مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228072 / تحميل: 6442
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

والياً على الكوفة سبع سنين وهو لا يدع ذم علي والوقوع فيه(1) . وقد أراد معاوية بذلك أن يصرف القلوب عن الإمام (عليه السلام) وأن يحول بين الناس وبين مبادئه التي أصبحت تطارده في قصوره.

يقول الدكتور محمود صبحي : لقد أصبح علي جثة هامدة لا يزاحمهم في سلطانهم ، ويخيفهم بشخصه ، ولا يعني ذلك ـ أي سبّ الإمام ـ إلا أنّ مبادئه في الحكم وآراءه في السياسة كانت تنغّص عليهم في موتهم كما كانت في حياته(2) .

لقد كان الإمام رائد العدالة الإنسانية والمثل الأعلى لهذا الدين ، يقول الجاحظ : لا يعلم رجل في الأرض متى ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه ، ومتى ذكر النخوة والذب عن الإسلام ، ومتى ذكر الفقه في الدين ، ومتى ذكر الزهد في الأمور التي تناصر الناس عليها كان مذكوراً في هذه الخلال كلها إلا في علي(3) .

ويقول الحسن البصري : والله ، لقد فارقكم بالأمس رجل كان سهماً صائباً من مرامي الله عز وجل ، رباني هذه الأمة بعد نبيها (صلى الله عليه وآله) وصاحب شرفها وفضلها وذا القرابة القريبة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير مسؤم لأمر الله ، ولا سروقة لمال الله أعطى القرآن عزائمه فأورده رياضاً مونقة ، وحدائق مغدقة ذلك علي بن أبي طالب(4) .

لقد عادت اللعنات التي كان يصبها معاوية وولاته على الإمام بإظهار فضائله ؛ فقد برز الإمام للناس أروع صفحة في تأريخ الإنسانية كلها ، وظهر للمجتمع أنّه المنادي الأول بحقوق الإنسان ، والمؤسس الأول للعدالة الاجتماعية

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 141 طبع أوربا.

(2) نظرية الإمامة لدى الشيعة الإثنى عشرية / 282.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 145.

(4) مناقب ابن المغازلي / رقم الحديث 69.

١٦١

في الأرض. لقد انطوت السنون والأحقاب واندكت معالم تلك الدول التي ناوئت الإمام ، سواء أكانت من بني أمية أم من بني العباس ، ولم يبقَ لها أثر ، وبقي الإمام (عليه السلام) وحده قد احتل قمّة المجد فها هو رائد الإنسانية الأول وقائدها الأعلى وإذا بحكمه القصير الأمد يصبح طغراءً في حكام هذا الشرق ، وإذا الوثائق الرسمية التي أثرت عنه تصبح مناراً لكل حكم صالح يستهدف تحقيق القضايا المصيرية للشعوب ، وإذا بحكم معاوية أصبح رمزاً للخيانة والعمالة ورمزاً لاضطهاد الشعوب واحتقارها.

ستر فضائل أهل البيت :

وحاول معاوية بجميع طاقاته حجب فضائل أهل البيت (عليهم السلام) وستر مآثرهم عن المسلمين ، وعدم إذاعة ما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) في فضلهم.

يقول المؤرخون : إنّه بعد عام الصلح حج بيت الله الحرام فاجتاز على جماعة فقاموا إليه تكريماً ولم يقم إليه ابن عباس ، فبادره معاوية قائلاً : يابن عباس ما منعك من القيام؟ كما قام أصحابك إلا لموجدة علي بقتالي إياكم يوم صفين! يابن عباس ، إنّ ابن عمي عثمان قتل مظلوماً!

فردّ عليه ابن عباس ببليغ منطقه قائلاً : فعمر بن الخطاب قد قُتل مظلوماً ، فسلم الأمر إلى ولده ، وهذا ابنه ـ وأشار إلى عبد الله بن عمر ـ.

أجابه معاوية بمنطقه الرخيص :

إنّ عمر قتله مشرك.

فانبرى ابن عباس قائلاً :

فمَنْ قتل عثمان؟

١٦٢

ـ قتله المسلمون.

وأمسك ابن عباس بزمامه فقال له : فذلك أدحض لحجتك إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلاّ بحق.

ولم يجد معاوية مجالاً للردّ عليه ، فسلك حديثاً آخر أهم عنده من دم عثمان فقال له : إنّا كتبنا إلى الآفاق ننهي عن ذكر مناقب علي وأهل بيته فكف لسانك يابن عباس.

فانبرى ابن عباس بفيض من منطقه وبليغ حجته يسدد سهاماً لمعاوية قائلاً : فتنهانا عن قراءة القرآن؟

ـ لا.

ـ فتنهانا عن تأويله؟

ـ نعم.

ـ فنقرأه ولا نسأل عما عنى الله به؟

ـ نعم.

ـ فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟

ـ العمل به.

ـ فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟

ـ سل عن ذلك ممن يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.

ـ إنما نزل القرآن على أهل بيتي ، فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط؟!

ـ فاقرؤوا القرآن ، ولا ترووا شيئاً مما أنزل الله فيكم ، ومما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم ، وارووا ما سوى ذلك.

١٦٣

وسخر منه ابن عباس ، وتلا قوله تعالى :( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .

وصاح به معاوية : اكفني نفسك وكفّ عنّي لسانك ، وإن كنت فاعلاً فليكن سرّاً ولا تسمعه أحداً علانية(1) .

ودلّت هذه المحاورة على عمق الوسائل التي اتّخذها معاوية في مناهضته لأهل البيت وإخفاء مآثرهم.

وبلغ الحق بمعاوية على الإمام أنّه لما ظهر عمرو بن العاص بمصر على محمد بن أبي بكر وقتله ، استولى على كتبه ومذكراته وكان من بينها عهد الإمام له ، وهو من أروع الوثائق السياسية فرفعه ابن العاص إلى معاوية فلما رآه قال لخاصته : إنّا لا نقول هذا من كتب علي بن أبي طالب ولكن نقول هذا من كتب أبي بكر التي كانت عنده(2) .

التحرج من ذكر الإمام :

وأسرف الحكم الأموي إلى حد بعيد في محاربة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد عهد بقتل كل مولود يسمى علياً ، فبلغ ذلك علي بن رباح فخاف ، وقال : لا أجعل في حل من سماني علياً فإن اسمي علي ـ بضم العين ـ(3) .

ويقول المؤرخون : إنّ العلماء والمحدثين تحرجوا من ذكر الإمام علي والرواية عنه خوفاً من بني أمية فكانوا إذا أرادوا أن يرووا عنه يقولون :

__________________

(1) حياة الإمام الحسن 2 / 343.

(2) شرح النهج 2 / 28.

(3) تهذيب التهذيب 7 / 319.

١٦٤

روى أبو زينب(1) ، وروى معمر عن الزهري عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «إنّ الله عز وجل منع بني إسرائيل قطر السماء لسوء رأيهم في أنبيائهم ، واختلافهم في دينهم ، وإنّه أخذ على هذه الأمّة بالسنين ، ومنعهم قطر السماء ببغضهم علي بن أبي طالب».

قال معمر : حدثني الزهري في مرضة مرضها ، ولم اسمعه يحدث عن عكرمة قبلها ولا بعدها فلما أبل من مرضه ندم على حديثه لي وقال : يا يماني اكتم هذا الحديث ، واطوه دوني فإن هؤلاء ـ يعني بني أميّة ـ لا يعذرون أحداً في تقريض علي وذكره.

قال معمر : فما بالك عبت علياً مع القوم وقد سمعت الذي سمعت؟!

قال الزهري : حسبك يا هذا إنّهم أشركونا مهامهم فاتبعناهم في أهوائهم(2) .

وقد امتحن المسلمون امتحاناً عسيراً في مودتهم للإمام وتحرجوا أشدّ التحرّج في ذلك ، يقول الشعبي : ماذا لقينا من علي إن أحببناه ذهبت دنيانا وإن بغضناه ذهب ديننا.

ويقول الشاعر :

حبّ علي كله ضرب بر

جفّ من تذكاره القلب

هذه بعض المحن التي عاناها المسلمون في مودتهم لأهل البيت (عليهم السلام) التي هي جزء من دينهم.

__________________

(1) شرح النهج 11 / 14.

(2) مناقب ابن المغازلي / رقم الحديث 149.

١٦٥

مع الشيعة :

واضطهدت الشيعة أيام معاوية اضطهاداً رسمياً في جميع أنحاء البلاد ، وقوبلوا بمزيد من العنف والشدّة ، فقد انتقم منهم معاوية كأشدّ ما يكون الانتقام قسوة وعذاباً ، فقد قاد مركبة حكومته على جثث الضحايا منهم ، وقد حكى الإمام الباقر (عليه السلام) صوراً مريعة من بطش الأمويين بشيعة آل البيت (عليهم السلام) يقول : «وقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره»(1) .

وتحدّث بعض رجال الشيعة إلى محمد بن الحنفية عمّا عانوه من المحن والخطوب بقوله : فما زال بنا الشين في حبكم حتى ضُربت عليه الأعناق ، وأبطلت الشهادات ، وشردنا في البلاد ، وأوذينا حتى لقد هممت أن أذهب في الأرض قفراً ، فأعبد الله حتى ألقاه ، لولا أن يخفى عليّ أمر آل محمد (صلى الله عليه وآله) وحتى هممت أن أخرج مع أقوام(2) شهادتنا وشهادتهم واحدة على أمرائنا فيخرجون فيقاتلون(3) .

لقد كان معاوية لا يتهيب من الإقدام على اقتراف أية جرية من أجل أن يضمن ملكه وسلطانه ، وقد كانت الشيعة تشكّل خطراً على حكومته فاستعمل معهم أعنف الوسائل وأشدها قسوة من أجل القضاء عليهم ، ومن بين الإجراءات القاسية التي استعملها ضدهم ما يلي :

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 3 / 15.

(2) الأقوام : هم الخوارج.

(3) طبقات ابن سعد 5 / 95.

١٦٦

القتل الجماعي

وأسرف معاوية إلى حد كبير في سفك دماء الشيعة ، فقد عهد إلى الجلادين من قادة جيشه بتتبع الشيعة وقتلهم حيثما كانوا ، وقد قتل بسر بن أبي أرطأة بعد التحكيم ثلاثين ألفاً عدا مَنْ أحرقهم بالنار(1) ، وقتل سمرة بن جندب ثمانية آلاف من أهل البصرة(2) ، وأمّا زياد بن أبيه فقد ارتكب أفظع المجازر فقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون ، وأنزل بالشيعة من صنوف العذاب ما لا يوصف لمرارته وقسوته.

إبادة القوى الواعية :

وعمد معاوية إلى إبادة القوى المفكرة والواعية من الشيعة ، وقد ساق زمراً منهم إلى ساحات الإعدام ، وأسكن الثكل والحداد في بيوتهم ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ حجر بن عدي :

لقد رفع حجر بن عدي علم النضال ، وكافح عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، وسحق إرادة الحاكمين من بني أميّة الذين تلاعبوا في مقدرات الأمّة وحولوها إلى مزرعة جماعية لهم ولعملائهم وأتباعهم.

لقد استهان حجر من الموت وسخر من الحياة ، واستلذّ الشهادة في سبيل عقيدته ، فكان أحد المؤسسين لمذهب أهل البيت (عليه السلام).

__________________

(1) شرح النهج 2 / 6.

(2) الطبري 6 / 32.

١٦٧

وامتحن حجر كأشدّ ما تكون المحنة قسوة حينما رأى السلطة تعلن سب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وترغم الناس على البراءة منه فأنكر ذلك ، وجاهر بالردّ على ولاة الكوفة ، واستحلّ زياد بن أبيه دمه فألقى عليه القبض ، وبعثه مخفوراً مع كوكبة من إخوانه إلى معاوية ، وأوقفوا في (مرج عذراء) فصدرت الأوامر من دمشق بإعدامهم ، ونفذ الجلادون فيهم حكم الإعدام فخرت جثثهم على الأرض وهي ملفعة بدم الشهادة والكرامة وهي تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة أفضل لا ظلم فيها ، ولا طغيان.

مذكرة الإمام الحسين

وفزع الإمام الحسين حينما وافته الأنباء بمقتل حجر فرفع مذكرة شديدة اللهجة إلى معاوية ذكر فيها أحداثه وبدعه ، والتي كان منها قتله لحجر والبررة من أصحابه ، وقد جاء فيها : «ألست القاتل حجراً أخا كندة والمصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ، ولا يخافون في الله لومة لائم. قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما كانت أعطيتهم الأيمان المغلّظة ، والمواثيق المؤكّدة أن لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ولا بإحنة تجدها في نفسك عليهم؟!»(1)

واحتوت هذه المذكّرة على ما يلي :

1 ـ الإنكار الشديد على معاوية لقتله حجراً وأصحابه من دون أن يقترفوا أو يحدثوا فساداً في الأرض.

2 ـ إنها أشادت بالصفات البطولية في هؤلاء الشهداء من إنكار الظلم ،

__________________

(1) حياة الإمام الحسن 2 / 365.

١٦٨

ومقاومة الجور ، واستعظام البدع والمنكرات التي أحدثتها حكومة معاوية ، وقد هبّوا إلى ميادين الجهاد ، لإقامة الحقّ ، ومناهضة المنكر.

3 ـ إنّها أثبتت أنّ معاوية قد أعطى حِجْرَاً وأصحابه عهداً خاصاً في وثيقة وقّعها قبل إبرام الصلح أنْ لا يعرض لهم بأي إحنة كانت بينه وبينهم ، ولا يصيبهم بأي مكروه ، ولكنّه قد خاس بذلك فلمْ يفِ به ، كما لمْ يفِ للإمام الحسن بالشروط التي أعطاها له ، وإنّما جعلها تحت قدميه ، كما أعلن ذلك في خطابه الذي ألقاه في النُّخيلة.

لقد كان قتلُ حِجْر مِن الأحداث الجسام في الإسلام ، وقد توالت صيحات الإنكار على معاوية مِن جميع الأقاليم الإسلامية ، وقد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

2 ـ رشيد الهجري :

وفي فترات المحنة الكبرى التي مُنِيَتْ بها الشيعة في عهد ابن سُميّة تعرّض رشيد الهجري لأنواع المِحن والبلوى ، فقد بعث زياد شرطته إليه ، فلمّا مَثُلَ عنده صاح به (ما قال لك خليلك ـ يعني علياً ـ أنّا فاعلون بك؟).

فأجابه بصدق وإيمان : (تقطعون يدي ورجلي ، وتصلبوني) ، وقال الخبيث مستهزءاً وساخراً :

(أما والله لأكذبنَّ حديثه ، خلّوا سبييله). وخلّت الجلاوزة سراحه ، وندم الطاغية فأمر بإحضاره فصاح به :

(لا نجد شيئاً أصلح ممّا قال صاحبك : إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إنْ بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه).

وبادر الجلادون فقطعوا يديه ورجليه ، وهو غير حافل بما يعانيه مِن الآلام.

ويقول المؤرخون : إنّه أخذ يذكر مثالب بني أُميّة ، ويدعو إلى إيقاظ الوعي والثورة ، ممّا غاظ ذلك زياداً فأمر بقطع

١٦٩

لسانه(1) الذي كان يطالب بالحقّ والعدل ، وينافح عن حقوق الفقراء والمحرومين.

3 ـ عمرو بن الحمق الخزاعي :

ومِن شهداء العقيدة : الصحابي العظيم عمرو بن الحمق الخزاعي الذي دعا له النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنْ يمتّعه الله بشبابه ، واستجاب الله دعاء نبيه ، فقد أخذ عمرو بن حمق الثمّانين عاماً ولمْ ترَ في كريمته شعرة بيضاء(2) ، وتأثر عمرو بهدي أهل البيت ، وأخذ مِن علومهم ، فكان مِن أعلام شيعتهم.

وفي أعقاب الفتنة الكبرى التي مُنِيَتْ بها الكوفة في عهد الطاغية زياد بن سُميّة شعر عمرو بتتبع السلطة له ، ففرّ مع زميله رفاعة بن شدّاد إلى الموصل ، وقبل أنْ ينتهيا إليه كمنا في جبل ليستجما فيه ، وارتابت الشرطة فبادرت إلى إلقاء القبض على عمرو.

أمّا رفاعة ، ففرّ ولمْ تستطع أنْ تُلقي عليه القبض ، وجيئ بعمرو مخفوراً إلى حاكم الموصل عبد الرحمن الثقفي ، فرفع أمره إلى معاوية ، فأمره بطعنه تسع طعنات بمشاقص(3) ، لأنّه طعن عثمّان بن عفان ، وبادرت الجلاوزة إلى طعنه فمات في الطعنة الأولى ، واحتُزّ رأسه الشريف ، وأُرسل إلى طاغية دمشق ، فأمر أنْ يُطاف به في الشام.

ويقول المؤرخون : إنّه أوّل رأس طيف به في الإسلام ، ثمّ أمر به معاوية أنْ يُحمل إلى زوجته السيّدة آمنة بنت شريد ، وكانت في سجنه ، فلمْ تشعر إلاّ ورأس زوجها قد وضع في حجرها ، فذعرت وكادت أنْ تموت ، وحُمِلَتْ مِن السجن إلى معاوية ، وجرت بينها وبينه محادثات دلّت على ضِعة معاوية ، واستهانته بالقيم العربية والإسلامية ، القاضية بمعاملة المرأة معاملةً كريمةً ، ولا تؤخذ بأي ذنب يقترفه زوجها أو غيره.

__________________

(1) سفينة البحار 1 / 522.

(2) الإصابة 2 / 526.

(3) المشاقص : ـ جمع مفردة مشقص ـ النصل العريض أو سهم فيه نصل عريض.

١٧٠

مذكّرة الإمام الحُسين :

والتاع الإمام الحًسين (عليه السّلام) أشدّ ما تكون اللوعة حينما علم بقتل عمرو ، فرفع مذكرةً إلى معاوية عدّد فيها أحداثه ، وما تعانيه الأُمّة في عهده من الاضطهاد والجور ، وجاء فيما يخص عمرو :

«أوَ لستَ قاتل عمرو بن الحمق ، صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح ، الذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه ، واصفرّ لونه ، بعدما أمِنته ، وأعطيته مِن عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك مِن رأس الجبل ، ثمّ قتلته جراءة على ربّك ، واستخفافاً بذلك العهد»(1) .

لقد خاس معاوية بما أعطاه لهذا الصحابي الجليل ـ بعد الصلح ـ مِن العهد والمواثيق بأنْ لا يعرض له بسوء ولا مكروه.

4 ـ أوفى بن حصن :

وكان أوفى بن حصن مِن خيار الشيعة ـ في الكوفة ـ وأحد أعلامهم النابهين ، وهو مِن أشدّ الناقمين على معاوية ، فكان يذيع مساوءه وأحداثه.

ولمّا علم به ابن سُميّة أوعز إلى الشرطة بإلقاء القبض عليه ، ولمّا علم أوفى بذلك اختفى ، وفي ذات يوم استعرض زياد الناس فاجتاز عليه أوفى ، فشك في أمره ، فسأل عنه فأُخبر باسمه ، فأمر بإحضاره ، فلمّا مَثُل عنده سأله عن سياسته فعابها وأنكرها ، فأمر زياد بقتله ، فهوى الجلادون عليه بسيوفهم وتركوه جثة هامدة(2) .

__________________

(1) حياة الإمام الحسن.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 180 ، الطبري 6 / 130 ـ 132.

١٧١

5 ـ الحضرمي مع جماعته :

وكان عبد الله الحضرمي مِن أولياء الإمام أمير المؤمنين ، ومِن خلّص شيعته ، كما كان مِن شرطة الخميس ، وقد قال له الإمام يوم الجمل :

«أبشر يا عبد الله ، فإنّك وأباك مِن شرطة الخميس ، لقد أخبرني رسول الله باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس ، ولمّا قُتِلَ الإمام جزع عليه الحضرمي ، وبنى له صومعة يتعبّد فيها ، وانضمّ إليه جماعة مِن خيار الشيعة ، فأمر ابن سُميّة بإحضارهم ، ولمّا مَثُلوا عنده أمر بقتلهم ، فقتلوا صبراً(1) .

لقد كانت فاجعة عبد الله كفاجعة حِجْر بن عدي ، فكلاهما قُتِلَ صبراً ، وكلاهما أُخِذَ بغير ذنب ، سوى الولاء لعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

إنكار الإمام الحُسين :

وفزع الإمام الحُسين كأشدّ ما يكون الفزع ألماً ومحنةً على مقتل الحضرمي وجماعته الأخيار ، فأنكر على معاوية في مذكرته التي بعثها له ، وقد جاء فيها.

«أوَ لستَ قاتل الحضرمي ، الذي كتب فيه إليك زياد أنّه على دين علي (عليه السّلام) ، فكتبت إليه أنْ اقتلْ كلّ مَنْ كان على دين علي ، فقتلهم ومثّل فيهم بأمرك ، ودين علي هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف».

ودلّت هذه المذكّرة ـ بوضوح ـ على أنّ معاوية قد عهد إلى زياد بقتل كلّ مَنْ كان على دين علي (عليه السّلام) ، الذي هو دين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، كما دلّت على أنّ زياداً قد مثّل بهؤلاء البررة بعد قتلهم ، تشفياً منهم لولائهم لعترة

__________________

(1) بحار الانوار 10 / 101.

١٧٢

رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

6 ـ جويرية العبدي :

ومِنْ عيون شيعة الإمام جويرية بن مسهر العبدي ، وفي فترات المحنة الكبرى التي امتحنت بها الشيعة أيّام ابن سُميّة ، بعث خلفه فأمر بقطع يده ورجله ، وصلبه على جذع قصير(1) .

7 ـ صيفي بن فسيل :

ومِنْ أبطال العقيدة الإسلامية صيفي بن فسيل ، الذي ضرب أروع الأمثلة للإيمان ، فقد سُعيَ به إلى الطاغية زياد ، فلمّا جيء به إليه صاح به :

ـ يا عدو الله ما تقول في أبي تراب؟

ـ ما أعرف أبا تراب(2)

ـ ما أعرفك به؟

ـ أما تعرف علي بن أبي طالب؟

ـ بلى

ـ فذاك أبو تراب.

ـ كلا ذاك أبو الحسن والحسين.

وانبرى مدير شرطة زياد منكراً عليه :

ـ يقول لك الأمير : هو أبو تراب ، وتقول : أنت ل :! ، فصاح به البطل العظيم مستهزءاً منه ، ومِن أميره.

ـ وإنْ كذب الأمير أتريد أنْ أكذب؟ وأشهد على باطل ، كما شهد

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد.

(2) كان الأمويون يرمزون بهذه الكتبية إلى جعل الإمام كقاطع طريق ، جاء ذلك في التاريخ السياسي للدولة العربية 2 / 75 ، وجاء في الأغاني 13 / 168 أنّ زياداً كان يحتقر الشيعة ويسميهم الترابية.

١٧٣

وتحطم كبرياء الطاغية ، فضاقت به الأرض ، وقال له :

ـ وهذا أيضاً مع ذنبك ، وصاح بشرطته عليّ بالعص ، فأتوه به ، فقال له :

ـ ما قولك؟ ، وانبرى البطل بكلّ بسالة وإقدام غير حافل به قائلاً :

ـ أحسن قول أنا قائله في عبد مِنْ عباد الله المؤمنين ...

وأوعز السفّاك إلى جلاديه بضرب عاتقه حتّى يلتصق بالأرض ، فسعوا إليه بهراواتهم فضربوه ضرباً مبرحاً حتّى وصل عاتقه إلى الأرض ، ثمّ أمرهم بالكفّ عنه ، وقال له :

ـ إيه ما قولك في علي؟

وحسب الطاغية أنّ وسائل تعذيبه سوف تقلبه عن عقيدته ، فقال له :

والله لو شرحتني بالمواسي والمدى ، ما قلت إلاّ ما سمعت منّي

وفقد السفّاك إهابه ، فصاح به ، لتلعنه أو لأضربن عنقك ...

وهتف صيفي يقول :

ـ إذاً تضربها والله قبل ذلك ، فإنْ أبيت إلاّ أنْ تضربها رضيت بالله وشقيت أنت ...

وأمر به أنْ يوقرَ في الحديد ، ويلقى في ظلمات السجون(1) ، ثمّ بعثه مع حِجْر بن عدي فاستشهد معه(2) .

8 ـ عبد الرحمن :

وكان عبد الرحمن العنزي مِن خيار الشيعة ، وقد وقع في قبضة جلاوزة

__________________

(1) الطبري 4 / 198.

(2) حياة الإمام الحسن 2 / 362.

١٧٤

زياد ، فطلب منهم مواجهة معاوية ، لعلّه أنْ يعفو عنه ، فاستجابوا له وأرسلوه مخفوراً إلى دمشق ، فلمّا مَثُلَ عند الطاغية قال له :

(إيهٍ أخا ربيعة ، ما تقول في علي؟)

(دعني ولا تسألني فهو خير لك).

(والله لا أدعك).

فانبرى البطل الفذ يُدلي بفضائل الإمام ، ويشيد بمقامه قائلاً : (أشهد أنّه كان مِن الذاكرين الله كثيراً ، والآمرين بالحقّ ، والقائمين بالقسط ، والعافين عن الناس).

والتاع معاوية فعرّج نحو عثمّان ، لعلّه أنْ ينال منه فيستحلّ إراقة دمه ، فقال له : (ما قولك في عثمّان؟)

فأجابه عن انطباعاته عن عثمّان ، فغاظ ذلك معاوية وصاح به :

(قتلت نفسك) ، بل إيّاك قتلت ، ولا ربيعة بالوادي.

وظنّ عبد الرحمن أنّ أُسرته ستقوم بحمايته وإنقاذه ، فلمْ ينبرِ إليه أحدٌ ، ولمّا أمِنَ منهم معاوية بعثه إلى الطاغية زياد ، وأمره بقتله ، فبعثه زياد إلى (قس الناطف)(1) فدفنه وهو حي(2) .

لقد رفع هذا البطل العظيم راية الحقّ ، وحمل معول الهدم على قلاع الظلم والجور ، واستشهد منافحاً عن أقدس قضية في الإسلام.

هؤلاء بعض الشهداء مِن أعلام الشيعة ، الذين حملوا مشعل الحرية ، وأضاءوا الطريق لغيرهم مِن الثوار الذين أسقطوا هيبة الحكم الأموي ، وعملوا على إنقاضه.

__________________

(1) قس الناطف : موضع قريب مِن الكوفة.

(2) الطبري 6 / 155.

١٧٥

المروّعون مِن أعلام الشيعة :

وروّع معاوية طائفة كبيرة مِن الشخصيات البارزة مِن رؤساء الشيعة ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ عبد الله بن هاشم المرقال.

2 ـ عَدِي بن حاتم الطائي.

3 ـ صعصعة بن صوحان.

4 ـ عبد الله بن خليفة الطائي.

وقد أرهق معاوية هؤلاء الأعلام إرهاقاً شديداً ، فطاردتهم شرطته ، وأفزعتهم إلى حدٍّ بعيدٍ ، وقد ذكرنا ماعانوه مِن الخطوب في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

ترويع النّساء :

ولمْ يقتصر معاوية في تنكيله على السّادة مِنْ رجال الشيعة ، وإنّما تجاوز ظلمه إلى السّيدات مِنْ نسائهم ، فأشاع فيهم الذعر والإرهاب ، فكتب إلى بعض عمّاله بحمل بعضهنّ إليه ، فحُمِلَتْ له هذه السّيدات :

1 ـ الزرقاء بنت عَدِي.

2 ـ أُمّ الخير البارقية.

3 ـ سودة بنت عمارة.

4 ـ أُمّ البرّاء بنت صفوان.

١٧٦

5 ـ بكارة الهلالية.

6 ـ أروى بنت الحارث.

7 ـ عكرش بنت الأطرش.

8 ـ الدارمية الحجونية.

وقد قابلهن معاوية بمزيد مِن التوهين والاستخفاف ، وأظهر لهنّ الجبروت والقدرة على الانتقام ، غير حافلٍ بوهن المرأة وضعفها ، وقد ذكرنا ما جرى عليهن في مجلسه مِن التحقير في كتابنا (حياة الإمام الحسن)

هدم دور الشيعة :

وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله بهدم دور الشيعة ، فقاموا بنقضها(1) .

وتركوا شيعة آل البيت (عليه السّلام) بلا مأوى يأوون إليه ، ولمْ يكن هناك أي مُبرر لهذه الإجراءات القاسية ، سوى تحويل الناس عن عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

حرمان الشيعة مِن العطاء :

ومِن المآسي الكئيبة التي عانتها الشيعة في أيّام معاوية أنّه كتب إلى جميع عمّاله نسخةً واحدةً جاء فيها : (انظروا إلى مَنْ قامت عليه البيّنة أنّه يُحبّ علياً وأهل بيته فامحوه مِن الديوان ، واسقطوا عطاءه ورزقه)(2) ، وبادر عمّاله في الفحص في سجلاتهم ، فمَنْ وجدوه محبّاً لآل البيت (عليه السّلام) محوا اسمه ، وأسقطوا عطاءه.

__________________

(1) شرح النهج 11 / 44.

(2) شرح النهج 11 / 44.

١٧٧

عدم قبول شهادة الشيعة :

وعمد معاوية إلى إسقاط الشيعة اجتماعياً ، فعهد إلى جميع عمّاله بعدم قبول شهادتهم في القضاء وغيره(1) مبالغة في إذلالهم وتحقيرهم.

إبعاد الشيعة إلى الخراسان :

وأراد زياد بن أبيه تصفية الشيعة مِن الكوفة ، وكسر شوكتهم فأجلى خمسين ألفاً منهم إلى خراسان ـ المقاطعة الشرقية في فارس(2) ـ ، وقد دقّ زياد بذلك أوّل مسمار في نعش الحكم الأموي ، فقد أخذت تلك الجماهير التي أُبعدت إلى فارس تعمل على نشر التشيع في تلك البلاد ، حتى تحوّلت إلى مركز للمعارضة ضد الحكم الأموي ، وهي التي أطاحت به تحت قيادة أبي مسلم الخراساني.

هذا بعض ما عانته الشيعة في عهد معاوية مِنْ صنوف التعذيب والإرهاب ، وكان ما جرى عليهم مِن المآسي الأليمة مِن أهم الأسباب في ثورة الإمام الحسين ، فقد رفع علم الثورة لينقذهم مِن المحنة الكبرى التي امتحنوا بها ، ويُعيد لهم الأمن والاستقرار.

البيعة ليزيد :

وختم معاوية حياته بأكبر إثم في الإسلام ، وأفظع جريمة في التاريخ ،

__________________

(1) حياة الإمام الحسن.

(2) تاريخ الشعوب الإسلامية 1 / 147.

١٧٨

فقد أقدم غير متحرّج على فرض خليعه يزيد خليفة على المسلمين يعيث في دينهم ودنياهم ، ويخلد لهم الويلات والخطوب ، وقد استخدم معاوية شتى الوسائل المنحطّة في جعل المُلْك وراثة في أبنائه. ويرى الجاحظ أنّه تشبّه بملوك الفرس البزنطيين فحوّل الخلافة إلى مُلْكٍ كسروي وعصبٍ قيصري. وقبل أنْ نعرض إلى تلك البيعة المشومة ، وما رافقها مِن الأحداث ، نذكر عرضاً موجزاً لسيرة يزيد ، وما يتّصف به مِن القابليات الشخصية التي عجّت بذمها كتب التاريخ مِنْ يومه حتّى يوم الناس هذا ، وفيما يلي ذلك :

ولادة يزيد :

ولد يزيد سنة (25) أو (26 هـ)(1) ، وقد دهمت الأرض شعلة مِنْ نار جهنم وزفيرها ، تحوط به دائرةُ السَوءِ وغضبٌ مِن الله ، وهو أخبث إنسان وجِدَ في الأرض ، فقد خُلِقَ للجريمة والإساءة إلى الناس وأصبح علماً للانحطاط الخُلُقي والظلم الاجتماعي ، وعنواناً بغيضاً للاعتداء على الأُمّة وقهرَ إرادتها في جميع العصور.

يقول الشيخ محمّد جواد مغنية : أمّا كلمة يزيد فقد كانت مِنْ قبل اسماً لابن معاوية ، أمّا هي الآن عند الشيعة فإنّها رمز للفساد والاستبداد والتهتّك والخلاعة ، وعنوان للزندقة والإلحاد ، فحيث يكون الشرّ والفساد فثمَّ اسم يزيد ، وحيثما يكون الخير والحقّ والعدل فثمَّ اسم الحُسين(2) .

وقد أثر عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه نظر إلى معاوية يتبختر في بردة حبرة وينظر إلى عطفَيه ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : «أي يوم لأُمّتي منك ، وأي يوم سُوء

__________________

(1) تاريخ القضاعي من مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم العامّة.

(2) الشيعة في الميزان / 455.

١٧٩

لذريتي منّك ، مِن جرو يخرج مِن صُلبك ، يتّخذ آيات الله هُزُوا ويستحلّ مِن حرمتي ما حرم الله عز وجل»(1) .

نشأته :

نشأ يزيد عند أخواله في البادية مِن بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام ، وكان مُرسَل العِنان مع شبابهم الماجنين فتأثر بسلوكهم إلى حدٍّ بعيدٍ ، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب.

يقول العائلي : إذا كان يقيناً أو يشبه اليقين أنّ تربية يزيد لمْ تكن إسلامية خالصة ، أو بعبارة أخرى : كانت مسيحية خالصة ، فلمْ يبقَ ما يستغرب معه أنْ يكون متجاوزاً مستهتراً مستخفّاً بما عليه الجماعة الإسلامية ، لا يحسب لتقاليدها واعتقاداتها أي حساب ولا يقيم لها وزناً ، بل الذي نستغرب أنْ يكون على غير ذلك(2) .

والذي نراه أنّ نشأته كانت نشأة جاهلية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، ولا تحمل أي طابعٍ مِن الدين مهما كان ؛ فإنّ استهتاره في الفحشاء وإمعانه في المنكر والإثم ممّا يوحي إلى الاعتقاد بذلك.

صفاته :

أمّا صفاته الجسمية : فقد كان شديد الأدمة بوجهه آثار الجدري(3)

__________________

(1) المناقب والمثالب ـ للقاضي نعمان المصري / 71.

(2) سمو المعنى في سمو الذات / 59.

(3) تاريخ القضاعي.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

مواجهة، وإليك فيما يلي بعض هذه النصوص :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا سباق إلّا في خفّ أو حافر أو نصل ( يعني النصال والرمي ) »(١) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قول الله عزّ وجلّ:( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ ) ( الأنفال: ٦٠ )، قال: « الرّمي »(٢) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « علّموا أبناءكم الرّمي والسّباحة »(٣) .

وقال أيضا: « اركبوا وارموا وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا

كلّ لهو المؤمن باطل إلّا في ثلاث في تأديبه للفرس، ورميه عن القوس فإنّهنّ حقّ. إلّا أنّ الله عزّ وجلّ ليدخل بالسّهم الواحد الثلاثة الجنّة: عامل الخشبة والمقوّي به في سبيل الله والرّامي به في سبيل الله »(٤) .

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام : « الرّمي سهم من سهام الإسلام »(٥) .

وهذا يعني أنّ على كافة المسلمين أن يتلقّوا التدريب العسكريّ ويتعرّفوا على فنون الرماية والقتال. ليكونوا على استعداد كامل ودائم لأيّة مواجهة مع الأعداء.

ولقد دفعت الروح القتاليّة والبسالة والتشجيع على التدريب العسكريّ التي بثّها الإسلام في المسلمين إلى أن يتطوّعون بكامل رغبتهم للخدمة العسكريّة ويبادروا إلى الانضواء في الجيش الإسلاميّ كلّما استدعت الحاجة، واقتضت الظروف.

على أنّ السبب الرئيسيّ في ذلك هو أنّ الإسلام أفاض على الخدمة العسكريّة قدسية يخلو منها جميع الأنظمة البشريّة فقد اعتبر الإسلام الإنضواء في الجيش

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١٣: ٣٤٥ ـ ٣٥١ كتاب السبق والرماية ـ باب استحباب الرمي والمراماة.

(٣) مستدرك الوسائل ٢: ٥١٧.

(٤ و ٥) وسائل الشيعة ١١: ١٠٧ باب استعمال تعلّم الرمي بالسهم.

٥٦١

الإسلاميّ والخدمة العسكريّة والقتال في صفوف هذا الجيش ( جهاداً في سبيل الله ).

وينطوي هذا اللفظ على بعد معنويّ رفيع جدّاً حيث يعني الجهد والسعي لحفظ البلاد وإنقاذ المستضعفين وإعلاء كلمة الله وذلك يكفي لأن تجتذب نحوها القلوب والضمائر. ذلك لأنّ هذا الوصف في الخدمة العسكريّة وهذا الهدف المقدّس يخرج العمل العسكريّ من كونه خدمة للطغاة، وسعياً من أجل إرضاء رغباتهم كما هو الحال في الجيوش الحاضرة، التي لم تنشأ في الأغلب إلّا لحماية الطواغيت ولا تحارب إلّا لإرضاء شهواتهم ورغباتهم وتحقيق مطامعهم.

من هنا يكفي للحكومة الإسلاميّة أن تعلن عن حاجتها إلى الجنود والمقاتلين لتنهال عليها طلبات الإلتحاق إلى صفوف الجيش من كلّ جانب بهدف أن ينالوا شرف الجهاد تحت لواء الإسلام، وهم يسمعون كلام الله إذ يقول:( وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) ( النساء: ٩٥ ).

على أنّ هذا الأمر لا يمنع من أن تتّخذ الحكومة الإسلاميّة جيشاً منظّماً مجهّزاً بأحدث الأسلحة والتكتيات عملاً بقوله سبحانه:( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) ( الأنفال: ٦٠ ).

بل وللحكومة الإسلاميّة أن تفرض نظام التجنيد الإجباريّ على بعض الناس ضمن شروط خاصّة إذ لا يمكن في مثل هذا العصر الذي تتّخذ فيه الدول الجيوش القويّة المدرّبة والمنظّمة، أن لا تتّخذ الحكومة الإسلاميّة جيشاً مماثلاً في القوّة والتدريب والنظام والعدّة، تنيط إليه مسؤولية الدفاع عن الوطن الإسلاميّ والمرابطة على ثغوره والسهر على أمنه الخارجيّ ودرء الأخطار عنه وإن كانت هذه المسؤوليّة قد تعمّ كلّ أفراد الاُمّة دون إستثناء إذا اقتضى الأمر، وتطلب أن يتطوّع الجميع لحمل السلاح، والدفاع عن حوزة الإسلام والمسلمين.

وخلاصة القول ؛ أنّ النظام والعمل العسكريّ في الإسلام لا يهدف فتح البلاد

٥٦٢

وغزو الشعوب واستعمارها، واستغلالها، بل يتركّز في أحد أمرين :

١. الدفاع عن حدود البلاد الإسلاميّة وحماية الاُمّة من غزو الغزاة، وعدوان الأعداء.

٢. تحرير المستضعفين وإنقاذهم من ظلم اُمرائهم وملوكهم ليختاروا ما يشاؤون من دين، ويتّخذوا بإرادتهم ما يريدون. وهذا ما أعلن عنه المسلمين يوم أرادوا فتح إيران وانقاذ أهلها من ظلم ملوكهم، وحيفهم.

فقد قال مندوب المسلمين لـمّا سأله الأمير الإيراني رستم عن سبب تحرّكهم العسكريّ نحو إيران، وسأله عن الدين الذي يحملونه ويبشّرون به :

« هو دين الحقّ وعموده الذي لا يصلح إلّا به فشهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، والناس بنو آدم وحوا، اخوة لأب واُمّ »(١) .

تعاليم إنسانيّة في الحرب

ولذلك نجد للإسلام تعليمات إنسانيّة عظيمة للجنود والمقاتلين تكشف عن أهداف الحروب الإسلاميّة وغاياتها السامية، فها هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما أراد أن يبعث جيشاً إلى موضع من المواضع وصّاه بوصايا تفوح منها رائحة الرحمة والإنسانيّة، فعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام قال: « كان رسُولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أراد أن يبعث سريّةً دعاهُم فأجلسهُم بين يديه ثُمّ يقُولُ :

سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله لا تغلوا ولا تمثّلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبيّاً، ولا امرأةً ولا تقطعوا شجراً إلّا أن تضطروا إليها

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ١: ٣١٩ وفي رواية اُخرى قال :

الله جاء بنا وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. راجع الكامل ١: ٣٢٠.

٥٦٣

وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتّى يسمع كلام الله فإن تبعكم فأخوكم في الدّين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه واستعينوا بالله »(١) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا بعث أميراً له على سريّة أمره بتقوى الله عزّ وجلّ في خاصّة نفسه ثمّ في أصحابه عامّةً ثمّ يقول :

اغز باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليداً. ولا متبتّلاً في شاهق، ولا تحرقوا النّخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرةً ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم يؤكل لحمه إلّا ما لا بدّ لكم من أكله، وإذا لقيتم عدوّاً للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث فإن هم أجابوكم فاقبلوا منهم وكفّوا عنهم :

ادعوهم إلى الإسلام فإن دخلوا فيه فاقبلوا منهم وكفّوا عنهم، وإن أبوا أن يهاجروا واختاروا ديارهم وأبوا أن يدخلوا في ديار الهجرة، كانوا بمنزلة أعراب المؤمنين يجري عليهم ما يجري على أعراب المؤمنين ولا يجري لهم في الفيء ولا في القسمة شيئاً إلّا أن يهاجروا [ يجاهدوا ] في سبيل الله. فإن أبوا هاتين فادعوهم إلى إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون فإن أعطوا الجزية فاقبل وكفّ عنهم وإن أبوا فاستعن بالله عزّ وجلّ عليهم وجاهدهم في الله حقّ جهاده الخ »(٢) .

وكان عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إذا بعث سرية ولّي أمرها رجلاً ثمّ قال له: « أُوصيك بتقوى الله الّذي لا بدّ لك من لقائه ولا منتهى لك دونه وهو يملك الدّنيا والآخرة وعليك بالّذي بعثت له، وعليك بالّذي يقرّبك إلى الله عزّ وجلّ فإنّ فيما عند الله خلفاً من الدّنيا »(٣) .

إلى غير ذلك من التعليمات والوصايا التي تكشف عن أهداف النظام العسكريّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٤٢ ـ ٤٣.

(٢) وسائل الشيعة ١١: ٤٥ ـ ٤٦، وتاريخ اليعقوبيّ ٢: ٥٩.

(٣) الخراج: ١٦.

٥٦٤

في الإسلام.

ولعل من أبرز ما يكشف لنا عن هدف الإسلام من الجهاد والقتال والنشاط العسكريّ هو قوله تعالى:( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) ( النساء: ٧٥ ).

ولقد اهتمّ الإسلام بالجنود غاية الاهتمام، وأعطاهم غاية العناية لمالهم من الدور الحسّاس والخطير في الدولة الإسلاميّة.

فها هو الإمام عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام يوصي الأشتر النخعيّ واليه على مصر بالجنود ويقول في حقّهم ما لم يعرف التاريخ له مثيلاً: « فالجنود بإذن الله حصون الرّعيّة وزين الولاة، وعزّ الدّين وسبل الأمن وليس تقوم الرّعيّة إلّا بهم ثمّ لا قوام للجنود إلّا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوّهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم

وليكن أثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتّى يكون همّهم همّاً واحداً في جهاد العدوّ فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور موّدة الرّعية »(١) .

كما أعطى الإمام عليّ تعليماته في النشاط العسكريّ فقال: « فقدّموا الدّارع، وأخّروا الحاسر وعضّوا على الأضراس فإنّه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرّماح فإنّه امور للأسنّة وغضّوا للأبصار فإنّه أربط للجأش وأسكن للقلوب وأميتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلّوها ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم الخ »(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الرسائل: رقم ٥٣.

(٢) نهج البلاغة: قسم الخطب: رقم ١٢ طبعة عبده.

٥٦٥

وقال: « تزول الجبال ولا تزل عض على ناجذك أعر الله جمجمتك، تدفي الأرض قدمك أرم ببصرك أقصى القوم وغضّ بصرك وأعلم أنّ النّصر من عند الله سبحانه »(١) .

وقال: « فإذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الأشراف أو سفاح الجبال، أو أثناء الأنهار، كيما يكون لكم رداءاً ودونكم مردّاً، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين وأجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب، لئلاّ يأتيكم العدوّ من مكان مخافةً أو أمن. واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم وعيون المقدّمة طلائعهم، وإيّاكم والتفرّق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرّماح كفّةً، ولا تذوقوا النّوم إلّا غراراً أو مضمضةً »(٢) .

إنّ مثل هذا النظام ومثل هذه التعاليم حول العسكر يقتضي وجود جهاز خاصّ مستقلّ يقوم بشؤون الجند، ويتكفّل إدارة اُمورهم، وخاصّة أنّ الحاجة تزداد يوما بعد يوم إلى الجيوش المنظّمة القويّة، وتزداد متطلّبات الجنود.

إنّ القيام بشؤون الجند من وظائف السلطة التنفيذيّة فوزارة الدفاع من هذه السلطة هي التي يجب أن تتولّى هذه الناحية الخطيرة، وتنظّم الجيش الإسلاميّ بأحسن تنظيم.

وقالعليه‌السلام لأحد قادة جيشه حينما أنفذه إلى الشام: « اتّق الله الذي لا بدّ لك من لقائه ولا منتهى لك دونه، ولا تقاتلنّ إلّا من قاتلك وسر البردين [ الغداة والعشي ] وغور بالنّاس، ورفّه في السير، ولا تسر أوّل الليل فإنّ الله جعله سكناً، وقدّره مقاماً لا ظعناً، فأرح فيه بدنك وروّح ظهرك، فإذا وقفت حين ينبطح السحر، أو حين ينفجر الفجر فسر على بركة الله، فإذا لقيت العدوّ فقف من أصحابك وسطاً ولا تدن من القوم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد عنهم تباعد من يهاب البأس حتّى يأتيك أمري، ولا يحملنّكم شن آنهم على قتالهم قبل دعائهم والاعذار إليهم »(٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الخطب: رقم ١٠.

(٢ و ٣) نهج البلاغة: قسم الكتب: رقم ١١، ١٢.

٥٦٦

وقالعليه‌السلام لأصحابه عند الحرب: « لا تشتدنّ عليكُم فرة بعدها كرّة ولا جولة بعدها حملة واعطُوا السّيُوف حُقُوقها، ووطّئُوا للجُنُوب مصارعها، واذمُرُوا أنفُسكُم على الطّعن الدّعسيّ والضرب الطّلحفي، واميتُوا الأصوات فإنّهُ أطردُ للفشل. فوالّذي فلق الحبّة، وبرأ النّسمة ؛ ما أسلمُوا ولكن استسلمُوا، وأسرّوا الكُفر، فلمّا وجدُوا أعواناً عليه أظهرُوهُ »(١) .

وقالعليه‌السلام في تعليم الحرب والمقاتلة: « معاشر المُسلمين: استشعرُوا الخشية وتجلببُوا السّكينة وعضّوا على النّواجذ فإنّهُ أنبى للسيوف عن الهام، وأكملُوا اللاّمة، وقلقلُوا السيوف في اغمادها قبل سلّها، والحظُوُا الخزر، واطعنُوا الشّزر، ونافحُوا بالضّبا، وصلُوا السّيُوف بالخُطا، واعلمُوا أنّكُم بعين الله، ومع ابن عمّ رسُول الله، فعاودُوا الكرّ، واستحيُوا من الفرّ، فإنهُ عار في الأعقاب، ونار يوم الحساب. وطيبُوا عن أنفُسكُم نفساً، وامشُوا إلى الموت مشياً سُجُحاً، وعليكُم بهذا السّواد الأعظم، والرّواق المُطنّب فاضربُوا ثبجهُ فإنّ الشيطان كامن في كسره، وقد قدّم للوثبة يداً وأخّر للنّكُوص رجلاً، فصمداً صمداً حتّى ينجلي لكُم عمُودُ الحقّ وانتُم الأعلون والله معكُم ولن يتركُم أعمالكُم »(٢) .

وجملة القول ؛ إنّ الإسلام أشار إلى أهم الخطوط والاُسس التي يجب أن تقوم عليها بناء العسكريّة الإسلاميّة تاركاً الخصوصيّات والتفاصيل لمقتضيات الزمن.

__________________

(١) نهج البلاغة قسم الكتب رقم ١٦.

(٢) نهج البلاغة قسم الخطب رقم ٦٣.

٥٦٧
٥٦٨

الفصل الثامن

المنابع الماليّة

للحكومة الإسلاميّة

لابدّ للبرامج من منابع ماليّة

لقد أوضحت البحوث السابقة صيغة الحكومة الإسلاميّة وأركانها ووظائفها وأهدافها وهنا ينطرح هذا السؤال :

كيف تستطيع الحكومة الإسلاميّة تطبيق هذه البرامج والقيام بهذه الوظائف الكبرى وكيف تضمن النفقات اللازمة لذلك ؟

وبتعبير آخر: ما هي المنابع الماليّة التي تعتمد عليها الحكومة الإسلاميّة وهل تكتفي بالضرائب المقرّرة المعروفة بالخمس والزكاة في تكوين ميزانيّتها أو أنّ هناك منابع وموارد ماليّة اُخرى تستعين بها هذه الحكومة في سدّ نفقاتها.

فربّما يقال: إنّ الإسلام الذي أغلق في وجه حكومته كلّ السبل غير المشروعة التي تعتمد عليها الحكومات الحاضرة كالضرائب المأخوذة على تجارة الخمور والبغاء والقمار، وما شابهها فتخسر بذلك واردات كبرى، كيف يمكنها أن تسدّ نفقاتها الهائلة

٥٦٩

من فريضتي الخمس والزكاة، المحدودتين ؟

غير أنّنا نلفت القارئ الكريم إلى أنّ الحكومة الإسلاميّة لا تقتصر على ( الخمس والزكاة ) الماليتين، فهما يشكّلان جانباً واحداً من عائداتها بل هناك منابع اُخرى نشير إليها باختصار :

١. الأنفال

وهي كلّ أرض ملكت بغير قتال، وكلّ موات، ورؤوس الجبال وبطون الأودية، والآجام والغابات والمعادن(١) ، وميراث من لا وارث له، وما يغنمه المقاتلون بغير إذن الإمام، وكافّة المياه العامّة والأحراش الطبيعيّة، والمراتع التي ليست حريماً لأحد وقطائع الملوك وصفاياهم غير المغصوبة.

فذلك كلّه يكون أمره بيد الحكومة الإسلاميّة باعتبارها الممثّلة الشرعيّة للاُمّة الإسلاميّة التي تعود إليها ملكيّة هذه الأشياء، فتتصرّف فيها الحكومة الإسلاميّة وتصرف عائداتها في مصالح المسلمين وشؤونهم، والأصل في ذلك قوله سبحانه:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( الأنفال: ١ ).

وما لله وللرسول في هذه الآية يصرف في مصالح المسلمين.

ويدلّ على ذلك أيضاً قوله سبحانه:( وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ

__________________

(١) لقد اختلف فقهاء الشيعة الإماميّة في عدّ المعادن من الأنفال فمنهم ـ كالمفيد وسلار ـ من عدّها من الأنفال، تبعاً لما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تعربف الأنفال حيث قال: « هي التي خربت والمعادن منها » وفي خبر آخر سئل عن الأنفال فقال: « المعادنُ والآجامُ » ومنهم من لم يعدّها من الأنفال ـ كالمحقّق وغيره ـ لاحظ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ٣٨: ١٠١ ـ ١١٣.

وذهب الإمام الخمينيّ إلى أنّ المعادن من الأنفال إذا لم تكن لمالك خاصّ تبعا للأرض أو بالإحياء ( تحرير الوسيلة ١: ٣٦٩ )، هذا وللمعادن المكشوفة الموجودة في الأراضي المملوكة أحكام خاصّة فليرجع إلى الكتب الفقهيّة ( لاحظ تحرير الوسيلة ٢: ٢٢٠ ).

٥٧٠

عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَٰكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الحشر: ٦ ).

ويدلّ عليه أيضاً ما ورد عن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام إذ قال: « الأنفالُ ما لم يُوجفُ عليه بخيل ولا ركاب، أو قوم صالحُوا، أو قوم أعطُوا بأيديهم، وكُلّ أرض خربة وبُطونُ الأودية فهو لرسُول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو للإمام من بعده يضعُهُ حيثُ يشاءُ »(١) .

وما ورد عن الإمام الكاظم موسى بن جعفرعليه‌السلام أنّه قال: « ولهُ [ أي للإمام ] بعد الخُمس الأنفالُ والأنفالُ كُلّ أرض خربة باد أهلُها وكُلّ أرض لم يُوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحُوا صُلحاً وأعطُوا بأيديهم على غير قتال، ولهُ رُؤُوس الجبال وبُطونُ الأودية والآجام وكُلّ أرض ميتة لاربّ لها، ولهُ صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب لأنّ الغصب كُلّهُ مردود [ أي على صاحبه الحقيقي ] وهُو وارثُ من لا وارث لهُ » ثمّ قال: « والأنفالُ إلى الوالي »(٢) .

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الواردة في هذا الشأن.

وتشكّل هذه المصادر الطبيعيّة أضخم ثروة ماليّة خاصّة في مناطق العالم الإسلاميّ، فيكفي أن نعرف أنّ إيران وحدها تملك (١٩) مليون هكتار من الغابات الغنيّة بالأخشاب التي قدّرت ب‍ (٣٠٠) مليون متر مكعّب من الخشب القابل للانتفاع، هذا مضافاً إلى ما تعطيه أشجار الغابات من الثمار والمواد التصنيعيّة والكيمياويّة التي تشكّل بنفسها أعظم ثروة طبيعيّة وأضخم مورد ماليّ(٣) .

بل يكفي أن نعلم أنّ العالم الإسلاميّ ينتج ( ٦٦ % ) من مجموع ما ينتجه العالم من الزيت الخام [ النفط ] وحده، كما أنّ لدينا احتياطيّ ضخم من المعادن كما تنتج ( ٧٠ % ) ممّا ينتجه العالم من المطّاط الطبيعيّ و ( ٤٠ % ) ممّا ينتجه العالم من الجوت الطبيعيّ ،

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ٦: ٣٦٤، ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

(٣) راجع كتاب الأنفال أو الثروات العامّة.

٥٧١

و ( ٥٦ % ) من زيت النخيل، ويوجد احتياطيّ عظيم من الحديد والنحاس وحتّى اليورانيوم الذي أصبح ثميناً للغاية في هذه الأيام نظراً لإستعماله في انتاج الطاقة النووية فإنّه موجود أيضاً في أقطار إسلاميّة عديدة من أفريقيا(١) .

٢. الزكاة

وهي ضريبة تجب في تسعة أشياء: الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، والنقدين وهما الذهب والفضة، والغلاّت وهي الحنطة والشعير والتمر والزبيب(٢) والأدلّة عليها من الكتاب والسنّة ما لا يحصى.

٣. الخمس

ويجب في سبعة أشياء :

الأوّل: الغنائم المأخوذة من أهل الحرب قهراً بالمقاتلة.

الثاني: المعادن من الفضّة والرصاص والصفر والحديد والياقوت والزبرجد والفيروزج والعقيق والزيبق والكبريت والنفط والقير والسبخ والزاج والزرنيخ والكحل والملح بل والجصّ والنورة وغيرها.

على أنّ المعادن الأرضيّة بما أنّها من الأنفال كما أشرنا إليه متعلّقة كلّها بالحكومة الإسلاميّة أساساً، ولكن لا يحقّ للحكومة أن تحتكرها أو تهبها لأحد مجانا، ولا أن تستخرجها بلا ميزان، وتضع عائداتها في البنوك والمصارف لحساب شخص أو أشخاص معيّنين.

أنّ هذه المعادن تعتبر من الأنفال التي يقول الله سبحانه عنها:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ

__________________

(١) الحل الإسلاميّ ضرورة وفريضة ١: ٣٠ وأيضاً راجع كتاب اقتصاديّات العالم الإسلاميّ.

(٢) العروة الوثقى كتاب الزكاة: ٣٩٠ هذا وللوقوف على آراء سائر المذاهب حول ما تجب فيه الزكاة لاحظ الفقه على المذاهب الأربعة.

٥٧٢

الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ ) أي تعود ملكيتها إلى الدولة باعتبارها ممثّلة شرعيّة عن الاُمّة وخليفة عن الله والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنّها مختارة في أن تقوم هي بنفسها باستخراجها وصرف عائداتها لصالح الاُمّة، أو أن تسلّمها إلى شركة أو شخص معيّن للاستخراج، وذلك حسب الشرائط التي تقوم بها المصلحة.

ثمّ إذا سلّمت الحكومة هذه المعادن إلى شركة، أو فرد خاصّ، تبعاً للمصلحة، فإنّ الشركة المستخرجة أو الفرد المستخرج يملك ما يستخرجه بشرط أن يدفع ( خمسه ) إلى الحكومة الإسلاميّة، مضافاً إلى ما يدفعه إلى الدولة في مقابل تسليم هذه المعادن إلى تلك الشركة أو ذلك الفرد الخاصّ من قبل الحكومة الإسلاميّة، نعم إنّ المصالح الفعليّة للاُمّة الإسلاميّة لا تسمح للحكومة الإسلاميّة أن تسلّم معادن البترول والذهب والفضة واليورانيوم، والألماس وما شابهها إلى فرد أو شركة خاصّة، بل عليها هي أن تقوم باستخراج هذه المعادن وتصنيعها. وصرف مواردها في المصالح العامّة للاُمّة الإسلاميّة.

يبقى أن نعرف أنّ الانتفاع من هذه المعادن واستخراجها قد يقتضي أحياناً استخدام المستشارين والمتخصّصين الأجانب فهل يجوز للحكومة الإسلاميّة استخدامهم لذلك أو لا ؟

الحقّ أنّ هؤلاء المستشارين الأجانب لـمّا كانوا في الأغلب يلعبون دوراً تجسّسيّاً، أو يسيئون إلى كرامة المسلمين أو يمهّدون لسيادة الاستعمار البغيض على بلاد المسلمين فعلى الحكومة الإسلاميّة أن تستعين بهم بقدر الضرورة مع التحفّظ والتحوّط الكامل منهم، في حين تدفع مجموعة من خيرة أبنائها لتحصيل العلوم المرتبطة بهذه المجالات والتخصّص في هذه الشؤون تخلّصاً من هذه المشكلة التي دلّت التجارب الكثيرة على أنّها السبب الرئيس في كثير من مشاكل المسلمين.

الثالث: الكنز، وهو المال المذخور في الأرض أو الجبل أو الجدار.

الرابع: الغوص، أي ما اُخرج به من الجواهر من البحر مثل اللؤلؤ والمرجان.

الخامس: المال الحلال المخلوط بالحرام على وجه لا يتميّز مع الجهل.

٥٧٣

السادس: الأرض التي اشتراها الذمّي من المسلم سواء أكانت أرضاً زراعيّة أم سكنيّة.

السابع: ما يفضل من مؤونة سنة المكتسب ومؤونة عياله من أرباح التجارات والصناعات والمكاسب، ويدخل في هذا القسم ما يتعلّق بأرباح مصانع انتاج السكر، والصوف والخيوط والقطن والأدوية والسيارات والمدافئ والخزف والسجاجيد وقطع الخشب، والأغذية، والورق، وغيرها والأصل في ذلك قوله سبحانه:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ( الأنفال: ٤١ ).

ولكي نثبت للقارئ الكريم أنّ المال الوارد عن طريق الخمس لا يكون شيئاً يسيراً بل يشكّل مورداً ماليّاً كبيراً للدولة الإسلاميّة لا بدّ أن نثبت للقارئ أنّ فريضة الخمس التي سنّها الإسلام تعمّ غنائم الحرب، وغيرها ممّا ذكرناها ممّا يشكّل مجموعها قدراً كبيراً ووارداً هائلاً، ولذلك فنحن مضطرّون لإجراء تحقيق حول عموميّة الخمس للغنائم وغيرها.

تحقيق ضروريّ حول الخمس

إنّنا لا ننكر أنّ لفظة الغنيمة صارت في مصطلح الفقهاء في القرون الأخيرة، منحصرة فيما يؤخذ من الكفّار والمشركين بالقتال والحرب، إلّا أنّ مراجعة واحدة لوضع هذه اللفظة في اللغة، واستعمالها في الكتاب والسنّة تكشف لنا أنّ هذه اللفظة كانت تطلق في مطلق ما يفوز به الإنسان من منافع وأموال ولو بدون الحرب، وأنّ ما حصل لها من الحصر في غنائم الحرب، كان بعد العصر الأوّل للرسالة الإسلاميّة، وعلى ذلك يكون الخمس متعلّقاً بكلّ ما يكتسبه الإنسان لا بمغانم الحرب فقط وإليك تحقيق المطلب فيما يلي :

الغنيمة في اللغة

إنّ ما يظهر من أئمّة اللغة هو أنّ الغنيمة بمادّتها الأوّلية تستعمل في مطلق ما

٥٧٤

يحصل عليه الإنسان بيسر وسهولة، ولو كان بغير حرب وقتال ومدافعة وإليك بعض ما نصّت به أئمّة اللغة وأقطابها.

قال الجوهريّ في صحاحه: ( والمغنم والغنيمة بمعنى [ أي بمعنى واحد ] يقال: غنم القوم غُنماً ـ بالضمّ ـ وغنمته تغنيماً إذا نفلته. واغتنمه وتغنّمه عدّه غنيمة )(١) .

وقال ابن فارس في مقاييسه: ( غنم أصل صحيح واحد يدلّ على إفادة شيء لم يملك من قبل ثمّ يختص بما اُخذ من مال المشركين )(٢) .

وقال الراغب في مفرداته: ( والغنم، إصابته والظفر به ثمّ استعمل في كلّ مظفور به من جهة العدى وغيرهم )(٣) .

ويشير ابن الأثير إلى المعنى الأصليّ لهذه اللفظة في تفسير بعض الأحاديث ويقول: ( فلان يتغنم الأمر أي يحرص عليه كما يحرص على الغنيمة، ومنه الحديث: « الصّومُ في الشّتاء غنيمة باردة » سمّاها غنيمة لما فيها من الأجر والثواب ومنه: « الرّهن لمن رهنهُ لهُ غنمهُ وعليه غرمُه » وغنمه: زيادته ونماؤه وفاضل قيمته )(٤) .

وقال في لسان العرب مثل ما قاله ابن الأثير(٥) .

وقال الفيروزآبادي في قاموسه: ( والغُنم ـ بالضم ـ الفوز بالشيء لا مشقّة وأغنمه كذا تغنيماً نفله إيّاه، واغتنمه وتغنّمه عدّه غنيمة )(٦) .

وقال الأزهريّ في تهذيبه: ( قال الليث: الغنم الفوز بالشيء فاز به، والاغتنام انتهاز الغنم )(٧) .

وممّا قاله أئمّة اللغة في الغنيمة نعرف أنّ العرب كانت تستعمل هذه اللفظة في كلّ ما يفوز به الإنسان حتّى ولو لم يكن من طريق الحرب والقتال.

__________________

(١) صحاح اللغة: مادة ( غنم ).

(٢) مقاييس اللغة: مادة ( غنم ).

(٣) مفردات الراغب: مادة ( غنم ).

(٤) غريب مفردات الحديث: مادة ( غنم ).

(٥) لسان العرب: مادة ( غنم ).

(٦) قاموس اللغة: مادة ( غنم ).

(٧) تهذيب اللغة: مادة ( غنم ).

٥٧٥

وقد وردت هذه اللفظة بنفس المعنى في الكتاب والسنّة وأفادت مطلق ما يفوز به الإنسان وإليك الشواهد منهما فيما يلي :

الغنيمة في الكتاب والسنّة

لقد استعمل القرآن لفظة المغنم فيما يفوز به الإنسان وإن لم يكن عن طريق القتال بل كان عن طريق العمل العادي الدنيويّ أو الاُخرويّ إذ يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ) ( النساء: ٩٤ ).

والمراد بالمغنائم الكثيرة هو أجر الآخرة بدليل مقابلته لعرض الحياة الدنيا فيعلم أنّ لفظ المغنم لا يختصّ بالاُمور والأشياء التي يحصل عليها الإنسان في هذه الدنيا، وفي ساحات الحروب فقط بل هي عامّة شاملة لكلّ مكسب وفائدة.

ثمّ إنّه قد وردت هذه اللفظة في الأحاديث واُريد منها مطلق الفائدة الحاصلة للمرء ففي باب « ما يقال عند إخراج الزكاة » من سنن ابن ماجة جاء عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أللّهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً »(١) .

وفي مسند أحمد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « غنيمةُ مجالس الذّكر الجنّة »(٢) .

وفي وصف شهر رمضان عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « هُو غنم للمُؤمن »(٣) .

كما جاء في دعاء مشهور: « والغنيمةُ من كُلّ برّ ».

هذا مضافا إلى أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله طلب في مكاتيبه ورسائله من جماعات مسلمة نائية عن المدينة، غير مشتركة في القتال تحت راية النبيّ، أن يدفعوا الخمس، وإليك طائفة من هذه الرسائل :

__________________

(١) سنن ابن ماجه: كتاب الزكاة الحديث ١٧٩٧.

(٢) مسند أحمد ٢: ٣٣٠ و ٣٧٤ و ٥٢٤.

(٣) مسند أحمد ٢: ١٧٧.

٥٧٦

الخمس في رسائل النبيّ وعهوده

١. لـمّا قال وفد عبد القيس لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنّا لا نصل إليك إلّا في أشهر حرم فمرنا بحمل الأمر إن عملنا به دخلنا الجنة، وندعو إليه من ورائنا » فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « آمرُكُم بأربع وأنهاكُم عن أربع، آمُرُكُم بالإيمان بالله، وهل تدرُون ما الإيمانُ: شهادةُ أن لا إله إلّا الله، وإقامُ الصّلاة، وإيتاءُ الزّكاة وتُعطُوا الخُمس من المغنم »(١) .

ومن المعلوم أنّ النبيّ لم يطلب من بني عبد القيس أن يدفعوا غنائم الحرب كيف وهم لا يستطيعون الخروج من حيّهم في غير الأشهر الحرم خوفاً من المشركين فيكون قد قصد المغنم بمعناه الحقيقيّ في لغة العرب وهو ما يفوزون به بلا مشقّة فعليهم أن يعطوا خمس ما يربحون.

٢. كتب لعمر بن حزم حين بعثه إلى اليمن :

« بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا عهد من النبيّ رسول الله لعمرُو بن حزم حين بعثهُ إلى اليمن، أمرهُ بتقوى الله في أمره كُلّّه وأن يأخُذ من المغانم خُمس الله وما كُتب على المؤمنين من الصّدقة من العقار عُشرُ ما سقى البعلُ وسقت السّماءُ »(٢) .

٣. كتب إلى شرحبيل بن كلال ونعيم بن كلال وحارث بن كلال رؤساء قبيلة ذي رعين ومعافر وهمدان: « أمّا بعدُ فقد رجع رسُولُكُم وأعطيتُم من المغانم خُمس الله »(٣) .

٤. كتب لسعد هذيم من قضاعة وإلى جذام كتاباً واحداً يعلمهم فرائض

__________________

(١) صحيح البخاريّ ٤: ٢٠٥، باب والله خلقكم وما تعملون، و ١: ١٣ و ١٩، ٣: ٥٣ وصحيح مسلم ١: ٣٥ و ٣٦ باب الأمر بالإيمان، وسنن النسائيّ ٣: ٣٣٣، ومسند أحمد ٣: ٣١٨، الأموال: ١٢ وغيرها.

(٢) فتوح البلدان ١: ٨١، وسيرة ابن هشام ٤: ٢٦٥.

(٣) تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك ١: ١٥٧.

٥٧٧

الصدقة ويأمرهم أن يدفعوا الصدقة والخمس إلى رسوليه(١) .

إنّ النبيّ حينما طلب دفع الخمس على أيدي رسوليه لم يطلب خمس غنائم الحرب التي خاضوها مع الكفّار وإنّما قصد ما استحق عليهما من الصدقة وخمس الأرباح :

٥. كتب للفجيع ومن تبعه: « من مُحمّد النبيّ للفجيع ومن تبعهُ وأسلم وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة وأطاع الله وأعطى من المغانم خُمس الله »(٢) .

٦. كتب لجنادة الأزديّ وقومه ومن تبعه: « ما أقامُوا الصّلاة وآتُوا الزّكاة وأطاعُوا الله ورسُولهُ وأعطُوا من المغانم خُمس الله »(٣) .

٧. كتب لجهينة بن زيد فيما كتب :« وتشربُوا ماءها على أن تُؤدّوا الخُمس »(٤) .

٨. كتب لملوك حمير فيما كتب: « وآتيتُمُ الزكاة من المغانم خُمس الله وسهم النبيّ وصفيّه وما كتب الله على المُؤمنين من الصّدقة »(٥) .

٩. كتب لبني ثعلبة بن عامر: « من أسلم منهُم وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة وخُمس المغنم وسهم النّبيّ والصفّى »(٦) .

١٠. كتب إلى بعض أفخاذ جهينة: « من أسلم منهُم وأعطى من الغنائم الخُمس »(٧) .

ويتبيّن ـ بجلاء ـ من هذه الرسائل أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يطلب منهم أن يدفعوا خمس غنائم الحرب التي اشتركوا فيها بل كان يطلب ما استحقّ في أموالهم من خمس وصدقة.

__________________

(١ و ٢ و ٣) طبقات ابن سعد ١: ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

(٤) الوثائق السياسيّة: ١٤٢.

(٥) فتوح البلدان ١: ٨٥، وسيرة ابن هشام ٤: ٢٥٨.

(٦) الإصابة ٢: ١٨٩، واسد الغابة ٣: ٣٤.

(٧) سنن أبي داود ٢: ٥٥ الباب (٢٠) وسنن النسائيّ ٢: ١٧٩.

٥٧٨

ثمّ إنّه كان يطلب منهم الخمس دون أن يشترط ـ في ذلك ـ خوض حرب واكتساب الغنائم.

هذا مضافاً إلى أنّ الحاكم الإسلاميّ أو نائبه هما اللذان يليان بعد الفتح قبض جميع غنائم الحرب، وتقسيمها بالنحو الذي يحب بعد أن يستخرج منها الخمس، ولا يملك أحد من الغزاة عدا سلب القتيل شيئاً ممّا سلب وإلاّ كان سارقاً مغلاًّ.

فإذا كان إعلان الحرب وإخراج خمس الغنائم على عهد النبيّ من شؤون النبيّ في هذه الاُمّة فماذا يعني طلبه الخمس من الناس وتأكيده في كتاب بعد كتاب وفي عهد بعد عهد. فيتبيّن أنّ ما كان يطلبه لم يكن مرتبطاً بغنائم الحرب.

هذا مضافا إلى أنّه لا يمكن أن يقال: إنّ المراد بالغنيمة في هذه الرسائل هو ما كان يحصل الناس عليه في الجاهليّة عن طريق النهب كيف وقد نهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن النهب والنهبة بشدّة ففي كتاب الفتن باب النهي عن النهبة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من انتهب نُهبةً فليس منّا »(١) .

وقال: « إنّ النُهبة لا تحلّ »(٢) .

وفي صحيح البخاري ومسند أحمد عن عبادة بن الصامت: بايعنا النبيّ أن لا ننتهب(٣) .

وفي سنن أبي داود باب النهي عن النهبى عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأصاب الناس حاجة شديدة وجهدوا وأصابوا غنماً فانتهبوها فإنّ قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله يمشي متّكئاً على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه ثمّ جعل يرمل اللحم بالتراب ثمّ قال: « إنّ النُهبة ليست بأحلّ من الميتة »(٤) .

وعن عبد الله بن زيد: ( نهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن النهبى والمثلة )(٥) .

__________________

(١ و ٢) سنن ابن ماجه: ١٢٩٨ ـ ١٢٩٩.

(٣) صحيح البخاريّ ٢: ٤٨ باب النهبى بغير إذن صاحبه.

(٤) سنن أبي داود ٢: ١٢.

(٥) رواه البخاريّ في الصيد راجع التاج ٤: ٣٣٤.

٥٧٩

إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في كتاب الجهاد.

وقد كانت النهيبة والنهبى عند العرب تساوق الغنيمة والمغنم ـ في مصطلح يومنا هذا ـ الذي يستعمل في أخذ مال العدو.

فإذا لم يكن النهب مسموحاً به في الدين، وإذا لم تكن الحروب التي يقوم بها أحد بغير اذن النبيّ جائزة لم تكن الغنيمة تعني دائماً ما يؤخذ في القتال بل كان معنى الغنيمة الواردة في كتب النبيّ هو ما يفوز به الناس من غير طريق القتال بل من طريق الكسب وما شابهه. ولا محيص حينئذ من أن يقال: إنّ المراد بالخمس الذي كان يطلبه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو خمس أرباح الكسب والفوائد الحاصلة للإنسان من غير طريق القتال، أو النهب الممنوع في الدين.

وعلى الجملة: إنّ الغنائم المطلوب في هذه الرسائل النبويّة اداء خمسها إمّا أن يراد ما يستولي عليه أحد من طريق النهب والإغارة، أو ما يستولي عليه من طريق محاربة بصورة الجهاد أو ما يستولي عليه من طريق الكسب والكدّ.

والأوّل ممنوع بنصّ الأحاديث السابقة فلا معنى أن يطلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله خمس النهيبة.

وفي الثاني يكون أمر الغنائم بيد النبيّ مباشرة فهو الذي يأخذ كلّ الغنائم ويضرب لكلّ من الفارس والراجل ما له من الأسهم بعد أن يستخرج الخمس بنفسه من تلك الغنائم، فلا معنى لأن يطلب النبيّ الخمس من الغزاة. فيكون الثالث هو المتعيّن.

وقد ورد فرض الخمس في غير غنائم الحرب في أحاديث منقولة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ففي سنن البيهقي عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ قال: « في الرّكاز الخُمسُ ».

قيل: وما الركاز يا رسول الله ؟

فقال: « الذهبُ والفضّةُ الذي خلقهُ الله في الأرض يوم خُلقت »(١) .

__________________

(١) سنن البيهقيّ ٤: ١٥٢ و ١٥٥.

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627