مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228148 / تحميل: 6444
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

جملة عارضة:

لقد بدأ ابن تيميه كلامه بنفي الثابت، وإثبات المنفي، ومحاولة النيل من شخص أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وتفضيل الخوارج وبني أميّة على شيعة عليّ وأهل بيت النبوّة الطاهر؛ إلاّ أنّه، ولدفع دَخَلٍ، قد ذكر في تفريعه الثاني «أنّ إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عليّاً يحبّ الله ورسوله، ويحبُّه اللهُ ورسوله حقّ»، وعقّب بعدها بشتم الشيعة والتشكيك بإيمان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام !

نقول: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا بعث من بعث، لم يقل بشأن أحدٍ منهم، ما قاله بحقّ عليّعليه‌السلام ، فماذا يعني ذلك؟ ولقد قرنصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الحبّ الخاصّ بتحقيق النّصر والفتح على يَدي عليّعليه‌السلام ؛ ولذا لسنا - بعد هذا - بحاجة إلى شهادة ابن تيميه وأضرابه!

الخوارج

أفصح ابن تيميه عمّا في نفسه فألقاه على لسان الخوارج ليقول بردّة أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، وموته على الكفر!

وقبل الحديث حول الخوارج وما جاء فيهم من أحاديث توجب قتلهم، وأنّ لقاتلهم من الأجر الجزيل، نذكر طرفاً من أخبارهم تُظهر جهالتهم وأنّهم رجال سوء؛ ومع ذلك لم نجدهم قد كفّروا أميرالمؤمنينعليه‌السلام . فمِن خبرِهم: بعد أن فرغ أميرالمؤمنينعليه‌السلام من قتال (الناكثين) أهل الجَمَل، بدأت فتنة (القاسطين) في الشام، فقد أعلن معاوية تمرّده وخروجه على أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ فكانت

١٠١

وقعة صفّين، وكانت أشدّ أيذامها هي الواقعة الخميسيّة، نسبةً إلى اليوم الذي حصلت فيه وهو: يوم الخميس؛ وتسمّى أيضاً «ليلة الهرير»؛ سمّيت بذلك لشدّتها، حيث جعل بعضهم يهرّ على بعض، ويعتنق بعضهم بعضاً، وجعل عليّعليه‌السلام يقف ساعةً بعد ساعةٍ ويرفع رأسه إلى السماء وهو يقول: «اللّهمّ إليك نُقِلَت الأقدام، وأفضت القلوب، ورُفعت الأيدي، وامتدّت الأعناق، وشخصت الأبصار، وطُلبت الحوائج...»« رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (1) .

ثمّ إنّه حمل في سواد اللّيل وحملت مع الناس، فكلّما قتل بيده رجلاً من أهل الشام كبّر تكبيرة، حتّى أحصي له ما يزيد على خمسمائة تكبيرة، في كلّ تكبيرة له قتيل(2) .

رفعُ المصاحف

صبيحة تلك اللّيلة، كاد أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يحسم المعركة بالنصر المؤزّر ويُنهيَ الفتنة، وقد أشرف مالك الأشتر على دخول عسكر معاوية. وهنا وقعت الفتنة، إذ قال معاوية لعمرو بن العاص: ويحك أبا عبدالله! أين حيَلُك التي كنتُ أعرفها منك؟ فقال عمرو: تريد ماذا؟ قال: أُريد أن تسكّن هذه الحروب؛ فقد أُبيد أهل الشام. فقال عمرو: إن أحببتَ فأمر بالمصاحف أن تُرفع على رؤوس الرماح، ثمّ ادعهم إليها. فأمر معاوية بالمصاحف فرفعت على رؤوس

____________________

(1) الأعراف: 89.

(2) وقعة صفين لنصر بن مزاحم (ت 212 هـ) 477، وفي الفتوح لابن أعثم (ت 314 هـ) قال: خمسمائة تكبيرة وثلاثٌ وعشرون تكبيرة (الفتوح 2: 178).

١٠٢

الرماح، وصاح أهل الشام: يا عليّ اتّق الله أنت وأصحابك في هذه البقيّة، هذا كتاب الله بيننا وبينكم(1) .

الفتنة

في هذه المرحلة الحاسمة، وقع اللّجاج في صفوف جيش أميرالمؤمنينعليه‌السلام في شأن المصاحف المرفوعة؛ فالذين ملّوا الحرب وفي نفوسهم مرض تداعوا مطالبين أميرالمؤمنينعليه‌السلام بوقف الحرب والإجابة إلى حُكم القرآن! فقال لهم: «ويحكم! أنا أوّلُ من دعا إلى كتاب الله وأوّل من أجاب إليه، وليس يحلّ لي ولا يسعُني في ديني أن أُدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إني إنّما قاتلتهم ليدينوا بحُكم القرآن، فإنّهم قد عصَوُا الله فيما أمرهم فيه، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم، وأنّهم ليس العمل بالقرآن يريدون»(2) .

إلاّ أنّ الفرقة المارقة أصرّت على موقفها وحملته على أن يبعث إلى الأشتر وبذلك انقلب الموقف ونجا معاوية الذي كان يمنّي نفسه الفرار، فلقد كان بعد ذلك يقول: «واللهِ رجع عنّي الأشتر يوم رفع المصاحف، وأنا أُريد أن أسأله أن يأخذ لي الأمان من عليّ، وقد هممتُ بالهرب»(3) .

____________________

(1) الفتوح 2: 179، وفي وقعة صفّين بتوسّع واختلاف في بعض الألفاظ.

(2) وقعة صفّين 489 - 490، الفتوح 2: 183، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 217.

(3) الفتوح 2: 185.

١٠٣

الهُدنة

بعد الذي كان من المارقين، توقّف الناس عن القتال وجرت مكاتبات طويلة انتهت بالاتّفاق على عقد هدنة مدّتها سنة، وكتبوا بذلك كتاباً وموثقاً وتقرّر أن يعيّن كلُّ فريق حكماً يرضون حكمه. فاختار أهل الشام: عمرو بن العاص، واختار الأشعث والذين صاروا خوارج بعد ذلك أبا موسى الأشعريّ، رغم رفض أمير المؤمنينعليه‌السلام له!

رفض التحكيم

بعد كتابة الكتاب وشهادة الشهود؛ خرج الأشعث بنسخةٍ منه يقرؤها على الناس، فتعالت أصوات المخالفين لأمير المؤمنينعليه‌السلام : لا حُكم إلا لله، الحُكم لله يا عليّ لا لك! لا نرضى أن يُحكِّم الرّجال في دين الله، وقد كنّا زللنا وأخطأنا حين رضينا بالحكمين، وقد بان لنا خطأنا وزللُنا فرجعنا إلى الله وتبنا! فارجع أنت يا عليّ كما رجعنا، وتُبت إلى الله كما تُبنا، وإلاّ برئنا منك!

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ويحكم! أبعدَ الرّضى والميثاق والعهد نرجع؟!

أليس الله تعالى قد قال:« أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1) ، وقال:« وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً » (2) . فأبى عليّعليه‌السلام أن يرجع، وأبت الخوارج إلاّ تضليل التحكيم والطعن فيه، فبرِئتْ من

____________________

(1) وقعة صفّين 408 - 552، الفتوح 3: 318 - 325 و 4: 89 - 90، وشرح نهج البلاغة 2: 29.

١٠٤

عليّعليه‌السلام ، برئ عليّ منهم.

فلمّا رجع أهل العراق لعراقهم، وأهل الشام لشامهم، انحاز مخالفوا أمير المؤمنينعليه‌السلام وساروا حتّى نزلوا بحروراء، وأمّروا عليهم عبد الله بن الكوّاء(1) .

وقفة تأمّل

إن الخوارج الذين أقامهم ابن تيميه بيّنةً على تضليل الشيعة وتكفير أميرالمؤمنينعليه‌السلام ؛ قد وجدناهم غارقين في وحل جهل مظلم وأعرابيّة غليظة أوردتهم المهالك! فهم الذين حملوا أميرالمؤمنينعليه‌السلام على قبول التحكيم عملاً منهم بخديعة ابن العاص، ورفضوا عبد الله بن عبّاس الذي اختاره عليٌّ حكماً له، وأصرّوا على أبي موسى الأشعريّ ولم يكن موضع رضى أميرالمؤمنين لأسبابٍ بيّنها لهم، فإذا صار التحكيم والاتّفاق على عقد هدنة أمدها سنة؛ رفضوا التحكيم! وحجّتهم أنّه لا يجوز تحكيم الرجال في دين الله! إلاّ أنّهم كانوا أصدق من ابن تيميه إذ ردّوا الخطأ إلى أنفسهم، ولكنّهم انتقلوا إلى مفارقة أُخرى.

فقد طلبوا من أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يتوب من ذنب ارتكبوه هُم! فينقض العهد والميثاق بعد توكيده، فأبىعليه‌السلام مستدلاًّ عليهم بكتاب الله؛ فلمّا انتهوا إلى الحدّ هذا؛ فارقوا أميرالمؤمنينعليه‌السلام وعاثوا فساداً؛ والمرء مع من أحبّ!

١٠٥

مناظرة ابن عبّاس للخوارج

بعد انحياز الخوارج إلى حروراء، قرية قرب الكوفة، بعث أمير المؤمنين إليهم ابن عبّاس ليناظرهم، فأقبل عليهم ابن عبّاس وطلب أن يخرج إليه رجل منهم ليكلّمه، فخرج إليه: عتاب بن الأعور الثعلبيّ، فحاججه ابنُ عبّاس حتّى ألزمه الحجّة، وحمله على أن يقول: إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون، ويحك يا ابن عباس! احتلتَ واللهِ حتّى أوقعتني في أمر، وألزمتني الحجّة حتّى جعلتني ممّن أُخرّب دار الله. لكن ويحك يا ابن عبّاس! فكيف التخليص ممّا أنا فيه؟ قال ابن عبّاس: الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخْربته الأمّة من دار الإسلام. قال: فدُلّنيعلى السّعي في ذلك. قال ابن عبّاس: إنّ اوّل ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في خراب هذه الدار فتعاديَه، وتعلم من يريد عمارتها فتُواليَه. قال: صدقت يا ابن عبّاس، واللهِ ما أعرفُ أحداً في هذا الوقت يحبّ عمارة دار الإسلام غير ابن عمّك عليّ بن أبي طالب، لو لا أنّه حكّم عبد الله بن قيس(1) في حقٍّ هو لَهُ!...؛ فصاحت الخوارج: هيهات يا ابن عبّاس! نحن لا نتولّى عليّاً بعد هذا اليوم أبداً، فارجع إليه وقل له فليخرج إلينا بنفسه حتّى نحتجّ عليه ويسمع من كلامنا.

فخرج عبد الله بن عبّاس إلى عليّعليه‌السلام ، فخبّره بذلك، فركب إلى القوم في مائة رجل من أصحابه حتّى وافاهم بحروراء، فلمّا بلغ ذلك الخوارج ركب عبد

____________________

(1) هو أبو موسى الأشعريّ.

١٠٦

الله بن الكوّاء في مائة رجل من أصحابه حتّى واقفه، فقال له أمير المؤمنين: يا ابن الكوّاء، إنّ الكلام كثير، ابرزْ إليّ من أصحابك حتّى أُكلّمك؛ قال ابن الكوّاء: وأنا آمنٌ من سيفك؟ قالعليه‌السلام نعم، وأنت آمنٌ من سيفي. فخرج ابن الكوّاء في عشرةٍ من أصحابه، ودنوا من عليّعليه‌السلام فذكر عليّعليه‌السلام الحرب الذي كان بينه وبين معاوية، وذكر اليوم الذي رُفعت فيه المصاحف وكيف اتّفقوا على الحكمين...، ومخالفة الخوارج له، فانحاز ابن الكوّاء مع العشرة الذين معه إلى صفّ أمير المؤمنين، وقد رجعوا عن رأي الخوارج، ومضى الباقون وهم يقولون: لا حُكمَ إلاّ لله ولا طاعة لمن عصى الله(1) .

وقفة تأمّل أخرى

لقد وجدنا فيما ذكرنا أنّ عتاب بن الأعور الثعلبيّ الخارجيّ قد أقرّ لابن عبّاس أنّه قد ألزمه الحجّة، وأنّ سعي الخوارج فسادٌ في الأرض، وأنّ الحقّ مع أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، فأين هذا ممّا ادّعاه ابن تيميه؟!

وقد وجدنا ابن الكوّاء، وهو رأس الخوارج، بعد مناظرة أمير المؤمنينعليه‌السلام له، قد رجع هو والعشرةُ الذين كانوا معه عن رأي الخوارج وصاروا إلى صفّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأمّا بقيّة الخوارج فإنّهم قد استزلّهم الشيطان وركبتهم الحميّة الجاهليّة، ومضوا ينادون:لا حُكمَ إلاّ لله ولا طاعة لمن عصى الله؛ أي أنّهم لم يكفّروا عليّاًعليه‌السلام كما زعم ابن تيميه.

____________________

(1) الفتوح 4: 90 -97.

١٠٧

مقتل عبد الله بن خَبّاب بن الأَرَتّ

إنّ الخوارج الذين تشدّق ابن تيميه بهم وجعلهم حجّةً على الإمام عليّعليه‌السلام وشيعته، عاثوا في الأرض فساداً؛ فبعد انحياز رئيسهم ابن الكوّاء وعشرةٍ منهم إلى صفّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام ؛ تدارسوا أمرهم فأمّروا عليهم عبد الله بن وهب التّميميّ الراسبيّ، وحرقوص بن زهير البَجَليّ. وعقدوا العزم على أن يعسكروا بالنَّهروان والتحق بهم أصحابٌ لهم من البصرة مع مِسعَر بن فدكيّ التميميّ، فاستعرض هؤلاء الناس في طريقهم، فإذا هم برجلٍ يسوق بامرأتِه على حمارٍ له، فدعوه وانتهروه ورعّبوه، وقالوا له: من أنت؟ فقال: رجلٌ مؤمن. قالوا: فما اسمُك؟ قال: أنا عبد الله بن خبّات بن الأرتّ، صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفّوا عنه، قالوا له: ما تقول في عليّ؟ قال: أقول: إنّه أمير المؤمنين وإمام المسلمين وحدّثني أبي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل، فيُصبح مؤمناً ويُمسي كافراً؛ ويُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً». فقالوا: والله لنقتلنّك قتلةً ما قُتِلَها أحد! وأخذوه فكتّفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حُبلى مُتمّ حتّى نزلوا تحت نخل فسقطت رطبة منها، فقذفها بعضهم في فيه، فقال له رجل منهم: أبغير حِلّها ولا ثمن لها؟! فألقاها من فيه واخترط سيفه فمرّ به خنزير لذمّيّ فقتله، فقال له بعض أصحابه: إنّ هذا لمن الفاسد في الأرض! فطلب صاحب الخنزير حتّى أرضاه، فقال ابن خبّاب: لئن كنتم صادقين فيما أرى وأسمع؛ إنّي لآمنٌ من شرّكم. فجاءوا به وألقوا به على الخنزير فذبحوه، وبقروا بطن امرأته وهي تقول: أما تتّقون الله؟! وقتلوا ثلاث نسوةٍ كُنّ معها.

١٠٨

وقد قال الخوارج لعبد الله بن خبّاب ساعة ذبحه: إنّ هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك! وكان في عنقه مصحف. وساوموا رجلاً نصرانيّاً بنخلةٍ له، فقال: هي لكم، فقالوا: ما كنّا لنأخذها إلاّ بثمن، فقال: واعجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خبّاب ولا تقبلون جَنا خلة إلاّ بثمن؟!

وبلغ أميرَ المؤمنينعليه‌السلام ما اجترأه الخوارج من ترويع الناس بالاستعراض، وقتلهم عبد الله بن خبّاب وتلكُم النّسوة، فبعث إليهم الحارث بن مرّة العبديّ ليأتيهم فينظر فيما بلغه عنهم، فخرجوا إليه فقتلوه(1) .

سؤال

قومٌ يقتلون صحابيّاً ولم يكن رافضيّاً! لأنّه صدقهم القول في معتقده في عليّعليه‌السلام ، ويبقرون بطن امرأته الحامل فيقتلونها مع ثلاث نسوة! والإسلام يأبى قتل النساء والذّريّة، وهذا هو مبدأ الإمام عليّعليه‌السلام في حروبه كلّها، وهم إذ يقتلون المؤمنين من غير ذنب، فإنّهم يرون للخنزير حرمةً لا يجوز هتكها، وحمل سلوكهم رجلاً نصرانيّاً أن قال لهم: «واعجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خبّاب ولا تقبلون جنا نخلةٍ إلاّ بثمن؟!»؛ وإنّ من مبادئ الإسلام حرمة قتل الرّسل، فما بالُهم عَدَوا على رسول الإمام عليّعليه‌السلام فقتلوه؟!

كلّ هذه المفاسد العظيمة، وما سبقها من إقرارٍ على أنفسهم وانحياز أميرهم

____________________

(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 122، وأنساب الأشراف للبلاذريّ 3: 141، وتاريخ الطبري 4: 61، والفتوح 4: 198.

١٠٩

وعشرة آخرين منهم إلى صفّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ وما سنذكره من رجوع ألوف منهم، ومع كلّ ذاك يبقى الخوارج حجّة عند ابن تيميه فيما ذكر!!

مناظرة أمير المؤمنينعليه‌السلام للخوارج

بعد الذي كان من الخوارج، سار إليهم أمير المؤمنينعليه‌السلام بأصحابه، حتّى إذا صار قريباً من النهروان جاء رجلٌ يعدو، فسأله أمير المؤمنين: ما وراءك؟ فقال: إنّ القوم لمّا علموا أنّك تقاربت منهم عبروا النهروان هاربين، فقالعليه‌السلام : أنت رأيتهم حين عبروا؟ قال نعم؛ فقال له: كلاّ والذي بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ نبيّاً، لا يعبرون حتّى يَقتُلَ اللهُ مقاتلتهم على يدي، فلا يبقى منهم إلاّ أقل من عشرة، ولا يقتل من أصحابي إلاّ أقلّ من عشرة، ذلك عهدٌ معهود وقضاءٌ مقضيّ(1) .

ولمّا صار قبالة القوم مدّوا الرماح في وجهه وهم يقولون: لا حكم إلاّ للهِ، فقال أميرالمؤمنين: لا أنتظر فيكم إلا حُكم الله(2) .

ثمّ إنّهعليه‌السلام دخل معهم في مناظرة طويلة، فكانوا كلّما أشكلوا عليه أمراً أجابهم بدليلٍ من القرآن أو السنّة، حتّى قطع جميع حججهم، وجعل بعضُهم يقول لبعض: صدق فيما قال، ولقد دحَضَ جميع ما احتججنا عليه؛ ثمّ صاح القوم من كلّ ناحية وقالوا: التوبةَ التوبة يا أمير المؤمنين!

فاستأمن إليه منهم ثمانية آلاف، وبقي على حربه أربعة آلاف، وأقبلعليه‌السلام

____________________

(1) الفتوح 4: 120، والكامل للمبرد 543.

(2) الفتوح 4: 268.

١١٠

إلى هؤلاء المستأمنين إليه فقال: اعتزلوا عنّي في وقتكم هذا وذروني والقوم.

ثمّ اشتبك العسكران في معركة عدم نظيرها؛ فلم يُقتَل من أصحاب أميرالمؤمنينعليه‌السلام إلاّ ثمانية، وقيل: تسعة رجال، ولم يفلت من الأربعة آلاف خارجيّ إلاّ تسعة رجال، انتهى أحدُهم إلى قرب حرّان؛ ونسله فيها(1) ، وهي المدينة التي ولد فيها ابن تيميه وترعرع بها.

تعقيب

إنّ الخوارج، لمّا فنّد أميرالمؤمنينعليه‌السلام آراءهم وأبطل حججهم فأعلنوا توبتهم، نادوا عليّاًعليه‌السلام بأمرة المؤمنين، ممّا يعني أنّهم كانوا يعتقدون ذلك ولكن استحوذ عليهم الشيطان ثمّ ثابوا إلى رُشْدهم، ولم يبق إلاّ مَن حقّ عليه العذاب فما الدنيا أصابوا وهم في الآخرة من الخاسرين.

وقبل ذكر ما ورد فيهم من الأحاديث نقول لابن تيميه: هلاّ كنت مع الثمانية آلاف، وأحد عشر ممّن سبقهم إلى التوبة - ابن الكوّاء وجماعته - فكنت معهم في صفّ عليّ وشيعته، لا مع أهل اللّجاجة ممّن أخبر الإمام عليّعليه‌السلام أنّه لن ينجو منهم إلاّ دون العشرة؛ فكان كما قال؟!

الأخبار والآثار الواردة في الخوارج

ذو الخُوَيصرة التّميميّ: وهو الخارجيّ الأوّل، ومن قصّته: حينما كان رسول

____________________

(1) الفتوح 4: 269 - 275.

١١١

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعطي الناس من أموال حنين، جاء ذو الخويصرة التّميميّ فقال: يا محمّد، قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا اليوم، فقال رسول الله أجل، فكيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلتَ؛ فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال: ويحك! إذا لم يكن العدلُ عندي فعند من يكون؟! فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله، ألا أقتله؟ فقال: «لا، دَعهُ، فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدّين حتّى يخرجوا منه كما يخرج السّهم من الرّميّة، يُنظَر في النَّصل فلا يوجد شيء، ثمّ في القِدْح فلا يوجد شيء، ثمّ في الفوق فلا يوجد شيء، سبق الفرث والدمّ»(1) .

رواية جابر: مسلم صاحب الصحيح: حدّثنا محمّد بن رمح بن المهاجر، أخبرنا اللّيث عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجلٌ رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجعرانة منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضّة، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقبض منها يعطي الناس، فقال: يا محمّد! أعدل! قال: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟! لقد خِبتَ وخسرت إن لم أكن أعدل فقال عمر: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدّث الناس أنّي أقتل أصحابي إنّ هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم

____________________

(1) السيرة النبويّة، لابن هشام 4: 139.

«يتعمّقون في الدّين» أي يتتبّعون أقصاه، «والنّصل»: حديد السهم. و «القدح»: السّهم.

والفوق: طرف السهم الذي يباشر الوتر. و«الفرث»: ما يوجد في الكرش. والمعنى: أنّهم ليس لهم من الدّين شيء، كالسهم يخترق البدن ويخرج من غير أن يعلق به أثر من دم وغيره.

١١٢

من الرَّمِيّة.(1)

كلمة مع ابن تيميه: ذو الخويصرة هو الخارجيّ الأوّل، له أصحاب؛ فخرج هو على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج أصحابه على عليّعليه‌السلام الذي هو نفس رسول الله كما في آية المباهلة، وأخوه يوم المؤاخاة، وقد أنكرته يا ابن تيميه وأثبتناه، وبحديث المنزلة إذ هارون أخو موسىعليهما‌السلام ...؛ وأنت تتولّى الخوارج من غير

____________________

(1) صحيح مسلم، بشرح النوويّ 7: 159.

ذكر النوويّ هامش المصدر: قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: إنّ من سبّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كُفِّر وقتل، وهذا الرجل قال: اعدل يا محمّد واتّق الله يا محمّد، وخاطبه خطاب المواجهة بحضرة الملأ حتّى استأذن وخالد في قتله؛ فقال: معاذ الله أن يتحدّث الناس أن محمّداً يقتل أصحابه! فهذه هي العلّة. وسلك معه مسلكه مع المنافقين الذين آذوه وسمع منهم في غير موطن ما كرهه، لكنّه صبر استبقاءً لانقيادهم وتأليفاً لغيرهم، لئلاّ يتحدّث الناس أنّه يقتل أصحابه فينفروا. وقد رأى الناس هذا الصنف في جماعتهم، وعدوّه من جملتهم. قوله 9: «ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرتَ»، روي بفتح التاء في خبتَ وخسرت، وبضمّهما فيهما، ومعنى الضّم ظاهرٌ؛ وتقدير الفتح: خبت أنت أيّها التابع إذا كنتُ لا أعدل لكونك تابعاً ومقتدياً بمن لا يعدل، والفتح أشهر والله أعلم. قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم» قال القاضي - عياض -: فيه تأويلان، أحدهما معناه: لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوا منه، ولا لهم حظّ فيه سوى تلاوة الفم: الحنجرة والحلق، إذ بهما تقطيع الحروف. والثاني: معناه لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة. قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله «يمرقون منه كما يمرق السهم من الرميّة»، وفي الرواية الأُخرى يمرقون من الإسلام، معناه: يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ الصيد من جهة أخرى ولم يتعلّق به شيء منه.

وقال الخطابيّ: هو هنا الطاعة، أي من طاعة الإمام، وفي هذه الأحاديث دليل لمن يُكفّر الخوارج.

١١٣

تمييز، فبالضرورة أنّك تتولّى الخارجيّ الأوّل، فهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عادل عندك؟!

رواية أبي ذرّ: مسلم: حدّثنا شيبان بن فرّوخ، حدّثنا سليمان بن المُغيرة، حدّثنا حُميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ بعدي من أمّتي قومٌ يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقِيَهم، يخرجون من الدّين كما يخرج السهم من الرّميّة ثم لا يعودون فيه، هم شرُّ الخلق والخليقة».

فقال ابن الصامت: لقيت رافع بن عمرو الغفاريّ أخا الحكم الغفاريّ فقلت له: ما حديث سمعته من أبي ذرّ كذا وكذا؛ فقال وأنا سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) .

فالخوارج شرّ خلق الله، وفسّر ذلك بخروجهم من الدين، ومن طاعة الإمام، وكلُّ ذلك متحقّق في الخوارج منفيّ عن شيعة أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ذكرنا شيئاً من أخبارهم وفساد معتقدهم وفساد سلوكهم، ونعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاهم بسنده عن أبي سعيد الخُدريّ؛ من حديث توزيع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مغنماً بعثه إليه الإمام عليّعليه‌السلام ، وفيه: فجاء رجلٌ كثُّ اللّحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس(2) ؛ فقال: اتّق الله يا محمّد، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «فمن يطع الله إن عصيتُه، أيأمَنُني على أهل الأرض ولا تأمنونني؟! قال: ثمّ أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله؛ فقال رسول الله: «إنّ من ضِئْضِىء هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان! يمرقون

____________________

(1) صحيح مسلم 7: 174.

(2) كثّ اللّحية: كثير اللّحية. والوجنة: لحم الخدّ. غائر العينين: صغيرهما كأنّهما مطموستان. ناتئ الجبين: بارز الجبين وهو جانب الجبهة. محلوق الرأس: واضح، وكانت حلاقة الرأس علامة لهم.

١١٤

من الإسلام كما يمرق السّهم من الرّميّة، لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد»(1) .

وأورده بسندٍ آخر عن أبي سعيد الخدريّ، وفيه «لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل ثمُود»(2) .

فهنيئاً لمن يوالى قوماً يقتلون أهل الإسلام ويَدَعون أهل الأوثان! ولذلك توعّدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لو أدركهم لاستأصلهم وصدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الصادق المصدّق؛ فلقد وجدناهم يقتلون الصحابيّ عبد الله بن خبّاب بن الأرتّ، ويبقرون بطن امرأته الحامل، ويقتلون النّسوة الثلاث؛ إلاّ أنّهم أشكلوا على صاحبهم إذ قتل خنزيراً لذمّيّ معاهد! وأخبارهم في استعراض الناس بالقتل مشهور.

وإذا فات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدركهم فيقتلهم قتلاً عامّاً؛ فقد أدركهم أمير المؤمنينعليه‌السلام فكانت له فضيلة قتالهم كما ذكر النوويّ، ولم يسلم من مجموع أربعة آلاف خارجيّ إلاّ تسعة انتهى أحدهم إلى قرب حرّان، وتناسل هناك؛ ولا ندري جزماً لِمَ احتجّ ابن تيميه الحرّانيّ بالخوارج على عليّ أميرالمؤمنين وشيعته؟!

____________________

(1) صحيح مسلم 7: 162. وفي شرح النوويّ: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ من ضِئضِي هذا» هو الأصل، والسنخ، والعنصر، والأرومة. قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد» أي قتلاً عامّاً مستأصلاً كما قال تعالى:( فَهَلْ تَرَى‏ لَهُم مِن بَاقِيَةٍ ) (الحاقّة: 8) وفيه الحثّ على قتالهم، وفضيلة لعليّرضي‌الله‌عنه في قتالهم.

(2) نفسه / 163.

١١٥

الحثّ على قتل الخوارج؛ واختصاص أميرالمؤمنين بذلك

أخرج النّسائيّ، قال: أخبرنا عليّ بن المنذر قال: أخبرنا عاصم بن كليب عن أبيه، قال: كنت عند عليّرضي‌الله‌عنه جالساً إذ دخل رجلٌ عليه ثياب السفر، وعليّ يكلّم الناس ويكلّمونه، فقال: يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أتكلّم؟ فلم يلتفت إليه وشغله ما فيه، فجلس إلى رجل قال له: ما عندك؟ قال: كنت معتمراً فلقيت إليه وشغله ما فيه، فجلس إلى رجل قال له: ما عندك؟ قال: كنت معتمراً فلقيت عائشة فقالت: هؤلاء القوم الذين خرجوا في أرضكم يسمّون حروريّة؟ قلت: خرجوا في موضع يسمّى حروراء؛ فقالت: طوبى لمن شهد منكم، لو شاء ابن أبي طالب لأخبركم خبرهم! فجئت أسأله عن خبرهم، فلمّا فرغ عليّعليه‌السلام قال: أين المستأذن؟ فقصّ عليه كما قصّت عليه؛ قال: إنّي دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وليس عنده غير عائشة، فقال لي كيف أنت يا عليّ وقومٌ كذا وكذا؟

قلتُ: الله ورسوله أعلم. قال: ثم أشار بيده فقال: قوم يخرجون من المشرق، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقِيَهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة، فيهم رجلٌ مُخَدَّج(1) ، كأنّ يده ثدْيُ حبشيّة، أنشدكم باللهِ أخبرتكم أنّه فيهم؟ قالوا: نعم؛ فجئتموني وأخبرتموني أنّه ليس فيهم، فحلفت لكم باللهِ أنّه فيهم، ثمّ أتيتموني به كما نعتّ لكم؟ قالوا: نعم؛ صدق اللهُ ورسوله(2) .

وعبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي اسحاق، عن سويد بن غفلة، عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يخرج قوم في آخر الزمان، يقرأون

____________________

(1) مُخَدَّج: أي ناقص اليد.

(2) خصائص أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام للنّسائيّ 145 - 146 / ح 178.

١١٦

القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرّميّة، قتالهم حقّ على كلّ مسلم»(1) .

والروايات كثيرة في أنّ الخوارج هم شرّ الخلق، يقتلهم أولى الناس بالحقّ، وقد قتلهم أمير المؤمنينعليه‌السلام ومعه أهل العراق.

عن الأعمش، عن خيثمة، عن سويد بن غفلة، عن عليّعليه‌السلام قال: والحديث نظير الذي قبله، إلاّ أنّ آخره: «فأينما أدركتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة»(2) .

وبسندٍ عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه ذكر أناساً يخرجون في فرقةٍ من الناس سيماهم التحليق، يمرقون من الدين كما يمرق السّهم من الرّميّة، هم شرّ الخلق، تقتلهم أولى الطائفتين بالحقّ، وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق(3) .

التفريع الثالث

افترض ابن تيميه أمراً بلا دليل! وذلك: إن كان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام أفضل من غيره في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فلا يدلُّ ذلك على أفضليّته بعد!

____________________

(1) مسند أحمد 1: 156، وخصائص أمير المؤمنين 144 / ح 174، ومسند أبي يعلى 1: 273.

(2) صحيح البخاريّ 3611، 5057، 6930 باب علامات النبوّة، وصحيح مسلم 7: 167 - 168، ومسند أحمد 1 / 81، 113، 131، والفضائل لأحمد / 1198، وسنن أبي داود / 4767، ومسند أبي يعلى 1 / 226، والخصائص للنّسائيّ 143 / 173.

(3) صحيح مسلم 7: 169، والخصائص للنّسائيّ 140 / 168.

١١٧

ولو كان عنده ثمّة ما يعضّد ما ذهب إليه لذكره؛ فعليه: إنّ عليّاً أمير المؤمنينعليه‌السلام أفضل الجميع بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حياته وبعد مماته.

التفريع الرابع

وفرّع رابعاً، ذلك قوله: لو قدّرنا أفضليّته، لم يدلّ ذلك على أنّه إمام معصوم منصوصٌ عليه.

وجوابنا: لقد جارينا ابن تيميه، بغية إمامة الحجّة على من وقع في حبائل فتنته من غير تدبّر؛ وإلاّ فأمير المؤمنين قد نطق القرآن الكريم بأفضليّته إذ اختاره الله تعالى وليّاً للمسلمين؛ وذلك قوله تعالى:( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (1) ، وقد تكلّمنا حول الآية فيما مضى، وأنّها نزلت في أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لمّا تصدّق بخاتمه في الصلاة، فقرن الله سبحانه ولاية عليّعليه‌السلام بولايته وولاية رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يجوز على الله عزّ وجلّ أن يختار إلاّ من هو أفضل.

ولم ينزل سبحانه بياناً ينسخ ذلك، فالآية محكمة، وعليّعليه‌السلام ولايته دائمة، خالدة مع خلود القرآن؛ فهو الأفضل بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى آخر الدهر.

____________________

(1) المائدة: 55.

ولا بأس بذكر بعض مصادر نزول الآية في أمير المؤمنينعليه‌السلام : تفسير مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) 1: 485 - 487، والذرّيّة الطّاهرة للدولابيّ (ت 310 هـ) 109 / 114، وتفسير الطبريّ 6: 156، وتفسير الحبريّ (ت 289 هـ) 261، وأنساب الأشراف (ت 279 هـ) 2: 381، وشواهد التنزيل 1: 181، والتفسير الكبير للفخر الرازيّ 3: 431، وتفسير ابن كثير 2: 71.

١١٨

وهذا دليل على عصمة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ فإنّ الله تعالى اختار محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّاً، والنبيّ معصومٌ بالضرورة، فكذلك وليُّ الله.

ومن أدلّة عصمتهعليه‌السلام : آية التطهير؛ وذلك قوله تعالى« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » (1) .

والآية في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين:.

روى ذلك: أم سلمة، وعائشة، وأبو سعيد الخدريّ، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقّاص، وابن عبّاس عن عبد الرحمان بن عبد الله بن دينار، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن أبي يسار، عن أمّ سلمة أنّها قالت: في بيتي نزلت هذه الآية:« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » . قالت: فأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي»، قالت أمّ سلمة، يا رسول الله، ما أنا من أهل البيت؟ قال: «إنّك أهلي، وهؤلاء أهل بيتي»(2) .

وعن فضيل بن مرزوق، عن عطيّة العوفيّ، عن أبي سعيد الخدريّ عن أمّ سلمة أنّها قالت: نزلت هذه الآية في عليّ:« إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً » . وقالت: قلت: يا رسول الله، ألست من أهل

____________________

(1) الأحزاب: 33.

(2) المستدرك على الصحيحين 2: 416 و 3: 146 وبذيله التلخيص للذهبيّ. وفي سنن الترمذيّ 5: 328 عن عمر بن أبي سلمة، ربيب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّ النبيّ قال: «أنت على مكانك وأنت إلى خير». وفي الباب عن أمّ سلمة، ومعقل بن يسار، وأبي الحمراء، وأنس بن مالك.

١١٩

البيت؟ قال: «إنّك على خير، إنّك من أزواج النّبيّ». وكان في البيت: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين:(1) .

ومثله عن عائشة: قال جُمَيع بن عُمَير: دخلت مع أمّي على عائشة فقالت: أخبريني كيف كان حبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ؟ فقالت عائشة: كان أحبّ الناس إلى رسول الله، لقد رأيته يوماً أدخله تحت ثوبه وفاطمة وحسناً وحسيناً؛ فقال: «اللّهمّ اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً». قال: فذهبت لأدخل رأسي فمنعني، فقلت: يا رسول الله، أولستُ من أهلك؟ قال «إنّك على خير»(2) .

منزلة دعوان

قال أبو الفرج: كتب إليّ عبد الله الجبائيّ قال: رأيت دعوان بن عليّ بعد موته وكأنّ عليه ثياباً بيضاً وعمامةً بيضاء وهو يمضي إلى الجامع لصلاة الجمعة، فأخذت يده اليسرى ومضينا، فلمّا بلغنا إلى حائط الجامع قلت له: يا سيّدي، إيش لقيت؟ فقال: عُرِضتُ على الله خمسين مرّة وقال لي: إيش عملت؟ فقلت: قرأتُ القرآن وأقرأته، فقال لي: أنا أتولاّك، أنا أتولاك. قال عبد الله: فأصابني الوجد وصحت: آه، وضربتُ بيدي حائط الجامع ثلاث مرّات أتأوّه وأضرب الحائط بكتفي، ثمّ استيقظت.(3)

____________________

(1) مشكل الآثار للطحاويّ 1: 334، وتفسير الحبريّ 298، والمعجم الكبير للطبرانيّ 1: 127، وشواهد التنزيل الرقم 712 - 713، وتفسير ابن كثير 3: 485.

(2) مختصر تاريخ دمشق 17: 365.

(3) المنتظم لأبي الفرج ابن الجوزيّ 18: 58 / 4137.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الذّلفاء ».

فانطلق جويبر برسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده، فاستأذن فأعلم فاذن له فدخل وسلم عليه ثمّ قال: يا زياد بن لبيد انّي رسول رسول الله إليك في حاجة لي فأبوح بها أم أسرّها إليك ؟

فقال له زياد: بل بح بها فإنّ ذلك شرف لي وفخر.

فقال له جويبر: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لك: زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقال له زياد: أرسول الله أرسلك إليّ بهذا ؟

فقال له: نعم ما كنت لأكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال له زياد: إنّا لا نزوّج فتياتنا إلّا أكفّائنا من الأنصار، فانصرف يا جويبر حتّى ألقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاخبره بعذري، فانصرف جويبر وهو يقول: والله ما بهذا نزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فسمعت مقالته الذلفاء بنت زياد وهي في خدرها فأرسلت إلى أبيها: ادخل إليّ، فدخل إليها، فقال ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبراً ؟

فقال لها: ذكر لي أنّ رسول الله أرسله، وقال: يقول لك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقالت له: والله ما كان جويبراً ليكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحضرته فابعث الآن رسولاً يرّد عليك جويبراً.

فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً فقال له زياد: يا جويبر مرحباً بك اطمئنّ حتّى أعود إليك.

ثمّ انطق زياد إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له بأبي أنت واُميّ إنّ جويبراً أتاني برسالتك وقال: إنّ رسول الله يقول لك: زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء، فلم ألن له بالقول، ورأيت لقاءك ونحن لا نزوّج إلا أكفّاءنا من الأنصار.

فقال له رسول الله: « يا زياد ! جويبر مؤمن والمؤمن كفؤ للمؤمنة، والمسلم كفؤ

٣٦١

للمُسلمة فزوّجهُ يا زياد ولا ترغب عنهُ ».

فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته فقال لها ما سمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت له: إنّك عصيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكفرت فزوّج جويبراً.

فخرج زياد، فأخذ بيد جويبر ثمّ أخرجه إلى قومه فزوّجه على سنّة الله وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وضمن صداقه(١) .

وروي أنّه جاء قيس بن مطاطيه [ وهو رجل منافق ] إلى حلقة فيها سلمان الفارسيّ وصهيب الروميّ وبلال الحبشيّ فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هذا ؟

وهو يقصد بالرجل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقصد من مجموع كلامه أنّ الأوس والخزرج من قومه العرب ينصرونه لأنّه من قومه فما الذي يدعو الفارسيّ والروميّ والحبشيّ إلى أن ينصروه.

فقام إليه معاذ بن جبل فأخذ بتلابيبه ثمّ أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بمقالته، فقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مغضباً يجرّ رداءه حتّى أتى المسجد ثمّ نودي: أنّ الصلاة جماعة وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أيُّها النّاس إنّ الربّ واحد والأب واحد وإنّ الدين واحد، وليست العربيّة لأحدكم بأب، ولا اُمّ، وإنّما هي اللسان، فمن تكلّم بالعربيّ فهو عربيٌّ ».

فقام معاذ، فقال فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول الله ؟ قال: « دعهُ إلى النّار » فكان قيس ممّن ارتدّ في الرّدّة فقتل(٢) .

وقد خطب الإمام عليّ بن أبي طالب وقال: « أيُّها النّاس إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمةً، وإنّ النّاس كلُّهم أحرار ولكنّ الله خوّل بعضكم بعضاً فمن كان له بلاء فصبر في الخير، فلا يمنُّ به على الله عزّ وجلّ.

ألا وقد حضر شيء ونحن مسّووُن فيه بين الأسود والأحمر ».

__________________

(١) الكافي ٥: ٣٤٠ ـ ٣٤٢ والقصة مفصّلة وجديرة بالمطالعة.

(٢) تفسير المنار لمحمّد رشيد رضا ١١: ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

٣٦٢

فقال مروان لطلحة والزبير: ما أراد بهذا غيركما.

قال الراوي فأعطى كلّ واحد ثلاثة دنانير وأعطى رجلاً من الأنصار ثلاثة دنانير، وجاء ـ بعد ـ غلام أسود فأعطاه ثلاثة دنانير فقال الأنصار: يا أمير المؤمنين هذا غلام اعتقته بالأمس، تجعلنا وايّاه سواء ؟ فقال: « إنّي نظرتُ في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلاً، إنّي لا أرى في هذا الفيء فضيلةً لبني إسماعيل على غيرهم »(١) .

وروي أنّ الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام مرّ برجل من أهل السواد دميم المنظر فسلّم عليه، ونزل عنده وحادثه طويلاً، ثمّ عرض عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له فقيل له: يا ابن رسول الله أتنزل إلى هذا ثمّ تسأله عن حوائجه وهو أحوج إليك فقالعليه‌السلام : « عبد من عبيد الله، وأخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله يجمعنا وإيّاه خير الآباء آدمعليه‌السلام وأفضل الأديان الإسلام »(٢) .

هكذا نجد الإسلام على لسان نبيّه وأئمّته: يجعل الإيمان هو الرابطة الجامعة بين أفراد المسلمين والملاك الوحيد المكوّن للاُمّة الإسلاميّة دون سواه فيما ينفي كلّ ملاك آخر لكونه ملاكاً مزيّفاً وفرقاً غير فارق.

وعن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام : « لـمّا ولي عليٌّعليه‌السلام صعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

أمّا إنّي والله ما أرزأكم من فيئكم هذه درهماً ما قام بي عذق بيثرب فلتصدّقكم أنفسكم، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم، قال: فقام إليه عقيل كرّم الله وجهه فقال: فتجعلني وأسود في المدينة سواء، فقال: اجلس ما كان هاهنا أحد يتكلّم غيرك وما فضلك عليه إلّا بسابقة أو تقوى »(٣) .

__________________

(١) الكافي ٨: ٦٩.

(٢) تحف العقول: ٣٠٥ ( طبعة بيروت ) و: ٤١٣ ( طبعة طهران ).

(٣) وسائل الشيعة ١١: كتاب الجهاد ( باب ٣٩ ) نقلاً عن الكافي.

٣٦٣

ولعل من الجدير هنا أنّ نورد ما ذكره العلاّمة الطباطبائيّ في هذا الصدد تحت عنوان: حدود الدولة الإسلاميّة هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعيّة أو المصطنعة :

( لقد ألغى الإسلام فكرة الإنشعابات القوميّة، ورفض أن يكون لها أثرها في تكوّن الاُمّة، تلك الإنشعابات التي عاملها الأصليّ الحياة البدويّة والمعيشة القبائليّة العشائريّة أو اختلاف الوطن وهما أمران يجرّان ورائهما الاختلاف في الألسن والألوان ونشوء القبائل، والشعوب، ثمّ صارا سبباً لأن تحوز كلّ جماعة قطعة من الأرض وتخصّصها لنفسها، وتسمّيها وطناً يألفونه ويذبّون عنه.

وهذا وإن كان أمراً ساقهم إليه الحوائج الطبيعيّة التي يدفعهم الفطرة إلى رفعها غير أنّ فيه خاصّية تنافي ما يستدعيه أصل الفطرة الإنسانيّة، فإنّ الطبيعة تدعو ـ بالضرورة ـ إلى اجتماع القوى المتشتّتة وتألفها وتقوّيها بالتراكم والتوحيد لتنال ما تطلبه من غاياتها الصالحة بوجه أتمّ وأصلح.

والانشعابات بحسب الأوطان ( أو الألوان أو اللغات ) تسوق الاُمّة إلى توحّد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الاُخرى ذات الأوطان الاُخرى فتصير جماعة واحدة منفصلة الجسم والروح عن المجتمعات الاُخرى، فتنعزل الإنسانيّة عن التوحيد المطلوب والتجمّع المنشود وتصاب بالتفرّق والتشتّت الذي كانت تفرّ منه، كما ويترتّب على ذلك أن يعامل هذا الجزء البشريّ بقية الأجزاء البشريّة الاُخرى كما يعامل الإنسان سائر الأشياء الكونيّة، أي على أساس الاستثمار والاستخدام لا على أساس التعاون والتعايش والمعاشرة الإسلاميّة المطلوبة.

وهذا هو السبب في إلغاء الإسلام للإنشعابات القوميّة والتميّزات الأرضيّة وبناء الاجتماع على العقيدة دون الجنسيّة والقوميّة والوطن ونحو ذلك، حتّى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث فإنّ المدار فيهما على الاشتراك في العقيدة لا في المنزل والوطن مثلاً )(١) .

__________________

(١) تفسير الميزان ٤: ٢٠٠ بتصرّف بسيط.

٣٦٤

إنّ رابطة الإيمان لا تجمع الأفراد الحاضرين الأحياء فقط، وتشكّل منهم أمّة واحدة متعاطفة متحابّة، بل تجعل المؤمن يشعر بالاخوّة والعلاقة والرابطة حتّى بالنسبة إلى كلّ الذين سبقوه، وتطهّر قلبه من أيّة ضغينة أو غلّ تجاههم كما يقول القرآن.( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( الحشر: ١٠ ).

إنّ البحث حول الإشكالات الواردة على العناصر المكوّنة للاُمّة في نظر الحقوقيّين موكول إلى موضع آخر، ونحن هنا نكتفي ببيان العنصر المعقول الصحيح الذي يبني عليه الإسلام مفهوم الاُمّة ويحقّق وجودها الخارجيّ الحقيقيّ وهو رابطة الإيمان، ووحدة العقيدة.

إنّ الإيمان هو الملاك الطبيعيّ لتكوّن الاُمّة في نظر الإسلام، فهو الذي تترتّب عليه الحقوق، وتبتني عليه علاقات الفرد المؤمن مع الفرد الآخر في الاُمّة الإسلاميّة، وعلاقات الاُمّة مع غيرها من الطوائف والاُمم الاُخرى.

إنّ التجارب التاريخيّة المسلّمة، والوقائع المحسوسة أثبتت أنّ رابطة الإيمان أقدر من غيرها على تجميع الأفراد وتكوين الاُمّة الواحدة منهم، وتوجيههم وجهة واحدة ودفعهم إلى حماية أنفسهم وكيانهم وبثّ روح التعاطف والتراحم والتواصل بينهم، وإخراجهم أمّة واحدة متماسكة بينما أثبتت التجارب والوقائع فشل الملاكات والعناصر التي ذكرها الحقوقيّون، لتكوين مفهوم الاُمّة فضلاً عن تحقيق حقيقتها ووجودها على الصعيد الخارجيّ، لأنّها عجزت عن إيجاد أيّة وحدة حقيقيّة وأيّ تعاطف حقيقيّ وأيّ تلاحم وتراحم، وتعاون وتعايش ووئام وانسجام بين الأفراد.

إنّ التجربة الماضية والحاضرة برهنت على عجز ( العامل القومي ) المرتكز على وحدة الأرض أو الدم أو اللغة، أو التاريخ، عن إثارة همم الأشخاص وعزائمهم، ودفعهم إلى أن يفكروا معاً في مسيرهم ومصيرهم ويتعاونوا فيما بينهم كما يتعاون أعضاء العائلة الواحدة، بينما برهنت التجربة قديماً وحديثاً على أنّ الرابطة العقيديّة في الإسلام

٣٦٥

كانت سبباً للتضحيات الجسيمة وتغاضي الأفراد عن مصالحهم بل وحياتهم في سبيل إسعاد الجماعة.

وهذا كلّه يدلّ على أنّ الملاك الوحيد القادر على صنع الاُمّة وتكوينها بحقيقتها وجوهرها هو الإيمان ووحدة العقيدة دون سواه، بل وإنّ الأدلّة والوثائق الموجودة تدلّ على أنّ « القوميّة » كانت إحدى الأسلحة والوسائل الاستعماريّة لتفتيت وحدة الاُمّة الإسلاميّة وشقّ عصا المسلمين حيث فرّقوا الاُمّة الواحدة إلى قوميّة عربيّة وتركيّة وفارسيّة وكرديّة، في حين كان العدو الإسرائيليّ يجمع أبناءه وأعضاءه تحت لواء الدين دون أن يفرّق بينهم بالنعرات القوميّة والدعوات الجنسيّة فجمع من أنحاء العالم كلّ من انتمى إلى الدين اليهوديّ دون النظر إلى اختلاف أجناسهم وألوانهم وشكّل بذلك قوّة كبيرة عبّأها ضد العرب، بينما راح العرب يطرحون القضيّة من وجهة قوميّة فابعدوا المسلمين عن أنفسهم وخسروا بذلك قوّة عظمى في الحرب والمواجهة مع إسرائيل.

هذا بالإضافة إلى أنّ القوميّة أخّرت الاُمّة الإسلاميّة في كلّ المجالات لأنّها قتلت الكفاءات وأهدرت الطاقات في نزاعات جانبيّة وتخلّفت بذلك عن التقدم والرقيّ واللحاق بركب الحضارة(١) .

__________________

(١) راجع كتاب حركات ومذاهب في ميزان الإسلام.

٣٦٦

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

٣

المساواة أمام القانون(١)

« النّاسُ أمامُ الحقّ سواء »

( حديث نبوي )

تتميّز الحكومة الإسلاميّة عن غيرها من الحكومات بأنّها لا تفرّق بين من يعيشون تحت رايتها في تطبيق القوانيين عليهم وشملهم بالأحكام الحقوقيّة، والجزائيّة فلا تفرّق بين الغنيّ والفقير والراعي والرعيّة، والحضريّ والقرويّ، بل والبرّ والفاجر، على العكس من الحكومات الاُخرى التي تعامل رعاياها على أساس من التمييز والتفريق الشديد أو الخفيف.

وتعود هذه الخصيصة في الحكومة الإسلاميّة إلى طبيعة الدين الإسلاميّ أساساً

__________________

(١) فيما كان هذا المقطع من كتابنا يهيّأ للطباعة ( صبيحة ١٨ / محرم / ١٤٠٢ ه‍ ) ـ الطبعة الاُولى ـ فجع العالم الإسلاميّ بفقدان علم من أعلام الفقه والفكر هو آية الله العلاّمة السيد محمّد حسين الطباطبائيّقدس‌سره ذلك الرجل الذي كان ينطوي على كنوز عظيمة من العلم والمعنويّة، والذي قام ـ طوال ثمانين سنة من عمره المبارك ـ بأعظم الخدمات إلى العالم الإسلاميّ حيث أسّس منهج ( تفسير القرآن بالقرآن ) متمثّلاً في تفسير الميزان وأشاع اُسلوب التفكّر الإسلاميّ على أساس التعقّل والكتاب والسنّة.

ونحن إذ نعزّي العالم الإسلاميّ بهذه الفاجعة نهيب بالمسلمين أن يهتمّوا بما تركه هذا الرجل العظيم من تراث فكريّ غنيّ.

٣٦٧

فإنّ الإسلام يتميّز ـ عن المبادئ الوضعيّة ـ بتركيزه الشديد على التسوية بين جميع أفراد البشر، مهما اختلفت طبقاتهم وأوضاعهم الاجتماعيّة والسياسيّة، وانتماءاتهم العشائريّة وتعود هذه التسوية الإسلاميّة إلى أمرين أساسيين :

أوّلاً / اعتقاد الإسلام بوحدة بني الإنسان جميعاً، في المنشأ والعنصر، فماداموا جميعاً بشراً من آدم وحواء وهما من تراب وطين.

وماداموا يشتركون في المشاعر والأحاسيس والحاجات والآمال والألام فكلّهم عباد الله تعالى على السواء وكلّهم مخلوقون له بدون استثناء، فلماذا التمييز بين راعيهم ورعيّتهم وغنيّهم وفقيرهم ؟

إنّ الاختلاف في المكانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة لا يمكن ـ في نظر الإسلام ـ أن يكون عاملاً موجباً لتفضيل بعض على بعض، وإخضاع بعض للقانون دون آخر.

ثانيا / لأنّ التمييز في الأخذ بالقانون وتطبيقه والخضوع له، وجعل طائفة من الناس فوق القانون، واُخرى محكومة به ممّا يوهن موضع القانون، ويقلّل من مهابته، فينتفي الغرض المهم منه، وهو تنظيم سلك المجتمع، وإصلاح وضعه وتنسيق شؤونه.

إنّ مكانة القانون ومهابته تظلّ محفوظة ومصانة، ما دام يكون موضع الاعتراف والاحترام من الجميع فلا خارج عنه، ولا مترفّع عليه، ولا ناقض لأحكامه. ولو سمح الإسلام لأحد أن يخرج عن القانون ويجعل نفسه فوق أحكامه لعاد نقض القانون فخراً. وفي ذلك ما فيه من ضياع النظام وسقوطه، وانعدام تأثيره.

ولأجل ذلك مضى الإسلام يكافح ـ بدون هوادة وبكلّ قوّة ـ أي نقض للقانون حتّى في أبسط الصور مثل أن يكون لجماعة خاصّة محكمة خاصّة بهم نظراً لمكانتهم الاجتماعيّة والسياسيّة بينما يكون لعامّة الناس محكمة اُخرى لأنّهم الطبقة الدنيا من المجتمع، وإن كانت الأحكام السائدة في جميع هذه المحاكم المختلفة، نوعاً واحداً.

إنّ الخضوع والتسليم لهذا الأصل الإسلاميّ في التسوية بين جميع أفراد الاُمّة، وتطبيق القانون على الجميع بدون استثناء بلغ إلى حدّ أدّى بأن يعتبر الدين الإسلاميّ ،

٣٦٨

الانقياد للقانون والتسليم له، من شرائط تحقّق الإيمان وصدق ادّعائه إذ قال سبحانه :

( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ( النساء: ٦٥ ).

ومن المعلوم أنّ المراد بتسليمهم للنبيّ هو التسليم لأحكامه والقوانين التي جاء بها والشرع الذي صدع به، وهو يعني عدم التمييز.

ولقد ذمّ الله سبحانه شرذمة من الناس يخضعون للقانون ويذعنون له ما دام يحقّق مصالحهم وينسجم مع رغباتهم فإذا وجدوه خلاف ذلك نبذوه وخالفوه وأعرضوا عنه، يقول القرآن عن هؤلاء:( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ *وَإِن يَكُن لَّهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) ( النور: ٤٨ ـ ٤٩ ).

وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ ) ( الحج: ١١ ).

ولهذا وصف الله سبحانه ( النسيء ) بأنّه زيادة في الكفر وكان النسيء عبارة عن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر وهو أمر كانت تفعله الجاهليّة فتؤخّر حرمة شهر المحرّم ـ إذا أهلّ وهم في القتال ـ إلى شهر صفر، وقد كان سدنة الكعبة يرتكبون ذلك لقاء ثمن قليل يأخذونه من المعتدين والراغبين في القتال والعدوان في الأشهر الحرم فقال سبحانه:( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( التوبة: ٣٧ ).

كما ذمّ الله سبحانه أحبار اليهود على تحريفهم الكتاب جلباً لرضا الناس ولقاء أجر بخس حيث قال سبحانه عنهم:( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) ( النساء: ٤٦ ).

وقال تعالى:( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ

٣٦٩

لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة: ٧٩ ).

وقال تعالى:( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ ) ( المائدة: ١٣ ).

ولقد ورد في ذيل قوله تعالى:( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ ) عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: « إنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشا وبتغيير الأحكام، عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات وعرفوهم بالتّعصب الشّديد الذّي يفارقون به أديانهم، وإنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم وعرفوهم يقارفون الحرمات »(١) .

ولأجل ذلك رفض الإسلام بشدّة أي شفاعة في إجراء الحدود، فالحدود يجب أن تجرى على الجميع بغض النظر عن مكانة المستحقّ ما دام مستحقّاً فقد وردت في هذا المجال طائفة كبيرة من الأحاديث، كما عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام حيث قال: « كان لاُمّ سلمة زوجة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أمة فسرقت من قوم، فأتي بها إلى النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فكلّمته اُمُّ سلمة فيها. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أُمّ سلمة هذا حد من حدود الله لا يُضيعُ، فقطعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٢) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لاُسامة بن زيد: لا يُشفعُ في حدّ »(٣) .

وعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أيضاً قال: « كان أُسامةُ بن زيد يشفعُ في الشيء الذي لا حدّ فيه، فاتي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بإنسان قد وجب عليه حدّ فشفع لهُ أُسامةُ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تشفع في حدّ »(٤) .

ولقد جسد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه التسوية أمام القانون عملياً في قصة سوادة بن قيس.

__________________

(١) إحتجاج الطبرسيّ ( طبعة النجف ) ٢: ٢٦٢.

(٢ و ٣ و ٤) وسائل الشيعة ١٨: ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

٣٧٠

فقد قال سوادة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أيام مرضه لـمّا صعد المنبر وطلب من الناس أن يطالبوه بما لهم عليه من حقّ إن كان: يا رسول الله انّك لـمّا اقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فأمره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقتص منه، فقال اكشف لي عن بطنك يا رسول الله فكشف عن بطنه فقال سوادة: أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك، فأذن له، فقال أعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه من النار، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا سوادة أتعفو أم تقتصّ » فقال سوادة: بل أعفو يا رسول الله، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أللّهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيّك محمّد »(١) .

ولأجل هذا قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الناس سواسيّة كأسنان المشط »(٢) .

وأوضح نص في هذا المجال هو قول الله تعالى:( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) ( المائدة: ٤٥ )، فقد جعل الله النفس في مقابل النفس دون تمييز يعود إلى الغنى والفقر وما شابه ذلك.

وقد اعتبر الإسلام أي تمييز بين الأفراد أمام القانون بحجّة الغنى والفقر، أو القوة والضعف إيذاناً بالسقوط والهلاك والعذاب حيث نقل المحدثون عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: « أيُّها الناس إنّما هلك من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ »(٣) .

كما أنّ أوضح دليل عملي على هذه المساواة هو ما فعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع، فإنّه لـمّا أبطل ما كان من الربا بين الناس بدأ بعمّه العباس فأبطل ما كان له في ذمّة الناس من الربا قائلاً: « إنّ ربا الجاهليّةُ موضوع وإنّ أوّل ربا أبدأ به ربا العبّاس بن عبد المطلب »(٤) .

وعندما وضع ماسبق من دماء الجاهلية بدأ بدم عامر بن ربيعة الذي كان من

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٦، سفينة البحار ١: ٦٧١، وقد ذكر ابن الاثير في اُسد الغابة نظير هذه القصّة ٢: ٣٧٤.

(٢) من لا يحظره الفقيه ٤: ٢٧٢.

(٣) صحيح مسلم ٥: ١١٤.

(٤) تحف العقول: ٢٩ خطبة حجّة الوداع.

٣٧١

أقرباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: « وإنّ دماء الجاهليّة موضوعة وإنّ أوّل دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن المطلّب »(١) .

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق قال: « قال أمير المؤمنين ( الإمام عليّ بن أبي طالب )عليه‌السلام لعمر بن الخطاب: ثلاث إن حفظتهنّ وعملت بهنّ كفتك ما سواهنّ، وإن تركتهنّ لم ينفعك شيء سواهنّ.

قال: وما هنّ يا أبا الحسن ؟

قالعليه‌السلام : إقامة الحدود على القريب والبعيد والحكم بكتاب الله في الرّضا والسّخط والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود.

قال عمر: لعمري لقد أوجزت وأبلغت »(٢) .

وقد جسّد الإمام عليّعليه‌السلام هذه التسوية بين الأفراد عمليّاً وذلك لـمّا حدّ النجاشيّ فغضب اليمانية فدخل طارق بن عبد الله عليه، فقال: « يا أمير المؤمنين ما كُنّا نرى أنّ أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيّان في الجزاء حتّى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث فأوغرت صدورنا وشتّت اُمورنا وحملتنا على الجادّة التي كنّا نرى أنّ سبيل من ركبها النار، فقالعليه‌السلام : « وإنّها لكبيرة إلّا على الخاشعين، يا أخا بني نهد، وهل هو إلّا رجل من المـُسلمين انتهك حُرمة ما حرّم الله فأقمنا عليه حدّاً كان كفّارتهُ، إنّ الله تعالى قال:( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ) ».

فلما جنّ الليل همس هو والنجاشيّ إلى معاوية(٣) .

إلى غير ذلك من النصوص والأمثلة العمليّة على ذلك.

وينشأ هذا الأصل الإسلاميّ العظيم من إهتمام الإسلام الأكيد بالعدالة الذي يعتبر في حقيقته خصيصة برأسها.

__________________

(١) تحف العقول: ٢٩ خطبة حجّة الوداع.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٦.

(٣) البحار ٤١: ٩ و ١٠.

٣٧٢

المساواة من ثمار العدل :

فقد تميّز الإسلام بتركيزه الشديد على أمر العدل، واهتمّ به أكثر من اهتمامه بأيّ شيء آخر، حتّى عاد العدل أساس الإسلام وقاعدته الكبرى، ومطلبه الرئيسيّ فلقد نادى الإسلام بالعدالة، وطلب إجراءها، وتنفيذها على الإطلاق بحيث تشمل جميع الأفراد من دون نظر إلى اختلافاتهم العنصريّة والاقليميّة والمذهبيّة.

إنّ الإسلام إذ يعتقد وحدة الناس أباً واُمّاً خاطبهم جميعاً بقوله: أيُّها الناس، وهو كما نلاحظ خطاب يعمّ كلّ بني الإنسان كافّة وقد بنى على هذا الأصل ما نشده من التسوية بين القويّ والضعيف والغنيّ والفقير، والشريف والوضيع.

إنّ تعميم العدل ـ في نظر الإسلام ـ ضرورة لا مندوحة منها، وقد اعتبر العدول عن ذلك ناجماً عن اتّباع الهوى كما قال سبحانه:( فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ) ( النساء: ١٣٥ ).

ورفض أن يكون أي شيء مانعاً من تطبيقه وإجرائه خصوصاً شنآن قوم على ذلك ومعاداتهم بسبب إجراء العدل فقال:( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ ) ( المائدة: ٨ ).

وقد اعتبره الإسلام أجمل مطلب يطمح إليه النوع الإنسانيّ إذ قال الصادقعليه‌السلام : « العدلُ أحلى من العسل »(١) .

وذلك لأنّ العدل طريق إلى تحقّق الأمن الاجتماعيّ، فلولاه لما بقي من الأمن أثر ولا خبر. ولهذا كان أهمّ وظيفة من وظائف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو إجراء العدل وبسطه في المجتمع إذ قال سبحانه:( وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) ( الشورى: ١٥ ).

وراح القرآن الكريم يقارن بين من يعدل وبين من لا يعدل، ويستنكر التسوية بينهما إظهاراً لأهمّية العدل، إذ قال:( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ

__________________

(١) سفينة البحار ١: ١٦٦.

٣٧٣

مُّسْتَقِيمٍ ) ( النحل: ٧٦ ).

ولذلك أمر سبحانه جميع الناس بإجراء العدل وتطبيقه وصيانته قائلاً:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) ( النحل: ٩٠ ) وهو كما نلاحظ أمر مطلق غير مقيّد بزمان أو مكان خاصّ أو أفراد معينّين.

من نتائج العدل

إنّ من أبرز نتائج العدل وثماره هو خروج القابليات إلى كمالها، ونموّها وتكاملها لأنّ صاحب القابليات والمواهب إذا عرف أنّ جهده لا يضيع، وأنّه لو أظهر نبوغه وعمل على ابراز قابليّته فاز بالمقام والتقدير دون حيف وجور، اجتهد في ذلك، وأعطى من نفسه وراحته ما يحقّق تقدّمه وهذا بعكس ما إذا كان الملاك للتقدير في المجتمع هو العلاقات والخداع، والدهاء فعندئذ تبقى المواهب والقابليات محبوسة في مواضعها خامدة جامدة.

إنّ التعامل على أساس العدل وموافاة كلّ ذي حقّ حقّه، وتقديم الضوابط على العلاقات يطمئنّ الناس إلى مصير سعيهم ونتيجة عملهم ويشجّعهم على الخير والاجتهاد فينطلق المحسن في إحسانه ويرتدع المسيء عن إساءته.

ولأجل هذا قال الإمام عليّعليه‌السلام في عهده المعروف للأشتر النخعيّ: « ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة »(١) .

ويكفي إظهاراً لأهمّية العدل وعظمة دوره في إسعاد المجتمع أنّ الله سبحانه جعل إقامة العدل، الهدف النهائيّ لإرسال الرسل والأنبياء إلى البشريّة وإنزال الكتب عليهم إذ قال:( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) ( الحديد: ٢٥ ).

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

٣٧٤

إهتمام الإسلام بالعدل

ولقد بلغ اهتمام الإسلام باجراء العدل أنّه نهى أن يقف المسلم موقف الحياد من الظلم والبغي ومن الظالم والباغي، وفرض عليه أن يصلح بين طائفتين من المؤمنين اقتتلا، فرض عليه ذلك صوناً للعدل ومنعاً للظلم فقال:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) .

وإذا بغت إحدى الطائفتين وتجاوزت حدودها، ولم تخضع للصلح أوجب الإسلام محاربتها، وإيقافها عند حدّها وإرجاعها إلى جادّة الحقّ والسلام إذ قال:( فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ ) .

على أن يكون الإصلاح بينهما بالعدل لا بالظلم وإبطال الحقّ وإحياء الباطل، وسحق المظلوم ودعم الظالم، وتشجيع المعتدي وتضييع المعتدى عليه: فقال سبحانه:( فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الحجرات: ٩ ).

ولأجل هذه الأهمّية البالغة صارت العدالة من الاُصول التي لا تقبل أي تخصيص.

كما لأجل هذه الأهمّية البالغة نجد الإسلام الذي يدعو إلى السلم والصلح والتعايش السلميّ يجوّز الحرب والقتال دفعاً للظلم وردعاً للظالم، وقد وعد الله سبحانه عليه بالنصر تثبيتاً لموقع العدل، وإظهاراً للإهتمام به فقال سبحانه:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) ( الحج: ٣٩ ).

واشترط الإسلام أن لا يتجاوز هذا القتال والحرب حدود العدل، لأنّه لإقامة العدل فكيف يتجاوز حدوده، ولذلك نهى عن الاعتداء على الطرف الآخر بمزيد من عدوانه واعتدائه إذ قال:( فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) ( البقرة: ١٩٤ ).

إنّ العدل ـ في النظام الإسلاميّ ـ يمثّل أساس الأحكام والقوانين، وميزان

٣٧٥

التشريع وقسطاسه المستقيم فلا شيء في النظام الإسلاميّ إلّا وينطلق من منطلق العدل، ولا شيء فيه إلّا ويهدف تحقيق العدالة في الحياة الإجتماعيّة، ولقد أمر القرآن الكريم عامّة المسلمين أنّ يهتمّوا بإقامة القسط والعدل غاية الاهتمام فقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ ) ( النساء: ١٣٥ ).

ومن الواضح أنّ ( قوّام ) الذي هو صيغة المبالغة من ( قائم ) يوحي بشدّة التأكيد الإلهيّ على مسألة العدل، وإجرائه فعلى المسلمين ـ لذلك ـ أن يبالغوا في تحقيق العدالة حتّى على الأغنياء فلا يحابوهم ولا يداروهم، ولذا قال الله سبحانه في ذيل تلك الآية:( أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) ( النساء: ١٣٥ ).

فإنّ غنى المحكوم يجب أن لا يقف سدّاً في طريق العدل، وينبغي أن لا يكون سبباً للتخلّي عنه.

فها هو الإمام عليّعليه‌السلام يرى أنّ من أهمّ واجبات الحاكم هو إقامة العدل: « وايم الله لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ولأقودنّ الظالم بخزامته حتّى أورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً »(١) .

إنّ العدل لا يشكل طريقاً للأمن الإجتماعيّ للاُمّة الإسلاميّة فقط، بل يمثّل طريقاً طبيعياً لحفظ السلام العالميّ أيضاً، فإذا أراد العالم أن يأمن الحرب ويتخلّص من التجاوز فما عليه إلّا إجراء العدل والأخذ به في تعامله وتعايشه ولا يمكن ذلك إلّا بالأخذ بالنظام الإسلاميّ.

أبعاد العدل ومجالاته

إنّ للعدل أبعاداً ومجالات كثيرة ومفصّلة ذكرها القرآن الكريم، نشير إليها هنا باختصار :

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة رقم ١٣٢.

٣٧٦

١. العدل في مجال الحكم

لقد أكّد الإسلام على الأخذ بالعدل في مجال الحكم، فاشترط أن يكون الحاكم عادلاً، وفرض عليه العمل وفق سنن العدالة في كلّ مجالات الحكم والولاية قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء: ٥٨ ).( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج: ٤١ ).

ومن المعلوم أنّ إقامة المعروف هو أظهر مصاديق العدل كما أنّ النهي عن المنكر أظهر مصاديق ردع الظالم ودفع الظلم.

٢. العدل في مجال الأخذ بالقانون

لقد حثّ الإسلام حثّاً أكيداً على إجراء العدل على جميع أفراد المجتمع بدون استثناء فالكلّ أمام القانون سواء من دون فرق بين رئيس ومرؤوس، وغنيّ وفقير، وآمر ومأمور. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « النّاس أمام الحقّ [ القانون ] سواء ».

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « الحقُّ لا يجري لأحد إلّا جرى عليه ولا يجري على أحد إلّا جرى لهُ »(١) .

٣. العدل في مجال الأقتصاد

فلقد سنّ الإسلام برامجه الاقتصاديّة على اُسس عادلة، وأوجب على الحاكم بسط العدل في مجالات الاقتصاد بكلّ الوسائل الممكنة، فمنع من كلّ ألوان الظلم الاقتصاديّ كالربا والاحتكار وإعطاء الامتيازات لبعض دون بعض، وشرّع لذلك

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة رقم ٢١١ ( طبعة عبده ).

٣٧٧

قوانين جزائيّة صارمة تضمن العدالة في هذه المجالات فقال سبحانه:( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة: ٢٧٩ ).

والجملة الأخيرة قاعدة كليّة في كلّ المجالات الاقتصاديّة وغيرها.

كما أنّه يرى الحاكم مسؤولاً عن أموال الاُمّة حتّى لا يهضم حقّ أحد ففي هذا المجال يقول الإمام عليّعليه‌السلام وهو يقصد من استولوا على أموال بيت المال في عهد عثمان: « والله لو وجدته قد تزوّج به النّساء وملك به الأماء لرددته فإنّ في العدل سعةً، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق »(١) .

وعن مسؤولية الحاكم اتّجاه العدالة الاقتصاديّة قال لمن أتاه يطلب منه مالاً في غير حقّ ( أيضاً ): « إنّ هذا المال ليس ليّ ولا لك وإنّما هو فيء للمسلمين، وجلب أسيافهم فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم، وإلاّ فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم »(٢) .

٤. العدل في مجال العلاقات الاجتماعيّة

لقد سعى الإسلام غاية السعي إلى إقامة العلاقات الاجتماعيّة على قواعد العدل وأسسه بحيث لا يقع حيف من أحد على أحد في هذه العلاقات والروابط.

ومن هنا سنّ حقوقاً للوالدين والجيران والصغار والنساء والأيتام والمرضى والمقعدين الخ(٣) .

وأخيراً لقد اعتبر الإسلام العدل أفضل وأحسن مآلاً للمجتمع إذ قال:( وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( الأسراء: ٣٥ ).

وإنّما يكون العدل خيراً وأحسن مآلا لأنّ الظلم إذا اجتمع جزء فجزء أوجب الانفجار والنقمة، وآل بالبلاد والعباد إلى الفساد والشرّ.

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة رقم ١٤.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة رقم ٢٢٧.

(٣) راجع رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسينّعليهما‌السلام .

٣٧٨

إنّ المجتمع المهضوم حقّه الذي يتعرّض للظلم الاقتصادي والسياسيّ لا يمكن أن يطول به الأمر دون أن ينفجر في المآل ويثور في وجه حكّامه.

إنّ الاستبداد والديكتاتوريّة وإن استطاعت أن تكبح جماح الشعوب لفترة من الزمن باستخدام العنف والقوّة والقهر والإرغام، ولكنّ الظلم والحيف إذا اجتمعا شيئاً فشيئاً تحوّل إلى طوفان جارف، وانفجار يأتي على كلّ شيء فلا يبقي ولا يذر ولهذا كان العدل خيراً وأحسن مآلا والظلم بخلافه.

* * *

وخلاصة القول أنّ الإسلام جاء والبشر أجناس متفرّقون يتعادون في الأنساب والألوان، واللغات والأوطان والأديان والمذاهب والمشارب والشعوب والقبائل والحكومات والسياسات فدعاهم الإسلام إلى الوحدة الإنسانيّة العامّة الجامعة وفرضها عليهم فدعا إلى الوحدات التالية :

١. وحدة الاُمّة.

٢. وحدة الأجناس البشريّة.

٣. وحدة الدين.

٤. وحدة التشريع بالمساواة في الحقوق المدنيّة والتأديبيّة.

٥. الوحدة بين المؤمنين.

٦. وحدة الجنسيّة السياسيّة الدوليّة(١) .

وبذلك تكون الدعوة إلى الوحدة في هذه المجالات من خصائص الإسلام والحكومة الإسلاميّة وامتيازاتها.

على أنّ ما ذكرناه من خصائص الحكومة الإسلاميّة إنّما هو مساواة المعتنقين أمام القانون لا مساواتهم في كلّ شيء حتّى في حيازة المناصب، إذ هي تابعة للقابليّات والمؤهّلات وأهمّية الجهود وقلّتها وشدّتها.

__________________

(١) تفسير المنار ١١: ٢٥٥.

٣٧٩

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

٤

الإسلام بين الماديّة والمعنويّة

( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمّة وَسَطًا )

( البقرة: ١٤٣ ).

لا شكّ في أنّ الدين الإسلاميّ دعا إلى العبادة والأخذ بتقوى الله سبحانه، إلى جانب الدعوة إلى الاستفادة من النعم الماديّة، والتمتّع بلذائذ الحياة الدنيا، وهو بهذا استطاع أن يخلق من الاُمّة الإسلاميّة، أمّة ( وسطاً ) حازت الجوانب الماديّة والمعنويّة معاً. فهي ليست كالاُمم ( الماديّة ) التي تعتقد بأصالة اللذة فتلخّص الإنسانيّة والحياة البشريّة في مجرد الاستمتاع بلذائذ الدنيا ونعمها، ومواهبها، كما يشاء الأعداء أن يتّهموا الإسلام بذلك.

كما ليست كالاُمم ذات الاتّجاه الروحيّ البحت، التي لخّصت الحياة الإنسانيّة في الانسياق وراء الجوانب الروحيّة المحضة ناسية وراءها الدنيا وما فيها، والجسد ومتطلباته، بل الإنسان الكامل ـ في ظل النظام الإسلاميّ وبحكم طبيعته المزدوجة من الروح والجسد ـ هو الذي يتمتع بكلا الجانبين الماديّ والمعنويّ، فيأخذ من الدنيا زاده ومتاعه، ويتّجه إلى الآخرة هدفاً ومقصداً فيأخذ من هذا حظّاً، ومن ذلك حظّاً غير

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627