مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228152 / تحميل: 6444
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

المقالة هم جمهور النصارى من الملكانية واليعقوبية، والنسطورية والمقصود أنّه أحد الثلاثة: الأب والإبن وروح القدس أي أنّه ينطبق على كل واحد من الثلاثة وهذا لازم قولهم: إنّ الأب إله، والإبن إله، والروح إله، وهو ثلاثة وهو واحد، ويمثّلون لذلك بقولهم: إنّ زيد بن عمرو إنسان فهناك اُمور ثلاثة هي زيد، وابن عمرو والإنسان، وهناك أمر واحد وهو المنعوت بهذه النعوت.

ويلاحط عليه: أنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، وإنّ المنعوت إن كان واحداً حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة إعتباريّة غير حقيقيّة، فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية كما في المثال بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقله.

ولأجل ذلك التجأ دعاة النصارى في الآونة الأخيرة إلى القول بأنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف وهي لا تخضع للموازين العلميّة(١) .

وقد ردّ الذكر الحكيم على ذلك بقوله:( وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إلّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ) ببيان أنّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية، الكثرة بوجه من الوجوه، فهو تعالى ذاته واحد وإذا اتّصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً، ولا الصفة إذا اُضيفت إليها أورثت كثرة وتعدّداً، فهو تعالى أحديّ الذات لا ينقسم لا في خارج ولا في وهم ولا في عقل.

ويستفاد من قوله:( وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) بحكم الإتيان بلفظ ( منهم ) المشعرة بالتبعيض ـ، أنّ هناك طائفة لا يعتقدون بالتثليث ولا يقولون في المسيح إلّا إنّه عبد الله ورسوله كما عليه مسيحيّة الحبشة بعضهم أو جلّهم.

__________________

(١) الميزان: ج ٤ ص ٧٠.

٢٤١

مشكلة الجمع بين التوحيد والتثليث:

إنّ المسيحيّين يعتبرون أنفسهم موّحدين وإنّهم من المقتفين أثر التوحيد الذي جاءت به جميع الشرائع السماوية، ومن جانب آخر يعتقدون بالتثليث اعتقاداً جازماً، وهذان لا يجتمعان إلّا أن يكون أحد الوصفين حقيقيّاً والآخر مجازيّاً ولكنّهم ياللأسف يقولون بكونهما معاً حقيقيين، ولأجل ذلك أصبحت عندهم: ١ = ٣ وهو محال ببداهة العقل.

والقرآن الكريم ينسب التثليث إلى أقوام آخرين كانوا قبل المسيح والمسيحيّة وهؤلاء إنّما اتّبعوا اُولئك، ولعلّ الثالوث الهندي هو الأصل حيث يعتقدون بأنّ الإله الواحد له مظاهر ثلاثة: « برهما »: « الموجد »، و « فيشفو »: « الحافظ »، و « سيفا »: « المميت » فقد دان بتلك العقيدة المسيحيّون بعد رفع المسيح آماداً متطاولة، ولـمـّا جاء المتأخّرون منهم ورأوا أنّ الوحدة الحقيقية لا تخضع للكثرة كذلك حاولوا أن يصحّحوه بوجهين:

الأوّل: تفكيك المسائل الدينية عن المسائل العلميّة وأنّ الدين فوق العلم وأن مسألة ١ = ٣ وإن كانت باطلة حسب القوانين الرياضية المسلّمة ولكن الدين قبلها ونحن نعتقد بها. ولكنّه عذر أقبح من ذنب فكيف نعتنق ديناً يتصادم مع أوضح الواضحات وأبده البديهيّات.

الثاني: إنّ المعادلة الرياضية السابقة ليست باطلة وذلك لوجود نظائرها في الخارج، فإنّ الشمس بها جرم ولها نور ولها حرارة ومع ذلك فهي شيء واحد.

وهذا الإستدلال يكشف عن جهل مطبق بحقيقة الوحدة المعتبرة في حقه سبحانه فإنّ المقصود منها في حقّه هو الوحدة الحقيقية التي لا كثرة فيها لا خارجاً ولا ذهناً ولا وهماً وأين هو من وحدة الشمس التي هي وحدة إعتبارية لا حقيقية حيث تتركّب من جرم ونور وحرارة وكل منها ينقسم إلى انقسامات.

وعلى كلّ تقدير فماذا يريدون من قولهم ( إنّه إِله واحد ) وفي الوقت نفسه

٢٤٢

ثلاثة، فهل يريدون أنّ هناك أفراداً متميّزة ومتشخّصة من الإله الصادق هو عليهم صدق الكلي على الأفراد ؟

أو يريدون أنّ هناك فرداً واحداً ذا أجزاء وليس لكل واحد منها إستقلال ولا تشخّص وإنّما يتشكّل الإله من تلك الأجزاء ؟

فالفرض الأوّل يستلزم تعدّد الإله تعدّداً حقيقيّاً وهو لا يجتمع مع التوحيد بحال من الحالات.

والفرض الثاني لا يخلو إمّا أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء واجبة الوجود أو ممكنة، فعلى الأوّل يلزم منه كثرة الإله ( واجب الوجود ) وهم يدّعون الفرار منه.

وعلى الثاني يلزم أن يكون واجب الوجود محتاجاً في تحقّقه وتشخّصه إلى أجزاء ممكنة وهو كما ترى.

ولأجل ذلك نرى أنّ الذكر الحكيم ينادي ببطلان التثليث بأيّ نحو يمكن أنّ يتصوّر بقوله:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلاً ) ( النساء / ١٧١ ).

إنّ الآية تركّز على أنّ نسبة الإلوهيّة إلى المسيح من آثار الغلوّ في حقّه فلو تنزّه القوم عن هذا التمادي الفكريّ المفرط لوقفوا على سمة المثالية فيه ونفوا عنه مقام الإلوهية.

والآية تصف المسيح بالصّفات الخمس:

١ ـ عيسى بن مريم ٢ ـ رسول الله ٣ ـ كلمته ٤ ـ ألقاها إلى مريم ٥ ـ روح منه. إنّ بعض هذه الصفات المسلّمة في حق المسيح تشهد بعبوديّته وتنفي الوهيّته وإليك مزيد من التوضيح حولها:

٢٤٣

١ ـ عيسى بن مريم: وقد ورد في الذكر الحكيم ذكره عشر مرّات وبنوّته لمريم التي لا تنفك عن كونه جنيناً رضيعاً في المهد صبيّاً يافعاً و لدليل واضح على بشريّته.

٢ ـ رسول الله: ومعناه مبعوثه ومرسله وليس نفسه.

٣ ـ كلمة الله: وقد أطلق القرآن لفظ الكلمة على المسيح كما أطلقه على جميع الموجودات الإمكانية وقال:( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ) ( الكهف / ١٠٩ ).

وأمّا إطلاق الكلمة على الموجودات الإمكانية لأجل وجود التشابه بين الكلمة والموجود الإمكاني فإنّ الكلمة تكشف عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني فهكذا الموجودات الإمكانية عامّة، وخلقة المسيح على وجه الإعجاز خاصّة تكشف هي الاُخرى عن علم وقدرة وسيعين وكمال لا متناه يكمن في ذاته سبحانه ولأجل ذلك يعد القرآن المسيح وجميع العوالم الإمكانية كلمات الله سبحانه.

٤ ـ ألقاها إلى مريم: إنّ الإلقاء إلى رحم الاُم آية كونه مخلوقاً وقد ذكر تفصيله في سورة مريم، الآية ١٦ إلى ٣٦ واختتمها بقوله:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ( مريم / ٣٤ ).

٥ ـ وروح منه: إنّ هذا التعبير ربّما وقع دليلاً على تطرّف فكرة الاُلوهيّة في حق المسيح وهم يتخيّلون أنّ ( منه ) تبعيضية ولكنّها إبتدائية مثل قوله سبحانه:( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) ( الجاثية / ١٣ ) والمعنى أنّ السموات وما في الأرض جميعاً ناشئ منه وحاصل من عنده، ومبتدأ منه، فذوات الأشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق وكذلك خواصّها وآثارها. قال تعالى:( اللهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ( الروم / ١١ ).

أضف إلى ذلك أنّ ذلك التعبير لا يفوق في حقّ آدم حيث قال:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر / ٢٩ ).

٢٤٤

فقد وصف آدمعليه‌السلام بلفظة « من روحي » ولم يقل أحد بأنّه جزء من الإله.

ثمّ إنّه سبحانه ختم تلك الصفات بقوله:( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) .

سمات العبودية في المسيح:

إنّ الذكر الحكيم يستدل على عبوديته بوجوه ثلاثة:

١ ـ كيفيّة خلق المسيح واُمّه.

٢ ـ طبيعة عيشهما في المجتمع.

٣ ـ تصريح المسيح بعبوديّته.

هذه هي الوجوه التي يستدلّ بها القرآن الكريم على عبوديّته، أمّا الأوّل فقد بسط الذكر الحكيم في تناولها في سورة مريم كما مرّ وهذه الآيات تلقي الضوء على كيفيّة خلقه إلى أن توّج بالرسالة، فيقول سبحانه:

( فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ) إلى أن يقول:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) .

ولو تمّسك الخصم على عدم بشريته بأنّه ولد من غير أب فهو محجوج بخلقة آدم فقد خلق من غير اُمٍّ ووالد، قال سبحانه:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران / ٥٩ ).

وأمّا الثاني فيلمح إليه ما ورد بأنّ المسيح واُمّه كانا يعيشان شأنهما كشأن سائر بني آدم ولا يحيدان عنها قيد شعرة، قال سبحانه:( مَّا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ

٢٤٥

الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) ( المائدة / ٧٥ ) فمن الممتنع أن يكون آكل الطعام إله العالمين.

وأمّا الثالث فيشير إليه قوله سبحانه:( لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ) ( النساء / ١٧٢ ).

وليس بوسع إنسان أن ينكر عبادة المسيح وهي آية وجود المعبود له وهناك كلمة قيّمة للإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا في مناظرته مع الجاثليق، قال الإمام: يا نصراني والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمّد وما ننقم على عيسى شيئاً إلّا ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعفت أمرك وما كنت أظن إلّا أنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضا: وكيف ذلك ؟

قال الجاثليق: من قولك إنّ عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام والصلاة وما أفطر عيسى يوم قطّ وما نام بليل قطّ وما زال صائم الدهر قائم الليل.

قال الرضا: فلمن كان يصوم ويصلّي ؟

فخرس الجاثليق وانقطع(١) الحديث.

إنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ المسيح سوف يعترف يوم البعث بعبوديته على رؤوس الأشهاد وانّه لم يأمر قطّ الناس بعبادة نفسه:

( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / ١١٦ ).

__________________

(١) الاحتجاج: ج ٢ ص ٢٠٣ و ٢٠٤.

٢٤٦

وقال عزّ اسمه حاكياً عنه:( مَا قُلْتُ لَهُمْ إلّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / ١١٧ ).

ج ـ المسيح ابن الله:

قد طرأت أزمة حادّة على خط التوحيد من قبل المشركين واليهود والنّصارى بزعم وجود الابن أو البنت لله سبحانه، فتارة جعلوا بينه وبين الجِنَّة نسباً، واُخرى اتّهموه بأنّه اتّخذ من الملائكة إناثاً، وثالثة نسبوا إليه الولد بصورة مطلقة، وقد جاء الجميع في الذكر الحكيم مشفوعاً بالردّ والنقض:

١ ـ الجن:( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ) ( الصافّات / ١٥٨ ).

وأمّا ما هذا النسب، فيحتمل أن يكون المراد نسب البنوّة والاُبوّة ولأجل ذلك كان جماعة من العرب يعبدون الجن، كما ورد في قوله سبحانه:( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ ) ( سبأ / ٤١ ).

٢ ـ الملائكة:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ) ( الإسراء / ٤٠ ) ولأجل ذلك كان جماعة أيضاً من العرب تعبد الملائكة، وبما أنّهم كانوا يتخيّلون الملائكة على أنّهم خلقوا بصور جذّابة جميلة خالوا إنّهم اُناثاً قال سبحانه:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ) ( الزخرف / ١٩ ).

٣ ـ المسيح: وقد اشتهر النصارى بأنّهم جعلوا « المسيح » إبناً لله تعالى، وهذه الفكرة الخاطئة وإن لم تكن منحصرة فيهم، بل كان لليهود أيضاً مثل تلك الفكرة في حقّ « عزير » لكن النصارى أكثر، اشتهاراً بهذه النسبة، غير نافين عن أنفسهم هذا العار، واليهود يؤوّلون الفكرة بأنّه ولد فخري لا حقيقي.

والقرآن الكريم يندّد بتلك الفكرة في غير واحد من الآيات مشيراً إلى براهين

٢٤٧

عقلية محتاجة إلى التوضيح، وإليك نقل الآيات مع توضيح مضامينها:

١ ـ البقرة / ١١٦ ـ ١١٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ *بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) .

تريك هذه الآية كيف أنّهم نسبوا إلى الله ولداً من غير فرق بين أن يكون الناسب يهوديّاً أو مسيحيّاً، ولكنّ الآيتين تتضمّنان ردّاً لهذه النسبة، يستفاد من الإمعان في الجمل التالية:

١ ـ سبحانه. ٢ ـ بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون.

٣ ـ بديع السموات والأرض. ٤ ـ وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.

وإليك شرح هذه الجمل التي يعد كل واحد منها بمثابة ردّ ونقض للفكرة الخاطئة المصرّحة بالبنوّة لله عزّ وجلّ.

أ ـ « سبحانه »: وهذه الكلمة تفيد تنزيه الله سبحانه من كل نقص وعيب وشائنة، ولأجل ذلك يأتي هذا اللفظ في آية اُخرى بعد بيان تلك النسبة الخاطئة، قال تعالى:( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) ( يونس / ٦٨ ).

واللفظة تفيد أنّ اتّخاذ الولد نقص وعيب على الله تعالى، يجب تنزيهه عنه، وذلك لأنّ اتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لأجل الإستعانة من الولد أيّام الهرم والكهولة، أو لأجل إبقاء النسل وإدامته التي تعد نوع بسط وجود للشخصية، والكل غير لائق بساحته سبحانه.

ويمكن أن يكون اللفظ مشيراً إلى أمر آخر وهو أنّ اتّخاذ الابن فرع التوالد والتناسل وهو من شؤون الموجودات المادية حيث ينتقل جزءً من الأب إلى رحم الاُم فتتّحد نطفة الأب مع البويضة في رحم الاُمّ فتخصّبها فينتج عن ذلك نشأة الجنين والله سبحانه أعلى وأجل وأنبل عن أن يكون جسماً أو جسمانيّاً.

٢٤٨

ب ـ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) :

إنّ هذه الجملة مشعرة ببرهان دامغ وهو أنّ كل ما في الكون قانت لله وخاضع لسلطته ومسخّر ومقهور له ومن هذا شأنه لا يتصوّر أن يكون له ولد وذلك لأنّ الولد يكون مماثلاً للوالد، فكما هو واجب الوجود يكون الولد مشاطراً له في ذلك، وما هو كذلك لا يمكن أن يكون مقهوراً ومسخّراً لموجود من الموجودات.

ج ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) :

أي انّه سبحانه خالق مبدع لهما وما فيهما والمراد من الإبداع هو خلقهما بلا مثال سابق ولا مادّة متقدّمة، فيكون المجموع مسبوقاً بالعدم، وما هو كذلك كيف يمكن أن يكون ولداً لله سبحانه ؟ لما عرفت من أنّ الولد يماثل الوالد في الالوهيّة ووجوب الوجود، وهو لا يجتمع مع كون السموات والأرض وما فيهما مخلوقاً حادثاً مسبوقاً بالعدم.

د ـ( وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) :

وهذه الآية تفيد أنّ سنّة الله تبارك وتعالى في الإيجاد والإنشاء والخلق، وأنّه لو أراد إيجاد شيء فإنّه يوجد بلا تريّث أو تلبّث، ولكنّ الولد إنّما يتكوّن من إلتقاء النطفتين في رحم الاُم ثمّ يتكامل تدريجيّاً على إمتداد أمد بعيد وهذا لا يجتمع مع ما مرّ ذكره في السنّة الحكيمة.

ثمّ إنّ العلّامة الطباطبائي جعل الجمل الثلاث مشيرة إلى برهانين ( لا إلى ثلاثة براهين كما أوضحناه ) فقال:

إنّ قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) يشتمل على برهانين ينفي كلّ منهما الولادة وتحقّق الولد منه سبحانه، فإنّ اتّخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي، بعض أجزاء وجوده ويفصله عن نفسه فيصيّره بتربية تدريجية فرداً من نوعه مماثلاً لنفسه، وهو سبحانه منزّه عن المثل بل كل شيء ممّا في السموات والأرض مملوك له قائم الذات به قانت ذليل عنده ذلّة وجودية فكيف يكون شيء من الأشياء ولداً له

٢٤٩

مماثلاً نوعيّاً بالنسبة إليه ؟ وهو سبحانه بديع السموات والأرض، إنّما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق فلا يشبه شيء من خلقه خلقاً سابقاً ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج والتوّصل بالأسباب إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتّخاذ الولد ؟ وتحقّقه يحتاج إلى تربية وتدريج فقوله:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) برهان تام، وقوله:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) برهان آخر تام(١) .

٢ ـ الأنعام / ١٠٠ ـ ١٠٢:

( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنعام / ١٠٠ ).

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الأنعام / ١٠١ ).

( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( الأنعام / ١٠٢ ).

وفي هذه الآيات إشارات إلى بطلان النظرية القائلة بكون الجن شركاء لله سبحانه وخرق بنين وبنات له بغير علم، وإليك بيانها:

أ ـ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) : وقد مرّ توضيح تلك الجملة في القسم الأوّل من الآيات.

ب ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : وقد تقدّم معناه أيضاً.

ج ـ( أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ) : وهذه الجملة تشير إلى أنّ إتّخاذ الإبن يستلزم اتّخاذ الزوجة حتى يقع جزء من الزوج في رحم الزوجة والله

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ٢٦١.

٢٥٠

سبحانه منزّه، عن أن تكون له زوجة.

د ـ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) : فإذا كان هو خالق كل شيء، والكل مخلوق له فلا يتصوّر كون المخلوق ولداً، لأنّ الولد يشاطر الوالد في الطبيعة والنوعيّة فإذا كان سبحانه واجب الوجود لاستغنى عن العلّة والخالق ولترفّع عن حيز الإمكان، والمفروض خلافه.

٣ ـ يونس / ٦٨:

( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .

وهذه الآية تشتمل على مثل ما اشتملت عليه الآيات السابقة وإليك تفصيل جملها.

أ ـ( سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) : وقد عرفت أنّ إتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لاستعانة به في أيّام الكهولة أو لبسط نفوذ الشخصية، والله غني عن الجميع.

ب ـ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) : وفيه إشارة إلى أنّ كل ما في الكون مقهور ومسخّر فكيف يكون شيء منه ولداً له مع لزوم المماثلة بين الولد والوالد.

ج ـ( إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) : وهو إشارة اُخرى إلى أنّه إنّما تبنّوا هذه الفكرة تقليداً بلا علم وبرهان، وقد تقدّم في الآيات السابقة ( بغير علم سبحانه ).

٤ ـ الكهف / ٤ و ٥:

( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا *مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا ) .

٢٥١

وفي هذه الآية إكتفاء ببرهان واحد وهو أنّ القوم يتفوّهون بذلك بلا علم لهم ولا لآبائهم.

٥ ـ مريم / ٣٥:

( مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) وفي الآية إشارة إلى برهانين أحدهما قوله( سُبْحَانَهُ ) والثاني( إِذَا قَضَىٰ ) ، وقد مرّ تفسيرهما فلا نعيد.

٦ ـ مريم / ٨٨ ـ ٩٥:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ) .

( لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ) .

( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ) .

( أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا ) .

( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) .

( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) .

( لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ) .

( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) .

وقد ركّزت الآيات على برهانين:

أحدهما قولهُ:( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) وهذه الجملة واقعة مكان لفظة( سُبْحَانَهُ ) في الآيات السابقة.

وثانيهما: قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وهو يفيد نفس ما يفيده قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) في الآيات السابقة والمعنى بعد التطبيق واضح ومحصّله أنّ من في الكون عبد

٢٥٢

مسخّر لله سبحانه، وهو لا يجتمع مع كون واحد منهم ولداً له، لأنّه يقتضي المماثلة والمشاركة في الوجوب والإستغناء عن العلّة مع أنّ المفروض كونه ممكناً.

٧ ـ الأنبياء / ٢٦ و ٢٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) .

( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

فلفظة( سُبْحَانَهُ ) مشيرة إلى أنّ اتّخاذ الولد ملازم للنقص والعيب وهو سبحانه منزّه عنه.

وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) إشارة إلى ما مرّ من أنّ العبودية لا تجتمع مع البنوّة لأنّ مقتضى البنوّة، المشاركة والمسانخة مع الوالد في الطبيعة، والمفروض وجوب وجود الوالد فيكون الولد واجباً وهو محال.

٨ ـ المؤمنون / ٩١:

( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ) .

والآية تشير إلى أنّ اتّخاذ الولد ينافي التوحيد والوحدانية لأنّ الولد يجب أن يكون مماثلاً للوالد على نحو ما مرّ ذكره وعندئذ يكون إلهاً مثله، والمفروض أنّه ليس معه إله.

٩ ـ الزمر / ٤:

( لَّوْ أَرَادَ اللهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) .

وفي الآية إشارة إلى دحض تلك العقيدة المنحرفة باُمور ثلاثة:

أ ـ( سُبْحَانَهُ ) .

٢٥٣

ب ـ( الْوَاحِدُ ) .

ج ـ( الْقَهَّارُ ) .

أمّا الأوّل: فدلالته على نفي البنوّة مثل الآيات السابقة.

وأمّا الثاني: أعني كونه واحداً، فهو يدلّ على نفي البنوّة لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم المماثلة بين الأب والولد، فيلزم تعدّد الإله وواجب الوجود.

وأمّا الثالث: أعني كونه قهّاراً وغيره مقهوراً عليه فدلالته مثل دلالة قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وقوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) وذلك لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم أن يكون له مماثل من ذاته لأنّ الولد يماثل الوالد في النوعية والطبيعة فيلزم أن يكون الولد واجب الوجود، والمفروض أنّه مقهور ومسخّر لله سبحانه.

وأنت إذا قارنت هذه الآيات بعضها ببعض لوقفت على أنّ الجميع في المادة والمعنى وكيفيّة الإستدلال مصبوب في قالب واحد بينها كمال الإئتلاف والتناسب، والعبارات الواردة في المقام وإن كانت مختلفة المواضع ولكنّ المؤدّى والمعنى واحد، وتلك الآيات نزلت على النبيّ في ظروف مختلفة وأجواء متباينة والنبيّ لم يزل بين كونه منهمكاً في الحرب وهادئ البال في الصلح والسلم ومع ذلك يتكلّم على نسق واحد مع كونه أمّيّاً لم يقرأ قطّ ولم يكتب. صدق الله العليّ العظيم حيث قال:( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء / ٨٢ ).

قسمة ضيزي:

ومن عجائب اُمورهم أنّهم اتّخذوا لأنفسهم البنين ونسبوا إلى الله عزّ وجلّ الإناث من الملائكة، قال سبحانه:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا ) ( الإسراء / ٤٠ ).

٢٥٤

وقال تعالى:( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ) ( الزخرف / ١٦ ).

وقال تعالى:( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَىٰ *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) ( النجم / ٢١ ـ ٢٢ ).

ثمّ إنّه سبحانه أبطل ادّعاءهم بكون الملائكة إناثاً وقال:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) ( الزخرف / ١٩ ) فكيف يدّعون ما لم يشهدوه ؟!

إلى هنا تمّ حوار القرآن مع اليهود والنّصارى في اتّخاذه سبحانه ولداً من الإنس والجنّ والملائكة، وقوّة البرهان القرآني وإتقانه وتعاضد بعضه بعضاً يدلّ على أنّه وحي إلهي نزل به الروح الأمين على قلبه، وأنّى للإنسان الغارق في الحياة البدائيّة أن يأتي بمثل ذلك لولا كونه مسدّداً بالوحي، مؤيّداً بالمدد الغيبي منه سبحانه.

وإليك بقية المناظرات الواردة في القرآن الكريم.

اليهود ونقض المواثيق والعهود

حطّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله رحاله بالمدينة، والتفّ حوله الأوس والخزرج، ففشى أمر الإسلام وشاع خبره وذكره بين الناس والقبائل القاطنة بأطراف المدينة، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار لليهود ينبئ عن إقتراب اُفول شوكتهم في المدينة وما والاها بل في شبه الجزيرة العربية برمّتها.

وكانت اليهود في سابق عهدها تفتخر على سائر الاُمم بأنّها تقتفي أثر التوحيد وأنّ لهم كتاباً سماويّاً يجمع بين دفّتيه الأحكام الإلهية، ولكنّ تلك المفخرة أوشكت أن تذهب أدراج الرياح بدعوة النبيّ الأكرم الناس كافّة إلى التوحيد الأصيل ونزول القرآن عليه، فما كانت لهم بعد إذ ذاك ميزة يمتازون بها على العرب.

وكانت اليهود لفرط حبّهم للدنيّا وزبرجها تمكّنوا من السيطرة على مقاليد أزّمة

٢٥٥

إدارة التجارة، وكان وجود الشّقة السحيقة بين الأوس والخزرج، والنزاعات القبلية بينهما، خير معين للإنفراد بإدارة دفّة القوافل التجارية، غير أنّ تلك الأرضية التي فسحت لهم المجال لتسلّم زمام التجارة فيما مضىٰ كادت تنعدم بالاُخوّة الإسلامية التي جاء بها الإسلام، فصار المتصارعان متصافيين متآخيين متآلفين في مقابل اليهود وأطماعهم.

كلّ ذلك صار سبباً لتحفيز اليهود لإثارة الشبهات حول رسالة الرسول الأكرم وبثّ السموم وتشوية معالم الرسالة الجديدة ليضعضعوا أركان الإيمان الفتي في قلوب المؤمنين بالإسلام، وقد غاب عن خلدهم أنّ سنّة الله الحكيمة تتكفّل بنصر رسله. قال سبحانه:

( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر / ٥١ ).

وإليك نماذج من أسئلتهم وشبهاتهم التي أثاروها حول الرسالة النبويّة:

١ ـ إفشاء علائم النبوّة:

إنّ أوّل خطوة خطوها لأجل إيقاف مدّ الصحوة الدينية والإيمان برسالة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو إصدار مرسوم يقضي بكتمان علائم نبوّته التي وردت في التوراة حتى لا تقع للمسلمين ذريعة يتمسّكون بها ضدّهم في عزوفهم عن قبول الدعوة، وهذا ما يحكي عنه الذكر الحكيم بقوله:

١ ـ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( البقرة / ٧٦ ).

وروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا: لاتخبروهم بما

٢٥٦

في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيحاجّوكم به عند ربّكم(١) .

وردّ سبحانه عليهم بقوله:( أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) ( البقرة / ٧٧ ) فالله سبحانه يحتجّ بكتابهم عليهم سواء تفوّهوا بسمات النبيّ الأكرم المذكورة في التوراة أم لم يتفوّهوا بها على الرّغم من أنّهم كانوا يستفتحون ويستنصرون على الأوس والخزرج برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل مبعثه فلمّا بعثه الله من بين العرب ولم يكن من بني إسرائيل، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء ابن معرور: يا معشر اليهود اتّقوا الله واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد ونحن أهل الشرك، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث، فقال سلام بن مثكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنّا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى قوله:

( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٨٩ ).

٢ ـ السؤال عن الروح الأمين:

إنّ نفراً من أحبار اليهود جاءوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: يا محمداً أخبرنا عن أربع نسألك عنهنّ، فإن فعلت ذلك اتّبعناك وصدّقناك وآمنّا بك، فقال لهم رسول الله: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدّقنّني ؟ قالوا: نعم، قال: فسألوا عمّا بدا لكم وممّا سألوا عنه نوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: كيف نومك ؟ فقال: تنام عيني وقلبي يقظان. قالوا: فأخبرنا عمّا حرّم إسرائيل على نفسه ؟ قال: حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، فصدّقوه في الإجابة عن هذاين السؤالين، ثمّ قالوا له: فأخبرنا عن الروح ،

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٢٨٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٧

قال: أنشدكم بالله وبأيّامه عند بني إسرائيل هل تعلمونه جبرئيل وهو الذي يأتيني ؟ قالوا: أللّهم نعم، ولكنّه يا محمد لنا عدوّ وهو ملك إنّما يأتي بالشدّة وسفك الدماء ولولا ذلك لاتّبعناك، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم:( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ *مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٩٧ و ٩٨ )(١) .

وما ذكرنا من شأن النزول يؤيّد ما ذكرناه سابقاً من أنّ المقصود من الروح في قوله سبحانه:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) ( الإسراء / ٨٥ ) هو الروح الأمين لا الروح الإنسانية، وأنّ ما اُثير حولها في التفاسير المختلفة مبني على تفسير الروح بالروح الإنسانية وهو غير صحيح.

وعلى أيّ تقدير فنصب العداء لجبرئيل نصب للعداء له سبحانه، لأنّ جبرئيل مأمور من جانبه ومبلّغ عنه هو وجميع الملائكة:( لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم / ٦ ).

٣ ـ إنكار نبوّة سليمانعليه‌السلام :

إنّ رسول الله لـمّا ذكر سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبارهم: ألا تعجبون من محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يزعم أنّ سليمان بن داود كان نبيّاً، والله ما كان إلّا ساحراً، فأنزل الله تعالى في ذلك:( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ( البقرة / ١٠٢ )(٢) .

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٣. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٢٤ ( طبع بيروت ).

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٠. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٣٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٨

٤ ـ كتابه إلى يهود خيبر:

كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يهود خيبر بكتاب جاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه والمصدّق لما جاء به موسى على أنّ الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة، وأنّكم لتجدون ذلك في كتابكم:( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) .

وإنّي انشدكم بالله، وانشدكم بما أنزل عليكم وانشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى، وانشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله إلّا أخبرتموني: هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمّد ؟ فإن كنتم لا تجدوني ذلك في كتابكم فلا كره عليكم( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) فادعوكم إلى الله وإلى نبيّه(١) .

٥ ـ إنكار أخذ الميثاق منهم:

إنّ أحد أحبار اليهود قال لرسول الله: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتّبعك لها، وقد كانوا ينكرون العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبيّ الاُمّي، فأنزل الله سبحانه في ردّهم:( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إلّا الْفَاسِقُونَ *أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة / ٩٩ و ١٠٠ ).

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٤ ـ ٥٤٥.

٢٥٩

ولفظة « كلّما » تفيد التكرّر فيقتضي تكرّر النقض منهم(١) .

٦ ـ الإقتراحات التعجيزيّة:

وقد كان اليهود قد تقدّموا بإقتراحات تعجيزيّة على غرار ما بدر من المشركين فقد سألت العرب محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيهم بالله فيروه جهرة، فنزل قوله سبحانه:( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) ( البقرة / ١٠٨ ).

وقال رافع بن حريملة لرسول الله: يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فيكلّمنا حتى نسمع كلامه، فنزل قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٢) .

٧ ـ تنازع اليهود والنصارى عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

لـمـّا قدم أهل نجران من النصارى على رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسىٰ وبالإنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارىٰ لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله في ذلك قولهم:

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( البقرة / ١١٣ ).

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٣٢٧.

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٩.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

وقالعليه‌السلام : « من كسل عمّا يُصلحُ به أمر معيشته فليس فيه خير لأمر دُنياهُ »(١) .

وقالعليه‌السلام : « ليس منّا من ترك دُنياهُ لآخرته، ولا آخرته لدُنياهُ »(٢) .

وقالعليه‌السلام : « لا تكسل عن معيشتك فتكُون كلاًّ على غيرك ( أو قال: على أهلك ) »(٣) .

وقال الإمام الكاظمعليه‌السلام : « إنّ الله تعالى ليُبغضُ العبد النوّام، إنّ الله تعالى ليُبغضُ العبد الفارغ ( العاطل ) »(٤) .

وحثّ على العمل والسعي والاشتغال بكلّ عمل مفيد كالتجارة والزراعة، والصناعة وما شابهها من الاُمور التي تدرّ على الإنسان بالرزق الحلال وتؤدّي إلى إنعاش الاقتصاد وإليك طائفة من الروايات في هذا المجال :

قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « العبادةُ سبعُون جُزءاً أفضلُها طلبُ الحلال »(٥) .

وقال: « من المـُروّة استصلاحُ المال »(٦) .

وقال: « اتّجرُوا بارك الله لكُم »(٧) .

وقال: « نعم العونُ على تقوى الله الغنى »(٨) .

وروي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمّا أقبل من غزوة تبوك استقبله سعد الانصاريّ فصافحه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال له: « ما هذا الذّي أكبت ( أخشن ) يديك ؟! »

قال يا رسول الله: أضرب بالمرّ والمسحاة فأنفقه على عيالي، فقبّل يده رسول الله، وقال: « هذه يد لا تمسّها النّارُ »(٩) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : « إنّ الله تبارك وتعالى يُحبّ الـمُحترف الأمين »(١٠) .

__________________

(١ و ٣ و ٥ و ٧) الوسائل ١٢: ٥٨، ٣٧، ١٣، ٥.

(٢ و ٤ و ٦ و ٨ و ١٠) من لا يحضره الفقيه ٣: ٩٤، ١٠٣، ١٠٢، ٩٤، ٩٥.

(٩) اُسد الغابة ٢: ٢٦٩.

٤٨١

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « إن الله ليُحبُّ الاغتراب في طلب الرّزق »(١) .

وقال أيضا: « نعم العون: الدّنيا على الآخرة »(٢) .

وقال أيضا: « إنّي لأُحبّ أن أرى الرجُل مُتحرّفاً [ أو متبكّراً ] في طلب الرّزق »(٣) .

وكان الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب يخرج في الهاجرة ( وقت الظهر ) في الحاجة قد كفيها، يريد أن يراه الله يتعب نفسه في طلب الحلال »(٤) .

وقال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « طلبُ الحلال فريضة على كُلّ مُسلم ومُسلمة »(٥) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « كان أمير المُؤمنين يحتطبُ ويستقي ويكنسُ، وكانت فاطمةُ تُطحنُ وتعجنُ وتخبزُ »(٦) .

وقال أيضا: « الكادّ على عياله من حلال كالمـُجاهد في سبيل الله »(٧) .

وقال أيضا: « إصلاحُ المال من الإيمان »(٨) .

وعن الفضل بن أبي قرّة قال: دخلنا على أبي عبد الله [ الصادق ] وهو يعمل في حائط له فقلنا: جعلنا الله فداك دعنا نعمل لك، أو تعمله الغلمان، قال: « لا، دعُوني فإنّي أشتهي أن يراني الله عزّ وجلّ أعملُ بيدي وأطلبُ الحلال في أذى نفسي »(٩) .

وقال: الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام : « إعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً »(١٠) .

وقال: « لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى تكون فيه خصال ثلاث: الفقه في الدّين وحسن التّقدير في المعيشة والصّبر على الرزايا »(١١) .

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) من لا يحضره الفقيه ٣: ٩٤، ٩٥، ٩٥، ٩٩.

(٥) بحار الأنوار ١٠٣: ٩.

(٦ و ٧ و ٨) من لا يحضره الفقيه ٣: ١٠٤.

(٩ و ١٠) من لا يحضره الفقيه ٣: ٩٤ و ٩٨.

(١١) تحف العقول: ٣٢٤.

٤٨٢

وعن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه قال رأيت أبا الحسن [ الكاظم ]عليه‌السلام يعمل في أرض له، وقد استنقعت قدماه في العرق، فقلت له: جعلت فداك أين الرجال ؟ فقالعليه‌السلام : « يا عليّ عمل باليد من هو خير منّي ومن أبي في أرضه » فقلت: من هو ؟ فقال: « رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين وآبائي: كلّهم قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النّبيّين والمرسلين والصّالحين »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « تعرّضوا للتّجارات فإنّ لكم فيها غنىً عمّا في أيدي النّاس »(٢) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « ازرعوا واغرسوا فلا والله ما عمل النّاس عملاً أحلّ ولا أطيب منه »(٣) .

وقال أيضا: « الزّارعون كنوز الأنام يزرعون طيّباً أخرجه الله عزّ وجلّ وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً، وأقربهم منزلةً يدعون المباركين »(٤) .

وقال: « الّذي يطلب من فضل الله عزّ وجلّ ما يكفّ به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل الله »(٥) .

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « طلب الكسب فريضة بعد الفريضة »(٦) .

ولعلّ أجمع ما ورد حول تشجيع الزراعة والصناعة والعناية بالاقتصاد في الإسلام هو ما كتبه الإمام عليّعليه‌السلام في عهده المعروف للأشتر النخعيّ حينما ولاّه على مصر إذ قال: « وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم، لأنّ النّاس كلّهم عيال على الخراج وأهله.

وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣: ٩٨.

(٢ و ٣ و ٤) وسائل الشيعة ١٢: ٤ ـ ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٥) الكافي ٥: ٨٨.

(٦) بحار الأنوار ١٠٣: ١٧.

٤٨٣

يُدركُ إلّا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلّا قليلاً. فإن شكوا ثقلاً أو علّةً أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم ولا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المؤونة عنهم، فإنّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك ».

ثمّ يقول: « ثمّ استوص بالتجّار وذوي الصّناعات وأوص بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفّق ببدنه فإنّهم موادّ المنافع وأسباب المرافق وجلاّبها من المنافع والمطارح في برّك وبحرك وسهلك وجبلك وتفقّد امورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك وأعلم ـ مع ذلك ـ أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكّماً في البياعات وذلك باب مضرّة للعامّة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فانّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرةً بعد نهيك إيّاه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف ».

إلى غير ذلك من الأحاديث والروايات الوافرة التي يضيق بذكرها المجال.

موضع الزهد والتوكّل في الإسلام

ربّما يتوهّم وجود المنافاة بين دعوة الإسلام إلى العمل ونبذ الكسل وما يدلّ على لزوم الزهد والتوكّل على الله في الاُمور، وهذا وهم يقف على بطلانه من له إلمام بالكتاب والسنّة، فإنّ الزهد الذي ندب إليه الإسلام، والتوكّل الذي حثّ عليه ليس بمعنى ترك تحصيل الدنيا وترك الاشتغال والعمل، وإنّما يراد من الزهد عدم التعلّق بالدنيا كما فسّرته الأحاديث الشريفة ومنها قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : « الزّهد في الدّنيا قصر الأمل، وشكر كلّ نعمة والورع عمّا حرّم الله عليك »(١) .

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق: ٢٣٩، ونهج البلاغة: الخطبة رقم ٧٩.

٤٨٤

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « ليس الزّهدُ في الدّنيا بإضاعة المال، ولا بتحريم الحلال بل الزّهدُ في الدّنيا أن لا تكون بما في يدك أوثقُ منك بما في يد الله عزّ وجلّ »(١) .

وعن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « الزّهدُ بين كلمتين من القُرآن: قال الله سُبحانهُ:( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) ومن لم يأس على الماضي، ولم يفرح بالآتي، فقد أخذ الزّهد بطرفيه »(٢) .

وعن الإمام عليّ بن الحسين السجّادعليه‌السلام أنّه جاءه رجل فقال له :

فما الزهد قال: « الزّهدُ عشرُ درجات، فأعلى درجات الزّهد أدنى درجات الرّضا، ألا وإنّ الزّهد في آية من كتاب الله( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) »(٣) .

وأمّا التوكّل على الله فلا يعني ترك العمل بل يعني أن يتوسّل الإنسان بكلّ الأسباب الظاهريّة لقضاء حوائجه، ولكي يرفع كلّ نقص في الأسباب الطبيعيّة يستمدّ المدد والعون من الله، ويستعينه على التوفيق.

إنّ الإنسان المتوكّل يعلم أنّه يعيش في عالم الأسباب والمسبّبات وأنّ إرادة الله تعلّقت بأن يتوصّل الإنسان إلى مقاصده عن طريق هذه الأسباب، فيكون التمسّك بهذه الأسباب أخذاً بأمره، واتّباعاً لقانونه، ولكن حيث إنّ هذه العلل والأسباب قد تقصر عن اداء المطلوب، أو ربما لا يتعرّف الإنسان عليها أو على بعضها أو ربّما يعوقه عائق فإنّ الله يأمر المسلم بأن يتّكل على قدرة الله المطلقة، ويطلب منه العون والمدد على قضاء حوائجه دون أن يقنط أو ييأس اتّجاه هذه المشاكل، ويزداد هذا المعنى وضوحاً إذا علمنا بأنّ الحثّ على التوكّل والأمر به جاء في سياق آيات الجهاد والقتال والمرابطة، والعمل، والاجتهاد وقد خاطب الله ـ في الأغلب ـ به المجاهدين، وإليك طائفة من هذه الآيات، قال سبحانه:( إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق: ٢٣٩.

(٢) نهج البلاغة: الحكم رقم ٤٣٩.

(٣) معاني الأخبار للصدوق: ٢٣٩.

٤٨٥

المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران: ١٢٢ ).

وقال:( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران: ١٧٣ ).

وقال:( نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ *الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ( العنكبوت: ٥٨ ـ ٥٩ ).

وقال:( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) ( آل عمران: ١٥٩ ).

وخلاصة القول: أنّ التوكّل على الله ليس بالمعنى المحرّف الذي ذهب إليه فريق من الناس من أنّه ترك العمل والجهد والسعي، بل يعني أنّ الإنسان قد يواجه في حياته مشكلات يعجز عن التغلّب عليها وتجاوزها فعليه أن يستمد العون من الله تعالى، وبهذا الطريق يحارب اليأس، وتزداد روحه قوّة وصموداً، ويتغلّب على مشكلاته.

وبعبارة اُخرى: إنّ التوكّل هو قسم من التوحيد الأفعالي الذي يعني أن يعتقد المسلم بأنّه لا مؤثّر مستقل في الوجود إلّا الله سبحانه، وأمّا غيره فليست إلّا مؤثّرات وعوامل بإذنه ومشيئته سبحانه، وبهذا لا يكون التوكّل منحصراً في صعاب الاُمور، بل يعمّ هيّنها وصعبها جميعاً لأنّ معناه ـ حينئذ ـ هو أنّ العبد لا يقوم بفعل مهما كان سهلاً أو صعباً إلّا بحول الله وقوّته وإلاّ بعونه وطوله سبحانه وتعالى، وأنّ جميع الأسباب مؤثّرة بإذنه سبحانه، ولعلّ الحديث التالي أوضح برهان على ما ذكرناه في معنى التوكّل مضافاً إلى ما سبق من الأحاديث :

عن عليّ بن عبد العزيز قال: قال أبو عبد الله [ الصادقعليه‌السلام ]: « ما فعل عُمرُ بنُ مُسلم » قلت: جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة، فقال :

« ويحه أما علم أنّ تارك الطّلب لا يستجاب له ».

إنّ قوماً من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمّا نزلت( وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا: قد كفينا، فبلغ

٤٨٦

ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل إليهم وقال: « ما حملكم على ما صنعتم ؟ » فقالوا: يا رسول الله تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، قال: « إنّه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطّلب »(١) .

٣. الإسلام يقرّ مبدأ التنافس

إنّ الإسلام لم يكتف بالحثّ على العمل والسعي بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث أقر التنافس السليم لأنّ ذلك يوجب تفتّح المواهب وتحرّك القابليّات الذي من شأنه تقدّم الاقتصاد، بل وازدهار الحياة، ولذلك فهو يقرّ كلّ ملكيّة حاصلة عن سبب مشروع كائناً من كان صاحبها، فلا يؤمم وسائل الإنتاج بصورة مطلقة لأنّ ذلك يقتل الدوافع الذاتيّة لدى الأفراد، ويقضي على الحوافز الشخصيّة، ويوجب ذلك شلل الاقتصاد كما هو الحال في الأنظمة الاشتراكيّة، ولكنّه منعاً من ظهور الرساميل الكبيرة ـ جدّاً ـ جعل الإسلام المنابع الطبيعيّة ـ التي سيوافيك ذكرها في الأنفال ـ في ملكيّة الدولة الإسلاميّة.

ولا يخفى أنّ الكثير من الرساميل والثروات الضخمة الهائلة جداً تنشأ عادة من استيلاء الأفراد على هذه المنابع واستقلالهم ـ دون الناس ـ باستثمارها واستخراجها دون رقيب، وبلا حساب، ويكفي أن نعرف أنّ في إيران وحدها (٨٠٠) نوعاً من المعادن الغنيّة جدّاً، في حين لا يستثمر سوى عُشر هذه المعادن لا أكثر وهي تشكّل ثروات لا يمكن تحديد عائداتها إطلاقاً ولقد كان استثمار أكثر هذه المعادن في العهد المباد يعود إلى جماعة خاصّة من الرأسماليين الكبار الذين كنزوا من عائداتها ثروات لا تحدّ ولا تعدّ.

إنّ الإسلام بتأميمه للثروات الطبيعيّة وجعلها للعموم منع من ظهور الملكيّات الهائلة.

هذا مضافاً إلى أنّ الدولة الإسلاميّة يجوز لها أن تمنع الأفراد من توظيف الأموال في

__________________

(١) نور الثقلين ٥: ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

٤٨٧

الأقسام الضخمة والكبيرة كالصنائع الاُمّ، وشركات انتاج الطاقة وإسالة المياه، والمواصلات الجويّة وما شابه، ممّا يدرّ بالدخل غير المحدود على أصحاب تلك الأموال، حتّى يمنع من ظهور الفوارق الطبقيّة العميقة الناشئة من حصول أمثال تلك الثروات الهائلة للأفراد.

إنّ الإسلام وإن أقرّ مبدأ التنافس وترك المجال مفتوحاً أمام الساعين والعاملين إلّا أنّ هذا لم يمنعه من تحديد الملكيّة حتّى لا تطغى، فقد منع من ظهور الملكيّات الطائلة بالطرق التالية :

أوّلاً: تأميم المصادر الطبيعيّة وجعلها ملكاً للدولة لا للأفراد.

ثانياً: إنّه جوّز وفقا للمصالح العامّة للدولة الإسلاميّة منع الأفراد من توظيف رؤوس الأموال في الصناعات الكبرى ذات العائدات غير المحدودة.

ثالثاً: فرض الضرائب التصاعديّة الدائميّة، والاستثنائيّة في بعض الأحيان المقتضية لذلك.

رابعاً: تهيئة فرص العمل والتقدّم لجميع الأفراد من الاُمّة بإعطاء المعونات الماليّة لهم، والسماح للجميع بامتلاك وسائل الإنتاج بصورة مستقلّة أو على نحو الشركة حتّى يتخلّص العامل من استثمار أرباب العمل واستغلالهم له، وإجباره على القبول باجور زهيدة، والرضوخ لشروط مجحفة.

٤. الحريّة الاقتصاديّة في النظام الإسلاميّ

إنّ إقرار مبدأ التنافس والدعوة إليه يطرح مسألة الحريّة، إذ بدون الحريّة لا يمكن التنافس، فهل توجد الحريّات في ظلّ الأنظمة غير الإسلاميّة ؟

إنّ مراجعة سريعة للنظريّة والتطبيق تهدينا إلى أنّه لا توجد أيّة حريّات في النظام الاشتراكيّ إطلاقاً، وأمّا في النظام الرأسماليّ فلا تعني الحريّة سوى إطلاق العنان لجماعة خاصّة ومن يدور في فلكهم، في تكديس الثروة كيفما اتّفق والمضي بلا حدود في إشباع

٤٨٨

الشهوات والنزوات الحيوانيّة وإن أضرّت بالأخلاق، وأساءت إلى القيم الإنسانيّة الرفيعة، بينما تخضع ( الحريّة ) في النظام الإسلاميّ لحدود معقولة إنسانيّة، لأنّها لا تعني في منطقه إلّا إفساح المجال للمواهب والقابليّات البشريّة للتكامل، والانطلاق في دروب التقدّم والرقي، والاستفادة من مواهب الله في الطبيعة دون اعتداء على عقيدة الآخرين وأخلاقهم وأمنهم وراحتهم.

إنّ الإسلام يعتقد بحريّة الإنسان في مسكنه ومعمله، وفي كلّ مجالات حياته ولكن في إطار الأخلاق والإنسانيّة وقيم الدين، التي من شأنها توظيف الحريّة في سبيل إسعاد الإنسان.

وقد مرّ مجمل القول في ذلك عند البحث عن خصائص الحكومة الإسلاميّة الخصيصة السادسة.

٥. الإنتاج في إطار الإنسانيّة

إنّ كلا المنهجين ( الرأسماليّ والاشتراكي ) لا يعترفان بمانع ولا حاجز في طريق الإنتاج، فهما يطلبان المزيد منه بالعمل والسعي ويرفضان كلّ قيد وشرط في هذا السبيل إلّا إذا كان يساعد بدوره على تصعيد الإنتاج، واستدرار المزيد من الأرباح والعائدات !! بينما يقيم الإسلام بعض الموانع، ويضع بعض القيود في هذا السبيل، ويقيّد العمل والإنتاج ببعض الشروط والحدود، فلا يمكن للناس أن ينتجوا كل ما تهواه نفوسهم حتّى إذا كان يعود على أخلاقهم وعقيدتهم وحياتهم بسوء أو أذى، فحتّى الأسلحة والوسائل الحربيّة التي يسمح الإسلام بإنتاجها، إنّما يسمح به لأجل الدفاع عن حوزة الإنسان والإنسانيّة، ولأجل تحصين البشر من شرّ أنفسهم، وها هو القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة بقوله:( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ) ( الأنبياء: ٨٠ ).

٤٨٩

٦. العدالة الاجتماعيّة هو الهدف الأسمى

إنّ العدالة الاجتماعيّة هي الأصل والأساس، وهي الهدف الأسمى والمطلب الأعلى في الاقتصاد الإسلاميّ، وهو أصل حاكم على كلّ برامجه، ومقرّراته وتعاليمه.

إنّ تمركز الثروة عند طبقة خاصّة وتكدّسها عند جماعة معدودة أمر مرفوض في منطق الإسلام رفضاً قاطعاً، لأنّه يتنافى وأصل العدالة الاجتماعيّة التي يسعى الإسلام إلى إقامتها ونشرها في المجتمع البشريّ، فيجب على ( الحاكم الإسلاميّ ) أن يخطّط للاقتصاد تخطيطاً يضمن تداول الثروة بين جميع أبناء الاُمّة بصورة عادلة، ويحول دون تداولها بين الأغنياء خاصّة الذي منع عنه القرآن الكريم بقوله:( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ) ( الحشر: ٧ ).

ولأجل ذلك حرّم الإسلام ( الكنز )(١) كما يقول سبحانه:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( التوبة: ٣٤ ).

ولتحقيق هذه العدالة الاجتماعيّة المتوخّاة، يرفض الإسلام أي تمييز واستثناء بين أفراد الاُمّة الإسلاميّة، ومن هنا لا تختصّ المنابع الطبيعيّة التي سنشرحها في الأنفال والأرض منها خاصّة، بفئة دون فئة، أو فرد دون فرد، أو طبقة دون طبقة بل للدولة الإسلاميّة حقّ النظارة وأولويّة الاستفادة منها وصرف عائداتها في مصالح الشعب بلا تمييز ولا استثناء، أو قيام أفراد الشعب بأنفسهم باستثمار تلك المنابع حسب الضوابط التي تستوجبها المصلحة الراهنة.

٧. لا إسراف ولا تبذير

كما أنّ الإسلام خطى خطوة اُخرى في سبيل تحقيق هذه العدالة فنهى عن الإسراف والتبذير لأنّ في ذلك إهدار للطاقات، وتضييع لحقوق الآخرين، وهو أمر

__________________

(١) وللبحث حول حقيقة الكنز وبماذا يتحقّق مجال آخر.

٤٩٠

مخالف لأصل العدالة التي يسعى الإسلام إلى إقامتها. يقول الله سبحانه:( وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا *إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ) ( الاسراء: ٢٦ ـ ٢٧ ).

ويقول سبحانه:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( الأعراف: ٣١ ).

٨. الأخلاق عامل أصيل

إنّ جميع المفاهيم الأخلاقية لا معنى لها ولا مبرّر في النظامين الاقتصادييّن ( الرأسماليّ والاشتراكيّ ) إلّا إذا ساعدت على زيادة الإنتاج وزيادة الاستهلاك وإنجاح الأهداف الاقتصاديّة، بل إنّ الفكر الاشتراكيّ يعتبر الأخلاق وليدة الظروف الاقتصاديّة، وبذلك تعتقد بعدم أصالتها في الحياة البشريّة، ولكن الإسلام يعتبر لهذه المفاهيم أصالة وواقعيّة بصرف النظر عن القضايا الاقتصاديّة وإن كانت ترتبط بها أحياناً.

ولهذا ورد الحثّ عليها حثّاً مطلقاً وأكيداً فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله يحبّ مكارم الأخلاق ويبغض سفسافها »(١) .

وعن أبي عبد الله الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « عليكم بمكارم الأخلاق فإنّ الله عزّ وجلّ يحبّها، وإيّاكم ومذامّ الأخلاق فإنّ الله عزّ وجلّ يبغضها »(٢) .

فالذي يطلب الدنيا وشهواتها ولذائذها ويضحّي في سبيل ذلك بكلّ القيم والأخلاق فهو إنسان في صورته وحيوان في سيرته كما قال الإمام عليّعليه‌السلام : « فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان لا يعرف باب الهدى فيتّبعه ولا باب العمى فيصدّ عنه فذلك ميت الأحياء »(٣) .

__________________

(١) سفينة البحار ١: ٤١١.

(٢) وسائل الشيعة ( كتاب جهاد النفس ) ١١: ١٥٦.

(٣) نهج البلاغة: الخطبة ٨٣.

٤٩١

هذا مضافاً إلى أنّ الإسلام يعتبر العامل الأخلاقيّ خير وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعيّة التي ينشدها، ويعزّي أكثر الانحرافات الاقتصاديّة إلى انعدام الأخلاق الفاضلة والسجايا الإنسانيّة.

٩. الاقتصاد وسيلة لا هدف

إنّ كلا المنهجين الرأسماليّ والاشتراكيّ يجتهدان لتحقيق أهداف ثلاثة لا شيء وراءها :

١. التخطيط لما يجب إنتاجه من البضائع.

٢. التفكير في الكيفيّة التي يجب الإنتاج بها من حيث الوسائل، والقوى العاملة.

٣. التفكير في كيفيّة التوزيع، والتخطيط لذلك.

إنّ أفضل نظام اقتصاديّ في نظر أصحاب هذين النظامين، هو الذي يقدر على ضمان هذه الاُمور الثلاثة وإعطاء الاقتراحات المناسبة لذلك بأحسن وجه، وأمّا ما هو الهدف الأصليّ من تحقيق هذه الأهداف الثلاثة ؟ فلم يفكّر فيه النظامان المذكوران، ولا أنّهما أجابا عليه.

ويمكن أن يقال: إنّ الإجابة على هذا السؤال ليست من اختصاص النظام الاقتصاديّ، بل هو من مسؤوليّة العالم الفلسفيّ، وشؤونه، بيد أنّنا عندما نراجع العالم الماديّ الذي يستند إليه هذان النظامان لا نجد عنده جواباً كذلك.

من هنا لا بدّ أن نعتبر هذه الأهداف الثلاثة مثلّث الضياع والعبث والحيرة فالذي يلاحظ هذا المثلّث: ( العمل لأجل الأكل، والأكل لأجل البقاء، والبقاء لأجل العمل ) لا يرى فيه سوى العبث واللاهدفيّة والضياع.

إنّ مثل هؤلاء مثل سفينة يجهّزها صاحبها بأحسن الوسائل، ويملأها بأنواع الزاد، ويحمل الناس فيها، ثمّ يسافر بها إلى وسط المحيط حيث لا يرى للماء ساحل، ثمّ

٤٩٢

يصير هناك حيران لا يعرف مقصداً، ولا يطلب هدفاً، أو يرجع إلى مكانه الأوّل.

إنّ الذاهبين إلى تلخيص الحياة في الهدف الماديّ مثلهم كمثل هذا الربّان لا يهدفُ من رحلته مقصداً ولا يقصد منها غاية وهل أمر ذلك إلّا في خسار.

أجل، هذا هو كلّ ما يقصده ويسعى إليه النظامان الاقتصاديّان الرأسماليّة والاشتراكيّة: زيادة في الإنتاج، وتخطيط للتوزيع، وتطوير في وسائل الإنتاج، ولا شيء وراء ذلك، ولكنّ الإسلام يعالج هذه المسألة معالجة منطقيّة واقعيّة فهو يعتبر الدنيا مقدّمة للآخرة ومزرعة لها، وأنّ على الإنسان أن لا يحصر اهتمامه في هذه الحياة العابرة، بل يسعى للآخرة دون أن ينسى نصيبه من الدنيا، كما قال الله تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) ( القصص: ٧٧ ).

ولابد هنا من الإشارة إلى المواضيع التي تضمّنتها هذه الآية :

إنّ قوله تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ) يشير إلى أنّ طلب الدنيا يجب أن يكون لأجل الآخرة فتكون الآخرة هي المقصد والغاية، وحيث أمكن أن يتوهّم من هذا الكلام أنّ الإسلام يدعو إلى الرهبنة وترك الدنيا، إستدرك الله سبحانه ذلك بقوله:( وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) فأفاد بذلك أنّه لا رهبانيّة في الإسلام.

فعلى المسلم أن يقصد الآخرة ويهدفها ولكن دون أن ينسى نصيبه من الدنيا إذ لا معاد لمن لا معاش له.

وأمّا قوله سبحانه:( وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ) فهو إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يعلم بأنّ ما وصل إليه إنّما هو بإحسان الله إليه، فعليه أن يقابل ذلك الإحسان بأداء ما افترض الله عليه من حقوق والقيام بما ندبه إليه من واجبات اجتماعيّة.

وقوله سبحانه:( وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) إشارة إلى كيفيّة الإنفاق والمصرف، فعلى المسلم أن لا ينفق في باطل، ولا يسرف ولا يبذّر ولا يعبث ولا يصرف مال الله في لهو أو فساد.

٤٩٣

١٠. الإنسان محور وليس آلة

إنّ للإنسان ـ في الاقتصاد الإسلاميّ ـ مقاماً رفيعاً، وشأناً كبيراً، فهو لم يخلق للإنتاج والاستهلاك، وهو لم يأت إلى هذه الحياة ليكون مسماراً في معمل أو حيواناً مستهلكاً في زريبة. بل هو كائن مكرّم خلقت الأشياء لأجله ولم يخلق هو لأجلها ولذلك فليس الإنسان عبداً أسيراً بيد الاقتصاد، وآلة طيّعة بأيدي الاقتصاديّين ليستغلّوه كيفما شاؤوا، ويستخدموه كيفما أرادوا، كيف وقد جعله الله حرّاً كما قال الإمام عليّعليه‌السلام : « لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً »(١) .

وأيّة عبوديّة أشدّ وأوضح من تعلّق الإنسان بالمال، وفنائه في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك ؟ وهل جاء الإنسان إلى هذه الحياة ليفعل ما تفعله الحيوانات في حظائرها وزرائبها كما يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « ما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها، تكترش من أعلافها، وتلهو عمّا يراد بها، أو اترك سدىً، أو أهمل عابثاً، أو أجرّ حبل الضّلالة أو اعتسف طريق المتاهة »(٢) .

فذلك لا يتفق مع المكانة التي رشّحه الله سبحانه لها، والمقام الذي ندبه إليه، وهو مقام الخلافة الإلهيّة في الأرض، التي صرح بها القرآن الكريم إذ قال:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة: ٣٠ ).

وهو الذي كرّمه الله سبحانه، وفضّله على كثير ممّن خلق إذ قال:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) ( الإسراء: ٧٠ ).

إنّ الإسلام ينظر إلى النوع الإنسانيّ من هذه الزاوية، وبهذا المنظار، فإنّ الإنسان ـ في منطق الإسلام ـ كائن مكرّم، ذو مكانة رفيعة فلا تجوز الاستهانة بقيمته، وتلخيص

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب: الرقم ٣١.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب: الرقم ٤٥.

٤٩٤

حياته ووجوده في الإنتاج والاستهلاك، وتلبية الغرائز الحيوانيّة وإشباعها.

وإذا نظر الإسلام إلى القضيّة الاقتصاديّة والاُمور المعيشيّة من مسكن وغذاء وغيرهما، فلأجل أنّ كرامة الإنسان وتكامله يستدعيان ذلك، وبذلك يكون الاقتصاد في نظر الإسلام وسيلة لا هدفاً، وطريقاً لا غاية ونهاية.

من هنا لا يصحّ ـ مطلقاً ـ أن نتوخّى من الاقتصاد الإسلاميّ، ما نتوقّعه من الاقتصادين الرأسماليّ والاشتراكيّ فإنّ هذين المنهجين ينظران إلى الإنسان بما أنّه ( منتج ) أو ( مستهلك ) ولا تهمّهما كرامته وشخصيّته، ومن هنا كان الاقتصاد في هذين المنهجين هدفاً وغاية، وكان الإنسان فيهما وسيلة وآلة، فلا اعتناء بشأنه، ولا اهتمام بكرامته.

ولا تنس ما ذكرناه في أوّل البحث من أنّ الهدف من هذا الفصل هو بيان مسألة دعوة الإسلام إلى التنمية الاقتصاديّة وبيان إطاراتها دون بيان المنهج الاقتصاديّ للإسلام فإنّ لذلك مجالاً آخر.

٤٩٥

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٤

الحكومة الإسلاميّة

والصحّة الفرديّة والصحّة العامّة

عناية الإسلام بصحّة الأبدان

لم يحصر الإسلام عنايته بالاُمور الاُخرويّة وحدها، بل عمّم هذه العناية للاُمور الماديّة والدنيويّة أيضًا، وعلّم المسلم أن يطلب من الله سبحانه حسنة الدنيا والآخرة:( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ) ( البقرة: ٢٠١).

ومن هنا اهتمّ الإسلام بالجسد اهتمامه بالروح، وحرص على سلامة الأبدان وتقويتها كما حرص على سلامة الأرواح وتقويتها سواء بسواء، ولأجل هذا نجد القرآن الكريم إذا ذكر نعمة الله على أحد من عباده لم يكتف بذكر النعم المعنويّة كالعلم، بل ذكر إلى جانب ذلك نعمة القوّة البدنيّة، والكمال الجسديّ.

فهو عندما يتحدّث عن ( طالوت ) الذي أرسله الله لقيادة بني اسرائيل قال في وصفه:( إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ

٤٩٦

وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة: ٢٤٧ ).

وهو عندما يتحدّث عن أبرز صفتين من صفات موسىعليه‌السلام على لسان ابنة شعيب يذكر أمانته وقوّته الجسمانيّة فيقول:( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) ( القصص: ٢٦ ).

إنّ صاحب الجسم العليل لا تتاح له الفرصة الكاملة للسير صعداً في مضمار الحياة، والقيام بواجبه الإنسانيّ كأيّ عضو سليم، صحيح البدن، معتدل البنية من أعضاء المجتمع البشريّ وذلك للصّلة الوثيقة بين الروح والجسدفي الكيان الإنسانيّ والتأثير المتقابل بينهما ومن هنا مدح القرآن الكريم الكمال الجسمانيّ والقوّة البدنيّة، كما مرّ عليك في الآيتين السابقتين، فإنّ القوّة البدنيّة إذا انضمّت إلى سلامة العقل أنتجت جودة الفكر، وحسن التدبير، وسعادة الحياة ولهذا ذكر القرآن بعد مسألة الاصطفاء والاختيار « العلم والقوّة البدنيّة » إيذاناً وإعلاماً بأنّ الاصطفاء والاختيار كان باعتبار القوّة البدنيّة إلى جانب العلم ممّا يعني أنّ للجسم والكمال الجسمانيّ قسط من الثمن، ومدخليّة في السعادة أو الشقاء سلباً أو إيجاباً.

وانطلاقاً من حرص الإسلام على صحّة الأبدان وسلامتها، وقوّتها واستقامتها يرفع الدين أي تكليف شاقّ مضرّ بالبدن، عن الناس، فرفع الله الصيام عن ( المريض ) و ( المسافر )، إذ يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( البقرة: ١٨٣ ـ ١٨٤ ).

وإنّما رفع الصوم عن المسافر لأنّ السفر بنفسه مضنّة النصب، وهو من مغيّرات الصحّة فإذا وقع فيه الصيام ازداد التعب والنصب ولهذا أيضاً جوّز القرآن للمحرم المريض أو من به أذى في رأسه أن يحلق رأسه إذا كان إبقاء الشعر يوجب الأذى فقال تعالى:( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن

٤٩٧

رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) ( البقرة: ١٩٦ ).

وهو إشارة إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم، للتخلّص من الأذى الحاصل بسبب إبقاء الشعر، وانحباس الحرارة في الرأس، بل يرفع الإسلام كلّ ما يجهد البدن ويتعبه ويضنيه، ويجر إليه التعب والنصب كما يقول القرآن الكريم:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَهَا ) ( البقرة: ٢٨٦ ).

تعاليم القرآن الصحّيّة

وفي هذا السبيل وضع الإسلام سلسلة من التعاليم الصحّية للأبدان من شأنها أن تصون الأبدان من الأمراض، وتقيها من العلل والأسقام لو روعيت حقّ الرعاية وطبقت حقّ التطبيق وقد جاءت طائفة من هذه التعاليم في القرآن الكريم، وتكفّلت السنّة المطهّرة ببيان البقيّة، وها نحن نذكر باختصار ما ذكره القرآن الكريم أوّلا.

لقد حرم القرآن اُموراً ونهى عن اُمور وكره أشياء وأباح اُخرى، وما حرّم ولا نهى، وما كره أو أباح إلّا لحكمة ظاهرة وأثر سيّء أو حسن على سلامة البدن وصحّته، فحرّم أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير بقوله:( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة: ١٧٣ ).

وإنّما حرّم « الميتة » من الحيوان ( وهي التي تفارقها الحياة من دون ذبح ) لأنّ الموت إن كان عن مرض، أضرّ بالإنسان حتّى إذا عقّم لحمها من الجراثيم فهي تسبّب المغص في المعدة، وتسبب النزلات المعويّة، وعشرات المضاعفات الاُخرى.

وحرّم « الدم » لأنّه أفضل مرتع للجراثيم والميكروبات المسبّبة للأمراض الخطيرة.

وحرّم « لحم الخنزير » لما يحدثه من أمراض خطيرة لما يحمله من دودة خاصّة تنتقل بالأكل إلى بدن الإنسان وتحدث لديه أمراضاً كثيرة قد تؤدّي إلى الموت.

وحرّم ـ أيضاً ـ ما يشبه الميتة كالمنخنقة، والموقوذة، والمترديّة، والنطيحة فقال

٤٩٨

سبحانه:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ) ( المائدة: ٣ ).

لأنّ الاختناق يجعل لحم الحيوان المخنوق أسرع إلى التعفّن والفساد.

ومثل المنخنقة، الموقوذة، وهي التي تضرب حتّى تشرف على الموت فتترك حتّى تموت، والمتردّية وهي التي سقطت من مكان مرتفع فماتت من أثر صدمة الوقوع، والنطيحة وهي التي ماتت من أثر عراكها مع مثيلاتها من الحيوانات.

وبالجملة فهذه الحالات تجعل بدن الحيوان مرتعاً خصباً لنموّ الجراثيم والميكروبات، ومعرضاً لسرعة التعفّن والفساد.

ولم يقتصر تحريم الإسلام على هذه الاُمور بل حرّم مطلق الخبائث، إذ قال الله سبحانه:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ) ( الأعراف: ١٥٧ ).

هذا مضافاً إلى أنّه حرّم تناول الخمور ( بل كلّ مسكر(١) كما في الحديث ) بقوله:( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( المائدة: ٩٠ ).

__________________

(١) قال الصادقّعليه‌السلام : « حرّم الله عزّ وجلّ الخمر بعينها وحرّم رسُولُ الله المُسكر من كُلّ شراب فأجاز الله لهُ ذلك كُلّهُ » الكافي ١: ٢٦٦، لقد أسلفنا الكلام في الجزء الأوّل: ٥٥٣ في ماهيّة هذا النوع من التحريم وقلنا: إنّ تحريم رسول الله لشيء يمكن أن يكون بأحد معنيين :

الأوّل: أن يكون طلباً ودعاء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإجابة من الله سبحانه كما يشير بذلك الحديث « فأجاز الله لهُ ذلك ».

الثاني: أن يكون علماً من رسول الله بمناطات الأحكام وملاكاتها الواقعيّة، فعند ذلك يصحّ للرسول أن يحرم المسكر من كلّ شراب لعلمه بمناط الحكم في الخمر.كيف ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أفضل مصاديق من قال فيهم أمير المؤمنينّ عليه‌السلام : « عقلُوا الدّين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية » نهج البلاغة ( طبعة عبده ) الخطبة ٢٣٤.

٤٩٩

وفعل ذلك وقاية للإنسان من كثير من الأمراض والمضاعفات الناجمة عن المسكرات وتخلّصاً من الآثار والعواقب السيئة التي تتركها الخمرة على الجسم والعقل، بل وعلى النسل والذريّة.

كما نهى القرآن الكريم عن الشراهة في الأكل، والإسراف في المطعم والمشرب فقال:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( الأعراف: ٣١ ).

ومن المعلوم أنّ هذه الآية ـ على قصرها ـ تنطوي على أهمّ قانون من قوانين الوقاية الصحيّة، والحفاظ على سلامة البدن، فالإنسان إذا أكثر من الأكل اُصيب بعسر الهضم الذي يستوجب أمراضاً عديدة للمعدة مذكورة في محلّها.

وفي هذا السياق نجد الإسلام يفرض الصوم على المسلمين فيقول:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٨٣ )، لما في الصوم من فوائد عظيمة على البدن عرفها العلم الحديث أخيراً، وأخذ به لعلاج الكثير من الأمراض.

ولم ينته الأمر إلى هذا الحدّ، بل كشف القرآن للناس عمّا ينفعهم أو يشفيهم من بعض الأسقام فأشار إلى العسل فوصفه بأنّ فيه شفاء للأسقام إذ قال:( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( النحل: ٦٨ ـ ٦٩ ).

كما حثّ على اُمور من شأنها أن توفّر الأجواء الصالحة المناسبة لسلامة البدن في الجانب الفرديّ والاجتماعيّ كالتطهّر والنظافة، فحثّ على التزام التنظّف وتعاهده حتّى أنّ أوّل تعليم تلقّاه النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو:( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) ( المدثر: ٤ ).

وقال مادحاً الذين يتطهّرون:( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة: ٢٢٢ ).

وقال:( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ) ( التوبة: ١٠٨ ).

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627