مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228153 / تحميل: 6444
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

فإنّ يد الله على الجماعة وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشاذّ من النّاس للشّيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب ألا من دعا إلى هذا الشّعار فاقتلوه، ولو كان تحت عمامتي هذه »(١) .

وقالعليه‌السلام في حديث آخر: « من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الإمام جاء إلى الله عزّ وجلّ أجذم »(٢) .

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام : « من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه »(٣) .

إلى غير ذلك من النصوص الإسلاميّة الداعية إلى رصّ الصفوف، وتعميق الوحدة، وجمع الكلمة، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يمكن أن يتحقّق إلّا بوجود دولة وجهاز يؤلّف بين الآراء ويجمع الكلمة، ويوفّق بين المصالح، ويحافظ على العلاقات، ويعيد الشاذّ إلى رشده والخارج إلى صفّه، إذ لولا ذلك الجهاز( الدولة ) لذهب كلُّ فريق مذهباً، واتّخذت كلُّ جماعة طريقاً، وتمزّق المجتمع أشتاتاً، وعادت الوحدة اختلافاً وتفرقة.

وصفوة القول: أنّ الدولة عامل الوحدة ورمز التآلف، بقدر ما هي طاردة للفرقة، وما نعة عن التخالف.

الثانية: أنّ ملاحظة ذات القوانين الإسلاميّة في مختلف المجالات الحقوقيّة والاجتماعيّة والماليّة تفيد أنّ طبيعتها تقتضي وجود الدولة.

فالإسلام الذي دعا إلى الجهاد والدفاع، ودعا إلى إجراء الحدود والعقوبات على العصاة والمجرمين ودعا إلى انصاف المظلوم، وردع الظالم، وسنّ نظاماً خاصاً وواسعاً للمال.

إنّ الدعوة إلى كلّ هذه الأحكام تدلُّ ـ بدلالة التزاميّة ـ على أنّ الله قد فرض وجود دولةً قويةً تقوم بإجرائها في المجتمع.

إنّ الإسلام ليس مجرد أدعية خاوية أو طقوس ومراسيم فرديّة يقوم بها كلُّ فرد في

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ١٢٣ طبعة عبده.

(٢) الكافي ١: ٤٠٥ كتاب الحجة.

(٣) الكافي ١: ٤٠٥ كتاب الحجة.

٢١

بيته ومعبده، بل هو نظام سياسيّ وماليّ وحقوقيّ واجتماعيّ واقتصاديّ واسع وشامل، وما ورد في هذه المجالات من قوانين وأحكام تدلُّ بصميم ذاتها على أنّ مشرّعها افترض وجود حاكم يقوم بتنفيذها ورعايتها. لأنّه ليس من المعقول سنُّ مثل هذه القوانين دون وجود قوة مجرية وسلطة تنفيذيّة تتعهد إجراءها وتتولّى تطبيقها، مع العلم بأنّ سنّ القوانين وحده لا يكفي في تنظيم المجتمعات.

ولقد استدلّ السيد المرتضى على لزوم الحكومة ببيان لطيف هذا حاصله: « إنّ بقاء الخلق يتوقّف على اُمور منها الأمر والنهي. قال الله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) ( الأنفال: ٢٤ )، وفسّر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولقوله سبحانه:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ) ( البقرة: ١٧٩ )، فصار الأمر بالمعروف هنا المتمثّل في الاقتصاص من القاتل مبدءاً للحياة.

فإذا كان الأمر والنهي كما توحي هذه الآيات مبدءاً للحياة، وجب أن يكون للناس إمام يقوم بأمرهم ونهيهم، ويقيم فيهم الحدود، ويجاهد فيهم العدو، ويقسّم الغنائم، ويفرض الفرائض ـ أبواب ما فيه صلاحهم ـ ويحذّرهم عمّا فيه مضارّهم ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب بقاء الخلق فوجبا وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع أحد، ولفسد التدبير، وكان ذلك سبباً لهلاك العباد »(١) .

هذا هو ما تفيده النظرة إلى الأحكام والتشريعات الإسلاميّة التي لم تنزّل إلّا للتنفيذ، ولم تشرّع إلّا للتطبيق.

أمّا النصوص الإسلاميّة المصرّحة بضرورة قيام الدولة ووجودها فهي أكثر من أن تحصى، وقد مرّ في الجزء الأوّل قسم منها ونشير هنا إلى ما لم نشر إليه هناك :

قال الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام في حديث طويل حول ضرورة وجود

__________________

(١) المحكم والمتشابه للسيد المرتضى: ٥٠.

٢٢

الحكومة في الحياة البشريّة: « إنّا لا نجد فرقةً من الفرق ولا ملّةً من الملل بقوا وعاشوا إلّا بقيّم ورئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدّين والدُّنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق لما يعلم أنّه لابدّ لهم منه، ولاقوام لهم إلّا به فيقاتلون به عدوّهم ويقسّمون به فيئهم، ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم »(١) .

وقد بلغت أهمية الدولة والحكومة في نظر الإسلام حداً جعلت هي السبب الأساسيُّ في صلاح أو فساد الاُمّة، حيث قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي، وإذا فسدا فسدت امّتي ».

قيل: يا رسول الله ومن هم ؟

قال: « الفقهاء والامراء »(٢) .

إنّ ضرورة وجود الدولة والحكومة في الحياة البشريّة الاجتماعيّة بديهيّة جداً عقلاً وشرعاً وتاريخيّاً بحيث لا تحتاج إلى سرد المزيد من الأدلة والاستشهادات ولذلك نكتفي بهذا القدر.

* * *

ولأجل هذه الأهمية التي تحظى بها الحكومة الإسلاميّة يتعيّن على علماء الإسلام أن يبذلوا غاية الجهد في توضيح معالمها ومناهجها وخطوطها وخصائصها في جميع العصور والعهود.

وسوف نذكر أنّ هذه الناحية الحسّاسة من حياتنا الاجتماعيّة قد أهملت في أكثر القرون كتابةً وتحقيقاً ودراسةً.

نماذج من الوظائف الحكوميّة في الأحاديث

لم يكن وجود( الحكومة ) ووظائفها في النظام الإسلاميّ بدعاً يمكن أن يدّعيه

__________________

(١) علل الشرائع: ٢٥٣، الحديث مفصّل وجدير بالمطالعة.

(٢) تحف العقول: ٤٢.

٢٣

أحد بدون دليل في القرآن أو السُّنّة.

فمن يطالع الأحاديث والأخبار الواردة عن النبيّ والأئمّة الطاهرين يجد سلسلةً من الوظائف المخوّلة إلى ( الإمام ) وهو يدلُّ بالدلالة الإلتزاميّة على وجود الحكومة في النظام الإسلاميّ، وأنّ الأئمّة كانوا يعتبرون وجود الإمام والحاكم أمراً مفروضاً ولذلك كانوا يعتبرون هذه الاُمور من وظائف الحاكم.

وبالتالي، أنّ ما يمكن أن يستظهر من خلال الروايات الكثيرة لزوم وجود ( دولة ) تقوم بالأعمال الاجتماعيّة الكثيرة التي لم يكلّف بها في الإسلام مسؤول خاص من عامّة الناس، بل جعل أمر إجرائها والقيام بها على عاتق الإمام ( أو الحاكم ).

وذلك يدل على لزوم وجود جهاز تنفيذيّ يقوم بهذه المسؤوليات والأعمال الاجتماعيّة الحيويّة، ويدلُّ على أنّ الحكومة قد كانت مفروضة الوجود في نظرهم.

واليك نماذج من الأحاديث التي توكل بعض الأعمال إلى ( الإمام ) والحاكم اللّذين يعدّان رمزاً للحكومة. وما ذكرناه في هذه الصحائف قليل من كثير، ولم نأت بالجميع ابتغاءً للإختصار، ويمكن للقارئ الكريم أن يجد أكثر ما ذكرناه إذا تصفّح المجاميع الحديثيّة لا سيّما الأجزاء العشرة الأخيرة من وسائل الشيعة :

* * *

١. يقول الإمام الصادق في الأنفال: « وما أخذ بالسّيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذّي يرى كما صنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بخيبر »(١) .

٢. وفي الزكاة لـمّا سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عمّا يعطى المصّدّق ( أي الذي يجبي الصّدقات ) قال: « ما يرى الإمام ولا يقدّر له شيء »(٢) .

٣. وفي تقسيم الزكاة قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « والغارمين يجب على الإمام أن يقضي عنهم ويفكّهم من مال الصدّقات ».

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦: ١٢٩.

(٢) وسائل الشيعة ٦: ١٤٤.

٢٤

« وفي سبيل الله قوم يخرجون في الجّهاد ليس عندهم ما يتقوُّون به، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجُّون به أو في جميع سبل الخير فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصّدقات حتّى يقووا على الحجّ والجهاد، وابن السبيل أبناء الطريق يكونون في الأسفار في طاعة الله فيقطع عليهم ويذهب مالهم فعلى الإمام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصّدقات »(١) .

٤. وفي احياء الأراضي الميّتة قال الإمام أمير المؤمنين: « من أحيا أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤدّيه إلى الإمام في حال الهدنة فإذا ظهر القائم فليوطّن نفسه على أن تؤخذ منه »(٢) .

٥. سئل الباقرعليه‌السلام عن المفطر في رمضان بلا عذر مستحلاًّ، فقالعليه‌السلام : « يسأل هل عليك من افطارك إثم ؟ فإن قال: لا، فإنّ على الإمام أن يقتله، وإن قال: نعم فإنّ على الإمام أن ينهكه ضرباً »(٣) .

٦. وفي رؤية الهلال قال الإمام الباقرعليه‌السلام : « إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشّمس، وإن شهدا بعد زوال الشّمس، أمر الإمام بافطار ذلك اليوم وأخّر الصلاة ( أي صلاة العيد ) إلى الغد فصلّى بهم »(٤) .

٧. وفي أمر إقامة الحجّ قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لو عطّل النّاس الحجّ لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحجّ إن شاؤوا وإن أبوا فإنّ هذا البيت إنّما وضع للحجّ »(٥) .

٨. وفي ادارة اُمور الحجّ روي أنّه لـمّا حجّ إسماعيل بن عليّ بالنّاس سنة أربعين ومائة ( أي كان أمير الحجّ ) فسقط أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام عن بغلته فوقف عليه إسماعيل ( أي توقّف ) فقال له الصادقعليه‌السلام : « سر فإنّ الإمام لا يقف »(٦) .

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ٦: ١٤٥ ـ ٣٨٢.

(٣ و ٤) وسائل الشيعة ٧: ١٧٨ ـ ١٩٩.

(٥ و ٦) وسائل الشيعة ٨: ٨٥ ـ ٢٩٠.

٢٥

٩. ومثله ما روي عن علي بن يقطين قال: رأيت أبا عبد الله ( الصادق )عليه‌السلام وقد حجّ فوقف الموقف فلمّا دفع الناس منصرفين سقط أبو عبد اللهعليه‌السلام عن بغلة كان عليها فعرفه الوالي الذي وقف بالناس تلك السّنة وهي سنة أربعين ومائة فوقف على أبي عبد اللهعليه‌السلام [ أي توقّف لأجله ] فقال له أبو عبد اللهعليه‌السلام : « لا تقف فإنّ الإمام إذا دفع بالنّاس لم يكن له أن يقف »(١) .

وكان الذي وقف بالناس في تلك السنة اسماعيل بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس.

١٠. قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أداء دين الغريم: « ما من غريم ذهب إلى وال من ولاة المسلمين واستبان للوالي عسرته إلّا برء هذا المعسر من دينه وصار دينه على والي المسلمين فيما يديه من أموال المسلمين »(٢) .

١١. قال الإمام الصادقعليه‌السلام في ذلك أيضاً: « إنّ الإمام يقضي عن المؤمنين الدّيون ما خلا مهور النّساء »(٣) .

١٢. قال الإمام الكاظمعليه‌السلام في ذلك أيضاً: « من طلب هذا الرّزق من حلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله، فإن غلب عليه فليستدن على الله ورسوله ما يقوت به عياله، فإن مات ولم يقض كان على الإمام قضاؤه، فإن لم يقض كان عليه وزره. إنّ الله تبارك وتعالى يقول:( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ـ إلى قوله ـوَالْغَارِمِينَ ) ( التوبة: ٦٠ ) فهو فقير مسكين مغرم »(٤) .

١٣. قال الإمام الرضاعليه‌السلام في ذلك أيضا: « المغرم إذا تديّن أو استدان في حقّ أجّل سنةً فإن اتّسع، وإلاّ قضى عنه الإمام من بيت المال »(٥) .

١٤. قال الإمام عليّعليه‌السلام في مسؤولية الحاكم اتجاه ثقافة الاُمّة: « على الإمام

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨: ٢٩٠.

(٢) مستدرك الوسائل ٢: ٤٩١.

(٣) وسائل الشيعة ١٥: ٢٢.

(٤) قرب الإسناد: ١٧٩.

(٥) الكافي ١: ٤٠٧ ونقله العيّاشي في تفسيره ١: ١٥٥.

٢٦

أن يعلّم أهل ولايته حدود الإسلام والإيمان »(١) .

١٥. قال الإمام عليّعليه‌السلام من كتاب له إلى قثم بن العبّاس وهو عامله على مكّة: « واجلس لهم العصرين فافت المستفتي، وعلّم الجاهل وذاكر العالم »(٢) .

١٦. قال الإمام علّيعليه‌السلام في مسؤوليّة الحاكم اتجاه أصحاب الفكر والمهن: « يجب على الإمام أن يحبس الفسّاق من العلماء والجهّال من الأطبّاء والمفاليس من الأكرياء »(٣) .

١٧. قال الإمام الباقرعليه‌السلام في مسؤولية الحاكم اتّجاه الاسر والعوائل: « من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها، ويطعمها ما يقيم صلبها كان حقاً على الإمام أن يفرّق بينهما »(٤) .

١٨. قال الإمام الصادقعليه‌السلام في مسؤوليّة الحاكم في أمر المساجين: « على الإمام أن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة ويوم العيد إلى العيد فيرسل معهم، فإذا قضوا الصلاة والعيد ردّهم إلى السّجن »(٥) .

١٩. قال الإمام الصادقعليه‌السلام أيضاً في مسؤوليات الحكام اتّجاه الفسّاق والمنحرفين خلقيّاً: « الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره، لأنّه أمين الله في خلقه وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه، ويمضي ويدعه ».

قلت: وكيف ذلك ؟

قال: « لأنّ الحقّ إذا كان لله، فالواجب على الإمام إقامته، وإذا كان للنّاس فهو للنّاس »(٦) .

٢٠. في موقف الإمام اتجاه المحارب، قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « إذا كانت

__________________

(١) غرر الحكم: ٢١٥.

(٢) نهج البلاغة قسم الكتب الرقم ٦٧.

(٣) وسائل الشيعة ١٨: ٢٢١.

(٤) وسائل الشيعة ١٥: ٢٢٣.

(٥) وسائل الشيعة ١٨: ٢٢١ ـ ٢٤٤.

(٦) وسائل الشيعة ١٨: ٢٢١ ـ ٢٤٤.

٢٧

الحرب قائمةً ولم تضع أوزارها ولم يثخن أهلها فكلُّ أسير أخذ في تلك الحال فإنّ الإمام فيه بالخيار إن شاء وإن »(١) .

٢١. وفي أمر القصاص قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « إذا اجتمعت العدّة على قتل رجل واحد حكم الوالي أن يقتل أيُّهم شاؤوا »(٢) .

٢٢. وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : « من قتله القصاص بأمر الإمام فلا ديّة له في قتل ولا جراحة »(٣) .

٢٣. وقال الإمام الباقرعليه‌السلام في رجل قتل مجنوناً كان يقصد قتل الرجل: « أرى أن لا يقتل به ولا يغرّم ديّته وتكون ديّته على الإمام ولا يبطل دمه »(٤) .

٢٤. وقال الإمام الباقرعليه‌السلام حول أعمى فقأ عين صحيح: « إنّ عمد الأعمى مثل الخطأ، هذا فيه الديّة في ماله، فإن لم يكن له مال فالدّية على الإمام ولا يبطل حقُّ امرئ مسلم »(٥) .

٢٥. وقال الإمام الباقرعليه‌السلام في رجل جرح رجلاً في أوّل النهار وجرح آخر في آخر النّهار: « هو بينهما ما لم يحكم الوالي في المجروح الأوّل الخ »(٦) .

٢٦. وقال في حكم من قتل وعليه دين وليس له مال: « إن قتل عمداً قتل قاتله وأدّى عنه الإمام الدّين من سهم الغارمين »(٧) .

٢٧. وقال الإمام الصادقعليه‌السلام في الرجل يقتل وليس له وليّ إلّا الإمام: « إنّه ليس للإمام أن يعفو، له أن يقتل أو يأخذ الديّة »(٨) .

٢٨. وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في قتيل في زحام ونحوه لا يدرى من قتله: « إن كان عرف له أولياء يطلبون ديّته أعطوا ديّته من بيت مال المسلمين ولا يبطل دم امرئ مسلم لأنّ ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته على الإمام »(٩) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٥٣.

(٢ ـ ٩) وسائل الشيعة ١٩: ٣١ ـ ٤٧ ـ ٥٢ ـ ٦٥ ـ ٧٧ ـ ٩٢ ـ ٩٣ ـ ١٠٩.

٢٨

٢٩. وقال الإمام عليعليه‌السلام فيمن لم يكن له من يحلف معه ولم يوثق به على ما ذهب من بصره وأبى أن يحلف: « الوالي يستعين في ذلك بالسّؤال والنّظر والتثبُّت في القصاص والحدود والقود »(١) .

٣٠. وقال الإمام الصادقعليه‌السلام في ميّت قطع رأسه قال: « عليه الديّة »، فقيل فمن يأخذ ديّته ؟ قال: « الإمام هذا لله »(٢) .

٣١. وقالعليه‌السلام في القاتل عمداً إذا هرب: « إن كان له مال أخذت الديّة من ماله وإلاّ فمن الأقرب فالأقرب، وإن لم يكن له قرابة أدّاه الإمام، فإنّه لا يبطل دم امرئ مسلم ».

وفي رواية اخرى: « ثمّ للوالي بعد أدبه وحبسه »(٣) .

٣٢. وقال الصادقعليه‌السلام في من قتل خطأً إذا مات قبل دفع الديّة وليس له عاقلة: « إن لم يكن له عاقلة ؛ فعلى الوالي من بيت المال »(٤) .

هذا والملحوظ ؛ أنّ بعض الروايات وإن كان ظاهراً في الإمام المعصوم إلّا أنّ كثيراً من هذه الروايات ظاهر في مطلق القائم بالإعمال المذكورة سواء أكان معصوماً أم غير معصوم، وهو يعني مطلق الحاكم الإسلاميّ.

ويدلُّ على ذلك رواية ٨ و ٩ حيث يسمّي فيهما الإمام الصادقعليه‌السلام أمير الحاجّ والوالي بالإمام ممّا يدلّ على أنّ لفظ الإمام الموجود في هذه الرواية وأشباهها يراد به مطلق الحاكم الإسلاميّ ووليّ أمر المسلمين وليس الإمام المعصوم المصطلح في علم الكلام.

ويؤيّد هذا الاتّجاه ما قاله صاحب وسائل الشيعة في تعليقه على إحدى الروايات المشتملة على لفظ الإمام كالروايات المذكورة هنا: « الإمام العدل أعمُّ من المعصوم »(٥) .

وصفوة القول، أنّ الناظر في هذه الروايات يجد أنّ هناك أحكاماً اجتماعيّةً

__________________

(١ ـ ٥) وسائل الشيعة ١٩: ٢٢٠ ـ ٢٤٨ ـ ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ـ ٤٠٢.

٢٩

اقتصاديّةً أخلاقيّةً وغيرها، جعلها الإسلام على عاتق الإمام أو الوالي أو من شابههما وذلك يفيد أنّ ماهيّة هذه الأحكام ماهيّة خاصّة يتوقّف تحقيقها في الخارج على وجود سلطة وجهاز يجريها في المجتمع، وقد عبّر في هذه الروايات ـ عن تلك السلطة والجهاز ـ بالإمام والوالي أو السلطان أي صاحب السلطة، وذلك يدلُّ ـ بالدلالة الإلتزاميّة ـ على أنّ هذه أحكام سلطانيّة، وواجبات حكوميّة لا تنفكُّ عن وجود السلطة والدولة وقد فرضها الأئمّة: مسلّمة الوجود في الواقع الخارجي.

وإنمّا أدرجنا لك نموذجاً من هذه الأحاديث لإثبات أمر واحد هو، أنّ الحكومة الإسلاميّة أمر مسلّم الوجود وإيجادها فريضة يتوقّف عليها الكثير من الأحكام الدينيّة، ومع ذلك كيف يسمح البعض لأنفسهم أن يقولوا: إنّ الإسلام يمكن أن يطبّق في المجتمع دون حاجة إلى حكومة قويّة، وسلطة سياسيّة قادرة.

قال الإمام الخميني قائد الثورة الإسلاميّة في محاضراته عن الحكومة الإسلاميّة: « والحقُّ أنّ القوانين والأنظمة الاجتماعيّة بحاجة إلى منفّذ. في كلّ دول العالم لا ينفع التشريع وحده، ولا يضمن سعادة البشر، بل ينبغي أن تعقب سلطة التشريع سلطة التنفيذ فهي وحدها التي تنيل الناس ثمرات التشريع العادل.

لهذا قرّر الإسلام إيجاد سلطة التنفيذ إلى جانب سلطة التشريع فجعل للأمر وليّاً للتنفيذ إلى جانب تصدّيه للتعليم والنشر والبيان »(١) .

وصفوة القول، أنّ ضرورة وجود الحكومة في الحياة الاجتماعيّة ممّا دلّ عليه العقل والكتاب والسُّنّة وسيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة بما لا يقبل جدلاً، ولذلك نكتفي بما سردناه لك وفيه كفاية.

__________________

(١) الحكومة الإسلاميّة للإمام الخمينيّ: ٢٤.

٣٠

٢

لماذا يرفض البعض وجود الحكومة ؟

« إنّ المنكرين لضرورة وجود الدولة في الحياة الاجتماعيّة على طائفتين :

الاولى: من يقول بعدمها، ويعلّل ذلك بفلسفة ونظرية معتبرة عنده وهم ماركس وأتباعه.

الثانية: من ينكر ذلك لمجرّد عوامل نفسيّة وهم على فرق ثلاث ».

رغم أنّ ضرورة قيام الدولة وايجادها لم تكن موضع ترديد وشكّ ـ كما أثبتت البحوث المتقدّمة ـ لما فيها من ضمان لسعادة الحياة الانسانيّة وتقدم الحضارة وديمومتها واستقامتها، فإنّ هناك شرذمةً قليلةً من الناس تستوحش من قيام الدولة وتتوجّس خيفةً من وجودها وتنفي ضرورتها وربّما يصبُّ بعضهم هذا المذهب الباطل في قالب منطقيّ فيقول: إنّ وجود الحكومة ضرورة ملحّة للبشر لفترة خاصة من الزمان فقط، وليس دائماً.

وينقسم أصحاب هذا الرأي إلى طوائف أربع :

الطائفة الاُولى: هم ماركس ومؤيّدوه، فهم يعتقدون بضرورة وجود الدولة مادام المجتمع البشريّ يعاني من « الصراع الطبقي » ولكنّه بعد استقرار الشيوعيّة وزوال جميع

٣١

الفوارق والمشكلات الاقتصاديّة تنتفي الحاجة إلى الدولة.

وقد مضت الإجابة الكاملة على هذه النظرية الخاطئة في الجزء الأوّل من كتابنا.

فهناك قلنا: بأنّ الدوافع الحقيقية إلى وجود الدولة لا تنحصر في المسائل الماديّة، والمشاكل الاقتصاديّة، ليزول الاختلاف والتصارع بمجرّد محو الفوارق الطبقيّة، وزوال الصراع الطبقي وتنتفي الحاجة إلى الدولة. بل هناك دوافع أخلاقيّة وغرائزيّة إلى جانب المسائل الاقتصاديّة ـ سبق شرحها ـ(١) ولأجلها لامناص للمجتمع ـ كيفما كان ـ من تأسيس الدولة وإقامتها.

الطائفة الثانية: هم أصحاب السوابق السوداء الذين تضمن الأوضاع الفوضويّة وغياب السلطة الحكومية مصالحهم الخاصّة، ويخشون طائلة الحساب والعقاب والملاحقة والمؤاخذة، ولذلك نجدهم يعارضون وجود الدولة ليتسنّى لهم المضيُّ في ما يريدون دون محاسب أو رقيب، ودون شيء يعرّض مصالحهم للخطر، ويسدّ عليهم طريق النهب والسلب !!

الطائفة الثالثة: وهم الذين لم يعهدوا من الحكومات إلّا العنف والجور والاستبداد وخدمة الأقوياء، وسحق المستضعفين وهضم حقوقهم، وامتصاص دمائهم، ونهب خيراتهم وهدر كرامتهم. فهم بمجرد سماع لاسم الدولة يتذكرون فوراً تلك الحكومات الجائرة وسجونها المخيفة، وتعذيبها الوحشيّ الذي كان ينتظر أي معارض أو معترض ولذلك فهم ينفرون من سماعهم اسم الدولة، ويخشون من قيامها أشدّ خشيةً لما يلازمها من صور الاستبداد والعنف والظلم !!

غير أنّ هذا الفريق لو تسنّى له أن يقف على صيغة ( الحكومة الإسلاميّة ) بخصائصها المطلوبة منها، وما تتّسم به من إنسانيّة ورحمة وعدل، لما اتخذ هذا الموقف السلبيّ من الحكومة التي يدعو الإسلام إلى انشائها وايجادها. بل لاستقبلها برحابة صدر، ولسعى إلى إيجادها وإقامتها سعياً.

__________________

(١) راجع الجزء الاول من كتابنا: ٥٧٢.

٣٢

الطائفة الرابعة: هم الذين يبتغون الحرّيات الفرديّة مطلقةً لا تحدُّها حدود، أو يتصورون أنّ قيام الدولة والحريّة الفرديّة أمران متناقضان لا يجتمعان فالدولة تزاحم هذه الحريات وتحدّها على الإطلاق.

والحقُّ أنّ هذا الفريق لم يفرّق بين الحرية اللائقة بالإنسان، اللازمة له، والحريّة السائدة في عالم الغاب.

فالحريّة السائدة في الغاب، تعني عدم التقيّد بأيّة سنّة معقولة، وأي قانون يحفظ الحقوق وأيّ حدود تحفظ الكرامات فهناك تفعل الحيوانات والوحوش ما تشاء، بمجرّد أن تكون ذات قوّة غالبة، وشهوة عارمة ومخالب أشدّ فتكاً وبأساً.

وأمّا الحرية اللائقة بالانسان الجديرة بشأنه ومكانته، فهي التي تكون ضمن قوانين وسنن وحدود وموازين معقولة تضمن نموّ القوى البشريّة، وتكامل المواهب الإنسانيّة وسيرها في الاتجاه الصحيح، وبلوغها إلى كمالها الممكن، ولا يتأتّى ذلك إلا في إطار حريّة معقولة محسوبة.

وبعبارة اخرى: أنّ الحريّة الصحيحة اللائقة بالإنسان إنّما هي توفير الفرص المناسبة لنموّ الاستعدادات والقابليّات الانسانيّة في الفرد والمجتمع، لانتقالها من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعليّة، وبالتالي رشدها وبلوغها إلى درجة الكمال الممكن.

وحيث إنّ هذا النمو والبلوغ لا يمكن أن يتمّ في جو من الفوضى، بل لابدّ من شروط وحدود، تكون القوانين والسنن الصالحة هي تلك الشروط التي تضمن ذلك البلوغ، لا أن تقيّده وتمنع من تحقُّقه كما يتوهّم.

وحول الحريّة المعقولة الصحيحة يقول الإمام الصادقعليه‌السلام لإسماعيل البصريّ: « تقعدون في المكان فتحدّثون وتقولون ما شئتم، وتتبرّؤون ممّن شئتم، وتولّون من شئتم ؟ ».

قال إسماعيل: نعم.

٣٣

قال الإمامعليه‌السلام : « وهل العيش إلا هكذا »(١) .

إنّ الحريّة الصحيحة في نظر الإمامعليه‌السلام هو أن يستطيع الإنسان أن يختار عقيدته وولاءه بنفسه بعد أن يتبيّن له الرشد من الغيّ، ليستطيع في ظلّ الاختيار الإراديّ الصحيح، أن يسير في طريق التكامل الإنسانيّ المطلوب.

إنّ الحكومة النابعة من إرادة الشعب فضلاً عن الحكومة التي يدعو إليها الإسلام، لا تهدف إلّا حراسة مثل هذه « الحريّة المعقولة » التي تساعد المواهب والقابليات على التفتُّح والنموّ والتكامل، فلا مخالفة ولا منع ولا تحديد.

هذا مضافاً إلى أنّ الحاكم في نظام الحكم الإسلاميّ بما أنّه من جانب الله سبحانه، لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر الله به أو نهى عنه، وهو تعالى لا ينهي عن شيء ولا يأمر إلّا بما فيه كمال الإنسان وارتقاؤه وتفتُّح مواهبه ونموّها، ودفع قابلياته واستعداداته إلى مرحلة الفعليّة والتحقّق، والنضج.

وإليك شطراً من النصوص الإسلاميّة التي ترسم لنا بعض ملامح الحكومة التي ينشد الإسلام إيجادها وإقامتها، آخذين هذه النصوص من القرآن الكريم والأحاديث الإسلاميّة الصحيحة.

ملامح الحكومة الإسلاميّة حسب النصوص :

إنّ الحاكم الإسلاميّ ـ في منطق القرآن وحسب تشريعه ـ ليس مجرّد من يأخذ بزمام الجماعة كيفما كان، ويأمر وينهى بما تشتهيه نفسه، ويحكم على الناس لمجرّد السلطة وشهوة الحكم، بل هو ذو مسؤوليّة كبيرة وثقيلة أشار إليها القرآن الكريم بقوله :

( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج: ٤١ ).

__________________

(١) الكافي ٨: ٢٢٩.

٣٤

فالمسؤوليّات الملقاة على عاتق الحاكم في الإسلام عبارة عن :

١. إقامة الصلاة، وتوثيق عرى المجتمع الإسلاميّ بربّه الذي فيه كلّ الخير.

٢. إيتاء الزكاة الذي فيه تنظيم اقتصاده ومعاشه.

٣. الأمر بالمعروف، وإشاعة الخير والصلاح في المجتمع.

٤. النهي عن المنكر، ومكافحة كلّ ألوان الفساد والانحراف، والظلم والزور.

ومن المعلوم، أنّ حكومةً كهذه، توفّر للاّئقين والصالحين وذوي القابليات والمواهب فرصاً مناسبةً لإبراز مواهبهم، وتهيّئ الظروف المساعدة لتنمية استعداداتهم العلميّة والفكريّة، في جميع المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وتدفعها في طريق التقدُّم والازدهار.

فإذا كانت هذه الحكومة التي ينشدها الإسلام ويدعو النّاس كافّة إلى إقامتها فأيُّ شيء يبرّر الخوف والاستيحاش منها ؟ ولماذا يخشى البعض من إقامتها وهي أجدر الحكومات بإسعاد الشعوب، وإصلاح أمرها، وضمان مصالحها، وحماية حقوقها وكرامتها على أحسن وجه ؟

وسيوافيك بعض الآيات الاخرى في المباحث الآتية.

وأمّا ما يصور لنا ملامح الحكومة الإسلاميّة من الأخبار والأحاديث، فقول الرسول الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال :

ورع يحجزه عن معاصي الله.

وحلم يملك به غضبه

وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرّحيم »(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ردّ من قال: بئس الشّيء الإمارة، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم الشّيء الإمارة لمن أخذها بحلّها وحقّها، وبئس الشّيء الامارة لمن أخذها بغير حقّها وحلّها تكون عليه

__________________

(١) الكافي ١: ٤٠٧.

٣٥

يوم القيامة حسرةً وندامةً »(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في جواب من سأله عن الإمارة، فقال: « إنّها أمانة وإنّها يوم القيامة حسرةً وندامةً، إلّا من أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها »(٢) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لعمل الإمام العادل في رعيّته يوماً واحداً أفضل من عبادة العابد في أهله مائة عام »(٣) .

ولمّا دخل « سعد » على « سلمان » عندما كان حاكماً في المدائن، يعوده في مرضه، قال له سعد: « اعهد علينا أبا عبد الله عهداً نأخد به ».

فقال: « اذكر الله عند همّك إذا هممت، وعند يدك إذا قسمت، وعند حكمك إذا حكمت »(٤) .

وهذه صورة عن التربية الإسلامية التي ربّى بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه وأتباعه. فهو ربّاهم على، أن يذكروا الله عند العزم على كلّ شيء، وعند القسمة، والحكم.

ثمّ هاهو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتحدّث عن مسؤولية الحاكم، اتّجاه الاُمّة الإسلاميّة التي يأخذ بزمام حكمها فيقول: « كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته.

فالأمير الذي على النّاس، راع عليهم وهو مسؤول عنهم.

والرّجل، راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم.

وامرأة الرّجل، راعية على بيت زوجها، وولدها وهي مسؤولة عنهم

ألا فكلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته »(٥) .

كما يمكن أن تستجلى ملامح الحكومة الإسلاميّة وصفات الحاكم الإسلاميّ من قول الإمام عليّعليه‌السلام الذي يرسم لنا ما على الحاكم الإسلاميّ، اتّجاه الشعب، وما

__________________

(١) كتاب الأموال للحافظ أبي عبيد سلام بن القاسم المتوفّى عام ٢٢٥ ه‍: ١٠.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الأموال: ١٠ ـ ١٣ ـ ١٣ ـ ١.

٣٦

على الشعب، اتّجاه الحاكم إذ يقول ـ في وضوح كامل ـ :

« وأعظم ما افترض الله من تلك الحقوق، حقُّ الوالي على الرّعيّة وحقُّ الرّعيّة على الوالي، فريضةً فرض الله سبحانه، لكلّ على كلّ، فجعلها نظاماً لالفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرّعيّة إلا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرّعيّة.

فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إليها حقّها عزّ الحقُّ بينهم، وقامت مناهج الدّين، واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السُّنن، فصلح بذلك الزّمان، وطمع في بقاء الدّولة ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرّعيّة واليها أو أجحف الوالي برعيّته اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدّين، وتركت محاجُّ السُّنن، فعمل بالهوى، وعطّلت الأحكام وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذلُّ الأبرار، وتعزُّ الأشرار، وتعظّم تبعات الله عند العباد »(١) .

ثمّ إنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام يصرّح في هذه الخطبة ذاتها بالحقوق المشتركة والمسؤوليات المتقابلة إذ يقول: « أمّا بعد، فقد جعل الله لي عليكم حقّاً بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم ».

ثمّ يشير الإمامعليه‌السلام في هذه الخطبة إلى واحدة من أنصع القوانين الإسلاميّة، وهو قانون التسوية بين جميع أفراد الاُمّة الإسلاميّة حكّاماً ومحكومين، رؤوساء ومرؤوسين، وزراء ومستوزرين، وبذلك ينسف فكرة: أنا القانون، أو أنا فوق القانون، فيقولعليه‌السلام : « الحقُّ لا يجري لأحد إلّا جرى عليه، ولا يجري عليه إلّا جرى له ».

وعلى هذا، فلا تمييز ولا تفرقة بين الحاكم والمحكوم بل الجميع أمام القوانين الإسلاميّة المدنيّة والجزائيّة وغيرها سواء، وعلى الحاكم والرئيس أن يؤدّي حقوق الناس كأيّ فرد من أفراد الاُمّة العاديين، وبذلك يدعم الإمام ما روي عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول: « النّاس أمام الحقّ سواء ».

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٢١١، طبعة عبده.

٣٧

وهوعليه‌السلام في موضع آخر يلخّص هدف الحكم الإسلاميّ في كلمتين لا أكثر، يقول ابن عبّاس: دخلت خيمة عليّعليه‌السلام بذي قار، فوجدته يخصف نعله، فقال لي: « ما قيمة هذه النعل » ؟

فقلت: لا قيمة لها.

فقال: « والله لهي أحبُّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً »(١) .

ثمّ ها هوعليه‌السلام يوصي أحد ولاته بقوله: « وأشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدّين أو نظير لك في الخلق »(٢) .

فإذن ليست الحكومة في ظلّ الإسلام إلّا الرحمة والمحبّة واللطف التي يجب أن تعمّ كلّ المواطنين، لا السبعيّة والغلظة التي تتّصف بها الحكومات غير الإسلاميّة.

كما يمكن أن نعرف طبيعة الدولة الإسلاميّة من كلام الإمام الشهيد الحسين بن عليّعليه‌السلام إذ يقول: « أللّهمّ، إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك »(٣) .

إنّ المتخوّفين من قيام الدولة مطلقاً أو من قيام الحكومة الإسلاميّة خاصّةً، إمّا أنّهم يجهلون أهداف الحكومة الإسلاميّة، وإمّا أنّهم من ذوي السوابق السوداء والمطامع الرخيصة، فيرعبهم قيام الحكومة الإسلاميّة العادلة خيفةً من الفضيحة، أو خشيةً من العقاب.

إنّ الدولة الإسلامية لا تشمل المواطنين المسلمين فقط، بعدلها ورحمتها ولطفها، بل تشمل من سواهم من أهل الملل الاخرى كاليهود والنصارى وغيرهم، بذلك حتّى

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٣٢.

(٢) نهج البلاغة: الرسالة ٥٣ لمالك الأشتر واليه على مصر.

(٣) تحف العقول: ١٧٢، طبعة بيروت.

٣٨

أنّهم يجدون في ظلّها من كرامة العيش، وشرف الحياة ما لا يجدون نظيره في ظّل الدول المتديّنة بدينهم، والمنتحلة لعقائدهم، والتاريخ الإسلاميّ المدوّن أفضل دليل على ذلك.

ففي التاريخ الإسلاميّ نرى، كيف كان يرجّح النصارى واليهود الحياة في ظلّ الدولة الإسلاميّة ورعايتها على الحياة في ظلّ السلطات والدول التي كانوا يعيشون فيها، وكيف أنّهم كانوا يفتحون صدورهم للفتوحات الإسلاميّة، ويقبلون بسيادة المسلمين لأنّهم كانوا يجدون في كنفهم دفء الرحمة وحرارة الإيمان وبرد الإحسان.

ولأجل ذلك، فإنّ أوّل خطوة خطاها رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد استقراره في يثرب ـ المدينة ـ وبعد تشكيل أوّل حكومة إسلاميّة هو عقد وثيقة تعايش بين المسلمين وغيرهم وقّعها النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمون وأهل المدينة من اليهود وغيرهم، تحدّد العلاقات الإنسانيّة، والحقوق المتقابلة بين المسلمين وغيرهم، وهي بذلك تعتبر قانوناً أساسياً للدولة الإسلاميّة، بل تمثّل وثيقةً عالميّةً خالدةً لحقوق الإنسان.

وإليك مقتطفات مهمّة من هذه الوثيقة: « بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا كتاب من محمّد النبيّ [ رسول الله ] بين المؤمنين والمسلمين من قريش و [ أهل ] يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنّهم أمّة واحدة من دون النّاس ».

ثمّ بعد أن ذكر النبيّ القبائل الإسلاميّة وما يقع عليها من مسؤوليّة حفظ الأمن ومساعدة الضعيف وإجراء العدل والقسط، ذكر اُموراً ترتبط بعامة المسلمين فكتبصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « وأن لايخالف مؤمن مولى مؤمن دونه [ أي لا ينقض عهداً عهده مع غيره ] وإنّ المؤمنين المتّقين أيديهم على كلّ من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثماً، أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإنّ أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم

وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النّصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.

وإنّ يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم

٣٩

وأنفسهم، إلّا من ظلم وأثم فإنّه لا يوتغ إلّا نفسه وأهل بيته.

وإنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإنّ بينهم النّصر على من حارب أهل هذه الصّحيفة وإنّ بينهم النُّصح والنّصيحة والبرّ دون الإثم »(١) .

وخلاصة هذا الكتاب ـ الميثاق ـ هي :

١. جعل المسلمين أمّة واحدةً على اختلاف شعوبهم وقبائلهم.

٢. إقرار المهاجرين من قريش على عاداتهم وسننهم في أحكام الديات والدماء، وقد نسخ ذلك فيما بعد بفرض الحدود والديات على أسلوب خاص.

٣. مسؤولية المهاجرين عن فداء أسيرهم وتخليصه من أيدي المشركين.

٤. المسؤوليّة الشاملة لجميع الطوائف والقبائل بأن تفدي أسيرها بالقسط والمعروف.

٥. إقرار القبائل التي وردت أسماؤها في الصحيفة على عاداتهم، وإنّ كلّ طائفة منهم مسؤولة عن فداء عانيها.

٦. قيام المؤمنين بإعانة المثقل منهم بالديون من أجل الفداء.

٧. إنكار البغي والظلم وشجبه في جميع المجالات ومناهضة القائم به وإن كان ولداً لأحدهم فإنّهم مسؤولون عنه جميعاً لو أخلّوا به.

٨. عدم قود المؤمن بالكافر لو قتله، فتؤخذ منه الديّة لا غير.

٩. منح أدنى المسلمين أن يجير أي شخص شاء.

١٠. عدم السماح للمشركين بأن يجيروا مالاً أو دماً للمشركين من قريش.

١١. إنّ القاتل للمؤمن من غير سبب يقاد به إلّا أن يرضي أولياء المقتول بالديّة فتؤخذ منه.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٥٠١، الأموال: ٥١٧ طبعة مصر، البداية والنهاية ٣: ٢٢٤ ـ ٢٢٦.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

زبيدة: (كانت ولاية الأمين بعهد من أبيه، قدمه على إخوته لمكان والدته، وكان الأحق بالتقديم المأمون لعلمه وفضله وسنه..)(١) وبعد.. فإننا لا نستبعد أنها كانت بالإضافة إلى ذلك قد استخدمت أموالها، من أجل ضمان ولاية العهد لولدها الأمين، ولعل مما يشير إلى ذلك قول الفضل بن سهل للمأمون: (وهو ابن زبيدة، وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها).

وأخيراً. فإن من المحتمل جداً أن يكون الرشيد ـ بملاحظة الدور الذي كانت تلعبه الأنساب في التفكير العربي ـ قد لاحظ سمو نسب الأمين على المأمون، وكان لذلك أثر في تقديمه له عليه، وقد ألمح بعض المؤرخين إلى ذلك فقال: (وفيها ـ أي في سنة ١٧٦ ه‍ ـ عقد الرشيد لابنه المأمون عبد الله العهد بعد أخيه الأمين. إلى أن قال: وكان المأمون أسن من الأمين بشهر واحد، غير أن الأمين أمه زبيدة بنت جعفر هاشمية، والمأمون أمه أم ولد اسمها (مراجل) ماتت أيام نفاسها به)(٢) .

محاولات الرشيد لصالح المأمون:

ومن كل ما تقدم يتضح لنا حقيقة موقف العباسيين، وأهل بيت المأمون، ورجال الدولة من المأمون.. ويظهر إلى أي حد كان مركز أخيه قويا، ونجمه عاليا، وأنه لم يكن له مثل ذلك الحظ الذي كان لأخيه الأمين.

____________

(١) دائرة المعارف الإسلامية ج ١ ص ٦٠٦.

(٢) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٨٤، وقريب منه ما في تاريخ الخلفاء للسيوطي.

١٤١

إلا أن أباه الرشيد، الذي كان يدرك حقيقة الموقف كل الإدراك، قد حاول أن يضمن له نصيبه من الخلافة، فجعله ولي العهد بعد أخيه الأمين، وكتب بذلك العهود والمواثيق، وأشهد عليها، وعلقها في جوف الكعبة، ولا نعلم خليفة، قبله ولا بعده فعل ذلك مع أولياء عهده، من أولاده أو من غيرهم، رغم أن غيره من الخلفاء قد أخذوا البيعة لأكثر من واحد بعدهم.

كما أنه قد حاول بطرق شتى أن يشد من عضد المأمون، ويقوي مركزه في مقابل أخيه الأمين، لأنه كان يخاف منه على أخيه المأمون، فنراه يجدد أخذ البيعة للمأمون أكثر من مرة، ويوليه الحرب، ويولي أخاه السلم(١) ويهب المأمون كل ما في العسكر من كراع وسلاح. ويأمر الفضل بن الربيع، الذي كان يعرف أنه سوف يتآمر مع الأمين ـ يأمره ـ بالبقاء مع المأمون في خراسان. إلى غير ذلك من مواقفه، التي لا نرى حاجة لتتبعها واستقصائها.

مركز المأمون ظل في خطر:

ولكن رغم كل محاولات الرشيد فقد ظل مركز المأمون في خطر والكل كان يشعر بذلك، وكيف لا يعرف الجميع ذلك. ولا يشعرون به، وهم يرون الأمين يصرح بعد أن أعطى العهود والمواثيق، وحلف الأيمان، بأنه: كان يضمر الخيانة لأخيه المأمون(٢) .

لقد كان الكثيرون يرون بأن هذا الأمر لا يتم، وأن الرشيد قد أسس العداء والفرقة بين أولاده، (وألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٣، والطبري حوادث سنة ١٨٦ ه‍.

(٢) الوزراء والكتاب ص ٢٢٢.

١٤٢

في ذلك مخوفة على الرعية) وقالت الشعراء في ذلك الشيء الكثير. ومن ذلك قول بعضهم:

أقـول لغمة في النفس مني

ودمـع العين يطرد اطرادا

خـذي لـلهول عدته بحزم

سـتلقي ما سيمنعك الرقادا

فـإنك إن بقيت رأيت أمراً

يـطيل لك الكآبة والسهادا

رأى الملك المهذب شر رأي

بـقسمته الـخلافة والبلادا

رأى مـا لـو تـعقبه بعلم

لـبيض من مفارقه السوادا

أراد بـه لـيقطع عن بنيه

خـلافهم ويـبتذلوا الودادا

فـقد غرس العداوة غير آل

وأورث شـمل ألفتهم بدادا

والـقح بـينهم حربا عواناً

وسـلس لاجـتنابهم القيادا

فـويل لـلرعية عـن قليل

لقد أهدى لها الكرب الشدادا

وألـبسها بـلاءا غير فان

وألزمها التضعضع والفسادا

سـتجري من دمائهم بحور

زواخـر لا يرون لها نفادا

فـوزر بـلائهم أبـداً عليه

أغيا كان ذلك أم رشادا(١)

والمأمون وحزبه كانوا يدركون ذلك:

وبعد.. فإنه من الطبيعي جداً أن نرى أن المأمون وحزبه كانوا يدركون أن مركز المأمون كان في خطر، وأن الأمين كان ينوي الخيانة لأخيه. ولقد رأينا الفضل بن سهل عندما عزم الرشيد على الذهاب إلى خراسان، وأمر المأمون بالمقام في بغداد ـ رأيناه ـ يقول للمأمون: (لست تدري ما يحدث بالرشيد، وخراسان ولايتك، والأمين مقدم عليك. وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك، وهو ابن زبيدة، وأخواله

____________

(١) الطبري حوادث سنة ١٨٦ ه‍.

١٤٣

بنو هاشم، وزبيدة، وأموالها..)(١) . وتقدم أيضاً قوله له: إن أهل بيته وبني أبيه، والعرب معادون له.

والرشيد أيضاً كان في قلق:

بل لقد صرح الرشيد نفسه بأنه كان يخشى من الأمين على المأمون، فإنه قال لزبيدة، عندما عاتبته على إعطائه الكراع والسلاح للمأمون: (إنا نتخوف ابنك على عبد الله، ولا نتخوف عبد الله على ابنك إن بويع)(٢) .

هذا بالإضافة إلى تصريحات الرشيد السابقة، والتي لا نرى حاجة إلى إعادتها.

ولقد قال الرشيد، عندما بلغه ما يتهدد به محمد الأمين:

مـحمد لا تـظلم أخـاك فإنه

عليك يعود البغي إن كنت باغيا

ولا تـعجلن الـدهر فـيه فإنه

إذا مال بالأقوام لم يبق باقيا(٣)

ومهما يكن من أمر، فإن الحقيقة التي لا يمكن الجدال فيها، هي أن الرشيد كان في قضية ولاية العهد مغلوبا على أمره، من مختلف الجهات. وكان يشعر أن ما أبرمه سوف يكون عرضة للانتقاض بين لحظة وأخرى، وكم كان يؤلمه شعوره هذا، ويحز في نفسه.. حتى لقد ترجم مشاعره هذه شعراً فقال:

____________

(١) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٢٩، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص ١٠٢، والكامل لابن الأثير، طبعة ثالثة ج ٥ ص ١٢٧، والوزراء والكتاب ص ٢٦٦.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٣. ولعله إنما فعل ذلك أيضاً، من أجل أن يطيب خاطر المأمون، ويذهب ما في نفسه ـ وهو الأفضل، والأكبر سنا من أخيه ـ من غل وحقد وضغينة..

(٣) ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص ٢٤٥، وفوات الوفيات ج ٢ ص ٢٦٩.

١٤٤

لـقد بـان وجه الرأي لي غير أنني

غـلبت على الأمر الذي كان أحزما

وكـيف يرد الدر في الضرع بعدما

تـوزع حـتى صـار نـهباً مقسما

أخـاف الـتواء الأمـر بعد استوائه

وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما(١)

على من يعتمد المأمون؟

وهكذا: وإذا كان أبوه قد استطاع أن يضمن له المركز الثاني بعد أخيه الأمين، وإذا كان ذلك لا يكفي لأن يجعل المأمون يطمئن إلى مستقبله في الحكم، وأن يأمن أخاه وبني أمية العباسيين، أن لا يحلوا العقدة، وينكثوا العهد، فهل يستطيع المأمون أن يعتمد على غيرهم، لو تعرض مركزه ووجوده لتهديد في وقت ما؟!. ومن هم أولئك الذين يستطيع أن يعتمد عليهم؟! وكيف؟.. وما هو موقفهم فعلاً منه؟! وكيف يستطيع أن يصل إلى الحكم، والسلطان؟! ومن ثم.. كيف يستطيع أن يحتفظ به، ويقوي من دعائمه؟!

إن نظرة شاملة على الفئات الأخرى في تلك الفترة من الزمن، لكفيلة بأن تظهر لنا أنه لم يبق أمام المأمون غير العلويين، والعرب، والإيرانيين. فما هو موقف هؤلاء منه، وأي الفئات تلك هي التي يستطيع أن يعتمد عليها؟ وكيف يستطيع أن يغير مجريات الأمور لتكون في صالحه، وعلى وفق مراده؟!.

هذا هو السؤال الذي لا بد للمأمون من أن يضع الحل والإجابة عليه، بكل دقة ووعي وإدراك. وأن يتحرك من ثم على وفق تلك الإجابة، وعلى مقتضى ذلك الحل.. ولنلق أولاً نظرة سريعة على مواقف كل من هؤلاء من المأمون، ولنخلص من ثم إلى معرفة الفئة التي يستطيع المأمون أن يعتمد عليها في مواجهة الأخطار والتحديات، التي تنتظره، وتنتظر نظام حكمه، بصورة عامة.. فنقول:

____________

(١) ابن بدرون أيضاً ص ٢٤٥، وزهر الآداب، طبع دار الجيل ج ٢ ص ٥٨١، وفوات الوفيات ج ٢ ص ٢٦٩.

١٤٥

موقف العلويين من المأمون:

أما العلويون.. فإنهم ـ بالطبع ـ لن يرضوا بالمأمون ـ كما لن يرضوا بغيره من العباسيين، خليفة وحاكما لأن من بينهم من هو أجدر من كل العباسيين، وأحق بهذا الأمر، ولأن المأمون، وغيره، كانوا من تلك السلالة، التي لا يمكن أن تصفو لها قلوب آل علي، لأنها قد فعلت بهم أكثر من فعل بني أمية معهم، كما تقدم.. فقد سفكت دماءهم، وسلبتهم أموالهم، وشردتهم عن ديارهم، وأذاقتهم شتى صنوف العذاب والاضطهاد. ويكفي المأمون عندهم: أنه ابن الرشيد، الذي حصد شجرة النبوة، واجتث غرس الإمامة، والذي قد عرفت طرفاً من سيرته السيئة معهم فيما تقدم من الفصول.

موقف العرب من المأمون، ونظام حكمه:

وأما العرب: فإنهم لا يرضون بالمأمون خليفة وحاكما أيضاً، كما أشار إليه الفضل بن سهل فيما تقدم.

أما أولاً: فلأن أمه، ومؤدبه، والقائم بأمره، غير عربيين. ولقد عانى العرب ما لله أعلم به، من تقديم أسلافه للموالي، حتى لم يعد لهم معهم أي شأن يذكر، وأصبح العربي أذل من نعجة، وأحقر من الحيوان.

١٤٦

قال المسعودي: (.. وكان - أي المنصور- أول خليفة استعمل مواليه وغلمانه في أعماله، وصرفهم في مهماته، وقدمهم على العرب، فامتثل ذلك الخلفاء من بعده، من ولده، فسقطت، وبادت العرب، وزالت رياستها، وذهبت مراتبها)(١) .

وقال ابن حزم، وهو يتحدث عن العباسيين: (.. فكانت دولتهم أعجمية، سقطت فيها دواوين العرب، وغلبت عجم خراسان على الأمر، وعاد الأمر كسروياً، إلا أنهم لم يعلنوا بسب أحد من الصحابة رضوان الله عليهم. وافترقت في دولة بني العباس كلمة المسلمين..)(٢) .

ويقول الجاحظ: (.. دولة بني العباس أعجمية، خراسانية، ودولة بني مروان عربية..)(٣) .

إلى آخر ما هنالك، مما يدل على سقوط العرب في تلك الفترة، وامتهانهم، ويبدو أن ذلك من المسلمات. وقد استوفى الباحثون ـ ومنهم أحمد أمين، في الجزء الأول من ضحى الإسلام ـ البحث في هذا الموضوع، فمن أراد فليراجع مظان وجوده.

وإذا ما عرفنا: أن من الطبيعي أن يكون ذهاب رئاسة العرب، وإبادتها، واضطهادها على يد الفرس، الذين كانوا هم أصحاب القدرة والسلطان آنذاك.. فلسوف نجد أن من الطبيعي أن يحقد العرب، الذين كانوا في وقت ما هم أصحاب الجبروت والقوة، على الفرس، وعلى كل من يتصل بهم. ويمت إليهم بسبب، من قريب أو من بعيد.

____________

(١) مروج الذهب، طبع بيروت ج ٤ ص ٢٢٣، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٤، و ص ٢٦٩، ٢٧٠، و ص ٢٥٨، وفي طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٩، نقلاً عن المقريزي في: السلوك لمعرفة دول الملوك ج ١ ص ١٤ مثل ذلك. وليراجع أيضاً كتاب: مشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص ٢٣.

(٢) البيان المغرب، طبع صادر ص ٧١.

(٣) البيان والتبيين ج ٣ ص ٣٦٦.

١٤٧

وأما ثانياً: فلسيرة أسلافه، وأبيه الرشيد بالخصوص، في الناس عامة، ومع أهل بيت نبيهم خاصة، والتي قدمنا شطراً منها في الفصول التي سبقت.

أما الأمين: فقد كان له ـ إلى حد ما ـ شافع عندهم، حيث إنه كان من أب وأم عربيين من جهة. وكان قد منحهم ثقته وحبه، وقربهم إليه، حتى كان وزيره الفضل بن الربيع منهم. من جهة ثانية، فتوسموا فيه أن يجعل لهم. وأن ينظر إليهم بغير العين، التي كان أبوه وأسلافه ينظرون إليهم بها. أو على الأقل: سوف لا تكون نظرته إليهم. على حد نظرة المأمون نحوهم. وذلك ما يجعلهم يرجحونه ـ على الأقل ـ على أخيه المأمون، وإن كان المأمون أفضل، وأسن منه، فلقد كان عليهم أن يختاروا أهون الشرين، وأقل الضررين. حتى إن نصر بن شبث، الذي كان هواه مع العباسيين، لم يقم بثورته ضد المأمون، التي بدأت سنة ١٩٨ ه‍. واستمرت حتى سنة ٢١٠ ه‍. إلا انتصاراً للعرب، ومحاماة عنهم، لأن العباسيين كانوا يفضلون عليهم العجم، حسب تصريحات نصر بن شبث نفسه(١) .

وحتى في مصر أيضاً، قد ثارت الفتن بين القيسية، المناصرة للأمين، واليمانية المناصرة للمأمون..

وقال أحمد أمين: (.. إن أغلب الفرس تعصب للمأمون، وأغلب العرب تعصبوا للأمين..)(٢) كما أننا نكاد لا نشك في أن تعصب العرب للأمين ليس إلا للسببين المتقدمين، الذين أشرنا إليهما، وأشار إلى أحدهما نصر بن شبث..

____________

(١) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ١٠٤.

(٢) ضحى الإسلام ج ١ ص ٤٣.

١٤٨

ولكن فردينان توتل يرى في منجد الأعلام: أن تعصب العرب للأمين يرجع إلى أن: (المأمون لم يستطع أن يجعل العرب يحبونه، حيث إنه كان يظهر ميلا للإيرانيين، ويقربهم إليه. وقد أعانه الإيرانيون في مبارزاته، وحروبه، وخصوصاً الخراسانيين منهم).

ولكن الذي يبدو لي هو أن تعصب العرب للأمين لم يكن نتيجة تقريب المأمون للإيرانيين، وتحببه للخراسانيين، وإنما عكس ذلك هو الصحيح، فإن المأمون لم يتقرب من الخراسانيين إلا بعد أن فرغت يده من العرب وأهل بيته، والعلويين.

لا بد من اختيار خراسان:

وبعد أن فرغت يد المأمون من بني أبيه، والبرامكة(١) ، والعرب، والعلويين، اضطر أن يلتجئ إلى جهات أخرى لتمد له يد العون والمساعدة، وتكون سلما لأغراضه، وأداة لتحقيق أهدافه ومآربه. ولم يبق أمامه غير خراسان، فاختارها، كما اختارها محمد بن علي العباسي من قبل. فأظهر لهم الميل والحب، وتقرب إليهم، وقربهم إليه، وأراهم: أنه محب لما ولمن يحبون، وكاره لما ولمن يكرهون. حتى إنه عندما علم منهم الميل إلى العلويين، والتشيع لهم، أظهر هو بدوره أنه محب للعلويين، ومتشيع لهم.

كما أنه كان من جهة ثانية قطع لهم على نفسه الوعود والعهود، بأن يرفع الظلم والحيف عنهم، ورد عنهم الكيد، الأمر الذي جعلهم يثقون به، ويطمئنون إليه، ويعلقون كل آمالهم عليه.

____________

(١) ذكرنا للبرامكة هنا ليس عفويا، فإن محط نظرنا يشمل حتى الأيام الأولى، التي فتح بها المأمون عينيه، وعرف واقعه، وأدرك الأخطار، التي تتهدده، وتتهدد مستقبله في الخلافة مع أخيه الأمين، فلا يرد علينا: أن البرامكة قد نكبهم الرشيد قبل خلافة المأمون بزمان. مضافاً إلى الدور الكبير الذي لعبه البرامكة في تقديم أخيه الأمين عليه، حسبما قدمنا..

١٤٩

تشيع الإيرانيين:

هذا.. وليس تشيع(١) الإيرانيين بالأمر الذي يحتاج إلى إثبات، بعد أن تقدم معنا: أن دولة العباسيين ما قامت إلا على أساس الدعوة للعلويين، وأهل البيت. وبعد أن رأينا الخراسانيين يظهرون النياحة على (يحيى بن زيد) سبعة أيام، وكل مولود ولد في خراسان في سنة قتل يحيى سمي ب‍ـ (يحيى)(٢) . بل يذكر البلاذري: أنه لما استشار المنصور عيسى بن موسى في أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن، فأشار عليه بأن يولي المدينة رجلاً خراسانياً، قال له المنصور: (يا أبا موسى إن محبة آل أبي طالب في قلوب أهل خراسان ممتزجة بمحبتنا، وإن وليت أمرها رجلاً من أهل خراسان حالت محبته لهما بينه وبين طلبهما، والفحص عنهما، ولكن أهل الشام قاتلوا علياً على أن لا يتآمرعليهم لبغضهم إياه الخ)(٣) .

وقد تقدم معنا: كيف وصف المؤرخون ما جرى في نيشابور، حين دخلها الإمام الرضا، وسيأتي في فصل: خطة الإمام، وصف ما جرى في مرو حينما خرج الإمام ليصلي بالناس. ولقد عرفنا أيضاً: كيف فرق الإمام الرضا الناس عن المأمون. عندما أرادوا قتله، انتقاماً للفضل بن سهل.

____________

(١) قد تقدم منا ما نقصده بكلمة (التشيع) في هذا الكتاب، فلا نعيد.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٢١٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٥٧، وليراجع أيضاً نزهة الجليس ج ١ ص ٣١٦، فإن فيه ما يشير إلى ذلك.

(٣) أنساب الأشراف للبلاذري ج ٣ ص ١١٥.

١٥٠

بل لقد بلغ من حب الإيرانيين لأهل البيت أن المأمون كان يخشى على نفسه أن يقتلوه، لو أنه أراد أن يرجع عن البيعة للإمام الرضا بولاية العهد(١) .

ويقول جرجي زيدان: (وكان الخراسانيون، ومن والاهم من أهل طبرستان والديلم، قبل قيام الدولة العباسية، من شيعة علي، وإنما بايعوا للعباسيين مجاراة لأبي مسلم أو خوفاً منه)(٢) .

وقال أحمد أمين: (.. إن الفرس يجري في عروقهم التشيع)(٣) ويقول الدكتور الشيبي: (.. إن الفرس قد عادوا إلى التشيع، بعد أن نزلت بهم ضربة السفاح أولاً، ثم المنصور، ثم الرشيد) (٤) ويقول أحمد شلبي: (.. إنه ربما كان سبب أخذ المأمون للرضا العهد، هو أنه يريد أن يحقق آمال الخراسانيين، الذين كانوا إلى أولاد علي أميل) (٥)

ما هو سر تشيع الإيرانيين؟

يقول السيد أمير علي، وهو يتحدث عن سر ارتباط الفرس بقضية بني فاطمة: (.. وقد أظهر الإمام علي منذ بداية الدعوة الإسلامية

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الثاني، جزء ٤ ص ٤٤٠.

(٢) نفس المصدر والمجلد، والجزء ص ٢٣٢، ولا يهمنا هنا مناقشة جرجي زيدان فيما جعله سبباً لبيعتهم للعباسيين، ولعل ما قدمناه في فصل: قيام الدولة العباسية كاف في ذلك.

(٣) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٥.

(٤) الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٠١.

(٥) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ١٠٧.

١٥١

كل تقدير، ومودة نحو الفرس، الذين اعتنقوا الإسلام، لقد كان سلمان الفارسي، وهو أحد مشاهير أصحاب الرسول، رفيق علي وصديقه. كان من عادة الإمام أن يخصص نصيبه (النقدي) في الأنفال لافتداء الأسرى. وكثيراً ما أقنع الخليفة عمر بمشورته، فعمد إلى تخفيف عبء الرعية في فارس. وهكذا كان ولاء الفرس لأحفاده واضحاً تمام الوضوح)(١) .

ويرى فان فلوتن: إن من أسباب ميل الخراسانيين، وغيرهم من الإيرانيين للعلويين، هو أنهم لم يعاملوا معاملة حسنة، ولا رأوا عدلاً إلا في زمن حكم الإمام عليعليه‌السلام (٢) .

أما الأستاذ علي غفوري فيرى(٣) : أن الإيرانيين كانوا قبل الإسلام يعاملون بمنطق: أن الناس قد خلقوا لخدمة الطبقة الحاكمة، وأن عليهم أن ينفذوا الأوامر من دون: كيف؟ ولماذا؟. فجاء الإسلام بتعاليمه الفطرية السهلة السمحاء، فاعتنقوه بكل رضى وأمل، وبدأ جهادهم في سبيل إقامة حكومة إسلامية حقيقية. وبما أن أولئك الذين تسلموا زمام الأمور ـ باستثناء الإمام علي طبعاً ـ كانوا منحرفين (المقصود هنا بالطبع هو خلفاء الأمويين) عن الإسلام، وتعاليمه، ويحاولون تلبيس عاداتهم الجاهلية، حتى التمييز القبلي، والعرقي بلباس الإسلام. وإعطائها صفة القانونية والشرعية.

فإن الإيرانيين لم يجدوا أهداف الإسلام، وتعاليمه في تلك الحكومات، ولهذا كان من الطبيعي أن يتوجهوا إلى علي، والأئمة من ولده، الذين تعدى الآخرون على حقوقهم بالخلافة، والذين كان سلوكهم المثالي هو المرآة الصافية، التي تنعكس عليها تعاليم الإسلام وأهدافه، ويمثلون الصورة الحقيقية للإسلام على مدى التاريخ. وكان صدى علمهم، وزهدهم، واستقامتهم يطبق الخافقين، وخصوصاً الصادق والرضا، الذي اهتبل الفرصة إبان الخلاف بين الأمين والمأمون لنشر تعاليم الإسلام. وتعريف الناس على الحقائق، التي شاء الآخرون أن لا يعرفها أحد.

____________

(١) روح الإسلام ص ٣٠٦.

(٢) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات.

(٣) ياد بود هشتمين إمام (فارسي).

١٥٢

لكن لم يكن يروق للقوى الحاكمة، أن تظهر تلك الوجوه الطاهرة على الصعيد العام، وتتعرف عليها الأمة الإسلامية، وعلى فضائلها، وكمالاتها، لأن الناس حينئذٍ سوف يدركون الواقع المزري لأولئك الحكام، والمتزلفين لهم. والذين كانوا يتحكمون بمقدرات الأمة، وإمكاناتها، وإذا أدركوا ذلك فإن من الطبيعي أن لا يترددوا في تأييد الأئمة، ومساعدة أية نهضة، أو ثورة من قبلهم. ولهذا فقد جهد الحكام في أن يزووهم ويبعدوهم ما أمكنهم عن الناس، ووضعوهم تحت الرقابة الشديدة، وفي أحيان كثيرة في غياهب السجون. حتى إذا ما سنحت لهم فرصة، تخلصوا منهم بالطريقة التي كانوا يرون أنها لا تثير الكثير من الشكوك والظنون.

عودة على بدء:

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا هنا هو مجرد الإشارة إلى تشيع الإيرانيين، الذي حاول المأمون أن يستغله لمصالحه وأهدافه. حيث قد أثمرت وعود المأمون للخراسانيين، وتحببه لهم. وتقربه منهم، وتظاهره بالحب لعليعليه‌السلام وذريته، الثمار المرجوة منها، لأن الخراسانيين كانوا يريدون التخلص من أولئك الحكام الذين انقلبوا عليهم يقتلون. ويضطهدون كل من عرفوه موالياً لأهل البيت محبا لهم، ابتداء من المنصور، بل السفاح. وانتهاء بالرشيد، الذي لم يستطع يحيى بن خالد البرمكي أن يسمع لعلوي ذكراً في خراسان في زمانه. رغم أنه جهد كل الجهد من أجل ذلك. وفي سبيله، حسبما تقدم.

كما أنهم ـ أعني الخراسانيين ـ قد توسموا في المأمون أن يكون المنقذ لهم من أولئك الولاة،٨ الذين ساموهم شتى ضروب العسف، والظلم والعذاب. والذين لم يكن بهمهم غير مصالحهم، وإرضاء شهواتهم وملذاتهم، يعلم ذلك بأدنى مراجعة للتأريخ.

وقد وثقوا إلى حد ما بوعود المأمون تلك، التي كان يغدقها عليهم، وعلى غيرهم بدون حساب، وأمنوا جانبه، فكانوا جنده، وقواده، ووزراءه المخلصين، الذين أخضعوا له البلاد، وأذلو له العباد، وبسطوا نفوذه وسلطانه على كثير من الولايات والأمصار، التي كان يطمح إلى الوصول إليها، والسيطرة عليها.

١٥٣

كيف يثق العرب بالمأمون؟!

وهكذا إذن.. يتضح أن ميل المأمون للإيرانيين ما كان إلا دهاء منه وسياسة، استغلها المأمون أحسن ما يكون الاستغلال، حتى استطاع أن يصل إلى الحكم، ويتربع على عرش الخلافة، بعد أن قتل أخاه العزيز على العباسيين والعرب، وقضى على أشياعه بسيوف غير العرب، وذلك ذنب آخر لن يسهل على العرب الإغضاء عنه أو غفرانه.

ثم ولى على بغداد رجلاً غير عربي، هو الحسن بن سهل، أخو الفضل بن سهل، الذي تكرهه بغداد والعرب كل الكره..

ثم إنه بعد هذا كله جعل مقر حكمه مروا الفارسية، وليس بغداد العاصمة العربية الأولى التي خربها ودمرها.. وكان ذلك من شأنه أن يثير المخاوف لدى العرب في أن تتحول الإمبراطورية العربية إلى إمبراطورية فارسية، وخصوصاً إذا لاحظنا: أن الفرس هم الذين أوصلوا المأمون إلى الحكم.. وقد أثبتوا جدارتهم، وأهليتهم في مختلف المجالات، وخصوصاً السياسة، وشؤون الحكم.

قتل الأمين وخيبة الأمل:

وإن قتل الأمين، وإن كان يمثل ـ في ظاهره ـ انتصاراً عسكرياً للمأمون إلا أنه كان في الحقيقة ذا نتائج سلبية وعكسية بالنسبة للمأمون، وأهدافه، ومخططاته.. سيما بملاحظة الأساليب التي اتبعها المأمون للتشفي من أخيه الأمين، الذي كان قد أصدر الأمر لطاهر بالأمس بأن يقتله(١) . حيث رأيناه قد أعطى الذي جاءه برأس أخيه ـ بعد أن سجد لله شكرا! ـ ألف ألف (أي مليون) درهم(٢) . ثم أمر بنصب رأس أخيه على خشبة في صحن الدار، وأمر كل من قبض رزقه أن يلعنه، فكان الرجل يقبض، ويلعن الرأس، ولم ينزله حتى جاء رجل فلعن الرأس، ولعن والديه، وما ولدا، وأدخلهم في (كذا وكذا) من أمهاتهم، وذلك بحيث يسمعه المأمون، فتبسم، وتغافل، وأمر بحط الرأس(٣) !.

ويا ليته اكتفى بكل ذلك.. بل إنه بعد أن طيف برأس الأمين بخراسان(٤)

____________

(١) لقد نص الأستاذ علي غفوري في كتابه الفارسي (ياد بود هشتمين إمام) ص ٢٩ على أن المأمون: (لم يرض بقتل الأمين فحسب، بل أنه هو الذي أمر بقتله..).

(٢) فوات الوفيات ج ٢ ص ٢٦٩، والطبري، طبع دار القاموس الحديث ج ١٠ ص ٢٠٢، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٣، وحياة الحيوان ج ١ ص ٧٢، وتجارب الأمم المطبوع مع العيون والحدايق ج ٦ ص ٤١٦.

(٣) مروج الذهب ج ٣ ص ٤١٤، وتتمة المنتهى ص ١٨٦ والموفقيات ص ١٤٠.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٩٨.

١٥٤

أرسل إلى إبراهيم بن المهدي يعنفه ويلومه على أنه أسف على قتل الأمين، ورثاه(١) !

فماذا ننتظر بعد هذا كله، وبعد ما قدمناه: أن يكون موقف العباسيين. والعرب، بل وسائر الناس منه..

إن أيسر ما نستطيع أن نقوله هنا: أنه كان لقتله أخاه، وفعاله الشائنة تلك.. أثر سيء على سمعته، ومن أسباب زعزعة ثقة الناس، به، وتأكيد نفورهم منه، سواء في ذلك العرب، أو غيرهم.

وقد استمر ذلك الأثر أعواما كثيرة، حتى بعد أن هدأت ثائرة الناس، ورجع إلى بغداد.

فقد جلس مرة يستاك على دجلة، من وراء ستر، فمر ملاح، وهو يقول: (أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني، وقد قتل أخاه؟!).

قال: فسمعه المأمون، فما زاد على أن تبسم، وقال لجلسائه: (ما الحيلة عندكم. حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل)(٢) .

وقال له الفضل بن سهل، عندما عزم على الذهاب إلى بغداد: (ما هذا بصواب، قتلت بالأمس أخاك، وأزلت الخلافة عنه، وبنو أبيك معادون لك، وأهل بيتك والعرب.. إلى أن قال: والرأي،

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٤٤٣.

(٢) تاريخ بغداد ج ١٠ ص ١٨٩، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٧، وتاريخ الخلفاء ص ٣٢٠، وروض الأخيار في منتخب ربيع الأبرار ص ١٨٦، وفوات الوفيات ج ١ ص ٢٤٠.

١٥٥

أن تقيم بخراسان، حتى تسكن قلوب الناس على هذا، ويتناسوا ما كان من أمر أخيك..)(١) .

المأمون في الحكم:

وإذا ما أردنا أن نعطف نظرنا على ناحية أخرى في سياسة النظام المأموني، فإننا سوف نرى أنه لم يكن موفقاً في سياسته مع الناس، سواء في ذلك العرب أو الإيرانيون، بالأخص أهل خراسان، حيث لم يحاول أن يتجنب سياسة الظلم والعسف والاضطهاد، التي كان يمارسها أسلافه مع الرعية. بل لعله زاد عليهم، وسبقهم أشواطاً بعيدة في ذلك.

أما سياسته مع العرب:

فالمأمون، وإن استطاع أن يصل إلى الحكم إلا أنه فشل في مهمة الفوز بثقة العرب، خصوصاً إذا لاحظنا بالإضافة إلى ما قدمناه تحت عنوان (كيف يثق العرب بالمأمون). ما نالهم منه، ومن عماله، من صنوف العسف والظلم ـ عدا عما فعلته فيهم تلك الحروب الطاحنة، التي شنها ضد أخيه الأمين ـ فإن ذلك يفوق كل وصف، ويتجاوز كل تقدير،

____________

(١) البحار ج ٤٩ ص ١٦٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٨٥، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٠، هذا.. وتجدر الإشارة هنا: إلى أن بعض المحققين يرى: أن قتل الأخ في سبيل الملك، لم يكن من الأمور التي يهتم لها الناس كثيراً في تلك الفترة، سيما إذا كان المقتول هو المعتدي أولاً، والأمين هنا هو المعتدي على المأمون، بخلعه أولاً، ثم بإرساله جيشاً إلى إيران لمحاربته، والذي هزم على يد طاهر بن الحسين، ولكننا مع ذلك.. لا نزال نصر على رأينا في هذا المجال، سيما وأننا نرى في النصوص التاريخية ما يدعم هذا الرأي ويقويه.

١٥٦

حتى لقد وصف: (ديونيسيوس) جباة الخراج في العراق في سنة (٢٠٠ ه). بأنهم: (قوم من العراق، والبصرة. والعاقولاء، وهم عتاة، ليس في قلوبهم رحمة، ولا إيمان، شر من الأفاعي، يضربون الناس، ويحبسونهم. ويعلقون الرجل البدين من ذراع واحد، حتى يكاد يموت)(١) .

والإيرانيون أيضاً لم يكونوا أحسن حالاً:

ولم يكن حال الإيرانيين من هذه الجهة بأفضل من حال أهل العراق. ويذكر الجاحظ: أن المأمون ولى محمود بن عبد الكريم التصنيف (فتحامل على الناس، واستعمل فيهم الأحقاد والدمن، فخفض الأرزاق، وأسقط الخواص، وبعث في الكور، وأنحى على أهل الشرف والبيوتات، حسداً لهم، وإشفاء لغليل صاحبه منهم، فقصد لهم بالمكروه والتعنت فامتنعت طائفة من الناس من التقدم إلى العطاء، وتركوا أسماءهم، وطائفة انتدبوا مع طاهر بن الحسين بخراسان، فسقط بذلك السبب بشر كثير..)(٢) .

يقول الجنرال جلوب وهو يتحدث عن المأمون (.. وراح يلقي خطبته الأولى في الناس، فيعدهم بأن يكون حكمه فيهم طبقاً للشرع، وأن يكرس نفسه لخدمة الله وحده. وقد أثارت هذه الوعود التقية حماسة عند الناس. وكانت من أهم أسباب انتصاره. لكن هذه الوعود ما لبثت أن تحولت إلى فجيعة نزلت بالناس، إذ إن الخليفة ما لبث أن نسيها)(٣) .

ويكفي أن نشير هنا إلى المجاعة التي أصابت أهل خراسان، والري. وأصبهان، وعز الطعام، ووقع الموت، وذلك في سنة ٢٠١ للهجرة..

____________

(١) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، لآدم متز ج ١ ص ٢٣٢.

(٢) رسائل الجاحظ ج ٢ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٣) إمبراطورية العرب، ترجمة، وتعليق خيري حماد ص ٥٧٠.

١٥٧

المأمون مع الرعية عموماً:

وعن حالة المأمون العامة مع الناس يقول فان فلوتن:

(.. ولم يكن جور النظام العباسي وعسفه، منذ قيام الدولة العباسية بأقل من النظام الأموي المختل، وتذكرنا شراهة المنصور، والرشيد، والمأمون، وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى، وعبثهم بأموال المسلمين بزمن الحجاج، وهشام، ويوسف بن عمر الثقفي. ولدينا البراهين الكثيرة على فجيعة الناس في هذا العرش الجديد، ومقدار انخداعهم به..)، ثم يضرب أمثلة من الخارجين على سياسات العباسيين تلك. ثم يقول: (.. كل ذلك يبين أن ما كان يشكو منه المسلمون من الجور والعسف لم يزل على ما كان عليه في عهد بني أمية الأول..)(١) .

قال ابن الجراح: إن إبراهيم بن المهدي كان: (يرمي المأمون بأمه(٢) ، وإخوته، وأخواته، ومن أيسر ذلك قوله:

صـد عـن تـوبة وعـن إخبات

ولـهـا بـالـمجون والـقـينات

مـا يـبالي إذا خـلا بأبي عيسى

وســرب مـن بـدن أخـوات

أن يغص المظلوم في حومة الجور

بــداء بـين الـحشا واللهاة(٣)

____________

(١) السيادة والعربية والشيعة والإسرائيليات ص ١٣٢.

(٢) ولكن أمه كانت قد ماتت أيام نفاسها به!!. ولعله يريد أن أمه كانت متهمة، فكان يعير بها..

(٣) الورقة، لابن الجراح ص ٢١، ولا بأس بمراجعة كتاب: أشعار أولاد الخلفاء.

١٥٨

وما يهمنا هنا هو البيت الأخير، أما ما قبله، فلا نملك إلا أن نقول: (أهل البيت أدرى بالذي فيه..).

وعلى كل حال. فإننا لا نستغرب على المأمون صفة الظلم والعسف والجور. بعد أن رأينا أنه عندما عرضت عليه سيرة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليعليه‌السلام يأبى أن يأخذ بها جميعاً، لأنه كان يجد في آخر كل منها: أنهم كانوا يأخذون الأموال من وجوهها، ويضعونها في حقوقها. لكنه قبل سيرة معاوية، الذي أراد الإعلان ببراءة الذمة ممن يذكره بخير، لأن في آخرها يقول: إنه كان يأخذ الأموال من وجوهها، ويضعها كيف شاء..، وقال المأمون حينئذٍ: (إن كان فهذا)(١) ! وفي رسالة عبد الله بن موسى للمأمون نفسه ما فيه الكفاية فلتراجع في أواخر هذا الكتاب.

وماذا بعد الوصول إلى الحكم:

وهكذا.. فإن المأمون كان يحسب أنه إذا قتل أخاه، وتخلص من من أشياعه ومساعديه، وبعد أن توتي الحملة الدعائية ضدهم ثمارها ـ كان يحسب ويقدر ـ أن الطريق يكون قد مهد له للاستقرار في الحكم، وأنه سوف يستطيع بعد هذا أن يطمئن، وينام قرير العين.

ولكن فأله قد خاب، وانقلبت مجريات الأمور في غير صالحه، فإن الإيرانيين قد: (انفضوا بعد الحرب الأهلية المفجعة بين الأمين والمأمون، عن

____________

(١) المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٤٩٥.

١٥٩

تأييد العباسيين)(١) . انفضوا عنه ليمنحوا العلويين عطفهم ومحبتهم، وتأييدهم، لأنهم يعرفون أنهم هم الذين يقيمون العدل، ويعملون بشريعة الله ـ وما موقف نيسابور، وصلاتي العيد، إلا الدليل الواضح والقاطع على تلك العاطفة، وذلك الحب والتقدير. وأيضاً انفضوا عنه لأنه قد كشف لهم عن وجهه الحقيقي، وعرفهم بواقعه الأناني البشع، وخصوصاً بعد أن عانوا ما عانوا هم وغيرهم من صنوف الظلم والجور والاضطهاد، في ظل نظام الحكم الذي طالما عملوا من أجله، وضحوا في سبيله.

وحتى لو أنهم كانوا لا يزالون على تأييدهم له، فإنه لا يستطيع بعد هذا أن يعتمد على ذلك التأييد، وعلى ثقتهم به طويلاً، فإنه كان من السهل ـ بعد أن فعل بأخيه وأشياعه، وغيرهم. ما فعل ـ أن يكتشفوا أن ذلك منه ما كان إلا سياسة ودهاء. كما أنه أصبح من الصعب عليهم ـ بعد تجربتهم الأولى معه، ومع وعوده، التي ما أسرع ما نسيها ـ أن يقتنعوا منه بالأقوال التي لا تدعمها الأفعال، ولسوف لا يطمئنون إليه، ولن يتفادوا له ـ بعد هذا ـ بالسهولة التي كان يتوقعها.

الموقف الصعب:

كانت تلك لمحة خاطفة عن موقف العباسيين، والعرب تجاه المأمون. ذلك الموقف، الذي كان يزداد حساسية وتعقيدا، يوماً عن يوم. أضف إلى ذلك أيضاً الخطر الذي كان يكمن في موقف الخراسانيين، الذين رفعوا المأمون على العرش، وسلموا إليه أزمة الحكم والسلطان..

وإذا ما أضفنا إلى ذلك كله، موقف العلويين، الذين اغتنموا فرصة الصدام بينه وبين أخيه، لتجميع صفوفهم، ومضاعفة نشاطاتهم، فلسوف تكتمل أمامنا ملامح الصورة لحقيقة الوضع والظروف، التي كان يعاني منها المأمون، ونظام حكمه آنذاك.. سيما ونحن نراه في مواجهة تلك الثورات العارمة، وبالأخص ثورات العلويين أقوى خصوم الدولة العباسية، والتي كانت تظهر من جانب ومكان، وكل ناحية من نواحي مملكته.

____________

(١) إمبراطورية العرب ص ٦٤٩.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627