مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228104 / تحميل: 6444
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

المذهب الذي حكيناه عن ابن أبى ليلى وأبى يوسف إذا كان العدو في القبلة وروى أيوب وهشام عن أبى الزبير عن جابر هذا المعنى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك رواه داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس وكذلك عبد الملك عن عطاء عن جابر وكذلك قتادة عن الحسن عن حطان عن أبى موسى من فعله ورواه عكرمة بن خالد عن مجاهد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك هشام بن عروة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد روى عن ابن عباس وجابر ما قدمنا ذكره قبل هذا واختلفت الرواية عنهما فيها* وروى فيها نوع آخر وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن على قال حدثنا أبو عبد الرحمن المقري قال حدثنا حياة بن شريح وابن لهيعة قالا أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة هل صليت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف فقال أبو هريرة نعم قال مروان متى فقال أبو هريرة عام غزوة نجد قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكبروا جميعا الذين معه والذين مقابلي العدو ثم ركع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيام مقابلي العدو ثم قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعد ومن معه ثم كان السلام فسلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلموا جميعا فكان لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة * وقد روى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نوع آخر من صلاة الخوف وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبيد الله بن معاذ قال حدثنا أبى قال حدثنا الأشعث عن الحسن عن أبى بكرة قال صلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكانت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين وبذلك كان يفتي الحسن قال أبو داود وكذلك يحيى ابن أبى كثير عن أبى سلمة عن جابر بن عبد الله عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك رواه سليمان

«16 ـ أحكام لث»

٢٤١

اليشكري عن جابر بن عبد الله عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم * قال أبو بكر وقد قدمنا قبل ذلك أن ابن عباس وجابرا رويا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلى بكل طائفة ركعة ركعة فكان لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان ولكل طائفة ركعة وأن هذا محمول عندنا على أنه كان ركعة في جماعة وفعلها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فذهب ابن أبى ليلى وأبو يوسف إذا كان العدو في القبلة إلى حديث أبى عياش الزرقي الذي ذكرناه وجائز أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى هذه الصلوات على الوجوه التي وردت به الروايات وذلك لأنها لم تكن صلاة واحدة فتتضاد الروايات فيها وتتنافى بل كانت صلوات في مواضع مختلفة بعسفان في حديث أبى عياش الزرقي وفي حديث جابر ببطن النخل ومنها حديث أبى هريرة في غزوة نجد وذكر فيه أن الصلاة كانت بذات الرقاع وصلاها في حرة بنى سليم ويشبه أن يكون قد صلى في بعض هذه المواضع عدة صلوات لأن في بعض حديث جابر الذي يقول فيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بكل طائفة ركعتين ذكر أنه كان بذات الرقاع وفي حديث صالح بن خوات أيضا أنه صلاها بذات الرقاع وهما مختلفان كل واحد منهما ذكر فيه من صفة صلاته خلاف صفة الأخرى وكذلك حديث أبى عياش الزرقي ذكر أنه صلاها بعسفان وذكر ابن عباس أيضا أنه صلاها بعسفان فروى تارة نحو حديث أبى عياش وتارة على خلافه واختلاف هذه الآثار تدل على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى هذه الصلوات على اختلافها على حسب ورود الروايات بها وعلى ما رآه النبي احتياطا في الوقت من كيد العدو وما هو أقرب إلى الحذر والتحرز على ما أمر الله تعالى به من أخذ الحذر في قوله( وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً ) ولذلك كان الاجتهاد سائغا في جميع أقاويل الفقهاء على اختلافها لما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها إلا أن الأولى عندنا ما وافق ظاهر الكتاب والأصول وجائز أن يكون الثابت الحكم منها واحدا والباقي منسوخ وجائز أن يكون الجميع ثابتا غير منسوخ توسعة وترفيها لئلا يحرج من ذهب إلى بعضها ويكون الكلام في الأفضل منها كاختلاف الروايات في الترجيع في الأذان وفي تثنية الإقامة وتكبيرات العيدين والتشريق ونحو ذلك مما الكلام فيه بين الفقهاء في الأفضل فمن ذهب إلى وجه منها فغير معنف عليه في اختياره وكان الأولى عندنا ما وافق ظاهر الآية والأصول وفي حديث جابر وأبى بكرة

٢٤٢

أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بكل طائفة ركعتين فجائز أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان مقيما حين صلاها كذلك ويكون قولهما أنه سلم في الركعتين المراد به تسليم التشهد وذلك لأن ظاهر الكتاب ينفيه على الوجه الذي يقتضيه ظاهر الخبر لأن الله تعالى قال( فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ ) وظاهر الخبر يوجب أن يكونوا مصلين مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد السجود على الحال التي كانوا عليها قبله* فإن قيل كيف يكون مقيما في البادية وهي ذات الرقاع وليست موضع إقامة ولا هي بالقرب من المدينة* قيل له جائز أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من المدينة لم ينو سفر ثلاث وإنما نوى في كل موضع يبلغ إليه سفر يومين فيكون مقيما عندنا إذ لم ينشئ سفر ثلاث وإن كان في البادية ويحتمل أن يكون فعلها في الوقت الذي يعاد الفرض فيه وذلك منسوخ عندنا وعلى أنه لو كان كذلك لم يكن صلاة خوف وإنما هي صلاة على هيئة سائر الصلوات ولا خلاف أن صلاة الخوف مخالفة لسائر الصلوات المفعولة في حال الأمن* وأما القول الذي روى عن أبى يوسف في أنه لا تصلى بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف وأنه ينبغي أن تصلى عند الخوف بإمامين فإنه ذهب فيه إلى ظاهر قول الله تعالى( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) فخص هذه الصلاة بكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم وأباح لهم فعلها معه على هذا الوجه ليدركوا فضيلة الصلاة خلفه التي مثلها لا يوجد في الصلاة خلف غيره فغير جائز بعده لأحد أن يصليها إلا بإمامين لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول فلا يحتاج إلى مشى واختلاف واستدبار القبلة مما هو مناف للصلاة* قال أبو بكر فأما تخصيص النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخطاب بها بقوله( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ) فليس بموجب بالاقتصار عليه بهذا الحكم دون غيره لأن الذي قال( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) هو الذي قال( فَاتَّبِعُوهُ ) فإذا وجدنا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد فعل فعلا فعلينا اتباعه فيه على الوجه الذي فعله ألا ترى أن قوله( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ) لم يوجب كون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مخصوصا به دون غيره من الأئمة بعده وكذلك قوله( إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ) وكذلك قوله( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) وقوله( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ) فيه تخصيص النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمخاطبة والأئمة بعده مرادون بالحكم معه وأما إدراك فضيلة الصلاة خلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فليس يجوز أن يكون علة لإباحة المشي في الصلاة واستدبار القبلة والأفعال التي تركها

٢٤٣

من فروض الصلاة لأنه لما كان معلوما أن فعل الصلاة خلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن فرضا فغير جائز أن يكونوا أمروا بترك الفرض لأجل إدراك الفصل فلما كان هذا على ما وصفنا بطل اعتلاله بذلك وصح أن فعل صلاة الخوف على الوجه الذي روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جائز بعده كما جاز معه وقد روى جماعة من الصحابة جواز فعل صلاة الخوف بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وحذيفة وسعيد ابن العاص وعبد الرحمن بن سمرة في آخرين منهم من غير خلاف يحكى عن أحد منهم ومثله يكون إجماعا لا يسع خلافه والله أعلم.

باب الاختلاف في صلاة المغرب

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والحسن بن صالح والأوزاعى والشافعى يصلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعة إلا أن مالكا والشافعى يقولان يقوم الإمام قائما حتى يتموا لأنفسهم ثم يصلى بالطائفة الثانية ركعة أخرى ثم يسلم الإمام وتقوم الطائفة الثانية فيقضون ركعتين وقال الشافعى إن شاء الإمام ثبت جالسا حتى تتم الطائفة الأولى لأنفسهم وإن شاء كان قائما ويسلم الإمام بعد فراغ الطائفة الثانية وقال الثوري يقوم صف خلفه وصف موازى العدو فيصلى بهم ركعة ثم يذهبون إلى مقام أولئك ويجيء هؤلاء فيصلى بهم ركعة ويجلسون فإذا قام ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك وجاء أولئك فركعوا وسجدوا والإمام قائم لأن قراءة الإمام لهم قراءة وجلسوا ثم قاموا يصلون مع الإمام الركعة الثالثة فإذا جلسوا وسلم الإمام ذهبوا إلى مصاف أولئك وجاء الآخرون فصلوا ركعتين وذهب في ذلك إلى أن عليه التعديل بين الطائفتين في الصلاة فيصلى بكل واحدة ركعة وقد ترك هذا المعنى حين جعل للطائفة الأولى أن يصلى مع الإمام الركعة الأولى والثالثة والطائفة الثانية إنما صلت الركعة الثانية معه وقال الثوري إنه إذا كان مقيما فصلى بهم الظهر أنه يصلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعتين فلم يقسم الصلاة بينهم على أن يصلى كل طائفة منهم معه ركعة على حيالها ومذهب الثوري هذا مخالف للأصول من وجه آخر وذلك أنه أمر الإمام أن يقوم قائما حتى تفرغ الطائفة الأولى من الركعة الثانية وذلك خلاف الأصول على ما بينا فيما سلف من مذهب مالك والشافعى والله أعلم بالصواب.

٢٤٤

ذكر اختلاف الفقهاء في الصلاة في حال القتال

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا يصلى في حال القتال فإن قاتل في الصلاة فسدت صلاته وقال مالك والثوري يصلى إيماء إذا لم يقدر على الركوع والسجود وقال الحسن بن صالح إذا لم يقدر على الركوع من القتال كبر بدل كل ركعة تكبيرة وقال الشافعى لا بأس بأن يضرب في الصلاة الضربة ويطعن الطعنة فإن تابع الطعن والضرب أو عمل عملا يطول بطلت صلاته قال أبو بكر الدليل على أن القتال يبطل الصلاة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى صلاة الخوف في مواضع على ما قدمنا ذكره ولم يصل يوم الخندق أربع صلوات حتى كان هوى(1) من الليل ثم قال ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى ثم قضاهن على الترتيب فأخبر أن القتال شغله عن الصلاة ولو كانت الصلاة جائزة في حال القتال لما تركها كما لم يتركها في حال الخوف في غير قتال وقد كانت الصلاة مفروضة في حال الخوف قبل الخندق لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بذات الرقاع صلاة الخوف وقد ذكر محمد بن إسحاق والواقديّ أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق فثبت بذلك أن القتال ينافي الصلاة وأن الصلاة لا تصح معه وأيضا فلما كان القتال فعلا ينافي الصلاة لا تصح معه في غير الخوف كان حكمه في الخوف كهو في غيره مثل الحدث والكلام والأكل والشرب وسائر الأفعال المنافية للصلاة وإنما أبيح له المشي فيها لأن المشي لا ينافي الصلاة في كل حال على ما بيناه فيما سلف ولأنهم متفقون على أن المشي لا يفسدها فسلمناه للإجماع وما عداه من الأفعال المنافية للصلاة فهو محمول على أصله وقوله تعالى( فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ) يحتمل أن يكون المأمورون بأخذ السلاح الطائفة التي مع الإمام ويحتمل أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو لأن في الآية ضميرا للطائفة التي بإزاء العدو وضميرها ظاهر في نسق الآية في قوله( وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ) ومن وجه آخر يدل على ما ذكرنا وهو أنه أمر الطائفة المصلية مع الإمام بأخذ السلاح ولم يقل فليأخذوا حذرهم لأن في وجه العدو طائفة غير مصلية حامية لها قد كفت هذه أخذ الحذر ثم قال تعالى( وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ) وفي ذلك دليل من وجهين على أن

__________________

(1) قوله هوي بفتح الهاء وضمها وكسر الواو وتشديد الياء الحين الطويل من الليل.

٢٤٥

قوله( فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ) إنما أريد به الطائفة التي مع الإمام أحدهما أنه لما ذكر الطائفة الثانية قال( وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ) ولو كانوا مأمورين بأخذ السلاح بديا لاكتفى بذكرها بديا لهم والوجه الثاني قوله( وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ) فجمع لهم بين الأمرين من أخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة الأولى قد صارت بإزاء العدو وهي في الصلاة وذلك أولى بطمع العدو فيهم إذ قد صارت الطائفتان جميعا في الصلاة فدل ذلك على أن قوله( وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ) إنما أريد به الطائفة الأولى وهذا أيضا يدل على أن الطائفة التي تقف بإزاء العدو بديا غير داخلة في الصلاة وأنها إنما تدخل في الصلاة بعد مجيئها في الركعة الثانية ولذلك أمرت بأخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة التي في وجه العدو في الصلاة فيشتد طمع العدو فيها لعلمهم باشتغالها بالصلاة ألا ترى أن خالد بن الوليد قال لأصحابه بعسفان(1) بعد ما صلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم فإذا صلوها حملنا عليهم فصلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف ولذلك أمرهم الله بأخذ الحذر والسلاح جميعا والله أعلم ولما جاز أخذ السلاح في الصلاة وعمل ذلك فيها دل على أن العمل اليسير معفو عنه فيها قوله تعالى( وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً ) إخبار عما كان عزم عليه المشركون من الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه وأمر المسلمين بأخذ الحذر منهم* قوله تعالى( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ) فيه إباحة وضع السلاح لما فيه من المشقة في حال المرض والوحل والطين وسوى الله تعالى بين أذى المطر والمرض ورخص فيهما جميعا في وضع السلاح وهذا يدل على أن من كان في وحل وطين فجائز له أن يصلى بالإيماء كما يجوز ذلك له في حال المرض إذا لم يمكنه الركوع والسجود إذ كان الله تعالى قد سوى بين أذى المطر والمرض فيما وصفنا وأمر مع ذلك بأخذ الحذر من العدو وأن لا يغفلوا عنه فيكون سلاحهم بالقرب منهم بحيث يمكنهم أخذه إن حمل عليهم العدو قوله تعالى( فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ )

__________________

(1) قوله ألا ترى أن خالد بن الوليد قال لأصحابه بعسفان إلى آخره لأن خالدا رضى الله عنه لم يكن إذ ذاك أسلم وكان قائدا للمشركين في تلك الغزوة كما في صحيح أبى داود.

٢٤٦

قال أبو بكر أطلق الله تعالى الذكر في غير هذا الموضع وأراد به الصلاة في قوله( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ) يروى أن عبد الله بن مسعود رأى الناس يصيحون في المسجد فقال ما هذا النكر قالوا أليس الله يقول( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ) فقال إنما يعنى بهذه الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما فقاعدا وإن لم تستطع فصل على جنبك وروى عن الحسن( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ) هذه رخصة من الله للمريض أن يصلى قاعدا وإن لم يستطع فعلى جنبه فهذا الذكر المراد به نفس الصلاة لأن الصلاة ذكر الله تعالى وفيها أيضا أذكار مسنونة ومفروضة وأما الذكر الذي في قوله تعالى( فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ ) فليس هو الصلاة ولكنه على أحد وجهين أما الذكر بالقلب وهو الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته وفيما في خلقه وصنعه من الدلائل عليه وعلى حكمه وجميل صنعه والذكر الثاني الذكر باللسان بالتعظيم والتسبيح والتقديس وروى عن ابن عباس قال لم يعذر أحد في ترك الذكر إلا مغلوبا على عقله والذكر الأول أشرفهما وأعلاهما منزلة والدليل على أنه لم يرد بهذا الذكر الصلاة أنه أمر به بعد الفراغ منها بقوله تعالى( فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ ) وقوله تعالى( فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) فإنه روى عن الحسن ومجاهد وقتادة فإذا رجعتم إلى الوطن في دار الإقامة فأتموا الصلاة من غير قصر وقال السدى وغيره فعليكم أن تتموا ركوعها وسجودها غير مشاة ولا ركبان قال أبو بكر من تأول القصر المذكور في قوله تعالى( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) على إتمام الركعات عند زوال الخوف والسفر ومن تأوله على صفة الصلاة من فعلها بالإيماء أو على إباحة المشي فيها جعل قوله تعالى( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أمرا بفعل الصلاة المعهودة على الهيئة المفعولة قبل الخوف والله أعلم.

باب مواقيت الصلاة

قال الله تعالى( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال إن للصلاة وقتا كوقت الحج وعن ابن عباس ومجاهد وعطية مفروضا وروى عن ابن مسعود أيضا أنه قال موقوتا منجما كلما مضى نجم جاء نجم آخر وعن

٢٤٧

زيد بن أسلم مثل ذلك قال أبو بكر قد انتظم ذلك إيجاب الفرض ومواقيته لأن قوله تعالى( كِتاباً ) معناه فرضا وقوله( مَوْقُوتاً ) معناه أنه مفروض في أوقات معلومة معينة فأجمل ذكر الأوقات في هذه الآية وبينها في مواضع أخر من الكتاب من غير ذكر تحديد أوائلها وأواخرها وبين على لسان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم تحديدها ومقاديرها فمما ذكر الله في الكتاب من أوقات الصلاة قوله( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) ذكر مجاهد عن ابن عباس لدلوك الشمس قال إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر إلى غسق الليل قال بدو الليل لصلاة المغرب وكذلك روى عن ابن عمر في دلوكها أنه زوالها وروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال إن دلوكها غروبها وعن أبى عبد الرحمن السلمى نحوه قال أبو بكر لما تأولوا الآية على المعنيين من الزوال ومن الغروب دل على احتمالهما لو لا ذلك لما تأوله السلف عليهما والدلوك في اللغة الميل فدلوك الشمس ميلها وقد تميل تارة للزوال وتارة للغروب وقد علمنا أن دلوكها هو أول الوقت وغسق الليل نهايته وغايته لأنه قال( إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) وإلى غاية ومعلوم أن وقت الظهر لا يتصل بغسق الليل لأن بينهما وقت العصر فالأظهر أن يكون المراد بالدلوك هاهنا هو الغروب وغسق الليل هاهنا هو اجتماع الظلمة لأن وقت المغرب يتصل بغسق الليل ويكون نهاية له واحتمال الزوال مع ذلك قائم لأن ما بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت هذه الصلاة وهي الظهر والعصر والمغرب فيفيد ذلك أن من وقت الزوال إلى غسق الليل لا ينفك من أن يكون وقتا لصلاة فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب ويحتمل أن يراد به العتمة أيضا لأن الغاية قد تدخل في الحكم كقوله تعالى( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) والمرافق داخلة فيها وقوله( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) والغسل داخل في شرط الإباحة فإن حمل المعنى على الزوال انتظم أربع صلوات ثم قال( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) وهو صلاة الفجر فتنتظم الآية الصلوات الخمس وهذا معنى ظاهر قد دل عليه إفراده صلاة الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين صلاة الظهر وقت ليس من أوقات الصلاة المفروضة فأبان تعالى أن من وقت الزوال إلى وقت العتمة وقتا لصلوات مفعولة فيه وأفرد الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين الظهر فاصلة وقت ليس من أوقات الصلاة فهذه الآية يحتمل أن يريد بها بيان وقت صلاتين إذا كان المراد بالدلوك الغروب وهو وقت المغرب والفجر بقوله تعالى( وَقُرْآنَ

٢٤٨

الْفَجْرِ ) ويحتمل أن يريد بها الصلوات الخمس على الوجه الذي بينا ويحتمل أن يريد بها الظهر والمغرب والفجر وذلك لأنه جائز أن يريد بقوله( إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) أقم الصلاة مع غسق الليل كقوله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ) ومعناه مع أموالكم ويكون غسق الليل حينئذ وقتا لصلاة المغرب ويجوز أن يريد به وقت صلاة العتمة وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقول دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس قال وقال ابن مسعود دلوك الشمس حين تجب إلى غسق الليل حين يغيب الشفق وعن عبد الله أيضا أنه لما غربت الشمس قال هذا غسق الليل وعن أبى هريرة غسق الليل غيبوبة الشمس وقال الحسن غسق الليل صلاة المغرب والعشاء وقال إبراهيم النخعي غسق الليل العشاء الآخرة وعن أبى جعفر غسق الليل انتصافه وروى مالك عن داود بن الحصين قال أخبرنى مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول غسق الليل اجتماع الليل وظلمته فهذه الآية فيها احتمال للوجوه التي ذكرنا من مواقيت الصلوات وقال تعالى( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) روى عمر وعن الحسن في قوله تعالى( طَرَفَيِ النَّهارِ ) قال صلاة الفجر والأخرى الظهر والعصر( وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) قال المغرب والعشاء فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس وروى يونس عن الحسن أقم الصلاة طرفي النهار قال الفجر والعصر* وروى ليث عن الحكم عن أبى عياض قال قال ابن عباس جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة فسبحان الله حين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الفجر وعشيا العصر وحين تظهرون الظهر وعن الحسن مثله وروى أبو رزين عن ابن عباس وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب قال الصلاة المكتوبة وقال( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) وهذه الآية منتظمة لأوقات الصلوات أيضا فهذه الآيات كلها فيها ذكر أوقات الصلوات من غير تحديد لها إلا فيما ذكر من الدلوك فإنه جعله أول وقت لتلك الصلاة ووقت الزوال والغروب معلومان وقوله تعالى( إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) ليس فيه بيان نهاية الوقت بلفظ غير محتمل للمعاني وقوله( حِينَ تُمْسُونَ ) إن أراد به المغرب كان معلوما وكذلك تصبحون لأن وقت الصبح معلوم وقوله( طَرَفَيِ النَّهارِ ) لا دلالة فيه على تحديد الوقت لاحتماله أن يريد الظهر والعصر وذلك لأن وسط

٢٤٩

النهار هو وقت الزوال فما كان منه في النصف الآخر فهو طرف وكذلك ما كان منه في النصف الأول فهو طرف وجائز أن يريد به العصر لأن آخر النهار من طرفه والأولى أن يكون المراد العصر دون الظهر لأن طرف الشيء إما أن يكون ابتداءه ونهايته وآخره ويبعد أن يكون ما قرب من الوسط طرفا إلا أن الحسن في رواية عمر وقد تأوله على الظهر والعصر جميعا وقد روى عنه يونس أنه العصر وهو أشبه بمعنى الآية ألا ترى أن طرف الثوب ما يلي نهايته ولا يسمى ما قرب من وسطه طرفا* فهذه الآي دالة* على أعداد الصلوات* وقوله تعالى( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ ) الآية يدل على أنها وتر لأن الشفع لا وسط له وقد تواترت الآثار عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقلت الأمة عنه قولا وفعلا فرض الصلوات الخمس وقد روى أنس بن مالك وعبادة بن الصامت في حديث المعراج عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه أمر بخمسين صلاة وأنه لم يزل يسئل ربه التخفيف حتى استقرت على خمس وهذا عندنا كان فرضا موقوفا على اختيار النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك لأنه لا يجوز نسخ الفرض قبل التمكن من الفعل وقد بيناه في أصول الفقه ولا خلاف بين المسلمين في فرض الصلوات الخمس وقال جماعة من السلف بوجوب الوتر وهو قول أبى حنيفة وليس هو بفرض عنده وإن كان واجبا لأن الفرض ما كان في أعلى مراتب الإيجاب وقد ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم آثار متواترة في بيان تحديد أوقات الصلوات واتفقت الأمة في بعضها واختلفت في بعض.

وقت الفجر

فأما أول وقت الفجر فلا خلاف فيه أنه من حين يطلع الفجر الثاني الذي يعترض في الأفق وروى سليمان التيمي عن أبى عثمان النهدي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس الفجر أن يقول هكذا وجمع كفه حتى يكون هكذا ومد إصبعيه السبابتين * وروى قيس بن طلق عن أبيه قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كلوا واشربوا ولا* يهدينكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر * وروى سفيان عن عطاء عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الفجر فجران فجر يحل فيه الطعام وتحرم فيه الصلاة وفجر تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام وروى نافع ابن جبريل في حديث المواقيت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جبريل عليه السلام أمه عند البيت فصلى الفجر في اليوم الأول

٢٥٠

حين برق الفجر وحرم الطعام والشراب على الصائم فهذا أول وقت الفجر وقد تواترت به الآثار واتفق عليه فقهاء الأمصار وأما آخر وقتها فهو إلى طلوع الشمس عند سائر الفقهاء وذكر ابن القاسم عن مالك أنه قال وقت الصبح الإغلاس والنجوم بادية مشتبكة وآخر وقتها إذا أسفر ويحتمل أن يكون مراده الوقت المستحب وكراهة التأخير إلى بعد الإسفار لا على معنى أنها تكون فائته إذا أخرها إلى بعد الإسفار قبل طلوع الشمس وقد روى عبد الله بن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال وقت الفجر ما لم تطلع الشمس وقد روى الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن للصلاة أولا وآخرا وأن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وأن آخر وقتها حين تطلع الشمس وروى أبو هريرة أيضا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من أدرك ركعة من صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك فألزم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مدرك هذا القدر من الوقت جميع الصلاة مثل الحائض تطهر والصبى يبلغ والكافر يسلم فثبت أن وقت الفجر إلى طلوع الشمس.

وقت الظهر

وأما أول وقت الظهر فهو من حين نزول الشمس ولا خلاف بين أهل العلم فيه وقال الله تعالى( وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ) وقال( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) وقد بينا أن دلوك الشمس تحتمل الزوال والغروب جميعا وهو عليهما فتنتظم الآية الأمر بصلاة الظهر والمغرب وبيان أول وقتيهما ومن جهة السنة حديث ابن عباس وأبى سعيد وجابر وعبد الله بن عمر وبريدة الأسلمى وأبى هريرة وأبى موسى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذكر المواقيت حين أمه جبريل وأنه صلى الظهر حين زالت الشمس وفي بعضها ابتداء اللفظ من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أول وقت الظهر إذا زالت الشمس وهي أحاديث مشهورة كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وسياقة ألفاظها فصار أول وقت الظهر معلوما من جهة الكتاب والسنة واتفاق الأمة* وأما آخر وقتها فقد اختلف فيه الفقهاء فروى عن أبى حنيفة فيه ثلاث روايات إحداهن أن يصير الظل أقل من قامتين والأخرى وهي رواية الحسن بن زياد أن يصير ظل كل شيء مثله والثالثة أن يصير الظل قامتين وهي رواية الأصل وقال أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن ابن زياد والحسن بن صالح والثوري والشافعى هو أن يصير ظل كل شيء مثله وحكى عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى

٢٥١

غروب الشمس ويحتج لقول من قال بالمثلين في آخر وقت الظهر بظاهر قوله( أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ) وذلك يقتضى فعل العصر بعد المثلين لأنه كلما كان أقرب إلى وقت الغروب فهو أولى باسم الطرف وإذا كان وقت العصر من المثلين فما قبله من وقت الظهر لحديث الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر ويحتج أيضا لهذا القول بظاهر قوله تعالى( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) وقد بينا أن الدلوك يحتمل الزوال فإذا أريد به ذلك اقتضى ظاهره امتداد الوقت إلى الغروب إلا أنه ثبت أن ما بعد المثلين ليس بوقت للظهر فوجب أن يثبت إلى المثلين بالظاهر ويحتج فيه من جهة السنة بحديث ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ومثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم كرجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي ما بين غدوة إلى نصف النهار على قيراط فعملت اليهود ثم قال من يعمل لي ما بين نصف النهار إلى العصر على قيراط فعملت النصارى ثم قال من يعمل لي ما بين العصر إلى المغرب على قيراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء قال هل نقصتم من جعلكم شيئا قالوا لا قال فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء لالة هذا الخبر على ما ذكرنا من وجهين أحدهما قوله أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وإنما أراد بذلك الإخبار عن قصر الوقت وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين وجمع بين السبابة والوسطى وفي خبر آخر كما بين هذه وهذه فأخبر فيه أن الذي بقي من مدة الدنيا كنقصان السبابة عن الوسطى وقد قدر ذلك بنصف السبع فثبت بذلك حين شبهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أجلنا في أجل من مضى قبلنا بوقت العصر في قصر مدته أنه لا ينبغي أن يكون من المثل لأنه لو كان كذلك لكان أكثر من ذلك فدل ذلك على أن وقت العصر بعد المثلين والوجه الآخر من دلالة الخبر المثل الذي ضربهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا ولأهل الكتابين بالعمل في الأوقات المذكورة وأنهم غضبوا فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء فلو كان وقت العصر في المثل لما كانت النصارى أكثر عملا من المسلمين بل كان يكون المسلمون أكثر عملا لأن ما بين المثل إلى الغروب أكثر مما بين الزوال إلى المثل فثبت بذلك أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر فإن قيل إنما

٢٥٢

أراد أن وقتى الفريقين بذلك على حياله دون الإخبار عنهما مجموعين ألا ترى أنهم قالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء وليسا بمجموعهما أقل عطاء لأن عطاءهما جميعا هو مثل عطاء المسلمين ويدل عليه حديث عروة عن بشير بن أبى مسعود عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جبريل أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن جبريل أتاه بعد المثل فأمره بفعل الظهر فلو كان ما بعد المثل من وقت العصر لكان قد أخر الظهر عن وقتها فإن قيل في حديث ابن عباس وجابر وأبى سعيد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله وهذا يوجب أن يكون وقت العصر بعد المثل قيل له أما حديث ابن عباس فإنه أخبر فيه عن إمامة جبريل عند باب البيت وذلك قبل الهجرة وفيه أنه صلى الظهر من اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس وذلك يوجب أن يكون وقت الظهر ووقت العصر واحدا فيما صلاهما في اليومين فإن قيل إنما أراد أنه ابتدأ العصر في وقت فراغه من الظهر من الأمس قيل له في حديث ابن مسعود إن جبريل أتاه حين صار ظل كل شيء مثله في اليوم الأول فقال قم فصل العصر وأنه أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن مجيئه إليه وأمره إياه بالصلاة كان بعد المثل وهذا يسقط تأويل من تأوله وإذا كان ذلك كذلك وقد روى عبد الله بن عمر وأبو هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر وفي حديث أبى قتادة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ثبت بذلك أن ما في حديث ابن عباس وابن مسعود على النحو الذي ذكرنا منسوخ وأنه كان قبل الهجرة وعلى أنه لو كان ثابت الحكم لوجب أن يكون الفعل الآخر ناسخا للأول وأن يكون الآخر منهما ثابتا والآخر من الفعلين أنه فعل الظهر في اليوم الثاني بعد المثل وذلك يقتضى أن يكون ما بعد المثل من وقت الظهر وفي حديث أبى موسى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سأله السائل عن مواقيت الصلاة أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس مرتفعة قبل أن تدخلها الصفرة وكذلك في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة ولا يقال هذا فيمن صلاها حين يصير الظل مثله وقد ذكر أيضا في حديث ابن مسعود أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة رواه جماعة من كبار أصحاب الزهري عن عروة منهم

٢٥٣

مالك والليث وشعيب ومعمر وغيرهم ورواه أيوب عن عتبة عن أبى بكر بن عمرو بن حزم عن عروة فذكر فيه مقادير الفيء على نحو ما قدمنا فحديث ابن مسعود يروى على هذين الوجهين فذكر في أحدهما أنه جاءه جبريل عليه السلام حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر وفي اليوم الثاني جاءه حين صار ظل كل شيء مثليه فقال قم فصل العصر وحديث الزهري عن عروة لم يذكر فيه مقدار الفيء وذكر أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة لم تدخلها صفرة * وقد رويت أخبار في تعجيل العصر قد يحتج بها من يقول بالمثل وفيها احتمال لما قالوه ولغيره فلا تثبت بمثلها حجة في إثبات المثل دون غيره إذ لا حجة في المحتمل منها حديث أنس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى العصر ثم يذهب الذاهب إلى العوالي فيجدهم لم يصلوا العصر قال الزهري والعوالي على الميلين والثلاثة وروى أبو واقد الليثي قال حدثنا أبو أروى قال كنت أصلى مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم العصر بالمدينة ثم أمشى إلى ذي الحليفة قبل أن تغرب الشمس وفي حديث أسامة ابن زيد عن الزهري عن عروة عن بشير بن أبى مسعود عن أبيه قال كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى العصر والشمس بيضاء مرتفعة يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس وروى عن عائشة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى العصر والشمس في حجرتها قبل أن يظهر الفيء وفي لفظ آخر لم يفيء الفيء بعد * وليس في هذه الأخبار ذكر تحديد الوقت وما ذكر من المضي إلى العوالي وذي الحليفة فليس يمكن الوقوف منه على مقدار معلوم من الوقت لأنه على قدر الإبطاء والسرعة في المشي وقد كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله تعالى يستدل بقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم على أن ما بعد المثل وقت للظهر لأن الإبراد لا يكون عند المثل بل أشد ما يكون الحر في الصيف عند ما يصير ظل كل شيء مثله ومن قال بالمثل يجيب عن ذلك بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلى بالهجير عند الزوال والفيء قليل في ذلك الوقت فكان منهم من يصلى في الشمس أو بالقرب منها وكذلك قال خباب شكونا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا ثم قال أبردوا بالظهر فأمرهم أن يصلوها بعد ما يفيء الفيء فهذا هو الإبراد المأمور به عند من قال بالمثل* وأما ما حكى عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس فإنه قول ترده الأخبار المروية في المواقيت لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى في

٢٥٤

اليومين في حديث ابن عباس وابن مسعود وجابر وأبى سعيد وأبى موسى وغيرهم في أول الوقت وآخره ثم قال ما بين هذين وقت وفي حديث عبد الله بن عمر وأبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبى هريرة وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر فغير جائز لأحد أن يجعل وقت العصر وقتا للظهر مع إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن آخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وقد نقل الناس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الأوقات عملا وقولا كما نقلوا وقت الفجر ووقت العشاء والمغرب وعقلوا بتوقيفهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن كل صلاة منها مخصوصة بوقت غير وقت الأخرى وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبى قتادة التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الآخر ولا خلاف أن تارك الظهر لغير عذر حتى يدخل وقت العصر مفرط فثبت أن للظهر وقتا مخصوصا وكذلك العصر وإن وقت كل واحدة منهما غير وقت الأخرى ولو كان الوقتان جميعا وقتا للصلاتين لجاز أن يصلى العصر في وقت الظهر من غير عذر ولما كان للجمع بعرفة خصوصية وفي امتناع جواز ذلك لغير عذر عند الجميع دلالة على أن كل واحدة من الصلاتين منفردة بوقتها* فإن احتجوا بقوله تعالى( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) وأن الدلوك هو الزوال وجعل ذلك كله وقتا للظهر إلى غروب الشمس لأنه روى في غسق الليل عن جماعة من السلف أنه الغروب* قيل له ظاهره يقتضى إباحة فعل هذه الصلاة من وقت الزوال إلى غسق الليل وقد اتفق الجميع على أن ذلك ليس بمراد وأنه غير مخير في فعل الظهر من وقت الزوال إلى الليل فثبت أن المراد صلاة أخرى يفعلها وهي إما العصر وإما المغرب والمغرب أشبه بمعنى الآية لاتصال وقتها بغسق الليل الذي هو اجتماع الظلمة فيكون تقدير الآية أقم الصلاة لزوال الشمس وأقمها أيضا إلى غسق الليل وهي صلاة أخرى غير الأولى فلا دلالة في الآية على أن وقت الظهر إلى غروب الشمس* وقد وافق الشافعى مالكا في هذا المعنى أيضا من وجه وذلك أنه يقول من أسلم قبل غروب الشمس لزمته الظهر والعصر جميعا وكذلك الحائض إذا طهرت والصبى إذا بلغ وذهب إلى أنه وإن لم يكن وقت اختيار فهو وقت الضرورة والعذر لأنه يجوز على أصله الجمع بين الصلاتين في السفر والمرض ونحوه بأن يؤخر الظهر إلى وقت العصر أو يجعل العصر فيصليها في وقت الظهر معها فجعل من أجل ذلك الوقت

٢٥٥

وقتا لهما في حال العذر والضرورة فإن كان هذا اعتبارا صحيحا فإنه يلزمه أن يقول في المرأة إذا حاضت في أول وقت الظهر أن تلزمها صلاة الظهر والعصر جميعا كما أنها إذا طهرت في آخر وقت العصر لزمتها صلاة الظهر والعصر جميعا وقد أدركت هذه التي حاضت في وقت الظهر من الوقت ما يجوز لها فيه الجمع بين الصلاتين للعذر وهذا لا يقوله أحد فثبت بذلك أن وقت العصر غير وقت الظهر في سائر الأحوال وأنه لا تلزم أحدا صلاة الظهر بإدراكه وقت العصر دون وقت الظهر.

وقت العصر

قال أبو بكر أما أول وقت العصر فهو على ما ذكرنا من خروج وقت الظهر على اختلافهم فيه والصحيح من قولهم أنه ليس بين وقت الظهر ووقت العصر واسطة وقت من غيرهما وما روى عن أبى حنيفة من أن آخر وقت الظهر أن يصير الظل أقل قامتين وأول وقت العصر إذا صار الظل قامتين فهو رواية شاذة وهي أيضا مخالفة للآثار الواردة في أن وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وفي حديث أبى قتادة التفريط في الصلاة أن يتركها حتى يدخل وقت الأخرى والصحيح من مذهب أبى حنيفة أحد قولين إما المثلان وإما المثل وإن بخروج وقت الظهر يدخل وقت العصر* واتفق فقهاء الأمصار أن آخر وقت العصر غروب الشمس ومن الناس من يقول إن آخر وقتها حين تصفر الشمس ويحتج فيه بنهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة عند غروب الشمس قال أبو بكر والدليل على أن آخر وقتها الغروب قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من فاته العصر حتى غابت الشمس فكأنما وتر أهله وماله فجعل فواتها بالغروب وروى أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك وهذا يدل على أن وقتها إلى الغروب فإن احتج محتج بحديث عبد الله بن عمر وأبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال آخر وقت العصر حين تصفر الشمس * فإن هذا عندنا على كراهة التأخير وبيان الوقت المستحب كما روى في حديث الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال آخر وقت العشاء الآخرة نصف الليل ومراده الوقت المستحب لأنه لا خلاف أن ما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر من وقت العشاء الآخرة وأن مدركه بالاحتلام أو الإسلام

٢٥٦

يلزمه فرضها وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إن الرجل ليصلى الصلاة ولما فاته من وقتها خير له من أهله وماله فقد يكون وقت يلزمه به مدركه الفرض ويكره له تأخيرها إليه ألا ترى أنه يكره الإسفار بصلاة الفجر بمزدلفة ولم تخرجه كراهة التأخير إليه من أن يكون وقتا لها فكذلك الأخبار التي فيها تقدير آخر الوقت باصفرار الشمس واردة على فوات فضيلة الوقت الذي جعلها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا له من أهله وماله.

وقت المغرب

أول وقت المغرب من حين تغرب الشمس لا اختلاف بين الفقهاء في ذلك وقال الله عز وجل( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) وهو يقع على الغروب لما بيناه فيما سلف وقال تعالى( وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) وهو ما قرب منه من النهار وهو أول أوقاته والله أعلم وقال تعالى( فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ ) قيل فيه إنه وقت المغرب وفي أخبار المواقيت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق ابن عباس وجابر وأبى سعيد وغيرهم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى المغرب في اليومين جميعا حين غابت الشمس وقال سلمة بن الأكوع كنا نصلى المغرب مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تواترت بالحجاب * وقد ذهب شواذ من الناس إلى أن أول وقت المغرب حين يطلع النجم واحتجوا بما روى أبو تميم الجيشاني عن أبى بصرة الغفاري قال صلى بنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العصر فقال إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها منكم أوتى أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم وهذا حديث شاذ لا تعارض به الأخبار المتواترة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول وقت المغرب أنه حين تغيب الشمس وقد روى ذلك أيضا عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعبد الله وعثمان وأبى هريرة* ويحتمل أن يكون خبر أبى بصرة في ذكر طلوع الشاهد غير مخالف لهذه الأخبار وذلك لأن النجم قد يرى في بعض الأوقات بعد غروب الشمس قبل اختلاط الظلام فلما كان الغالب في ذلك أنه لا يكاد يخلو من أن يرى بعض النجوم بعد غروب الشمس جعل ذلك عبارة عن غيبوبة الشمس وأيضا فلو كان الاعتبار برؤية النجم لوجب أن تصلى قبل الغروب إذا رؤي النجم لأن بعض النجوم قد يرى في بعض الأوقات قبل الغروب ولا خلاف أنه غير جائز فعلها قبل

«17 ـ أحكام لث»

٢٥٧

الغروب مع رؤية الشاهد فسقط بذلك اعتبار طلوع الشاهد* وأما آخر وقت المغرب فإن أهل العلم مختلفون فيه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والحسن بن صالح لوقت المغرب أول وآخر كسائر الصلوات وقال الشافعى ليس للمغرب إلا وقت واحد ثم اختلف من قال بأن له أولا وآخرا في آخر وقتها فقال أصحابنا والثوري والحسن بن صالح آخر وقتها أن يغيب الشفق ثم اختلفوا في الشفق فقال أبو حنيفة الشفق البياض وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبى ليل ومالك والثوري والحسن ابن صالح والشافعى الشفق الحمرة وقال مالك وقت المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر* قال أبو بكر وقد اختلف السلف أيضا في الشفق ما هو فقال بعضهم هو البياض وقال بعضهم الحمرة فممن قال أنه الحمرة ابن عباس وابن عمر وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس* وحدثنا أبو يعقوب يوسف بن شعيب المؤذن قال حدثنا أبو عمران موسى ابن القاسم العصار والحسين بن الفرج البزاز قالا حدثنا هشام بن عبيد الله قال حدثنا هياج عمن ذكر عن عطاء الخرسانى عن ابن عباس قال الشفق الحمرة قال هشام وحدثنا أبو سفيان عن العمرى عن نافع عن ابن عمر قال الشفق الحمرة* قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عن ثور بن يزيد عن مكحول قال كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس يصليان العشاء إذا غابت الحمرة ويريانها الشفق فهؤلاء الذين روى عنهم الحمرة وممن روى عنه أن الشفق البياض عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعمر بن عبد العزيز حدثنا يوسف بن شعيب قال حدثنا موسى بن القاسم والحسين بن الفرج قالا حدثنا هشام بن عبيد الله قال حدثنا الوليد ابن مسلم قال حدثنا عنبسة بن سعيد الكلاعى قال حدثني قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كتب إن أول وقت العشاء مغيب الشفق ومغيبه إذا اجتمع البياض من الأفق فينقطع فذلك أول وقتها قال هشام حدثنا أبو عثمان عن خالد بن يزيد عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال الشفق البياض* قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عمن ذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول الشفق البياض.

(فصل) وأما الدلالة على أن لوقت المغرب أولا وآخرا وأنه غير مقدر بفعل الصلاة فحسب قوله تعالى( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) وقد ذكرنا من

٢٥٨

قال من السلف أنه الغروب واحتمال اللفظ له فاقتضت الآية أن يكون لوقت المغرب أول وآخر لأن قوله تعالى( إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) غاية وقد روى عن ابن عباس أن غسق الليل اجتماع الظلمة فثبت بدلالة الآية أن وقت المغرب من حين الغروب إلى اجتماع الظلمة وفي ذلك ما يقضى ببطلان قول من جعل لها وقتا واحدا مقدرا بفعل الصلاة وروى الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أول وقت المغرب حين تسقط الشمس وأن آخر وقتها حين يغيب الأفق وفي حديث أبى بكرة عن أبى موسى عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن سائلا سأله عن مواقيت الصلاة فذكر الحديث وقال فيه وصلى المغرب في اليوم الأول حين وقعت الشمس وآخرها في اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق ثم قال الوقت فيما بين هذين وفي حديث علقمة بن مرثد عن سليمان ابن بريدة عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا سأله عن وقت الصلاة فقال صل معنا فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم صلى المغرب في اليوم الثاني قبل أن يغيب الشفق وكذلك في حديث جابر فثبت بذلك أن لوقت المغرب أولا وآخرا وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا همام عن قتادة عن أبى أيوب عن عبد الله بن عمرو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وقت المغرب ما لم يغب الشفق وروى عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في صلاة المغرب بأطول الطوال وهي( المص ) وهذا يدل على امتداد الوقت ولو كان الوقت مقدرا بفعل ثلاث ركعات لكان من قرأ( المص ) قد أخرها عن وقتها فإن قيل روى في حديث ابن عباس وأبى سعيد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى المغرب في اليومين جميعا في وقت واحد بعد غروب الشمس قيل له هذا لا يعارض ما ذكرنا لأنه جائز أن يكون فعله كذلك ليبين الوقت المستحب وفي الأخبار التي رويناها بيان أول الوقت وآخره وإخبار منه بأن ما بين هذين وقت فهو أولى لأن فيه استعمال الخبرين ومع ذلك فإن فعله لها في اليومين في وقت واحد لو انفرد عما يعارضه من الأخبار التي ذكرنا لم تكن فيه دلالة على أنه لا وقت لها غيره كما لم يدل فعله للعصر في اليومين قبل اصفرار الشمس على أنه لا وقت لها غيره وكفعله للعشاء الآخرة في اليومين قبل نصف الليل لم يدل على أن ما بعد نصف الليل ليس بوقت لها ومن جهة النظر أن سائر الصلوات المفروضات لما كان لأوقاتها أول وآخر ولم تكن أوقاتها

٢٥٩

مقدرة بفعل الصلاة وجب أن يكون المغرب كذلك فقول من جعل الوقت مقدرا بفعل الصلاة خارج عن الأصول مخالف للأثر والنظر جميعا ومما يلزم الشافعى في هذا أنه يجيز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت واحد إما لمرض أو سفر كما يجيزه بين الظهر والعصر فلو كان بينهما وقت ليس منهما لما جاز الجمع بينهما كما لا يجوز الجمع بين الفجر والظهر إذ كان بينهما وقت ليس منهما فإن قيل ليست علة الجمع تجاور الوقتين لأنه لا يجمع المغرب إلى العصر مع تجاوز الوقتين قيل له لم نلزمه أن يجعل تجاور الوقتين علة للجمع وإنما ألزمناه المنع من الجمع إذا لم يكن الوقتان متجاورين لأن كل صلاتين بينهما وقت ليس منهما لا يجوز الجمع بينهما والله أعلم بالصواب.

ذكر القول في الشفق والاحتجاج له

قال أبو بكر لما اختلف الناس في الشفق فقال منهم قائلون هو الحمرة وقال آخرون البياض علمنا أن الاسم يتناولهما ويقع عليهما في اللغة لو لا ذلك لما تأولوه عليهما إذ كانوا عالمين بمعاني الأسماء اللغوية والشرعية ألا ترى أنهم لما اختلفوا في معنى القرء فتأوله بعضهم على الحيض وبعضهم على الطهر ثبت بذلك أن الاسم يقع عليهما وإنما نحتاج بعد ذلك إلى أن نستدل على المراد منهما بالآية وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب قال سئل ثعلب عن الشفق ما هو فقال البياض فقال له السائل الشواهد على الحمرة أكثر فقال ثعلب إنما يحتاج إلى الشاهد ما خفى فأما البياض فهو أشهر في اللغة من أن يحتاج إلى الشاهد قال أبو بكر ويقال إن أصل الشفق الرقة ومنه يقال ثوب شفق ومنه الشفقة وهي رقة القلب وإذا كان أصله كذلك فالبياض أخص به لأنه عبارة عن الأجزاء الرقيقة الباقية من ضياء الشمس وهو في البياض أرق منه في الحمرة ويشهد لمن قال بالحمرة قول أبى النجم.

حتى إذا الشمس اجتلاها المجتلى

بين سماطي شفق مهول(1)

فهي على الأفق كعين الأحول

ومعلوم أنه أراد الحمرة لأنه وصفها عند الغروب ومما يحتج به البياض قوله تعالى( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ) قال مجاهد هو النهار ويدل عليه قوله( وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ ) فأقسم

__________________

(1) قوله مهول هو الذي فيه تهاويل وهي الألوان المختلفة من حمرة وصفرة وغيرهما.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

فقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذمّوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم »(١) .

وهو كلام صريح في الأصل المذكور.

ترجيح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة

ولكنّ المتأمّل في تلك النصوص والقرائن الحافّة بها يجد أن هذا النهي والتحريم يختصّان بالأسرار الفرديّة التي لا تمتّ إلى المجتمع بصلة، ولا ترتبط بمصالح الاُمّة بوشيجة.

فعندما يتعلّق الأمر بالمصالح العامّة لا يمكن التغاضي عن أسرار الفرد، وقضاياه، إذ من البديهيّ في تلك الصورة ـ أن تترجّح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة، وإلاّ تعرّضت الاُمّة لأخطار تهدّد كيانها، وتنذر وجودها بالفناء والدمار.

إنّ التشريع الإسلاميّ الذي ينهي بشدّة عن محاولة الاطّلاع على دخائل الناس وأسرارهم الشخصيّة ـ فيما لو كانت تخصّ بهم ـ ويحرّم اغتياب الأفراد لا يمنع من التعرّف على الاُمور التي ترتبط بمصلحة الجماعة، بل يسمح للدولة الإسلاميّة بجمع المعلومات الصحيحة المفيدة لوضعها تحت تصرّف الحاكم الإسلاميّ، حتّى يتحرّك على ضوئها، فيتعرّف على المتآمرين، ويبطل خططهم ومؤامراتهم حفاظاً على مصلحة الاُمّة وإبقاء على وجودها، وكيانها من كيد الكائدين ومكر الماكرين، وهذا أمر يؤيّده العقل السليم وتقبله الفطرة، وتدعو إليه الحكمة، ويقتضيه التدبير الصحيح، والسياسة الرشيدة.

الاستخبارات الراهنة مرفوضة

على أنّ من الطبيعيّ أن يتصوّر القارئ الكريم بمجرّد سماعه لكلمة

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٥: ٢١٤ نقلا عن ثواب الأعمال: ٢١٦.

٥٤١

( الاستخبارات والأمن العامّ ) تلك الأجهزة الجهنّمية المخيفة التي تعتمد عليها الحكومات الطاغوتيّة الحاضرة في ملاحقة الشعوب، وقهر إرادتها، وقمع حركتها.

أقول من الطبيعيّ أن تتداعى في ذهن القارئ هذه الصورة القائمة، وهذا المعنى الأسود، لأنّ شعوبنا المظلومة قد اعتادت على مثل هذا التصوّر عن جهاز المخابرات وأعمال التجسّس، ولكنّ الحقيقة أنّ ما نقصده من جهاز الاستخبارات يختلف تماماً عن هذه الصورة.

فجهاز الاستخبارات ـ في الحكومة ـ ليس لقمع الشعوب المظلومة المضطهدة وخنق صرخاتها، وتحطيم حركاتها العادلة وليس لتحديد نموّ الأمم ورشدها العقليّ والعلميّ، وإخضاعها لسياسة معينة حتّى لو كانت خاطئة، وجائرة بل هو لأهداف وطنيّة عادلة نشير إليها فيما يلي :

أهداف الاستخبارات في الحكومة الإسلاميّة

إنّ أهداف جهاز الاستخبارات والأمن العامّ ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ تتلخّص في ثلاثة وظائف واُمور أساسيّة تقتضيها مصلحة الاُمّة وهي :

١ / مراقبة نشاط الموظّفين في الحكومة الإسلاميّة، ليقوموا بمسؤوليّاتهم الإداريّة المناطة إليهم بأمانة وانضباط.

٢ / مراقبة التحرّكات العسكريّة للأعداء بهدف إفشال أي عدوان محتمل وإحباط أي تحرّش في اللحظة المناسبة.

٣ / مراقبة تحرّكات ونشاطات الأجانب ورصد تسلّلهم أو نفوذهم في البلاد الإسلاميّة للحيلولة دون قيامهم بأيّة ( مؤامرة ) تسيء إلى أمن البلاد، من إيجاد الأحزاب الداخليّة، والسريّة المعادية للاُمّة أو بثّ الشائعات المضرّة بالأمن، والمخلّة بعزائم الناس، وإرادة الجماهير، فإنّ للمخابرات وجهاز الأمن العامّ ـ في الدولة الإسلاميّة ـ أن تقوم بعمل تجسّسيّ دقيق في هذه المجالات والأبعاد.

٥٤٢

وإليك فيما يلي تفصيل هذه الأقسام الثلاثة وأدلّتها الإسلاميّة :

١. مراقبة الموظّفين

إنّ أوّل ما تهدفه الحكومة الإسلاميّة هو خدمة الاُمّة، وتنفيذ الأحكام الإسلاميّة بأمانة ودقّة، وهذا لا يتحقّق إلّا بأن يقوم جميع الموظفين ـ في هذه الحكومة ـ بواجباتهم ووظائفهم الإداريّة بأمانة وصدق وانضباط، ولتحقيق هذا الأمر يحاول الإسلام في الدرجة الاُولى أن يختار للمناصب والوظائف الحكومية كلّ أمين صادق من الموظّفين كمّا مرّ عليك سابقاً ولكنّ الدولة الإسلاميّة لا تكتفي بالاختيار الحسن لموظّفيها، وتتركهم دون مراقبة ونظارة، بل تنصب من تراقبهم وترصد أعمالهم ليقوموا بمسؤوليّاتهم دون تلكّؤ ويؤدّوا واجباتهم الإداريّة والحكوميّة دون تقصير فها هو الإمام الرضاعليه‌السلام يقول: « كان رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا بعث جيشاً فأمّهُم أمير بعث معهُ من ثُقاته من يتجسّس لهُ خبرهُ »(١) .

وفي عهده المعروف لمالك الأشتر يوصي الإمام عليّ مالكاً بإرسال من يراقب عمّاله، ويرفع إليه عنهم الأخبار والتقارير فيقول: « وابعث العُيون من أهل الصّدق والوفاء عليهم فإنّ تعاهُدك في السرّ لاُمُورهم حدوة لهُم على استعمال الأمانة والرفق بالرّعية. وتحفّظ من الأعوان فإن أحد منهُم بسط يدهُ إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبارُ عُيُونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقُوبة في بدنه وأخذتهُ بما أصاب من عمله ثُمّ نصبتهُ بمقام المذلّة، ووسمتهُ بالخيانة، وقلّدتهُ عار التّهمة »(٢) .

وهكذا يؤكّد الإمام عليّعليه‌السلام على ضرورة تعيين جهاز يراقب أعمال الموظّفين وأصحاب المناصب الحكوميّة، ثمّ يؤكّد عليه أن يختار لهذا الجهاز من يثق بأخباره من الأفراد ثقة مطلقة إلى درجة يكتفي بأخبارهم إذا أخبروا عن خيانة أو تقصير، وهذا يعني أن يكون أعضاء جهاز ( الاستخبارات ) من الرجال الصالحين إلى درجة يثق الحاكم

__________________

(١) قرب الاسناد: ١٤٨.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب: الرقم ٥٣.

٥٤٣

الإسلاميّ بأخبارهم.

ومن المعلوم أنّ جهازاً من هذا النوع وأعضاء من هذا القبيل لا يمكن أن يتحوّل إلى جهاز جهنّمي على غرار ما يوجد الآن في البلاد الإسلاميّة في ظلّ الحكومات الطاغوتيّة الراهنة التي تتحكّم في أعراض الناس ودمائهم وأموالهم وتتجاوز على حقوقهم دون أن يجرأ أحد على الاعتراض أو الشكوى.

ويبدو أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام نفسه كان له عيون ورجال يتجسّسون له على ولاته وعمّاله في مختلف البلاد حيث إنّنا نجده يعاتب بعض ولاته على اُمور غير لائقة بهم ـ كولاة وحكّام إسلاميّين ـ صدرت عنهم، ونرى نموذج ذلك في كتابه إلى عثمان بن حنيف وكان عامله على البصرة، وقد بلغه أنّه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها فكتب الإمامعليه‌السلام إليه: « أمّا بعدُ، يا ابن حُنيف، فقد بلغني أنّ رجُلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدُبة فأسرعت إليها تُستطابُ لك الألوانُ، وتُنقلُ إليك الجفانُ، وما ظننتُ أنّك تُجيبُ إلى طعام قوم عائلُهُم مجفُوّ وغنيّهُم مدعُوّ »(١) .

وتفيد كلمة ( بلغني ) أن هناك من كان يبلّغ هذه المعلومات عن الولاة إلى الإمام عليّ كيف لا وهو يأمر مالكاً أن يتّخذ مثل هؤلاء النظّار والمفتّشين على عمّاله، وقد دعا بعض علماء الإسلام إلى ذلك أيضاً، قال أبو يوسف في كتاب الخراج يوصي حكام زمانه: ( وأنا أرى أن تبعث قوماً من أهل الصلاح والعفاف ممّن يوثق بدينه وأمانته يسألون عن سيرة العمّال وما عملوا به البلاد وإذا صحّ عندك من العامل والوالي تعدّ بظلم وعسف وخيانة لك في رعيّتك فحرام عليك استعماله )(٢) .

وربما كان الإمام عليّعليه‌السلام بنفسه يقوم بالسؤال عن أعمال الولاة، أو يأمر ولاته بأن يراقبوا أعمال الموظّفين من جانبهم.

فقد كتب إلى كعب بن مالك وهو عامله: « أمّا بعدُ فاستخلف على عملك

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب: الرقم ٤٥.

(٢) الخراج لأبي يوسف: ١٢٨.

٥٤٤

وأخرج طائفةً من أصحابك حتّى تمرّ بأرض السّواد كورةً بعد كورةً فتسألهم عن عمالهم وتنظر في سيرتهم »(١) .

٢. مراقبة تحرّّكات العدو العسكريّة

رغم أنّ التكتيكات العسكريّة، والتمرينات النظاميّة اليوم تختلف عمّا كانت عليه بالأمس اختلافاً شاسعاً، ولكنّ عامل ( التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة والتعرّف على أسراره ومواقعه النظاميّة، وفنونه القتاليّة، ومدى استعداداته، وحجم قواه ومعدّاته وعدد أفراده وآليّاته ) لا يزال منذ القديم وإلى الآن يحتفظ بأهمّيته القصوى، ويعتبر ـ اليوم ـ من أفضل الأسباب والعلل لنجاح الجيوش أو سقوطها وفشلها.

ولقد كانت هذه المسألة موضع اهتمام المسلمين ـ قادة وحكومات ـ منذ القدم غير أنّها اتّخذت صفة العلم والتخصّص في العصور الحاضرة فصار ( فن التجسّس ) علماً يدرّس في الجامعات يتخصّص فيها الأفراد كما يتخصّصون في الفنون الاُخرى إلى درجة صارت القوى العظمى ـ اليوم ـ تجعل انتصاراتها ونجاحاتها مرهونة بمدى نجاحها وتفوّقها في ميدان التجسّس على العدو، فراحت تنفق الأموال الطائلة على جهاز الاستخبارات، وتدفع بجواسيسها المتمرّسين في شتّى أنحاء العالم ليجمعوا لها الأخبار، ويرفعوا إليها التقارير، ويتوسّلوا بكلّ وسيلة ممكنة للحصول على أدقّ المعلومات العسكريّة ونقلها إلى مراكزهم بشتّى الوسائل والحيل.

وربّما تسلّل هؤلاء الجواسيس إلى السلطات في الدول الاُخرى، إمّا بأنفسهم أو بواسطة من يدسّونهم في تلك الدوائر من رجال أو نساء بمختلف الحيل والسبل والحجج.

وربّما تسابق الجواسيس سباقاً عنيفاً، ودمويّاً في تحصيل المعلومات، وأدّى الأمر في بعض الأحيان إلى المخاطرة بالنفس والمغامرة بالحياة كلّ ذلك انطلاقاً من أهمّية

__________________

(١) الخراج لأبي يوسف: ١٢٨.

٥٤٥

العمل التجسّسي في حياة وبقاء الشعوب والحكومات.

نماذج من التجسّس العسكريّ في عصر النبيّ

لقد استخدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله منذ تشكيله للدولة الإسلاميّة نظام التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة حتّى أنّ كثيراً من نجاحاته وانتصاراته العسكريّة والسياسيّة ترجع إلى اهتمامه البالغ بالمعلومات التي كانت ترد إليه من الأعداء عن طريق ( عيونه ) وجواسيسه الذين كان يبثّهم في كلّ مكان، فيرفعون إليه ما يشاهدونه من تحرّكات العدوّ، ويخبرونه بأخبارهم وأقوالهم وأفعالهم، فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يباغتهم وهم في عقر دارهم ويفاجئهم وهم نيّام راقدون، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه:( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا *فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) ( العاديات: ١ ـ ٢ ).

فقد وجّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إلى منطقة وقال له: « اكمن النّهار، وسر اللّيل ولا تُفارقك العينُ ( أي الجاسوس ) ».

فانتهىعليه‌السلام إلى ما أمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فسار إليهم، فلمّا كان عند وجه الصبح أغار عليهم، فأنزل الله سبحانه على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ) (١) .

وإليك فيما يأتي نماذج من هذا الأمر :

١. في حرب بدر خرج النبيّ مع أحد أصحابه حتّى وقف على شيخ من العرب، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله يحاول التعرّف على أخبار قريش فسألهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن قريش وعن محمّد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ: انّه بلغني أنّ محمّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش.

٢. بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاًعليه‌السلام مع بعض الأصحاب إلى ماء بدر يلتمسون

__________________

(١) نور الثقلين ٥: ٦٥٢.

٥٤٦

الخبر له عليه فأصابوا راوية لقريش فيها غلامان لقريش فأتوا بهما فسألوهما ورسول الله قائم يصّلي فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلمّا بالغوا في ضربهما قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وركع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسجد سجدتيه وقال: « والله إنّهُما لقُريش، أخبراني عن قُريش » ؟ قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كم القُومُ » ؟ قالا: كثير، قال: « ما عدّتُهُم » ؟ قالا: لا ندري، قال: « كم ينحرُون كُلّ يوم » ؟ قالا: يوما تسعاً، ويوما عشراً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « القومُ فيما بين التسع مئة، والألف ».

ثمّ قال لهما: « فمن فيهم من أشراف قُريش » ؟ قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بي ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل و فأقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الناس فقال: « هذه مكّةُ قد ألقت إليكُم أفلاذ كبدها »(١) .

٣. كان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء ( الذين اُرسلا من جانب النبيّ للتجسّس على قريش ) قد مضيا حتّى نزلا بدراً فأناخا إلى تل قريب من الماء ثمّ أخذا شناً لهما يستقيان فيه، ومجديّ بن عمرو الجهنيّ على الماء فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري القوم النازلين على الماء وهما يتلازمان ويتعاركان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها إنّما تأتي العير غداً أو بعد غد، فاعمل لهم ثمّ اقضيك الذي لك، قال مجدي: صدقت ثمّ خلص بينهما وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما ثمّ انطلقا حتّى أتيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاخبراه بما سمعا(٢) .

هكذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يستطلع أخبار القوم ويتجسّس عليهم ويبطل مؤامراتهم في اللحظة المناسبة.

وقد أخمد مؤامرة بني سليم وقبيلة قطوان بما حصل عليه من معلومات ساعدته على مباغتتهم وإفشالهم.

__________________

(١ و ٢) سيرة ابن هشام ١: ٦١٦، ٦١٧.

٥٤٧

ثمّ إنّنا نلاحظ كيف استفاد عيون الرسول من تقصّي الخبر، مع الإستفادة الكاملة من قاعدة التستّر والسريّة وهو أمر كان يهتمّ به الرسول في كلّ عمليّاته الاستطلاعيّة، فها هو عندما يبعث أحد أصحابه للاستطلاع يحيط مهمّته بكامل السريّة والتحوّط وإليك القصّة :

بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب، مقفله من بدر الاُولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحداً.

فلمّا سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه: « إذا نظرت في كتابي هذا فأمض حتّى تنزل نخلةً بين مكّة والطّائف فترصُد بها قُريشاً وتعلم لنا من أخبارهم ».

فلمّا نظر عبد الله بن جحش قال: سمعاً وطاعة(١) .

ألا ترى كيف أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فرض على مبعوثه أن لا يطلع على الكتاب الذي أعطاه خوف أن يتسرّب الخبر إلى الناس فيتسرّب منهم إلى قريش وتفشل خطة الرسول.

٤. لقد كانت معركة أحد من المعارك الصعبة التي فقد فيها الرسول الأكرم ٧٠ شخصا من أصحابه بمن فيهم حمزة أسد الله وأسد رسوله ولكن لو لم يكن يعرف الرسول ـ قبل ذلك ـ أوضاع العدو لفاقت الخسائر ما وقع.

فإنّ قريشا لـمّا خرجت وهم ثلاثة آلاف ومعهم عدة وسلاح كثير وقادوا مائتي فرس وكان فيهم سبعمائة دارع وأجمعوا المسير كتب العبّاس بن عبد المطلب كتاباً وختمه واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول الله يخبره « أنّ قريشا قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلّوا بك فاصنعه وقد توجّهوا إليك وقادوا مائتي فرس، وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير واوعبوا من السلاح » فقدم الغفاري إلى المدينة فوجد النبيّ بقباء وهي قرية متّصلة بالمدينة فدفع إليه الكتاب فقرأه

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٦٠١.

٥٤٨

عليه اُبيّ بن كعب واستكتم اُبيّاً ما فيه(١) .

٥. تحالفت قريش واليهود وغطفان في حرب الخندق ضد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وصاروا كتلة واحدة على الإسلام والمسلمين، فاتّخذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله سياسة التفرقة بينهم فبعث نعيم ابن مسعود، الذي قام بدوره بأحسن صورة، التي تعد فريدة في نوعها وإليك القصّة :

جاء نعيم بن مسعود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما أنت فينا رجُل واحد فخذّل عنّا إن استطعت فإنّ الحرب خُدعة ».

فخرج نعيم حتّى أتى بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهليّة فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إيّاكم، وخاصّة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتّهم، فقال لهم: إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وانّ قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمّد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتّى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمّداً حتّى تناجزوه، فقالوا له: قد أشرت بالرأي.

ثمّ أتى إلى أبي سفيان ورجال قريش وقال: إنّ اليهود قد ندموا على ما صنعوا مع محمّد وتعهّدوا له بأن يسلّموا إليه رجالاً من قريش ليعفو عنهم ثمّ خرج إلى غطفان وهم عشيرته وحذّرهم وقال لهم مثل ما قال لقريش.

وهكذا ألقى الحيرة والخوف وعدم الثقة بين قريش وغطفان واليهود المتحالفين ضدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلمّا اقترب موعد الحرب ضد النبيّ طلبت اليهود من قريش وغطفان رجالاً كرهائن عندهم، قالت قريش وغطفان: إنّا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا

__________________

(١) مغازي الواقديّ ١: ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٥٤٩

فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا(١) وهكذا انفرط عقد التحالف القرشيّ اليهوديّ الغطفانيّ بفعل نعيم وتخذيله والدور الذي لعبه كما يلعبه أي جاسوس يعمل لصالح جهة معيّنة، وينفّذ تكتيك التفرقة بين قوى العدو ببث الشائعات والتخويف.

٦. وفي نفس الواقعة ( أي واقعة الخندق ) لـمّا انتهى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما اختلف من أمرهم وما فرّق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً. وقال له: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ولا تحدّثن شيئاً حتّى تأتينا.

يقول: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء فقام أبو سفيان وقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه ؟

قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت، قال: فلان ابن فلان.

[ وفي شرح المواهب: فضربت بيدي على يد الذي عن يميني فأخذت بيده، فقلت من أنت ؟ قال معاوية بن أبي سفيان ثمّ ضربت بيدي على يد الذي كان على شمالي فقلت من أنت ؟ قال: عمرو بن العاص ](٢) .

ثمّ راح أبو سفيان يتحدّث عن ما لحقهم من الخلاف والبلاء ومقتل عمرو بن ود وقال ارتحلوا فانّي مرتحل.

يقول حذيفة: فوالله لولا عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لقتلته بسهم.

ثمّ رجع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بعزم قريش على الانسحاب من هذه المعركة والفرار.

وهذا يكشف عن أنّ هذا النوع من العمل كان ابتكاراً من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعملاً

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٢٢٩، ومغازي الواقديّ: ٤٨٠.

(٢) سيرة ابن هشام ٢: ٢٣٢ ومغازي الواقديّ: ٤٨٢.

٥٥٠

بديعاً في ذلك العصر، وهو ينبئ عن نبوغ الرجل الذي اختاره النبيّ وحسن اختيارهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحرصه على العمل الذي كلّف به.

وفي هذا الصدد قال نابليون: إنّ وجود رجل واحد مناسب وذكيّ من الاستخبارات خير من عشرين ألف مقاتل في ميدان الحرب.

٧. بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت « سويلم » اليهوديّ، وكان بيته عند جاسوم ( موضع بالمدينة ) يثبّطون الناس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك فبعث إليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة.

ومن المعلوم أنّ هناك من كان يترصّد الأخبار لرسول الله ويبلغها له، إذ من المعلوم أنّ العمليات التي كان يقوم بها اليهود والمنافقون وهم بمثابة الطابور الخامس، كانت في غاية السريّة، فلا بدّ أن يكون هناك من كان يتجسّس عليهم ويسترقّ أخبارهم ويعطيها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٨. في وقعة خيبر لـمّا كان في إحدى الليالي قبضت الدوريّة العسكريّة الإسلاميّة على رجل من يهود خيبر في جوف الليل فأمر به عمر أن يضرب عنقه، فقال: اذهب بي إلى نبيّكم حتّى اُكلّمه فأمسك عنه وانتهى به إلى باب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فوجده يصلّي فسمعصلى‌الله‌عليه‌وآله كلام عمر، فسلّم وأدخله عليه فدخل باليهوديّ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لليهودي: « ما وراءُك » ؟ فقال: تؤمنّي يا أبا القاسم، فقال: « نعم »، قال: خرجت من حصن النطاة من عند قوم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة. قال فأين يذهبون ؟ قال: إلى الشقّ يجعلون فيه ذراريهم، ويتهيّأون للقتال في هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب من حصون النطاة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبّابات ودروع وسيوف فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله ( قال رسول الله: « إنشاء الله » قال اليهوديّ: إنشاء الله ) أوقفتك عليه فإنّه لا يعرفه غيري، واُخرى، قيل ما هي، قال: يستخرج المنجنيق، وينصب على الشقّ ويدخل الرجال تحت الدبّابات فيحفر الحصن فتفتحه من يومك، وكذا تفعل بحصون

٥٥١

الكتيبة.

ثمّ قال: يا أبا القاسم: احقن دمي، قال: « أنت آمن » قال: ولي زوجة فهبها لي، قال: « هي لك ».

ثمّ دعاهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإسلام فقال: انظرني أيّاماً(١) .

٩. بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عباد بن بشر في فوارس طليعة فأخذ عيناً من يهود من أشجع فقال: من أنت، قال: باغ ابتغي أبعرة ضلّت لي، قال له عباد: ألك علم بخيبر ؟، قال: عهدي بها حديث فيم تسألني عنه، قال: عن اليهود، قال: نعم.

( ثمّ أخبر عن اليهود بأخبار كاذبة بقصد إرعاب المسلمين ) فعند ذلك رفع عباد ابن بشر السوط فضربه ضربات وقال: ما أنت إلّا عين لهم، أصدقني والاّ ضربتُ عنقك. فقال الإعرابي: أتؤمنني على أن أصدقك، قال عباد: نعم، فقال الإعرابي: القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود إلى آخر القصة(٢) .

١٠. وفي اُحد بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عينين له انساً ومؤنساً ابني فضالة ليلة الخميس فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم حتّى نزلوا بالوطاء فأتيا رسول الله فأخبراه بمكان قريش وأنّ مع قريش ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس وغير ذلك(٣) .

١١. وفي غزوة الحديبيّة بعث رسول الله بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعيّ فقال: إنّي تركت كعباً وعامراً قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعاً وهم قاتلوك أو مقاتلوك، وصادّوك عن البيت، فقال: « روحُوا » إلى آخر القصّة(٤) .

__________________

(١) المغازي ٢: ٦٤٧ ـ ٦٤٨، السيرة الحلبيّة ٣: ٤١.

(٢) المغازي للواقديّ ٢: ٦٤٠ ـ ٦٤٢.

(٣) المغازي ١: ٢٠٦.

(٤) مجمع البيان ٩: ١١٧.

٥٥٢

ولعلّ أوضح نصّ في هذا المجال هو ما وصّى به الإمام عليّعليه‌السلام جيشاً بعثه إلى العدو حيث قال: « واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب لئلاّ يأتيكم العدّو من مكان مخافةً أو أمن واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم، وعيون المقدّمة طلائعهم وإيّاكم والتفرّق فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرّماح كفةً [ أي مثل كفة الميزان مستديرة حولكم محيطة بكم ] ولا تذوقوا النوّم إلّا غراراً أو مضمضةً [ أي ينام ثمّ يستيقظ ثمّ ينام ] »(١) .

وهو موقف اتّخذه الإمام عليّعليه‌السلام عمليّاً إذ كتب إلى قثم بن العبّاس وهو عامله على مكّة إذ قال: « أمّا بعد فإنّ عيني [ أي رقيبي الذي يأتيني بالأخبار ] بالمغرب [ أي الأقاليم الغربيّة ] كتب إليّ يعلمني أنّه وجّه إلى الموسم أناس من أهل الشّام، العمي القلوب الصمّ الأسماع، الكمه الأبصار الّذين يلبسون الحقّ بالباطل الخ ».

هذه بعض النماذج من الأعمال التجسّسية التي كان يأمر بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله غيره من قادة الإسلام في المجال العسكريّ، لمعرفة التحركات المعادية للحكومة الإسلاميّة.

كلّ ذلك يؤكّد موقف الإسلام من جهاز الاستخبارات العسكريّة الذي يضمن جمع المعلومات الدقيقة حول العدو، ويمكّن القيادة والحكومة من اتّخاذ الموقف المناسب.

* * *

٣. مراقبة نشاطات الأجانب ونفوذهم

إنّ الوظيفة الثالثة، وبالأحرى الجانب الأهمّ من عمل الأمن العامّ والاستخبارات هو مراقبة نشاطات الأجانب الأعداء في داخل البلاد الإسلاميّة ورصد تحرّكاتهم ونفوذهم لمنع ظهور الطابور الخامس الذي يرجع إليه السبب الأكبر في سقوط الدول

__________________

(١) نهج البلاغة: الكتاب ٣٣.

٥٥٣

والحكومات ولقد سلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا المسلك وتمكّن بذلك أن يمنع من محاولات أعداءه العدائيّة، ويبطل خططهم في الداخل.

إنّ حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تبيّن أنّه كان يسعى دوماً إلى أن يدفع العدو إلى الخضوع للحقّ، ولم يكن يهدف الانتقام والثأر وإراقة الدماء.

ففي المعارك والغزوات التي شارك فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعث سريّة لمقابلة العدو كان يهدف بالدرجة الاُولى إلى تفريق جمعهم، وتشتيت صفّهم لأنّه كان يعلم بأنّه لو ارتفعت الموانع عن طريق الإسلام لاستطاع الدين بمنطقه البيّن ونهجه القويم أن يشقّ طريقه إلى قلوب الناس.

فإذا تفرّق جمع العدو، ويئس من السيطرة على الإسلام، وعاد الناس إلى فطرتهم ورشدهم، استطاع الدين أن يتسرّب إلى قلوبهم، وجذبهم إلى صفّه، وهذا هو أمر تدلّ عليه الأحداث التاريخيّة فإنّ كثيراً من الشعوب والأقوام التي هزمت أمام القوّة الإسلاميّة العسكريّة، عادت إلى رشدها وراحت تفكّر في قبول الدين واعتناق تعاليمه ومفاهيمه.

وقد ظهر هذا الأمر في فتح مكّة بأجلى مظاهره.

لقد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم أنّه لو فتح مكّة ونزع السلاح من العدو، وتهيّأت البيئة المساعدة للتفكير والتدبّر فلن يمضي زمان كبير إلّا ويستقبل الناس بقلوبهم وعقولهم دعوة الإسلام، ولذلك كان يتحتّم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينتصر على العدو، ويتغلّب عليه ولكن دون إبادته وتدميره وإفنائه ما دام حقن الدماء ممكناً. ولتحقيق هذا الهدف المقدّس ( الغلبة على العدو دون إراقة الدماء ) كان يتعيّن مباغتة الطرف الآخر ومفاجأته قبل أن يفكّر في الدفاع عن نفسه، وقبل أن يقوم بأيّ عمل مضادّ، ولا شكّ أنّ هذا الأمر ما كان ليتحقّق إلّا بأن تبقى جميع أسرار السياسة الإسلاميّة مصونة محفوظة لا يعلم بها الطرف الآخر، ولا يقع في يده شيء منها فلا يعلم العدو مثلا هل يريد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مهاجمتهم أوّلاً، وعلى فرض عرف العدو ذلك، فلا يعرف متى وكيف ومن أين، كلّ ذلك

٥٥٤

أسرار يجب أن تبقى مصانة ومحفوظة لا يدري بها العدو، ولهذا كان يتعيّن على النبيّ أن يلاحظ عملاء العدو في الداخل لكي لا يسرّبوا أي خبر من داخل البلاد إلى العدو ولا يخبروه بخبر يفوّت على النبيّ مقاصده.

ومن هنا اتّخذ النبيّ الاجراءات الفوريّة عندما بلغه أنّ هناك من أفشى خبر سفره وتوجّهه إلى مكّة لفتحها، فلمّا أجمع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله المسير إلى مكّة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش بخبرهم بعزم الرسول، ثمّ أعطى الكتاب إلى امرأة فجعلته في شعر رأسها، فأتى الخبر إلى رسول الله من السماء فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوّام فخرجا حتّى أدركاها في موضع بين مكّة والمدينة فأنزلاها من رحلها، وفتّشا الرحل فلم يجدا شيئاً فقال لها عليّ بن أبي طالب: « إنّي أحلفُ بالله ما كذب رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا كُذّبنا ولتُخرجنّ هذا الكتاب أو لنكشفنّك ».

فلمّا رأت الجدّ منه، قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه. فأتى به إلى رسول الله وعاتب النبيّ حاطب بشدّة(١) .

وفي ذلك نزلت الآيات الاُول من سورة الممتحنة ابتداء من قوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ الخ) ( الممتحنة: ١ ).

وهكذا كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يحبط الأعمال التجسّسيّة التي كان يقوم بها العدوّ في عمق بلاده.

وقد ذهب بعض علماء الإسلام إلى ضرورة وجود جهاز يكشف مؤامرات العدو في الداخل.

يقول القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج :

( وينبغي للإمام أن تكون له مسالح ( مخافر حدوديّة ) على المواضع التي تنفذ إلى بلاد أهل الشرك من الطرق فيفتّشون من مرّ بهم من التجّار فمن كان معه سلاح أخذ منه ورد، ومن كان معه كتب قرئت كتبه فما كان من خبر من أخبار المسلمين قد كتب به

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٣٩٩.

٥٥٥

أخذ الذي اُصيب معه الكتاب وبعث به إلى الإمام ليرى فيه رأيه )(١) .

حكم المتجسّس لصالح الأجنبيّ

إنّ الإسلام أمر بالتشدّد مع اُولئك النفر من المسلمين الذين يتجسّسون لصالح الأجانب، ففي الإرشاد للشيخ الأجلّ المفيد:

لـمّا بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنينعليه‌السلام وبيعة الناس ابنه الحسنعليه‌السلام دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الاُمور فعرف ذلك الحسنعليه‌السلام فأمر باستخراج الحميري من عند لحّام بالكوفة فأخرج وأمر بضرب عنقه وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فاُخرج وضربت عنقه وكتب الحسنعليه‌السلام إلى معاوية: « أمّا بعدُ فإنّك دسست الرّجال للاحتيال والاغتيال وأصدرت العيُون كأنّك تُحبّ اللقاء وما أوشك ذلك فتُوقعهُ إنشاء الله تعالى »(٢) .

كما أمر بالتشديد مع أهل الذمّة الذين يتجسّسون في الداخل على المسلمين لصالح الأعداء والأجانب ويعتبر ذلك نقضاً للذمّة.

قال المحقّق الحليّ في الشرائع في باب شرائط أهل الذمّة :

( أن لا يؤذوا المسلمين كالزنى بنسائهم واللواط بصبيانهم والسرقة لأموالهم وإيواء عين المشركين ( أي جاسوسهم ) والتجسّس لهم فإن فعلوا من ذلك شيئاً وكان تركه مشترطاً في الهدنة كان نقضاً )(٣) .

وقال العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء في ما يشترط على أهل الذمّة :

__________________

(١) كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفّى ( ١٨٢ ه‍ ) طبعة القاهرة عام (١٣٠٣).

(٢) الإرشاد: ١٩٢ للمفيد الفقيه المؤرّخ محمّد بن محمّد بن النعمان المتوفّى ( ٤١٣ ه‍ ).

(٣) شرائع الإسلام كتاب الجهاد: ٣٢٩.

٥٥٦

( وأن لا ينقلوا أخبار المسلمين إلى أعدائهم ولا يدلّوا على عوراتهم فمن فعل شيئا من ذلك فقد نقض عهده وأحلّ دمه وماله وبرئت منه ذمّة الله ورسوله والمؤمنين )(١) .

وكتب القاضي أبو يوسف في كتابه الخراج يقول :

( سألت عن الجواسيس يوجدون وهم من أهل الذمّة أو أهل الحرب أو من المسلمين فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذمّة ممّن يؤدّي الجزية من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم، وإن كانوا من الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة وأطل حبسهم حتّى يحدثوا توبة )(٢) .

وهكذا يكون من وظائف الحكومة الإسلاميّة تشكيل جهاز قويّ مجهّز بكلّ الوسائل القويّة للتجسّس في الإطارات المذكورة التي مرّ عليك ذكرها.

على أنّ الإسلام ـ كعادته وكما أسلفنا ـ تعرّض في هذه المسألة لجوهر الأمر ولم يدخل في تفصيلاته وشكليّاته فإنّ كيفيّة التجسّس ونوع الرموز والأجهزة متروكة للزمن على أن تكون في إطار التقوى والأخلاق وحسب الشروط التي مرّت.

وجملة القول أنّ ما نفهمه من حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته السياسيّة هو الاهتمام الشديد الذي كان يبديه بمسألة الاستخبارات.

فإنّه وإن لم يكن في زمن النبيّ تشكيلات للاستخبارات على غرار ما يوجد الآن في العالم الحديث ولكن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان ـ مضافا إلى اتّخاذ العيون ـ قد ربّى المسلمين تربية سياسيّة رائعة بحيث أصبح كلّ مسلم يرى نفسه مسؤولا عن الأمن فكانوا يرفعون إليه فوراً كلّ خبر يرتبط بهذا الأمر، فها هو زيد بن أرقم ـ وهو غلام يافع ـ عندما يسمع أحد قادة الطابور الخامس ( عبد الله بن اُبي ) في غزوة بني المصطلق وهو يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ويعني بالأعز نفسه وبالأذلّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: أنت والله الذليل القليل المبغض ومحمّد في عزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١: ٤٤٢.

(٢) كتاب الخراج: ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٥٥٧

ثمّ أسرع إلى النبيّ وأخبره بالأمر(١) .

فعلى الحكومة الإسلاميّة أن تربّي المسلمين بهذه التربية، ليعتبر كلّ واحد منهم نفسه مسؤولاً عن أمن البلاد دفعاً للفساد، ونهياً عن المنكر، وإن كان ذلك لا يغني عن تأسيس جهاز مستقلّ لذلك.

وأخيراً نكرّر القول بأنّه يجب أن يكون جهاز الاستخبارات لصالح الإسلام والمسلمين مائة بالمائة، ولا يكون على غرار ما في الدول المعاصرة، إذ ليس ذاك إلّا للحفاظ على عروش الاُمراء والرؤساء والملوك، ولذلك فهو لا يتجسّس لصالح الاُمّة بل يتجسّس على الاُمّة لإخماد صوتها وإكبات حريّاتها وتحطيم مقاومتها. وإخضاعها للسياسات الاستعماريّة، والمطامع الأجنبيّة.

__________________

(١) مجمع البيان ٥: ٢٩٤.

٥٥٨

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

٧

الحكومة الإسلاميّة

والنظام العسكريّ

قوام الاُمّة رهن بقدرتها العسكريّة

إنّ قوام كلّ أمّة من الأمم يرتبط بمدى قدرتها على الدفاع عن وجودها، وحماية شخصيّتها اتّجاه الأعداء، فبقدر ما تكون تلك الاُمّة مجهّزة بالعدد والعدّة، تستطيع أن تدفع عن نفسها أي عدوان وتحافظ على كيانها في سياج من الأمن والدعة والاسقرار، وبقدر ما تكون ضعيفة في هذه الناحية تكون معرّضة للزوال والاندحار أمام هجمات الأعداء، ومن هنا أنشأت الجيوش، واُوجدت العساكر الجرّارة وظهرت إلى الوجود الأساطيل البحريّة، ووسائل الحرب .

ولقد صارت هذه الجيوش والعساكر شيئاً فشيئاً وسيلة بأيدي الطغاة والطامعين فغزوا بها البلاد وأغاروا بها على المدن فكانت الوقائع الدامية، والحروب المريعة، والمجازر الفضيعة التي صبغت التاريخ البشريّ بلون الدم القاني.

٥٥٩

الجيش في خدمة الدين والشعب

إنّ الجيش في الحكومة الإسلاميّة ليس كالجيوش في الدول الامبرياليّة الشرقيّة والغربيّة لا يكون الهدف منها إلّا توسعة النفوذ، والتجاوز على الحقوق والإغارة على أموال الآخرين وثرواتهم.

كما أنّه ليس كالجيوش في العالم الثالث حيث لا يكون الهدف منها إلّا الحفاظ على سيطرة السلطات الديكتاتوريّة العميلة هناك وسلب الحريّات، وقمع المعارضة، وضرب الانتفاضات الشعبيّة وبالتالي حماية المصالح الأجنبيّة، بل الجيش في الحكومة الإسلاميّة إنّما هو للمحافظة على ثغور البلاد الإسلاميّة، واستقلال البلاد وما فيها من ثروات وشعوب، وعلى ذلك يتّصف الجيش الإسلاميّ بصفة الحافظ الصائن لا الغازي المهاجم، المحرّر لا المعتدي والصديق في جانب الشعب، لا القوّة القاهرة له، العدوة لأبنائه.

ولقد كان هذا الأمر موضع اهتمام الإسلام منذ طلوعه وبزوغه، فإنّ الدين الذي جاء ليكتسح الظلمات وينقذ البشريّة من براثن الاستعباد والاستثمار كان من الطبيعيّ أن يواجه معارضة ممّن بنوا حياتهم على استعباد الإنسان واستثماره واستغلاله، ومن هنا كان طبيعيّاً ـ أيضاً ـ أن يعدّ الإسلام عدّته لمواجهة أعدائه ومعارضيه الذين راحوا يكيدون له أشدّ الكيد، ويتربّصون به الدوائر.

إنّ من يلاحظ الحياة الإسلاميّة في الصدر الأوّل وما بعده يجد نشاطاً عسكريّاً فريداً من نوعه، ومن يلاحظ التعاليم الإسلاميّة ذاتها يجد نظاماً عسكريّاً فريداً أيضاً، فقد تضمّن القرآن الكريم تعاليم راقية ومتقدّمة جداً في الشؤون العسكريّة وتوجيهات لا سابق لها في الفنون النظاميّة.

ثمّ إنّ من يلاحظ النصوص الإسلاميّة يجدها تحثّ المسلمين حثّاً بليغاً وأكيداً على تعلم الرماية والتدريب على السلاح ومزاولة التمرينات العسكريّة استعداداً لكل

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627