مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228109 / تحميل: 6444
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) )

أسباب النّزول

وردت في كتب التّفسير والحديث أسباب متشابهة لنزول الآيات الاولى من هذه السورة ، وسنستعرض أحد هذه الأسباب لكونه مفصّلا وجامعا أكثر من الأسباب الاخرى ، ففي حديث نقله المرحوم العلّامة الكليني عن الإمام الباقرعليه‌السلام جاء فيه : «أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا : إنّ ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا ، فادعه ومره فليكفّ عن آلهتنا ونكفّ عن إلهه.

فبعث أبو طالب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعاه ، فلمّا دخل النّبي لم ير في البيت إلّا مشركا فقال : (السلام على من اتّبع الهدى) ثمّ جلس فخبّره أبو طالب بما جاؤوا به ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أو هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم»؟

٤٤١

فقال أبو جهل : نعم وما هذه الكلمة؟

قال : «تقولون : لا إله إلّا الله».

وما إن سمعوا هذه الكلمات حتّى وضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا وهم يقولون : ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إنّ هذا إلّا اختلاق ، فأنزل الله في قولهم :( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) ـ إلى قوله ـ( إِلَّا اخْتِلاقٌ ) (١) .

التّفسير

انقضاء مهلة النّجاة :

مرّة اخرى تمرّ علينا سورة تبدأ آياتها الاولى بحروف مقطّعة وهو حرف( ص ) ويطرح نفس السؤال السابق بشأن تفسير هذه الحروف المقطّعة : هل هذه إشارة إلى عظمة القرآن المجيد الذي يتألّف من مثل هذه الحروف المتيسّرة في متناول الجميع كالحروف الهجائية ، والذي غيّرت محتوياته مجرى حياة الإنسانية في هذا العالم

وأنّ قدرة الله العظمية هي التي أوجدت من هذه الحروف البسيطة تركيبا رائعا عظيما هو القرآن المجيد كلام الله ، أم أنّها إشارة إلى رموز وأسرار بين الله سبحانه وتعالى وأنبيائه

أمّ أنّها تعني أمورا أخرى؟

مجموعة من المفسّرين اعتبرت هنا حرف (ص) رمزا يشير إلى أحد أسماء الله ، وذلك لأنّ الكثير من أسمائه تبدأ بحرف الصاد مثل (صادق) ، (صمد) ، (صانع) أو أنّه إشارة إلى (صدق الله) التي اختصرت بحرف واحد.

ولا بدّ أنّكم طالعتم تفسير هذه الحروف المقطّعة بصورة مفصّلة في تفسير بدايات آيات سور (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف).

__________________

(١) اصول الكافي نقلا عن نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٤٠.

٤٤٢

ثمّ يقسم الله تعالى بالقرآن ذي الذكر والّذي هو حقّا معجزة إلهيّة( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) (١) .

فالقرآن ذكر ويشتمل على الذكر ، والذكر يعني التذكير وصقل القلوب من صدأ الغفلة ، تذكّر الله ، وتذكّر نعمه ، وتذكّر محكمته الكبرى يوم القيامة ، وتذكّر هدف خلق الإنسان.

نعم ، فالنسيان والغفلة هما من أهمّ عوامل تعاسة الإنسان ، والقرآن الكريم خير دواء لعلاجهما.

فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين في الآية (٦٧) من سورة التوبة :( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) أي إنّهم نسوا الله ، والله في المقابل نسيهم وقطع رحمته عنهم.

ونقرأ في نفس هذه السورة الآية (٢٦) عن الضالّين ، قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) .

نعم ، فالنسيان هو الابتلاء الكبير الذي ابتلي به الضالّون والمذنبون ، حتّى أنّهم نسوا أنفسهم وقيمة وجودها ، كما قال القرآن الكريم ، كلام الله الناطق( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) .(٢)

فالقرآن خير وسيلة لتمزيق حجب النسيان ، وهو نور لإزالة الظلمات والغفلة والنسيان ، حيث إنّ آياته تذكّر الإنسان بالله وبالمعاد ، وتعرّف الإنسان قيمة وجوده في هذه الحياة.

الآية التالية تقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيت هؤلاء لا يستسلمون لآيات الله الواضحة ولقرآنه المجيد ، فاعلم أنّ سبب هذا لا يعود إلى أنّ هناك ستارا يغطّي كلام الحقّ ، وإنّما هم مبتلون بالتكبّر والغرور اللذين يمنعان الكافرين من قبول

__________________

(١) جملة( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) جملة قسم جوابها محذوف ، وتقديرها (والقرآن ذي الذكر إنّك صادق وإنّ هذا الكلام معجز).

(٢) الحشر ، ١٩.

٤٤٣

الحقّ ، كما أنّ عنادهم وعصيانهم ـ هما أيضا ـ مانع يحول دون تقبّلهم لدعوتك( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ) .

«العزّة» كما قال الراغب في مفرداته ، هي حالة تحوّل دون هزيمة الإنسان (حالة الذي لا يقهر) وهي مشتقّة من (عزاز) وتعني الأرض الصلبة المتينة التي لا ينفذ الماء خلالها ، وتعطي معنيين ، فأحيانا تعني (العزّة الممدوحة) المحترمة ، كما في وصف ذات الله الطاهر بالعزيز ، وأحيانا تعني (العزّة بالإثم) أي الوقوف بوجه الحقّ والتكبّر عن قبول الواقع ، وهذه العزّة مذلّة في حقيقة الأمر.

«شقاق» مشتقّة من (شقّ) ، ومعناه واضح ، ثمّ استعمل في معنى المخالفة ، لأنّ الاختلاف يسبّب في أن تقف كلّ مجموعة في شقّ ، أي في جانب.

القرآن هنا يعدّ مسألة العجرفة والتكبّر والغرور وطيّ طريق الانفصال والتفرقة من أسباب تعاسة الكافرين ، نعم هذه الصفات القبيحة والسيّئة تعمي عين الإنسان وتصمّ آذانه ، وتفقده إحساسه ، وكم هو مؤلم أن يكون للإنسان عيون تبصر وآذان تسمع ولكنّه يبدو كالأعمى والأصم.

فالآية (٢٠٦) من سورة البقرة تقول :( وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ ) أي عند ما يقال للمنافق : اتّق الله ، تأخذه العصبية والغرور واللجاجة ، وتؤدّي به إلى التوغّل في الذنب والسقوط في نار جهنّم وإنّها لبئس المكان.

ولإيقاظ أولئك المغرورين المغفّلين ، يرجع بهم القرآن الكريم إلى ماضي تأريخ البشر ، ليريهم مصير الأمم المغرورة والمتكبّرة ، كي يتّعظوا ويأخذوا العبر منها و( كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ) .

أي إنّ امما كثيرة كانت قبلهم قد أهلكناها (بسبب تكذيبها الأنبياء ، وإنكارها آيات الله ، وظلمها وارتكابها للذنوب) وكانت تستغيث بصوت عال عند نزول العذاب عليها ، ولكن ما الفائدة فقد تأخّر الوقت! ولم يبق أمامهم متّسع من الوقت

٤٤٤

لإنقاذ أنفسهم( فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ) .

فعند ما كان أنبياء الله في السابق يعظونهم ويحذّرونهم عواقب أعمالهم القبيحة ، لم يكتفوا بصمّ آذانهم وعدم الاستماع ، وإنّما كانوا يستهزئون ويسخرون من الأنبياء ويعذّبون المؤمنين ويقتلونهم ، فبذلك أضاعوا الفرصة ودمّروا كلّ الجسور التي خلفهم ، فنزل العذاب الإلهي ليهلكهم جميعا ، العذاب الذي رافقه انغلاق باب التوبة والعودة ، وفور نزوله تبدأ أصوات الاستغاثة تتعالى ، والتي لا تغني عنهم يومئذ شيئا.

وكلمة (لات) جاءت للنفي ، وهي في الأصل (لا) نافية أضيفت إليها (تاء) التأنيث ، لتعطي معنى التأكيد(١) .

«مناص» من مادّة (نوص) وتعني الملاذ والملجأ ، ويقال : إنّ العرب عند ما كانت تقع لهم حادثة صعبة ورهيبة ، وخاصّة في الحروب كانوا يكرّرون هذه الكلمة ويقولون (مناص مناص) أي : أين الملاذ؟ أين الملاذ؟ ولأنّ هذا المفهوم يتناسب مع معنى الفرار ، وأحيانا تأتي بمعنى إلى أين الفرار(٢) .

على أيّة حال ، فإنّ أولئك المغرورين المغفّلين لم يستفيدوا من الفرصة التي كانت بأيديهم للجوء إلى أحضان الرحمة واللطف الإلهي ، وعند ما أضاعوا الفرصة ونزل عليهم العذاب الإلهي ، أخذوا ينادون ويستغيثون ويبذلون الجهد للعثور على طريق نجاة لهم ، ولكن كلّ هذه الجهود تبوء بالفشل ، حيث أنّهم مهما بذلوا من جهد ومهما استغاثوا فإنّهم لا يصلون إلى مقصدهم.

هذه كانت سنّة الله مع كلّ الأمم السابقة ، وستبقى كذلك ، لأنّ سنّة الله لا تتغيّر

__________________

(١) البعض قال : إنّ (التاء) زائدة واعتبرها للمبالغة كما في كلمة (علامة) كما اعتبر البعض أنّ (لا) هنا (نافية للجنس) والبعض شبّهها بـ (ليس) وعلى أيّة حال إضافة (التاء) إلى (لا) يوجد أحكاما خاصّة ، منها من المؤكّد أنّها تستخدم للزمان ، والاخرى أنّ اسمها أو خبرها محذوف دائما ، وتذكر في الكلام بإحدى الحالتين المذكورتين آنفا ، وطبقا لهذا فإنّ عبارة (ولات حين مناص) تقديرها (ولات الحين حين مناص).

(٢) مفردات الراغب ، تفسير فخر الرازي ، تفسير روح المعاني ، كتاب مجمع البحرين مادّة (نوص).

٤٤٥

ولا تتبدّل.

ومن المؤسف أنّ الناس ـ على الأغلب ـ غير مستعدّين للاتّعاظ من تجارب الآخرين ، وكأنّهم راغبون في تكرار تلك التجارب المرّة ، التجارب التي تقع أحيانا مرّة واحدة في طول عمر الإنسان ، ولا تتكرّر ثانية ، وبصورة أوضح : إنّها الاولى والأخيرة.

* * *

٤٤٦

الآيات

( وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) )

أسباب النّزول

سبب نزول هذه الآيات يشبه سبب نزول الآيات السابقة ، وغير مستبعد أن يكون هناك سبب واحد لنزول كلّ تلك الآيات.

ولكن بما أنّ سبب النّزول المذكور لهذه الآيات يحوي مطالب جديدة ، نذكره كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم ، حيث جاء فيه : بعد أن أظهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدعوة ، اجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب ، إنّ ابن أخيك قد سفه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرّق جماعتنا ، فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم ، جمعنا له حالا حتّى يكون أغنى رجل في قريش ، ونملكه علينا.

فأخبر أبو طالب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأجابه رسول الله قائلا : «لو وضعوا الشمس

٤٤٧

في يميني والقمر في يساري ما تركته ، ولكن كلمة يعطوني يملكون بها العرب وتدين بها العجم ويكونون ملوكا في الجنّة».

فقال لهم أبو طالب ذلك ، فقالوا : نعم وعشرة كلمات بدلا من واحدة ، أي كلمة تقصد أنت؟

فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تشهدون أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله».

تضايقوا كثيرا عند سماعهم هذا الجواب ، وقالوا : ندع ثلاث مائة وستّين إلها ونعبد إلها واحدا؟ إنّه لأمر عجيب؟ نعبد إلها واحدا لا يمكن مشاهدته ورؤيته.

وهنا نزلت هذه الآيات المباركة بل( وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ) (١) .

هذا المعنى ورد أيضا في تفسير مجمع البيان مع اختلاف بسيط ، إذ ذكر صاحب تفسير مجمع البيان في آخر الرواية أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعبر بعد أن سمع جواب زعماء قريش وقال : «يا عمّ والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتّى أنفذه أو اقتل دونه» فقال له أبو طالب : امض لأمرك ، فو الله لا أخذلك أبدا(٢) .

* * *

التّفسير

هل يمكن قبول إله واحد بدلا من كلّ تلك الآلهة؟

المغرورون والمتكبّرون لا يعترفون بأمر لا يلائم أفكارهم المحدودة والناقصة ، إذ يعتبرون أفكارهم المحدودة والناقصة مقياسا لكلّ القيم. لذا فعند ما رفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواء التوحيد في مكّة ، وأعلن الانتفاضة ضدّ الأصنام الكبيرة

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٤٢ الحديث ٧.

(٢) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، الصفحة ٤٦٥.

٤٤٨

والصغيرة في الكعبة ، والبالغ عددها (٣٦٠) صنما ، تعجّبوا : لماذا جاءهم النذير من بينهم؟( وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) .

كان تعجّبهم بسبب أنّ محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل منهم فلما ذا لم تنزل ملائكة من السماء بالرسالة؟ هؤلاء تصوّروا أنّ نقطة القوّة هذه نقطة ضعف ، فالذي يبعث من بين قوم ، هو أدرى باحتياجات وآلام قومه ، كما أنّه أعرف بمشكلاتهم وتفصيلات حياتهم ، ويمكن أن يكون لهم أسوة وقدوة ، إلّا أنّهم اعتبروا هذا الامتياز الكبير نقطة سلبية في دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعجّبوا من أمر بعثته إليهم.

وأحيانا كانوا يجتازون مرحلة التعجّب إلى مرحلة اتّهام رسول الله بالسحر والكذب( وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) .

وقلنا عدّة مرّات : إنّ اتّهامهم الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسحر ، إنّما نتج من جرّاء رؤيتهم لمعجزاته التي لا تقبل الإنكار وتنفذ بصورة مدهشة إلى أفكار المجتمع ، واتّهامه بالكذب بسبب تحدّثه بأمور تخالف سنّتهم الخرافية وأفكارهم الجاهلية التي كانت جزءا من الأمور المسلّم بها في ذلك المجتمع ، وادّعاء الرسالة من الله.

وعند ما أظهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوته لتوحيد الله ، أخذ أحدهم ينظر للآخر ويقول له : تعالى

واسمع العجب العجاب( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ ) (١) .

نعم ، فالغرور والتكبّر إضافة إلى فساد المجتمع ، تساهم جميعا في تغيّر بصيرة الإنسان ، وجعله متعجّبا من بعض الأمور الواقعية والواضحة ، في حين يصرّ بشدّة على التمسّك ببعض الخرافات والأوهام الواهية.

وكلمة (عجاب) على وزن (تراب) تعطي معنى المبالغة ، وتقال لأمر عجيب مفرط في العجب.

فالسفهاء من قريش كانوا يعتقدون أنّه كلّما ازدادت عدد آلهتهم إزداد نفوذهم

__________________

(١) «الجعل» بمعنى التصيير ، وهو ـ كما قيل ـ تصيير بحسب القول والإعتقاد والدعوى لا بحسب الواقع.

٤٤٩

وقدرتهم ، ولهذا السبب فإنّ وجود إله واحد يعدّ قليلا من وجهة نظرهم ، في حين ـ كما هو معلوم ـ أنّ الأشياء المتعدّدة من وجهة النظر الفلسفية تكون دائما محدودة ، والوجود اللامحدود واحد لا أكثر ، ولهذا السبب فإنّ كلّ الدراسات في معرفة الله تنتهي إلى توحيده.

وبعد أن يئس طغاة قريش من توسّط أبي طالب في الأمر وفقدوا الأمل ، خرجوا من بيته ، ثمّ انطلقوا وقال بعضهم لبعض ، أو قالوا لأتباعهم : اذهبوا وتمسّكوا أكثر بآلهتكم ، واصبروا على دينكم ، وتحمّلوا المشاق لأجله ، لأنّ هدف محمّد هو جرّ مجتمعنا إلى الفساد والضياع وزوال النعمة الإلهية عنّا بسبب تركنا الأصنام ، وإنّه يريد أن يترأس علينا( وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ) .

«انطلق» مشتقّة من (انطلاق) وتعني الذهاب بسرعة والتحرّر من عمل سابق ، وهنا تشير إلى تركهم مجلس أبي طالب وعلامات الضجر والغضب بادية عليهم.

و (الملأ) إشارة إلى أشراف قريش المعروفين الذين ذهبوا إلى أبي طالب ، وبعد خروجهم من بيته تحدّث بعضهم لبعض أو لأتباعهم أن لا تتركوا عبادة أصنامكم وأثبتوا على عبادة آلهتكم.

وجملة( لَشَيْءٌ يُرادُ ) تعني أنّ هناك أمرا يراد بنا. ولكونها جملة غامضة بعض الشيء ، فقد ذكر المفسّرون لها تفاسير عديدة ، منها : أنّها إشارة إلى دعوة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ اعتبرت قريش هذه الدعوة مؤامرة ضدّها ، وقالت : إنّ ظاهرها يدعو إلى الله ، وباطنها يهدف إلى السيادة والرئاسة علينا وعلى العرب ، وما هذه الدعوة إلّا ذريعة لتنفيذ ذلك الأمر ، أي السيادة والرئاسة ، ودعت الناس إلى التمسّك أكثر بعبادة الأصنام ، وترك تحليل أمر هذه المؤامرة إلى زعماء القوم ، وهذا الأسلوب طالما لجأ إليه أئمّة الضلال لإسكات أصوات السائرين في طريق الحقّ ، إذ يطلقون على الدعوة إلى الله لفظة (مؤامرة) المؤامرة التي يجب أن يتولّى

٤٥٠

رجال السياسة تحليلها بدقّة لوضع الخطط والبرامج المنظّمة لمواجهتها ، وأن يمرّ بها عامة الناس مرّ الكرام من دون أن يعيروا لها أي اهتمام ، وأن يتمسّكوا أكثر بما عندهم ، أي بأصنامهم.

ونظير هذا الحديث ورد في قصّة نوح ، عند ما قال الملأ من قوم نوح لعامّتهم( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) .(١)

وذهب آخرون إلى أنّ المقصود من هذه العبارة هو : يا عبدة الأصنام أثبتوا واستقيموا على آلهتكم ، لأنّ هذا هو المطلوب منكم.

أمّا البعض الآخر فقد قال : المقصود هو أنّ محمّدا يستهدفنا نحن ، وأنّه يريد جرّ مجتمعنا إلى الفساد من خلال تركنا لآلهتنا ، وفي نهاية الأمر ستزال النعم عنّا وينزل علينا العذاب!

فيما احتمل البعض الآخر أنّ المراد هو أنّ محمّدا لن يتوقّف عن دعوته وأنّه مصمّم على نشرها بعزم راسخ ، ولهذا فإنّ المحادثات معه عقيمة ، فاذهبوا وتمسّكوا أكثر بعقائدهم.

وأخيرا احتمل بعض المفسّرين أنّ المقصود هو أنّ المصيبة ستحلّ بنا ، وعلى أيّة حال ، علينا أن نتهيّأ لها وأن نتمسّك أكثر بسنّتنا.

وبالطبع ، لكون هذه الجملة لها مفهوم عامّ ، فإنّ أغلب التفاسير يمكن أن تعطي المعنى المطلوب ، رغم أنّ التّفسير الأوّل يعدّ أنسب من بقيّة التفاسير.

وعلى أيّة حال ، فإنّ زعماء المشركين أرادوا بهذا القول تقوية المعنويات المنهارة لأتباعهم ، والحيلولة دون تزعزع معتقداتهم أكثر ، ولكن كلّ مساعيهم ذهبت أدراج الرياح.

ولخداع عوامّ الناس وإقناع أنفسهم ، قال زعماء المشركين( ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ) .

__________________

(١) المؤمنون ، ٢٤.

٤٥١

فلو كان ادّعاء التوحيد وترك عبادة الأصنام أمرا واقعيّا لكان آباؤنا الذين كانوا بتلك العظمة والشخصيّة قد أدركوا ذلك ، وكنّا قد سمعنا ذلك منهم ، لذا فهو مجرّد حديث كاذب وليست له سابقة.

وعبارة( الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ) يحتمل أنّها تشير إلى جيل آبائهم باعتباره آخر جيل بالنسبة لهم ، ويمكن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب وخاصّة (النصارى) الذين كانوا آخر الملل ، ودينهم كان آخر الأديان قبل ظهور نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي إنّنا لم نعثر في كتب النصارى على شيء ممّا يقوله محمّد ، وذلك لأنّ كتب النصارى كانت تقول بالتثليث ، أمّا التوحيد الذي دعا إليه محمّد فإنّه أمر جديد.

ولكن يتّضح من آيات القرآن الكريم أنّ عرب الجاهلية لم يكونوا معتمدين على كتب اليهود والنصارى ، وإنّما اعتمادهم الأساس كان على سنن وشرائع أجدادهم وآبائهم ، وهذا دليل على صحّة التّفسير الأوّل.

«اختلاق» مشتقّة من (خلق) وتعني إبداء أمر لم تكن له سابقة ، كما تطلق هذه الكلمة على الكذب ، وذلك لأنّ الكذّاب غالبا ما يطرح مواضيع لا وجود لها ، ولهذا فإنّ المراد من كلمة (اختلاق) في الآية ـ مورد البحث ـ أنّ التوحيد الذي دعا إليه هذا النبيّ مجهول بالنسبة لنا ولآبائنا الأوّلين ، وهذا دليل على بطلانه.

* * *

ملاحظة

الخوف من الجديد!

الخوف من القضايا والأمور المستحدثة والجديدة كانت ـ على طول التاريخ ـ أحد الأسباب المهمّة التي تقف وراء إصرار الأمم الضالّة على انحرافاتها ، وعدم استسلامها لدعوات أنبياء الله ، إذ أنّهم يخافون من كلّ جديد ، ولهذا كانوا ينظرون لشرائع الأنبياء بنظرة سيّئة جدّا ، وحتّى الآن هناك امم كثيرة تحمل آثارا من هذا

٤٥٢

التفكير الجاهلي ، في الوقت الذي لم تكن فيه دعوة الرسل للتوحيد أمرا جديدا ، ولا يمكن أن تكون حداثة الشيء دليلا على بطلانه ، فيجب أن نتّبع المنطق ، ونستسلم للحقّ أينما كان وممّن كان.

والأمر العجيب أنّ مسألة الخوف من الأمر الجديد ـ مع شديد الأسف ـ قد طالت بعض العلماء أيضا ـ إذ يتّخذون موقفا معارضا للنظريات العلمية الحديثة ويقولون :( إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ) .

وهذا الأمر شوهد بصورة خاصّة في تأريخ الكنيسة المسيحية ، إذ أنّهم كانوا يتّخذون مواقف سلبية تجاه الاكتشافات العلمية لعلماء الطبيعة ، وكان أحدهم «غاليلو» إذ تعرّض لأشدّ هجمات الكنيسة على أثر إعلانه عن أنّ الأرض تدور حول الشمس وحول نفسها ، حيث كانوا يقولون : إنّ هذا الكلام بدعة.

وأكثر ما يثير العجب أنّ بعض العلماء الكبار ، كانوا عند ما يتوصّلون إلى حقائق علمية جديدة ، يعمدون إلى البحث في امّهات الكتب لعلّهم يعثرون على علماء سابقين يوافقونهم في الرأي ، وذلك خوفا من تعرضهم لهجمات المعارضين وبهذا الأسلوب استطاع كثير من العلماء إبداء وجهة نظرهم وكأنّها قديمة وليست بجديدة ، وهذا أمر مؤلم جدّا.

ومثال هذا الحديث يمكن مشاهدته في كتاب (الأسفار) فيما ورد عن النظرية المعروفة بـ (الحركة الجوهرية) لصدر المتألهين الشيرازي.

على أيّة حال فإنّ طريقة التعامل مع القضايا الحديثة والابتكارات الجديدة أدّى إلى وقوع خسائر كبيرة في المجتمع الإنساني وفي عالم العلم والمعرفة ، وعلى أصحاب العلاقة أن يعملوا بجدّ لإصلاح هذا الأمر ، وإزالة الرسوبات الجاهلية من أفكار الرأي العامّ.

٤٥٣

إلّا أنّ هذا الحديث لا يعني قبول كلّ رأي جديد لكونه جديدا ، حتّى ولو كان بلا أساس ، إذ يصبح حينئذ نفس التمسّك بالجديد بلاء عظيما كعشق القديم ، فالاعتدال الإسلامي يدعونا إلى عدم الإفراط أو التفريط في العمل.

* * *

٤٥٤

الآيات

( أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) )

التّفسير

الجيش المهزوم :

الآيات السابقة تحدّثت عن المواقف السلبية التي اتّخذها المعارضون لنهج التوحيد والإسلام ، ونواصل في هذه الآيات الحديث عن مواقف المشركين.

فمشركو مكّة بعد ما أحسّوا أنّ مصالحهم اللامشروعة باتت في خطر ، وإثر تزايد اشتعال نيران الحقد والحسد في قلوبهم ، ومن أجلّ خداع الناس وإقناع أنفسهم عمدوا إلى مختلف الادّعاءات بمنطق زائف لمحاربة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنها سؤالهم بتعجّب وإنكار( أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ) .

ألم يجد الله شخصا آخر لينزل عليه قرآنه ، غير محمّد اليتيم والفقير ـ خاصّة

٤٥٥

وأنّ فينا الكثير من الشيبة وكبار السنّ الأثرياء المعروفون.

هذا المنطق لم يكن منحصرا بذلك الزمان فقط ، وإنّما يتعدّاه إلى كلّ عصر وزمان ، وحتّى في زماننا ، فإن تولّى شخص ما مسئولية مهمّة طفحت قلوب الآخرين بالغيظ والحسد ، وبدأت ألسنتهم بالثرثرة وتوجيه النقد والطعن : ألم يكن هناك شخص آخر حتّى توكّل هذه المهمة بالشخص الفلاني الذي هو من عائلة فقيرة وغير معروفة؟

نعم ، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى يشتركون بعض الشيء مع المسلمين ، ولكن حبّ الدنيا من جهة ، وحسدهم من جهة اخرى ، تسبّبا في أنّ يبتعدوا عن الإسلام والقرآن ، ويقولوا إلى عبدة الأصنام : إنّ الطريق الذي تسلكونه أفضل من الطريق الذي سلكه المؤمنون( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) .(١)

من البديهي أنّ إشكال التعجّب والإنكار المتولّدة عن الخطأ في «تحديد القيم» إضافة إلى الحسد وحبّ الدنيا ، لا يمكن أن تكون معيارا منطقيا في القضاء ، فهل أنّ شخصيّة الإنسان تحدّد باسمه أو مقدار ماله أو مقامه أو حتّى سنّه؟ وهل أنّ الرحمة الإلهيّة تقسّم على أساس هذا المعيار؟

لهذا فإنّ تتمّة الآية تقول : إنّ مرض أولئك شيء آخر ، إنّهم في حقيقة الأمر يشكّكون في أمر الوحي وأمر الله( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ) .

ملاحظاتهم التي لا قيمة لها على شخصيّة الرّسول ما هي إلّا أعذار واهية ، وشكّهم وتردّدهم في هذه المسألة ليس بسبب وجود إبهام في القرآن المجيد ، وإنّما بسبب أهوائهم النفسية وحبّ الدنيا وحسدهم.

وفي نهاية الأمر فإنّ القرآن الكريم يهدّدهم بهذه الآية( بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ ) أي إنّ هؤلاء لم يذوقوا العذاب الإلهي ، ولهذا السبب جسروا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) النساء ، ٥١.

٤٥٦

ودخلوا المعركة ضدّ الوحي الإلهي بهذا المنطق الأجوف.

نعم ، فهناك مجموعة من الناس لا ينفع معها المنطق والكلام ، ولكن سوط العذاب هو الوحيد الذي يحطّ من تكبّرهم وغرورهم ، لذا يجب أن يعاقب أولئك بالعقاب الإلهي كي يشفوا من مرضهم.

ويضيف القرآن الكريم في الردّ عليهم : هل يمتلكون خزائن الرحمة الإلهيّة كي يهبوا أمر النبوّة لمن يرغبون فيه ، ويمنعونها عمّن لا يرغبون فيه؟( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) .

فالله سبحانه وتعالى بمقتضى كونه (ربّ) هذا الكون ومالكه ، وبارئ عالم الوجود وعالم الإنسانية ، ينتخب لتحمل رسالته شخصا يستطيع قيادة الأمّة إلى طريق التكامل والتربية. وبمقتضى كونه (العزيز) فإنّه لا يقع تحت تأثير الآخرين ويسلّم مقام الرسالة إلى أشخاص غير لائقين ، فمقام النبوّة عظيم ، والله سبحانه وتعالى هو صاحب القرار في منحه. ولكونه (الوهّاب) فإنّه ينفذ أيّ شيء يريده ، ويمنح مقام النبوّة لكلّ من يرى فيه القدرة على تحمّله.

ممّا يذكر أنّ كلمة (الوهّاب) جاءت بصيغة المبالغة ، وتعني كثير المنح والعطايا ، وهي هنا تشير إلى أنّ النبوّة ليست نعمة واحدة ، وإنّما هي نعم متعدّدة ، تتّحد فيما بينها لتمكّن صاحب هذا المقام الرفيع من أداء مهمّته ، وهذه النعم تشمل العلم والتقوى والعصمة والشجاعة والشهامة.

ونقرأ في الآية (٣٢) من سورة الزخرف نظير هذا الكلام ، قال تعالى :( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) أي إنّهم يشكلون عليك بسبب نزول القرآن عليك ، فهل أنّهم هم المسؤولون عن تقسيم رحمة ربّ العالمين؟

هذا ويمكن الاستفادة من كلمة (رحمة) هنا في أنّ النبوّة إنّما هي رحمة ولطف ربّ العالمين بعالم الإنسانية ، وحقّا هي كذلك ، فلو لا بعث الأنبياء لخسر الناس الدنيا والآخرة ، كما خسرها أولئك الذين ابتعدوا عن نهج الأنبياء.

٤٥٧

الآية اللاحقة واصلت تناول نفس الموضوع ، ولكن من جانب آخر ، حيث قالت :( أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ ) .

هذا الكلام في حقيقته يعدّ مكمّلا للبحث السابق ، إذ جاء في الآية السابقة : إنّكم لا تمتلكون خزائن الرحمة الإلهية ، كي تمنحوها لمن تنسجم أهواؤه مع أهوائكم ، والآن تقول الآية التالية لها : بعد أن تبيّن أنّ هذه الخزائن ليست بيدكم ، وإنّما هي تحت تصرّف البارئعزوجل ، إذن فليس أمامكم غير طريق واحد ، وهو أن ترتقوا إلى السماوات لتمنعوا الوحي أن ينزل على رسول الله وإنّكم تعرفون أنّ تحقيق هذا الأمر شيء محال ، وأنتم عاجزون عن تنفيذه.

وعلى هذا ، فلا «المقتضي» تحت اختياركم ، ولا القدرة على إيجاد «المانع» ، فما ذا يمكنكم فعله في هذا الحال؟ إذا ، موتوا بغيظكم وحسدكم ، وافعلوا ما شئتم

وبهذا الشكل فإنّ الآيتين لا تكرّران موضوعا واحدا كما توهّمه مجموعة من المفسّرين ، بل إنّ كلّ واحدة منهما تتناول جانبا من جوانب الموضوع.

الآية الأخيرة في بحثنا جاءت بمثابة تحقير لأولئك المغرورين السفهاء ، قال تعالى :( جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ ) (١) فهؤلاء جنود قلائل مهزومين

«هنالك» إشارة للبعيد ، وبسبب وجودها في الآية ، فقد اعتبر بعض المفسّرين أنّها إشارة إلى هزيمة المشركين في معركة بدر ، التي دارت رحاها في منطقة بعيدة بعض الشيء عن مكّة المكرّمة.

واستخدام كلمة (الأحزاب) هنا إشارة حسب الظاهر إلى كلّ المجموعات التي وقفت ضدّ رسل الله ، والذين أبادهم الباريعزوجل ، ومجتمع مكّة المشرك هو مجموعة صغيرة من تلك المجموعات ، والذي سيبتلى بما ابتلوا به (الشاهد على

__________________

(١) (ما) تعدّ زائدة في هذه العبارة ، إنّما جاءت للتحقير والتقليل ، و (جند) خبر لمبتدأ محذوف ، و (مهزوم) خبر ثان والعبارة في الأصل هي (هم جند ما مهزوم من الأحزاب) والبعض يعتقد بعدم وجود محذوف في الجملة و (جند) مبتدأ و (مهزوم) خبر ، ولكن الرأي الأوّل أنسب.

٤٥٨

هذا الحديث هو ما سيرد في الآيات القادمة التي تتطرّق لهذه المسألة).

ولا ننسى أنّ هذه السورة من السور المكيّة ، ونزلت في وقت كان فيه عدد المسلمين قليلا جدّا ، بحيث كان من اليسير على المشركين أن يبيدوهم بسهولة ، قال تعالى :( تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ) .(١)

وفي ذلك اليوم لم تكن هنالك أيّة دلائل توضّح إمكانية انتصار المسلمين ، حيث لم تكن المعارك قد وقعت ، ولا الانتصارات في بدر والأحزاب وحنين قد تحقّقت.

ولكن القرآن قال بحزم إنّ هؤلاء الأعداء ـ الذين هم مجموعة صغيرة ـ سيهزمون في نهاية المطاف.

واليوم يبشّر القرآن الكريم مسلمي العالم المحاصرين من كلّ الجهات من قبل القوى المعتدية والظالمة بنفس البشائر التي بشّر بها المسلمين قبل (١٤٠٠) عام ، في أنّ الله سبحانه وتعالى سينجز وعده في هزيمة جند الأحزاب ، إن تمسّك مسلمو اليوم بعهودهم تجاه الله كما تمسّك بها المسلمون الأوائل.

* * *

__________________

(١) سورة الأنفال ، ٢٦.

٤٥٩

الآيات

( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) )

التّفسير

تكفيهم صيحة سماوية واحدة :

تتمّة للآية الآنفة الذكر ، التي بشّرت بهزيمة المشركين مستقبلا ، ووصفتهم بأنّهم مجموعة صغيرة من الأحزاب ، تناولت آيات بحثنا الحالي بعض الأحزاب التي كذّبت رسلها ، وبيّنت المصير الأليم الذي كان بانتظارها.

إذ تقول ، إنّ أقوام نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد كانت قد كذّبت قبلهم بآيات الله ورسله( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ ) .

كذلك أقوام ثمود ولوط وأصحاب الأيكة ـ أي قوم شعيب ـ كانت هي الاخرى

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

فقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذمّوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم »(١) .

وهو كلام صريح في الأصل المذكور.

ترجيح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة

ولكنّ المتأمّل في تلك النصوص والقرائن الحافّة بها يجد أن هذا النهي والتحريم يختصّان بالأسرار الفرديّة التي لا تمتّ إلى المجتمع بصلة، ولا ترتبط بمصالح الاُمّة بوشيجة.

فعندما يتعلّق الأمر بالمصالح العامّة لا يمكن التغاضي عن أسرار الفرد، وقضاياه، إذ من البديهيّ في تلك الصورة ـ أن تترجّح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة، وإلاّ تعرّضت الاُمّة لأخطار تهدّد كيانها، وتنذر وجودها بالفناء والدمار.

إنّ التشريع الإسلاميّ الذي ينهي بشدّة عن محاولة الاطّلاع على دخائل الناس وأسرارهم الشخصيّة ـ فيما لو كانت تخصّ بهم ـ ويحرّم اغتياب الأفراد لا يمنع من التعرّف على الاُمور التي ترتبط بمصلحة الجماعة، بل يسمح للدولة الإسلاميّة بجمع المعلومات الصحيحة المفيدة لوضعها تحت تصرّف الحاكم الإسلاميّ، حتّى يتحرّك على ضوئها، فيتعرّف على المتآمرين، ويبطل خططهم ومؤامراتهم حفاظاً على مصلحة الاُمّة وإبقاء على وجودها، وكيانها من كيد الكائدين ومكر الماكرين، وهذا أمر يؤيّده العقل السليم وتقبله الفطرة، وتدعو إليه الحكمة، ويقتضيه التدبير الصحيح، والسياسة الرشيدة.

الاستخبارات الراهنة مرفوضة

على أنّ من الطبيعيّ أن يتصوّر القارئ الكريم بمجرّد سماعه لكلمة

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٥: ٢١٤ نقلا عن ثواب الأعمال: ٢١٦.

٥٤١

( الاستخبارات والأمن العامّ ) تلك الأجهزة الجهنّمية المخيفة التي تعتمد عليها الحكومات الطاغوتيّة الحاضرة في ملاحقة الشعوب، وقهر إرادتها، وقمع حركتها.

أقول من الطبيعيّ أن تتداعى في ذهن القارئ هذه الصورة القائمة، وهذا المعنى الأسود، لأنّ شعوبنا المظلومة قد اعتادت على مثل هذا التصوّر عن جهاز المخابرات وأعمال التجسّس، ولكنّ الحقيقة أنّ ما نقصده من جهاز الاستخبارات يختلف تماماً عن هذه الصورة.

فجهاز الاستخبارات ـ في الحكومة ـ ليس لقمع الشعوب المظلومة المضطهدة وخنق صرخاتها، وتحطيم حركاتها العادلة وليس لتحديد نموّ الأمم ورشدها العقليّ والعلميّ، وإخضاعها لسياسة معينة حتّى لو كانت خاطئة، وجائرة بل هو لأهداف وطنيّة عادلة نشير إليها فيما يلي :

أهداف الاستخبارات في الحكومة الإسلاميّة

إنّ أهداف جهاز الاستخبارات والأمن العامّ ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ تتلخّص في ثلاثة وظائف واُمور أساسيّة تقتضيها مصلحة الاُمّة وهي :

١ / مراقبة نشاط الموظّفين في الحكومة الإسلاميّة، ليقوموا بمسؤوليّاتهم الإداريّة المناطة إليهم بأمانة وانضباط.

٢ / مراقبة التحرّكات العسكريّة للأعداء بهدف إفشال أي عدوان محتمل وإحباط أي تحرّش في اللحظة المناسبة.

٣ / مراقبة تحرّكات ونشاطات الأجانب ورصد تسلّلهم أو نفوذهم في البلاد الإسلاميّة للحيلولة دون قيامهم بأيّة ( مؤامرة ) تسيء إلى أمن البلاد، من إيجاد الأحزاب الداخليّة، والسريّة المعادية للاُمّة أو بثّ الشائعات المضرّة بالأمن، والمخلّة بعزائم الناس، وإرادة الجماهير، فإنّ للمخابرات وجهاز الأمن العامّ ـ في الدولة الإسلاميّة ـ أن تقوم بعمل تجسّسيّ دقيق في هذه المجالات والأبعاد.

٥٤٢

وإليك فيما يلي تفصيل هذه الأقسام الثلاثة وأدلّتها الإسلاميّة :

١. مراقبة الموظّفين

إنّ أوّل ما تهدفه الحكومة الإسلاميّة هو خدمة الاُمّة، وتنفيذ الأحكام الإسلاميّة بأمانة ودقّة، وهذا لا يتحقّق إلّا بأن يقوم جميع الموظفين ـ في هذه الحكومة ـ بواجباتهم ووظائفهم الإداريّة بأمانة وصدق وانضباط، ولتحقيق هذا الأمر يحاول الإسلام في الدرجة الاُولى أن يختار للمناصب والوظائف الحكومية كلّ أمين صادق من الموظّفين كمّا مرّ عليك سابقاً ولكنّ الدولة الإسلاميّة لا تكتفي بالاختيار الحسن لموظّفيها، وتتركهم دون مراقبة ونظارة، بل تنصب من تراقبهم وترصد أعمالهم ليقوموا بمسؤوليّاتهم دون تلكّؤ ويؤدّوا واجباتهم الإداريّة والحكوميّة دون تقصير فها هو الإمام الرضاعليه‌السلام يقول: « كان رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا بعث جيشاً فأمّهُم أمير بعث معهُ من ثُقاته من يتجسّس لهُ خبرهُ »(١) .

وفي عهده المعروف لمالك الأشتر يوصي الإمام عليّ مالكاً بإرسال من يراقب عمّاله، ويرفع إليه عنهم الأخبار والتقارير فيقول: « وابعث العُيون من أهل الصّدق والوفاء عليهم فإنّ تعاهُدك في السرّ لاُمُورهم حدوة لهُم على استعمال الأمانة والرفق بالرّعية. وتحفّظ من الأعوان فإن أحد منهُم بسط يدهُ إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبارُ عُيُونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقُوبة في بدنه وأخذتهُ بما أصاب من عمله ثُمّ نصبتهُ بمقام المذلّة، ووسمتهُ بالخيانة، وقلّدتهُ عار التّهمة »(٢) .

وهكذا يؤكّد الإمام عليّعليه‌السلام على ضرورة تعيين جهاز يراقب أعمال الموظّفين وأصحاب المناصب الحكوميّة، ثمّ يؤكّد عليه أن يختار لهذا الجهاز من يثق بأخباره من الأفراد ثقة مطلقة إلى درجة يكتفي بأخبارهم إذا أخبروا عن خيانة أو تقصير، وهذا يعني أن يكون أعضاء جهاز ( الاستخبارات ) من الرجال الصالحين إلى درجة يثق الحاكم

__________________

(١) قرب الاسناد: ١٤٨.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب: الرقم ٥٣.

٥٤٣

الإسلاميّ بأخبارهم.

ومن المعلوم أنّ جهازاً من هذا النوع وأعضاء من هذا القبيل لا يمكن أن يتحوّل إلى جهاز جهنّمي على غرار ما يوجد الآن في البلاد الإسلاميّة في ظلّ الحكومات الطاغوتيّة الراهنة التي تتحكّم في أعراض الناس ودمائهم وأموالهم وتتجاوز على حقوقهم دون أن يجرأ أحد على الاعتراض أو الشكوى.

ويبدو أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام نفسه كان له عيون ورجال يتجسّسون له على ولاته وعمّاله في مختلف البلاد حيث إنّنا نجده يعاتب بعض ولاته على اُمور غير لائقة بهم ـ كولاة وحكّام إسلاميّين ـ صدرت عنهم، ونرى نموذج ذلك في كتابه إلى عثمان بن حنيف وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنّه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها فكتب الإمامعليه‌السلام إليه: « أمّا بعدُ، يا ابن حُنيف، فقد بلغني أنّ رجُلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدُبة فأسرعت إليها تُستطابُ لك الألوانُ، وتُنقلُ إليك الجفانُ، وما ظننتُ أنّك تُجيبُ إلى طعام قوم عائلُهُم مجفُوّ وغنيّهُم مدعُوّ »(١) .

وتفيد كلمة ( بلغني ) أن هناك من كان يبلّغ هذه المعلومات عن الولاة إلى الإمام عليّ كيف لا وهو يأمر مالكاً أن يتّخذ مثل هؤلاء النظّار والمفتّشين على عمّاله، وقد دعا بعض علماء الإسلام إلى ذلك أيضاً، قال أبو يوسف في كتاب الخراج يوصي حكام زمانه: ( وأنا أرى أن تبعث قوماً من أهل الصلاح والعفاف ممّن يوثق بدينه وأمانته يسألون عن سيرة العمّال وما عملوا به البلاد وإذا صحّ عندك من العامل والوالي تعدّ بظلم وعسف وخيانة لك في رعيّتك فحرام عليك استعماله )(٢) .

وربما كان الإمام عليّعليه‌السلام بنفسه يقوم بالسؤال عن أعمال الولاة، أو يأمر ولاته بأن يراقبوا أعمال الموظّفين من جانبهم.

فقد كتب إلى كعب بن مالك وهو عامله: « أمّا بعدُ فاستخلف على عملك

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب: الرقم ٤٥.

(٢) الخراج لأبي يوسف: ١٢٨.

٥٤٤

وأخرج طائفةً من أصحابك حتّى تمرّ بأرض السّواد كورةً بعد كورةً فتسألهم عن عمالهم وتنظر في سيرتهم »(١) .

٢. مراقبة تحرّّكات العدو العسكريّة

رغم أنّ التكتيكات العسكريّة، والتمرينات النظاميّة اليوم تختلف عمّا كانت عليه بالأمس اختلافاً شاسعاً، ولكنّ عامل ( التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة والتعرّف على أسراره ومواقعه النظاميّة، وفنونه القتاليّة، ومدى استعداداته، وحجم قواه ومعدّاته وعدد أفراده وآليّاته ) لا يزال منذ القديم وإلى الآن يحتفظ بأهمّيته القصوى، ويعتبر ـ اليوم ـ من أفضل الأسباب والعلل لنجاح الجيوش أو سقوطها وفشلها.

ولقد كانت هذه المسألة موضع اهتمام المسلمين ـ قادة وحكومات ـ منذ القدم غير أنّها اتّخذت صفة العلم والتخصّص في العصور الحاضرة فصار ( فن التجسّس ) علماً يدرّس في الجامعات يتخصّص فيها الأفراد كما يتخصّصون في الفنون الاُخرى إلى درجة صارت القوى العظمى ـ اليوم ـ تجعل انتصاراتها ونجاحاتها مرهونة بمدى نجاحها وتفوّقها في ميدان التجسّس على العدو، فراحت تنفق الأموال الطائلة على جهاز الاستخبارات، وتدفع بجواسيسها المتمرّسين في شتّى أنحاء العالم ليجمعوا لها الأخبار، ويرفعوا إليها التقارير، ويتوسّلوا بكلّ وسيلة ممكنة للحصول على أدقّ المعلومات العسكريّة ونقلها إلى مراكزهم بشتّى الوسائل والحيل.

وربّما تسلّل هؤلاء الجواسيس إلى السلطات في الدول الاُخرى، إمّا بأنفسهم أو بواسطة من يدسّونهم في تلك الدوائر من رجال أو نساء بمختلف الحيل والسبل والحجج.

وربّما تسابق الجواسيس سباقاً عنيفاً، ودمويّاً في تحصيل المعلومات، وأدّى الأمر في بعض الأحيان إلى المخاطرة بالنفس والمغامرة بالحياة كلّ ذلك انطلاقاً من أهمّية

__________________

(١) الخراج لأبي يوسف: ١٢٨.

٥٤٥

العمل التجسّسي في حياة وبقاء الشعوب والحكومات.

نماذج من التجسّس العسكريّ في عصر النبيّ

لقد استخدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله منذ تشكيله للدولة الإسلاميّة نظام التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة حتّى أنّ كثيراً من نجاحاته وانتصاراته العسكريّة والسياسيّة ترجع إلى اهتمامه البالغ بالمعلومات التي كانت ترد إليه من الأعداء عن طريق ( عيونه ) وجواسيسه الذين كان يبثّهم في كلّ مكان، فيرفعون إليه ما يشاهدونه من تحرّكات العدوّ، ويخبرونه بأخبارهم وأقوالهم وأفعالهم، فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يباغتهم وهم في عقر دارهم ويفاجئهم وهم نيّام راقدون، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا *فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) ( العاديات: ١ ـ ٢ ).

فقد وجّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إلى منطقة وقال له: « اكمن النّهار، وسر اللّيل ولا تُفارقك العينُ ( أي الجاسوس ) ».

فانتهىعليه‌السلام إلى ما أمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فسار إليهم، فلمّا كان عند وجه الصبح أغار عليهم، فأنزل الله سبحانه على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ) (١) .

وإليك فيما يأتي نماذج من هذا الأمر :

١. في حرب بدر خرج النبيّ مع أحد أصحابه حتّى وقف على شيخ من العرب، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله يحاول التعرّف على أخبار قريش فسألهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن قريش وعن محمّد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ: انّه بلغني أنّ محمّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش.

٢. بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاًعليه‌السلام مع بعض الأصحاب إلى ماء بدر يلتمسون

__________________

(١) نور الثقلين ٥: ٦٥٢.

٥٤٦

الخبر له عليه فأصابوا راوية لقريش فيها غلامان لقريش فأتوا بهما فسألوهما ورسول الله قائم يصّلي فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلمّا بالغوا في ضربهما قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وركع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسجد سجدتيه وقال: « والله إنّهُما لقُريش، أخبراني عن قُريش » ؟ قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كم القُومُ » ؟ قالا: كثير، قال: « ما عدّتُهُم » ؟ قالا: لا ندري، قال: « كم ينحرُون كُلّ يوم » ؟ قالا: يوما تسعاً، ويوما عشراً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « القومُ فيما بين التسع مئة، والألف ».

ثمّ قال لهما: « فمن فيهم من أشراف قُريش » ؟ قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بي ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل و فأقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الناس فقال: « هذه مكّةُ قد ألقت إليكُم أفلاذ كبدها »(١) .

٣. كان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء ( الذين اُرسلا من جانب النبيّ للتجسّس على قريش ) قد مضيا حتّى نزلا بدراً فأناخا إلى تل قريب من الماء ثمّ أخذا شناً لهما يستقيان فيه، ومجديّ بن عمرو الجهنيّ على الماء فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري القوم النازلين على الماء وهما يتلازمان ويتعاركان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها إنّما تأتي العير غداً أو بعد غد، فاعمل لهم ثمّ اقضيك الذي لك، قال مجدي: صدقت ثمّ خلص بينهما وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما ثمّ انطلقا حتّى أتيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاخبراه بما سمعا(٢) .

هكذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يستطلع أخبار القوم ويتجسّس عليهم ويبطل مؤامراتهم في اللحظة المناسبة.

وقد أخمد مؤامرة بني سليم وقبيلة قطوان بما حصل عليه من معلومات ساعدته على مباغتتهم وإفشالهم.

__________________

(١ و ٢) سيرة ابن هشام ١: ٦١٦، ٦١٧.

٥٤٧

ثمّ إنّنا نلاحظ كيف استفاد عيون الرسول من تقصّي الخبر، مع الإستفادة الكاملة من قاعدة التستّر والسريّة وهو أمر كان يهتمّ به الرسول في كلّ عمليّاته الاستطلاعيّة، فها هو عندما يبعث أحد أصحابه للاستطلاع يحيط مهمّته بكامل السريّة والتحوّط وإليك القصّة :

بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب، مقفله من بدر الاُولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحداً.

فلمّا سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه: « إذا نظرت في كتابي هذا فأمض حتّى تنزل نخلةً بين مكّة والطّائف فترصُد بها قُريشاً وتعلم لنا من أخبارهم ».

فلمّا نظر عبد الله بن جحش قال: سمعاً وطاعة(١) .

ألا ترى كيف أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فرض على مبعوثه أن لا يطلع على الكتاب الذي أعطاه خوف أن يتسرّب الخبر إلى الناس فيتسرّب منهم إلى قريش وتفشل خطة الرسول.

٤. لقد كانت معركة أحد من المعارك الصعبة التي فقد فيها الرسول الأكرم ٧٠ شخصا من أصحابه بمن فيهم حمزة أسد الله وأسد رسوله ولكن لو لم يكن يعرف الرسول ـ قبل ذلك ـ أوضاع العدو لفاقت الخسائر ما وقع.

فإنّ قريشا لـمّا خرجت وهم ثلاثة آلاف ومعهم عدة وسلاح كثير وقادوا مائتي فرس وكان فيهم سبعمائة دارع وأجمعوا المسير كتب العبّاس بن عبد المطلب كتاباً وختمه واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول الله يخبره « أنّ قريشا قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلّوا بك فاصنعه وقد توجّهوا إليك وقادوا مائتي فرس، وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير واوعبوا من السلاح » فقدم الغفاري إلى المدينة فوجد النبيّ بقباء وهي قرية متّصلة بالمدينة فدفع إليه الكتاب فقرأه

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٦٠١.

٥٤٨

عليه اُبيّ بن كعب واستكتم اُبيّاً ما فيه(١) .

٥. تحالفت قريش واليهود وغطفان في حرب الخندق ضد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وصاروا كتلة واحدة على الإسلام والمسلمين، فاتّخذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله سياسة التفرقة بينهم فبعث نعيم ابن مسعود، الذي قام بدوره بأحسن صورة، التي تعد فريدة في نوعها وإليك القصّة :

جاء نعيم بن مسعود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما أنت فينا رجُل واحد فخذّل عنّا إن استطعت فإنّ الحرب خُدعة ».

فخرج نعيم حتّى أتى بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهليّة فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إيّاكم، وخاصّة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتّهم، فقال لهم: إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وانّ قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمّد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتّى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمّداً حتّى تناجزوه، فقالوا له: قد أشرت بالرأي.

ثمّ أتى إلى أبي سفيان ورجال قريش وقال: إنّ اليهود قد ندموا على ما صنعوا مع محمّد وتعهّدوا له بأن يسلّموا إليه رجالاً من قريش ليعفو عنهم ثمّ خرج إلى غطفان وهم عشيرته وحذّرهم وقال لهم مثل ما قال لقريش.

وهكذا ألقى الحيرة والخوف وعدم الثقة بين قريش وغطفان واليهود المتحالفين ضدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلمّا اقترب موعد الحرب ضد النبيّ طلبت اليهود من قريش وغطفان رجالاً كرهائن عندهم، قالت قريش وغطفان: إنّا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا

__________________

(١) مغازي الواقديّ ١: ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٥٤٩

فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا(١) وهكذا انفرط عقد التحالف القرشيّ اليهوديّ الغطفانيّ بفعل نعيم وتخذيله والدور الذي لعبه كما يلعبه أي جاسوس يعمل لصالح جهة معيّنة، وينفّذ تكتيك التفرقة بين قوى العدو ببث الشائعات والتخويف.

٦. وفي نفس الواقعة ( أي واقعة الخندق ) لـمّا انتهى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما اختلف من أمرهم وما فرّق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً. وقال له: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ولا تحدّثن شيئاً حتّى تأتينا.

يقول: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء فقام أبو سفيان وقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه ؟

قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت، قال: فلان ابن فلان.

[ وفي شرح المواهب: فضربت بيدي على يد الذي عن يميني فأخذت بيده، فقلت من أنت ؟ قال معاوية بن أبي سفيان ثمّ ضربت بيدي على يد الذي كان على شمالي فقلت من أنت ؟ قال: عمرو بن العاص ](٢) .

ثمّ راح أبو سفيان يتحدّث عن ما لحقهم من الخلاف والبلاء ومقتل عمرو بن ود وقال ارتحلوا فانّي مرتحل.

يقول حذيفة: فوالله لولا عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لقتلته بسهم.

ثمّ رجع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بعزم قريش على الانسحاب من هذه المعركة والفرار.

وهذا يكشف عن أنّ هذا النوع من العمل كان ابتكاراً من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعملاً

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٩، ومغازي الواقديّ: ٤٨٠.

(٢) سيرة ابن هشام ٢: ٢٣٢ ومغازي الواقديّ: ٤٨٢.

٥٥٠

بديعاً في ذلك العصر، وهو ينبئ عن نبوغ الرجل الذي اختاره النبيّ وحسن اختيارهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحرصه على العمل الذي كلّف به.

وفي هذا الصدد قال نابليون: إنّ وجود رجل واحد مناسب وذكيّ من الاستخبارات خير من عشرين ألف مقاتل في ميدان الحرب.

٧. بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت « سويلم » اليهوديّ، وكان بيته عند جاسوم ( موضع بالمدينة ) يثبّطون الناس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك فبعث إليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة.

ومن المعلوم أنّ هناك من كان يترصّد الأخبار لرسول الله ويبلغها له، إذ من المعلوم أنّ العمليات التي كان يقوم بها اليهود والمنافقون وهم بمثابة الطابور الخامس، كانت في غاية السريّة، فلا بدّ أن يكون هناك من كان يتجسّس عليهم ويسترقّ أخبارهم ويعطيها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٨. في وقعة خيبر لـمّا كان في إحدى الليالي قبضت الدوريّة العسكريّة الإسلاميّة على رجل من يهود خيبر في جوف الليل فأمر به عمر أن يضرب عنقه، فقال: اذهب بي إلى نبيّكم حتّى اُكلّمه فأمسك عنه وانتهى به إلى باب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فوجده يصلّي فسمعصلى‌الله‌عليه‌وآله كلام عمر، فسلّم وأدخله عليه فدخل باليهوديّ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لليهودي: « ما وراءُك » ؟ فقال: تؤمنّي يا أبا القاسم، فقال: « نعم »، قال: خرجت من حصن النطاة من عند قوم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة. قال فأين يذهبون ؟ قال: إلى الشقّ يجعلون فيه ذراريهم، ويتهيّأون للقتال في هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب من حصون النطاة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبّابات ودروع وسيوف فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله ( قال رسول الله: « إنشاء الله » قال اليهوديّ: إنشاء الله ) أوقفتك عليه فإنّه لا يعرفه غيري، واُخرى، قيل ما هي، قال: يستخرج المنجنيق، وينصب على الشقّ ويدخل الرجال تحت الدبّابات فيحفر الحصن فتفتحه من يومك، وكذا تفعل بحصون

٥٥١

الكتيبة.

ثمّ قال: يا أبا القاسم: احقن دمي، قال: « أنت آمن » قال: ولي زوجة فهبها لي، قال: « هي لك ».

ثمّ دعاهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإسلام فقال: انظرني أيّاماً(١) .

٩. بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عباد بن بشر في فوارس طليعة فأخذ عيناً من يهود من أشجع فقال: من أنت، قال: باغ ابتغي أبعرة ضلّت لي، قال له عباد: ألك علم بخيبر ؟، قال: عهدي بها حديث فيم تسألني عنه، قال: عن اليهود، قال: نعم.

( ثمّ أخبر عن اليهود بأخبار كاذبة بقصد إرعاب المسلمين ) فعند ذلك رفع عباد ابن بشر السوط فضربه ضربات وقال: ما أنت إلّا عين لهم، أصدقني والاّ ضربتُ عنقك. فقال الإعرابي: أتؤمنني على أن أصدقك، قال عباد: نعم، فقال الإعرابي: القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود إلى آخر القصة(٢) .

١٠. وفي اُحد بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عينين له انساً ومؤنساً ابني فضالة ليلة الخميس فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم حتّى نزلوا بالوطاء فأتيا رسول الله فأخبراه بمكان قريش وأنّ مع قريش ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس وغير ذلك(٣) .

١١. وفي غزوة الحديبيّة بعث رسول الله بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعيّ فقال: إنّي تركت كعباً وعامراً قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعاً وهم قاتلوك أو مقاتلوك، وصادّوك عن البيت، فقال: « روحُوا » إلى آخر القصّة(٤) .

__________________

(١) المغازي ٢: ٦٤٧ ـ ٦٤٨، السيرة الحلبيّة ٣: ٤١.

(٢) المغازي للواقديّ ٢: ٦٤٠ ـ ٦٤٢.

(٣) المغازي ١: ٢٠٦.

(٤) مجمع البيان ٩: ١١٧.

٥٥٢

ولعلّ أوضح نصّ في هذا المجال هو ما وصّى به الإمام عليّعليه‌السلام جيشاً بعثه إلى العدو حيث قال: « واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب لئلاّ يأتيكم العدّو من مكان مخافةً أو أمن واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدّمة طلائعهم وإيّاكم والتفرّق فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرّماح كفةً [ أي مثل كفة الميزان مستديرة حولكم محيطة بكم ] ولا تذوقوا النوّم إلّا غراراً أو مضمضةً [ أي ينام ثمّ يستيقظ ثمّ ينام ] »(١) .

وهو موقف اتّخذه الإمام عليّعليه‌السلام عمليّاً إذ كتب إلى قثم بن العبّاس وهو عامله على مكّة إذ قال: « أمّا بعد فإنّ عيني [ أي رقيبي الذي يأتيني بالأخبار ] بالمغرب [ أي الأقاليم الغربيّة ] كتب إليّ يعلمني أنّه وجّه إلى الموسم أناس من أهل الشّام، العمي القلوب الصمّ الأسماع، الكمه الأبصار الّذين يلبسون الحقّ بالباطل الخ ».

هذه بعض النماذج من الأعمال التجسّسية التي كان يأمر بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله غيره من قادة الإسلام في المجال العسكريّ، لمعرفة التحركات المعادية للحكومة الإسلاميّة.

كلّ ذلك يؤكّد موقف الإسلام من جهاز الاستخبارات العسكريّة الذي يضمن جمع المعلومات الدقيقة حول العدو، ويمكّن القيادة والحكومة من اتّخاذ الموقف المناسب.

* * *

٣. مراقبة نشاطات الأجانب ونفوذهم

إنّ الوظيفة الثالثة، وبالأحرى الجانب الأهمّ من عمل الأمن العامّ والاستخبارات هو مراقبة نشاطات الأجانب الأعداء في داخل البلاد الإسلاميّة ورصد تحرّكاتهم ونفوذهم لمنع ظهور الطابور الخامس الذي يرجع إليه السبب الأكبر في سقوط الدول

__________________

(١) نهج البلاغة: الكتاب ٣٣.

٥٥٣

والحكومات ولقد سلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا المسلك وتمكّن بذلك أن يمنع من محاولات أعداءه العدائيّة، ويبطل خططهم في الداخل.

إنّ حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تبيّن أنّه كان يسعى دوماً إلى أن يدفع العدو إلى الخضوع للحقّ، ولم يكن يهدف الانتقام والثأر وإراقة الدماء.

ففي المعارك والغزوات التي شارك فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعث سريّة لمقابلة العدو كان يهدف بالدرجة الاُولى إلى تفريق جمعهم، وتشتيت صفّهم لأنّه كان يعلم بأنّه لو ارتفعت الموانع عن طريق الإسلام لاستطاع الدين بمنطقه البيّن ونهجه القويم أن يشقّ طريقه إلى قلوب الناس.

فإذا تفرّق جمع العدو، ويئس من السيطرة على الإسلام، وعاد الناس إلى فطرتهم ورشدهم، استطاع الدين أن يتسرّب إلى قلوبهم، وجذبهم إلى صفّه، وهذا هو أمر تدلّ عليه الأحداث التاريخيّة فإنّ كثيراً من الشعوب والأقوام التي هزمت أمام القوّة الإسلاميّة العسكريّة، عادت إلى رشدها وراحت تفكّر في قبول الدين واعتناق تعاليمه ومفاهيمه.

وقد ظهر هذا الأمر في فتح مكّة بأجلى مظاهره.

لقد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم أنّه لو فتح مكّة ونزع السلاح من العدو، وتهيّأت البيئة المساعدة للتفكير والتدبّر فلن يمضي زمان كبير إلّا ويستقبل الناس بقلوبهم وعقولهم دعوة الإسلام، ولذلك كان يتحتّم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينتصر على العدو، ويتغلّب عليه ولكن دون إبادته وتدميره وإفنائه ما دام حقن الدماء ممكناً. ولتحقيق هذا الهدف المقدّس ( الغلبة على العدو دون إراقة الدماء ) كان يتعيّن مباغتة الطرف الآخر ومفاجأته قبل أن يفكّر في الدفاع عن نفسه، وقبل أن يقوم بأيّ عمل مضادّ، ولا شكّ أنّ هذا الأمر ما كان ليتحقّق إلّا بأن تبقى جميع أسرار السياسة الإسلاميّة مصونة محفوظة لا يعلم بها الطرف الآخر، ولا يقع في يده شيء منها فلا يعلم العدو مثلا هل يريد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مهاجمتهم أوّلاً، وعلى فرض عرف العدو ذلك، فلا يعرف متى وكيف ومن أين، كلّ ذلك

٥٥٤

أسرار يجب أن تبقى مصانة ومحفوظة لا يدري بها العدو، ولهذا كان يتعيّن على النبيّ أن يلاحظ عملاء العدو في الداخل لكي لا يسرّبوا أي خبر من داخل البلاد إلى العدو ولا يخبروه بخبر يفوّت على النبيّ مقاصده.

ومن هنا اتّخذ النبيّ الاجراءات الفوريّة عندما بلغه أنّ هناك من أفشى خبر سفره وتوجّهه إلى مكّة لفتحها، فلمّا أجمع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله المسير إلى مكّة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش بخبرهم بعزم الرسول، ثمّ أعطى الكتاب إلى امرأة فجعلته في شعر رأسها، فأتى الخبر إلى رسول الله من السماء فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوّام فخرجا حتّى أدركاها في موضع بين مكّة والمدينة فأنزلاها من رحلها، وفتّشا الرحل فلم يجدا شيئاً فقال لها عليّ بن أبي طالب: « إنّي أحلفُ بالله ما كذب رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا كُذّبنا ولتُخرجنّ هذا الكتاب أو لنكشفنّك ».

فلمّا رأت الجدّ منه، قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه. فأتى به إلى رسول الله وعاتب النبيّ حاطب بشدّة(١) .

وفي ذلك نزلت الآيات الاُول من سورة الممتحنة ابتداء من قوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ الخ) ( الممتحنة: ١ ).

وهكذا كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يحبط الأعمال التجسّسيّة التي كان يقوم بها العدوّ في عمق بلاده.

وقد ذهب بعض علماء الإسلام إلى ضرورة وجود جهاز يكشف مؤامرات العدو في الداخل.

يقول القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج :

( وينبغي للإمام أن تكون له مسالح ( مخافر حدوديّة ) على المواضع التي تنفذ إلى بلاد أهل الشرك من الطرق فيفتّشون من مرّ بهم من التجّار فمن كان معه سلاح أخذ منه ورد، ومن كان معه كتب قرئت كتبه فما كان من خبر من أخبار المسلمين قد كتب به

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٣٩٩.

٥٥٥

أخذ الذي اُصيب معه الكتاب وبعث به إلى الإمام ليرى فيه رأيه )(١) .

حكم المتجسّس لصالح الأجنبيّ

إنّ الإسلام أمر بالتشدّد مع اُولئك النفر من المسلمين الذين يتجسّسون لصالح الأجانب، ففي الإرشاد للشيخ الأجلّ المفيد:

لـمّا بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنينعليه‌السلام وبيعة الناس ابنه الحسنعليه‌السلام دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الاُمور فعرف ذلك الحسنعليه‌السلام فأمر باستخراج الحميري من عند لحّام بالكوفة فأخرج وأمر بضرب عنقه وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فاُخرج وضربت عنقه وكتب الحسنعليه‌السلام إلى معاوية: « أمّا بعدُ فإنّك دسست الرّجال للاحتيال والاغتيال وأصدرت العيُون كأنّك تُحبّ اللقاء وما أوشك ذلك فتُوقعهُ إنشاء الله تعالى »(٢) .

كما أمر بالتشديد مع أهل الذمّة الذين يتجسّسون في الداخل على المسلمين لصالح الأعداء والأجانب ويعتبر ذلك نقضاً للذمّة.

قال المحقّق الحليّ في الشرائع في باب شرائط أهل الذمّة :

( أن لا يؤذوا المسلمين كالزنى بنسائهم واللواط بصبيانهم والسرقة لأموالهم وإيواء عين المشركين ( أي جاسوسهم ) والتجسّس لهم فإن فعلوا من ذلك شيئاً وكان تركه مشترطاً في الهدنة كان نقضاً )(٣) .

وقال العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء في ما يشترط على أهل الذمّة :

__________________

(١) كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفّى ( ١٨٢ ه‍ ) طبعة القاهرة عام (١٣٠٣).

(٢) الإرشاد: ١٩٢ للمفيد الفقيه المؤرّخ محمّد بن محمّد بن النعمان المتوفّى ( ٤١٣ ه‍ ).

(٣) شرائع الإسلام كتاب الجهاد: ٣٢٩.

٥٥٦

( وأن لا ينقلوا أخبار المسلمين إلى أعدائهم ولا يدلّوا على عوراتهم فمن فعل شيئا من ذلك فقد نقض عهده وأحلّ دمه وماله وبرئت منه ذمّة الله ورسوله والمؤمنين )(١) .

وكتب القاضي أبو يوسف في كتابه الخراج يقول :

( سألت عن الجواسيس يوجدون وهم من أهل الذمّة أو أهل الحرب أو من المسلمين فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذمّة ممّن يؤدّي الجزية من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم، وإن كانوا من الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة وأطل حبسهم حتّى يحدثوا توبة )(٢) .

وهكذا يكون من وظائف الحكومة الإسلاميّة تشكيل جهاز قويّ مجهّز بكلّ الوسائل القويّة للتجسّس في الإطارات المذكورة التي مرّ عليك ذكرها.

على أنّ الإسلام ـ كعادته وكما أسلفنا ـ تعرّض في هذه المسألة لجوهر الأمر ولم يدخل في تفصيلاته وشكليّاته فإنّ كيفيّة التجسّس ونوع الرموز والأجهزة متروكة للزمن على أن تكون في إطار التقوى والأخلاق وحسب الشروط التي مرّت.

وجملة القول أنّ ما نفهمه من حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته السياسيّة هو الاهتمام الشديد الذي كان يبديه بمسألة الاستخبارات.

فإنّه وإن لم يكن في زمن النبيّ تشكيلات للاستخبارات على غرار ما يوجد الآن في العالم الحديث ولكن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان ـ مضافا إلى اتّخاذ العيون ـ قد ربّى المسلمين تربية سياسيّة رائعة بحيث أصبح كلّ مسلم يرى نفسه مسؤولا عن الأمن فكانوا يرفعون إليه فوراً كلّ خبر يرتبط بهذا الأمر، فها هو زيد بن أرقم ـ وهو غلام يافع ـ عندما يسمع أحد قادة الطابور الخامس ( عبد الله بن اُبي ) في غزوة بني المصطلق وهو يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ويعني بالأعز نفسه وبالأذلّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: أنت والله الذليل القليل المبغض ومحمّد في عزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١: ٤٤٢.

(٢) كتاب الخراج: ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٥٥٧

ثمّ أسرع إلى النبيّ وأخبره بالأمر(١) .

فعلى الحكومة الإسلاميّة أن تربّي المسلمين بهذه التربية، ليعتبر كلّ واحد منهم نفسه مسؤولاً عن أمن البلاد دفعاً للفساد، ونهياً عن المنكر، وإن كان ذلك لا يغني عن تأسيس جهاز مستقلّ لذلك.

وأخيراً نكرّر القول بأنّه يجب أن يكون جهاز الاستخبارات لصالح الإسلام والمسلمين مائة بالمائة، ولا يكون على غرار ما في الدول المعاصرة، إذ ليس ذاك إلّا للحفاظ على عروش الاُمراء والرؤساء والملوك، ولذلك فهو لا يتجسّس لصالح الاُمّة بل يتجسّس على الاُمّة لإخماد صوتها وإكبات حريّاتها وتحطيم مقاومتها. وإخضاعها للسياسات الاستعماريّة، والمطامع الأجنبيّة.

__________________

(١) مجمع البيان ٥: ٢٩٤.

٥٥٨

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٧

الحكومة الإسلاميّة

والنظام العسكريّ

قوام الاُمّة رهن بقدرتها العسكريّة

إنّ قوام كلّ أمّة من الأمم يرتبط بمدى قدرتها على الدفاع عن وجودها، وحماية شخصيّتها اتّجاه الأعداء، فبقدر ما تكون تلك الاُمّة مجهّزة بالعدد والعدّة، تستطيع أن تدفع عن نفسها أي عدوان وتحافظ على كيانها في سياج من الأمن والدعة والاسقرار، وبقدر ما تكون ضعيفة في هذه الناحية تكون معرّضة للزوال والاندحار أمام هجمات الأعداء، ومن هنا أنشأت الجيوش، واُوجدت العساكر الجرّارة وظهرت إلى الوجود الأساطيل البحريّة، ووسائل الحرب .

ولقد صارت هذه الجيوش والعساكر شيئاً فشيئاً وسيلة بأيدي الطغاة والطامعين فغزوا بها البلاد وأغاروا بها على المدن فكانت الوقائع الدامية، والحروب المريعة، والمجازر الفضيعة التي صبغت التاريخ البشريّ بلون الدم القاني.

٥٥٩

الجيش في خدمة الدين والشعب

إنّ الجيش في الحكومة الإسلاميّة ليس كالجيوش في الدول الامبرياليّة الشرقيّة والغربيّة لا يكون الهدف منها إلّا توسعة النفوذ، والتجاوز على الحقوق والإغارة على أموال الآخرين وثرواتهم.

كما أنّه ليس كالجيوش في العالم الثالث حيث لا يكون الهدف منها إلّا الحفاظ على سيطرة السلطات الديكتاتوريّة العميلة هناك وسلب الحريّات، وقمع المعارضة، وضرب الانتفاضات الشعبيّة وبالتالي حماية المصالح الأجنبيّة، بل الجيش في الحكومة الإسلاميّة إنّما هو للمحافظة على ثغور البلاد الإسلاميّة، واستقلال البلاد وما فيها من ثروات وشعوب، وعلى ذلك يتّصف الجيش الإسلاميّ بصفة الحافظ الصائن لا الغازي المهاجم، المحرّر لا المعتدي والصديق في جانب الشعب، لا القوّة القاهرة له، العدوة لأبنائه.

ولقد كان هذا الأمر موضع اهتمام الإسلام منذ طلوعه وبزوغه، فإنّ الدين الذي جاء ليكتسح الظلمات وينقذ البشريّة من براثن الاستعباد والاستثمار كان من الطبيعيّ أن يواجه معارضة ممّن بنوا حياتهم على استعباد الإنسان واستثماره واستغلاله، ومن هنا كان طبيعيّاً ـ أيضاً ـ أن يعدّ الإسلام عدّته لمواجهة أعدائه ومعارضيه الذين راحوا يكيدون له أشدّ الكيد، ويتربّصون به الدوائر.

إنّ من يلاحظ الحياة الإسلاميّة في الصدر الأوّل وما بعده يجد نشاطاً عسكريّاً فريداً من نوعه، ومن يلاحظ التعاليم الإسلاميّة ذاتها يجد نظاماً عسكريّاً فريداً أيضاً، فقد تضمّن القرآن الكريم تعاليم راقية ومتقدّمة جداً في الشؤون العسكريّة وتوجيهات لا سابق لها في الفنون النظاميّة.

ثمّ إنّ من يلاحظ النصوص الإسلاميّة يجدها تحثّ المسلمين حثّاً بليغاً وأكيداً على تعلم الرماية والتدريب على السلاح ومزاولة التمرينات العسكريّة استعداداً لكل

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627