّونهم نوّاباً لهم، وإن لم يصرّحوا بذلك لفظاً.

يقول صاحب المنار في شأن هؤلاء المهاجرين والأنصار: ( وقد كانوا ( أي المهاجرين والأنصار ) في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يكونون معه حيث كان، وكذلك كانوا في المدينة قبل الفتوحات ثمّ تفرّقوا وكانوا يحتاجون إليهم في مبايعة الإمام ( الخليفة ) وفي الشورى وفي السياسة والإدارة والقضاء فأمّا المبايعة، فكانوا يرسلون إلى البعيد من اُمراء الأجناد، ورؤوس الناس في البلاد من يأخذ بيعتهم )(١) .

ثمّ إنّ استدلال الإمام بشورى المهاجرين والأنصار مع كون إمامته وخلافته منصوصاً عليها من جانب الله سبحانه، إنّما هو من باب الجدل وإفحام الخصم، وسيأتيك تفصيل ذلك عند البحث عن نظرية « الشورى أساس الحكم ».

السؤال الثالث :

لمّا كان الاتفاق على شخص واحد أمراً مستحيلاً عادةً، فعندئذ كيف ينتخب الحاكم الأعلى ؟ هل بتغليب الأكثريّة على الأقليّة، وذلك مناف لأصالة الحريّة الإنسانيّة

__________________

(١) المنار ٥: ١٩٥.

٢١٧

الفرديّة وقاعدة سلطة الإنسان على ماله ونفسه، ومستلزماً لبخس حقوق الأقليّة.

الجواب :

إذا نظرنا إلى الحياة الإنسانيّة من الزاوية الفرديّة، وأخذنا الإنسان بمعزل عن المجتمع، جاز لنا أن نستنكر هذا الترجيح، ونعتبره نقضاً صريحاً لحريّته الفرديّة وحقّه في الأخذ برأيه وانتخابه واختياره إذ لا مبرّر لذلك، ولا مسوّغ فلكلّ إنسان حقّ في إبداء رأيه وتنفيذه، ولا سلطة لأحد على أحد كما أسلفناه.

ولكنّنا لو نظرنا إلى ( الحياة الإنسانيّة ) من الزاوية الاجتماعيّة ودرسنا الإنسان والفرد وهو ضمن مجتمع متكوّن من أفراد آخرين، ذوي حقوق ومصالح مماثلة، فإنّ الحياة والعيش بالكيفيّة الاجتماعيّة حينئذ تقتضي القبول بكلّ لوازمها، ففي الحياة الاجتماعيّة تضمن المصالح، والحريّات الفرديّة في إطار المصلحة الاجتماعيّة، إذ بذلك وحده يمكن التوصّل إلى الاستقرار الاجتماعيّ وتحقيق السعادة الاجتماعيّة العامّة التي يتوقف عليها الاستقرار الفرديّ، وتتحقق في ظلّها السعادة الفرديّة ولـمّا كان الطريق الوحيد إلى حفظ النظام الاجتماعيّ وصيانة مصالح الاُمّة متوقّفة ـ بعد التشاور والمداولة ـ على ترجيح إحدى الطائفتين المختلفتين في الرأي على الاُخرى، فلا مناص من تغليب الأكثريّة على الأقليّة، لأنّ تغليب الأقليّة على الأكثريّة عند العقلاء ترجيح للمرجوح على الراجح.

من هنا يلزم على الأقليّة القبول برأي الأكثريّة وانتخابها، والتنازل عن حقّها ورأيها.

وبعبارة اُخرى: إنّ الحياة الاجتماعيّة تشبه شركة مساهمة، يشترك فيها الأفراد المتعددون بالأسهم، فكما أنّ على مشتري السهم أن يتّبع في شرائه للسهم، ومشاركته في تلك الشركة برنامج الشركة المدوّن، ويكون شراؤه بمثابة الموافقة الضمنيّة على ذلك البرنامج، فإنّ العيش ضمن الحياة الاجتماعيّة يعتبر إمضاءً لشروط الحياة الاجتماعيّة، وقبولاً بمستلزماتها وأحكامها إذ لا بقاء للحياة الاجتماعيّة، ولا قيام لأمرها إلا بهذا

٢١٨

الطريق، كما لابقاء للشركة المساهمة إلّا بموافقة أصحاب الأسهم على برنامج الشركة وأهدافها، والقبول بمتطلباتها فهو باختصار، أشبه شيء بالشرط في ضمن العقد كما هو المصطلح في الفقه، والاعتراف بالملزوم اعتراف بلازمه.

* * *

الفرق الواضح بين الترجيحين

يمكن أن ينطرح في ذهن القارئ الكريم، أنّ ما أخذنا به على الديمقراطيّة الغربيّة جار في المقام، إذ قلنا هناك بأنّ ترجيح الأكثريّة ولو بصوت واحد بخس وتجاهل لحقّ الأقليّة، وعندئذ فما الفرق بين الترجيحين الحاكمين في الديمقراطيّة الغربيّة والحكومة الإسلاميّة ؟

غير أنّ القارئ الكريم الذي لمس حقيقة الحكومة الإسلاميّة يقف على الفرق الجوهريّ بين الترجيحين، فإنّ الأكثريّة في النظام الديمقراطيّ الغربيّ تأخذ بزمام الحكم وتتصرف في مصير المجتمع بأيّ نحو شاءت، وليس هناك ضابطة غالباً تحدد تصرّفاتها في مقابل الأقليّة، سواء أكانت في مجال التقنين والتشريع أم في مجال التطبيق والتخطيط، إذ لا يشترط في المتصرِّف شيء من الشرائط سوى تصويت الأكثريّة له. ولذلك لا رادع هناك من أي بخس وتجاوز لحقوق الأقليّة من جانب الأكثريّة الحاكمة.

أمّا الحكومة الإسلاميّة، فالأقليّة والأكثريّة كلاهما يتّبعان حكماً وقانوناً واحداً لا يختلفان في ذلك أبداً، فليس لهما إلّا الاتّباع لما شرعه الإسلام وجاء به الكتاب والسنة، وإنمّا الاختلاف في اُسلوب التطبيق والتخطيط، فليس للحاكم الأخذ بزمام الحكم أن يتجاهل حقوق الأقليّة، كما أنّه ليس للطرف الآخر الخروج عن دائرة الحقّ والعدل المتمثّلين في الشريعة المقدسة فتبقى هناك مسألة التصدّي لمقام الحكم ولا مناص من ترجيح الأكثريّة على الأقليّة حفظاً لنظام المجتمع وإبقاءً على وحدته وكيانه، ويتضح ما ذكرناه إذا لاحظنا مواصفات الحاكم وشرائطه في الحكومة الإسلاميّة كما ستوافيك في الفصل القادم.

٢١٩

السؤال الرابع :

ولاية الفقيه ومكانتها

في

الحكومة الإسلاميّة

ربّما يتصور البعض، أنّ القول بولاية الفقيه التي اتّفق على أصلها في الجملة جميع الفقهاء في فقه الإماميّة، يتنافى مع ما مر تقريره من إثبات السيادة للاُمّة وحقّها في انتخاب حكّامها ونوّابها.

الجواب :

إنّ البحث في ولاية الفقيه، وتوضيح حقيقتها ودلالتها، وبيان ما حولها من حقائق، يحتاج إلى تأليف رسالة، وقد أغنانا عن ذلك ما كتبه قائد الثورة الإسلاميّة الإمام الخمينيّقدس‌سره فنقول باختصار :

إنّ ما ذكرناه في « صيغة الحكومة الإسلاميّة » وتركيبتها هو ما يمكن لكلّ مطالع في الإسلام، استنباطه من الكتاب والسنّة بجلاء، غير أنّ هناك في فقه الشيعة الإماميّة « عنصراً خاصّاً » في الحكومة الإسلاميّة هو عنصر « ولاية الفقيه » الذي لا نجد مثيله في سائر المذاهب، وينبغي للقارئ الكريم أن يتعرّف على هذا العنصر استكمالاً لمعرفته بجميع عناصر الحكومة الإسلاميّة في عامّة المذاهب الفقهيّة.

إنّ الحديث عن ولاية الفقيه يقع في أمرين :

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وما ورد من الآيات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل الله ووصف الحاكم بغير ما أنزل الله بالكفر والفسق والظلم(١) ومن المعلوم لزوم مكافحة الكفر والفسق والظلم وهو غير خفيّ على من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة.

كما أنّها مدفوعة بما صح عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من الروايات الناهية عن التعاون مع الظالم وإعانته ومساعدته، منها ما ورد عن كعب بن عجرة عن النبيّ أنّه قال: « اسمعُوا سيكُونُ بعدي اُمراءُ فمن دخل عليهم فصدّقهُم بكذبهم وأعانهُم على ظُلمهم فليس منّي ولستُ منهُ وليس بوارد عليّ [ الحوض ] »(٢) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ألا ومن علّق سوطاً بين يدي سُلطان جعل الله ذلك السّوط يوم القيامة ثُعباناً من النّار طولُهُ سبعون ذراعاً يُسلّطهُ الله عليه في نار جهنّم وبئس المصير »(٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال: « إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوانُ الظلمة ومن لاق لهُم دواة، أو ربط لهُم كيساً، أو مدّ لهُم مدّة قلم، فاحشُرُوهُم معهُم »(٤) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « من خفّ لسُلطان جائر في حاجة كان قرينهُ في النّار »(٥) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما اقترب عبد من سُلطان جائر إلّا تباعد من الله »(٦) .

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يُعصي الله »(٧) .

__________________

(١) المائدة: ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٢) جامع الأصول ٤: ٧٥، نقلاً عن الترمذيّ والنسائيّ.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به حديث ١٠.

(٤) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١١.

(٥) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١٤.

(٦) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠ حديث ١٢.

(٧) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤، حديث ٥.

٣٢١

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من سُوّد اسمهُ في ديوان الجبّارين حشرهُ الله يوم القيامة حيراناً »(١) .

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من مشى إلى ظالم ليُعينهُ وهو يعلمُ أنّهُ ظالم فقد خرج عن الإسلام »(٢) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام أنّه قال: « ما أحبُّ أنّي عقدت لهم عقدةً أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها لا ولا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يفرغ الله من الحساب »(٣) .

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين ممّا وردت في كتب الحديث، الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر، والحاثّة على زجره ودفعه، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة المتاحة ممّا يدلّ على أنّ الأحاديث التي تحثّ على السكوت عن الحاكم الظالم، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه والرضا بجوره ممّا أوعزت السلطات الحاكمة به في تلك العصور المظلمة، فلفّق البعض هذه الروايات والأحاديث ونسبوها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسّنة.

ولو لم يكن في المقام إلّا قول الإمام عليّعليه‌السلام في خطبته: « وما أخذ الله على العُلماء أن لا يُقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم الخ »(٤) .

لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبما أنّ هذا البحث واضح لكلّ مسلم يحمل بين جنبيه الحريّة ويفكّر في العدل الإسلاميّ طوينا البحث عن بعض ما ورد في هذا المجال.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤ حديث ٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٢: ١٣١ حديث ١٥.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٢٩ حديث ٦.

(٤) نهج البلاغة: الخطبة ٣.

٣٢٢

٣

السلطة القضائيّة

دور القضاء والسلطة القضائيّة :

يحتلّ القضاء، وفصل الخصومات بين الناس دوراً عظيماً، ومكانة حسّاسة في أي مجتمع بشريّ، لأنّ عليه وعلى كيفيّته تتوقّف سلامة المجتمع، واستتباب الأمن، واستقرار العدل، وصيانة الحقوق والحريّات، والحرمات وبالتالي يقوم التوازن الاجتماعيّ.

إنّ القضاء مرتبط بالعدالة، فإن صلح شاعت العدالة وانتعشت، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وصلح أمر الدولة، والناس جميعاً. وإن فسد القضاء اختفت العدالة وباختفائها تعم الفوضى وينتشر الفساد، ولا يأمن الناس على أنفسهم، فتضيع هيبة الدولة، ويتقلّص سلطانها، إنذاراً لها بالنزوال والاندحار.

إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام، وفي تحويل التنازع والتصارع إلى التوافق والتقارب الذي يحتاج إليه كلّ مجتمع إنسانيّ ينشد السعادة والطمأنينة والأمن.

٣٢٣

عوامل التنازع وأسبابه :

لم يزل المجتمع البشريّ ـ منذ تكوّنه وانضمام فرد إلى فرد آخر ـ تلازم حياته التشاجر والاختلاف والتنازع بين أفراده، وقد شهد بذلك التاريخ، وبرهنت عليه الوقائع المحسوسة، ثمّ إنّ هذا الاختلاف لا ينشأ ـ غالباً ـ إلّا من أمرين :

١. الحرص الشديد على جلب الأموال والمنافع والحقوق، الذي يلازم البعد عن المعنويّات والمثل الإنسانيّة، فإنّ حرص كلّ واحد من أفراد النوع الإنسانيّ على أن يجلب المنافع العاجلة العابرة لنفسه ينسيه الجوانب المعنويّة والمثل النبيلة وذلك بدوره يجرّ إلى التعدّي على مصالح الآخرين وحقوقهم ومنافعهم حيث لا إيمان يردع عن ذلك، ولا مكارم أخلاق تحدّ من تلك النزعة الجامحة.

٢. الاختلاف في تشخيص الحقّ، فربّما يتنازع فردان لا للحرص الشديد بل للاختلاف في تشخيص ( الحقّ ) فكلّ واحد منهما يعتقد ـ اعتقاداً جازماً ـ بأنّ الحقّ هو ما يراه دون غيره.

وربّما يبلغ الطرفان المختلفان المتنازعان ـ مع ذلك ـ أقصى درجات التقوى وحسن النية والفضيلة، ولكن جهلهما بالحقّ دفعهما إلى ذلك الاختلاف والتنازع، ولا ريب أنّ بقاء الاختلاف في المجتمع يشكّل خطراً كبيراً على أمنه واستقراره وسلامته ؛ إذ قد يؤدي إلى العدوان، وتأجّج نيران البغضاء والضغينة بين المتخاصمين المختلفين، وربما اُريقت ـ في هذا السبيل ـ دماء كثيرة. واُهدرت أموال طائلة، وضاعت أغراض شريفة ليس إلّا لاُمور حقيرة لا تستأهل كل تلك التبعات والعواقب. ومن أجل ذلك حثّ القرآن الكريم على سدّ باب الاختلاف وقطع دابره من الجذور وحثّ المسلمين على الإصلاح بين المتنازعين إذ قال:( وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( الأنفال: ١ ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام نقلاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقول :

٣٢٤

« صلاحُ ذات البين أفضلُ من عامّة الصّلاة والصّيام »(١) .

بيد أنّ حلّ الاختلاف يتصوّر بوجوه هي :

إمّا بإخضاع القضيّة لسلاح القوّة، ومنطق الغلبة الذي عبّر عنه المثل السائر بقوله: ( الحقُ لمن غلب ) فيكون الغالب هو المحقّ ولكن هذا ممّا لا يقبله ذو وجدان سليم ولا يرضاه عقل ولا دين.

أو بإخضاع القضيّة لعامل الدعاية والتبليغ الكاذب، وإرغام الطرف الآخر على القبول بما يخالفه انخداعاً وتضليلاً، وهو كذلك أمر يرفضه الدين.

أو يترك الأمر لعامل الزمن ليتجلّى الحقّ بمرور الأيام وتوالي الشهور ومضي السنين والأعوام وهو أمر لا تحتمله الحياة الاجتماعيّة التي تتطلّب الحلول العاجلة لمشكلاتها والمعالجة السريعة لآلامها

أو يترك الأمر حتّى يتعب المتنازعان فيكفّا عن المطالبة، أو يخلّي أحدهما الآخر، ليبطل الحقّ، ويعود باطلاً، ويعود الباطل حقّاً. وهو أمر يرفضه الإسلام كذلك إذ يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « الحقُّ القديم لا يبطله شيء ».

ولقد اتّخذ الإسلام طريقاً خامساً، وهو الذي ندبت إليه الشرائع السماويّة السابقة وتقتضيه سنّة الحياة وضرورات المجتمع ألا وهو حثّ المتنازعين على الرجوع إلى أهل الصلاح والتحاكم إليهم، والخضوع لقضائهم وحكمهم ليرتفع التنازع ويعود المتخاصمون اخوة متحابّين، ويتخلّص المجتمع من أخطار الاختلاف والتنازع. ولأجل مثل هذا الدور كانت السلطة القضائيّة الركن الثالث والأساسيّ من أركان الحكومات قديماً وحديثاً، وكان لها من الأهميّة والمكانة ما ليس لغيرها من أركان الحكومة.

ولأجل ذلك أيضاً كان للقضاء والسلطة القضائية مكانة مرموقة في النظام

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ قسم الكتب ـ ٤٧.

٣٢٥

الإسلاميّ لم يسبق لها مثيل في العهود والأنظمة السابقة واللاحقة ؛ حيث سنّ له ولها اُصولاً وقواعد واُسساً وبرامج فريدة في نوعها، وعظيمة في محتوياتها.

فلقد وضع القرآن الكريما اُسس القضاء وشيّد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إركانه وبنيانه وبين خلفاؤه المعصومون تفاصيله، وجزئياته، وحدوده وأحكامه.

القضاء والحكومة لله خاصّة

ولمّا كان القضاء ملازماً للتصرّف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم احتاج إلى ولاية حقيقيّة وحيث لم تكن الولاية الحقيقيّة إلّا لله تعالى خاصّة ؛ كان القضاء أحد الحقوق المختصة به سبحانه دون سواه، فلا ولاية لأحد على أحد في هذه الشؤون، ولهذا قال سبحانه:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام: ٥٧ ).

وقال:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ )(١) .

إلى غير ذلك من الآيات التي تحصر حقّ الحكومة ( الشاملة للقضاء وغيره ) بالله سبحانه وحده لانحصار الولاية الحقيقيّة فيه دون سواه.

وقد عهد الله سبحانه بممارسة هذا الحق إلى أنبيائه وأوصيائهم سواء أكانوا أوصياء بالاسم والشخص، أم بالرسم والوصف.

فالقضاة المنصوبون من ناحية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أوصيائهم قضاة منصوبون بالاسم والشخص وأمّا الذين يتعاهدون القضاء ـ زمن عدم التمكّن من الأوصياء والأئمّة ـ قضاة منصوبون بالرسم والوصف. كما نرى ذلك من رواية مقبولة لعمر بن حنظلة حيث قال الصادق الإمام جعفر بن محمّدعليه‌السلام له: « من تحاكم إليهم(٢) في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغُوت، وما يحكُمُ لهُ فإنّما يأخُذُ سُحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً لهُ ،

__________________

(١) ولم نذكر الآية المشابهة (٦٧) في تلك السورة لأنّها ناظرة إلى معنى تكوينيّ.

(٢) المراد قضاة الجور.

٣٢٦

لأنّهُ أخذهُ بحُكم الطّاغُوت وما أمر الله أن يُكفر به. قال الله تعالى:( يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ) ( النساء: ٦٠ ) ».

ولـمـّا قال: فكيف يصنعان ؟ قالعليه‌السلام : « ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثناً ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا كالرّادّ على الله وهو على حدّ الشّرك بالله الحديث »(١) .

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام نفسه برواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال أنّه قال: « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه »(٢) .

هذا وقد كان طبيعياً أن يحكم هؤلاء القضاة العدول ويقضوا ويفصلوا في الخصومات وفق منهج الله تعالى وتعاليمه وأحكامه في مجال القضاء، لا بما تهواه أنفسهم أو ما يشاؤه المتخاصمون المتحاكمون.

ولذلك أنزل الله الشرائع والكتب والرسالات على الأنبياء وأمرهم أن يحكموا بين الناس بما فيها من الحقّ والقسط فقال تعالى:( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ( الحديد: ٢٥ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) ( المائدة: ٤٤ ).

وقال تعالى ـ وهو يوصي داود نبيّه ـ أن يحكم بالحق:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ (٣) بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: باب ١١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (١).

(٢) وسائل الشيعة ١٨: باب ١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (٥) ويقرب منه ما نقل عنه في الباب ١١ / الحديث (٦).

(٣) المراد من الحكومة أعمّ من الولاية والقضاء.

٣٢٧

يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) ( ص: ٢٦ ).

كما أمر الله تعالى المقتفين أثر المسيح أن يحكموا بما في الانجيل إذ قال:( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( المائدة: ٤٧ ).

وبيّن سبحانه أثر الحكم بما في التوراة والانجيل وثمرته بقوله:( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) ( المائدة: ٦٦ ).

وقد أمر الله سبحانه نبيّه الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقضاء بالقسط والعدل إذ قال:( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة: ٤٢ ).

وقال سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ( المائدة: ٤٨ ).

ولم يكتف سبحانه بذلك بل أمر الاُمّة الإسلاميّة ودعاها إلى أن تقضي بالحق والعدل والقسط إذ قال:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء: ٥٨ ).

وأمرها بأن لا يحملها شنآن قوم على التخلّي عن العدل، والتقاعس عن إجرائه إذ قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ٨ ).

بل وأمر المسلمين باتّخاذ جانب العدل ليس في مجالات القضاء وحدها بل في كلّ مجالات الحياة، حتّى في النطق والكلام إذ قال:( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ) ( الانعام: ١٥٢ ).

وصفوة الكلام أنّ الآيات التي مرّت عليك تثبت ـ بجلاء ودون إبهام ـ أنّ

٣٢٨

القضاء حقّ خاصّ بالله سبحانه، وقد عهد به إلى الأنبياء، وأوصيائهم، ومن أقاموه لذلك المنصب، وجعل كتبه ورسالاته مناهج لهم، ليحكموا بما فيها، ويقضوا بين المتنازعين والمتخاصمين على ضوء تعاليمها وأحكامها.

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يمارس القضاء

ولقد عهد الله بالقضاء إلى النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما عهد إليه، كما عرفت ذلك من خلال الآيات التي مرّت عليك آنفاً، وقد تولّىصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه حلّ الخصومات والحكم بين الناس على ضوء ما أُنزل إليه من القرآن وأحكامه، بل وعيّن ـ في زمنه ـ رجالاً صالحين للقضاء وفصل الخصومات، قال الإمام عليّعليه‌السلام : « بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن قاضياً، فقُلتُ يا رسول الله: تُرسلُني وأنا حديثُ السّنّ ولا علم لي بالقضاء ؟

فقال: إنّ الله سيهدي قلبك ويُثبتُ لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلاتقضي حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء.

قال: فما زلت قاضياً. ( أو ) ما شككت في قضاء بعد »(١) .

كما قد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله معاذاً إلى اليمن وقال له: « كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ »، قال: أقضي بكتاب الله الى آخر الحديث(٢) .

وبذلك نعلم أنّ ما كتبه بعض المتأخّرين من أنّه لم يعرف القضاء في العهد النبويّ ولا في عهد الخلفاء، بل هو شيء جديد أسّسه الأمويون في الشام، أمّا قبل ذلك فإنّ العرب كانت في خلافاتها ترجع إلى طريقة التحكيم(٣) ، فهو إمّا جهل بتاريخ الإسلام، أو افتراء واضح البطلان يقف عليه كلّ من له أقلّ إلمام بالكتاب والسنّة، وما

__________________

(١) جامع الاُصول ١: ٥٤٩، أخرجه أبو داود والترمذيّ.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٥١

(٣) النظام السياسيّ: ١٢٩، نقلاً عن كتاب عبقريّة الإسلام في اُصول الحكم.

٣٢٩

ورد فيهما من الآيات والأحاديث في مختلف أبواب القضاء بحيث يصعب لنا نقل فهرستها، فضلاً عن ذكر نصوصها(١) .

ثمّ إنّ نظرة واحدة إلى القرآن الكريم تفنّد هذا الزعم الباطل فلاحظ الآيات ٤٠ إلى ٦٠ من سورة المائدة فهي في معرض ذكر الأحكام المتعلّقة بالقضاء والفصل في الخصومات وأحكام القصص والحدود.

كيف يحقّق القضاء أهدافه ؟

إنّ أهمّ أمر في القضاء والسلطة القضائيّة هو أن تحقّق هذه السلطة غرضها وهدفها الأساسيّ في إشاعة العدل وإقامة القسط في المجتمع، بحيث يحسّ كلّ فرد من أفراد المجتمع بالأمن على نفسه وماله وعرضه في ظلّ ما توفّره السلطة القضائيّة له من عدالة شاملة لا يشوبها ظلم ولا عدوان ولا يتخلّلها حيف ولا تجاوز.

إنّ وصول السلطة القضائيّة إلى هذا الهدف الأساسيّ يتحقّق بأربعة اُمور :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء.

٢. استقلاله الماليّ والسياسيّ.

٣. رعايته لآداب القضاء.

٤. أن تكون لديه برامج حقوقيّة وجزائيّة عادلة للقضاء وفقها، وهي بأجمعها متوفّرة في النظام الإسلاميّ وإليك تفصيل ذلك :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء

إنّ أهمّ عامل يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الخطير في المجتمع هو

__________________

(١) وقد جمع أحمد بن حنبل في مسنده قضايا النبيّ ٥: ٣٢٦، ونقل جملة منها الجزريّ في كتابه جامع الاُصول ١٠: ٥٦٥.

٣٣٠

صلاحيّة القاضي، وتوفّر الشروط المؤهّلة للقضاء فيه.

ولقد اشترط الإسلام في القاضي شروطاً وأوصافاً لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء وهذه الصفات هي :

١. البلوغ.

٢. العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. طهارة المولد.

٦. العلم بالقانون.

٧. الذكورة.

٨. أن يكون ظابطاً سليم الذاكرة فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه للقضاء(١) .

ولقد شدّد الإسلام على خطورة منصب القضاء، وجسامة مسؤوليّة القاضي ومقامه فقد ورد عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « القضاة ثلاثة: واحد في الجنّة واثنان في النّار

فأمّا الذّي في الجنّة فرجل عرف الحقّ وقضى به.

ورجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النّار.

ورجل قضى للنّاس على جهله فهو في النّار »(٢) .

ورفع إلى أبي عبد الله الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: « القضاة أربعة، ثلاثة في النّار وواحد في الجنّة :

رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النّار.

__________________

(١) راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحليّ كتاب القضاء في الصفات.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٤٥ نقلاً عن أبي داود.

٣٣١

ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام عن من يتصدّى لمقام القضاء وليس له أهل: « ورجل قمش جهلاً، موضع في جهال الاُمّة، غار في أغباش الفتنة، عمّ بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه النّاس عالماً وليس به، بكر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر جلس بين النّاس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ثمّ قطع به فهو من لبس الشُّبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ »(٢) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام مشيراً إلى حراجة موقف القاضي، وصعوبة إجراء الحق والعدل الذي هو هدف القضاء الإساسيّ: « الحقُّ أوسع الأشياء في التّواصف وأضيقها في التناصف »(٣) .

إنّ القضاء ليس شيئاً بسيطاً عادياً بل هو أمر مهمّ حتّى في أبسط الأشياء فقد روي أنّ صبيّين تحاكما إلى الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام في خطّ كتباه وحكّماه في ذلك ليحكم أي الخطّين أجود فبصر به عليّعليه‌السلام فقال: « يا بنيّ انظر كيف تحكم فإنّ هذا حكم، والله سائلك عنه يوم القيامة »(٤) .

وقد وقع نظير هذه القضية للإمام عليّعليه‌السلام نفسه فقد روى الإمام أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم فقال: « أما إنّها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه »(٥) .

__________________

(١ و ٥) وسائل الشيعة ١٨: ١١ و ٥٨٢.

(٢ و ٣) نهج البلاغة: الخطبة ١٧، ٢١٦.

(٤) مجمع البيان٣: ٦٤ في تفسير قوله:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ ) .

٣٣٢

ولذلك قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لسانُ القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار »(١) .

كما لذلك أيضاً اشترط الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام على القاضي شُريح أن لا ينفذ قضاء حتّى يعرضه عليه قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لـمّا ولّى أمير المؤمنينعليه‌السلام شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا يُنفذ القضاء حتّى يعرضهُ عليه »(٢) .

ومن هنا أكد الإمام عليّعليه‌السلام على الأشتر واليه على مصر، في عهده المعروف، أن يختار من يريدهم لمنصب القضاء، اختياراً دقيقاً بقوله: « ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الاُمور، ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزّلّة ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشّبهات، وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرُّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الاُمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، واُولئك قليل، ثمّ أكثر تعاهد قضائه »(٣) .

ولخطورة مقام القضاء لا يجوز إلّا للنبيّ أو وصيّه، كما قال الإمام عليّعليه‌السلام لشريح: « يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه ( ما جلسه ) إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ »(٤) .

وورد عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام قوله: « اتّقوا الحُكومة ( أي القضاء ) إنّما هي للإمام العادل العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيٍّ ( كنبيّ ) أو وصيّ(٥) نبيّ »(٦) .

* * *

٢. إستقلال القاضي الماليّ والسياسيّ

إنّ القاضي بما أنّه يتحمّل مسؤوليّة كبيرة وخطيرة لا مشابه لها بين أقرانها من

__________________

(١ و ٢ و ٤) وسائل الشيعة ١٨: ١١، ٦، ٧.

(٣) نهج البلاغة: قسم الكتب ٥٣.

(٥) المراد بالوصيّ هو الأعم من الوصيّ المنصوص عليه بالاسم فيشمل المنصوص عليه بالوصف، أي الذي جمع صفات القاضي المعتبرة في الإسلام.

(٦) وسائل الشيعة ١٨: ٧.

٣٣٣

المسؤوليّات والمناصب الاُخرى، يجب أن يكون مستقلاًّ في عمله غاية الاستقلال، لكي لا يخضع لما يميل به عن العمل بمسؤوليّته ويقتضي ذلك أن يكون مستقلاًّ في اقتصاده عن الآخرين كيلا يقع فريسة الأطماع، ولقد أدرك الإسلام هذه الناحية الحسّاسة فأمر الحكومة الإسلاميّة بالإغداق على القاضي إغداقاً يقطع طمعه عمّا في أيدي الآخرين، يقول الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ في هذا الصدد: « وافسح لهُ ( أي للقاضي ) في البذل ما يزيل علّته، وتقلُّ معه حاجته إلى الناس »(١) .

ولكنّ هذا الاستقلال لا يكفي إذا لم ينضمّ إليه استقلال القاضي من أي تأثير خارجيّ سياسيّ عليه، ومن أيّة تدخّلات صادرة عن السلطات الاُخرى في عمله القضائي فإنّ القاضي يجب أن يُترك وشأنه حتّى يستجلّي الحقّ بنفسه دون مؤثرات خارجيّة ولا تدخلات في عمله ولذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ، في هذا الصدد: « واعطه من المنزلة لديك ملا يطمعُ فيه غيرهُ من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال لهُ عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً »(٢) .

والمقصود هو أن يكون للقاضي موضعاً غير متأثّر بأحد ليقضي بالحقّ، ويفصل في الخصومات، ويصدر الأحكام غير متهيّب ولا متأثّر وهذا هو ما يصطلح عليه السياسيّون اليوم باستقلال السلطة القضائيّة، وتفكيكها عن بقية السلطات.

ولقد نبّه إلى هذا فقهاؤنا العظام استلهاماً ممّا لديهم من تعاليم الشريعة المقدّسة في هذا المجال، قال المحقّق النائينيّ ( المتوفّى عام ١٣٥٥ ه‍ ) :

( إنّ ولاية الحاكم ترجع إلى قسمين: الأوّل الاُمور السياسيّة، التي ترجع إلى نظم البلاد وانتظام اُمور العباد، والثاني الإفتاء والقضاء، وكان هذان المنصبان في عصر النبيّ والأميرعليه‌السلام بل في عصر الخلفاء الثلاثة لطائفتين وفي كل بلد أو صقع كان الوالي غير القاضي فصنف كان منصوباً لخصوص القضاء والإفتاء وصنف كان منصوباً لإجراء الحدود ونظم البلاد والنظر في مصالح المسلمين، نعم اتّفق إعطاء كلتا الوظيفتين

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

٣٣٤

لشخص واحد لأهليّته لهما إلّا أنّ الغالب اختلاف الوالي والقاضي )(١) .

ولقد أعطى الإمام عليّعليه‌السلام وهو إمام المسلمين على الإطلاق، والحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة مثلاً عمليّاً على هذا الاستقلال القضائيّ السياسيّ حيث مكّن القاضيّ ـ بفضل هذا السلوك الإسلاميّ ـ من محاكمة حاكم المسلمين وأحد رعاياه في محكمة واحدة وذلك في قضيّة اليهودي مع الإمام عليّعليه‌السلام :

فقد نقل المؤرّخون أنّهعليه‌السلام لـمّا وجد درعه عند يهودي من عامّة الناس فأقبل به إلى أحد القضاة وهو شريح ليخاصمه ويقاضيه، ولـمّا كان الرجلان أمام القاضي قال عليّ: « إنّها درعي ولم أبع ولم أهب ». فسأل القاضي الرجل اليهوديّ ما تقول ؟ فقال اليهوديّ: ما الدرع إلّا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله: هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك ؟ فضحك عليّ وقال « مالي بيّنة » فقضى شريح بالدرع لليهوديّ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه ! إلّا أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول :

إمّا أنا فأشهد أنّ هذا أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ثمّ قال: الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت(٢) .

* * *

٣. رعاية آداب القضاء وكيفيّته

إنّ الإسلام لم يكتف بالتشديد على أهميّة القضاء، واعتبار صفات معيّنة في القاضي، بل سنّ للعمل القضائيّ آداباً وسنناً أكّد على القاضي الأخذ بها في قضائه ليسلم من شوائب الظلم والحيف، ويكون أقرب إلى الإنصاف والحقّ والعدل، وقد لخّص فقهاؤنا هذه الآداب التي ذكرتها الأحاديث المتواترة، في كتبهم الفقهيّة نشير إليها.

__________________

(١) راجع منية الطالب ١: ٣٢٥.

(٢) بحار الأنوار ٤١: ٥٦، عليّ وحقوق الإنسان: ٨٧، ٨٨ لجورج جرداق مع اختلاف يسير.

٣٣٥

قال المحقّق في شرائع الإسلام كتاب القضاء :

في الآداب [ أي آداب القضاء ] وهي قسمان مستحبّة ومكروهة، فالمستحبّة :

١. أن يطلب من أهل ولايته من يسأله عمّا يحتاج إليه في اُمور بلده.

٢. أن يسكن عند وصوله في وسط البلد لترد الخصوم عليّه وروداً متساوياً.

٣. أن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه.

٤. أن يحضر من أهل العلم من يشهد حكمه فإن أخطأ نهوه لأنّ المصيب عندنا واحد ويخاوضهم [ أي يطرح عليهم القضايا ويتبادل معهم الرأي ] فيما يستبهم من المسائل النظريّة لتقع الفتوى مقرّرة، ولو أخطأ فأتلف لم يضمن وكان على بيت المال.

٥. وإذا تعدّى أحد الغريمين سنن الشرع عرّفه خطأه بالرفق.

والآداب المكروهة :

١. أن يتخذ حاجباً وقت القضاء.

٢. أن يقضي وهو غضبان.

٣. وكذا يكره مع كلّ وصف يساوي الغضب في شغل النفس كالجوع والعطش والغمّ والفرح والوجع، ومدافعة الأخبثين، وغلبة النعاس

٤. أن يستعمل الانقباض [ والتقطيب في الوجه ] المانع من الإعلان عن الحجّة، وكذا يكره إظهار اللين الذي لا يؤمن معه من جرأة الخصوم.

ثمّ ذكر مسائل من شأنها حصول الدقة في العمل القضائيّ كقوله :

إذا أفتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلّا شاهدان عدلان ولا يقتنع بالواحد عملاً بالمتّفق عليه.

وإذا اتخذ القاضي كاتباً وجب أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً بصيراً ليؤمن انخداعه، وإن كان فقيهاً كان حسناً.

٣٣٦

ويكره للحاكم أن يعنّت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان القويمة ؛ مثل أن يفرق بينهم لأنّ في ذلك غضّاً منهم، ويستحب ذلك في وضع الريبة.

ولا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد وهو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة أو يتعقّبه بل يكفّ عنه حتّى ينهي ما عنده.

ويكره أن يضيف القاضي أحد الخصمين دون صاحبه، لأنّ ذلك يكسب الخصم الضيف شيئاً من القوة.

ثمّ قال عن الرشوة: الرشوة حرام على آخذها، ويأثم الدافع إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل، ولو كان إلى حقّ لم يأثم ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له.

ثمّ ذكر المحقّق الحليّ اُموراً في وظائف القاضي فقال: في وظائف القاضي وهي سبع :

الاُولى: التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات والعدل في الحكم.

الثانية: لا يجوز أن يلقّن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه.

الثالثة: يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمّن من إيحاش الآخر.

الرابعة: إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء، ويستحبّ ترغيبهما في الصلح، فإن أبيا حكم بينهما وإن أشكل أخّر الحكم حتّى يتّضح ولا حدّ للتأخير إلّا الوضوح.

الخامسة: إذا ورد الخصوم [ في المحكمة ] مترتّبين بدأ بالأوّل فالأوّل فإن وردوا جميعاً قيل يقرع بينهم.

السادسة: إذا قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى، لم تسمع حتّى يجيب عن الدعوى وينهي الحكومة ثمّ يستأنف هو.

٣٣٧

السابعة: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى.

وهناك اُمور ذكرها على صعيد عمل القاضي جديرة بالمطالعة نترك ذكرها رعاية للإختصار.

وما ذكره هذا المحقّق وغيره من الفقهاء في آداب القضاء ووظائف القاضي ؛ خلاصة نصوص صريحة وردت في هذه المجالات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وقد اكتفينا بنقل ما ذكره الفقهاء في كتبهم تاركين نقل النصوص رعاية للإيجاز لكنّنا تيمّناً نذكر بعض هذه الأحاديث :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ابتُلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان »(١) .

وقال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لشريح: « لا تُشاور [ أو لا تسار ] أحداً في مجلسك، وإن غضبت فقم ولا تقضينّ وأنت غضبان »(٢) .

وقالعليه‌السلام : « من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النّظر وفي المجلس »(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتّى تسمع من الآخر فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء »(٤) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « الرشا في الحكم هو الكفر بالله »(٥) .

إلى غير ذلك من الأحاديث المتواترة على هذا الصعيد.

* * *

٤. وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة

إنّ الأمر الرابع الذي يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الحسّاس والخطير في المجتمع هو وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة للقضاء لكي يقضي القاضي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٦ ومثله في جامع الاُصول ١٠: ٥٤٩.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل ١٨: أبواب آداب القضاء.

٣٣٨

وفقها.

وقد وفّر الإسلام هذه البرامج والقوانين العادلة الصالحة للقاضي وذلك بالتعاليم التي زخر بها الكتاب والسنّة وسيرة الأئمّة الطاهرين، ودوّنها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة المفصّلة بدقّة وعناية وتفصيل. فإنّ القاضي يجد في هذه المصادر والبرامج أدقّ الحقوق والحدود وأعدلها، ولو أخذ العالم في مجال القضاء بهذه البرامج والحقوق والحدود لعمّت العدالة كلّ أرجاء الأرض، ولساد السلام والأمن ولاختفى الظلم والجور والشر.

ولقد أكّد الإسلام على القضاة أن يقضوا على ضوء الكتاب والسنّة، وحرّم عليهم القضاء وفق أهوائهم وآرائهم الخاصّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى البرامج الكليّة في صعيد العمل القضائيّ.

وأمّا تمييز الحق عن الباطل والمحق عن المبطل والمظلوم عن الظالم ومن له الحقّ ومن عليه، فقد اعتمد الإسلام في تشخيصه وتمييزه على أوثق السبل وأكثر الوسائل اطمئناناً، وهو الاستشهاد بالبيّنات والأيمان فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما أقضي بينكُم بالبّينات والأيمان »(١) .

نعم إنّ الاعتماد على هذا الأصل في إثبات الحقّ لا يمنع عن الاعتماد على غيرهما ممّا يفيد للقاضي علماً عاديّاً، ولأجل ذلمك قال الفقهاء: ويجوز للقاضي العمل بعلمه.

قال صاحب شرائع الإسلام: « الإمامعليه‌السلام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي حقوق الله سبحانه على قولين أصحّهما القضاء »(٢) .

الشهادة والشهود

ولقد اشترط الإسلام في الشهود شروطاً من شأنها أن تمنعهم من شهادة الزور

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: أبواب كيفيّة الحكم، الإيمان جمع اليمين أي الحلف والقسم.

(٢) شرائع الإسلام في آداب القضاء.

٣٣٩

والإدلاء بما هو باطل وهذه هي الشروط :

١. البلوغ.

٢. كمال العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. إرتفاع التهمة فلا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً لنفسه.

وإليك نبذة عن الأحاديث في أهميّة وخطورة الشهادة وشروط الشاهد، فقد روي حول أهميّة الشهادة وخطورتها وعظيم مسؤوليّتها أحاديث تفوق الحصر وكلّها تشدّد على أمر الشهادة بالإجماع، ومن ذلك ما عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال :

« من كتم شهادةً، أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر، وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه.

ومن شهد شهادةً حقّ ليحيي بها حقّ امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه »(١) .

ثمّ قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام : « ألا ترى أنّ الله عزّ وجلّ يقولُ:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) »(٢) .

وما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : « شاهد الزور لا تزولُ قدماهُ حتّى تجبُ لهُ النّارُ »(٣) .

وما روي عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من شهد شهادة زُور على أحد من النّاس عُلّق بلسانه مع المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار، ومن حبس عن أخيه المسلم شيئاً من

__________________

(١ و ٢ و ٣) وسائل الشيعة ١٨: أبواب الشهادات.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627