مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228667 / تحميل: 6458
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

* بما أنَّ الكتب الأربعة هي أكثر كتبنا الجامعة للروايات قيمةً، وهناك اختلاف كبير في نصوص الروايات في نسخها المختلفة، وهذا الاختلاف يغير المعنى في كثير من موارده، فإلى أيِّ حدٍّ يمكن إصدار الفتوى اعتمادا ًعلى ألفاظ الروايات؟

الشيخ النوري: أنا لا أعتقد بذلك، فلم تكن جميع الكتب المتداولة آنذاك موجودة لدى الكليني والصدوق. ففي التهذيب روايات لا توجد في الكافي للكليني، مع أنَّ المدة الفاصلة بينهما هي مئة وثلاثون عاماً، وقد استغرق الكليني عشرين عاماً في كتابة الكافي. كما أنَّ هناك روايات في(مَن لا يحضره الفقيه) غير موجودة في الكافي، طبعاً الاستبصار أيضاً فيه روايات غير موجودة في التهذيب. فإذا وجد اختلاف في النص الخبري، كان الكافي أكثر ضبطاً من الآخرين، هذا إذا كان الخبر منقولاً لدى الثلاثة. مثل:(مَن حدَّد) و(مَن حدَّث) وعندها يقدِّمون الكليني.

* في باب الشهادة يقولون: يجب أن تكون الشهادة عن حسّ، وعندئذ تكون حُجَّة، بخلاف الشهادة عن حدس. فإذا كانت الشهادة عن حسٍ وحدها الحُجَّة، فكيف تُسوِّغ شهادة عظماء من أمثال: النجاشي، والكشي، والشيخ الطوسي، والعلاَّمة الحلِّي وآخرين، عن أصحاب النبي والأئمة (صلوات الله عليهم)؟

الشيخ النوري: هذا البحث مطروح في علم الرجال، وهو: هل أنَّ الرجوع إلى أقوال الرجاليين، مثل: النجاشي، والكشي، والشيخ الطوسي، والعلاَّمة وغيرهم، هو من باب الشهادة، أو أنَّه من باب الرجوع إلى الخبرة وأهل الفن؟ لأنَّهم كانوا من فحول علم الرجال، وفطاحل فيه.

فإذا كان الرجوع إلى قول الرجالي من باب الشهادة، كانت عدالة الشاهد لازمة، وأحياناً يُؤخذ التعدُّد أيضاً بنظر الاعتبار، لكن إذا كان من باب الرجوع إلى الخبرة أيضاً؛ ذلك لأنَّ المعيار والميزان في الرجوع إلى ذي الخبرة هو الاطمئنان. نعم، من حيث المهارة والتخصُّص، لا بد من أن يكون في مستوى يجعل قوله مطمئَناً، كالاعتماد على الطبيب الماهر والمتخصِّص حتى لو لم يكن مسلماً، وكمراجعة المقوِّم ليعيِّن قيمة البضاعة.

١٢١

صاحبالمعالم يعتقد أنَّ الراوي الذي يشكِّل قوله حُجَّة هو الذي يزكِّيه عدلان. فهو يرى أنَّ الخبر الصحيح هو ما أخبر به الراوي العادل؛ لأنَّه يرى أن حُجِّـيَّة قول الرجالي تكون من باب الشهادة.

وفي مقابل ذلك، فإنَّ آية الله العظمى البروجردي يرى أنَّ الرجوع إلى أقوال الرجاليين هو من باب الرجوع إلى أهل الخبرة والفن، فيقول: إنَّ النجاشي والكشي وغيرهما، صاروا خبراء في معرفة رجال الحديث لكثرة ممارستهم في تراجم الرجال، وقرب زمانهم من زمان رواة الحديث، ومن القرائن الموجودة لديهم، وبما أنَّ الميزان هو حصول الاطمئنان، لهذا فإنَّ ما نقله أولئك العظماء، يبعث على الاطمئنان لخبرتهم.

* استناداً إلى ما مرَّ، فإنَّ الرجوع إلى أقوال الرجاليين هو من باب رجوع العقلاء إلى أهل الفن والخبرة. وهنا يطرح سؤال آخر، وهو: إذا كان الرجوع إلى أقوال الرجاليين من باب رجوع العقلاء إلى أهل الفن والخبرة، عندئذٍ ينبغي ألاَّ نُفرِّق بين شهادة الرجاليين، أي أنَّه لا ينبغي أن يكون هناك فرق بين شهادة العلاَّمة والنجاشي؛ لأنَّ كليهما من أهل الفن في معرفة الرجال؟

الشيخ النوري: رغم أنَّ الرجوع إلى أقوال الرجاليين هو من باب الرجوع إلى إلى الفن والخبرة، فإنَّ الكلام هو في تفاوت الخبرات، وهل يُميَّز ويُرجَّح قول بعضهم على بعضهم الآخر أو لا؟ بطبيعة الحال الإجابة بالإثبات؛ لأنَّ للخبراء مراتب، كما أنَّ للعلم والظن مراتب. فقول أمثال النجاشي يعطي اطمئناناً أكثر.

١٢٢

* هل المعيار في باب جرح الراوي وتعديله أمر تعبُّدي أو عقلائي؟ وإذا كان عقلائياً، فهل يمكن تخطِّي المعيار المذكور في كُتب الرجال؟ وإذا كان التعدِّي أمراً جائزاً - كما يقول الشيخ في المعيار في باب التعادل والتراجيح - فما تفسير الجمود على الشهادة والثقة؟

الشيخ النوري: ظاهراً ليس هذا بأمر تعبُّدي؛ لأنَّ المعيار في حُجِّـيَّة خبر الواحد هو رأي العقلاء، ورأي العقلاء في الحياة هو العمل بأيِّ خبرٍ يُوجب حصول الاطمئنان، واعتباره حُجَّة. والحُجَّة هي ما يحتج به العبد على مولاه وبالعكس، فإذا خالف العبد احتج عليه المولى أنْ لماذا خالفتْ؟

فالعقلاء بنوا على أساس أنَّ خبر الثقة حُجَّة، لهذا إذا تعارض خبران أو أكثر نرجِّح الأكثر إثارةً للاطمئنان.

* ما هو تفسير الجمود على ألفاظ الرجاليين في الشهادة والتوثيق؟ فهناك أشخاص مثل إبراهيم بن هاشم الذي قيل فيه: (إنَّه أول مَن نشر حديث الكوفيِّين في قم)، لكن الرجاليين لا يشهدون بأنَّه ثقة، فهل يكفي ذلك لنفي صحَّة أحاديثه؟

الشيخ النوري: هنا توجد عدة أمور: الشهادة ليست ميزاناً، بل الرجوع إلى أهل الخبرة هو الميزان، وبتعبير المناطقة: هناك (كبرى) و(صغرى). الكبرى، هي:كل خبر يبعث على الاطمئنان حسب رأي العقلاء ، والصغرى، هي:الخبر الذي يكون راويه عادلاً وإمامياً وصحيحاً . وإذا لم يكن راويه عدلاً إمامياً، بل كان فطحياً وناووسياً وواقفياً، وكان خبره يوجب الاطمئنان فهو حُجَّة. فالعدالة ليست مِلاكاً، بل الوثاقة هي المعيار.

١٢٣

إذاً، فكل خبر كان قول راويه موجباً للاطمئنان فهو حُجَّة. وفي تقسيم الأحاديث إلى أربع: (صحيح، موثَّق، حسن، ضعيف) لا يُعَد امتداحه فقط مِلاكاً، بل يُلحظ أيضاً كونه غير كذَّاب. لهذا فالصحيح والموثَّق يوجبان الاطمئنان، لكن كونه حسناً لا يوجب الاطمئنان؛ أي كونه إمامياً ممدوحاً، لا يوجب الوثوق، بل لا بد من حصول الاطمئنان أيضاً؛ لهذا فإنَّ الوثوق محدود في صحته وكونه موثَّقاً، أي أن يكون عادلاً أو ثقة. لهذا إذا كان الخبر في أعلى درجات الضعف، لكن فقهاءنا يعملون به، نكتشف أن هناك قرائن وجدها الفقهاء جعلتهم يطمئنُّون لصدور الخبر، ولهذا عملوا به.

نعم، كان المرحوم السيد الخوئي يشترط وثاقة الراوي من دون غيرها من القرائن، كعمل الفقهاء. أمَّا آية الله البروجردي، فكان يعتقد أنَّ الوثوق بصدور الخبر كافٍ؛ لهذا إذا كان الخبر في أعلى درجات الصحة، لكن أعرض عنه الأصحاب، فإنَّه كان لا يعمل به؛ لأنَّه لا يوجب الوثوق.

والأساس الذي قام عليه رأي السيد الخوئي هو قوله بموضوعية العدالة والثقة، بينما نرى نحن أنَّ المعيار هو حكم العقلاء بكفاية الوثاقة بمضمون الخبر حتى لو كان راويه ضعيفاً.

أمَّا إبراهيم بن هاشم، فالمرحوم البروجردي كان يقول: إنَّه يرفض قول النجاشي أو الكشي عنه من أنَّه: (أول مَن نشر حديث الكوفيين)؛ لأنَّ قم كانت مركز العلماء، وقد انتشرت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام فيها قبل إبراهيم بن هاشم. فالقمِّـيُّون كانوا يتردَّدون على الأئمة في زمان الإمام الباقرعليه‌السلام ، وكانوا رواة للحديث قبل إبراهيم بن هاشم. فطبق التقسيم الذي وضعه آية الله البروجردي كان إبراهيم بن هاشم من الطبقة السابعة، والكليني في الطبقة التاسعة، وعلي بن إبراهيم في الطبقة الثامنة، وعبد الله بن مسكان وحماد بن عثمان في الطبقة الخامسة، وأبي نصير بن البزنطي في الطبقة السادسة. وبما أنَّ أهل الطبقتين الخامسة والسادسة كانوا يتردَّدون على الأئمة المعصومينعليهم‌السلام في المدينة والكوفة؛ لذا لا يمكن القول: إنَّ أول من نشر حديث الكوفيين في قم هو إبراهيم بن هاشم.

١٢٤

من ناحية أخرى، فإنَّ جميع الروايات التي نقلها إبراهيم بن هاشم معروفة، وقد ذكرته في كتابي(الطبقات والثقات) الذي ألَّفته في زمان المرحوم البروجردي.

الأمر الآخر هو أنَّ روايات إبراهيم بن هاشم صحيحة، فالمرحوم بحر العلوم أثبت في كتابالفوائد الرجالية - الذي كان البروجردي مهتمَّاً به - أنَّ إبراهيم بن هاشم هو عادل إمامي. كما أثبت السيد الداماد في كتابالرواشح السماوية أنَّ إبراهيم بن هاشم كان من العدول.

* سماحة الشيخ تجليل، نظراً للعلاقة التي كانت لسيادتك بآية الله العظمى البروجردي، وكونك من أصحاب الرأي والدراية في بحث الرجال، ولك مؤلَّفات فيه، نسألك: إلى أيِّ حدٍّ كان المرحوم السيد البروجرديقدس‌سره يولي علم الرجال أهمية وقيمة بوصفه مقدِّمةً للاستنباط الشَّرعي؟

الشيخ تجليل: كان المرحوم العلاّمة البروجردي يستخدم أسلوباً خاصاً في الاستنباط، على خلاف ما هو متعارف حالياً بين الفقهاء؛ حيث يأتون بالروايات ويجرِّحون فيها ويعدِّلونها، ثُمَّ يقبلون بعضها ويرفضون بعضها الآخر. فقد كان ينظر في جميع الروايات، ويؤكِّد على وجود عدَّة روايات حول أيِّ موضوع، فتعدُّد الأحاديث في موضوع ما يوجب عنده الاعتماد عليه. فأحياناً تصل الروايات إلى حد التواتر، فتفيد القطع، وقد لا تبلغ حد التواتر، بل توجب الوثوق، حيث المعيار في حُجِّـيَّة خبر الثقة هو الوثوق أيضاً. وعندما يحصل الوثوق من جميع النواحي يصبح حُجَّة، فتعدُّد النقل وكثرته لحديث ما تفيد الوثوق عنده.

لهذا كان أسلوبه هو حساب عدد الروايات في كل مسألة، ثم إرجاع الروايات بعضها إلى بعضها الآخر؛ ليعرف هل هناك عشر روايات في هذا الموضع حقيقة أو لا، وسأتحدث في ما بعد عن طريقة استنباطه.

١٢٥

فمن الناحية الرجالية، كان يولي تحديد الأسانيد المعلولة أهمية، والأسانيد المعلولة تُعرف إشكالاتها بالرجوع إلى طبقات الرجال؛ يعني إذا أخذت سنداً من كتابوسائل الشيعة ، ثُمَّ ترجع إلى علم الرجال، تجد أنَّ كل رواته ثقاة، لكنَّه كان يقول: كلاّ، السند غير صحيح؛ لأنَّ هذين الرجلين لا يمكنهما نقل الحديث عن بعضهما، لأنَّهما من طبقتين مختلفتين، فهذا السند معلول رغم أنَّ رواته ثقات.

* يعني يجب أن يكون الراوي والمروي عنه من طبقة واحدة؟

الشيخ تجليل: نعم، يجب أن تكون الطبقات متلائمة مع بعضها. وعندما لا يمكن أن ينقل راويان عن بعضهما لاختلاف طبقتيهما، يظهر عندها أنَّه سقط اسم أحد الرواة بين هذين الاثنين، ومَن هو الذي أسقط؟ لا يُعلم ذلك. هنا يتدخَّل علم الرجال بوصفه مقدِّمة للاستنباط.

* ما هو إبداع السيِّد البروجردي الخاص في علم الرجال؟

الشيخ تجليل: إبداعه كان في الطبقات؛ لأنَّنا لم نكن نمتلك ترتيباً لطبقات الرجال بهذه الصورة. طبعاً كان لدينا في هذا المجال كتاب رجال الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه)؛ حيث كان له كتابالفهرست ، وكتابالرجال، ورجال الشيخ الطوسي مشابه لهذا العمل؛ إذ إنَّه قام بعزل مَن روى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثُمَّ مَن روى عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ثُمَّ مَن روى عن الحسنينعليهما‌السلام ، ثُمَّ مَن روى عن السجادعليه‌السلام ، وهكذا، ثُمَّ جاء في آخر كتابه بباب عنوانه (مَن لم يروِ عنهمعليهم‌السلام بلا واسطة)، وعمله هذا يشبه عمل السيد البروجردي، لكنَّه كان المرحلة الابتدائية لضبط الطبقات. أمَّا المرحلة النهائية، فتتمثَّل في ما قام به المرحوم السيد البروجردي.

١٢٦

* ما معنى مصطلح (الطبقة) الذي استعمله المرحوم السيد البروجردي؟ وما الفرق بينه وبين الطبقة التي اصطلح عليها المرحوم الشيخ الطوسي؟

الشيخ تجليل: لم يستعمل الشيخ الطوسي كلمة(طبقة)، وإنَّما هي من مصطلحات المرحوم العلاَّمة البروجردي؛ حيث قسَّم الطبقات بهذه الطريقة:

الطبقة الأولى: هم الرواة الذين نقلوا أحاديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون واسطة.

الطبقة الثانية: هم الرواة الذين لا يمكن لهم نقل أحاديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون واسطة، بل ينقلون عن الطبقة الأولى، ويُطلق عليهم اسم:التابعين .

الطبقة الثالثة: هم الرواة الذين ينقلون عن الطبقة الثانية، فيروون الحديث (معنعن)؛ أي كل طبقة تنقله عن الطبقة التي سبقتها.

فرتَّب السيد البروجردي الرواة من عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عهد شيخ الطائفة الطوسيرضي‌الله‌عنه إلى اثنتي عشرة طبقة، وقد تُوفِّي شيخ الطائفة عام ٤٦٠هـ؛ أي أنَّ المدَّة ما بين الهجرة ونهاية عهد شيخ الطائفة هي ٤٦٠ عاماً، وإذا كان السن المتعارف للناس هو (٧٠) عاماً، وكل راوٍ كان يعيش نصف حياته معاصرا ًلرواة الطبقة السابقة، والنصف الآخر من عمره يقضيه مع الطبقة اللاَّحقة، فإذا كان متوسط أعمار الرواة سبعين عاماً، فيكون الرواة من عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى وفاة شيخ الطائفة (١٢) طبقة؛ لأنَّه إذ حسبنا لكل طبقة سبعين عاماً، وكان منها (٣٥) عاماً مشتركة مع الطبقة السابقة واللاَّحقة، فنقسم(٧٠) على اثنين؛ والنتيجة (٣٥)، ثُمَّ نضربها في (١١)؛ تكون النتيجة(٣٨٥) عاماً، إذن إحدى عشرة طبقة متَّصلة. وبما أنَّ الطبقة الأولى والأخيرة لم تعش ٣٥ عاماً مشتركة مع غيرها، فيُجْمَع الحاصل (٣٨٥) مع (٣٥) الأولى والأخيرة، فيكون الناتج( ٤٥٥) عاماً، وهو ما يعادل المرحلة التي سبقت وفاة الشيخ، وإذا حسبنا الأعمار بالتاريخ الهجري يكون الفرق خمس سنوات أيضاً. هذا هو معيار الطبقات لدى المرحوم العلاَّمة البروجردي. وأضيفُ هنا أنَّه لم يدوِّنه بهذه الصورة، لكن يمكن الاستنباط بأنَّه هو صاحب هذا الإبداع.

١٢٧

* ألم يتحدَّث أحد، في كتب الرِّجال السابقة، على هذا المنوال؟

الشيخ تجليل: عندما كنت أكتبُ(معجم الثقات) عثرت، في كتب الرجال التي كنت أبحث فيها، على مخطوطة كتاب لم يكمل تأليفه؛ أي أنَّه لم يكن مرتَّباً، كان واضحاً أنَّه مقدِّمة تأليف أو مسوَّدة، وكان اسم تلك المسوَّدة:(طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال)، ومؤلِّفه هو السيد علي أكبر بن محمد شفيع الموسوي، وكان معاصراً للشيخ الأنصاريرضي‌الله‌عنه ، هذا الكتاب المكتوب بحروف صغيرة، هو نفسه الكتاب النفيسطبقات الرجال، وهو العمل نفسه الذي قام به المرحوم العلاّمة البروجردي، الفرق بينهما هو أنَّه بدأ بطبقات الرجال من نفسه وأنهاها برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ أي أنَّ المؤلِّف من الطبقة الأولى، وأستاذه من الطبقة الثانية، إلى أن بلغ إلى أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجعلهم من الطبقة الثلاثين. أمَّا المرحوم آية الله البروجردي، فقد بدأ بعكسه، فجعل أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الطبقة الأولى، إلى أن بلغ شيخ الطائفة، ومن شيخ الطائفة فما بعده عدّهم طبقة طبقة، فكان هو من الطبقة الثانية والثلاثين.

أمَّا فائدة هذه الطبقات، فهي أنَّها تُيسِّر حساب الأحاديث المعلولة، عندما يقرأ السند يقول: إنَّ السند خطأ - وإن كان الجميع ثُقات - واصطلاحه كان:(السند معلول) .

* بالنسبة للعُمْر المشترَك الذي عُدَّ ٣٥ عاماً، لا يمكن حساب العشرة أو الاثني عشر عاماً الأولى من عمر الراوي، رغم ما يقال عن ابن عبَّاس: إنَّ عمره عند وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ١١ أو ١٣ عاماً.

الشيخ تجليل : على أي حال، يصلح لنقل الحديث بعد عمر اثني عشر عاماً، لكن مقدار الزمان لا يختلف، هكذا نحسب مدة ٤٥٠ عاماً، فنرى كم طبقة اتصلت خلال هذه المدة.

١٢٨

* ما أردت قوله: إنَّه إذا حذفنا ١٢ - ١٥ عاماً الأولى يكون كل راوٍ قد عاصر مَن سبقه مدة عشرين عاماً فقط.

الشيخ تجليل: لكنَّه كان معاصراً خلال الخمسة وثلاثين عاماً تلك، والمفيد منها هو العشرون عاماً. على أيِ حال، لا بد من أن يطوي ١٢ عاماً الأولى ليصبح قادراً على تحمُّل الحديث.

* أي أنَّه على الفقيه أن ينتبه إلى الزمن الذي ولد فيه السكوني حتى يتسنَّى له نقل الحديث عمَّن سبقه، وأنَّه كان في سنِّ التحمُّل عند نقل الحديث.

الشيخ تجليل: نعم، وبطبيعة الحال بالترتيب نفسه الذي ذكرتُ فيه الطبقات.

* ما السبب الذي دعاه ليجعل الشيخ الطوسي نهاية الطبقات الاثنتي عشرة؟

الشيخ تجليل: لأنَّ الشيخ الطوسي كان آخر مؤلِّفي الكتب الأربعة، وعُمدة الأحاديث في الكتب الأربعة، فالكليني في الطبقة التاسعة، والصدوق في العاشرة، والمفيد في الحادية عشرة، والشيخ الطوسي في الثانية عشرة.

* ذكرتم أنَّ أحد مميِّزات المرحوم آية الله البروجردي، هو: إرجاع عدَّة روايات إلى رواية واحدة رغم تعدُّد أسانيدها. فما هي كيفية الإرجاع تلك، وما هي معاييرها؟ ثُمَّ إنَّ تَعَدُّد السند - حسب العُرف - يعني تَعَدُّد الروايات، فكيف كان يجمعها؟

الشيخ تجليل: هذا الأمر صحيح، لكن إرجاعه يرتبط بالسند أيضاً، فقد يكون سند جميع رواة ذلك الحديث منذ البداية وحتى النهاية مشترَكاً، وهذا الأمر قليل جداً، وأحياناً يكون جزء من السند مشتركاً، وأحياناً يكون آخر رواته مشتركاً؛ وهذا يدل على أنَّ الرواية واحدة. فمن الطبيعي أن يكون بعض السند مشتركاً؛ لأنَّ كل واحد من مؤلِّفي الكتب الأربعة، كالشيخ الطوسي والكليني والصدوق، كان يمتلك سنداً مستقلاً في المجاميع الأولية والأصول الأربعمائة، ولكن هذه الأسانيد المتعدِّدة جميعها تنتهي إلى مجاميع أولية؟ وهل الحديث متعدِّد في المجاميع الأولية؟ وهل للحديث الذي نقله صفوان بن يحيى في كتابه سندٌ؟ الشيخ ذكر سنده في التهذيب، والشيخ الصدوق أيضاً حدَّد سنده في كتابه (مَن لا يحضره الفقيه)، والكليني كتب سنده الصريح في متنه، لكن كتاب الكافي

١٢٩

يختلف عنهم في كونه قد أورد السند كاملاً. فعندما نفتح كتاب وسائل الشيعة ونجد الحديث في روايات متعدِّدة، فهذا لا يعني أنَّه ثلاثة أو أربعة أحاديث، بل يعني أنَّه حديث واحد رُوي بطريقة مختلفة.

ثانياً: قد يكون هناك اختلاف في السند كلِّه، فنَقَلَه الكافي بالكامل، أو ذكره الكافي والتهذيب بشكل مختلف، ثُمَّ كان آخر راوٍ لهما هو معاوية بن عمّار مثلاً، فمعاوية بن عمّار هذا لم يكن لديه راوٍ، بل كان أستاذاً في الحديث، فأخذ عنه ذلك الحديث أفراد متعدِّدون، كما يشير إلى ذلك علماء الرجال.

حدَّث معاوية بن عمَّار بهذا الحديث في مجلس شخصاً ما، ثُمَّ حدَّث به في مجلس آخر شخصاً آخر، أو أنَّ عدَّة أشخاص كانوا في مجلس واحد، كلٌ منهم ينقل مباشرة عن أستاذه، فهل يدل ذلك على أنَّه حدَّث به أربع مرَّات؟

كلا؛ لهذا فإنَّ الاشتراك في السند كلِّه أو بعضه - بعضه الذي ينتهي إلى المعصوم - حتى الاشتراك في آخر راوٍ، كل ذلك ينفي تعدُّد الحديث. طبعاً إذا كان النص واحداً.

وقد يكون النص مختلفاً تماماً أحياناً، عندئذٍ يُعلم أنَّهما حديثان. فمعاوية ابن عمار أتى الإمام الصادقعليه‌السلام يوماً، وأخذ عنه هذا الحديث، وفي يوم آخر، أخذ عنه الحديث الآخر، عندها يكون الحديث متعدِّداً. لكن أحياناً يكون النص واحداً، قد يختلف في كلمة، يُعلم حينها أنَّ شيئاً ما حدث، فاختلفتْ إمَّا خلال النسخ، أو اختلفتْ عند بعض الرواة. لهذا نشكُّ في تلك الكلمة؛ أي هل قالها الإمام الصادقعليه‌السلام بهذه الكيفية أو لا؟ فتسقط تلك الكلمة من الاعتبار، لكنَّ سقوطها الإجمالي يسقط علْمنا، بل يصبح نفياً ثالثاً، لكنَّه لا يثبت بشكل جازم إحدى تلك الروايتين،هذه هي الفائدة من إرجاع الأحاديث .

١٣٠

الفائدة الثانية للإرجاع هي: أنَّ التعدُّد يأتي بالوثوق، ولإثبات التعدُّد لابدَّ من تلك الإرجاعات؛ لنُثبت هل هذا الحديث متعدِّد أو لا.

* إذا نقل أحدُ الرواة حديثاً ناقصاً، ونقله الآخر كاملاً، فما نفعل؟

الشيخ تجليل: إذا روى راوٍ نصف الحديث، ورواه آخر بكامله، ولو كان ذلك في مجلس واحد، فإنَّ الكامل لا يُسقط الناقص. فنحن لا نأخذ الفقه من الروايات فقط، نرجع إلى الروايات فقط، ثُمَّ نستنبط، بل إنَّنا نعتقد بأنَّ الفقه لم ينقطع أبداً، بل انتقل من يدٍ إلى يدٍ، منذ عهد المعصومينعليهم‌السلام وحتى عصرنا هذا، انتقل من صدرٍ إلى صدر. بعضٌ كَتَبَ الكتب، وبعضٌ آخر لم يكتب، ولم ينقطع وجود الفقهاء والتفقُّه أبداً، فبعض المسائل متَّفق عليها ولا تحتاج إلى دليل. فإذا استنبطتُ أنا من روايةٍ ما، فهناك روايات أخرى. فلا يمكن مخالفة فتوى ثابتة في فقه الإمامية منذ زمان المعصوم وحتى الآن بسبب رواية، حتى لو كانت صحيحة، بل تُتْرَك الرواية المُعْرَض عنها وتسقط.

* نظرية الوثوق بالأصول المُتلقَّاة، هي من النظريَّات المعروفة للمرحوم آية الله العظمى البروجردي، برأيكم لماذا لا نجد في بعض هذه الأصول المتلقَّاة روايةً صحيحة أو موثَّقة، على الرغم من أنَّ هذه الأصول مُتلقَّاة؟

الشيخ تجليل: الإجابة عن هذا السؤال تظهر في توضيح أمور ثلاثة:

١ - المرحوم العلاَّمة البروجردي كان محقَّاً في قوله إنَّه لا يوجد لدى القدماء كتاب موثَّق، والتوثيق الذي نشهده في الكتب الرِّجالية إنَّما هو استطرادي، وقد كُتِبت هذه الكتب لغرض آخر؛ فمثلاً رجال الشيخ الطوسي كُتِب لتبيان الطبقات، فقسَّم الرواة إلى مجموعات، وفصل بين أصحاب كل إمام ورتبهم، إذاً، لم يكن هدفه من تأليف كتاب الرجال التوثيق، بل إنَّه أراد تعيين الطبقات.

١٣١

أمَّا فهرست الشيخ، فواضح أنَّ الهدف منه تثبيت أسماء المؤلِّفين الشيعة؛ حيث بدأ بأسماء المؤلِّفين والمصنِّفين، ثُمَّ يذكر استطراداً كون أحدهم ثقة. وهكذا الحال مع رجال النجاشي، فرجال النجاشي هو فهرس للمؤلِّفين أيضاً. والمتعارف في الفهرسة المتأخِّرة أنَّ أسماء الكتب تأتي مفهرَسة أيضاً بالترتيب، ولكن في تلك الأزمنة القديمة لم يكونوا يدرجون أسماء الكتب بالترتيب، بل كانوا يرتِّبون الكتب حسب أسماء مؤلِّفيها. وما زال هذا مُتَّبعاً في المكتبات الكبرى، فيدوِّنون فهرساً للمؤلِّفين وآخر للكتب.

في ذلك الزمان، كانوا يكتبون التوثيق أحياناً من خلال ترجمة المؤلِّفين، أمَّا رجال الكشي، فقد أورد أيضاً الرواة الذين رووا عن المعصومينعليهم‌السلام أحاديثَهم. لهذا فنحن لا نملك أيَّ كتابٍ توثيقي لنقول: هذه توثيقات القدماء، وإذا لم نجد أحداً ما من بينهم، فهو غير موثوق، بل هناك كثير من الثقات لم يصلنا توثيقهم في الرجال.

وفي الطَّبقات التي جاءت بعد شيخ المحدِّثين، همَّ العلماءُ والفقهاء أنفسهم، فقد انتهجوا النهج نفسه في الأحاديث؛ فما دام الفقهاء لم يحرزوا الثقة بأحدٍ ما بشكل مسلَّم به، فلن يعملوا بحديثه، والوثوق لا ينحصر في قولهم: (هذا الرجل ثقة)، بل قد تحصل الثقة بكلامه وصدق قوله من العدالة وأسباب أخرى؛ ذلك لأنَّ المعيار في حُجِّـيَّة خبر الثقة ليس أمراً تعبُّديَّاً، بل المعيار هو الوثوق، فإذا تحقَّق تمَّت الحُجَّة. وقد ذكر صاحب وسائل الشيعة قرائن كثيرة تُستفاد منها وثاقة الراوي.

٢ - إنَّ مصطلح(صحيح) وجد بعد العلاَّمة الذي يُعَد من المتأخِّرين، ورأس مشايخ المتأخِّرين هو المحقِّق؛ أي أستاذ العلاَّمة. ومصطلح (صحيح) يُطلق على الحديث الذي يكون رواته عدولاً، عدولاً لا ثقات. طبعاً بعد الشيخ الأنصاري أصبح الرأي أنَّ العدالة ليست مطلوبة، بل تكفي الوثاقة، وقالوا: إنَّ كلمة(ثقة) لدى القدماء أخص من العدالة، وقد تستفاد بما هو أكثر من العدل؛ لأنَّ العدالة تتحقَّق من اجتناب الإنسان للكبائر وعدم إصراره على الصغائر. أمَّا في الثقة، فيضاف إلى ذلك أنْ يكون من أهل الضبط؛ أي مَن كان يمتلك حفظاً جيداً وضبطاً.

١٣٢

أمَّا كلمة حديث (صحيح)، قبل العلاَّمة، فكان لها معنى آخر؛ كانت تعني أنَّه حديث موثوق به، وله حجِّـيَّته من أيِّ ناحية كانت، إنْ كان راويه عادلاً أم لا.

ومهما كان الطريق الذي ثبتت به حجِّـيَّته، ولو بعمل الأصحاب، فنقول: عمل الأصحاب يجبر ضعف السند، ومن أيِّ ناحية ثبت لنا صحة السند، فهو حديث صحيح، لا فرق إن كان ثقة أم لا.

٣ - إنَّ مبدأ المرحوم العلاَّمة البروجردي في الأصول المُتلقَّاة، يقوم على تقسيمه للفتاوى الفقهية إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوَّل هو مجموعة من فتاوى فقهاء الشيعة، كانت متلقَّاة من المعصوم يداً بيد، من دون أيِّ تصرُّف، حتى أنَّهم لم يكونوا يغيِّرون تعبيرات تلك الفتاوى. فهو يقول: إنَّ الشيخرضي‌الله‌عنه يكتب في أول كتابهالمبسوط ، منتقداً الفقهاء الشيعة لأنَّهم لا يبدون آراءهم الخاصة في مؤلَّفاتهم، بل يذكرون كل ما أخذوه عن المعصومعليه‌السلام فقط، فكتب كتابالمبسوط في الردِّ على هذا الانتقاد، ثُمَّ شرع باشتقاق الفروع.

نحن نعلم أنَّ فقهاء الشيعة لا يعدُّون القياس والاستحسان حُجَّة، ولهذا فإنَّهم يأخذون المسائل التعبُّدية عن الإمام المعصومعليه‌السلام كما هي، فعندما نرى فتوى قد جرت في الكتب الفقهية من عصر إلى آخر، نعلم أنَّها صدرت عن الإمام المعصومعليه‌السلام ؛ سواء كان فيها حديث من بين الأحاديث الموجودة بين أيدينا أم لم يكن.

إنَّ ثبات فتاوى الفقهاء نفسه في المسائل التعبُّدية - من قبل جميع الفقهاء، وفي جميع العصور - التي لم تؤخذ إلاّ من المعصومينعليهم‌السلام ؛ هو دليل على كونها من كلام المعصومعليه‌السلام ، وهي حُجَّة بالنسبة لنا. إنَّه كان يرى، في مثل هذه المسائل، أنَّ الشهرة حُجَّة.

فضلاً عن ذلك، لا يوجد حديث موثَّق - بين الأحاديث التي بين أيدينا - يدل عليه. أمَّا الأحاديث غير الموثَّقة، فكثير منها يدل عليه. فكيف يمكنك دعوى عدم وثاقة الحديث الذي لم تجد توثيقاً لبعض رواته؛ ذلك لأنَّ التوثيق لا يقتصر على ما وصلنا فقط، ثُمَّ إذا كان الراوي ليس بثقة، وثَبَتَ صدقه من طريق آخر، فمن البديهي أنَّ هذه الشهادة ستكون توثيقاً له.

١٣٣

القسم الثاني من الفتاوى هو الفتاوى التفسيرية، وهي الفتاوى التي تُؤخذ عن المعصوم بألفاظها نفسها، لكن هناك وثائق ومصادر لكلام المعصومعليه‌السلام فسَّرها الفقهاء، ومن البديهي أنَّ تفسيرهم لها لا يُعدُ حُجَّة لدينا.

فمثلاً عنوان:(كثير السفر) غير موجود في الأحاديث، فبعض القدماء عبَّّروا بكثير السفر، وغيرهم قالوا: مَن كان سفره أكثر من حضره. فكل منهم بلغ استنباطاً معيناً، لكن النصوص ذكرت:(شغله السفر) ، و(مَن كان بيته معه) ؛ لهذا نجد أنَّ المرحوم السيد اليزدي ترك تعبير القدماء في كتابه العروة الوثقى، واتخذ من العنوانين الأخيرين معياراً. وفقهاء آخرون اقتدوا بالسيد اليزدي. إذاً، القسم الثاني - أي التفسير - ليس حُجَّة أيضاً.

القسم الثالث من الفتاوى هو الفتاوى التفريعية، وهي الفتاوى التي لم تكن مأثورة بعينها عن المعصومعليه‌السلام ، لكنَّها استُنْبطت من المسائل الأصلية، وتفرَّعت عنها. وقد يقع خطأ في هذا التفريع أيضاً؛ لهذا فإنَّ التفريع الموجود في كتب القدماء لا يعد حُجَّة عندنا، بل علينا أن نتأكَّد بأنفسنا من صحَّة ذلك التفريع.

* أي أنَّهم اجتهدوا في حقيقة الأمر؟

الشيخ تجليل: نعم، اجتهدوا.

* إذاً، بعد هذه الأمور الثلاثة التي ذكرتموها، ينتهي رأيه في الفتاوى الأصلية التعبُّدية، التي لا مجال فيها لحكم العقل وآراء العقلاء وغير ذلك.

الشيخ تجليل: إنَّ رسوَّ الفتاوى على مسألةٍ ما؛ يدلُّ على كونها من قول المعصومعليه‌السلام ، ومن الطبيعي أنَّ عدالة الفقهاء لا تسمح بالكذب على المعصومعليه‌السلام ، وكانوا لا يرون في الاستحسان والقياس حُجَّة، بل كان تعبُّدهم بكلام المعصوم إلى درجة أنَّهم كانوا يستعملون لفظ المعصوم نفسه؛ ما عرَّضهم لطعن فقهاء أهل السُّـنَّة واتهامهم بأنَّهم ليسوا من أهل الرأي.

١٣٤

* كان المرحوم آية الله العظمى البروجردي يهتم بما اشتهر بين القدماء، ولا يهتم بما اشتهر بين المتأخرين، ولا بإجماعهم، فهل كان يتصوَّر أنَّ الشهرة بين القدماء تعني الأصول المُتلقَّاة؟

الشيخ تجليل: نعم، أولئك أخذوا من المعصومعليه‌السلام يداً بيد. أمَّا المتأخرون، فقد استنبطوا، وليس لدى المتأخرين ما يضيفونه، كل ما هو موجود هو ما بين أيدينا، وعلينا أن نعود إلى الماضي في استنباطنا، أن نفترض أنفسنا في عصر العلاَّمة، وقبله في عصر شيخ الطائفة؛ لأنَّ النصوص الموجودة هي ما كان موجوداً في أيدي المتقدِّمين نفسه، ومن هنا لا تُعدُّ شهرة المتأخرين حُجَّة لدينا.

* ما هو الفرق بين كتب الفهرسة وكتب الرجال؟ فقد قلتم: إنَّ تلك تبيِّن الطبقات والأخرى تذكر فهرساً بالمؤلِّفين. فلماذا يولي بعض الأساتذة كتب الفهرسة وتوثيقاها اهتماماً أكثر من كتب الرجال؟

الشيخ تجليل: الكتب الرجالية التي كانت بين القدماء، مثل رجال الشيخ الطوسي وفهرست النجاشي، وليس لدينا كتب رجالية سواها.

* يُطرح في بعض الدروس، أنَّ الفرق بين كتب الرجال والفهارس، هو أنَّ المؤلِّف لكتب الرجال يهتم بالطبقات، في حين أنَّ الفهارس تعطي نبذة عن المؤلِّف أيضاً؛ ولهذا فإنَّ الآراء المطروحة في الفهارس أكثر دقَّة، فما هو رأيكم؟

الشيخ تجليل: الفهارس لا تتحدَّث عن الأشخاص وسِيَرِهم، بل تُفهرس أسماء المؤلِّفين. فأكثر ما كان النجاشي يهتم به هو أن يصل بسنده إلى صاحب الكتاب، ولم يعطِ رأيه بتوثيق أحدٍ ما، فلا يبحث الفهرس عن وثاقة ثقة الراوي، بل قد يقول استطراداً: إنَّه ثقة، لكن هدف الكتاب ليس التوثيق؛ لهذا ليس بين أيدينا كتب رجال، سوى رجال الشيخ، وتوثيقاته أيضاً قليلة.

١٣٥

* في بعض الموارد يكون الراوي مجهولاً في كتب الرجال والفهارس؛ أي أنَّ اسمه موجود في سند الروايات، لكن إذا راجعتَ كتب الرجال لا تجد له توثيقاً.

الشيخ تجليل: قد ذكرتُ لكم أنَّ النجاشي جمع أسماء المؤلِّفين فقط، وكثير من الرواة لم يكونوا مؤلِّفين. أمَّا المعاجم المتأخرة للرجال - بعد العلاَّمة - مثل رجال الاسترابادي، ورجال المامقاني، فقد حاولتْ الاستيعاب أكثر؛ لأنَّهم كانوا متأخِّرين من حيث الزمان، فأتوا بأسماء الرجال الذين أتوا في ما بعد.

ثُمَّ إنَّهم تتبَّعوا الأسانيد، واستخرجوا ما فيها من أسماء، مؤلِّفين كانوا أم غير ذلك. لهذا نجد - على ما أذكرُ - ستة آلاف شخص، تقريباً، في رجال المامقاني، في حين أنَّ عددهم كان قليلاً جداً في كتب القدماء.

إذاً، ليس كل راوٍ ورد اسمه في سند الرواية نجده في كتب الرجال، وإذا ورد اسمه في كتب الرجال، فبشكل إضافي عرضي. كما أنَّ أسماء كثير من الرواة ورد، لكن من دون أي شرح عن سِيَرِهم. لمجرد وجود اسمه في السند، أدخل في الرجال. وعلى أيِّ حال، إذا لم يرد اسم أحد الرواة، لا يُعدُّ ذلك جرحاً فيه.

* بما أنَّه يوجد في الروايات والمتون اختلاف بين النُّسخ، ونقل بالمعنى، فما هو الحل للمشكلات الناشئة عن ذلك؟ علماً بأنَّ اختلاف النُّسخ قد يُغيِّر المعنى أحياناً، فماذا تقترحون من حلول لتكون تلك الروايات حُجَّة عندنا؟

الشيخ تجليل: إذا كان هذا الاختلاف في سند الرواية، فعندها ينشأ علم إجمالي يوجب التردُّد والشك في السند الواقعي لهذا الحديث، وبالتالي لا نعلم مَن هُم رواته.

١٣٦

وطريق الحل هو أن نحدِّد الرواية الصحيحة عِبر آلية البحث الدقيق في الأسانيد، ومن خلالها يُعرف راوي الحديث، فلعلَّ خمسين حديثاً في أبواب الفقه المختلفة ذَكرت هذا السند، عند مراجعتها والتدقيق في أسانيدها يُعرف أيُّ النسختين أصح. فمثلاً بالنسبة لعبد الله بن سنان ومحمد بن سنان، كلاهما ابنٌ لسنان، نجد في مكان كتب عبد الله بن سنان، وفي مكان آخر محمد بن سنان، فنلجأ إلى الفحص والتدقيق في الأسانيد، فنجد أنَّ مَن ينقل الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام - بلا وساطة - هو عبد الله بن سنان، في حين أنَّ محمد بن سنان ينقل الحديث عن الإمام الصادق بوساطة واحدة. هذه المسألة تُفهم من خلال الممارسة.

* يختلف نمط الرواة أيضاً؛ فعبد الله بن سنان يسأل أسئلة فقهية، بينما محمد بن سنان له بحوث يمتزج فيها الفقه بعلم الكلام.

الشيخ تجليل: ولكن في الوقت عينه توجد لمحمد بن سنان أحاديث كثيرة في أبواب الفقه. وهناك إشكال في تضعيف بعض المتأخِّرين لمحمد بن سنان.

أمَّا إذا كان الاختلاف في نص الحديث، فأفضل وسيلة هي مراجعة فتاوى الفقهاء، فالفقهاء سلَّمونا الأحاديث يداً بيد، ونجد في الفتاوى أنَّهم أصدروا فتاواهم استناداً إلى هذه النسخة، فيُعلم أنَّ هذه النسخة أصح.

* وما العمل بالنسبة لمشكلة النقل بالمعنى؟ خصوصاً عندما نجد روايات رواها عربي فنقَّح عبارات الروايات، وفي المقابل أعجمي، أو مَن كان تلقِّيه ضعيفاً، فنجد العبارات غير منقَّحة، فضلاً عن أنَّهم كانوا مجازين بالنقل بالمعنى. فكيف نحل هذه المشكلة، وكيف نعتمد على ألفاظ الروايات؟

الشيخ تجليل: لا شك في أنَّ النقل بالمعنى جائز، ليس في الأحاديث فقط، بل في أيِّ خبر. فمَن ينقل رواية لا يجب عليه الإتيان بها بألفاظها نفسها، فقد يترجمها إلى لغة أخرى وينقلها، أو يرويها باللغة نفسها، لكن يستعمل العبارات والمصطلحات المتداولة.

١٣٧

في هذا المجال، أجاز العقلاء الاكتفاء بالترجمة؛ أي استعمال اللفظ الذي يعطي المعنى نفسه من دون أن يستنبطوا، وينسبوا استنباطهم إلى الإمام، فهذا الأمر غير جائز. كما أنَّه في باب الشهادة أيضاً أجاز العقلاء النقل بالمعنى. فمثلاً نقول في الشهادة: يجب أن تكون عن حس، أي سَمَعَ بإذنه ونَقَل، لا أن يكون قد استنبط، وشهد بما استنبطه. فالاستنباط هنا غير صحيح.

إنَّ النقل بالمعنى هو أن يقول فلان: (ماء)، وننقل عنه اسم الماء، ولكن بلغة أخرى، هذا ما أجازه العقلاء في باب الحُجِّـيَّة؛ شهادة كانت أم شيئاً آخر. لكن احتمال الخطأ في نقل المعنى يبقى قائماً. على أيِّ حال... يجري هنا أصل عدم الخطأ الذي هو أحد الأصول العقلائية.

* المشكلة الأساس تبقى في اختلاف تحمُّل الحديث، كما هو الحال في تحمُّل الشَّهادة. فيرى شخصان الحادثة نفسها، ورغم كونها واقعة ملموسة، ولا يقصدون الكذب، ونعلم أنَّ كليهما ثقة، لكن تختلف رواية كل منهما عن الآخر. والأمر كذلك في رواية نقل الحديث، فمثلاً يختلف زيد الشحَّام في تحمُّله للحديث عن محمد بن مسلم.

الشيخ تجليل: إذا كانا متعارضين، يمكن التدقيق في الأمر؛ الأوثق والأقدر على تحمل الحديث. مثلاً عمار الساباطي كان أعجمياً، نلاحظ في أحاديه اضطراباً في بعض الأحيان، فإذا كان هناك مَن يعارضه، كان أرجح.

* لم يكن جميع رواة الحديث أصحاب ألواح، بل كان يسمع أحدهم الحديث في مجلس، ثُمَّ ينقله خارج المجلس، ولم يكونوا في ما سمعوه يقصدون الكذب على الأئمة، فكيف تُحلُّ هذه المعضلة؟

الشيخ تجليل: كلا، فالرواة كانوا يكتبون جميع الأحاديث، فلم يكن الأمر أن يتحدَّث الإمام الصادقعليه‌السلام لمدة ساعة فيبادر أصحابه لكتابه عدَّة أوراق؛ إذ غالباً ما كان الإمام يتحدَّث بحديث من سطرين أو ثلاثة، وكان أصحابه يدوِّنونه. فمن بين أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام كان هناك أربعمائة شخض يكتبون (الأصول)

١٣٨

وبعده كان أصحاب الإمام الرضاعليه‌السلام ؛ لأنَّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام لم تسنح له فرصة لرواية الحديث. وكان أولئك أصحاب كتب ومؤلَّفات، ثُمَّ إنَّ ما نقلوه كان أحكام الله، وكانوا يتوخَّون الدقَّة فيه، فيدوِّنه من دون أدنى تغيير.

نعم، هناك مَن نقل الحديث بكامله، وغيرهُ سجَّل نصفه، وليس من تناقض بينهما، فما نقله الاثنان حُجَّة. أمَّا الباقي، فلا يحكم بنفيه.

وبعبارة أخرى: المعيار عند العقلاء هو الوثوق، وينفي العقلاء احتمالات الخطأ والزيادة والتغيير. نعم، احتمال النقص ممكن، وعدم نقل جزء من الحديث لا يعني الخلل في معناه. أمَّا في احتمال الزيادة، فيطبِّق العقلاء قاعدة أصالة عدم الزيادة.

* استناداً إلى ما قلتموه، يبدو أنَّ العقلاء كانوا يشكُّون في هذه المسائل؛ لأنَّ موضوع أصل الشك كان احتمال الخطأ والنقص والزيادة وما شابه، لكن العقلاء لم يكونوا يعبأون بمثل هذه الاحتمالات.

الشيخ تجليل: نعم، تماماً كحُجِّـيَّة الظواهر، فهناك احتمال دوماً بأن يكون القائل أراد خلاف الظاهر، لكن العقلاء لا يقيمون قواعدهم على هذا الاحتمال.

* هل صحيح أنَّ المعيار لدى العقلاء، هو حيث تكون العبارات والألفاظ منقولة حرفيَّاً. أمَّا إذا كانت منقولة بالمعنى، فلا يعبأ العقلاء بها، أو أنَّ شيئاً كهذا لم يثبت لدينا؟

الشيخ تجليل: ليس الأمر كذلك. فالرأي السائد لدى العقلاء هو جواز النقل بالمعنى، وثانياً إنَّه حُجَّة إن كان نُقِل بالمعنى أو بالألفاظ نفسها. ولا يحق لنا التصرف في النقل بالمعنى، وليس من حق الإنسان الثقة أن يستنبط من أحكام المعصوم شيئاً ثُمَّ ينسبه إليه، بل عليه أن ينقل الكلمات نفسها.

١٣٩

* هل يمكن أن نفسِّر النقل بالمعنى بطريقتين: الأولى أنَّ المراد منه الترجمة...؟

الشيخ تجليل: لا يجوز أكثر من هذا.

* الشكل الثاني أن ينقل المضمون نفسه، ولكن في قالب آخر.

الشيخ تجليل: هذا هو الاستنباط، ولا يمكن نسبة ما يستنبطه الراوي إلى المعصوم.

* لا داعي لأن يستنبط، فعندما ينقل جملة بمعناها قد يفقِد الجملةَ الأصليةَ بعض تفاصيلها، فتتحول (الفاء) إلى (ثُمَّ) مثلاً.

الشيخ تجليل: المفروض أنَّ الراوي يعرف اللغة والعُرف، عليه أن يأتي بالمفهوم العُرفي للفظ عند نقله للمعنى، لا أن يقول مقطعاً ويحذف مقطعاً آخر. فالعقلاء لا يجيزون ذلك، ولا يبقى هذا الشخص ثقةً أو عادلاً. فكيف نحتمل أنَّ إنساناً يغيِّر الأمور من تلقاء نفسه بحيث يؤدِّي إلى تغيير ما كان يريده الإمام. هذا الأمر خلاف الأصل العقلائي. نعم، الاستنباط جائز، فالإمام لم يمنع الاستنباط، لكن يجب ألاّ ينسب الاستنباط للإمام.

والترجمة أيضاً، قد تكون إلى لغة أخرى، وقد تكون باللغة نفسها، ولكن بلفظ آخر. بالنسبة لنصوص الأحاديث تُعَدُّ الكتب الفقهية معياراً، فالاعتماد يكون على نصوص الكتب الفقهية، تماماً كالاعتماد على كتب الرجال في تحديد اختلاف نسخ الأسانيد.

* إلى أيِّ حدٍّ استطاعت كتب مثل: (جامع الرواة)، و(معجم رجال الحديث)، وأمثالها، أن تحلَّ مشكلة أسانيد الروايات في المخطوطات المختلفة؟

الشيخ تجليل: جامع الرُّواة هو أفضل كتاب تقريباً في مجال تحديد الراوي والمروي عنه. فكل راوٍ يذكره يُحدِّد عمَّن روى. أمَّا في سلسلة الأسانيد للحديث كله وللأشخاص الذين رووا عنه، فقد أدَّى ذلكمعجم رجال الحديث بشكل أدق؛ لأنَّ هذا العمل أضحى أسهل بعد طبع جامع الرواة. فضلاً عن أنَّ المرحوم آية الله العظمى الخوئي - على ما يبدو - استفاد من آخرين في عمله وفي المتابعة، وبذل جهداً كبيراً في هذا المجال. ومن أهمِّ الفوائد التي أثمرتها هذه الجهود تحديدُ المشتركات؛ فمثلاً لدينا شخصان باسم أحمد بن محمد، والشخصان في الطبقة نفسها، وهما: أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري،

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الفقيه في باب ما أحلّ الله من النكاح وما حرّم.

وحبابة بنت جعفر الأسديّة التي روت عن أمير المؤمنينعليه‌السلام وقالت: رأيت أمير المؤمنين في شرطة الخميس ومعه درّة يضرب بها بيّاع الجريّ والمارماهيّ، والمزماريّ ويقول لهم: « يا بُيّاع مُسوُخ بني إسرائيل » إلى آخر الحديث.

وحكيمة بنت الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الجوادعليه‌السلام .

وحميدة البربريّة اُمّ الإمام أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام وهي من الثقات التقيّات، وكان مولانا الإمام الصادقعليه‌السلام يرسلها مع اُمّ فروة تقضيان حقوق أهل المدينة.

وزينب بنت أبي سلمة التي كانت من أفقه نساء زمانها، وكانت كثيرة الخير والصدقة وكانت صنّاع تعمل بيدها وتتصدّق بيدها.

وسعيدة التي وقع اسمها في إسناد الكافي فقد روى في باب النوادر من آخر كتاب النكاح عن سعيدة .

وغيرهنّ كثيرات لم نذكر أسماءهنّ اختصاراً وإيجازاً(١) .

وقد برزت هذه النسوة وصعدن إلى تلك المرتبة من العلم والفضيلة، وضاهين الرجال في المقام والمنزلة بفضل الإسلام.

فقد ربّى في حجره مثل هذه النساء العالمات التقيّات ذوات الشخصيّة الرشيدة والمواقف البارزة، والصفحات البيض، والتواريخ المشرقة في شتّى مناحي الحياة الإسلاميّة ولولا الإسلام، وما أولاهن من المنزلة والحظوة لبقيت المرأة تعاني من ما كانت تعانيه من ظلم الجاهليّة وعسفها، وكبتها وتحقيرها.

فقد كانت المرأة في زمن الجاهليّة محرومة من كلّ مزايا الرجال، تحتقر كما يحتقر

__________________

(١) من أراد الوقوف على تفصيل ذكرهنّ وأسمائهنّ فعليه أن يراجع كتاب: أعلام النساء، بلاغات النساء، الخيرات الحسان، والاستيعاب، والإصابة.

٤٤١

الحيوان، وتباع وتشترى كما يشترى ويباع المتاع، حتّى جاء الإسلام وأولاهنّ ما أولاه من الرفعة بعد الضعة، والشرف بعد المقت والعزّة بعد الإهانة والذّل، فتخرّج منهنّ الكاتبات والأديبات والعالمات، والراويات، وربّات الفكر والرأي، وذوات الشخصيّة والشأن الكبير.

على أنّ النساء لم يحصلن على حقوقهنّ في التعليم في ظلّ الحكومة والشريعة الإسلاميّة فقط، بل حصلن على حقوق عادلة في التسوية مع الرجال في اعتناق الدين، واستحقاق الثواب الاُخرويّ، والاحترام الدنيويّ، والميراث، والزواج وحقوق الزوجيّة، والطلاق، والنفقة، والوصيّة.

وجملة القول ؛ أنّه ما وجد دين ولا شرع ولا قانون في أمّة من الأمم أعطى النساء ما أعطاهنّ الإسلام من الحقوق والعناية والكرامة، في جميع المجالات الإنسانيّة.

هذا ولقد كان الإسلام أوّل من عمل على محو الاُميّة ونشر الثقافة والعلم وتعميمها في أوساط الناس فيما كانت الحكومات المعاصرة لعصر النبوّة المحمديّة ـ كالأجهزة الحاكمة في إيران ـ تحظر العلم والثقافة على طبقات الشعب وتحرم اكتسابهما إلّا على الأُمراء وأبناء الاُمراء، وطبقة المؤبذين ( وهم رجال الدين الزرادشتي )(١) .

وإنّ أدلّ دليل على سعي الإسلام لمحو الاُميّة قبل أي أحد هو ما فعله النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مع أسرى بدر حيث جعل فداء بعض الأسرى الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة، تعليم أولاد المسلمين: القراءة والكتابة.

فقد روى الحلبي في سيرته ذلك قائلاً: ( بعثت قريش في فداء الأسارى وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم، وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألفين إلى ألف. ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة ليعلّمهم الكتابة فإذا تعلّموا كان ذلك فداء )(٢) .

__________________

(١) الشاهنامة للفردوسيّ ٦: ٢٥٧ ـ ٢٦٠.

(٢) السيرة الحلبيّة ٢: ٢٠٤.

٤٤٢

على أنّ المنهج الذي اختاره الإسلام هو جعل الإيمان مقروناً بالعلم، والعلم مقروناً بالإيمان فالمكتفي بأحدهما كطائر يحلّق بجناح واحد ولذلك نرى أنّ الله سبحانه يقرن أحدهما بالآخر في كتابه إذ يقول:( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) ( المجادلة: ١١ ).

وكقوله:( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ ) ( الروم: ٥٦ ).

وممّا يدلّ على ذلك ما نراه ـ إذا سرنا في البلاد الإسلاميّة ـ من بناء الجامعات إلى جنب المساجد الذي يشير بوضوح إلى عدم التفكيك بين العلم والإيمان، وبين الدين والمعرفة في الحوزات الإسلاميّة العلميّة المبثوثة في كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ أو انعقاد الحلقات الدراسيّة في المساجد. ولقد بلغ حثّ الإسلام على اكتساب العلم والمعرفة حدّاً بليغاً حتّى أنّه حرّض على الهجرة في سبيل اكتساب العلم، عندما حثّ على أن يخرج من كلّ فريق طائفة تسافر إلى المدينة، ليدركوا حضرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وليتعلّموا منه ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف الإلهيّة المفيدة ثم يرجعوا إلى قومهم وهو أمر يدلّ ضمناً على أنّ الإسلام كان ممن أسّس بنيان الحوزات العلميّة والجامعات وهي حقيقة يدلّ عليها قوله سبحانه:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة: ١٢٢ ).

فإنّ هذه الآية وإن فسّرت بوجوه غير أنّ الأظهر في تفسير الآية ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام :

قال عبد الله بن المؤمن الأنصاريّ قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ قوماً يروون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « اختلافُ اُمّتي رحمة » فقال: « صدقُوا » فقال: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال: « ليس حيثُ تذهب وذهبُوا، إنّما أراد قول الله عزّ وجلّ:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين الله إنّما الديّن

٤٤٣

واحد »(١) .

وهذه الآية مضافاً إلى كونها دالّة على وجود مركز أو مراكز علميّة في زمن النبيّ يسافر إليها الأفراد ليتلقّوا فيها العلوم والمعارف اللازمة ؛ تدلّ على وجوب هذا الأمر وجوباً كفائيّاً، ولقد استمرّ وجود هذه المراكز والحوزات العلميّة في زمن الأئمّة: وفي زمن الإمام الصادق خاصّة.

فقد روى أحمد بن محمّد بن عيسى وقال: خرجت إلى الكوفة في طلب الحديث فلقيت بها الحسن بن عليّ الوشا، فسألته أن يخرج لي كتاب العلا بن رزين وأبان بن عثمان، فأخرجهما إليّ فقلت له: أحبّ أن يجيزهما لي فقال: يرحمك الله وما عجلتك، اذهب فاكتبهما واسمع من بعد ذلك، فقال: لا آمن الحدثان، فقال: لو علمت هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه فإنّي أدركت في هذا المسجد ( بالكوفة ) تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر ( أي الإمام الصادقعليه‌السلام )(٢) .

وبالتالي فإنّ ما يدلّ على اهتمام الدين الإسلاميّ بانتشار العلوم والأخذ بالمعارف المتنوّعة هو ازدهار العلوم المختلفة بين المسلمين ونبوغهم المطّرد والبارز في شتّى مجالات المعرفة، وتنوّع الكتب والمصنفات التي خلّفها المسلمون وصنّفها علماؤهم وكتّابهم، وكانت أساساً لكثير من العلوم الحديثة.

يبقى أن نعرف أنّ الإسلام لا يطرح صيغة خاصّة لمنهج التعليم، وقد سبق أن قلنا: إنّ خاتمية الدين الإسلاميّ تقتضي أن يبيّن الإسلام الجوهر واللب، وأمّا الصور والأشكال فمتروكة للأجيال والعصور، ومقتضياتها فلا مانع من أن يستفيد المسلمون من أي منهج تعليميّ، وأن يستخدموا أي جهاز يضمن تعميم العلم كالتلفزيون والمذياع شريطة الحفاظ على خلق المجتمع، وقيمه الإسلاميّة العليا. فإنّ الإسلام يخالف كلّ علم يتنافى مع سعادة البشر ويهدّد استقراره.

__________________

(١) نور الثقلين ٢: ٢٣٨.

(٢) رجال النجاشيّ: ٢٨ وتنقيح المقال للمامقانيّ ١: ٢٩٤.

٤٤٤

هذا ولعلّك تعجب إذا علمت أنّ تحصيل العلم في الفنون المختلفة من الطبّ والاقتصاد والحقوق السياسيّة والصنائع المتنوّعة فريضة إسلاميّة يجب على الجميع تعلّمه على نحو الواجب الكفائيّ لكي ترتفع حاجة المسلمين إلى غيرهم، ويأمنوا بذلك من تدخّل الأجانب في شؤونهم، بل الأعجب من ذلك أنّ التحصيل في بعض الشؤون واجب عينيّ وذلك فيما يتعلّق بمعرفة الأحكام الدينيّة من أحكام العبادات والمعاملات كما حقّق في موضعه(١) ، ولأجل ذلك وجب على الحكومة الإسلاميّة أن تخصّص قسماً كبيراً من ميزانيّتها لتأسيس الجامعات الدينيّة، والعلميّة وتهيئة ظروف التعليم والتعلّم حتّى يتسنّى لأبناء الاُمّة تحصيل المعرفة في أي مجال مفيد، وضروريّ لحياة الاُمّة. فإنّ جميع ما سقناه إليك من أدلّة حاثّة على طلب العلم، وإنّ ما وصل إليه المسلمون القدامى من أزدهار، وتقدّم عظيم، في العلوم يستدعيان أن تكون الحكومة الإسلاميّة هي التي تتولّى تهيئة أجواء العلم والتعلّم والتعليم، وإلاّ فكيف يمكن أن يتحقّق ذلك الازدهار ويتحقّق هذا الهدف العظيم، والأمر خارج عن نطاق الأفراد بل هو ميسّر للحكومة وإمكانيّاتها، ولوجوب أن تقتدي هذه الحكومة بسيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تولّى بنفسه تهيئة أجواء التعليم والتعلّم لأبناء المدينة كما مرّ عليك في قصّة أسرى بدر.

الإسلام والعلوم الطبيعيّة

ثمّ انّه لم يكن تأكيد الإسلام على تحصيل العلم ليختصّ بعلم دون علم وبباب دون آخر، وإن كان التأكيد على اكتساب الفقه والعلم بأحكام الدين أشدّ، وأكثر.

فالعلم بأحكام الدين واُصوله وفروعه، أو العلم بما يجري في الطبيعة من السنن والقوانين وكشف غوامض الحياة ومعضلاتها واختراع ما يكون مفيداً للحياة البشريّة ممّا دعا إليه الإسلام من غير فرق بين علم وعلم. ولذلك أمر سبحانه في الكثير من الآيات القرآنيّة بالتدبّر في الكون والسنن الحاكمة فيه، كما هو غير خفيّ على من له إلمام بالكتاب

__________________

(١) راجع فرائد الشيخ الأنصاريّ: ٣٠٠ ـ ٣٠١.

٤٤٥

الكريم.

وتقسيم العلوم إلى دينيّة وغير دينيّة ( أو قديمة وحديثة ) مجرّد اصطلاح وإلاّ فكلّ علم نافع ناجع قد دعا إليه الدين وأمر به الكتاب، وأخذ به المسلمون، وما يعدّ علوماً حديثة فلها جذور في القديم وإنّما حدث التطوّر والتكامل حسب مرور الزمان شأن كلّ ظاهرة وعلم.

ولأجل ذلك نرى أنّ المسلمين اهتمّوا ـ منذ بزوغ الإسلام ـ بمختلف العلوم والمعارف، وبرعوا فيها، وكانوا لكثير منها مكتشفين، وكان منهم المخترعون، والمبدعون.

وقد اعترف بذلك كثير من علماء الغرب والشرق، وأقرّوا للمسلمين به، وبيّنوا جهود المسلمين في هذا المضمار، وعدّوهم آباء العلم الحديث في كثير من المجالات والأصعدة.

ونحن هنا نشير إلى طائفة ممّن كان لهم من المسلمين اكتشافات علميّة :

١. جابر بن حيّان، تلميذ الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام كان من أشهر علماء الكيمياء. هذا وللرازي وأبو ريحان البيرونيّ بحوث شيّقة وهامّة في الكيمياء أيضاً.

٢. يعقوب ابن إسحاق الكندي ؛ له ١٥ كتاباً في معرفة أحوال الجوّ.

٣. الحسن بن الهيثم ؛ المتولّد عام ٣٠٤ ألّف كتباً عديدة في الضوء وخواصّ المرايا المقعّرة والمحدّبة والمنكسرة.

٤. محمد بن إبراهيم الفزاري، والحجاج بن يوسف بن مطر ؛ لهما ولغيرهما من المسلمين جهود علميّة كبرى في الرياضيّات.

٥. الخواجا نصير الدين الطوسيّ، وأبو معشر البلخيّ، يعود إليهما الكثير من الاختراعات والاكتشافات في علم الهيئة والفلك.

٦. محمّد بن زكريّا الرازي، وأبو عليّ بن سينا، وابن رشد الأندلسيّ يعود إليهما

٤٤٦

الكثير من الأبحاث الطبيّة، ومسائل العلاجات والأدوية.

٧. الكندي والدميريّ والقزوينيّ وابن بطوطة وابن خلدون ؛ ممّن لهم كتب ومؤلّفات واسعة في علم الأحياء، والجغرافيه، وغيرهما من العلوم والمعارف، وغيرهم ممّن لا يمكن إحصاء أسمائهم لكثرتهم وكثرة مؤلّفاتهم.

ويكفي دلالة على تشجيع الإسلام للصناعة ما قاله الإمام الصادقعليه‌السلام في حديث مفصّل: « كلّ ما يتعلّم العبادُ أو يُعلّمون غيرهُم من صُنوف الصناعات مثل الكتابة والحساب والنّجارة والصّياغة والسّراجة والبناء والحياكة والقُصارة والخياطة وصُنعة صنوف التصاوير ما لم يكُن مثل الرّوحانيّ وأنواع صنوف الآلات التي يحتاجُ إليها العبادُ التي منها منافعهُم وبها قوامُهم وفيها بُلغةُ جميع حوائجهم فحلال فعلهُ، وتعليمهُ والعملُ به وفيه لنفسه أو لغيره »(١) .

ثمّ انّ عناية الإسلام بالكتابة وتقييد العلم بواسطتها يعتبر من أبرز الأدلّة على تبنيّ الإسلام للعلم وحرصه عليه فقد كان الإسلام أوّل من روّج الكتابة وحثّ على تعلّمها، وكان ذلك الموقف من الكتابة والتدوين هو السبب الرئيسيّ في كتابة المؤلّفات وتأليف الكتب العديدة الذي كان ـ بدوره ـ خير وسيلة لأحياء العلم، والابقاء عليه فقد روي أنّه كتب الشيعة وحدهم ما يقارب (١٠) آلاف كتاب خلال عهد الإمامين الباقرين خاصّة(٢) .

ولقد وردت أحاديث كثير في هذا الصدد يضيق المجال بذكرها في هذه العجالة ولكنّنا ندرج هنا بعضها على سبيل المثال :

عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « قيّدُوا العلم بالكتابة »(٣) .

__________________

(١) تحف العقول: ٢٤٦.

(٢) المراجعات: ٣٣٧ المراجعة (١١٠).

(٣) تحف العقول كما في الذريعة ١: ٦، المستدرك للحاكم ١: ١٠٦، كنز العمال ٥: ٢٧٧، البيان والتبيين ١: ١٦١.

٤٤٧

وعن عبد الله بن عمر قال قلت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أقيّد العلم ؟ قال: « نعم »، قيل وما تقييده ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كتابتُهُ »(١) .

وعن أبي بصير قال دخلت على أبي عبد الله ( الصادق ) فقال: « ما يمنعُكُم من الكتابة، إنّكُم لن تحفظُوا حتّى تكتبُوا »(٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا مات ابنُ آدم انقطع عملهُ إلّا من ثلاث :

صدقة جارية، أو علم ينتفعُ به أو ولد صالح يستغفُر لهُ »(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « المُؤمنُ إذا مات وترك ورقةً واحدةً عليها علم تكُونُ تلك الورقةُ سُتراً فيما بينهُ وبين النّار وأعطاهُ الله بكُلّ حرف مكتُوب عليها مدينةً في الجنّة »(٤) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: « احتفظُوا بكُتبكُم فسوف تحتاجُون إليها »(٥) .

وقالعليه‌السلام : « القلبُ يتّكلُ على الكتابة »(٦) .

وقالعليه‌السلام : « اُكتُب وبُث علمك في إخوانك فإن متّ فأورث كُتُبك بنيك فإنّهُ يأتي على النّاس زمان هرج ما يأنسُون إلّا بكُتُبهم »(٧) .

وعن الإمام الحسنعليه‌السلام أنّه دعا بنيه وبني أخيه فقال: « إنّكُم صغار قوم ويُوشكُ أن تكُونُوا كبار قوم آخرين فتعلّمُوا العلم فمن لم يستطع منكُم أن يحفظهُ فليكتُبهُ وليضعهُ في بيته »(٨) .

هذا وللإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام تعاليم لطيفة في مجال الكتابة وتحسين الخطّ فقد قال لكاتبه عبيد الله بن أبي رافع: « ألق دواتك، وأطل جلفة(٩) قلمك ،

__________________

(١) راجع الذريعة ١: ٦، التاج ١: ٦١.

(٢) مشكاة الأنوار للطبرسيّ: ١٤٢، وروي في الكافي ١: ٥٢ بهذه الصورة: « اكتُبُوا فإنّكُم لا تحفظُون حتّى تكتبُوا ».

(٣) رواه الخمسة إلّا البخاريّ، راجع التاج ١: ٦٦.

(٤) أوثق الوسائل: المقدّمة.

(٥ و ٦ و ٧) الكافي ١: ٥٢.

(٨) بحار الأنوار ٢: ١٥٢.

(٩) الجلفة ما بين مبراه وسنته.

٤٤٨

وفرّج بين السّطُور وقرمط(١) بين الحُرُوف، فإنّ ذلك أجدرُ بصباحة الخطّ »(٢) .

كما روي عنهعليه‌السلام قوله: « الخطّ الحسن يزيد الحقّ وضوحاً »(٣) .

هكذا حثّ الإسلام على الكتابة حثّا بليغاً، وأكيداً، وكفى في ذلك أنّ الله تعالى أقسم بالقلم باعتباره وسيلة فعّالة لنقل المعرفة وتدوينها، وإبقائها.

بحث وتنقيب

ولعلّك تقول: لو حثّ الإسلام مثل هذا الحثّ على الكتابة والتدوين فلماذا نهى الخليفة الثاني عن كتابة الحديث في حين كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يحثّ أصحابه على كتابة ما يسمعونه منه. فقد أخرج صاحب غوالي اللئالي عن عمر بن شعيب عن أبيه وجدّه قال قلت: يا رسول الله أكتب كلّ ما أسمع منك ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم »، قال: قلت في الرضا والغضب ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم فإنّي لا أقول في ذلك كلّه إلّا الحقّ »(٤) .

وقد أملىصلى‌الله‌عليه‌وآله كتباً في الشرائع والأحكام كان قد جهّز بها رسله وعمّاله في الأقطار المفتوحة وقد احتفظ بها المسلمون وأوردها أصحاب السير والمعاجم وأهل الحديث والتفسير في كتبهم وهذه الصحف تعرب قبل كلّ شيء عن عناية الرسول بحفظ علوم الرسالة وذخائر النبوّة وأحكام الدين ودساتيره ليستفيد منها القريب ويرجع إليها النائي.

وقد تواتر عن الفريقين أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قبض وفي قراب سيفه أو ذؤابة سيفه كتاب أو كتابان(٥) .

__________________

(١) القرمطة بين الحروف، المقاربة بينها وتضييق فواصلها.

(٢) نهج البلاغة: قصار الكلم ( الرقم ٣١٥ ).

(٣) حديث مشهور.

(٤) راجع الذريعة ١: ٦، التاج ١: ٦١.

(٥) صرّح بذلك إمام الحنابلة في مواضع من مسنده راجع المسند ١: ٨١، ١٠٠، ١١٩، ١٢٦، ١٣٢، صحيح مسلم ٤: ٢١٧، السنن الكبرى ٨: ٣٠.

٤٤٩

وقد اعتمد على هذا الكتاب أئمّة أهل الحديث في مختلف الأبواب والأحكام واكثر النقل عنه المحدّث الحرّ العامليّ في جامعه الكبير وينهي إسناده إلى أئمّة أهل البيت(١) .

قال ابن عمر: إنّ قريشاً قالت: إنّك تكتب عن رسول الله وهو بشر يغضب يعنون به أنّه يقول عند الغضب باطلاً، فعرضت كلامهم على رسول الله قال: « اكتب فإنّي لا أقُولُ إلّا حقّاً » أو أشار إلى شفتيه وقال: « لا يخرُجُ منهُما إلّا الحقّ اكتُب »(٢) .

وقد أملى رسول الله كثيراً من الأحكام على ( علي ) فدوّن أمالي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته، واشتهر بكتاب عليّ، وقد روى عنه البخاريّ في صحيحه في باب كتابة الحديث وباب « إثم من تبرّأ من مواليه ».

وقد أكثر عنه النقل الإمامان الباقر والصادقعليهما‌السلام ورآه كثير من أصحابهما كزرارة بن اُعين ومحمد بن مسلم وأبي بصير ونظرائهم.

وأخرج الشيخ أو العباس النجاشي ( المتوفّى عام ٤٥٠ ) في ترجمة « محمّد بن عذافر » عن عذار الصيرفيّ قال: كنت مع الحكم بن عيينة، عند أبي جعفر محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام فجعل يسأله وكان أبو جعفر له مكرهاً فاختلفا في شيء، فقال أبو جعفر: « يا بنيّ قم فأخرج كتاب عليّ » فاخرج كتاباً مدرجاً عظيماً، ففتح وجعل ينظر حتى أخرج المسألة، فقال أبو جعفر: « هذا خطّ عليّ وإملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقبل على الحكم وقال: « يا أبا محمّد: إذهب وسلمة والمقداد حيث شئتم يميناً وشمالاً، فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرائيل »(٣) .

والحديث عمّا كتبه عليّعليه‌السلام كثير، وأخرج المشايخ والمحمّدون الثلاثة روايات جمّة عنه ينتهون بإسنادها إلى أئمة الحديث مبثوثة في كتب الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والتجارة والوصايا والطلاق والنكاح

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة كتاب القصاص.

(٢) مستدرك الحاكم ١: ٤.

(٣) فهرست النجاشيّ: ٢٥٥ ( طبعة الهند ).

٤٥٠

والأطعمة والأشربة والحدود والقصاص والديات والقضاء والأيمان والصيد والميراث وإحياء الموات(١) .

ثمّ إنّ الشيعة في الصدر الأوّل اقتفوا أثر إمامهم في الكتابة والتأليف فاهتمّوا بجمع أحاديث الأحكام والفرائض والقضايا وأخبار المغازي، وتراجم الرجال وقد جمع أسماءهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ في أوّل رجاله.

ثمّ الذين نشأوا بعد الطبقة الاُولى نهجوا منهاج سلفهم، حذو القذّة بالقذّة في كلّ قرن وجيل ؛ رغم ما كانت تواجههم من الظروف القاسية والكوارث الداهمة ورغم ما كانوا يعانون من السلطات الغاشمة

فإنّ الشيعة رغم كلّ تلك المصاعب ألّفوا كتباً ثمينة جمعوا فيها شذرات الحديث وشوارد السير واُصول الأخلاق، ونهضوا بهذه المهمّة بعزم راسخ لا يعرف الكلل والملل مثابرين على العمل، ومعانين في طريق هدفهم كثيراً من الأذى حفاظاً على حياض الشريعة الإسلاميّة وصوناً لكنوزها، وبثّاً لتعاليم الحنيفيّة البيضاء.

وقد ترجم الشيخ أبو العباس النجاشيّ صاحب الفهرست المعروف في صدر كتابه بعض رجال الشيعة ممّن يعدّون من المؤلّفين في الطبقة الاُولى.

ودونك أسماء عدّة منهم من الذين ذكرهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ بهذا العنوان في أوّل فهرسته :

١. أبو رافع ؛ مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصاحب بيت مال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام صنف كتاب السنن والأحكام والقضايا.

٢. عبيد الله بن أبي رافع ؛ كاتب أمير المؤمنين وأوّل من ألّف في الرجال، ترجم من أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من شهد منهم حروب أمير المؤمنينعليه‌السلام الجمل وصفين.

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة في هذه الكتب وقد جمع العلاّمة الشيخ الأحمديّ في كتابه القيّم « مكاتيب الرسول » ١: ٨٢ ـ ٨٨ ما بثّه صاحب الوسائل في جامعه على نسق الكتب الفقهيّة.

٤٥١

٣. عليّ بن أبي رافع ؛ كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام صنف كتاباً في فنون من الفقه: الوضوء والصلاة وسائر الأبواب.

٤. ربيعة بن سميع ؛ صنّف كتاب زكاة النعم على ما سمعه عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في صدقات النعم وما يؤخذ من ذلك.

٥. أبو صادق سليم بن قيس الهلالي ؛ صاحب أمير المؤمنين ألّف أصله المعروف المطبوع.

٦. الأصبغ بن نباتة المجاشعيّ، من خيار أصحاب أمير المؤمنين ومن شرطة الخميس له كتاب عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر النخعيّ ووصيّته إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة.

٧. أبو عبد الله سلمان الفارسي ؛ له كتاب ( خبر جاثليق ) وقد أملى الخطبة الطويلة والاحتجاجات.

٨. أبو ذرّ الغفاري ؛ له كتاب وصايا النبيّ وشرحه العلاّمة المجلسي وأسماه عين الحياة.

هذا حال الطبقة الاُولى منهم وأمّا الذين أتوا بعدهم فالرواة منهم المعاصرون للأئمّة الهداة في مجموع القرنين منذ قبض الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى عصر العسكريعليه‌السلام لم يؤثر عنهم فتور في تدوين العلوم وضبط الحديث، وجمع قواعد الفقه وتنسيق طبقات الرجال وضمّ حلقات التفسير وإتقان مباني واُسس الكلام إلى غير ذلك.

كلّ ذلك يشهد على مبلغ اهتمامهم بتلقّي أنواع المعارف والعلوم من معادنها في السرّ والعلانية، وتغنينا عن إفاضة القول وسرد الشواهد، الفهارس المؤلّفة لكتب الشيعة في القرون الإسلاميّة الغابرة ولا سيّما ما ألّفه العلاّمة المتتبّع المغفور له الشيخ أغا بزرگ الطهرانيّ في أثره الخالد ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) المطبوع في خمسة وعشرين جزء.

٤٥٢

وأظنّ أنّ الموضوع لا يحتاج إلى أن نتوسّع فيه أكثر من ذلك وهذا كتاب الله سبحانه يحثّ في أطول آيات كتابه(١) على كتابة ما يتوصّل بها إلى حفظ عرض دنيويّ زائل ومتاع مندثر، أفلا يجوز لنا من هذا الحثّ الأكيد استنباط لزوم الاهتمام بما ننال به المقاصد العالية ويفوز الإنسان به بالسعادة الخالدة ؟

حول الحديث الموضوع

وبعد ذلك كله لا اعتبار بما نسبوه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه قال: « لا تكتبوا عنّي شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنّي غير القرآن فليمحه »(٢) أو أنّه لم يأذن بكتابة الحديث على ما رواه الترمذيّ عن أبي سعد قال: استأذنا النبيّ في الكتابة فلم يأذن لنا(٣) .

وأغرب منه ما رواه الحاكم بسنده عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلّب، قالت فغمّني كثيراً، فقلت يتقلّب لشكوى أو لشيء بلغه، فلّما أصبح قال: أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك ! فجئته بها فأحرقها، وقال خشيت أن أمُوت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدّثني فأكون قد تقلّدت ذلك(٤) .

وأظنّ أنّ ما اُلصق برسول الله من مختلقات الحديث وضعها القائل أو القائلون لأغراض وغايات سياسيّة وأظنّ أنّ الذي دفع الوضّاعين إلى إعزاء ما اختلقوه إلى رسول الله أحد أمرين أو كليهما :

إمّا لأنّ المعتمد في كتابة أحاديث الرسول آنذاك كان هو الإمام عليّعليه‌السلام دون سائر الصحابة، وكان ذلك يعدّ فضيلة رابية للإمام، فحاول أعداؤه ومناوؤه طمسها فاختلقوا ما اختلقوا لكي يصبح عمل الإمام في استقلاله بالتدوين، أو تبرّزه في هذا الباب عملاً غير مشروع.

__________________

(١) سورة البقرة ٢: الآية (٢٨٢) آية الدين.

(٢) رواه الدارميّ في مقدّمة سننه.

(٣) صحيح الترمذيّ ٢: ٩١ ( طبعة الهند ).

(٤) جمع الجوامع للسيوطيّ ٢: ١٤٧.

٤٥٣

وإمّا لأنّ تلك الأحاديث فيها الكثير ممّا قاله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل عليّعليه‌السلام وعظم شأنه، فلو سوّغت كتابة الأحاديث وأحاط بها الناس علماً وتناقلها المسلمون في شتّى الأقطار، لأدّت إلى ظهور الإمامعليه‌السلام على سائر الصحابة، وكونه الأحقّ في تسنّم منصب الخلافة بعد الرسول وفي ذلك ما فيه من الخطر على من تسنّموا عرشها بغير حقّ وبغير دليل.

فلو كان كتابة الحديث وضبطه في الصحائف والجلود أمراً مرغوباً عنه فلماذا أملى النبيّ بنفسه كتباً في الشرائع والأحكام وجهّز بها رسله وعماله في الأقطار المفتوحة.

ولو كان نهي النبيّ بمرأى ومسمع من أصحابه وأنصاره، فلماذا استفتى عمر أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك فأشاروا عليه أن يكتب فطفق عمر يستخير الله شهراً ثمّ أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: إنّي كنت اُريد أن أكتب السنن وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله وإنّي والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً ولا اُلبس كتاب الله بشيء أبداً(١) .

والعذر الذي جاء به الخليفة في كلامه يشبه ما في كلام بعضهم في تفسير نهي النبيّ عن الكتابة من أنّ نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن كتابة الحديث كان لخوفهصلى‌الله‌عليه‌وآله من اختلاط الحديث بالقرآن.

ولا يخفى ما فيه من الخبط والخطأ فإنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه إذ معنى ما ذكره هو إبطال معجزة القرآن وهدم اُصولها من القواعد، وإنّ معنى ذلك كون بلاغة القرآن والحديث والخطب المرويّة من باب واحد هو باطل، والله سبحانه يقول:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء: ٨٨ ).

وقد حقّق في محلّه أنّ القرآن وحي بلفظه ومعناه، لا يشبه كلام الإنسان من حيث

__________________

(١) رواه الكاتب المتتبع المعاصر أبو ريّه عن الحافظ بن عبد ربه والبيهقي في أضواء على السنّة المحمديّة ص ٤٣.

٤٥٤

الصياغة والانسجام، والحديث وحي بمعناه دون لفظه، فهو من جهة اللفظ والصياغة كلام بشريّ يمكن مباراته.

وهناك عذر آخر لا يقلّ في الوهن والضعف عن الأوّل جاء به بعض المعاصرين قال: يمكن أن تكون حكمة النهي عن كتابة الحديث هو أن لا تكثر أوامر التشريع، ولا تتّسع أدلّة الأحكام وهو ما كان يتحاشاهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى كان يكره كثرة السؤال، أو يكون من أحاديث في اُمور خاصّة بوقتها بحيث لا يصح الاستمرار في العمل بها. ونحن لا نعلّق عليها إلّا شيئاً طفيفاً إذ القارئ الكريم أعرف بحالها، إذ أي صلة بين كتابة حديث نافع وسنّة متّبعة تتّصل بحياة المسلمين الفرديّة والاجتماعيّة وتحتلّ مكاناً سامياً في استنباط كثير من الأحكام التي كانوا يواجهونها بعد عصر الرسالة عندما توسّعت الحكومة الإسلاميّة وتلوّنت حياتهم بألوان حضارة جديدة، ولم يكن لهم بها عهد في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين كثرة السؤال عن أشياء لا تهمّ السائل معرفتها.

على أنّ ما اعتذر به الكاتب في تصحيح النهي عن تدوين السنّة يستدعي النهي عن كتابة القرآن وهما في المقام سواسية، لأنّ عمق معاني القرآن وغزارة مقاصده تؤدّي بالباحث إلى كثرة التساؤل واتّساع أدلّة الأحكام وتكثر أوامر التشريع، وبالتالي يستلزم تسلسل الأسئلة.

ولا يتردّد المحقّق الباحث في أنّ ما عزوه إلى النبيّ من مخاريق الأوهام الباطلة التي نحتوها لأغراض سياسيّة، لتصحيح فعل الخليفة ونهيه عن كتابة الحديث وسنّة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وما ارتكبه الخليفة عثرة لا تقال، فالله يعلم كم خسر الإسلام والمسلمون من جرّائها لولا أن تدارك الخسران العظيم عمر بن عبد العزيز فكتب من الشام إلى أبي بكر ابن حزم وهو من كبار المحدّثين بالمدينة: انظر من حديث رسول الله فاكتبه، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء(١) .

__________________

(١) صحيح البخاريّ ١: ٢٧ كتاب العلم.

٤٥٥

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٢

الحكومة الإسلاميّة

والحقوق الفرديّة والاجتماعيّة

حاجة المجتمعات إلى الحقوق

بما أنّ الإنسان بطبيعته ذو تطلّعات وحاجات تزداد بتوسّع التمدّن وتقدّم الحضارة، وبما أنّ الحياة الاجتماعيّة لا تنفكّ عن إقامة العلاقات والروابط بين أبناء البشريّة، وبما أنّ وصول الأفراد إلى تطلّعاتهم وحاجاتهم لا ينفكّ عن التزاحم والتصادم والاختلاف والتشاجر، كان لا بدّ من حلّ هذا الاختلاف والتنازع، ووضع العلاقات الاجتماعيّة في الإطار الصحيح.

وقد كان هذا الحلّ يتمّ ـ في العصور السابقة ـ بالقوّة، وقدرة السلاح وكان المنطق الحاكم هو ( الحقّ لمن غلب )، غير أنّ تقدّم البشريّة في مدارج التربية أوجد لديها فكرة التنظيم وحلّ الاختلافات بين أفراد البشر بغير وسيلة القوّة، والسلاح، ومن هنا تكوّن ما يسمّى بعلم الحقوق، فعلم الحقوق عبارة عن الاُصول والقواعد التي تنظّم علاقات الأفراد، والتي يجب أن تسود المجتمعات حتماً، ولا يتخلّف عنها أحد أبداً.

٤٥٦

وبعبارة اُخرى ؛ إنّ الحقوق عبارة عن ( مجموع القواعد والقوانين المقرّرة لحفظ الأفراد وترقية المجتمع البشريّ، وعلى ذلك ينطبق علم الحقوق على قسم من الفقه الإسلاميّ، ويكون شعبة من الفقه ).

ولقد كان الفقه الإسلاميّ القانون الوحيد الحافظ لحقوق الأفراد والجماعات في الشرق الإسلاميّ إلى أوائل القرن الرابع عشر حتّى أن قامت الثورات الشعبية (؟) وأسّست مجالس الاُمّة، وسنّت القوانين الجديدة، وتركت القوانين الإسلاميّة جانباً وقد خسر المسلمون، بالعدول عن القوانين الإسلاميّة إلى تلك القوانين البشريّة المقتبسة من الغرب، خسر المسلمون ـ بسبب ذلك ـ العدل والرحمة، والإنسانيّة والاستقرار والدقّة.

تقسيمات الحقوق

لقد قسّم علماء الحقوق القوانين والحقوق(١) إلى :

أ ـ داخليّة ؛ تختصّ بالعلاقات المتقابلة بين أفراد الاُمّة الواحدة.

ب ـ خارجيّة ؛ تختص بالعلاقات المتقابلة بين الأمم والدول المختلفة.

وكلّ من الداخليّة والخارجيّة ينقسمان إلى خاصّة، وعامّة، وإليك فيما يأتي تفصيل هذه التقسيمات إجمالاً :

أ ـ الحقوق الداخليّة

والعامّة منها تنقسم إلى ثلاث شعب هي :

الاُولى / القانون الأساسيّ الذي يقوم في إطاره كلّ الروابط والعلاقات بين الأفراد، وتقوم كلّ التشكيلات الحاكمة على حياة الاُمّة فهو بمثابة ( الاُسس الكليّة لأي

__________________

(١) ليس المراد بالحقوق ـ هنا ـ هو المعنى الخاصّ له، بل هو مطلق القوانين ولذلك يكون الحقوق بمعناه الخاصّ المصطلح فقهياً جزءاً من هذا البحث.

٤٥٧

نظام ).

الثانية / القوانين المختصّة بالدوائر الحكوميّة وحدود وظائفها، وما يحدّد علاقات الأفراد ( موظّفين ومراجعين ) بها.

الثالثة / الحقوق والقوانين الجزائيّة التي يتميّز بها المعتدي عن غير المعتدي والمجرم عن غير المجرم، وتكون مانعة للأفراد عن الأعمال والتصرّفات المخلّة بالنظام.

وأمّا الخاصّة فهي تنقسم أيضاً إلى ثلاث شعب هي :

الاُولى / الحقوق المدنيّة وهي المتعلّقة بالأفراد في إطار العلاقات العائليّة والتي تسمّى الآن بالأحوال الشخصيّة، كالنكاح والطلاق والميراث وما شابه.

الثانية / القوانين والمسائل المرتبطة بالقضاء التي يستطيع الأفراد بالتوسّل بها أن يستوفوا حقوقهم الضائعة.

الثالثة / القوانين المتعلّقة بالعلاقات والمبادلات التجاريّة.

ب ـ الحقوق الخارجيّة ( الدوليّة )

والعامّة منها هي التي تبيّن وترسم كيفية علاقات الدول مع الدول، والحكومات مع الحكومات، ويندرج في ذلك المعاهدات وغيرها ممّا يدور بين الدول.

والخاصّة، هي التي ترتبط بعلاقة الدولة أو أفراد الشعب مع أتباع دولة اُخرى.

هذه هي ثمانية أنواع من القوانين والحقوق حسب التقسيم الحديث.

الإسلام والحقوق

لقد حظيت الحقوق ـ في الفقه الإسلاميّ ـ بأفضل مكانة في تشريعاته وتعاليمه بل إنّ الحقوق التي رسمها الإسلام وبيّنها على لسان القرآن أو السنّة الشريفة تعتبر من أدقّ، وأمتن الحقوق، وأكثرها إنسانيّة ورحمة وعقلانيّة. غير أنّ هناك ـ مضافاً إلى ذلك ـ خصائص تمتاز بها الحقوق الإسلاميّة عن الحقوق التي تطرحها القوانين البشريّة

٤٥٨

الوضعيّة هي :

أوّلاً: انّ الحقوق والقوانين التي جاء بها الإسلام تستمدّ اُصولها، وجزئياتها من ( الوحي الإلهيّ )، ولذلك فهي لا تقبل التغيير والتبديل، ولكنّ الحقوق التي طرحتها الأنظمة البشريّة فحيث أنّها تنبع من العلم البشريّ المحدود فهي تتعرّض دائماً للتغيير والتطوير لضيق آفاق العقل البشريّ.

ثانياً: أنّ الحقوق في الإسلام حيث تكون تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ونابعة من الملاكات الحقيقيّة فإنّها لا تخضع لأيّ زيادة أو نقصان وأيّ تطوير وتحوير، لانّها تقوم على أساس الواقع الإنسانيّ الثابت، والفطرة الحقيقيّة التي لا تتغيّر، والمصالح والمفاسد الموجودة في أفعال الإنسان وأعماله، ولكنّ الحقوق التي عرضتها الأنظمة والقوانين الوضعيّة حيث تنبع من الأهواء والميول والرغبات الفرديّة أو الجماعيّة فإنّها كثيراً ما تنالها أيدي التطوير والحذف لما يظهر فيها من عجز وضعف.

نعم إنّ القوانين والحقوق الإسلاميّة وإن كان بعضها يتغيّر شكلاً وإطاراً لكنّها لا تتغيّر جوهراً ومضموناً، ولقد أشبعنا القول في هذا الأمر في بحث الخاتميّة(١) .

ثالثاً: إنّ القوانين الإسلاميّة حيث تكون صادرة من مصدر ربّانيّ وتكون موجّهة إلى مؤمنين معتقدين بشرائعه ووعوده ومواعيده تتمتّع طبعاً وبالذات بخاصّية الانقياد النفسيّ والخضوع الكامل والطاعة التامّة لها.

وحيث تكون القوانين الوضعيّة البشريّة صادرة من الأدمغة البشريّة لا يجد الإنسان أي دافع ذاتيّ إلى التقيّد بها وتطبيق العمل عليها إلّا بدافع الإكراه وتحت طائلة القانون، وخوفاً من سلطات الدولة.

ولا يخفى على أي ذي لبّ رجحان الأوّل على الثاني في ميزان الحياة.

ثمّ إنّ اُمّهات هذه التقسيمات الحديثة الثمانية من القوانين والحقوق موجودة

__________________

(١) راجع هذا البحث في الجزء الثالث من المجموعة القرآنيّة التي تفسير الآيات تفسيراً موضوعياً وفي ضوء القرآن.

٤٥٩

بمغزاها في التشريع الإسلاميّ وإن لم تكن تحت العناوين والتسميات الحديثة فالقانون الأساسيّ في الإسلام هو عبارة عن الأحكام والاُصول الكليّة الموجودة في الكتاب والسنّة غير المتغيّرة عبر الزمان والمكان، والتي يجب أن يقوم عليها كلّ تخطيط وتنظيم لحياة المسلمين في جميع المجالات.

أمّا النظام الإداريّ ( وهو القسم الثاني من الحقوق الداخليّة العامّة ) فتجدها مذكورة بتوسّع وتفصيل في كتب الفقه وقد أخذها فقهاء الإسلام من سيرة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وسنّته الشريفة، وسيرة الإمام عليّ وكلماتهعليه‌السلام وغيرهما في المجال الإداريّ والتدبير الحكوميّ، ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على الكثير منها في الكتابين التاليين :

١. الراعي والرعيّة للفكيكيّ.

٢. نظام الحكم والإدارة في الإسلام للقرشيّ وغيرهما.

وأمّا الحقوق والقوانين الجزائيّة فقد ألّف فيها علماء الإسلام المطوّلات والمختصرات التي تحتوي على تفصيلاتها وجزئيّاتها فلاحظ كتب الحدود والقصاص والديات هذا كلّه في مجال الحقوق والقوانين الداخليّة العامّة.

وأمّا الداخليّة الخاصّة الراجعة إلى العلاقات العائليّة والشخصيّة فقد بسط فيها الفقهاء القول تحت عنوان « الأحوال الشخصيّة » والمذكورة ـ قديماً ـ تحت عناوين النكاح والطلاق والميراث والوصايا وما شابهها.

وأمّا ما يرجع إلى القضاء فقد بحث عنها الفقهاء تحت عنوان القضاء والشهادات.

وأمّا ما يرجع إلى ( العلاقات التجاريّة ) فقد بيّن الفقهاء أحكامها المفصّلة في كتبهم تحت العناوين التالية: التجارة، الخيار، السلف، المفلس، الحجر، الضمان، الصلح، العارية، الوديعة، الشركة، المضاربة، المزارعة، المساقاة، الإجارة، الوكالة، الوقف، السبق والرماية.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627