مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن6%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228606 / تحميل: 6455
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

وقالعليه‌السلام : « من كسل عمّا يُصلحُ به أمر معيشته فليس فيه خير لأمر دُنياهُ »(١) .

وقالعليه‌السلام : « ليس منّا من ترك دُنياهُ لآخرته، ولا آخرته لدُنياهُ »(٢) .

وقالعليه‌السلام : « لا تكسل عن معيشتك فتكُون كلاًّ على غيرك ( أو قال: على أهلك ) »(٣) .

وقال الإمام الكاظمعليه‌السلام : « إنّ الله تعالى ليُبغضُ العبد النوّام، إنّ الله تعالى ليُبغضُ العبد الفارغ ( العاطل ) »(٤) .

وحثّ على العمل والسعي والاشتغال بكلّ عمل مفيد كالتجارة والزراعة، والصناعة وما شابهها من الاُمور التي تدرّ على الإنسان بالرزق الحلال وتؤدّي إلى إنعاش الاقتصاد وإليك طائفة من الروايات في هذا المجال :

قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « العبادةُ سبعُون جُزءاً أفضلُها طلبُ الحلال »(٥) .

وقال: « من المـُروّة استصلاحُ المال »(٦) .

وقال: « اتّجرُوا بارك الله لكُم »(٧) .

وقال: « نعم العونُ على تقوى الله الغنى »(٨) .

وروي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمّا أقبل من غزوة تبوك استقبله سعد الانصاريّ فصافحه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال له: « ما هذا الذّي أكبت ( أخشن ) يديك ؟! »

قال يا رسول الله: أضرب بالمرّ والمسحاة فأنفقه على عيالي، فقبّل يده رسول الله، وقال: « هذه يد لا تمسّها النّارُ »(٩) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : « إنّ الله تبارك وتعالى يُحبّ الـمُحترف الأمين »(١٠) .

__________________

(١ و ٣ و ٥ و ٧) الوسائل ١٢: ٥٨، ٣٧، ١٣، ٥.

(٢ و ٤ و ٦ و ٨ و ١٠) من لا يحضره الفقيه ٣: ٩٤، ١٠٣، ١٠٢، ٩٤، ٩٥.

(٩) اُسد الغابة ٢: ٢٦٩.

٤٨١

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « إن الله ليُحبُّ الاغتراب في طلب الرّزق »(١) .

وقال أيضا: « نعم العون: الدّنيا على الآخرة »(٢) .

وقال أيضا: « إنّي لأُحبّ أن أرى الرجُل مُتحرّفاً [ أو متبكّراً ] في طلب الرّزق »(٣) .

وكان الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب يخرج في الهاجرة ( وقت الظهر ) في الحاجة قد كفيها، يريد أن يراه الله يتعب نفسه في طلب الحلال »(٤) .

وقال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « طلبُ الحلال فريضة على كُلّ مُسلم ومُسلمة »(٥) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « كان أمير المُؤمنين يحتطبُ ويستقي ويكنسُ، وكانت فاطمةُ تُطحنُ وتعجنُ وتخبزُ »(٦) .

وقال أيضا: « الكادّ على عياله من حلال كالمـُجاهد في سبيل الله »(٧) .

وقال أيضا: « إصلاحُ المال من الإيمان »(٨) .

وعن الفضل بن أبي قرّة قال: دخلنا على أبي عبد الله [ الصادق ] وهو يعمل في حائط له فقلنا: جعلنا الله فداك دعنا نعمل لك، أو تعمله الغلمان، قال: « لا، دعُوني فإنّي أشتهي أن يراني الله عزّ وجلّ أعملُ بيدي وأطلبُ الحلال في أذى نفسي »(٩) .

وقال: الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام : « إعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً »(١٠) .

وقال: « لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى تكون فيه خصال ثلاث: الفقه في الدّين وحسن التّقدير في المعيشة والصّبر على الرزايا »(١١) .

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) من لا يحضره الفقيه ٣: ٩٤، ٩٥، ٩٥، ٩٩.

(٥) بحار الأنوار ١٠٣: ٩.

(٦ و ٧ و ٨) من لا يحضره الفقيه ٣: ١٠٤.

(٩ و ١٠) من لا يحضره الفقيه ٣: ٩٤ و ٩٨.

(١١) تحف العقول: ٣٢٤.

٤٨٢

وعن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه قال رأيت أبا الحسن [ الكاظم ]عليه‌السلام يعمل في أرض له، وقد استنقعت قدماه في العرق، فقلت له: جعلت فداك أين الرجال ؟ فقالعليه‌السلام : « يا عليّ عمل باليد من هو خير منّي ومن أبي في أرضه » فقلت: من هو ؟ فقال: « رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين وآبائي: كلّهم قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النّبيّين والمرسلين والصّالحين »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « تعرّضوا للتّجارات فإنّ لكم فيها غنىً عمّا في أيدي النّاس »(٢) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « ازرعوا واغرسوا فلا والله ما عمل النّاس عملاً أحلّ ولا أطيب منه »(٣) .

وقال أيضا: « الزّارعون كنوز الأنام يزرعون طيّباً أخرجه الله عزّ وجلّ وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً، وأقربهم منزلةً يدعون المباركين »(٤) .

وقال: « الّذي يطلب من فضل الله عزّ وجلّ ما يكفّ به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل الله »(٥) .

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « طلب الكسب فريضة بعد الفريضة »(٦) .

ولعلّ أجمع ما ورد حول تشجيع الزراعة والصناعة والعناية بالاقتصاد في الإسلام هو ما كتبه الإمام عليّعليه‌السلام في عهده المعروف للأشتر النخعيّ حينما ولاّه على مصر إذ قال: « وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم، لأنّ النّاس كلّهم عيال على الخراج وأهله.

وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣: ٩٨.

(٢ و ٣ و ٤) وسائل الشيعة ١٢: ٤ ـ ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٥) الكافي ٥: ٨٨.

(٦) بحار الأنوار ١٠٣: ١٧.

٤٨٣

يُدركُ إلّا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلّا قليلاً. فإن شكوا ثقلاً أو علّةً أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم ولا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المؤونة عنهم، فإنّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك ».

ثمّ يقول: « ثمّ استوص بالتجّار وذوي الصّناعات وأوص بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفّق ببدنه فإنّهم موادّ المنافع وأسباب المرافق وجلاّبها من المنافع والمطارح في برّك وبحرك وسهلك وجبلك وتفقّد امورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك وأعلم ـ مع ذلك ـ أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكّماً في البياعات وذلك باب مضرّة للعامّة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فانّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرةً بعد نهيك إيّاه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف ».

إلى غير ذلك من الأحاديث والروايات الوافرة التي يضيق بذكرها المجال.

موضع الزهد والتوكّل في الإسلام

ربّما يتوهّم وجود المنافاة بين دعوة الإسلام إلى العمل ونبذ الكسل وما يدلّ على لزوم الزهد والتوكّل على الله في الاُمور، وهذا وهم يقف على بطلانه من له إلمام بالكتاب والسنّة، فإنّ الزهد الذي ندب إليه الإسلام، والتوكّل الذي حثّ عليه ليس بمعنى ترك تحصيل الدنيا وترك الاشتغال والعمل، وإنّما يراد من الزهد عدم التعلّق بالدنيا كما فسّرته الأحاديث الشريفة ومنها قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : « الزّهد في الدّنيا قصر الأمل، وشكر كلّ نعمة والورع عمّا حرّم الله عليك »(١) .

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق: ٢٣٩، ونهج البلاغة: الخطبة رقم ٧٩.

٤٨٤

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « ليس الزّهدُ في الدّنيا بإضاعة المال، ولا بتحريم الحلال بل الزّهدُ في الدّنيا أن لا تكون بما في يدك أوثقُ منك بما في يد الله عزّ وجلّ »(١) .

وعن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « الزّهدُ بين كلمتين من القُرآن: قال الله سُبحانهُ:( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) ومن لم يأس على الماضي، ولم يفرح بالآتي، فقد أخذ الزّهد بطرفيه »(٢) .

وعن الإمام عليّ بن الحسين السجّادعليه‌السلام أنّه جاءه رجل فقال له :

فما الزهد قال: « الزّهدُ عشرُ درجات، فأعلى درجات الزّهد أدنى درجات الرّضا، ألا وإنّ الزّهد في آية من كتاب الله( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) »(٣) .

وأمّا التوكّل على الله فلا يعني ترك العمل بل يعني أن يتوسّل الإنسان بكلّ الأسباب الظاهريّة لقضاء حوائجه، ولكي يرفع كلّ نقص في الأسباب الطبيعيّة يستمدّ المدد والعون من الله، ويستعينه على التوفيق.

إنّ الإنسان المتوكّل يعلم أنّه يعيش في عالم الأسباب والمسبّبات وأنّ إرادة الله تعلّقت بأن يتوصّل الإنسان إلى مقاصده عن طريق هذه الأسباب، فيكون التمسّك بهذه الأسباب أخذاً بأمره، واتّباعاً لقانونه، ولكن حيث إنّ هذه العلل والأسباب قد تقصر عن اداء المطلوب، أو ربما لا يتعرّف الإنسان عليها أو على بعضها أو ربّما يعوقه عائق فإنّ الله يأمر المسلم بأن يتّكل على قدرة الله المطلقة، ويطلب منه العون والمدد على قضاء حوائجه دون أن يقنط أو ييأس اتّجاه هذه المشاكل، ويزداد هذا المعنى وضوحاً إذا علمنا بأنّ الحثّ على التوكّل والأمر به جاء في سياق آيات الجهاد والقتال والمرابطة، والعمل، والاجتهاد وقد خاطب الله ـ في الأغلب ـ به المجاهدين، وإليك طائفة من هذه الآيات، قال سبحانه:( إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق: ٢٣٩.

(٢) نهج البلاغة: الحكم رقم ٤٣٩.

(٣) معاني الأخبار للصدوق: ٢٣٩.

٤٨٥

المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران: ١٢٢ ).

وقال:( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران: ١٧٣ ).

وقال:( نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ *الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ( العنكبوت: ٥٨ ـ ٥٩ ).

وقال:( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) ( آل عمران: ١٥٩ ).

وخلاصة القول: أنّ التوكّل على الله ليس بالمعنى المحرّف الذي ذهب إليه فريق من الناس من أنّه ترك العمل والجهد والسعي، بل يعني أنّ الإنسان قد يواجه في حياته مشكلات يعجز عن التغلّب عليها وتجاوزها فعليه أن يستمد العون من الله تعالى، وبهذا الطريق يحارب اليأس، وتزداد روحه قوّة وصموداً، ويتغلّب على مشكلاته.

وبعبارة اُخرى: إنّ التوكّل هو قسم من التوحيد الأفعالي الذي يعني أن يعتقد المسلم بأنّه لا مؤثّر مستقل في الوجود إلّا الله سبحانه، وأمّا غيره فليست إلّا مؤثّرات وعوامل بإذنه ومشيئته سبحانه، وبهذا لا يكون التوكّل منحصراً في صعاب الاُمور، بل يعمّ هيّنها وصعبها جميعاً لأنّ معناه ـ حينئذ ـ هو أنّ العبد لا يقوم بفعل مهما كان سهلاً أو صعباً إلّا بحول الله وقوّته وإلاّ بعونه وطوله سبحانه وتعالى، وأنّ جميع الأسباب مؤثّرة بإذنه سبحانه، ولعلّ الحديث التالي أوضح برهان على ما ذكرناه في معنى التوكّل مضافاً إلى ما سبق من الأحاديث :

عن عليّ بن عبد العزيز قال: قال أبو عبد الله [ الصادقعليه‌السلام ]: « ما فعل عُمرُ بنُ مُسلم » قلت: جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة، فقال :

« ويحه أما علم أنّ تارك الطّلب لا يستجاب له ».

إنّ قوماً من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمّا نزلت( وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا: قد كفينا، فبلغ

٤٨٦

ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل إليهم وقال: « ما حملكم على ما صنعتم ؟ » فقالوا: يا رسول الله تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، قال: « إنّه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطّلب »(١) .

٣. الإسلام يقرّ مبدأ التنافس

إنّ الإسلام لم يكتف بالحثّ على العمل والسعي بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث أقر التنافس السليم لأنّ ذلك يوجب تفتّح المواهب وتحرّك القابليّات الذي من شأنه تقدّم الاقتصاد، بل وازدهار الحياة، ولذلك فهو يقرّ كلّ ملكيّة حاصلة عن سبب مشروع كائناً من كان صاحبها، فلا يؤمم وسائل الإنتاج بصورة مطلقة لأنّ ذلك يقتل الدوافع الذاتيّة لدى الأفراد، ويقضي على الحوافز الشخصيّة، ويوجب ذلك شلل الاقتصاد كما هو الحال في الأنظمة الاشتراكيّة، ولكنّه منعاً من ظهور الرساميل الكبيرة ـ جدّاً ـ جعل الإسلام المنابع الطبيعيّة ـ التي سيوافيك ذكرها في الأنفال ـ في ملكيّة الدولة الإسلاميّة.

ولا يخفى أنّ الكثير من الرساميل والثروات الضخمة الهائلة جداً تنشأ عادة من استيلاء الأفراد على هذه المنابع واستقلالهم ـ دون الناس ـ باستثمارها واستخراجها دون رقيب، وبلا حساب، ويكفي أن نعرف أنّ في إيران وحدها (٨٠٠) نوعاً من المعادن الغنيّة جدّاً، في حين لا يستثمر سوى عُشر هذه المعادن لا أكثر وهي تشكّل ثروات لا يمكن تحديد عائداتها إطلاقاً ولقد كان استثمار أكثر هذه المعادن في العهد المباد يعود إلى جماعة خاصّة من الرأسماليين الكبار الذين كنزوا من عائداتها ثروات لا تحدّ ولا تعدّ.

إنّ الإسلام بتأميمه للثروات الطبيعيّة وجعلها للعموم منع من ظهور الملكيّات الهائلة.

هذا مضافاً إلى أنّ الدولة الإسلاميّة يجوز لها أن تمنع الأفراد من توظيف الأموال في

__________________

(١) نور الثقلين ٥: ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

٤٨٧

الأقسام الضخمة والكبيرة كالصنائع الاُمّ، وشركات انتاج الطاقة وإسالة المياه، والمواصلات الجويّة وما شابه، ممّا يدرّ بالدخل غير المحدود على أصحاب تلك الأموال، حتّى يمنع من ظهور الفوارق الطبقيّة العميقة الناشئة من حصول أمثال تلك الثروات الهائلة للأفراد.

إنّ الإسلام وإن أقرّ مبدأ التنافس وترك المجال مفتوحاً أمام الساعين والعاملين إلّا أنّ هذا لم يمنعه من تحديد الملكيّة حتّى لا تطغى، فقد منع من ظهور الملكيّات الطائلة بالطرق التالية :

أوّلاً: تأميم المصادر الطبيعيّة وجعلها ملكاً للدولة لا للأفراد.

ثانياً: إنّه جوّز وفقا للمصالح العامّة للدولة الإسلاميّة منع الأفراد من توظيف رؤوس الأموال في الصناعات الكبرى ذات العائدات غير المحدودة.

ثالثاً: فرض الضرائب التصاعديّة الدائميّة، والاستثنائيّة في بعض الأحيان المقتضية لذلك.

رابعاً: تهيئة فرص العمل والتقدّم لجميع الأفراد من الاُمّة بإعطاء المعونات الماليّة لهم، والسماح للجميع بامتلاك وسائل الإنتاج بصورة مستقلّة أو على نحو الشركة حتّى يتخلّص العامل من استثمار أرباب العمل واستغلالهم له، وإجباره على القبول باجور زهيدة، والرضوخ لشروط مجحفة.

٤. الحريّة الاقتصاديّة في النظام الإسلاميّ

إنّ إقرار مبدأ التنافس والدعوة إليه يطرح مسألة الحريّة، إذ بدون الحريّة لا يمكن التنافس، فهل توجد الحريّات في ظلّ الأنظمة غير الإسلاميّة ؟

إنّ مراجعة سريعة للنظريّة والتطبيق تهدينا إلى أنّه لا توجد أيّة حريّات في النظام الاشتراكيّ إطلاقاً، وأمّا في النظام الرأسماليّ فلا تعني الحريّة سوى إطلاق العنان لجماعة خاصّة ومن يدور في فلكهم، في تكديس الثروة كيفما اتّفق والمضي بلا حدود في إشباع

٤٨٨

الشهوات والنزوات الحيوانيّة وإن أضرّت بالأخلاق، وأساءت إلى القيم الإنسانيّة الرفيعة، بينما تخضع ( الحريّة ) في النظام الإسلاميّ لحدود معقولة إنسانيّة، لأنّها لا تعني في منطقه إلّا إفساح المجال للمواهب والقابليّات البشريّة للتكامل، والانطلاق في دروب التقدّم والرقي، والاستفادة من مواهب الله في الطبيعة دون اعتداء على عقيدة الآخرين وأخلاقهم وأمنهم وراحتهم.

إنّ الإسلام يعتقد بحريّة الإنسان في مسكنه ومعمله، وفي كلّ مجالات حياته ولكن في إطار الأخلاق والإنسانيّة وقيم الدين، التي من شأنها توظيف الحريّة في سبيل إسعاد الإنسان.

وقد مرّ مجمل القول في ذلك عند البحث عن خصائص الحكومة الإسلاميّة الخصيصة السادسة.

٥. الإنتاج في إطار الإنسانيّة

إنّ كلا المنهجين ( الرأسماليّ والاشتراكي ) لا يعترفان بمانع ولا حاجز في طريق الإنتاج، فهما يطلبان المزيد منه بالعمل والسعي ويرفضان كلّ قيد وشرط في هذا السبيل إلّا إذا كان يساعد بدوره على تصعيد الإنتاج، واستدرار المزيد من الأرباح والعائدات !! بينما يقيم الإسلام بعض الموانع، ويضع بعض القيود في هذا السبيل، ويقيّد العمل والإنتاج ببعض الشروط والحدود، فلا يمكن للناس أن ينتجوا كل ما تهواه نفوسهم حتّى إذا كان يعود على أخلاقهم وعقيدتهم وحياتهم بسوء أو أذى، فحتّى الأسلحة والوسائل الحربيّة التي يسمح الإسلام بإنتاجها، إنّما يسمح به لأجل الدفاع عن حوزة الإنسان والإنسانيّة، ولأجل تحصين البشر من شرّ أنفسهم، وها هو القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة بقوله:( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ) ( الأنبياء: ٨٠ ).

٤٨٩

٦. العدالة الاجتماعيّة هو الهدف الأسمى

إنّ العدالة الاجتماعيّة هي الأصل والأساس، وهي الهدف الأسمى والمطلب الأعلى في الاقتصاد الإسلاميّ، وهو أصل حاكم على كلّ برامجه، ومقرّراته وتعاليمه.

إنّ تمركز الثروة عند طبقة خاصّة وتكدّسها عند جماعة معدودة أمر مرفوض في منطق الإسلام رفضاً قاطعاً، لأنّه يتنافى وأصل العدالة الاجتماعيّة التي يسعى الإسلام إلى إقامتها ونشرها في المجتمع البشريّ، فيجب على ( الحاكم الإسلاميّ ) أن يخطّط للاقتصاد تخطيطاً يضمن تداول الثروة بين جميع أبناء الاُمّة بصورة عادلة، ويحول دون تداولها بين الأغنياء خاصّة الذي منع عنه القرآن الكريم بقوله:( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ) ( الحشر: ٧ ).

ولأجل ذلك حرّم الإسلام ( الكنز )(١) كما يقول سبحانه:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( التوبة: ٣٤ ).

ولتحقيق هذه العدالة الاجتماعيّة المتوخّاة، يرفض الإسلام أي تمييز واستثناء بين أفراد الاُمّة الإسلاميّة، ومن هنا لا تختصّ المنابع الطبيعيّة التي سنشرحها في الأنفال والأرض منها خاصّة، بفئة دون فئة، أو فرد دون فرد، أو طبقة دون طبقة بل للدولة الإسلاميّة حقّ النظارة وأولويّة الاستفادة منها وصرف عائداتها في مصالح الشعب بلا تمييز ولا استثناء، أو قيام أفراد الشعب بأنفسهم باستثمار تلك المنابع حسب الضوابط التي تستوجبها المصلحة الراهنة.

٧. لا إسراف ولا تبذير

كما أنّ الإسلام خطى خطوة اُخرى في سبيل تحقيق هذه العدالة فنهى عن الإسراف والتبذير لأنّ في ذلك إهدار للطاقات، وتضييع لحقوق الآخرين، وهو أمر

__________________

(١) وللبحث حول حقيقة الكنز وبماذا يتحقّق مجال آخر.

٤٩٠

مخالف لأصل العدالة التي يسعى الإسلام إلى إقامتها. يقول الله سبحانه:( وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا *إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ) ( الاسراء: ٢٦ ـ ٢٧ ).

ويقول سبحانه:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( الأعراف: ٣١ ).

٨. الأخلاق عامل أصيل

إنّ جميع المفاهيم الأخلاقية لا معنى لها ولا مبرّر في النظامين الاقتصادييّن ( الرأسماليّ والاشتراكيّ ) إلّا إذا ساعدت على زيادة الإنتاج وزيادة الاستهلاك وإنجاح الأهداف الاقتصاديّة، بل إنّ الفكر الاشتراكيّ يعتبر الأخلاق وليدة الظروف الاقتصاديّة، وبذلك تعتقد بعدم أصالتها في الحياة البشريّة، ولكن الإسلام يعتبر لهذه المفاهيم أصالة وواقعيّة بصرف النظر عن القضايا الاقتصاديّة وإن كانت ترتبط بها أحياناً.

ولهذا ورد الحثّ عليها حثّاً مطلقاً وأكيداً فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله يحبّ مكارم الأخلاق ويبغض سفسافها »(١) .

وعن أبي عبد الله الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « عليكم بمكارم الأخلاق فإنّ الله عزّ وجلّ يحبّها، وإيّاكم ومذامّ الأخلاق فإنّ الله عزّ وجلّ يبغضها »(٢) .

فالذي يطلب الدنيا وشهواتها ولذائذها ويضحّي في سبيل ذلك بكلّ القيم والأخلاق فهو إنسان في صورته وحيوان في سيرته كما قال الإمام عليّعليه‌السلام : « فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان لا يعرف باب الهدى فيتّبعه ولا باب العمى فيصدّ عنه فذلك ميت الأحياء »(٣) .

__________________

(١) سفينة البحار ١: ٤١١.

(٢) وسائل الشيعة ( كتاب جهاد النفس ) ١١: ١٥٦.

(٣) نهج البلاغة: الخطبة ٨٣.

٤٩١

هذا مضافاً إلى أنّ الإسلام يعتبر العامل الأخلاقيّ خير وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعيّة التي ينشدها، ويعزّي أكثر الانحرافات الاقتصاديّة إلى انعدام الأخلاق الفاضلة والسجايا الإنسانيّة.

٩. الاقتصاد وسيلة لا هدف

إنّ كلا المنهجين الرأسماليّ والاشتراكيّ يجتهدان لتحقيق أهداف ثلاثة لا شيء وراءها :

١. التخطيط لما يجب إنتاجه من البضائع.

٢. التفكير في الكيفيّة التي يجب الإنتاج بها من حيث الوسائل، والقوى العاملة.

٣. التفكير في كيفيّة التوزيع، والتخطيط لذلك.

إنّ أفضل نظام اقتصاديّ في نظر أصحاب هذين النظامين، هو الذي يقدر على ضمان هذه الاُمور الثلاثة وإعطاء الاقتراحات المناسبة لذلك بأحسن وجه، وأمّا ما هو الهدف الأصليّ من تحقيق هذه الأهداف الثلاثة ؟ فلم يفكّر فيه النظامان المذكوران، ولا أنّهما أجابا عليه.

ويمكن أن يقال: إنّ الإجابة على هذا السؤال ليست من اختصاص النظام الاقتصاديّ، بل هو من مسؤوليّة العالم الفلسفيّ، وشؤونه، بيد أنّنا عندما نراجع العالم الماديّ الذي يستند إليه هذان النظامان لا نجد عنده جواباً كذلك.

من هنا لا بدّ أن نعتبر هذه الأهداف الثلاثة مثلّث الضياع والعبث والحيرة فالذي يلاحظ هذا المثلّث: ( العمل لأجل الأكل، والأكل لأجل البقاء، والبقاء لأجل العمل ) لا يرى فيه سوى العبث واللاهدفيّة والضياع.

إنّ مثل هؤلاء مثل سفينة يجهّزها صاحبها بأحسن الوسائل، ويملأها بأنواع الزاد، ويحمل الناس فيها، ثمّ يسافر بها إلى وسط المحيط حيث لا يرى للماء ساحل، ثمّ

٤٩٢

يصير هناك حيران لا يعرف مقصداً، ولا يطلب هدفاً، أو يرجع إلى مكانه الأوّل.

إنّ الذاهبين إلى تلخيص الحياة في الهدف الماديّ مثلهم كمثل هذا الربّان لا يهدفُ من رحلته مقصداً ولا يقصد منها غاية وهل أمر ذلك إلّا في خسار.

أجل، هذا هو كلّ ما يقصده ويسعى إليه النظامان الاقتصاديّان الرأسماليّة والاشتراكيّة: زيادة في الإنتاج، وتخطيط للتوزيع، وتطوير في وسائل الإنتاج، ولا شيء وراء ذلك، ولكنّ الإسلام يعالج هذه المسألة معالجة منطقيّة واقعيّة فهو يعتبر الدنيا مقدّمة للآخرة ومزرعة لها، وأنّ على الإنسان أن لا يحصر اهتمامه في هذه الحياة العابرة، بل يسعى للآخرة دون أن ينسى نصيبه من الدنيا، كما قال الله تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) ( القصص: ٧٧ ).

ولابد هنا من الإشارة إلى المواضيع التي تضمّنتها هذه الآية :

إنّ قوله تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ) يشير إلى أنّ طلب الدنيا يجب أن يكون لأجل الآخرة فتكون الآخرة هي المقصد والغاية، وحيث أمكن أن يتوهّم من هذا الكلام أنّ الإسلام يدعو إلى الرهبنة وترك الدنيا، إستدرك الله سبحانه ذلك بقوله:( وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) فأفاد بذلك أنّه لا رهبانيّة في الإسلام.

فعلى المسلم أن يقصد الآخرة ويهدفها ولكن دون أن ينسى نصيبه من الدنيا إذ لا معاد لمن لا معاش له.

وأمّا قوله سبحانه:( وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ) فهو إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يعلم بأنّ ما وصل إليه إنّما هو بإحسان الله إليه، فعليه أن يقابل ذلك الإحسان بأداء ما افترض الله عليه من حقوق والقيام بما ندبه إليه من واجبات اجتماعيّة.

وقوله سبحانه:( وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) إشارة إلى كيفيّة الإنفاق والمصرف، فعلى المسلم أن لا ينفق في باطل، ولا يسرف ولا يبذّر ولا يعبث ولا يصرف مال الله في لهو أو فساد.

٤٩٣

١٠. الإنسان محور وليس آلة

إنّ للإنسان ـ في الاقتصاد الإسلاميّ ـ مقاماً رفيعاً، وشأناً كبيراً، فهو لم يخلق للإنتاج والاستهلاك، وهو لم يأت إلى هذه الحياة ليكون مسماراً في معمل أو حيواناً مستهلكاً في زريبة. بل هو كائن مكرّم خلقت الأشياء لأجله ولم يخلق هو لأجلها ولذلك فليس الإنسان عبداً أسيراً بيد الاقتصاد، وآلة طيّعة بأيدي الاقتصاديّين ليستغلّوه كيفما شاؤوا، ويستخدموه كيفما أرادوا، كيف وقد جعله الله حرّاً كما قال الإمام عليّعليه‌السلام : « لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً »(١) .

وأيّة عبوديّة أشدّ وأوضح من تعلّق الإنسان بالمال، وفنائه في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك ؟ وهل جاء الإنسان إلى هذه الحياة ليفعل ما تفعله الحيوانات في حظائرها وزرائبها كما يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « ما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها، تكترش من أعلافها، وتلهو عمّا يراد بها، أو اترك سدىً، أو أهمل عابثاً، أو أجرّ حبل الضّلالة أو اعتسف طريق المتاهة »(٢) .

فذلك لا يتفق مع المكانة التي رشّحه الله سبحانه لها، والمقام الذي ندبه إليه، وهو مقام الخلافة الإلهيّة في الأرض، التي صرح بها القرآن الكريم إذ قال:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة: ٣٠ ).

وهو الذي كرّمه الله سبحانه، وفضّله على كثير ممّن خلق إذ قال:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) ( الإسراء: ٧٠ ).

إنّ الإسلام ينظر إلى النوع الإنسانيّ من هذه الزاوية، وبهذا المنظار، فإنّ الإنسان ـ في منطق الإسلام ـ كائن مكرّم، ذو مكانة رفيعة فلا تجوز الاستهانة بقيمته، وتلخيص

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب: الرقم ٣١.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب: الرقم ٤٥.

٤٩٤

حياته ووجوده في الإنتاج والاستهلاك، وتلبية الغرائز الحيوانيّة وإشباعها.

وإذا نظر الإسلام إلى القضيّة الاقتصاديّة والاُمور المعيشيّة من مسكن وغذاء وغيرهما، فلأجل أنّ كرامة الإنسان وتكامله يستدعيان ذلك، وبذلك يكون الاقتصاد في نظر الإسلام وسيلة لا هدفاً، وطريقاً لا غاية ونهاية.

من هنا لا يصحّ ـ مطلقاً ـ أن نتوخّى من الاقتصاد الإسلاميّ، ما نتوقّعه من الاقتصادين الرأسماليّ والاشتراكيّ فإنّ هذين المنهجين ينظران إلى الإنسان بما أنّه ( منتج ) أو ( مستهلك ) ولا تهمّهما كرامته وشخصيّته، ومن هنا كان الاقتصاد في هذين المنهجين هدفاً وغاية، وكان الإنسان فيهما وسيلة وآلة، فلا اعتناء بشأنه، ولا اهتمام بكرامته.

ولا تنس ما ذكرناه في أوّل البحث من أنّ الهدف من هذا الفصل هو بيان مسألة دعوة الإسلام إلى التنمية الاقتصاديّة وبيان إطاراتها دون بيان المنهج الاقتصاديّ للإسلام فإنّ لذلك مجالاً آخر.

٤٩٥

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٤

الحكومة الإسلاميّة

والصحّة الفرديّة والصحّة العامّة

عناية الإسلام بصحّة الأبدان

لم يحصر الإسلام عنايته بالاُمور الاُخرويّة وحدها، بل عمّم هذه العناية للاُمور الماديّة والدنيويّة أيضًا، وعلّم المسلم أن يطلب من الله سبحانه حسنة الدنيا والآخرة:( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ) ( البقرة: ٢٠١).

ومن هنا اهتمّ الإسلام بالجسد اهتمامه بالروح، وحرص على سلامة الأبدان وتقويتها كما حرص على سلامة الأرواح وتقويتها سواء بسواء، ولأجل هذا نجد القرآن الكريم إذا ذكر نعمة الله على أحد من عباده لم يكتف بذكر النعم المعنويّة كالعلم، بل ذكر إلى جانب ذلك نعمة القوّة البدنيّة، والكمال الجسديّ.

فهو عندما يتحدّث عن ( طالوت ) الذي أرسله الله لقيادة بني اسرائيل قال في وصفه:( إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ

٤٩٦

وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة: ٢٤٧ ).

وهو عندما يتحدّث عن أبرز صفتين من صفات موسىعليه‌السلام على لسان ابنة شعيب يذكر أمانته وقوّته الجسمانيّة فيقول:( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) ( القصص: ٢٦ ).

إنّ صاحب الجسم العليل لا تتاح له الفرصة الكاملة للسير صعداً في مضمار الحياة، والقيام بواجبه الإنسانيّ كأيّ عضو سليم، صحيح البدن، معتدل البنية من أعضاء المجتمع البشريّ وذلك للصّلة الوثيقة بين الروح والجسدفي الكيان الإنسانيّ والتأثير المتقابل بينهما ومن هنا مدح القرآن الكريم الكمال الجسمانيّ والقوّة البدنيّة، كما مرّ عليك في الآيتين السابقتين، فإنّ القوّة البدنيّة إذا انضمّت إلى سلامة العقل أنتجت جودة الفكر، وحسن التدبير، وسعادة الحياة ولهذا ذكر القرآن بعد مسألة الاصطفاء والاختيار « العلم والقوّة البدنيّة » إيذاناً وإعلاماً بأنّ الاصطفاء والاختيار كان باعتبار القوّة البدنيّة إلى جانب العلم ممّا يعني أنّ للجسم والكمال الجسمانيّ قسط من الثمن، ومدخليّة في السعادة أو الشقاء سلباً أو إيجاباً.

وانطلاقاً من حرص الإسلام على صحّة الأبدان وسلامتها، وقوّتها واستقامتها يرفع الدين أي تكليف شاقّ مضرّ بالبدن، عن الناس، فرفع الله الصيام عن ( المريض ) و ( المسافر )، إذ يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( البقرة: ١٨٣ ـ ١٨٤ ).

وإنّما رفع الصوم عن المسافر لأنّ السفر بنفسه مضنّة النصب، وهو من مغيّرات الصحّة فإذا وقع فيه الصيام ازداد التعب والنصب ولهذا أيضاً جوّز القرآن للمحرم المريض أو من به أذى في رأسه أن يحلق رأسه إذا كان إبقاء الشعر يوجب الأذى فقال تعالى:( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن

٤٩٧

رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) ( البقرة: ١٩٦ ).

وهو إشارة إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم، للتخلّص من الأذى الحاصل بسبب إبقاء الشعر، وانحباس الحرارة في الرأس، بل يرفع الإسلام كلّ ما يجهد البدن ويتعبه ويضنيه، ويجر إليه التعب والنصب كما يقول القرآن الكريم:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَهَا ) ( البقرة: ٢٨٦ ).

تعاليم القرآن الصحّيّة

وفي هذا السبيل وضع الإسلام سلسلة من التعاليم الصحّية للأبدان من شأنها أن تصون الأبدان من الأمراض، وتقيها من العلل والأسقام لو روعيت حقّ الرعاية وطبقت حقّ التطبيق وقد جاءت طائفة من هذه التعاليم في القرآن الكريم، وتكفّلت السنّة المطهّرة ببيان البقيّة، وها نحن نذكر باختصار ما ذكره القرآن الكريم أوّلا.

لقد حرم القرآن اُموراً ونهى عن اُمور وكره أشياء وأباح اُخرى، وما حرّم ولا نهى، وما كره أو أباح إلّا لحكمة ظاهرة وأثر سيّء أو حسن على سلامة البدن وصحّته، فحرّم أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير بقوله:( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة: ١٧٣ ).

وإنّما حرّم « الميتة » من الحيوان ( وهي التي تفارقها الحياة من دون ذبح ) لأنّ الموت إن كان عن مرض، أضرّ بالإنسان حتّى إذا عقّم لحمها من الجراثيم فهي تسبّب المغص في المعدة، وتسبب النزلات المعويّة، وعشرات المضاعفات الاُخرى.

وحرّم « الدم » لأنّه أفضل مرتع للجراثيم والميكروبات المسبّبة للأمراض الخطيرة.

وحرّم « لحم الخنزير » لما يحدثه من أمراض خطيرة لما يحمله من دودة خاصّة تنتقل بالأكل إلى بدن الإنسان وتحدث لديه أمراضاً كثيرة قد تؤدّي إلى الموت.

وحرّم ـ أيضاً ـ ما يشبه الميتة كالمنخنقة، والموقوذة، والمترديّة، والنطيحة فقال

٤٩٨

سبحانه:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ) ( المائدة: ٣ ).

لأنّ الاختناق يجعل لحم الحيوان المخنوق أسرع إلى التعفّن والفساد.

ومثل المنخنقة، الموقوذة، وهي التي تضرب حتّى تشرف على الموت فتترك حتّى تموت، والمتردّية وهي التي سقطت من مكان مرتفع فماتت من أثر صدمة الوقوع، والنطيحة وهي التي ماتت من أثر عراكها مع مثيلاتها من الحيوانات.

وبالجملة فهذه الحالات تجعل بدن الحيوان مرتعاً خصباً لنموّ الجراثيم والميكروبات، ومعرضاً لسرعة التعفّن والفساد.

ولم يقتصر تحريم الإسلام على هذه الاُمور بل حرّم مطلق الخبائث، إذ قال الله سبحانه:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ) ( الأعراف: ١٥٧ ).

هذا مضافاً إلى أنّه حرّم تناول الخمور ( بل كلّ مسكر(١) كما في الحديث ) بقوله:( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( المائدة: ٩٠ ).

__________________

(١) قال الصادقّعليه‌السلام : « حرّم الله عزّ وجلّ الخمر بعينها وحرّم رسُولُ الله المُسكر من كُلّ شراب فأجاز الله لهُ ذلك كُلّهُ » الكافي ١: ٢٦٦، لقد أسلفنا الكلام في الجزء الأوّل: ٥٥٣ في ماهيّة هذا النوع من التحريم وقلنا: إنّ تحريم رسول الله لشيء يمكن أن يكون بأحد معنيين :

الأوّل: أن يكون طلباً ودعاء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإجابة من الله سبحانه كما يشير بذلك الحديث « فأجاز الله لهُ ذلك ».

الثاني: أن يكون علماً من رسول الله بمناطات الأحكام وملاكاتها الواقعيّة، فعند ذلك يصحّ للرسول أن يحرم المسكر من كلّ شراب لعلمه بمناط الحكم في الخمر.كيف ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أفضل مصاديق من قال فيهم أمير المؤمنينّ عليه‌السلام : « عقلُوا الدّين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية » نهج البلاغة ( طبعة عبده ) الخطبة ٢٣٤.

٤٩٩

وفعل ذلك وقاية للإنسان من كثير من الأمراض والمضاعفات الناجمة عن المسكرات وتخلّصاً من الآثار والعواقب السيئة التي تتركها الخمرة على الجسم والعقل، بل وعلى النسل والذريّة.

كما نهى القرآن الكريم عن الشراهة في الأكل، والإسراف في المطعم والمشرب فقال:( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( الأعراف: ٣١ ).

ومن المعلوم أنّ هذه الآية ـ على قصرها ـ تنطوي على أهمّ قانون من قوانين الوقاية الصحيّة، والحفاظ على سلامة البدن، فالإنسان إذا أكثر من الأكل اُصيب بعسر الهضم الذي يستوجب أمراضاً عديدة للمعدة مذكورة في محلّها.

وفي هذا السياق نجد الإسلام يفرض الصوم على المسلمين فيقول:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٨٣ )، لما في الصوم من فوائد عظيمة على البدن عرفها العلم الحديث أخيراً، وأخذ به لعلاج الكثير من الأمراض.

ولم ينته الأمر إلى هذا الحدّ، بل كشف القرآن للناس عمّا ينفعهم أو يشفيهم من بعض الأسقام فأشار إلى العسل فوصفه بأنّ فيه شفاء للأسقام إذ قال:( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( النحل: ٦٨ ـ ٦٩ ).

كما حثّ على اُمور من شأنها أن توفّر الأجواء الصالحة المناسبة لسلامة البدن في الجانب الفرديّ والاجتماعيّ كالتطهّر والنظافة، فحثّ على التزام التنظّف وتعاهده حتّى أنّ أوّل تعليم تلقّاه النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو:( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) ( المدثر: ٤ ).

وقال مادحاً الذين يتطهّرون:( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة: ٢٢٢ ).

وقال:( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ) ( التوبة: ١٠٨ ).

٥٠٠

والطهارة المذكورة أعمّ من طهارة النفس والجسد، وتنظيف الباطن والظاهر.

وينبّه القرآن الكريم إلى دور الماء في النظافة والطهارة فيقول:( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) ( الفرقان: ٤٨ ).

ومن أجل هذا فرض الإسلام الوضوء فدعى إلى التوضّؤ قبل كلّ صلاة، أي في اليوم خمس مرّات ( مضافاً إلى كونه بنفسه عبادة ) إذ قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة: ٦ ).

ودعا إلى الاغتسال والاستحمام عند الجنابة فقال:( وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ) ( المائدة: ٦ ).

أو التيمّم بالتراب الطاهر بدلاً عن الغسل أو الوضوء إذا تعذّر الماء، أو تعسّر استعماله فقال:( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ) ( المائدة: ٦ ).

وذلك لأنّ التراب الطاهر يصون الجسم من الميكروبات، مضافاً إلى أنّ التيمّم بالتراب يتضمّن الخضوع لله سبحانه وهو بنفسه عبادة.

وقد فرض الإسلام هذه الأنواع من الطهارات لأنّها طريق إلى نظافة الجسم وهي بدورها طريق إلى الحفاظ على سلامته ولذلك قال القرآن معقّباً على الأمر بالوضوء أو الاغتسال أو التيمّم:( مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة: ٦ ).

وهي إشارة واضحة إلى الهدف من هذه الطهارات.

ومن هذا الباب نهى الإسلام عن مقاربة النساء ( الأزواج ) وهنّ في حالة ( المحيض ) وقاية عن الأمراض الجسمية والمعنويّة الناجمة عن ذلك فيقول:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ

٥٠١

المُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة: ٢٢٢ ).

وهو أمر أكّده الطبّ الحديث، وكشف عن أضراره بالنسبة إلى الزوج والزوجة معاً، فإنّ الدم الفاسد الذي تفرزه المرأة أثناء العادة الشهريّة يحتوي على ميكروبات عديدة وجراثيم متنوّعة لا تلبث أن تصيب الرجل فتحدث له الالتهابات، كمّا أنّه في زمن المحيض تحتقن أغشية المرأة الداخليّة، وفي المقاربة الجنسيّة قد يحدث لها التمزّق فتنتشر العدوى من الميكروبات، وتؤثّر في صحّة المرأة، وتضّر بها، وقد تسبّب لها السرطان، بسبب التمزّق كما يقول العلم الحديث.

كما نهى الإسلام عن ( الزنا ) وقاية من كثير من الأمراض الجنسيّة إذ يقول سبحانه:( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) ( الإسراء: ٣٢ ).

فالزنا ـ مضافاً إلى أنّها توجّه ضربة كبيرة إلى العلاقات الاجتماعيّة السليمة، والقيم الأخلاقيّة الرفيعة، تسبّب أمراضاً جنسيّة خطيرة كالزهريّ والقرحة والسيلان للرجل والمرأة كليهما.

هذه هي أهمّ التعاليم الصحيّة التي يشير إليها القرآن الكريم، وهي توافق في نتائجها، وفلسفتها، وعللها، أحدث ما توصّل إليه العلم الحديث.

الصحّة في السنّة المطهّرة

لقد حفلت السنّة المطهّرة المرويّة عن النبيّ والأئمّة من أهل البيت بطائفة كبيرة جداً من التعاليم الصحيّة سواء في مجال الوقاية، أو النظافة، أو العلاج وسواء في مجال الصحّة الفرديّة أو العامّة، وقد دوّنت هذه التعاليم وجمعت هذه الأحاديث القيّمة في الكتب والمؤلّفات التي ألّفها علماء الإسلام حول الطبّ، وقوانين الصحّة فجاؤوا في هذا المضمار بما يكشف عن أنّ الإسلام سبق العلم الحديث في وضع برنامج كامل للصحّة لا يعرف له مثيل وإليك فيما يأتي أسماء بعض تلك المؤلّفات الخاصّة بطبّ النبيّ وأهل بيته الطاهرين :

٥٠٢

١. طبّ النبيّ: للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهانيّ، المتوفّى عام ( ٤٣٠ ه‍ ).

٢. طبّ النبيّ: للشيخ الإمام أبي العبّاس المستغفريّ، ينقل عنه المحقّق الطوسي في آداب المتعلّمين.

٣. طبّ النبيّ: لأبي الوزير أحمد الأبهريّ، وينقل عنه العلاّمة المجلسيّ في كتاب العترة من بحار الأنوار.

٤. طبّ أهل البيت: للسيّد أبي محمّد زيد بن عليّ بن الحسين. تلميذ شيخ الطائفة الطوسيّ.

٥. طبّ الإمام الصادق: جمعه الطبيب الماهر محمّد بن صادق الرازيّ طبع عام ( ١٣٧٤ ه‍ ).

٦. طبّ الرضا: الموسوم بالرسالة الذهبيّة، أورد تمامه العلاّمة المجلسيّ في مجلّد السماء والعالم من موسوعته بحار الأنوار.

وأنت إذا راجعت الكتب الحديثيّة للفريقين وبالأخصّ ما ألّفه علماء الشيعة ومؤلّفوهم، وجدت اهتماماً خاصّاً من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين بسلامة الأبدان وعافيتها.

كما أنّك إذا راجعت الكتب الحديثيّة والفقهيّة الإسلاميّة وجدت فيها أبواباً خاصّة ترتبط بهذا الجانب الحيويّ من الحياة الفرديّة والاجتماعيّة مثل كتاب الأطعمة والأشربة، وكتاب الزيّ والتجمّل وهما بابان واسعان عقدهما صاحب وسائل الشيعة، والكافي في كتابيهما، ومثل كتاب مكارم الأخلاق للطبرسيّ(١) المخصّص لهذا الجانب

__________________

(١) وهو الشيخ أبو نصر رضي الدين الحسن الطبرسيّ وهو نجل العلاّمة الطبرسيّ صاحب تفسير مجمع البيان وقد طبع مرّة بالحروف في مطبعة بولاق سنة ( ١٣٠٠ ه‍ ) ومرّة بالحروف في مطبعة الخيريّة سنة ( ١٣٠٣ ه‍ ) وبهامشه طهارة الأعراق لابن مسكويه ثمّ طبع عدّة مرّات والمؤلّف من أعلام المائة السادسة.

٥٠٣

وغير ذلك من الأبواب، والكتب وإليك بعض الأحاديث المرويّة عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المكرمين: في مجال الطبّ، والوقايّة الصحيّة، وقضايا السلامة الجسديّة، ونقتصر في ذلك على المهمّات :

قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « المعدة بيت الدّاء والحميّة هي الدّواء، وعوّد البدن ما اعتاد ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة تفزع إليهم في أمر دنياهم وآخرتهم، فإن عدموا كانوا همجاً: فقيه عالم ورع وأمير خيّر مطاع وطبيب بصير ثقة ».

وروي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « إنّ في صحّة البدن فرح الملائكة ومرضاة الرّبّ وتثبيت السّنّة ».

وأنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا خير في الحياة إلّا مع الصّحّة ».

وفي مجال العلاج والمداواة قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « تجنّب الدّواء ما احتمل بدنك الدّاء، فإذا لم يحتمل الدّاء، فالدّواء ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إمش بدائك ما مشى بك ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « من ظهرت صحّته على سقمه فعالج نفسه بشيء فمات، أنا إلى الله بريء منه ».

وفي رواية اُخرى: « فشرب الدّواء فقد أعان على نفسه ».

وكلّ الأحاديث تشير إلى أنّ على الإنسان أن لا يستعمل الدواء إلّا للضرورة لأنّ الدواء لا يسكن داء إلّا ويثير آخر وفي هذا الصدد قال الإمام عليّعليه‌السلام : « ليس من دواء إلّا وهو يهيّجُ داءً ».

ولكنّ المعالجة والمداواة مطلوبة على كلّ حال، ولهذا يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : « تداوُوا فما أنزل الله داءً إلّا وأنزل معه الدّواء إلّا السّام ( أي الموت ) ».

٥٠٤

ثمّ إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة: يشيرون إلى أنّ أهمّ عامل من عوامل المرض هو الأكل غير المعتدل، والمطعم غير المستقيم قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما ملا ابنُ آدم وعاءً شرّاً من بطنه، وبحسب ابن آدم لُقيمات يُقمن صُلبهُ، فإن كان لا بُدّ فثُلث لطعامه، وثُلث لشرابه، وثُلث لنفسه ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام لكميل: « صحّةُ الجسم من قلّة الطّعام وقلّة الماء.

يا كُميلُ لا تُوقرن معدتك طعاماً ودع فيها للماء موضعاً ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لو اقتصد النّاسُ في المطعم لاستقامت أبدانُهُم ».

ثمّ إنّ الوصايا والتعاليم الصحيّة التي بيّنها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته تنقسم إلى نوعين :

النوع الأوّل: ما يرتبط بالصحّة الفرديّة.

النوع الثاني: ما يرتبط بالصحّة العامّة.

ونحن وإن قسّمنا هذه التعاليم إلى فرديّة واجتماعيّة، لكن الحقيقة أنّهما متداخلتان، إذ أنّ استقامة الصحّة الفرديّة تضمن استقامة الصحّة العامّة، وهكذا بالعكس، فالتقسيم الموجود ليس تقسيماً حقيقيّاً.

التعاليم الصحيّة الفرديّة

لقد اعتنى الإسلام على لسان النبيّ وأهل بيته المطهّرين بالصحّة الفرديّة عناية بالغة تفوق الوصف فسنّوا اُمواراً وأعمالا من شأنها ـ إذا روعيت ـ أن تقي الإنسان كثيراً من الأمراض والأسقام، وتهيّء جوّاً سليم ورائعاً من الصحّة، والعافية، ففي مجال المطعم والمشرب نهى النبيّ عن أكل الطعام الحار فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « برّد الطعام فإنّ الحارّ لا بركة فيه ».

ونهى عن النفخ في الطعام فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « النّفخُ في الطعام يُذهبُ بالبركة ».

٥٠٥

ونهى الإمام الصادقعليه‌السلام عن ترك العشاء فقال: « أصلُ خراب البدن تركُ العشاء ».

ودعا إلى غسل اليدين قبل الطعام فقال: « من غسل يده قبل الطعام وبعده عاش في سعة وعوفي من بلوى في جسده ».

ونهى عن كثرة الأكل فقال: « كثرة الأكل مكروه ».

وقال: « الأكل على الشّبع يورث البرص ».

ودعا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الافتتاح بالملح والاختتام به عند الطعام فقال: « يا عليّ افتتح بالملح واختتم به فإنّه شفاء من سبعين داءً منها الجنون والجذام والبرص ووجع الحلق ووجع الأمراض ووجع البطن ».

وقال: « افتتحوا بالملح واختتموا به وإلاّ فلا تلوموا إلّا أنفسكم ».

وحول آداب الشرب وكيفيّته السليمة: يقول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يشربنّ أحدكم الماء من عروة الإناء فإنّه مجتمع الوسخ ».

وقال: « لا يشرب من عند عروته ( أي عروة الكوز أو الأناء ) ولا من كسر إن كان فيه ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لا تشربوا الماء من ثلمة الأناء ولا من عروته فإنّ الشيطان يقعد على العروة والثلمة ».

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « مصّوا الماء مصّاً ولا تعبّوه عبّاً فإنّه يوجد منه الكباد » ( مرض يصيب الكبد ).

وقال الإمام الرضاعليه‌السلام : « من أراد أن لا تؤذيه معدته فلا يشرب بين طعامه ماءً حتّى يفرغ، ومن فعل ذلك رطب بدنه وضعفت معدته ولم تأخذ العروق قوّة الطّعام فإنّه يصير في المعدة فحا إذا صبّ الماء على الطعام أوّلاً فأوّلا ».

وفي مجال مضغ الطعام قال الإمام عليّعليه‌السلام في وصيّته لابنه الحسنعليه‌السلام : « وجوّد المضغ ».

٥٠٦

وفي مجال العناية بالملبس: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من اتّخذ ثوباً فليطهّره » وفي رواية « فلينظّفه » وقال الصادقعليه‌السلام : « النّظيف من الثّياب يذهب الهمّ والحزن ».

وقال في جواب من سأله هل يجوز أن يكون للمؤمن عشرة ثياب: « نعم وثلاثون فليس هذا من السّرف ».

وقال: « لبس الخفّ يزيد في قوّة البصر ».

وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : « لبس الخفّ أمان من السّل ».

وفي مجال العناية بالحذاء: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إدمان لبس الخفّ ( أي الحذاء ) أمان من الجذام، شتاءً وصيفاً ».

وقال: « من اتّخذ نعلاً فليستجدها ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إستجادة الحذاء وقاية للبدن ».

وحول نظافة المسكن وسعته: قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « من سعادة المرء حسن مجلسه وسعة فنائه، ونظافة متوضّئه ».

وقالعليه‌السلام : « من الشّقاء المسكن الضيّق ».

وقالعليه‌السلام : « من سعادة المرء المسلم سعة المنزل ».

وقالعليه‌السلام : « غسل الإناء، وكسح الفناء ( أي كنس البيت ) مجلبة للرّزق ».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اكنسوا أفنيتكم ولا تشبّهوا باليهود ».

وقال الإمام عليعليه‌السلام : « لا تأووا التّراب ( أي القاذورات ) خلف الباب فإنّه مأوى للشّياطين »(١) .

وقالعليه‌السلام : « نظّفوا بيوتكم من حول العنكبوت فإنّ تركه في البيت يورث

__________________

(١) لقد وردت كلمة ( الشيطان ) في كثير من الروايات الصحيّة، وحيث إنّ الشيطان كائن يترقّب منه الشرّ ويضرّ بالإنسان فاستعير لفظه في هذه الأحاديث للجراثيم والميكروبات التي تضرّ بالحياة البشريّة ولا يستبعد ذلك بل يلمسه كلّ من له إلمام بالأحاديث الإسلاميّة.

كما أنّ إطلاق الجن عليها من باب أنّ الجن في اللغة هو الموجود الذي لا يرى بالعين.

٥٠٧

الفقر ».

وقال: « لا تبيّتوا القمامة في بيوتكم فأخرجوها نهاراً فإنّها مقعد الشّيطان ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام حول المناديل الوسخة ووجودها في البيت: « لا تأووا منديل اللحم في البيت، فإنّه مربض الشّيطان ».

وحول تنظيف شعر الرأس وتمشيطه وتسريحه أو استئصاله قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كثرة تسريح الرأس تجلب الرّزق و ».

وقال: « مشط الرأس يذهب بالوباء ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « استأصل شعرك يقلّ درنه، ودوابه ووسخه، ويجلو بصرك ويستريح بدنك ».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من اتّخذ شعراً فليحسن ولايته أو ليجزّه ».

وحول تقليم الأظفار قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « تقليم الأظفار يمنع الدّاء الأعظم ويدرّ الرّزق ».

وقال: « من أدمن أخذ أظفاره كلّ خميس لم ترمد عينه ».

وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : « إنّ أستر وأخفى ما يسلّط الشّيطان على ابن آدم أن صار يسكن تحت الأظافير ».

وقال: « تقليم الأظفار يوم الجمعة يؤمّن من الجذام والبرص والعمى ».

وقال: « إنّما قصّ الأظفار لأنّها مقيل الشّيطان ومنه يكون النسيان ».

وحول شعر الأبط والشارب الذي يكون موضعاً مناسباً وصالحاً لنموّ الجراثيم قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يطوّلنّ أحدكم شعر أبطه فإنّ الشيطان يتّخذه مخبئاً يستتر به ».

وقال: « لا يطوّلنّ أحدكم شاربه فإنّ الشيطان يتّخذه مخبئاً يستتر به ».

وفي مجال العناية بالعين دعا الإسلام إلى التكّحل وغير ذلك فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الكحل ينبت الشّعر، ويحفظ الدمعة ويعذب الريق ويجلو البصر ».

وفي مجال العناية بالاسنان دعا إلى تنظيفها باستمرار وذلك بالسواك والمضمضة

٥٠٨

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لولا أن أشققّ على امّتي لأمرتهم بالسّواك ( أي لأوجبته عليهم وجوباً ) ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « في السّواك عشرُ خصال ( أي فوائد ): مطهرة للفم، ومرضاة للرّب، ومُفرحة للملائكة وهو من السّنة، ويشُدّ اللّثّة ويجلُو البصر، ويذهبُ بالبلغم، ويذهبُ بالحُفر ».

وحول الاستحمام وغسل الرأس قال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : « الحمّامُ يوم ويوم لا، يُكثرُ اللّحم ».

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « غسلُ الرّأس بالخطميّ في كُلّ جُمعة أمان من البرص والجُنُون والصُداع وطهُور للرّأس من الخزار ( أي القرع ) ».

وحول الختان قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « طهّرُوا أولادكُم اليوم السابع فإنّهُ أطيبُ وأطهرُ وأسرعُ لنبات اللحم ».

وحول عدة اُمور اُخرى من هذا الباب قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« خمس من السُنن في الرّأس وخمس في الجسد.

فأمّا التي في الرّأس فالسّواكُ وأخذُ الشّارب وفرقُ الشعر والمضمضةُ والاستنشاق.

وأمّا التي في الجسد فالختانُ وحلقُ العانة ونتفُ الأبطين وتقليمُ الأظفاروالاستنجاءُ »(١) .

هذا هو بعض ما أمكن إيراده من التعاليم والتوصيات في مجال الصحّة الفرديّة، والسلامة الشخصيّة، وهي غيض من فيض، وقليل من كثير، وإنّما ألمحنا إلى ذلك للإلفات إلى جانب من البرنامج الصحّي في النظام الإسلاميّ وأعرضنا عن الإلمام الكامل بتلك التعاليم رعاية للاختصار.

__________________

(١) وسنوقّفك على مصادر تلك الأحاديث قريباً.

٥٠٩

التعاليم الصحيّة العامّة

للإسلام تعاليم وبرامج صحيّة عامّة توجب مراعاتها حفظ الصحّة العامّة، وعدم انتقال الأمراض، وسرايتها وهي تعتبر من أفضل وأعظم البرامج الوقائيّة التي عرفها العالم اليوم.

فقد دعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى دفن كلّ ما من شأنه أن يلوّث الهواء والجوّ كالأشياء التي تنفصل من الإنسان من الفضلات والزوائد، فعن عائشة قالت :

( انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان: الشعر والظفر والدم والحيض والمشيمة والسنّ والعلقة ).

ونهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الفرار من الطاعون إذا جاء في بلد، وحكمة ذلك أن لا يسري المرض إلى بلد آخر، فتنتشر العدوى وتتعرّض السلامة العامّة للخطر.

فقال: « إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا نزل وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها »(١) .

وقال للوقاية من العدوى أيضا: « لا يورد ممرض على مصحّ ».

وقال: « فرّ من المجذوم فرارك من الأسد ».

ومن هذا الباب نهى الإسلام عن الاشتراك في المنديل فقد روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « كانت لأمير المؤمنينعليه‌السلام خرقة يمسح بها إذا توضّأ للصّلاة ثمّ يعلّقها على وتد ولا يمسحه غيره ».

ومن هذا الباب أيضا أوجب الإسلام إزالة النجاسة عن المساجد، كما أوجب دفن الأموات، ونزح البئر إذا سقط فيها شيء نجس أو مات فيه حيوان، كما نهى عن تعاطي النجاسات وبيعها وشرائها ومنها الخمر، قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ».

__________________

(١) رواه أصحاب السنن، وتاريخ الطبريّ ٤: ٥٧، طبع دار المعارف شرح حوادث سنة ( ٢٧ ه‍ ).

٥١٠

هذا ولعلّ من أبرز ما يدلّ على عناية الإسلام بالصحّة العامّة هو حثّه البالغ على الزواج لأنّ الزواج لو تحقّق بصورة سليمة تكفّل شطراً كبيراً من سلامة الفرد والجماعة. إذ الزواج علاج طبيعيّ مفيد لكثير من المفاسد الخلقيّة والصحيّة التي تصيب المجتمع كما أنّه علاج ناجع لكثير من الادواء التي قد تصيب الأفراد نتيجة الحيادة العزوبيّة وما تتركه هذه الحالة من الآثار السيّئة على الصحّة.

الزواج والصحّة

لقد أصبحت قضيّة الزواج وبعدها الصحيّ الآن علماً مستقلاً من علوم الصحّة ألّفت حوله الكثير من الدراسات، فيما كانت هذه المسألة موضع اهتمام الدين الإسلاميّ منذ أربعة عشر قرناً حيث أتى فيها باُمور سبق بها جميع الكشوف والتوصيات التي توصّل إليها العلم الحديث مؤخّراً.

فهو مثلاً حرّم الزواج بطائفة من النساء من المحارم إذ قال سبحانه :

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( النساء: ٢٣ ).

وهذا يعني أنّ الإسلام حرّم التزوّج بسبع طوائف من النساء المنتمين إلى الشخص بالنسب وهنّ التي ذكرتهنّ الآية السابقة(١) .

وقد توصّل العلم الحديث أخيراً إلى علل هذا التحريم، كما أنّ الشريعة الإسلاميّة انفردت من بين الشرائع القائمة بجعل الرضاع سبباً من أسباب التحريم، وذلك لأنّ المرضعة التي ترضع الولد إنّما تغذيه بجزء من جسمها فتدخل أجزاؤها في

__________________

(١) نعم لا تختصّ الحرمة بمن ذكرن في الآية.

٥١١

تكوينه، ويصبح جزءاً منها. فإنّ لبنها خلاصة من دمها منه ينبت لحم الطفل ويقوى عظمه، وإذا كان الطفل جزءاً منها فهي كالأُمّ النسبيّة محرّمة إلى الأبد(١) .

كما أنّ الإسلام نهى عن التزوّج بالحمقاء لما في مثل هذا الزواج من نتاج غير مطلوب قال الإمام عليعليه‌السلام : « إيّاكُم وتزويج الحمقاء فإنّ صُحبتها بلاء وولدها ضياع ».

كما نهى عن التزوّج بشارب الخمر لنفس السبب، قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « من زوَّج كريمته من شارب الخمر فقد قطع رحمها ».

ونهى عن مقاربة الزوج في فترة العادة الشهريّة لما أسلفنا، نهياً تحريميّاً مغلظاً.

ونهى عن مقاربتها في بعض الحالات النفسيّة أو الجسديّة أو الكونيّة الخاصّة نهياً تنزيهيّاً، لما تجرّه المقاربة في تلك الظروف والحالات والأوقات والأوضاع من آثار سيّئة على صحّة الزوج والزوجة، وصحّة الولد الناشئ منهما.

وقد وردت تفصيلات هذه الأوقات في وصيّة مطوّلة للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإمام عليّ تجدها في كتاب مكارم الأخلاق وغيره من الكتب الحديثيّة في هذا المجال.

وقد توصّل العلم الحديث الآن إلى الكثير من علل هذه التوصيات التي سبق الإسلام إلى ذكرها.

هذا ونظراً لأهمّية الزواج من الناحية الصحّية سواء في المجال الفرديّ أو في المجال الاجتماعيّ حثّ النبيّ وأهل بيته المعصومون: على التزوّج، وترك الحياة العزوبيّة وها نحن نورد هنا طائفة من الأحاديث تتميماً للفائدة :

قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « تزوّجوا، وزوّجوا الأيم فمن حظّ امرء مسلم انفاق قيمة أيّمة، وما من شيء أحبّ إلى الله من بيت يعمر في الإسلام بالنّكاح ».

وقال: « تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة ».

__________________

(١) لاحظ أحكام الرضا (ع) في الكتب الفقهيّة.

٥١٢

وقال: « من أحبّ أن يكون على فطرتي فليستنّ بسنّتي فإنّ من سنّتي النكاح ».

وقال: « ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً لعلّ الله يرزقه نسمةً تثقل الأرض بلا إله إلّا الله ».

وقال: « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوّج فإنّه أغض للبصر وأحصن للفرج ».

وقال: « من تزوّج فقد أعطي نصف السّعادة ».

وقال: « إنّ من سنّتي وسنّة الأنبياء من قبلي النّكاح والختان والسّواك والعطر ».

وقال: « ما بني في الإسلام بناء أحبّ إلى الله من التزويج ».

وقال: « من تزوّج أحرز نصف دينه فليتّق الله في النّصف الآخر ».

وقال: « النّكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي ».

وقال: « أكثر أهل النّار العزّاب ».

وقال: « أراذل موتاكم العزّاب ».

وقال: « من أحبّ أن يلقى الله طاهراً مطهّراً فليستعفف بزوجة ».

وقال: « شرار أمّتي عزّابها ».

وقال: « شراركم عزّابكم والعزّاب إخوان الشّياطين ».

وقال: « لو خرج العزّاب من موتاكم إلى الدّنيا لتزوّجوا ».

وقال: « ما للشّيطان سلاح أبلغ في الصّالحين من النّساء إلّا المتزوّجون اُولئك المطهّرون المبرّؤون ».

وقال عكاف أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي: « يا عكاف: ألك زوجة » قلت: لا، قال: « وأنت صحيح موسر » قلت: نعم والحمد لله، قال: « فإنّك إذن من إخوان الشّيطان، إمّا أن تكون من رهبان النّصارى، وإمّا أن تصنع كما يصنع المسلمون وإنّ من سنّتنا النّكاح، شراركم عزّابكم وأراذل موتاكم عزّابكم ـ إلى أن قال ـ ويحك يا عكاف تزوّج

٥١٣

تزوّج وإلاّ فإنّك من الخاطئين ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « لم يكن أحد من أصحاب رسول الله يتزوّج إلّا قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : كمل دينه ».

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : « ركعتان يصلّيهما المتزوّج أفضل من سبعين ركعةً يصلّيها العزب ».

ولم يكتف الإسلام بإعطاء هذا القدر من التوصيات المفيدة في مجال الزواج بل حرص على جودة النسل ؛ فنهى الزوجة الحامل عن أكل أشياء أو فعل اُمور حفاظاً على صحّتها وصحّة جنينها، كما حثّها على تناول مأكولات خاصّة(١) ، تقوية لها ولجنينها وهي اُمور كشف الطبّ الحديث عن صحّتهاوعمقها وجدواها.

كما نهى عن إرضاع الطفل بلبن الحمقاء، قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ اللّبن يعدي »(٢) .

هذه بعض ما أتى به الإسلام في مجال الزواج، هذه المسألة الاجتماعيّة المهمّة التي يكون لها دور فعّال في حفظ الصحّة الفرديّة والعامّة مضافاً إلى حفظ العلاقات الاجتماعيّة السليمة، وتقوية القيم والمثل الأخلاقيّة الإنسانيّة.

إهتمام المسلمين بعلم الطبّ

هذا وقد اقتفى المسلمون أثر النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين في العناية بالصحّة والطبّ فكتبوا الكتب الطبيّة، وأقاموا المستشفيات بل وكان المسلمون أوّل من أقامها وأقاموا المصحّات، وشيّدوا المختبرات، وتخرّج منهم الأطبّاء الحاذقون الذين شاع

__________________

(١) مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله « اسقُوا نسائكُم الحوامل اللّبن فإنّها تُزيدُ في عقل الصّبيّ ».

(٢) جميع الأحاديث والتعاليم الصحيّة المذكورة في هذا الفصل اقتبست من :

الكافي ٦: كتاب الأطعمة والأشربة والزي والتجمّل، وكتاب مكارم الأخلاق، ونهج البلاغة، وخصال الصدوق، ووسائل الشيعة ٨: كتاب العشرة، فراجع الفصول والأبواب المختلفة من تلك الكتب.

٥١٤

صيتهم في الآفاق ولا زالت الكثير من مؤلّفاتهم وتحليلاتهم وكشوفاتهم موضع اهتمام الغربيّين.

وبالتالي نبغ فيهم رجال مثل جابر بن حيّان، والكندي وابن مسكويه وابن سينا، والرازيّ وغيرهم ممّن تركوا مؤلّفات كثيرة في مجال الطبّ، وخرجوا إلى العالم بنظريّات وابتكارات في هذا المجال.

وبإمكان القارئ الكريم أن يتعرّف على هذه الاُمور من المصادر التالية :

١. الطبّ العربي، مقدمة تدرس مساهمة العرب ( والمراد بهم المسلمون ) في الطبّ، والعلوم المتّصلة به، تأليف الدكتور أسعد خير الله.

٢. الطبّ عند العرب للدكتور أحمد شوكت شطّي طبعة القاهرة مؤسّسة المطبوعات الحديثة.

٣. تاريخ الصيدلة والعقاقير في العهد القديم والعهد الوسيط تأليف جورج شحاته قنواتي، القاهرة دار المعارف عام (١٩٥٩).

٤. ميراث الإسلام تأليف ١٣ مستشرقاً واُستاذ جامعة.

٥. شمس الشرق تطلع على الغرب.

٦. فلاسفة الشيعة للعلاّمة الشيخ عبد الله نعمة.

٧. وراجع كشف الظنون ٢: ٨٦ إلى ٨٨، والذريعة ١٥: ١٣٥ ـ ١٤٤.

العناية بالصحّة وظيفة الحكومة الإسلاميّة

لا شكّ أنّ الحفاظ على الصحّة الفرديّة والصحّة العامّة وتهيئة الأجواء المناسبة لذلك لا يمكن أن يتوفّر إلّا بأمرين :

أ ـ التوجيه والتثقيف الصحّي المستمر.

ب ـ تهيئة الأجواء الصحّية في الوسط الاجتماعيّ من قبيل إقامة المستشفيات

٥١٥

والمصحّات، وإجراء التلقيح الصحّي للوقاية إذا داهم البلد مرض معد، وإقامة المختبرات والمؤسّسات للتحقيق في شؤون الطبّ، وتعاهد أمر التنظيف البلديّ.

ومن المعلوم أنّ كلّ هذه الوظائف الثقيلة لا يمكن القيام بها إلّا بواسطة الأجهزة المزوّدة بالتخطيط والقانون والمال ولهذا فإنّ مسؤوليّة العناية بالصحّة الفرديّة والصحّة العامّة تقع في الدرجة الاُولى على عاتق الحكومة الإسلاميّة استلهاماً من الأحاديث الحاثّة على الصحّة في المجالين، بل ويمكن القول بأنّ هذه المسألة من أهمّ الواجبات التي تقع على كاهل الحكومة إذ الحصول على أمّة قوّية متحرّكة متقدّمة منتجة مدافعة عن نفسها لا يتيسّر إلّا بوجود أمّة سالمة تتمتّع بالصحّة والعافية الكاملة.

إنّ على الحكومة الإسلاميّة أن تهتمّ ـ بواسطة أجهزتها المختصّة ومؤسسات وزارة الصحّة ـ بالصحّة العامّة فتراقب نظافة الشوارع والأزقّة، وتراقب صانعي المأكولات والأطعمة والقصّابين والحمامات والمسابح العامّة لتكون موافقة مع قوانين الصحّة، وتقيم المستشفيات والمصحّات، وتقوم بتلقيح الأطفال والكبار ضد الأمراض الداهمة، وتقوم بتوجيه النّاس إلى وظائفهم الصحّية وتفرض رقابة مشدّدة على الاجتماعات من الناحية الصحّية لتمنع من تسرّب أي مرض يهدّد سلامة الاُمّة، ولعلّ من أهمّ ما يجب على الحكومة الإسلاميّة هو برنامج الضمان الصحّي لجميع افراد الاُمّة بلا استثناء، لينشأوا أصحّاء البدن أقوياء البنية أخذا بقول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « المُؤمنُ القويّ خير وأحبّ إلى الله من المُؤمن الضّعيف وفي كُلّ خير »(١) .

وقد كان هذا هو سيرة المسلمين شعوباً وحكومات منذ الصدر الأوّل للإسلام ويدلّ على ذلك ما أقاموه هنا وهناك من مؤسّسات صحّية، وشيّدوه من مختبرات علميّة طبيّة، فقد كانت الحكومات الإسلاميّة الغابرة ترى نفسها ملزمة بإقامة الصحّة ورعايتها في المجتمع الإسلاميّ، فكان القسم الأكبر من وظائف الصحّة الاجتماعيّة على عاتق المحتسبين، وفي ذلك كتب ابن الاخوة الذي كان يعيش في القرن السابع الهجريّ حول

__________________

(١) سنن ابن ماجة: ٢، كتاب الزهد، الباب ١٤، الحديث ٥، رقم التسلسل ٤١٦٨.

٥١٦

وظائف المحتسب في هذا المجال قائلاً :

( في الحسبة على الفرّانين والخبّازين: ينبغي أن يأمرهم المحتسب بغسل المعاجن وتنظيفها، ولا يعجن العجّان بقدميه وبركبتيه ولا بمرفقيه، فربما قطر في العجين شيء من عرق أبطيه أو بدنه، وأن يعجن ملثّماً لأنّه ربّما عطس أو تكلّم فقطر شيء من بصاقه في العجين.

وقال في الحسبة على الجزّارين ( القصّابين ): يجب على المحتسب أن يمنعهم من الذبح على أبواب دكاكينهم فإنّهم يلوّثون الطريق بالدم والروث.

وقال في الحسبة على الطبّاخين: يأمرهم بتغطية أوانيهم وحفظها من الذباب وهوامّ الأرض بعد غسلها بالماء الحارّ.

وقال في الحسبة على صانعي الأدوية والعقاقير: ويعتبر عليهم في عقاقير الأقراص والمعاجين قبل عملها بمن ظهرت مخبرته وكثرت تجربته للعقاقير ويكون من أهل الخير والصلاح، فإنّها إذا اختلّ أمرها أضرّت بالمريض لا محالة(١) .

وقال في الحسبة على الأطباء والجرّاحين والمجبّرين: الطبيب هو العارف بتركيب البدن ومزاج الأعضاء والأمراض الحادثة فيها وأسبابها وأعراضها وعلاماتها والأدوية النافعة فيها والاعتياض عمّا لم يوجد منها والوجه في استخراجها وطريق مداواتها بالتساوي بين الأمراض والأدوية في كمّياتها ولا يجوز له الإقدام على علاج يخاطر فيه ولا يتعرّض لما لا علم له فيه ففي الخبر: « من تطبّب ولم يُعلم منهُ طبّ قبل ذلك فهو ضامن »(٢) .

وينبغي أن يكون لهم مقدم من أهل صناعتهم فقد حكي أنّ ملوك اليونان كانوا يجعلون في كلّ مدينة حكيماً مشهوراً بالحكمة ثمّ يعرضون عليه بقيّة أطبّاء البلد

__________________

(١) هذه ملاحظة في الطب مهمّة جداً وقد عرفها العالم اليوم، حيث أسّس جهازاً خاصاً بمراقبة الأدوية والعقاقير قبل إنزالها إلى الأسواق.

(٢) مجمع البحرين ( مادّة طبب ).

٥١٧

فيمتحنهم فمن وجده مقصّراً في علمه أمره بالاشتغال وقراءة العلم ونهاه عن المداواة(١) .

وينبغي إذا دخل الطبيب على المريض أن يسأله عن سبب مرضه وعن ما يجد من الألم ثمّ يرتّب له قانوناً من الأشربة وغيره من العقاقير ثمّ يكتب له نسخة لأولياء المريض بشهادة من حضر معه عند المريض وإذا كان من الغد حضر ونظر إلى قارورته ( أي بوله ) وسأل المريض هل تناقص به المرض أم لا ثمّ يرتّب له ما ينبغي على حسب مقتضى الحال وهكذا حتّى يبرأ المريض، وينبغي للمحتسب أن يأخذ على الأطباء عهداً أن لا يعطوا أحداً دواء مضرّاً ولا يركّبوا له سمّاً ولا يصفوا سمّاً عند أحد من العامّة ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنّة ولا للرجال الذي يقطع النسل وليغضّوا أبصارهم عند المحارم عند دخولهم على المرضى )(٢) .

__________________

(١) هذا هو ما عرفه العالم الحديث اليوم وأخذ به حتّى أنّه لا يجيز طبيباً ولا يسمح له بفتح العيادة الطبيّة ومعالجة المرضى إلّا بعد تقديم اطروحة تشهد على إكتماله في هذا الفن.

(٢) راجع معالم القربى في أحكام الحسبة من ٩٠ إلى ١٧٠ والكتاب برمّته جدير بالمطالعة جدّاً.

٥١٨

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٥

الحكومة الإسلاميّة

والسياسة الخارجيّة

الإسلام يرسم قواعد السياسة الخارجيّة :

يظنّ بعض الكتّاب الغربيّين، ومن استقى معلوماته من دراساتهم ومؤلّفاتهم أنّ الغرب هو أوّل من ابتكر ( نظاماً للعلاقات الدوليّة )، وأوّل من أسّس ما يسمّى بالسياسة الخارجيّة، للحكومات والدول، ولم يكن للعالم ـ قبل ميلاد الحضارة الغربيّة ـ أي نظام للسياسة الخارجيّة، لأنّه لم تكن هناك علاقات وروابط بين الدول، كما ظنّوا.

بيد أنّ هذا ادّعاء يعرف ضعفه وخطأه كلّ من له أدنى إلمام بالتاريخ البشريّ فقد كان بين الشعوب علاقات وروابط، ولأجل ذلك فقد كان بينهم قوانين ورسوم وضوابط وحقوق تنظّم علاقاتهم وروابطهم حسبما تقتضيه الظروف، وتتطلّبه الحاجة ولقد اتّخذت هذه السياسة آخر وأفضل أشكالها بمجيء الإسلام.

ولا نريد ـ في هذا المقام ـ أن نستعرض جميع تلك الضوابط الدوليّة، وخطوط

٥١٩

تلك السياسة الخارجيّة التي سنّها الإسلام فإنّ شرح كلّ ذلك على وجه التفصيل يحتاج إلى دراسة موسّعة وعامّة تتناول بالبحث جميع المعاهدات التي عقدها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مع الدول، والملوك وزعماء القبائل، وكذا دراسة المعاهدات والمواثيق التي عقدها بعض الحكّام المسلمين بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

غير أنّ الهدف ـ هنا ـ هو إشارة خاطفة وتلميح عابر إلى ( اُصول ) هذه السياسة وخطوطها العريضة، ليعرف الجميع أنّ الحكومة الإسلاميّة يوم قامت كانت جامعة لكلّ البرامج وآلمناهج التي تحتاج إليها أيّة حكومة، وحاوية لكلّ ما تحتاج إليه الشعوب والاُمم، في علاقاتها الخارجيّة.

وأمّا ما سيتجدّد من الاُمور والحاجات فيمكن معرفة حلولها، على ضوء الاُصول والقواعد المقرّرة كما هو الحال في غير هذا الباب فإنّ على الشارع المقدّس بيان الاُصول وعلى علماء الحقوق والفقهاء التفريع، والاستنتاج.

ونحن نشير في هذا البحث إلى بعض الخطوط الكلّية في السياسة الخارجيّة للحكومة الإسلاميّة :

١. إحترام العهود والمواثيق الدوليّة

إنّ إحترام المواثيق، والوفاء بالعهود من الاُمور الفطريّة التي طبع عليها البشر وتعلّمها في أوّل مدرسة من مدارس تكوين الشخصيّة، أعني مدرسة الفطرة ولأجل ذلك نجد الأطفال يعترضون على أوليائهم إذا خالفوا وعودهم ولم يفوا بها ولهذا قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « احبّوا الصّبيان وارحموهم وإذا وعدتّموهم شيئاً فأوفوا لهم »(١) .

هذا مضافاً إلى أنّ الاحترام للميثاق والوفاء بالعهد شرط ضروريّ لإستقرار الحياة الاجتماعيّة واستقامتها، إذ الثقة المتبادلة ركن أساسيّ لهذه الحياة، ولا تتحقّق هذه الثقة المتبادلة إلّا بالوفاء بالعهود، والاحترام المتقابل للمواثيق، والوعود، ولهذا أمر الله سبحانه

__________________

(١) بحار الأنوار ١٦: ١٥٥.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627