مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228595 / تحميل: 6454
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ولماذا لم يتدخل احد الا ايران الاسلامية الشيعية؟ اليس هذا دليل علي صحة ما اقول؟

قال: نعم، ولكن هولاء رافضة ينبغي الا نتعاون معهم، ثم استدرك وقال: ينبغي ان يكون التعامل معهم من خلال هيئة امم اسلامية. سكت... وسكت الشيخ وتكلم الصمت.

عدت الى بيتي، وانا في قمة الاستفزاز والانفعال. قلت لنفسي: ان كان حقا ما يقولون ان المسلمين الشيعة بكل هذه الدناءة فلعنة اللّه عليهم، وان كانت كل هذه اكاذيب موجهة اليهم فتلك النازلة الكبرى التي ما بعدةا نازلة.

مضت ايام. كان هناك معرض للكتاب في كلية الطب بالمنصورة. مررت به فوجدت كتابا بعنوان (الامام جعفر الصادق) تالىف المستشار عبد الحليم الجندي، طبعة مجمع البحوث الاسلامية ١٩٧٧م، قلت: هذا كتاب عن الامام جعفر الصادق من تالىف كاتب مصري سني، وصادر من قبل موسسة رسمية قبل قيام الثورة الاسلامية في ايران، فاخذته وقراته وتزلزل كياني لما فيه من معلومات عن اهل البيت (ع) طمستها الانظمة الجائرة وكتمها علماء السوء، فان القوم - كما روى علي لسان الزهري راوية بني امية - لا يطيقون ان يذكر آل محمد بخير.

عدت الى الكتابين السابقين، واخرجت ما فيهما من

٢١

المعلومات، ووجدتها جميعها من مصادر سنية قلت: لعل المسلمين الشيعة كذبوا فاوردوا على الناس ما لم يقولوه! فلنعد الى هذه المصادر بنفسنا، قمت بعمليه جرد دقيقة لجميع هذه الكتب، سواء منها ما كان في مكتبتي الخاصة، ام ما كان في مكتبه جمعية الشبان المسلمين، وتحققت فعلا من صحة هذه المعلومات، وعرفت مدى المصداقية التي يتمتع بها الزنداني وابو اسماعيل واحسان آلةي ظهير..!! وهنا نقطة هامة، وهي: ان كتب الحديث عند اهل السنة كالبخاري ومسلم وغيرهما، تكاد تكون مقدسة عند القوم لان صحة خلافة الخلفاء الثلاثة الاول مستمدة.. اولا من الامر الواقع، وثانيا من الروايات التي وردت في هذه الكتب، فاذا كان القوم يسلمون بصحة الروايات الواردة في فضائل الثلاثة الاول وجب عليهم التسليم بكل ما عداها ومنها فضائل اهل البيت(ع) وامامتهم.(١)

اما اذا قالوا: بل ننظر في صحة الروايات والرواة، فقد فتحوا باب النقد في مسلماتهم وصار من حقنا النقاش في صحة اسانيدهم وترجيح الدليل الاقوى، وهو عين ما يتوخاه كل باحث عن الحق

____________________

(١) أنظر في ذلك باب مناقب علي بن أبي طالب، و باب مناقب قرابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجزء الرابع من (صحيح البخاري) ص ٢٤٨ و ما بعدةا.

طباعة دار الفكر – بيروت ١٤١٤ه/١٩٩٤م.

٢٢

وعندئذ ستكتسب الروايات الواردة في امامة اهل البيت(ع) قوة مضاعفة، اولا من قوة اسانيدها وثانيا من اعتراف مخالفيها بصحتها، والفضل ما شهدت به الاعداء والخصوم.

لم تمض الا اسابيع قليلة الا وكانت المسالة محسومة تماما من الناحية العقيدية، ثم التقيت بواحد من الاصدقاء القدامى وجدته علي هذا الامر، وبدانا في تدارس بعض الاحكام الفقهية اللازمة لتصحيح العبادات. وكنت مشغولا في هذا الوقت في انهاء رسالة الدكتوراه حتى اننى اقفلت عيادتي للتفرغ للعمل بهذه الرسالة، وقبلت في نيسان /ابريل عام ١٩٨٦ وبدات اتاهب لدخول امتحانات الدكتوراه في تخصص (الباطنة العامة). كنت منكبا علي القراءة العلمية وكانت راحتي ومتعتي الوحيدة اذا اصابني الملل من القراءة في الطب، هي اللجوء الى كتب اهل البيت(ع)، وبدا النبا يتسرب الى الذين تعاهدوا فيما بينهم وقرروا مقاطعة العبد الفقير لا كلام ولا سلام ولا معاملة، وبدات حلقات الضيق تتكاثر حول شخصي المتهم بالانحراف الفكري والخلل العقلي.. لماذا؟.. كنت اتساءل بيني وبين نفسي عن سر هذا العداء والشراسة في مواجهة كل من ينتمي الى خط آل بيت النبوة، وما هي الجريمة التي ارتكبها اولئك المنتمون؟.. تاره يقولون (انه انحراف عقائدي.. اى عقائدي هذا؟ هل صار الايمان بخلافة ابي بكر وعمر وعثمان جزءا متمما لكلمة لا اله الا اللّه، محمد رسول اللّه، ام ماذا؟).

٢٣

هل يقصدون ضرورة اثبات الىد والرجل والاصابع والصعود وآلهبوط للذات الآلهية؟ وهو ما يومن به السلفيون ومن يدينون بمذهبهم، تعالى اللّه عما يقول الواصفون والجاحدون علوا كبيرا.

لم يحاول احد منهم ان يقنعني بركائز هذه العقيدة ومعالم الانحراف العقيدي التي حلت بالعبد الفقير، ولم اكن في حاجة الى من يعرفني، فكتبهم موجودة في الساحة توزع من دون مقابل، وهي موجودة لدى ايضا.

اعتقال عام (١٤٠٨هر١٩٨٧م)

في ايار/مايو ١٩٨٧، انطلقت عدة رصاصات على وزير الداخلية المصري السابق حسن ابو باشا، وعلى الفور بدات حملة اعتقالات على طريقة (عناقيد الغضب الاسرائيلية) فتوجست من هذه الحادثة. وبعد ثلاثة اسابيع من بدء (حملة عناقيد الغضب) جاء زوار الفجر واخذوني مرة اخرى الى سجن الاستقبال ومنه مباشرة الى ساحات الاستجواب والتعذيب، جرى تعصيبي وتقييدي من الخلف ويبدو انها تكنولوجيا امريكية جديده لم ارها في المرة السابقة، القوا بى في العراء علي هذه الطريقة لمدة يومين وكعادتهم اللآدميه اخذوا ملابسي. ثم اعادوني الى السجن، ورموني في زنزانة في الطابق الرابع، بلا ماء ولا شبابيك ولا فراش، ولم يونس

٢٤

وحدتي الا اسراب البعوض، ثم اعادوني الى ساحة التعذيب والاستجواب بعد اسبوعين، حيث بدات حفلة تعذيب بالكهرباء، كان الاستجواب فيها مجرد غطاء لممارسة التعذيب بالكهرباء وتوجيه صدمات كهربائية للمخ وباقي الاماكن الحساسة ثم اطلقوا سراحي بعد يومين آخرين. كان آلهدف واضحا من حفلة التعذيب هذه حيث لا تهمة ولا حتى معلومات يريدون الحصول عليها ومنذ اللحظة الاولى قال لي المحقق السفاح: (سندفعك الى الجنون( وَ يَمْکُرُونَ وَ يَمْکُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْمَاکِرِينَ‌ ) «الانفال/٣٠».

خرجت من المعتقل مريضا بالفعل، ومضت علي عدة شهور حتى استطعت استعادة قدرتي علي التركيز الى سابق عهدها، ولكن التامر اخذ شكلا آخر كان الهدف منه اخراجي من عملي بالجامعة بكل ما لديهم من وسائل، وهكذا تم تاخير حصولي على الدكتوراه من عام ١٤٠٨ه/١٩٨٧م حتى ١٤١٣ه/١٩٩٢م ست سنوات كاملة من الضغوط الوظيفية والمعاشية كي يجبروني على تغيير (عقيدتي الفاسدة) حتى جاء الحق وظهر امر اللّه وهم كارهون.

التنظيم الاسلامي الشيعي ١٩٨٩م

من الواضح ان النفوذ البعثي العراقي قد امتد الى كافة انحاء المنطقة وخاصة مع نهاية الحرب العراقية الايرانية التي نصب فيها صدام حسين نفسه زعيما للامة العربية وحامى البوابة الشرقية، الى

٢٥

آخر هذه الالقاب التي منحها له الاعلام الماجور والحاقد في نفسه. وكان آلهجوم على المسلمين الشيعة في كل مكان احد ملامح هذا التمدد الذي لم تكشف تفاصيله بعد، والدليل علي هذا تقلص هذا العداء بتقلص دور المغرور سياسيا صدام حسين. لم تكن الاصابع البعثية بعيدة عن تمويل الحملة الاعلامية التي انطلقت لمهاجمة المسلمين الشيعة وتشويه معتقداتهم، ولا كانت بعيدة عن تلفيق القضايا للشيعة في الاعوام ١٩٨٧، ١٩٨٨، ١٩٨٩م ومنها هي القضية التي زج باسمى فيها. والغريب في هذه الامور ان قضية (مفبركة) من هذا النوع تحتوي قرابة الثلاثين شخصا تم جمعهم من الشرق والغرب تحظى بتغطية اعلامية في الصحف والمجلات القوميه وقد تم اعداد المتهمين من اللحظة الاولي لتصويرهم تماما كافلام السينما، لها منتج يتحمل التكاليف ويجني المكاسب، ومخرج، ومجموعة من الممثلين كانت هذه هي الطريقة التي يتم التصرف بها في مصائر المسلمين على مذابح الزعامات الزائفة والانتصارات الموهومة.

وانفض الجمع كما بدا، بل وكانت النتائج عكسية تماما حيث وجدنا من احرار الامة من يدافع عنا سواء من رجال الجامعة ام من رجال الصحافة. وفشلت الحملة السوداء التي كانت تتصور انه بمجرد اتهامنا بكلمة (الشيعة والتشيع) سيقف المجتمع ضدنا وقفة رجل واحد، لم يحدث هذا ولن يحدث ان شاء اللّه في (مصر

٢٦

الازهر الشريف) الذي بناه المسلمون الفاطميون الشيعة، مصر التسامح المذهبي التي وسعت بين ارجائها المسلمين والمسيحيين بل وحتى اليهود، فكيف يتخيل بعضهم ان هذا الشعب العظيم يمكن ان يحقق لهولاء اغراضهم؟ لم تتوقف المضايقات ولكن حدتها قد خفت كثيرا في الوقت الراهن.

حوارات مع السلفيين

لم يكن احد يعرف من هم المسلمون الشيعة ولا التشيع قبل الثورة الاسلامية الايرانية، وربما كان من الممكن التماس العذر لكل من وقفوا من الشيعة موقفا سلبيا، فالحقيقة غائبة ولا سبيل اليها الا بمصادفة كالتي تعرضت لها، فالشيعة مسلمون يومنون باللّه خالقا تجب عبادته واطاعة اوامرة وحده لا شريك له، والانتهاء عن معاصيه، ويومنون بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيا مرسلا هاديا، ويومنون بيوم المعاد(القيامة)، ويومنون بالقرآن الموجود بين ايدينا اليوم كتابا منزلا على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وان اللّه سبحانه وتعالى قد حفظ هذا الكتاب من اي تحريف او نقص او زيادة، والمنصف هو من يعود الى كتبهم العقيدية ليطلع على افكارهم وعقائدهم، لا ان يقرا كتب خصومهم، التي تحتوي على الافتراءات والاكاذيب بما لا يرتضيه دين، ولا يقر به عاقل منصف.

لو قرا اولئك الناس كتب التراث الاسلامي لتغيرت نظرتهم

٢٧

وصارت اكثر عمقا، ولكن هيهات..! لماذا يقروون وقد صاروا زعماء سياسيين ودينيين لمجرد انهم قرووا الصحف والمجلات وبعض قصاصات، ولو ساروا في الارض كما امرهم اللّه عز وجل لوجدوا المسلمين الشيعة في طول الارض وعرضها يحملون المصحف نفسه يقروونه ويتعبدون به للّه الواحد الاحد، ولكن الهوى لا دواء له.

اسلام واحد ام اسلامان؟

لم ولن اغير موقعي المدافع عن الاسلام في مواجهة اعدائه، ولن يصبح هذا الموقع يوما ما موقع المدافع عن طائفة ضد اخرى او مذهب ضد مذهب آخر، وما زال الصراع الحقيقي هو بين الاسلام والكفر وليس بين السنة والشيعة او حتى بين الاسلام والمسيحية او بين الاسلام واليهودية، سيبقى الصراع بين الحق والباطل، بين العدل والبغي، بين المستضعفين والمستكبرين، ولكن شيئا من هذا لا ينافي قراءة الاسلام في العمق، ولا معرفة حقائق التاريخ.

كيف يمكن لامة ان تحلم باقامة دولة اسلامية، وهي لا تمتلك مشروعا فقهيا او فقهاء مجتهدين؟! الجميع يعلمون ان المسلمين الشيعة وحدهم هم الذين يمتلكون هذا البناء الفقهي وهذه المدرسة المتكاملة التي اقاموها على مدى التاريخ عبر العذابات

٢٨

والجراحات، وهي مدرسة تستند الى فهم آل البيت المعصومين للكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، ودائما كان دليلةم الاقوى وكانت فتاواهم هي الاصوب.

مثلا: اجمع فقهاء اهل البيت علي ان(حج التمتع)(١) افضل وانه فرض للبعيد عن المسجد الحرام اخذا بقوله تعالى:( وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَکُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ کَانَ مِنْکُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُکٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْکَ عَشَرَةٌ کَامِلَةٌ ذٰلِکَ لِمَنْ لَمْ يَکُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) «البقره/١٩٦».

اهل البيت يرون ذلك فرضا، اما الشيخ سيد سابق، فيرى

____________________

(١) يتألف حج التمتع من العمرة و الحج معا، و فيه إحرامان، وسعيان، و ثلاثة أطوفة: الأول للعمرة، و الثاني للحج، و الثالث للنساء، و هو للبعيد عن مكة. قال الإمام جعفر الصادق (ع): (من حج فليتمتع، إنا لا تعدل بكتاب الله و سنة نبيه. و قال: ما تعلم حجا لله غير المتعة، إنا إذا لقينا ربنا قلنا: عملنا بكتابك و سنة نبيك، و قال القوم: عملنا يرأينا، فليجعنا الله و إياهم. انظر: محمد جواد مغنية: فقه الإمام جعفر الصادق (ع). دار التبار الجديد- بيروت ط. الساىسة ١٤١٣ه/١٩٩٢م.

٢٩

ذلك (مجرد مذهب) لابن عباس وابي حنيفة(١) استدل عليه باية في كتاب اللّه، وهو بهذا يجعل الدليل القرآني مساويا لاراء الصحابة والتابعين، هل هذا دين؟! ثم يقولون لنا ان المسائل الفقهية محسومة وان لا اجتهاد مع النص، اليس هذا استهزاء بالنص القرآني؟!.

منذ عدة سنوات، اقترح الكاتب الصحفي احمد بهاء الدين تعديل قوانين الميراث والاخذ بالمذهب الجعفري الذي ينص على ان الانثى تحجب كالذكر، وقال ان الاخذ بهذه المادة القانونية يحل الكثير والكثير من المصائب والمشاكل الاجتماعية، فقامت الدنيا ولم تقعد، وانهال آلهجوم على الرجل والكل يتحدث بمنطق العصبيه البغيض (مذهبنا ومذهبهم) و رحمة اللّه على رجال من نوعية الشيخ محمد ابو زهرة والشيخ محمد شلتوت الذين حاولوا تحريك هذه البرك الراكدة، فلم يفلحوا.

يروون عن ائمة المذاهب الاربعة انهم قالوا: (اذا صح الدليل فهو مذهبي) فهل استثنى هولاء وقالوا: (الا ما جاء من ناحية اهل البيت وشيعتهم فلا تاخذوا به فهو باطل وان صح)؟ اين هي حرية الفكر وحرية العقل؟.

____________________

(١) أنظر: السيد سابق: فقه السنة، المجلد الأول، ص ٥٨٠ الطبعة الثامنة دار الكتاب اللبناني (١٤٠٧ه/١٩٨٧م) بيروت-لبنان.

٣٠

لماذا ضاعت هذه الشعارات وسط بريق النفط الاسود؟

وهل للنفط بريق الا لمن عميت بصائرهم وماتت ضمائرهم فانها لا تعمي الابصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور.

في النهاية، اسجل رويتى لقضية الامامة: اولا، روية نقدية لمرويات اهل السنة في هذا الموضوع، ثانيا قراءة عقلية للنص القرآني والاحاديث الواردة في مسالة الامامة.

***

٣١

٣٢

على طريق الامامة

في الصميم:

لم تكن قضية الامامة تحظى بقدر كبير من الاهتمام في صفوف الحركات الاسلامية المعاصرة في العالم الاسلامي، بيد ان قيام الثورة الاسلامية في ايران، بقيادة آية اللّه العظمى روح اللّه الموسوي الخمينيرحمه‌الله ، قد القى عدة احجار في البحيرة الراكدة، وفرض على الكثيرين من العلماء والمفكرين واصحاب القلم اعادة التفكير والنظر في مسلمات الامس القريب، في حين اختار بعضهم موقف المعاداة لكل ما جهلوا، وصدق اللّه العلي العظيم، حيث يقول:( بَلْ کَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ) «يونس /٣٩».

وهناك من قام باعمال فكرة وعقله في النصوص وفي الواقع، بهدف الحصول على الحقيقة بغض النظر عن الاستنتاج النهائي، وبغض النظر عن قوى الواقع التي تمارس بشكل عملي الاسلوب الذي تتحدث عنه الآية القرآنية المباركة وتذمه( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) «الزخرف /٢٢». تمارس تلك القوى ذلك من دون ان تعلنه باللسان.

٣٣

على ان قضية(الامامة)، وان تعددت الدراسات حولها وكثرت الا ان غالبية ما كتب لم يكن ليكتب في اطار عقلي، بل ان السائد ان كل طرف ياتي بما يويد وجهة نظره من الروايات، ويتحدث عن اسانيدها ورواتها ووثاقتهم، الامر الذي دفعني لاستخدام المنطق العقلي في هذه الدراسة لان ما يتناقض مع العقل هو المستحيل بعينه وهو المرفوض دراية ومن ثم رواية، من دون ما حاجة لسرد اسماء الرواة والمحدثين، وما يتفق مع العقل ينبغي قوله والتسليم به، لان احكام الدين وشرائعة تتكامل ولا تتناقض، وما نعنيه بالعقل هنا هو عرض ادلة المسائل الفرديه علي الادلة الكلية، الجامعة. فاذا كان اللّه تبارك وتعالى:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) «النحل /٩٠»، فلا يعقل ان يامر بطاعة (فاقد العقل)، والا لامر سبحانه بالشيء وضده (العدل - الجور). وهذا محال علي اللّه سبحانه وتعالى.

والى جانب ايماننا بذلك، فاننا نومن بالتكامل في الشريعة الاسلامية الغراء، بمعنى ان قواعد الاسلام العظيم مرتبة بعضها على بعض، فالقرآن الكريم تحدث عدة مرات عن قاعدة (الاصطفاء)، وانها محصورة في الذرية والال( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ‌ ) «آل عمران /٣٣». ثم نص سبحانه وتعالى على تحميل هولاء المصطفين الابرار مسوولية

٣٤

هداية البشر، وتعريفها بالحق:( وَ الَّذِي أَوْحَيْنَا الىکَ مِنَ الْکِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) «فاطر/٣١ - ٣٢». وهذه قاعدة عامة لم تشذ عنها امة من الامم، فلماذا تشذ الامة الاسلامية؟( قُلْ مَا کُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) «الاحقاف /٩».

واخيرا: هناك قضية حجية السنة(١) ؟ فالمعارضون لمدرسة اهل البيت(ع)، حينما تضيق بهم السبل يلجاون الى حجة في غآية الغرابه، وهي الدفع بعدم ورود امامة اهل البيت(ع) وخلافتهم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن الكريم، وهو ما لا سبيل الى القبول بمناقشته ونحن نعلم ان حجية السنة المتواترة تماما كحجية الكتاب، فصاحب السنة هو متلقي الوحي من رب السموات والارض ولعنة اللّه على من كذب على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليموه على الناس دينهم، وهذا الكذب هو الذي ادى الى القاء بعض الظلال علي حجية السنة المطهرة، وهي اوامر اللّه ونواهيه التي جاء بها النبي المعصوم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتشكيك في حجية السنة لا يختلف في شيء عن التشكيك في حجية القرآن.

___________________

(١) يعرف علماء أصول الفقه الحجة بأنها: (كل شيء يكشف عن شيء أخر، و يحكي عنه على وجه يكون مثبتا له). أما السنة فهي (قول المعصوم أو فعله أو تقريره)

للتوسع أنظر: أحمد البهادلي: مفتاح الوصول الى علم الأصول٢/٣١.

٣٥

نقول ايضا: ان انتقال النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى الرفيق الاعلى عام (١١ه /٦٣٢م) كان من المفترض ان يصاحبه انتقال السلطة والنظرية الى يد امينة قادرة على التعبير عن الامرين وجعل السلطة والقوة في خدمة النظرية وليس العكس ان تكون النظرية في خدمة السلطة فتتشكل النظرية وفقا لقدرات اصحاب السلطة الذهنية والعقلية ولمدى امانتهم في التطبيق، ومن هنا كان عهد النبي الاكرم لعلي سلام اللّه عليه يوم غدير خم بقوله: (من كنت مولاه فعلي مولاه)(١) ، وقوله يوم سار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى غزوة تبوك وكانت يومها الدولة قائمة: (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي)(٢) .

____________________

(١) هذا الحديث يعرف بحديث الغدير، و قد روي في صحاح أهل السنة بألفاظ متقاربة، و معني واحد أنظر: سنن الترمذي ٢/٢٩٨. مطيعة بولاق-مصر١٢٩٢ه- سنن ابن ماجه ص ١٢. مطيعة حيدر اباد- الدكن١٣٢٤ه- سند احمد بن حنيل ١/٤٨، المطيعة الميمتية- مصر١٣١٣ه- الخصائص للنسائي ص٢٢و ٤٠مطيعة التقدم العلمية- مصر١٣٤٨ه- الإمام و السياسة لابن قتية، ص ٩٣. طباعة الفتوح الأىبية١٣٣١ه.

(٢) روي هذا الحديث في:

-صحيح البخاري (كتاب بده الخلق، باب عزوة تبوك) ٣/١٣٥٩،حديث=

٣٦

ولكن الذي حدث كان غير ذلك، فالخلافة النبوية انتقلت الى من انتقلت اليه براي بعض المسلمين وليس بالنص، واولئك الخلفاء تفاوتت قدراتهم في استيعاب النصوص ومعرفتها ومن ثم تعبيرهم عن النظرية، وان امسكوا بالسلطة في ايديهم، وكانت ثمرة الخلفاء الثلاثة الاول ان انتقال السلطة الى الامام علي(ع) لم يكن انتقالا هادئا ولا مستقرا الى (امام منصوب من اللّه عز وجل) ما اسهم في تفلت خيوط القوة من بين يديه ووصولها غنيمة باردة الى بني امية بقيادة ابن (آكلة الاكباد)(١) ، وهو انتقال رسخ الوضع الاتي:

١ - سلطة لم تستمد قوتها من شرعية آلهيه، وانما من الغصب والعدوان، وهو ما عبر عنه معاوية في خطاب تسلم السلطة: (اني واللّه ما قاتلتكم لتصلوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجوا،

____________________

= ٣٥٠٣،المطيعة الخيرية- مصر١٣٢٠ه.

- صحيح مسلم(كتاب فضائل الصحابة) ٥/٢٣ حديث ٢٤٠٤. طباعة بولاق ١٢٩٠ه.

(١) آكلة الأكباد هي هند بنت عُتبة، أمّ معاوية بنت أبي سفيان سُمّيت بآكلة الأكباد لأنّها بقرت بطن (حمزة) عم النبي و أخرجت كبده و لاكته، و ذلك في معركة(أحد) التي دارت بين المسلمين و مشركي قريش بقيادة أبي سفيان، فجرح الرسول فيها، و قتل عمّه حمزة، و ذلك سنة ٣ه/٦٢٥م.

٣٧

ولا لتزكوا، انكم تفعلون ذلك، وانما قاتلتكم لاتامر عليكم، وقد اعطاني اللّه ذلك وانتم كارهون).(١)

٢ - نظرية يفترض انها (الاسلام)، ولكنه من الناحية الواقعية (الاسلام الاسير) في ايدي اقوام جعلوا احدى شعائر صلاة الجمعة لعن امير المومنين علي(ع) علي المنابر، وهذه مسالة متواترة ناهيك عن باقي موبقاتهم وجرائمهم.

في ظل هذا الواقع السلطوي، والنظرية الاسلامية التي تتلقى الطعنات صباح مساء من اصحاب السلطة، صيغت نظريات السلطة، ورويت الروايات ودونت الكتب، فكتب الصحاح التي يتحدثون عنها كتبت بعد قرنين من رحيل النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذا جاءت مدونات هذه الكتب خليطا من النصوص المبتوره عن مواضعها علي الرغم من صحتها، وتلك النصوص المكذوبة علي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتلك النصوص المنتقاة لبعض الاشخاص اصحاب المواقف المتمشية مع اهواء كل النظم الحاكمة الى يومنا هذا. والاهم من هذا وذاك تلك المساحات البيضاء التي تركت

____________________

(١) أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيّن ص٧٧، ط. الأعملي، بيروت – لبنان (١٤٠٨ه/١٩٨٧م).

و ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ٤/١٦، ط. دار الهدى الوطنية، بيروت - لبنان (غير المورخ).

٣٨

فارغة ولم يدون شيء بشانها في كتب (الاحاديث) واقتصر تدوينها علي كتب التاريخ، ولذا فاننا سنقوم بتجميع بعض هذه النصوص والتعليق عليها، سعيا لايضاح الحقيقة، والانتصار للحق.

حدود الامامة

يقول الامام علي(ع): (لا بد للناس من امير بر او فاجر يعمل في امرته المومن).(١)

يقول ابن ابي الحديد في شرح النهج: (فاما طريق وجوب الامامة ما هي، فان مشايخنا البصريينرحمهم‌الله يقولون طريق وجوبها الشرع، وقال البغداديون وابو عثمان الجاحظ من البصريين: ان العقل يدل علي وجوب الرئاسة، وهو قول الامامية.

الا ان الوجه الذي منه يوجب اصحابنا الرئاسة غير الوجه الذي توجب منه الامامية الرئاسة، وذاك ان اصحابنا يوجبون الرئاسة علي المكلفين من حيث ان في الرئاسة مصالح دنيويه ودفع مضار دنيوية، والامامية يوجبون الرئاسة من حيث كان في الرئاسة لطف منه وبعد للمكلفين عن مواقعة القبائح العقلية).

وايا كان طريق وجوب الامامة او الامرة فالحقيقة انها واجبه

____________________

(١) كاظم محمدي/محمد دشتي: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، خطبة (٤٠) ص٢٤. دار الأضراء-بيروت(١٤٠٦ه/١٩٨٦م).

٣٩

ولكن هناك تباين حول الوجه الذي يوجب الامامة، هل هو قاصر او مرتكز على حفظ المصالح الدنيوية، ام ان المسالة اعمق واشمل من وانها كما يرى المسلمون الامامية لطف من اللّه وبعد للمكلفين عن ممارسة القبائح العقلية.(١)

وفي اعتقادنا ان طبيعة الرئاسة او الامرة وهل هي معنية اساسا بحفظ المصالح الدنيوية ام انها ينبغي ان تكون اكثر اعتناء بحفظ المصالح الدينية، هذه الطبيعة تفاوتت بتفاوت الامة موضع الرئاسة وطبيعة الرسالة التي تحملها هذه الامة، وبالتالى فان مهام الرئاسة في الامة الاسلامية لا يمكن ان تتشابه مع مهام الرئاسة في الامة الامريكية مثلا( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ کَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ کَالْفُجَّارِ ) «ص/٢٨».

ومن هنا فاننا نرى ان طبيعة رئاسة الامة الاسلامية تكتسي وتعنون بالعناوين المدونة في كتاب اللّه وفي سنة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسها، وان المواصفات المطلوبة في امامة الامة الاسلامية هي القدرة على حمل هذه الاعباء، وان اي خلل في قدرات القيادة المسلمة على اداء هذه المهام الجسام تطرح العديد من التساولات حول اهلية هذه القيادة واحقيتها لهذا الدور، ودونكم بعض الامثلة من كتاب اللّه:

____________________

(١) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ٤/١٦.م.س.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

إنّ لفظة (العاصفة) تعني الرياح القويّة أو الهائجة ، في حين يستفاد من بعض آيات القرآن الاخرى أنّ الرياح الهادئة أيضا كانت تحت إمرة سليمان ، كما تصوّر ذلك الآية (36) من سورة ص :( فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ) .

إنّ التصريح بالعاصفة هنا يمكن أن تكون من باب بيان الفرد الأهمّ ، أي ليست الرياح الهادئة لوحدها تحت إمرته ، بل حتّى العواصف الشديدة كانت رهن إشارته أيضا ، لأنّ الثّانية أعجب.

ثمّ إنّ هذه الرياح القويّة التي في مسير الأرض المباركة (الشام) حيث كان مقرّ سليمانعليه‌السلام ، لم تكن الوحيدة ، بل إنّها كانت تتحرّك حيث أراد ، وإلى جميع الأمكنة حسب الآية (36) من سورة ص ، وعلى هذا فإنّ التصريح باسم الأرض المباركة لأنّها كانت مركزا لحكومة سليمان.

أمّا كيف كانت الريح تحت إمرته وتصرّفه؟

وبأيّة سرعة كانت تتحرّك؟

وعلى أي شيء كان يجلس سليمان وأصحابه ويتحرّكون؟

وأي عامل كان يحفظ هؤلاء عند حركتهم من السقوط أو ضغط الهواء أو المصاعب الأخرى؟

والخلاصة : أيّة قوّة خفيّة كانت تعطيه القدرة على إمكانية التحرّك بمثل هذه الحركة السريعة في ذلك العصر والزمان(1) ؟

إنّ هذه مسائل لم تتّضح لنا جزئياتها ، والذي نعلمه هو أنّها كانت موهبة إلهيّة خارقة وضعت تحت تصرّف هذا النّبي العظيم ، وما أكثر المسائل التي نعلم بوجودها الإجمالي ، ونجهل تفصيلها؟! إنّ معلوماتنا في مقابل ما نجهله كالقطرة من البحر المحيط ، أو كالذرّة مقابل الجبل العظيم.

__________________

(1) يظهر من الآية 12 / سورة سبأ :( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ ) بصورة مجملة أنّهم كانوا يسيرون صباحا مسافة أمدها شهر ويسيرون عصرا مسافة أمدها شهر «بمقياس الحركة في ذلك الزمان».

٢٢١

والخلاصة : فإنّ من وجهة نظر وإعتقاد إنسان موحّد يعبد الله ، لا يوجد شيء صعب ومستحيل أمام قدرة الله سبحانه ، فهو قادر على كلّ شيء ، وعالم بكلّ شيء.

لقد كتبت حول هذه الفترة من حياة سليمان ـ كالفترات الأخرى من حياته العجيبة ـ أساطير كاذبة أو مشكوكة كثيرة لا نقبلها مطلقا ، فنحن نكتفي بهذا المقدار الذي بيّنه القرآن هنا.

ويلزم ذكر هذه اللطيفة أيضا ، وهي أنّ بعض الكتّاب المتأخرين يعتقدون بأنّ القرآن ليس فيه شيء صريح عن حركة سليمان والبساط ، بل أورد الكلام عن تسخير الرياح لسليمان فقط ، فربّما كان ذلك إشارة إلى استغلال سليمان لقوّة الهواء في المسائل المرتبطة بالزراعة ، وتلقيح النباتات ، وتنقية الحنطة والشعير ، وحركة السفن ، خاصّة وأنّ أرض سليمان (الشام) كانت أرضا زراعية من جهة ، ومن جهة أخرى. فإنّ جانبا مهمّا منها كان على سواحل البحر الأبيض المتوسط ، وكان ينتفع منها في حركة الملاحة(1) .

إلّا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب كثيرا وآيات سورة سبأ وسورة ص وبعض الرّوايات الواردة في هذا الباب.

ثمّ تذكر الآية التالية أحد المواهب الخاصّة بسليمانعليه‌السلام فتقول :( وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ ) لاستخراج الجواهر والأشياء الثمينة الأخرى( وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ ) من التمرّد والطغيان على أوامر سليمانعليه‌السلام .

إنّ ما ورد في الآية آنفة الذكر باسم «الشياطين» ، جاء في آيات سورة «سبأ» باسم الجن ـ الآية (12 و 13) من سورة سبأ ـ ومن الواضح أنّ هذين اللفظين

__________________

(1) قصص القرآن ، 185 ، أعلام القرآن ، 386.

٢٢٢

لا منافاة بينهما ، لأنّا نعلم أنّ الشياطين من طائفة الجنّ.

وعلى كلّ حال ، فقد ذكرنا أنّ الجنّ نوع من المخلوقات التي لها عقل وشعور واستعداد ، وعليها تكليف ، وهي محجوبة عن أنظارنا نحن البشر ، ولذلك سمّيت بالجنّ ، وهم ـ كما يستفاد من آيات سورة الجنّ ـ كالبشر منهم المؤمنون الصالحون ، ومنهم الكافرون العصاة ، ولا نمتلك أي دليل على نفي مثل هذه الموجودات ، ولأنّ المخبر الصادق (القرآن) قد أخبر عنها فنحن نؤمن بها.

ويستفاد من آيات سورة سبأ وسورة ص ـ وكذلك من الآية محلّ البحث ـ جيدا أنّ هذه الجماعة من الجنّ التي سخّرت لسليمان ، كانوا أفرادا أذكياء نشيطين فنّانين صنّاعا ماهرين في مجالات مختلفة ، وجملة( وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ ) تبيّن إجمالا ما جاء تفصيله في سورة سبأ من أنّهم كانوا( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ ) .

ويستفاد من جزء من الآيات المتعلّقة بسليمان أنّ جماعة من الشياطين العصاة كانوا موجودين أيضا ، وكان سليمانعليه‌السلام قد أوثقهم :( وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ) (1) ، وربّما كانت جملة( وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ ) إشارة إلى هذا المعنى بأنّا كنّا نحفظ تلك المجموعة التي كانت تخدم سليمان من التمرّد والعصيان. وستطالعون تفصيلا أكثر في هذا الباب في تفسير سورة سبأ وسورة ص إن شاء الله تعالى.

ونذكر مرّة أخرى أنّ هناك أساطير كاذبة أو مشكوكا فيها كثيرة حول حياة سليمان وجنوده ، يجب أن لا تمزج مع ما في متن القرآن ، لئلّا تكون حربة في يد المتصيدين في الماء العكر.

* * *

__________________

(1) سورة ص 380.

٢٢٣

الآيتان

( وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) )

التّفسير

أيّوب ونجاته من المصاعب :

تتحدّث الآيتان عن نبي آخر من أنبياء الله العظماء وقصّته الملهمة ، وهو «أيّوب» وهو عاشر نبي أشير إلى جانب من حياته في سورة الأنبياء.

إنّ لأيّوب قصّة حزينة ، وهي في نفس الوقت عظيمة سامية ، فقد كان صبره وتحمّله عجيبين ، خاصّة أمام الحوادث المرّة ، بحيث أنّ صبر أيّوب أصبح مضربا للمثل منذ القدم.

غير أنّ هاتين الآيتين تشيران ـ بصورة خاصّة ـ إلى مرحلة نجاته وانتصاره على المصاعب ، واستعادة ما فقده من المواهب ، ليكون درسا لكلّ المؤمنين على مرّ الدهور ليغوصوا في المشاكل ويخترقوها ، ولا سيّما لمؤمني مكّة الذين كانوا يعانون ضغوطا من أعدائهم عند نزول هذه الآيات ، فتقول :( وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ

٢٢٤

أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) .

وكلمة «الضرّ». تطلق على كلّ سوء وأذى يصيب روح الإنسان أو جسمه ، وكذلك لنقص عضو ، وذهاب مال ، وموت الأعزّة وانهيار الشخصيّة وأمثال ذلك ، وكما سنقول فيما بعد ، فإنّ أيّوب قد ابتلي بكثير من هذه المصائب.

إنّ أيّوب ـ كسائر الأنبياء ـ يظهر أقصى حالات الأدب والخضوع أمام الله عند الدعاء لرفع هذه المشاكل المضنية المجهدة ، ولا يعبّر بتعبير تشمّ منه رائحة الشكوى ، بل يقول فقط : إنّي ابتليت بهذه المصائب وأنت أرحم الراحمين ، فهو حتّى لا يقول : حلّ مشكلتي ، لأنّه يعلم أنّه جليل عظيم ، وهو يعرف حقّ العظمة.

وتقول الآية التالية :( فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ ) ليعلم المسلمون أنّ المشاكل كلّما زادت ، وكلّما زادت الابتلاءات ، وكلّما زاد الأعداء من ضغوطهم وضاعفوا قواهم ، فإنّها جميعا ترفع وتحلّ بنظرة ومنحة من لطف الله ، فلا تجبر الخسارة وحسب ، بل إنّ الله سبحانه يعطي الصابرين أكثر ممّا فقدوا جزاء لصبرهم وثباتهم ، وهذا درس وعبرة لكلّ المسلمين ، وخاصة المسلمين الذين كانوا تحت محاصرة العدو الشديدة ، وتحت ضغط المشاكل عند نزول هذه الآيات.

* * *

بحوث

1 ـ لمحة من قصّة أيّوب

في حديث عن الإمام الصّادقعليه‌السلام إنّ رجلا سأله عن بليّة أيّوب لأي علّة كانت؟ فأجابه بما ملخّصه. إنّ هذا الابتلاء لم يكن لكفران نعمة ، بل على العكس من ذلك ، فإنّه كان لشكر نعمة حسده عليها إبليس ، فقال لربّه : يا ربّ إنّ أيّوب لم يودّ إليك شكر هذه النعمة إلّا بما أعطيته من الدنيا ، ولو حرمته دنياه ما أدّى إليك

٢٢٥

شكرك ، فسلّطني على دنياه حتّى يتبيّن الأمر ، فسلّطه الله عليه ليكون هذا الحادث سندا لكلّ سالكي طريق الحقّ.

فانحدر إبليس وأهلك أموال أيّوب وأولاده الواحد تلو الآخر ، ولكن لم تزد هذه الحوادث أيّوب إلّا ثباتا على الإيمان وخضوعا لقضاء الله وقدره.

فسأل الشيطان الله سبحانه أن يسلطه على زرعه وغنمه فسلطه ، فأحرق كلّ زرعه ، وأهلك كلّ غنمه ، فلم يزدد أيّوب إلّا حمدا وشكرا.

وأخيرا طلب الشيطان من الله أن يسلطه على بدن أيّوب ليكون سبب مرضه ، وهكذا كان بحيث لم يكن قادرا على الحركة من شدّة المرض والجراحات ، لكن من دون أن يترك أدنى خلل في عقله وإدراكه.

والخلاصة ، فقد كانت النعم تسلب من أيّوب الوحدة تلو الاخرى ، ولكن شكره كان يزداد في موازاتها ، حتّى جاء جمع من الرهبان لرؤيته وعيادته ، فقالوا : قل لنا أي ذنب عظيم قد اقترفت حتّى ابتليت بمثل هذا الابتلاء؟ وهنا بدأت شماتة هذا وذاك ، وكان هذا الأمر شديدا على أيّوب ، فقال مجيبا : وعزّة ربّي انّي ما أكلت لقمة من طعام إلّا ومعي يتيم أو مسكين يأكل على مائدتي ، وما عرض لي أمران كلاهما فيه طاعة لله إلّا أخذت بأشدّهما عليّ.

عند ذاك كان أيّوب قد اجتاز جميع الامتحانات صابرا شاكرا متجمّلا : وهو يناجي ربّه بلسان مهذّب ودعا أن يكشف عنه ضرّه بتعبير صادق ليس فيه أدنى شكوى ـ وهو ما ذكرته الآية المتقدّمة :( رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ـ وفي هذه الأثناء فتحت أبواب الرحمة الإلهيّة ، ورفع البلاء بسرعة ، وانهمرت عليه النعم الإلهيّة أكثر من ذي قبل(1) .

أجل إنّ رجال الحقّ لا تتغير أفكارهم وأعمالهم بتغيّر النعم ، فهم يتوجّهون إلى الله في حريتهم وسجنهم وسلامتهم ومرضهم وقوّتهم وضعفهم ، وبكلمة واحدة

__________________

(1) تفسير القمّي ، طبقا لنقل تفسير الميزان.

٢٢٦

في كلّ الأحوال ، ولا تغيّرهم حوادث الحياة ، فإنّ أرواحهم كالمحيط العظيم لا يؤثّر في هدوئه تلاطم الرياح العاتية.

كما أنّهم لا ييأسون لهول الحوادث المرّة وكثرتها ، بل يواجهونها ويصمدون لها حتّى تفتح أبواب الرحمة الإلهيّة ، لعلمهم أنّ الحوادث والظروف الصعبة امتحانات إلهيّة يعدّها الله لخاصّة عباده ليكونوا أكثر مرانا ومراسا

2 ـ المعروف بين المفسّرين في تفسير جملة( آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) أنّ الله سبحانه أرجع أولاده الهلكى إلى حياتهم الأولى ورزقه أولادا آخرين.

ونقرأ في بعض الرّوايات : إنّ الله قد ردّ عليه الأولاد الذين هلكوا في هذه الحادثة ، وأولاده الذين ماتوا قبلها(1) .

واحتمل بعضهم أنّ الله قد وهب أيّوب أولادا وأحفادا جددا ليسدّوا مسدّ الأولاد المفقودين ويملأوا الفراغ الذي تركوه.

3 ـ نقرأ في بعض الرّوايات غير المعتبرة أنّ بدن أيّوب قد تعفّن ، نتيجة المرض الشديد ، إلى درجة أنّه لم يكن بمقدور الناس أن يقتربوا منه ، إلّا أنّ الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام تنفي هذا المعنى بصراحة ، والدليل العقلي يؤكّد هذا المعنى أيضا ، لأنّ النّبي إذا كان في حال منفّرة ، فإنّ ذلك لا يناسب منهج رسالته ، فكلّ نبي ينبغي أن يكون على حالة تمكّن الناس من الاتّصال به وملاقاته ليسمعوا كلام الحقّ ، أي إنّ للنّبي جاذبية خاصّة.

وستطالعون إن شاء الله تعالى تفصيلا أكثر حول قصّة أيّوب في الآية (41 ـ 44) سورة ص.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 448.

٢٢٧

الآيتان

( وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) )

التّفسير

إسماعيل وإدريس وذو الكفلعليه‌السلام :

تعقيبا على قصّة أيّوبعليه‌السلام التربوية ، وصبره وثباته بوجه سيل الحوادث ، تشير الآيتان ـ محلّ البحث ـ إلى صبر ثلاثة من أنبياء الله الآخرين فتقول الأولى :( وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ) فكلّ واحد من هؤلاء صبر طوال عمره أمام الأعداء ، أو أمام مشاكل الحياة المجهدة المضنية ، ولم يركع أبدا في مقابل هذه الحوادث ، وكان كلّ منهم مثلا أعلى في الصبر والاستقامة.

ثمّ تبيّن الآية الاخرى موهبة إلهيّة لهؤلاء مقابل الصبر والثبات ، فتقول :

( وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

ممّا يلفت النظر هنا أنّه لم يقل : وهبناهم رحمتنا ، بل قال : وأدخلناهم في رحمتنا ، فكأنّ كلّ أجسامهم وأرواحهم أصبحت غارقة في الرحمة الإلهيّة ، بعد أن كانت غارقة في بحر المشاكل.

٢٢٨

إدريس وذو الكفلعليهما‌السلام :

«إدريس» ـ نبي الله العظيم ـ وكما تقدّم ـ هو جدّ والد نوحعليه‌السلام وفقا لما رواه أغلب المفسّرين ، واسمه في التوراة (أخنوخ) وفي العربية (إدريس) ويرى بعضهم أنّ إدريس مشتق من مادّة الدرس ، لأنّه كان أوّل من كتب بالقلم ، وكان ذا إحاطة بعلم الفلك والنجوم والحساب والهيأة بالإضافة إلى كونه نبيّا ويقال أنّه أوّل من علّم الناس خياطة الثياب.

وأمّا «ذو الكفل» ، فالمشهور أنّه كان من الأنبياء(1) ، وإن كان بعضهم يعتقد أنّه كان من الصالحين. وظاهر آيات القرآن التي ذكرته في عداد الأنبياء يؤيّد أنّه من الأنبياء ، وأغلب الظنّ أنّه كان من أنبياء بني إسرائيل(2) .

وهناك احتمالات عديدة في سبب تسميته بهذا الاسم ، مع ملاحظة أنّ كلمة «كفل» جاءت بمعنى النصيب ، وكذلك بمعنى الكفالة والضمان والتعهّد.

فقال بعضهم : إنّ الله سبحانه لمّا غمره بنصيب وافر من ثوابه ورحمته في مقابل الأعمال والعبادات الكثيرة التي كان يؤدّيها سمّي ذا الكفل ، أي صاحب الحظّ الأوفى.

وقال آخرون : إنّه لمّا تعهّد بأن يحيي الليل في العبادة ويصوم النهار ، وأن لا يغضب عند الحكم ، وأن يفي بوعده أبدا ، لذلك سمّي بذي الكفل.

ويعتقد بعضهم ـ أيضا ـ أنّ «ذا الكفل» لقب «إلياس» ، كما أنّ إسرائيل لقب يعقوب ، والمسيح لقب عيسى ، وذا النون لقب يونس(3) . على نبيّنا وآله وعليهم الصلاة والسلام

* * *

__________________

(1) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، ذيل الآية مورد البحث.

(2) تفسير في ظلال القرآن ، الجلد 5 ، ص 556.

(3) تفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية مورد البحث ، ونقرأ في التأريخ الكامل : إنّ الكفل كان أحد أولاد أيّوب ، وكان اسمه الأصلي (بشر) وكان يعيش في أرض الشام. الكامل لابن الأثير ، ج 1 ، ص 136.

٢٢٩

الآيتان

( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) )

التّفسير

نجاة يونس من السجن المرعب :

تبيّن هاتان الآيتان جانبا من قصّة النّبي الكبير يونسعليه‌السلام ، حيث تقول الأولى واذكر يونس إذ ترك قومه المشركين غاضبا عليهم :( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ) .

كلمة «النون» في اللغة تعني السمكة العظيمة ، أو بتعبير آخر تعني الحوت ، وبناء على هذا فإنّ «ذا النون» معناه صاحب الحوت ، وإختيار هذا الاسم ليونس بسبب الحادثة التي سنشير إليها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وعلى كلّ حال ، فإنّه ذهب مغاضبا( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ (1) عَلَيْهِ ) فقد كان يظنّ

__________________

(1) «نقدر» من مادّة قدر بمعنى التعسير والتضييق ، لأنّ الإنسان عند التضييق يأخذ من كلّ شيء قدرا محدودا ، لا على نطاق واسع وبدون حساب.

٢٣٠

أنّه قد أدّى كلّ رسالته بين قومه العاصين ، ولم يترك حتّى «الأولى» في هذا الشأن ، فلو تركهم وشأنهم فلا شيء عليه ، مع أنّ الأولى هو بقاؤه بينهم والصبر والتحمّل والتجلّد ، فلعلّهم ينتبهون من غفلتهم ويتّجهون إلى الله سبحانه.

وأخيرا ، ونتيجة تركه الأولى هذا ، ضيّقنا عليه فابتلعه الحوت( فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) فقد ظلمت نفسي ، وظلمت قومي ، فقد كان ينبغي أن أتقبّل وأتحمّل أكثر من هذه الشدائد والمصائب ، وأواجه جميع أنواع التعذيب والآلام منهم فلعلّهم يهتدون.

وتقول الآية التالية :( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) أجل لم يكن هذا الأمر خاصّا بيونس ، بل هو لطف الله الشامل فكلّ مؤمن يعتذر من ربّه عن تقصيره ويسأله العون والمدد والرحمة فإنّ الله سيستجيب له ويكشف عنه غمّه.

* * *

بحوث

1 ـ قصّة يونسعليه‌السلام

ستأتي تفاصيل قصّة يونس في تفسير سورة الصافات إن شاء الله تعالى ، أمّا ملخّصها فهو :

إنّ «يونس» كان لسنين طوال مشتغلا بالدعوة والتبليغ بين قومه في أرض نينوى بالعراق ، ولكن رغم كلّ ما بذله من جهود ومساع فإنّ إرشاداته وتوجيهاته لم تؤثر في قلوبهم ، فغضب وهجر تلك الأرض ، وذهب باتجاه البحر وركب السفينة ، وأثناء الطريق هاج البحر ، فكاد كلّ ركّاب السفينة أن يغرقوا.

وهنا قال ربّان السفينة : إنّي أظنّ أنّ بينكم عبدا هاربا يجب أن يلقى في البحر ـ أو إنّه قال : إنّ السفينة ثقيلة جدّا ويجب أن نلقي فردا منّا تخرجه

٢٣١

القرعة ـ فاقترعوا عدّة مرّات ، وكان اسم يونسعليه‌السلام يخرج في كلّ مرّة! فعلم أنّ في هذا الأمر سرّا خفيّا ، فسلّم للحوادث ، وعند ما ألقوه في البحر ابتلعه حوت عظيم وأبقاه الله في بطنه حيّا.

وأخيرا انتبه إلى أنّه قد ترك الأولى ، فتوجّه إلى الله واعترف بتقصيره ، فاستجاب الله دعوته وأنجاه من ذلك المكان الضيّق(1) .

من الممكن أن يتصوّر استحالة هذا الحادث من الناحية العلمية ، ولكن لا شكّ أنّ هذا الأمر خارق للعادة ، إلّا أنّه ليس بمحال عقلي ، كإحياء الموتى فإنّه يعدّ أمرا خارقا للعادة وليس محالا ، وبتعبير آخر : فإنّ وقوعه غير ممكن بالطرق العادية ، ولكنّه ليس صعبا مع الاستعانة بقدرة الله غير المحدودة.

وستقرءون تفصيلا أكثر حول هذه الحادثة في تفسير سورة الصافات إن شاء الله تعالى.

2 ـ ما معنى الظلمات هنا؟

من الممكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى ظلمة البحر في أعماق الماء ، وظلمة بطن الحوت ، وظلمة الليل ، وتؤيّد ذلك الرّواية التي رؤيت عن الإمام الباقرعليه‌السلام (2) .

3 ـ أي أولى تركه يونس؟

لا شكّ أنّ تعبير «مغاضبا» إشارة إلى غضب يونس على قومه الكافرين ، وكان مثل هذا الغضب في هذه الظروف طبيعيّا تماما ، إذ تحمّل هذا النّبي المشفق المشقّة والتعب سنين طويلة من أجل هداية القوم الضّالين ، إلّا إنّهم لم يلبّوا دعوته

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ومجمع البيان ، ونور الثقلين ، ذيل الآية محلّ البحث.

(2) نور الثقلين ، ج 4 ، ص 336.

٢٣٢

الخيّرة

ومن جهة أخرى ، فإنّ يونس لمّا كان يعلم أنّ العذاب الإلهي سينزل بهم سريعا ، فإنّ ترك تلك المدينة لم يكن معصية ، ولكن كان الأولى لنبي عظيم كيونس ألّا يتركها حتّى آخر لحظة ـ اللحظة التي سيعقبها العذاب الإلهي ـ ولذلك آخذه الله على هذه العجلة ، واعتبر عمله تركا للأولى.

وهذا هو عين ما أشرنا إليه في قصّة آدمعليه‌السلام من أنّ المعصية ليست مطلقة ، بل نسبيّة ، أو بتعبير آخر هي مصداق «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين». ولمزيد الاطّلاع راجع ما ذكرناه ذيل الآية (19) وما بعدها من سورة الأعراف.

4 ـ درس مصيري

جملة( كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) العميقة المعنى توحي بأنّ ما أصاب يونس من البلاء والنجاة لم يكن حكما خاصّا ، بل حكم عام مع حفظ تسلسل الدرجات والمراتب.

إنّ كثيرا من الحوادث المؤلمة والابتلاءات الشديدة والمصائب نتيجة لذنوبنا ومعاصينا ، وهي سياط لتنبيه الأرواح الغافلة ، أو هي مواقد لتصفية معادن أرواح الآدميين فمتى ما تنبّه الإنسان إلى ثلاثة أمور [التي انتبه إليها يونس في مثل هذا الظرف] فإنّه سينجو حتما :

1 ـ التوجّه إلى حقيقة التوحيد ، وأنّه لا معبود ولا سند إلّا الله.

2 ـ تنزيه الله عن كلّ عيب ونقص وظلم وجور ، وتجنّب كلّ سوء ظنّ بذاته المقدّسة.

3 ـ الاعتراف بذنبه وتقصيره.

والشاهد على هذا الكلام الحديث المروي في الدرّ المنثور عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى دعوة

٢٣٣

يونس بن متّى» فقال رجل : يا رسول الله هي ليونس خاصّة أم لجماعة المسلمين؟

قال : «هي ليونس خاصّة وللمؤمنين إذا دعوا بها ، ألم تسمع قول الله( وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) ؟ فهو شرط من الله لمن دعاه»(1) .

ولا يحتاج أن نذكر بأنّ المراد ليس قراءة الألفاظ والكلمات فقط ، بل جريان حقيقتها في أعماق روح الإنسان ، أي أن ينسجم كلّ وجوده مع معنى تلك الألفاظ حين قراءتها.

ويلزم التذكير بهذه المسألة ، وهي أن العقوبات الإلهيّة على نحوين :

أحدهما : عذاب الاستيصال ، أي العقوبة النهاية التي تحلّ لمحو الأفراد الذين لا يمكن إصلاحهم ، إذ لا ينفعهم أي دعاء حينئذ ، لأنّ أعمالهم ذاتها ستكرّر بعد هدوء عاصفة البلاء.

والآخر : عذاب التنبيه ، والذي له صفة تربوية ، ويرتفع مباشرة بمجرّد أن يؤثّر أثره ويتنبّه المخطئ ويثوب إلى رشده. ومن هنا يتّضح أنّ إحدى غايات الآفات والابتلاءات والحوادث المرّة هي التوعية والتربية.

إنّ حادثة يونسعليه‌السلام تحذّر بصورة ضمنيّة جميع قادة الحقّ والمرشدين إليه بأن لا يتصوّروا انتهاء مهمتهم مطلقا ، ولا يستصغروا أي جهد وسعي في هذا الطريق ، لأنّ مسئولياتهم ثقيلة جدّا.

* * *

__________________

(1) الدرّ المنثور ، طبقا لنقل الميزان ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢٣٤

الآيتان

( وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) )

التّفسير

نجاة زكريا من الوحدة :

تبيّن هاتان الآيتان جانبا من قصّة شخصيتين أخريين من أنبياء الله العظماء ، وهما زكريا ويحيىعليهما‌السلام . فتقول الأولى :( وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ) .

لقد مرّت سنين من عمر زكريا ، واشتعل رأسه شيبا ، ولم يرزق الولد حتّى ذلك الحين ، ثمّ أنّ زوجته كانت عقيما ، وقد كان يأمل أن يرزق ولدا يستطيع أن يكمل مناهجه الإلهيّة وأعماله التبليغيّة ، ولئلّا يتسلّط المنتفعون على معبد بني إسرائيل ، فينهبوا منه أمواله وهداياه التي ينبغي إنفاقها في سبيل الله.

وعندئذ توجّه إلى الله بكلّ وجوده وسأله ولدا صالحا ودعا الله دعاء يفيض تأدّبا ، فبدأ دعاءه بكلمة «ربّ» ، الربّ الذي يشمل الإنسان بلطفه من أوّل لحظة. ثمّ أكّد زكرياعليه‌السلام على هذه الحقيقة ، وهي أنّي إن بقيت وحيدا فسأنسى ـ

٢٣٥

ولا أنسى وحدي ، بل ستنسى مناهجي وسيرتي أيضا ؛ أكدّ كلّ ذلك بتعبير( لا تَذَرْنِي ) من مادّة (وذر) على وزن مرز بمعنى ترك الشيء لقلّة قيمته وعدم أهميّته. وأخيرا فإنّ جملة( وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ) تعبّر عن حقيقة أنّه يعلم أنّ هذه الدنيا ليست دار بقاء ، ونعلم أنّ الله خير الوارثين ، ولكنّه يبحث ـ من جهة عالم الأسباب ـ عن سبب يوصله إلى هذا الهدف

فاستجاب الله هذا الدعاء الخالص المليء بعشق الحقيقة ، وحقّق أمنيته وما كان يصبوا إليه ، كما تقول الآية :( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ) ومن أجل الوصول إلى هذا المراد أصلحنا زوجته وجعلناها قادرة على الإنجاب( وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ ) .

ثمّ أشار الله سبحانه إلى ثلاث صفات من الصفات البارزة لهذه الأسرة فقال :( إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً (1) وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ ) والخشوع هو الخضوع المقرون بالاحترام والأدب ، وكذلك الخوف المشفوع بالإحساس بالمسؤولية.

إنّ ذكر هذه الصفات الثلاث ربّما تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء عند ما يصلون إلى النعمة فلا يبتلون بالغفلة والغرور كما في الأشخاص الماديين من ضعفاء الإيمان ، فهؤلاء لا ينسون الضعفاء المحتاجين على كلّ حال ، ويسارعون في الخيرات ، ويتوجّهون إلى الله سبحانه في حال الفقر والغنى ، والمرض والصحّة ، وأخيرا فإنّهم لا يبتلون بالكبر والغرور عند إقبال النعمة ، بل كانوا خاشعين خاضعين أبدا.

* * *

__________________

(1) «رغبا» بمعنى الرغبة والميل والعلاقة ، و «رهبا» بمعنى الخوف والرعب ، وهناك احتمالات متعدّدة في محلّها من الإعراب ، فيمكن أن تكون حالا أو تمييزا أو مفعولا مطلقا ، أو ظرفا أي في حال الرغبة وفي حال الرهبة. وبالرغم من أنّ نتائج هذه الاحتمالات الخمسة تختلف مع بعضها ، إلّا أنّ هذا التفاوت في جزئيات مفهوم الآية ، لا في أساسها ونتيجتها.

٢٣٦

الآية

( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) )

التّفسير

مريم السيّدة الطاهرة :

أشير في هذه الآية إلى مقام مريم وعظمتها وعظمة ابنها المسيحعليهما‌السلام .

إنّ ذكر مريم في ثنايا البحوث التي تتكلّم على الأنبياء الكرام ؛ إمّا من أجل ولدها عيسىعليه‌السلام ، أو لأنّ ولادته كانت تشبه ولادة يحيى بن زكرياعليهما‌السلام من جهات متعدّدة ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في ذيل آيات سورة مريم(1) . أو ليوضّح أنّ العظمة غير مختّصة بالرجال ، بل هناك نساء عظيمات يدلّ تاريخهنّ على عظمتهنّ ، وكنّ قدوة ومثلا أسمى لنساء العالم.

تقول الآية : واذكر مريم :( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) .

* * *

__________________

(1) تراجع الآيات الأولى من سورة مريم.

٢٣٧

ملاحظات

1 ـ «الفرج» معناه في اللغة الفاصلة والشقّ ، واستعمل كناية عن العضو التناسلي ، لا أنّه صريح في هذا المعنى ويرى البعض انّ كلّ ما ورد في القرآن في شأن الأمور الجنسية له طابع كنائي وغير صريح ، من قبيل «اللمس» «الدخول» «الغشيان»(1) «الإتيان»(2) وغير ذلك.

ويلزم ذكر هذه اللطيفة أيضا ، وهي : إنّ ظاهر الآية المتقدّمة يقول : إنّ مريم قد حفظت طهارتها وعفّتها من كلّ أشكال التلوّث بما ينافي العفّة. إلّا أنّ بعض المفسّرين احتمل في معنى هذه الآية أنّها امتنعت من الاتّصال بالرجال ، سواء كان ذلك من الحلال أو الحرام(3) ، كما تقول الآية (20) من سورة مريم :( وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ) .

إنّ هذه الصفة في الحقيقة مقدّمة لإثبات إعجاز ولادة عيسى وكونه آية.

2 ـ إنّ المراد من «روحنا» ـ كما قلنا سابقا ـ الإشارة إلى روح عظيمة متعالية ، ويقال لمثل هذه الإضافة : «الإضافة التشريفيّة» ، حيث نضيف شيئا إلى الله لبيان عظمته ، مثل بيت الله ، وشهر الله.

3 ـ تقول الآية آنفة الذكر : إنّا جعلنا مريم وابنها آية للعالمين ، ولم تقل : آيتين وعلامتين ، لأنّ وجود مريم ووجود ابنها امتزجا في هذه الآية الإلهيّة العظيمة امتزاجا لا يمكن معه تجزئه بعضهما عن بعض ، فإنّ ولادة ولد بدون أب إعجاز بنفس المقدار الذي تحمل فيه امرأة بدون زوج. وكذلك معجزات عيسىعليه‌السلام في طفولته وكبره فإنّها تذكر بامّه.

إنّ هذه الأمور الخارقة للعادة ، والمخالفة للأسباب الطبيعيّة العادية ، يبيّن في

__________________

(1) الأعراف ، 189( فَلَمَّا تَغَشَّاها ) .

(2) البقرة ، 222( فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ ) .

(3) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، وتفسير في ظلال القرآن ، ذيل الآية محل البحث.

٢٣٨

الجملة حقيقة أنّ وراء سلسلة الأسباب قدرة قادرة على تغييرها في أي وقت شاءت.

وعلى كلّ حال ، فإنّ حال السيّد المسيح وامّه مريمعليهما‌السلام لم يكن له نظير على طول تأريخ البشر ، فلم ير قبله ولا بعده شبيه له وربّما كان تنكير كلمة (آية) [في قوله تعالى :( وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) ] الدالّ على التعظيم هو إشارة إلى هذا المعنى

* * *

٢٣٩

الآيات

( إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) )

التّفسير

امّة واحدة :

لمّا ورد في الآيات السابقة أسماء جمع من أنبياء الله ، وكذلك مريم ، تلك المرأة التي كانت مثلا أسمى ، وجانب من قصصهم ، فإنّ هذه الآيات تستخلص نتيجة ممّا مرّ ، فتقول :( إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ) فقد كان منهجهم واحدا ، وهدفهم واحدا بالرغم من اختلافهم في الزمان والمحيط والخصائص والأساليب والطرائق ، فهم كانوا يسيرون في منهج واحد ويمضون جميعا في طريق التوحيد ومحاربة الشرك ودعوة الناس إلى الإيمان بالله والحقّ والعدالة.

إنّ توحيد ووحدة الخطط والأهداف هذه تعود إلى أنّها جميعا تصدر عن مصدر واحد ، عن إرادة الله الواحد ، ولهذا تقول الآية مباشرة :( وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) .

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الفقيه في باب ما أحلّ الله من النكاح وما حرّم.

وحبابة بنت جعفر الأسديّة التي روت عن أمير المؤمنينعليه‌السلام وقالت: رأيت أمير المؤمنين في شرطة الخميس ومعه درّة يضرب بها بيّاع الجريّ والمارماهيّ، والمزماريّ ويقول لهم: « يا بُيّاع مُسوُخ بني إسرائيل » إلى آخر الحديث.

وحكيمة بنت الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الجوادعليه‌السلام .

وحميدة البربريّة اُمّ الإمام أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام وهي من الثقات التقيّات، وكان مولانا الإمام الصادقعليه‌السلام يرسلها مع اُمّ فروة تقضيان حقوق أهل المدينة.

وزينب بنت أبي سلمة التي كانت من أفقه نساء زمانها، وكانت كثيرة الخير والصدقة وكانت صنّاع تعمل بيدها وتتصدّق بيدها.

وسعيدة التي وقع اسمها في إسناد الكافي فقد روى في باب النوادر من آخر كتاب النكاح عن سعيدة .

وغيرهنّ كثيرات لم نذكر أسماءهنّ اختصاراً وإيجازاً(١) .

وقد برزت هذه النسوة وصعدن إلى تلك المرتبة من العلم والفضيلة، وضاهين الرجال في المقام والمنزلة بفضل الإسلام.

فقد ربّى في حجره مثل هذه النساء العالمات التقيّات ذوات الشخصيّة الرشيدة والمواقف البارزة، والصفحات البيض، والتواريخ المشرقة في شتّى مناحي الحياة الإسلاميّة ولولا الإسلام، وما أولاهن من المنزلة والحظوة لبقيت المرأة تعاني من ما كانت تعانيه من ظلم الجاهليّة وعسفها، وكبتها وتحقيرها.

فقد كانت المرأة في زمن الجاهليّة محرومة من كلّ مزايا الرجال، تحتقر كما يحتقر

__________________

(١) من أراد الوقوف على تفصيل ذكرهنّ وأسمائهنّ فعليه أن يراجع كتاب: أعلام النساء، بلاغات النساء، الخيرات الحسان، والاستيعاب، والإصابة.

٤٤١

الحيوان، وتباع وتشترى كما يشترى ويباع المتاع، حتّى جاء الإسلام وأولاهنّ ما أولاه من الرفعة بعد الضعة، والشرف بعد المقت والعزّة بعد الإهانة والذّل، فتخرّج منهنّ الكاتبات والأديبات والعالمات، والراويات، وربّات الفكر والرأي، وذوات الشخصيّة والشأن الكبير.

على أنّ النساء لم يحصلن على حقوقهنّ في التعليم في ظلّ الحكومة والشريعة الإسلاميّة فقط، بل حصلن على حقوق عادلة في التسوية مع الرجال في اعتناق الدين، واستحقاق الثواب الاُخرويّ، والاحترام الدنيويّ، والميراث، والزواج وحقوق الزوجيّة، والطلاق، والنفقة، والوصيّة.

وجملة القول ؛ أنّه ما وجد دين ولا شرع ولا قانون في أمّة من الأمم أعطى النساء ما أعطاهنّ الإسلام من الحقوق والعناية والكرامة، في جميع المجالات الإنسانيّة.

هذا ولقد كان الإسلام أوّل من عمل على محو الاُميّة ونشر الثقافة والعلم وتعميمها في أوساط الناس فيما كانت الحكومات المعاصرة لعصر النبوّة المحمديّة ـ كالأجهزة الحاكمة في إيران ـ تحظر العلم والثقافة على طبقات الشعب وتحرم اكتسابهما إلّا على الأُمراء وأبناء الاُمراء، وطبقة المؤبذين ( وهم رجال الدين الزرادشتي )(١) .

وإنّ أدلّ دليل على سعي الإسلام لمحو الاُميّة قبل أي أحد هو ما فعله النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مع أسرى بدر حيث جعل فداء بعض الأسرى الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة، تعليم أولاد المسلمين: القراءة والكتابة.

فقد روى الحلبي في سيرته ذلك قائلاً: ( بعثت قريش في فداء الأسارى وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم، وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألفين إلى ألف. ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة ليعلّمهم الكتابة فإذا تعلّموا كان ذلك فداء )(٢) .

__________________

(١) الشاهنامة للفردوسيّ ٦: ٢٥٧ ـ ٢٦٠.

(٢) السيرة الحلبيّة ٢: ٢٠٤.

٤٤٢

على أنّ المنهج الذي اختاره الإسلام هو جعل الإيمان مقروناً بالعلم، والعلم مقروناً بالإيمان فالمكتفي بأحدهما كطائر يحلّق بجناح واحد ولذلك نرى أنّ الله سبحانه يقرن أحدهما بالآخر في كتابه إذ يقول:( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) ( المجادلة: ١١ ).

وكقوله:( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ ) ( الروم: ٥٦ ).

وممّا يدلّ على ذلك ما نراه ـ إذا سرنا في البلاد الإسلاميّة ـ من بناء الجامعات إلى جنب المساجد الذي يشير بوضوح إلى عدم التفكيك بين العلم والإيمان، وبين الدين والمعرفة في الحوزات الإسلاميّة العلميّة المبثوثة في كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ أو انعقاد الحلقات الدراسيّة في المساجد. ولقد بلغ حثّ الإسلام على اكتساب العلم والمعرفة حدّاً بليغاً حتّى أنّه حرّض على الهجرة في سبيل اكتساب العلم، عندما حثّ على أن يخرج من كلّ فريق طائفة تسافر إلى المدينة، ليدركوا حضرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وليتعلّموا منه ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف الإلهيّة المفيدة ثم يرجعوا إلى قومهم وهو أمر يدلّ ضمناً على أنّ الإسلام كان ممن أسّس بنيان الحوزات العلميّة والجامعات وهي حقيقة يدلّ عليها قوله سبحانه:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة: ١٢٢ ).

فإنّ هذه الآية وإن فسّرت بوجوه غير أنّ الأظهر في تفسير الآية ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام :

قال عبد الله بن المؤمن الأنصاريّ قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ قوماً يروون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « اختلافُ اُمّتي رحمة » فقال: « صدقُوا » فقال: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال: « ليس حيثُ تذهب وذهبُوا، إنّما أراد قول الله عزّ وجلّ:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين الله إنّما الديّن

٤٤٣

واحد »(١) .

وهذه الآية مضافاً إلى كونها دالّة على وجود مركز أو مراكز علميّة في زمن النبيّ يسافر إليها الأفراد ليتلقّوا فيها العلوم والمعارف اللازمة ؛ تدلّ على وجوب هذا الأمر وجوباً كفائيّاً، ولقد استمرّ وجود هذه المراكز والحوزات العلميّة في زمن الأئمّة: وفي زمن الإمام الصادق خاصّة.

فقد روى أحمد بن محمّد بن عيسى وقال: خرجت إلى الكوفة في طلب الحديث فلقيت بها الحسن بن عليّ الوشا، فسألته أن يخرج لي كتاب العلا بن رزين وأبان بن عثمان، فأخرجهما إليّ فقلت له: أحبّ أن يجيزهما لي فقال: يرحمك الله وما عجلتك، اذهب فاكتبهما واسمع من بعد ذلك، فقال: لا آمن الحدثان، فقال: لو علمت هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه فإنّي أدركت في هذا المسجد ( بالكوفة ) تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر ( أي الإمام الصادقعليه‌السلام )(٢) .

وبالتالي فإنّ ما يدلّ على اهتمام الدين الإسلاميّ بانتشار العلوم والأخذ بالمعارف المتنوّعة هو ازدهار العلوم المختلفة بين المسلمين ونبوغهم المطّرد والبارز في شتّى مجالات المعرفة، وتنوّع الكتب والمصنفات التي خلّفها المسلمون وصنّفها علماؤهم وكتّابهم، وكانت أساساً لكثير من العلوم الحديثة.

يبقى أن نعرف أنّ الإسلام لا يطرح صيغة خاصّة لمنهج التعليم، وقد سبق أن قلنا: إنّ خاتمية الدين الإسلاميّ تقتضي أن يبيّن الإسلام الجوهر واللب، وأمّا الصور والأشكال فمتروكة للأجيال والعصور، ومقتضياتها فلا مانع من أن يستفيد المسلمون من أي منهج تعليميّ، وأن يستخدموا أي جهاز يضمن تعميم العلم كالتلفزيون والمذياع شريطة الحفاظ على خلق المجتمع، وقيمه الإسلاميّة العليا. فإنّ الإسلام يخالف كلّ علم يتنافى مع سعادة البشر ويهدّد استقراره.

__________________

(١) نور الثقلين ٢: ٢٣٨.

(٢) رجال النجاشيّ: ٢٨ وتنقيح المقال للمامقانيّ ١: ٢٩٤.

٤٤٤

هذا ولعلّك تعجب إذا علمت أنّ تحصيل العلم في الفنون المختلفة من الطبّ والاقتصاد والحقوق السياسيّة والصنائع المتنوّعة فريضة إسلاميّة يجب على الجميع تعلّمه على نحو الواجب الكفائيّ لكي ترتفع حاجة المسلمين إلى غيرهم، ويأمنوا بذلك من تدخّل الأجانب في شؤونهم، بل الأعجب من ذلك أنّ التحصيل في بعض الشؤون واجب عينيّ وذلك فيما يتعلّق بمعرفة الأحكام الدينيّة من أحكام العبادات والمعاملات كما حقّق في موضعه(١) ، ولأجل ذلك وجب على الحكومة الإسلاميّة أن تخصّص قسماً كبيراً من ميزانيّتها لتأسيس الجامعات الدينيّة، والعلميّة وتهيئة ظروف التعليم والتعلّم حتّى يتسنّى لأبناء الاُمّة تحصيل المعرفة في أي مجال مفيد، وضروريّ لحياة الاُمّة. فإنّ جميع ما سقناه إليك من أدلّة حاثّة على طلب العلم، وإنّ ما وصل إليه المسلمون القدامى من أزدهار، وتقدّم عظيم، في العلوم يستدعيان أن تكون الحكومة الإسلاميّة هي التي تتولّى تهيئة أجواء العلم والتعلّم والتعليم، وإلاّ فكيف يمكن أن يتحقّق ذلك الازدهار ويتحقّق هذا الهدف العظيم، والأمر خارج عن نطاق الأفراد بل هو ميسّر للحكومة وإمكانيّاتها، ولوجوب أن تقتدي هذه الحكومة بسيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تولّى بنفسه تهيئة أجواء التعليم والتعلّم لأبناء المدينة كما مرّ عليك في قصّة أسرى بدر.

الإسلام والعلوم الطبيعيّة

ثمّ انّه لم يكن تأكيد الإسلام على تحصيل العلم ليختصّ بعلم دون علم وبباب دون آخر، وإن كان التأكيد على اكتساب الفقه والعلم بأحكام الدين أشدّ، وأكثر.

فالعلم بأحكام الدين واُصوله وفروعه، أو العلم بما يجري في الطبيعة من السنن والقوانين وكشف غوامض الحياة ومعضلاتها واختراع ما يكون مفيداً للحياة البشريّة ممّا دعا إليه الإسلام من غير فرق بين علم وعلم. ولذلك أمر سبحانه في الكثير من الآيات القرآنيّة بالتدبّر في الكون والسنن الحاكمة فيه، كما هو غير خفيّ على من له إلمام بالكتاب

__________________

(١) راجع فرائد الشيخ الأنصاريّ: ٣٠٠ ـ ٣٠١.

٤٤٥

الكريم.

وتقسيم العلوم إلى دينيّة وغير دينيّة ( أو قديمة وحديثة ) مجرّد اصطلاح وإلاّ فكلّ علم نافع ناجع قد دعا إليه الدين وأمر به الكتاب، وأخذ به المسلمون، وما يعدّ علوماً حديثة فلها جذور في القديم وإنّما حدث التطوّر والتكامل حسب مرور الزمان شأن كلّ ظاهرة وعلم.

ولأجل ذلك نرى أنّ المسلمين اهتمّوا ـ منذ بزوغ الإسلام ـ بمختلف العلوم والمعارف، وبرعوا فيها، وكانوا لكثير منها مكتشفين، وكان منهم المخترعون، والمبدعون.

وقد اعترف بذلك كثير من علماء الغرب والشرق، وأقرّوا للمسلمين به، وبيّنوا جهود المسلمين في هذا المضمار، وعدّوهم آباء العلم الحديث في كثير من المجالات والأصعدة.

ونحن هنا نشير إلى طائفة ممّن كان لهم من المسلمين اكتشافات علميّة :

١. جابر بن حيّان، تلميذ الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام كان من أشهر علماء الكيمياء. هذا وللرازي وأبو ريحان البيرونيّ بحوث شيّقة وهامّة في الكيمياء أيضاً.

٢. يعقوب ابن إسحاق الكندي ؛ له ١٥ كتاباً في معرفة أحوال الجوّ.

٣. الحسن بن الهيثم ؛ المتولّد عام ٣٠٤ ألّف كتباً عديدة في الضوء وخواصّ المرايا المقعّرة والمحدّبة والمنكسرة.

٤. محمد بن إبراهيم الفزاري، والحجاج بن يوسف بن مطر ؛ لهما ولغيرهما من المسلمين جهود علميّة كبرى في الرياضيّات.

٥. الخواجا نصير الدين الطوسيّ، وأبو معشر البلخيّ، يعود إليهما الكثير من الاختراعات والاكتشافات في علم الهيئة والفلك.

٦. محمّد بن زكريّا الرازي، وأبو عليّ بن سينا، وابن رشد الأندلسيّ يعود إليهما

٤٤٦

الكثير من الأبحاث الطبيّة، ومسائل العلاجات والأدوية.

٧. الكندي والدميريّ والقزوينيّ وابن بطوطة وابن خلدون ؛ ممّن لهم كتب ومؤلّفات واسعة في علم الأحياء، والجغرافيه، وغيرهما من العلوم والمعارف، وغيرهم ممّن لا يمكن إحصاء أسمائهم لكثرتهم وكثرة مؤلّفاتهم.

ويكفي دلالة على تشجيع الإسلام للصناعة ما قاله الإمام الصادقعليه‌السلام في حديث مفصّل: « كلّ ما يتعلّم العبادُ أو يُعلّمون غيرهُم من صُنوف الصناعات مثل الكتابة والحساب والنّجارة والصّياغة والسّراجة والبناء والحياكة والقُصارة والخياطة وصُنعة صنوف التصاوير ما لم يكُن مثل الرّوحانيّ وأنواع صنوف الآلات التي يحتاجُ إليها العبادُ التي منها منافعهُم وبها قوامُهم وفيها بُلغةُ جميع حوائجهم فحلال فعلهُ، وتعليمهُ والعملُ به وفيه لنفسه أو لغيره »(١) .

ثمّ انّ عناية الإسلام بالكتابة وتقييد العلم بواسطتها يعتبر من أبرز الأدلّة على تبنيّ الإسلام للعلم وحرصه عليه فقد كان الإسلام أوّل من روّج الكتابة وحثّ على تعلّمها، وكان ذلك الموقف من الكتابة والتدوين هو السبب الرئيسيّ في كتابة المؤلّفات وتأليف الكتب العديدة الذي كان ـ بدوره ـ خير وسيلة لأحياء العلم، والابقاء عليه فقد روي أنّه كتب الشيعة وحدهم ما يقارب (١٠) آلاف كتاب خلال عهد الإمامين الباقرين خاصّة(٢) .

ولقد وردت أحاديث كثير في هذا الصدد يضيق المجال بذكرها في هذه العجالة ولكنّنا ندرج هنا بعضها على سبيل المثال :

عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « قيّدُوا العلم بالكتابة »(٣) .

__________________

(١) تحف العقول: ٢٤٦.

(٢) المراجعات: ٣٣٧ المراجعة (١١٠).

(٣) تحف العقول كما في الذريعة ١: ٦، المستدرك للحاكم ١: ١٠٦، كنز العمال ٥: ٢٧٧، البيان والتبيين ١: ١٦١.

٤٤٧

وعن عبد الله بن عمر قال قلت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أقيّد العلم ؟ قال: « نعم »، قيل وما تقييده ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كتابتُهُ »(١) .

وعن أبي بصير قال دخلت على أبي عبد الله ( الصادق ) فقال: « ما يمنعُكُم من الكتابة، إنّكُم لن تحفظُوا حتّى تكتبُوا »(٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا مات ابنُ آدم انقطع عملهُ إلّا من ثلاث :

صدقة جارية، أو علم ينتفعُ به أو ولد صالح يستغفُر لهُ »(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « المُؤمنُ إذا مات وترك ورقةً واحدةً عليها علم تكُونُ تلك الورقةُ سُتراً فيما بينهُ وبين النّار وأعطاهُ الله بكُلّ حرف مكتُوب عليها مدينةً في الجنّة »(٤) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: « احتفظُوا بكُتبكُم فسوف تحتاجُون إليها »(٥) .

وقالعليه‌السلام : « القلبُ يتّكلُ على الكتابة »(٦) .

وقالعليه‌السلام : « اُكتُب وبُث علمك في إخوانك فإن متّ فأورث كُتُبك بنيك فإنّهُ يأتي على النّاس زمان هرج ما يأنسُون إلّا بكُتُبهم »(٧) .

وعن الإمام الحسنعليه‌السلام أنّه دعا بنيه وبني أخيه فقال: « إنّكُم صغار قوم ويُوشكُ أن تكُونُوا كبار قوم آخرين فتعلّمُوا العلم فمن لم يستطع منكُم أن يحفظهُ فليكتُبهُ وليضعهُ في بيته »(٨) .

هذا وللإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام تعاليم لطيفة في مجال الكتابة وتحسين الخطّ فقد قال لكاتبه عبيد الله بن أبي رافع: « ألق دواتك، وأطل جلفة(٩) قلمك ،

__________________

(١) راجع الذريعة ١: ٦، التاج ١: ٦١.

(٢) مشكاة الأنوار للطبرسيّ: ١٤٢، وروي في الكافي ١: ٥٢ بهذه الصورة: « اكتُبُوا فإنّكُم لا تحفظُون حتّى تكتبُوا ».

(٣) رواه الخمسة إلّا البخاريّ، راجع التاج ١: ٦٦.

(٤) أوثق الوسائل: المقدّمة.

(٥ و ٦ و ٧) الكافي ١: ٥٢.

(٨) بحار الأنوار ٢: ١٥٢.

(٩) الجلفة ما بين مبراه وسنته.

٤٤٨

وفرّج بين السّطُور وقرمط(١) بين الحُرُوف، فإنّ ذلك أجدرُ بصباحة الخطّ »(٢) .

كما روي عنهعليه‌السلام قوله: « الخطّ الحسن يزيد الحقّ وضوحاً »(٣) .

هكذا حثّ الإسلام على الكتابة حثّا بليغاً، وأكيداً، وكفى في ذلك أنّ الله تعالى أقسم بالقلم باعتباره وسيلة فعّالة لنقل المعرفة وتدوينها، وإبقائها.

بحث وتنقيب

ولعلّك تقول: لو حثّ الإسلام مثل هذا الحثّ على الكتابة والتدوين فلماذا نهى الخليفة الثاني عن كتابة الحديث في حين كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يحثّ أصحابه على كتابة ما يسمعونه منه. فقد أخرج صاحب غوالي اللئالي عن عمر بن شعيب عن أبيه وجدّه قال قلت: يا رسول الله أكتب كلّ ما أسمع منك ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم »، قال: قلت في الرضا والغضب ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم فإنّي لا أقول في ذلك كلّه إلّا الحقّ »(٤) .

وقد أملىصلى‌الله‌عليه‌وآله كتباً في الشرائع والأحكام كان قد جهّز بها رسله وعمّاله في الأقطار المفتوحة وقد احتفظ بها المسلمون وأوردها أصحاب السير والمعاجم وأهل الحديث والتفسير في كتبهم وهذه الصحف تعرب قبل كلّ شيء عن عناية الرسول بحفظ علوم الرسالة وذخائر النبوّة وأحكام الدين ودساتيره ليستفيد منها القريب ويرجع إليها النائي.

وقد تواتر عن الفريقين أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قبض وفي قراب سيفه أو ذؤابة سيفه كتاب أو كتابان(٥) .

__________________

(١) القرمطة بين الحروف، المقاربة بينها وتضييق فواصلها.

(٢) نهج البلاغة: قصار الكلم ( الرقم ٣١٥ ).

(٣) حديث مشهور.

(٤) راجع الذريعة ١: ٦، التاج ١: ٦١.

(٥) صرّح بذلك إمام الحنابلة في مواضع من مسنده راجع المسند ١: ٨١، ١٠٠، ١١٩، ١٢٦، ١٣٢، صحيح مسلم ٤: ٢١٧، السنن الكبرى ٨: ٣٠.

٤٤٩

وقد اعتمد على هذا الكتاب أئمّة أهل الحديث في مختلف الأبواب والأحكام واكثر النقل عنه المحدّث الحرّ العامليّ في جامعه الكبير وينهي إسناده إلى أئمّة أهل البيت(١) .

قال ابن عمر: إنّ قريشاً قالت: إنّك تكتب عن رسول الله وهو بشر يغضب يعنون به أنّه يقول عند الغضب باطلاً، فعرضت كلامهم على رسول الله قال: « اكتب فإنّي لا أقُولُ إلّا حقّاً » أو أشار إلى شفتيه وقال: « لا يخرُجُ منهُما إلّا الحقّ اكتُب »(٢) .

وقد أملى رسول الله كثيراً من الأحكام على ( علي ) فدوّن أمالي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته، واشتهر بكتاب عليّ، وقد روى عنه البخاريّ في صحيحه في باب كتابة الحديث وباب « إثم من تبرّأ من مواليه ».

وقد أكثر عنه النقل الإمامان الباقر والصادقعليهما‌السلام ورآه كثير من أصحابهما كزرارة بن اُعين ومحمد بن مسلم وأبي بصير ونظرائهم.

وأخرج الشيخ أو العباس النجاشي ( المتوفّى عام ٤٥٠ ) في ترجمة « محمّد بن عذافر » عن عذار الصيرفيّ قال: كنت مع الحكم بن عيينة، عند أبي جعفر محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام فجعل يسأله وكان أبو جعفر له مكرهاً فاختلفا في شيء، فقال أبو جعفر: « يا بنيّ قم فأخرج كتاب عليّ » فاخرج كتاباً مدرجاً عظيماً، ففتح وجعل ينظر حتى أخرج المسألة، فقال أبو جعفر: « هذا خطّ عليّ وإملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقبل على الحكم وقال: « يا أبا محمّد: إذهب وسلمة والمقداد حيث شئتم يميناً وشمالاً، فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرائيل »(٣) .

والحديث عمّا كتبه عليّعليه‌السلام كثير، وأخرج المشايخ والمحمّدون الثلاثة روايات جمّة عنه ينتهون بإسنادها إلى أئمة الحديث مبثوثة في كتب الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والتجارة والوصايا والطلاق والنكاح

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة كتاب القصاص.

(٢) مستدرك الحاكم ١: ٤.

(٣) فهرست النجاشيّ: ٢٥٥ ( طبعة الهند ).

٤٥٠

والأطعمة والأشربة والحدود والقصاص والديات والقضاء والأيمان والصيد والميراث وإحياء الموات(١) .

ثمّ إنّ الشيعة في الصدر الأوّل اقتفوا أثر إمامهم في الكتابة والتأليف فاهتمّوا بجمع أحاديث الأحكام والفرائض والقضايا وأخبار المغازي، وتراجم الرجال وقد جمع أسماءهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ في أوّل رجاله.

ثمّ الذين نشأوا بعد الطبقة الاُولى نهجوا منهاج سلفهم، حذو القذّة بالقذّة في كلّ قرن وجيل ؛ رغم ما كانت تواجههم من الظروف القاسية والكوارث الداهمة ورغم ما كانوا يعانون من السلطات الغاشمة

فإنّ الشيعة رغم كلّ تلك المصاعب ألّفوا كتباً ثمينة جمعوا فيها شذرات الحديث وشوارد السير واُصول الأخلاق، ونهضوا بهذه المهمّة بعزم راسخ لا يعرف الكلل والملل مثابرين على العمل، ومعانين في طريق هدفهم كثيراً من الأذى حفاظاً على حياض الشريعة الإسلاميّة وصوناً لكنوزها، وبثّاً لتعاليم الحنيفيّة البيضاء.

وقد ترجم الشيخ أبو العباس النجاشيّ صاحب الفهرست المعروف في صدر كتابه بعض رجال الشيعة ممّن يعدّون من المؤلّفين في الطبقة الاُولى.

ودونك أسماء عدّة منهم من الذين ذكرهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ بهذا العنوان في أوّل فهرسته :

١. أبو رافع ؛ مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصاحب بيت مال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام صنف كتاب السنن والأحكام والقضايا.

٢. عبيد الله بن أبي رافع ؛ كاتب أمير المؤمنين وأوّل من ألّف في الرجال، ترجم من أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من شهد منهم حروب أمير المؤمنينعليه‌السلام الجمل وصفين.

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة في هذه الكتب وقد جمع العلاّمة الشيخ الأحمديّ في كتابه القيّم « مكاتيب الرسول » ١: ٨٢ ـ ٨٨ ما بثّه صاحب الوسائل في جامعه على نسق الكتب الفقهيّة.

٤٥١

٣. عليّ بن أبي رافع ؛ كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام صنف كتاباً في فنون من الفقه: الوضوء والصلاة وسائر الأبواب.

٤. ربيعة بن سميع ؛ صنّف كتاب زكاة النعم على ما سمعه عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في صدقات النعم وما يؤخذ من ذلك.

٥. أبو صادق سليم بن قيس الهلالي ؛ صاحب أمير المؤمنين ألّف أصله المعروف المطبوع.

٦. الأصبغ بن نباتة المجاشعيّ، من خيار أصحاب أمير المؤمنين ومن شرطة الخميس له كتاب عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر النخعيّ ووصيّته إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة.

٧. أبو عبد الله سلمان الفارسي ؛ له كتاب ( خبر جاثليق ) وقد أملى الخطبة الطويلة والاحتجاجات.

٨. أبو ذرّ الغفاري ؛ له كتاب وصايا النبيّ وشرحه العلاّمة المجلسي وأسماه عين الحياة.

هذا حال الطبقة الاُولى منهم وأمّا الذين أتوا بعدهم فالرواة منهم المعاصرون للأئمّة الهداة في مجموع القرنين منذ قبض الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى عصر العسكريعليه‌السلام لم يؤثر عنهم فتور في تدوين العلوم وضبط الحديث، وجمع قواعد الفقه وتنسيق طبقات الرجال وضمّ حلقات التفسير وإتقان مباني واُسس الكلام إلى غير ذلك.

كلّ ذلك يشهد على مبلغ اهتمامهم بتلقّي أنواع المعارف والعلوم من معادنها في السرّ والعلانية، وتغنينا عن إفاضة القول وسرد الشواهد، الفهارس المؤلّفة لكتب الشيعة في القرون الإسلاميّة الغابرة ولا سيّما ما ألّفه العلاّمة المتتبّع المغفور له الشيخ أغا بزرگ الطهرانيّ في أثره الخالد ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) المطبوع في خمسة وعشرين جزء.

٤٥٢

وأظنّ أنّ الموضوع لا يحتاج إلى أن نتوسّع فيه أكثر من ذلك وهذا كتاب الله سبحانه يحثّ في أطول آيات كتابه(١) على كتابة ما يتوصّل بها إلى حفظ عرض دنيويّ زائل ومتاع مندثر، أفلا يجوز لنا من هذا الحثّ الأكيد استنباط لزوم الاهتمام بما ننال به المقاصد العالية ويفوز الإنسان به بالسعادة الخالدة ؟

حول الحديث الموضوع

وبعد ذلك كله لا اعتبار بما نسبوه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّه قال: « لا تكتبوا عنّي شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنّي غير القرآن فليمحه »(٢) أو أنّه لم يأذن بكتابة الحديث على ما رواه الترمذيّ عن أبي سعد قال: استأذنا النبيّ في الكتابة فلم يأذن لنا(٣) .

وأغرب منه ما رواه الحاكم بسنده عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلّب، قالت فغمّني كثيراً، فقلت يتقلّب لشكوى أو لشيء بلغه، فلّما أصبح قال: أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك ! فجئته بها فأحرقها، وقال خشيت أن أمُوت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدّثني فأكون قد تقلّدت ذلك(٤) .

وأظنّ أنّ ما اُلصق برسول الله من مختلقات الحديث وضعها القائل أو القائلون لأغراض وغايات سياسيّة وأظنّ أنّ الذي دفع الوضّاعين إلى إعزاء ما اختلقوه إلى رسول الله أحد أمرين أو كليهما :

إمّا لأنّ المعتمد في كتابة أحاديث الرسول آنذاك كان هو الإمام عليّعليه‌السلام دون سائر الصحابة، وكان ذلك يعدّ فضيلة رابية للإمام، فحاول أعداؤه ومناوؤه طمسها فاختلقوا ما اختلقوا لكي يصبح عمل الإمام في استقلاله بالتدوين، أو تبرّزه في هذا الباب عملاً غير مشروع.

__________________

(١) سورة البقرة ٢: الآية (٢٨٢) آية الدين.

(٢) رواه الدارميّ في مقدّمة سننه.

(٣) صحيح الترمذيّ ٢: ٩١ ( طبعة الهند ).

(٤) جمع الجوامع للسيوطيّ ٢: ١٤٧.

٤٥٣

وإمّا لأنّ تلك الأحاديث فيها الكثير ممّا قاله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل عليّعليه‌السلام وعظم شأنه، فلو سوّغت كتابة الأحاديث وأحاط بها الناس علماً وتناقلها المسلمون في شتّى الأقطار، لأدّت إلى ظهور الإمامعليه‌السلام على سائر الصحابة، وكونه الأحقّ في تسنّم منصب الخلافة بعد الرسول وفي ذلك ما فيه من الخطر على من تسنّموا عرشها بغير حقّ وبغير دليل.

فلو كان كتابة الحديث وضبطه في الصحائف والجلود أمراً مرغوباً عنه فلماذا أملى النبيّ بنفسه كتباً في الشرائع والأحكام وجهّز بها رسله وعماله في الأقطار المفتوحة.

ولو كان نهي النبيّ بمرأى ومسمع من أصحابه وأنصاره، فلماذا استفتى عمر أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك فأشاروا عليه أن يكتب فطفق عمر يستخير الله شهراً ثمّ أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: إنّي كنت اُريد أن أكتب السنن وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله وإنّي والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً ولا اُلبس كتاب الله بشيء أبداً(١) .

والعذر الذي جاء به الخليفة في كلامه يشبه ما في كلام بعضهم في تفسير نهي النبيّ عن الكتابة من أنّ نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن كتابة الحديث كان لخوفهصلى‌الله‌عليه‌وآله من اختلاط الحديث بالقرآن.

ولا يخفى ما فيه من الخبط والخطأ فإنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه إذ معنى ما ذكره هو إبطال معجزة القرآن وهدم اُصولها من القواعد، وإنّ معنى ذلك كون بلاغة القرآن والحديث والخطب المرويّة من باب واحد هو باطل، والله سبحانه يقول:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء: ٨٨ ).

وقد حقّق في محلّه أنّ القرآن وحي بلفظه ومعناه، لا يشبه كلام الإنسان من حيث

__________________

(١) رواه الكاتب المتتبع المعاصر أبو ريّه عن الحافظ بن عبد ربه والبيهقي في أضواء على السنّة المحمديّة ص ٤٣.

٤٥٤

الصياغة والانسجام، والحديث وحي بمعناه دون لفظه، فهو من جهة اللفظ والصياغة كلام بشريّ يمكن مباراته.

وهناك عذر آخر لا يقلّ في الوهن والضعف عن الأوّل جاء به بعض المعاصرين قال: يمكن أن تكون حكمة النهي عن كتابة الحديث هو أن لا تكثر أوامر التشريع، ولا تتّسع أدلّة الأحكام وهو ما كان يتحاشاهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى كان يكره كثرة السؤال، أو يكون من أحاديث في اُمور خاصّة بوقتها بحيث لا يصح الاستمرار في العمل بها. ونحن لا نعلّق عليها إلّا شيئاً طفيفاً إذ القارئ الكريم أعرف بحالها، إذ أي صلة بين كتابة حديث نافع وسنّة متّبعة تتّصل بحياة المسلمين الفرديّة والاجتماعيّة وتحتلّ مكاناً سامياً في استنباط كثير من الأحكام التي كانوا يواجهونها بعد عصر الرسالة عندما توسّعت الحكومة الإسلاميّة وتلوّنت حياتهم بألوان حضارة جديدة، ولم يكن لهم بها عهد في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين كثرة السؤال عن أشياء لا تهمّ السائل معرفتها.

على أنّ ما اعتذر به الكاتب في تصحيح النهي عن تدوين السنّة يستدعي النهي عن كتابة القرآن وهما في المقام سواسية، لأنّ عمق معاني القرآن وغزارة مقاصده تؤدّي بالباحث إلى كثرة التساؤل واتّساع أدلّة الأحكام وتكثر أوامر التشريع، وبالتالي يستلزم تسلسل الأسئلة.

ولا يتردّد المحقّق الباحث في أنّ ما عزوه إلى النبيّ من مخاريق الأوهام الباطلة التي نحتوها لأغراض سياسيّة، لتصحيح فعل الخليفة ونهيه عن كتابة الحديث وسنّة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وما ارتكبه الخليفة عثرة لا تقال، فالله يعلم كم خسر الإسلام والمسلمون من جرّائها لولا أن تدارك الخسران العظيم عمر بن عبد العزيز فكتب من الشام إلى أبي بكر ابن حزم وهو من كبار المحدّثين بالمدينة: انظر من حديث رسول الله فاكتبه، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء(١) .

__________________

(١) صحيح البخاريّ ١: ٢٧ كتاب العلم.

٤٥٥

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٢

الحكومة الإسلاميّة

والحقوق الفرديّة والاجتماعيّة

حاجة المجتمعات إلى الحقوق

بما أنّ الإنسان بطبيعته ذو تطلّعات وحاجات تزداد بتوسّع التمدّن وتقدّم الحضارة، وبما أنّ الحياة الاجتماعيّة لا تنفكّ عن إقامة العلاقات والروابط بين أبناء البشريّة، وبما أنّ وصول الأفراد إلى تطلّعاتهم وحاجاتهم لا ينفكّ عن التزاحم والتصادم والاختلاف والتشاجر، كان لا بدّ من حلّ هذا الاختلاف والتنازع، ووضع العلاقات الاجتماعيّة في الإطار الصحيح.

وقد كان هذا الحلّ يتمّ ـ في العصور السابقة ـ بالقوّة، وقدرة السلاح وكان المنطق الحاكم هو ( الحقّ لمن غلب )، غير أنّ تقدّم البشريّة في مدارج التربية أوجد لديها فكرة التنظيم وحلّ الاختلافات بين أفراد البشر بغير وسيلة القوّة، والسلاح، ومن هنا تكوّن ما يسمّى بعلم الحقوق، فعلم الحقوق عبارة عن الاُصول والقواعد التي تنظّم علاقات الأفراد، والتي يجب أن تسود المجتمعات حتماً، ولا يتخلّف عنها أحد أبداً.

٤٥٦

وبعبارة اُخرى ؛ إنّ الحقوق عبارة عن ( مجموع القواعد والقوانين المقرّرة لحفظ الأفراد وترقية المجتمع البشريّ، وعلى ذلك ينطبق علم الحقوق على قسم من الفقه الإسلاميّ، ويكون شعبة من الفقه ).

ولقد كان الفقه الإسلاميّ القانون الوحيد الحافظ لحقوق الأفراد والجماعات في الشرق الإسلاميّ إلى أوائل القرن الرابع عشر حتّى أن قامت الثورات الشعبية (؟) وأسّست مجالس الاُمّة، وسنّت القوانين الجديدة، وتركت القوانين الإسلاميّة جانباً وقد خسر المسلمون، بالعدول عن القوانين الإسلاميّة إلى تلك القوانين البشريّة المقتبسة من الغرب، خسر المسلمون ـ بسبب ذلك ـ العدل والرحمة، والإنسانيّة والاستقرار والدقّة.

تقسيمات الحقوق

لقد قسّم علماء الحقوق القوانين والحقوق(١) إلى :

أ ـ داخليّة ؛ تختصّ بالعلاقات المتقابلة بين أفراد الاُمّة الواحدة.

ب ـ خارجيّة ؛ تختص بالعلاقات المتقابلة بين الأمم والدول المختلفة.

وكلّ من الداخليّة والخارجيّة ينقسمان إلى خاصّة، وعامّة، وإليك فيما يأتي تفصيل هذه التقسيمات إجمالاً :

أ ـ الحقوق الداخليّة

والعامّة منها تنقسم إلى ثلاث شعب هي :

الاُولى / القانون الأساسيّ الذي يقوم في إطاره كلّ الروابط والعلاقات بين الأفراد، وتقوم كلّ التشكيلات الحاكمة على حياة الاُمّة فهو بمثابة ( الاُسس الكليّة لأي

__________________

(١) ليس المراد بالحقوق ـ هنا ـ هو المعنى الخاصّ له، بل هو مطلق القوانين ولذلك يكون الحقوق بمعناه الخاصّ المصطلح فقهياً جزءاً من هذا البحث.

٤٥٧

نظام ).

الثانية / القوانين المختصّة بالدوائر الحكوميّة وحدود وظائفها، وما يحدّد علاقات الأفراد ( موظّفين ومراجعين ) بها.

الثالثة / الحقوق والقوانين الجزائيّة التي يتميّز بها المعتدي عن غير المعتدي والمجرم عن غير المجرم، وتكون مانعة للأفراد عن الأعمال والتصرّفات المخلّة بالنظام.

وأمّا الخاصّة فهي تنقسم أيضاً إلى ثلاث شعب هي :

الاُولى / الحقوق المدنيّة وهي المتعلّقة بالأفراد في إطار العلاقات العائليّة والتي تسمّى الآن بالأحوال الشخصيّة، كالنكاح والطلاق والميراث وما شابه.

الثانية / القوانين والمسائل المرتبطة بالقضاء التي يستطيع الأفراد بالتوسّل بها أن يستوفوا حقوقهم الضائعة.

الثالثة / القوانين المتعلّقة بالعلاقات والمبادلات التجاريّة.

ب ـ الحقوق الخارجيّة ( الدوليّة )

والعامّة منها هي التي تبيّن وترسم كيفية علاقات الدول مع الدول، والحكومات مع الحكومات، ويندرج في ذلك المعاهدات وغيرها ممّا يدور بين الدول.

والخاصّة، هي التي ترتبط بعلاقة الدولة أو أفراد الشعب مع أتباع دولة اُخرى.

هذه هي ثمانية أنواع من القوانين والحقوق حسب التقسيم الحديث.

الإسلام والحقوق

لقد حظيت الحقوق ـ في الفقه الإسلاميّ ـ بأفضل مكانة في تشريعاته وتعاليمه بل إنّ الحقوق التي رسمها الإسلام وبيّنها على لسان القرآن أو السنّة الشريفة تعتبر من أدقّ، وأمتن الحقوق، وأكثرها إنسانيّة ورحمة وعقلانيّة. غير أنّ هناك ـ مضافاً إلى ذلك ـ خصائص تمتاز بها الحقوق الإسلاميّة عن الحقوق التي تطرحها القوانين البشريّة

٤٥٨

الوضعيّة هي :

أوّلاً: انّ الحقوق والقوانين التي جاء بها الإسلام تستمدّ اُصولها، وجزئياتها من ( الوحي الإلهيّ )، ولذلك فهي لا تقبل التغيير والتبديل، ولكنّ الحقوق التي طرحتها الأنظمة البشريّة فحيث أنّها تنبع من العلم البشريّ المحدود فهي تتعرّض دائماً للتغيير والتطوير لضيق آفاق العقل البشريّ.

ثانياً: أنّ الحقوق في الإسلام حيث تكون تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ونابعة من الملاكات الحقيقيّة فإنّها لا تخضع لأيّ زيادة أو نقصان وأيّ تطوير وتحوير، لانّها تقوم على أساس الواقع الإنسانيّ الثابت، والفطرة الحقيقيّة التي لا تتغيّر، والمصالح والمفاسد الموجودة في أفعال الإنسان وأعماله، ولكنّ الحقوق التي عرضتها الأنظمة والقوانين الوضعيّة حيث تنبع من الأهواء والميول والرغبات الفرديّة أو الجماعيّة فإنّها كثيراً ما تنالها أيدي التطوير والحذف لما يظهر فيها من عجز وضعف.

نعم إنّ القوانين والحقوق الإسلاميّة وإن كان بعضها يتغيّر شكلاً وإطاراً لكنّها لا تتغيّر جوهراً ومضموناً، ولقد أشبعنا القول في هذا الأمر في بحث الخاتميّة(١) .

ثالثاً: إنّ القوانين الإسلاميّة حيث تكون صادرة من مصدر ربّانيّ وتكون موجّهة إلى مؤمنين معتقدين بشرائعه ووعوده ومواعيده تتمتّع طبعاً وبالذات بخاصّية الانقياد النفسيّ والخضوع الكامل والطاعة التامّة لها.

وحيث تكون القوانين الوضعيّة البشريّة صادرة من الأدمغة البشريّة لا يجد الإنسان أي دافع ذاتيّ إلى التقيّد بها وتطبيق العمل عليها إلّا بدافع الإكراه وتحت طائلة القانون، وخوفاً من سلطات الدولة.

ولا يخفى على أي ذي لبّ رجحان الأوّل على الثاني في ميزان الحياة.

ثمّ إنّ اُمّهات هذه التقسيمات الحديثة الثمانية من القوانين والحقوق موجودة

__________________

(١) راجع هذا البحث في الجزء الثالث من المجموعة القرآنيّة التي تفسير الآيات تفسيراً موضوعياً وفي ضوء القرآن.

٤٥٩

بمغزاها في التشريع الإسلاميّ وإن لم تكن تحت العناوين والتسميات الحديثة فالقانون الأساسيّ في الإسلام هو عبارة عن الأحكام والاُصول الكليّة الموجودة في الكتاب والسنّة غير المتغيّرة عبر الزمان والمكان، والتي يجب أن يقوم عليها كلّ تخطيط وتنظيم لحياة المسلمين في جميع المجالات.

أمّا النظام الإداريّ ( وهو القسم الثاني من الحقوق الداخليّة العامّة ) فتجدها مذكورة بتوسّع وتفصيل في كتب الفقه وقد أخذها فقهاء الإسلام من سيرة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وسنّته الشريفة، وسيرة الإمام عليّ وكلماتهعليه‌السلام وغيرهما في المجال الإداريّ والتدبير الحكوميّ، ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على الكثير منها في الكتابين التاليين :

١. الراعي والرعيّة للفكيكيّ.

٢. نظام الحكم والإدارة في الإسلام للقرشيّ وغيرهما.

وأمّا الحقوق والقوانين الجزائيّة فقد ألّف فيها علماء الإسلام المطوّلات والمختصرات التي تحتوي على تفصيلاتها وجزئيّاتها فلاحظ كتب الحدود والقصاص والديات هذا كلّه في مجال الحقوق والقوانين الداخليّة العامّة.

وأمّا الداخليّة الخاصّة الراجعة إلى العلاقات العائليّة والشخصيّة فقد بسط فيها الفقهاء القول تحت عنوان « الأحوال الشخصيّة » والمذكورة ـ قديماً ـ تحت عناوين النكاح والطلاق والميراث والوصايا وما شابهها.

وأمّا ما يرجع إلى القضاء فقد بحث عنها الفقهاء تحت عنوان القضاء والشهادات.

وأمّا ما يرجع إلى ( العلاقات التجاريّة ) فقد بيّن الفقهاء أحكامها المفصّلة في كتبهم تحت العناوين التالية: التجارة، الخيار، السلف، المفلس، الحجر، الضمان، الصلح، العارية، الوديعة، الشركة، المضاربة، المزارعة، المساقاة، الإجارة، الوكالة، الوقف، السبق والرماية.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627