مفاهيم القرآن الجزء ٢

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 627

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 627 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 228409 / تحميل: 6446
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الثاني: إنّ الملوكية التي اتّصف بها الأنبياء، كانت معطاة من الله سبحانه، لا أنّهم اكتسبوها بالقوّة والقهر كما هو شأن ملوك الأرض.

ولو كانت الملوكية مجردةً عن ذينك الأمرين، لأدّى إلى الفساد، والتفرعن كما يشهد به التأريخ.

وأقصى ما يمكن أن يقال حول توصيف الله سبحانه لبعض الأنبياء الصالحين بالملوكيّة: أنّ التأريخ وإن كان يشهد على أنّ الملوكيّة وإن كانت مقرونة بالاستكبار والتفرعن والفساد، غير أنّه لم يكن يتبادر من تلك الكلمة ـ في عصر نزول القرآن ـ ما يتبادر في العصور المتأخّرة عن نزوله وبالأخصّ في هذه الأعصار الأخيرة.

ولأجل ذالك وصف الله سبحانه طالوت بالملوكيّة( بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) ومنّ على بني اسرائيل بأن جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكاً، قال سبحانه:( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) ( المائدة: ٢٠ ).

كما وصف آل ابراهيم بقوله:( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) ( النساء: ٥٤ ).

إلى أن عاد سبحانه ينقل عن داود بأنّه طلب من الله سبحانه أن يهب له ملكاً، قال تعالى:( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ) ( ص: ٣٥ ).

إنّ الملكيّة بكلّ أنواعها، مرفوضة في نظر الإسلام وخاصّة الوراثيّة منها، لما في ذلك من الفساد وضياع الحق والعدل كما أثبتته التجارب التأريخيّة في حياة البشريّة.

يقول المؤرّخ المعروف ابن خلدون في مقدّمته في الفصل الحادي والعشرين تحت عنوان ( فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه ) :

( إذا استقر الملك في نصاب معيّن ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدولة وانفردوا به، ودفعوا سائر القبيل عنه، وتداوله بنوهم واحداً بعد واحد، بحسب الترشيح، فربّما حدث التغلّب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم، وسببه في الأكثر ولاية صبيّ

٦١

صغير، أو مضعف من أهل المنبت يترشّح للولاية بعهد أبيه، أو بترشيح ذويه وخوله، ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك، فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله، ويورّي بحفظ أمره عليه حتّى يؤنس منه الاستبداد ويجعل ذلك ذريعةً للملك، فيحجب الصبيّ عن الناس، ويعوده اليها ترف أحواله، ويسيمه في مراعيها متى أمكنه، وينسيه النظر في الاُمور السلطانيّة حتّى يستبدّ عليه، وهو بما عوّده يعتقد أنّ حظّ السلطان من الملك، إنّما هو الجلوس على السرير، وإعطاء الصّفقة، وخطاب التهويل، والقعود مع النساء خلف الحجاب، وأنّ الحلّ والربط والأمر والنهي ومباشرة الأحوال الملوكيّة، وتفقُّدها من النظر في الجيش والمال والثغور، إنّما هو للوزير، ويسلّم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرئاسة والاستبداد، ويتحوّل الملك إليه ويؤثر به عشيرته وأبناءه من بعده كما وقع لبعض البلاد.

وقد يتفطّن ذلك المحجور المغلّب لشأنه، فيحاول على الخروج من ربقة الحجر والاستبداد، ويرجع الملك إلى نصابه، ويضرب على أيدي المتغلّبين عليه، إمّا بقتل أو برفع عن الرتبة فقط، إلّا أنّ ذلك في النادر وإنّما يحدث لأبناء الملوك ذلك، لأنّهم ينشأون منغمسين في نعيمه وقد نسوا عهد الرجولة )(١) .

وصفوة القول، أنّ النظام الملكيّ المطلق منه والدستوري والوراثيّ، أمر ملازم للاستعلاء والطغيان.

* * *

٢. الحكومة الأشرافيّة

إنّ المقصود من هذا النوع، هو أن يتسلّم فريق من أعيان المجتمع ووجوهه زمام الحكم والسلطة بحجّة تفوّقهم الروحيّ والفكريّ أو النسبيّ على الآخرين، وهذا هو ما يصطلح عليه الآن بالحكومة ( الارستقراطيّة ) أو حكومة طبقة ( الأعيان ).

ولا يخفى، أنّ مجرّد التفوّق الروحيّ أو الفكريّ أو النسبيّ ما لم يقترن بسائر

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون: ١٨٥ ـ ١٨٦.

٦٢

الصلاحيّات والمؤهلات، لا يمكن أن يكون مسوّغاً للقيادة والحاكميّة، ولأجل ذلك لا تكون الأشرافية بهذا المعنى ملاكاً لها.

أضف إلى ذلك، أنّه ربّما تتصدّر شرذمة من الطغاة الحريصين على الحكم والسلطة مسند الحاكميّة بادعاء تفوّقهم الروحيّ أو الفكريّ أو النّسبيّ على الآخرين من دون أن يكون فيهم شيء من ذلك.

* * *

٣. حكومة الأغنياء (١)

وهي تتحقّق باستيلاء جماعة من ذوي الثراء الكبير على زمام الحكم لثرائهم، وهذا النمط هو ما يسمّى بحكومة الخاصّة أيضاً.

ويبرّر هذا الفريق حقّهم في الأخذ بزمام الحكم دون غيرهم، بقدرتهم الاقتصادية وتفوّقهم الإداريّ.

ولكن هذا النوع وما تقدمه من الحكومات، لا يلتقي ولا ينسجم مع النظام الإسلاميّ مالم يرتضيه الشعب، ولم يكن موافقاً للاسس والضوابط الإسلاميّة في مجال الحكم والحاكم، لأنّ هذه الحكومات تؤول ـ لا محالة ـ إلى الديكتاتورية والاستغلال، وإن كانت تغطّي نفسها ـ أحياناً ـ برداء الديمقراطيّة، وتدّعي خدمة الشعوب.

٤. النمطُ الديمقراطيّ

ويعني هذا النوع من الحكومة: « حكومة الشعب على الشعب »، وهو في ظاهره يختلف عن الأنواع السابقة بأنّه يستند إلى إرادة الشعب، ورأيه، ويتحقّق بأن يكون الحاكم أو الرئيس منتخباً من جانبهم، أو يكون موضع قبولهم على الأقلّ.

وهذا النمط، وهو الذي تدّعيه أكثر الحكومات الحاضرة وخاصّةً في الغرب بل ،

__________________

(١) وتسمّى حكومة الاستئثار.

٦٣

ويتبجّح به العالم الغربيّ ويفتخر به ويدّعي أنه السبيل الوحيد لضمان الحريات التي يتطلبها الإنسان، طيلة حياته، ويشتريها بأغلى ثمن ولكنّه ادعاء خال عن الحقيقة، مجرد عن الواقع.

فإنّ الديمقراطيّة الدارجة في الغرب ديمقراطيّة ظاهريّة، وحريّة صوريّة غير حقيقّية، فالناخبون هناك ينتخبون نوّابهم وحكاّمهم مجبورين ومضطّرين في الواقع وإن كانوا مختارين في الظاهر.

فهم ينتخبون تحت تأثير الوسائل الإعلاميّة الفعّالة، والمؤثرات الخفيّة والجليّة التي تدفع بالناخب الغربيّ إلى أن ينتخب ـ بصورة لا إرادية ـ ما تروّج له أجهزة الإعلام، أو تسوّله دعايات اصحاب الشركات والمعامل الكبرى، أو تدعو له الراقصات والمغنّيات والمغنون.

إنّ المرء يتصوّر ـ في بادئ الأمر ـ، أنّ الغرب يمارس ديمقراطيّةً حقيقيّةً، غير أنّ من يطالع الأوضاع وخلفياتها الخفيّة، يرى صورةً عن الديمقراطيّة لا روح فيها، وشكلاً من حرية الانتخاب لا واقع لها، فالإنسان في تلك الديار مسيّر بفعل العوامل الدعائية التي تملكها شرذمة من أصحاب الثروة والنفوذ والمصالح، فالإنسان الغربي يمارس ديمقراطيّةً كاذبةً، لأنّه لا يختار إلّا ـ تحت التأثير الإعلاميّ ـ من تريده تلك الشرذمة من أصحاب المصالح والنفوذ لا ما يريده هو في قرارة وجدانه، أو يحكم به عقله، وتقتضيه مصالحه.

وهل يستطيع أحد أن ينكر تأثير الأجهزة الإعلاميّة والدعائية في بذر فكرة خاصّة وإلقائها في أذهان الناس، وتوجيههم الوجهة التي تريد، ودفعهم إلى اختيار من تشاء ؟.

أم هل يمكن إنكار الدور المؤثر لوسائل الطّرب، وللفنّ، والحفلات الغنائيّة والموسيقيّة ؟ فكيف لا يؤثر في الأذهان، جعل صورة المرشّح للرئاسة أو للنيابة على صدور الفتيات الشبه عاريات والراقصات أمام الجماهير، أو ترديد اسم المرشّح في أناشيد

٦٤

المطربين والمطربات وفي أغاني المغنّين والمغنّيات ؟.

أم هل يمكن أن ينسى تأثير الوعود البرّاقة الكاذبة، أو شراء الأصوات بالأموال الطائلة أو التحالفات العشائريّة، وغير ذلك من الوسائل المتّبعة في الغرب وفي النظم الديمقراطية السائدة في عالمنا الحاضر ؟.

وليس من شكّ في أنّ انتخاب الإنسان المسيّر في اختياره، المدفوع تلقائياً إلى انتخاب مرشّح شرذمة معينة، لا قيمة له في ميزان العدل والحق، ولا يمكن أن يسمى انتخاباً حرّاً واختياراً صحيحاً، ولا يكون مثل هذا في الغرب إلّا لأنّهم لا يشترطون في الانتخاب شرطاً من الاُمور المعنويّة عدا كونه منتخباً لأكثريّة الشعب فحسب. ولكن الإسلام يشترط في الناخب والمنتخب شروطاً كثيرةً عدا كونه مقبولاً للشعب ومرضيّاً عندهم، ولا يأذن لأحد أن يتجاوز هذه الشروط أو يتغافلها، بلغ الأمر ما بلغ.

إنّ النمط الديمقراطيّ للحكم ـ على ما يراه الغرب ومن تبعهم في الشرق ـ لا يهتمُّ إلّا بكثرة الأصوات والتفوق في عدد الآراء لا غير.!!

يكتب ( فرانك كنت ) الكاتب السياسيّ في هذا الصدد قائلاً: ( انّ مسألة « ضرورة تحصيل أغلبيّة الأصوات » موضوع مهم جداً، وفي سبيل تحصيلها لا يمكن أن يسمح أبداً بأن تتدخّل فيها مواضيع تافهة مثل قضية الأخلاق، ومراعاة الحقّ، والباطل ).

ويكتب هذا الكاتب نفسه أيضاً: ( إنّ أهمّ نقد وجّهه النائب « آشورست » إلى أحد زملائه الذي كان يخوض حملةً انتخابيةً في انتخابات ( ١٩٢٠ م ) هو: أنّك لاتريد أن تتحايل على الناس، يعني أنّك لا تريد في سبيل الوصول إلى المركز النيابيّ أن تسحق وجدانك، إنّك يجب أن تتعلّم بأنّ على الرجل السياسيّ ـ في بعض الموارد ـ أن يتجاهل ضميره، ويتناسى وجدانه )(١) .

__________________

(١) اقتبس من مقال لجون اف كندي الرئيس الأسبق للولايات المتّحدة.

٦٥

ثمّ إنّ هذا النوع من نظام الحكم وإن لم يكن من مصاديق الاستعلاء المذموم في القرآن الكريم، غير أنّ مجرد كونه شعبياً لا يكفي في شرعيّته وصحته، بل لابدّ أن يكون ناشئاً من حاكميّة الله سبحانه، إمّا بالنصّ، أو موضع تأييده برعاية الضوابط والسنن التي نصّ عليها في الشريعة الإسلاميّة في مجال الحكم والحاكم. وبذلك تختلف صيغة الحكومة الإسلاميّة ـ التي سيأتي ذكرها ـ عن سائر الصيغ والأنماط الرائجة لنظام الحكم، وإن كانت بعض هذه الصيغ موضع قبول الشعوب ورضاها.

إنّ الحاكميّة ـ حسب منطق العقل والدين ـ مخصوصة بالله سبحانه ومحض حقّ له دون سواه، ولذلك، لابدّ أن تكون حاكميّة غيره ناشئةً منه، أو موضع تأييده سبحانه.

وبعد استجلاء هذه الحقيقة، ينطرح هذا السؤال: ما هي إذن صيغة الحكومة الإسلاميّة ؟.

٦٦

الفصل الثاني

١

صيغة الحكومة الإسلاميّة

كيف ؟

تلخيصٌ لما سبق :

لقد أثبتت الأبحاث السابقة اُموراً، هي :

١. أنّ العقل ـ فضلاً عن الآيات القرآنيّة، والأحاديث الشريفة ـ يقضي بلزوم وجود( دولة ) تدير دفّة البلاد، وتتولّى ادارة شؤون المجتمع، إذ بدون الدولة لن يكون أمر الاُمّة إلّا فوضى واختلاف.

٢. أنّ طبيعة القوانين الإسلاميّة في مختلف المجالات المدنية والاقتصاديّة والدفاعيّة تقتضي وجود مثل هذه الدولة، وإلاّ كان تشريعها لغواً وعبثاً.

٣. أنّ على المسلمين إذن، أن يقوموا بتشكيل مثل هذه الدولة لتطبيق الإسلام في جميع الأصعدة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.

٦٧

٤. أنّ الحكومة الإسلاميّة ليست على نمط النظام الملكيّ، أو حكومة الأشراف أو حكومة الخاصّة، أو النظام الديمقراطي الرائج في الغرب، أو المتّبع في بلدان العالم الثالث.

بعد أن ثبت كلّ ذلك في الأبحاث السابقة ينطرح السؤال التالي :

ما هي صيغة الحكومة الإسلاميّة إِذنْ ؟

إنّ البحث عن شكل وصيغة « الحكومة الإسلاميّة » رغم أنّه من أهمّ المباحث في هذا المجال، لكننا لا نجد دراسةً وافيةً شاملةً عنها.

إنّ علماء الشيعة لـمّا كانوا يمثّلون ـ طوال العصور ـ، جبهة الرّفض والمعارضة للحكومات الجائرة، فإنّهم كانوا بسبب ذلك يعانون من أشدّ أنواع الملاحقة والمضايقة، فلم تسمح لهم تلك الظروف العصيبة أن يتحدثوا عن صيغة الحكومة الإسلاميّة، أو يتفرّغوا للكتابة عنها، وتوضيح ملامحها، ورسم خطوطها، ويؤلّفوا فيها كما ألّفوا عن بقيّة المجالات الإسلاميّة.

نعم، لقد قام بعض علماء السّنّة بتأليف بعض الكتب في هذا المجال، ولكن هذه الكتب لم تشرح إلّا الوضع الذي كانت عليه الحكومات السائدة حينذاك في المجتمعات الإسلاميّة، من دون أن ترفع النّقاب عن وجه الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة كما تحدّث عنها القرآن الكريم والسّنّة المطهّرة ودلّ عنها العقل السليم.

ولأجل ذلك، لا يرى القارئ في ( الأحكام السلطانيّة ) للماورديّ وما يماثله من الكتب والمصنّفات إلّا هذا الأمر وأما تصوير الحكومة الإسلاميّة كما ينبغي أن تكون فلا يكاد أن يجده كما ستعرف.

ويمكن أن نعزي غياب الصورة الحقيقيّة للحكومة الإسلاميّة إلى عدّة اُمور أخرى :

١. توالي الحكومات المنحرفة على دفّة الحكم في الاُمّة الإسلاميّة، الأمر الذي حال

٦٨

دون قيام الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة، وكان ذلك من أسباب غياب النمط الواقعيّ لنظام الحكم الإسلاميّ، وعدم معرفتنا به.

أضف إلى ذلك، أنّ تأريخ المسلمين في العصور الماضية كان له صبغة الإسلام وصبغة القيادة الإسلاميّة، لا أنّه كانت تتوفّر فيه جميع عناصر الدولة الإسلاميّة وشرائط المجتمع الإسلاميّ ومواصفاته، ولأجل ذلك لم تكن تلك الحكومات المنصبغة بصبغة الإسلام ممثّلةً لواقع القيادة الإسلاميّة.

٢. بعدنا الزمني عن العهد النبويّ وتطوّر اللغة، ممّا جعلنا لا نفهم الكثير من مقاصد المصطلحات القرآنيّة التي تدلّ على ملامح الحكومة الإسلاميّة كما كان يفهم العربي المعاصر لذلك العهد.

وتتعيّن على الكتّاب المعاصرين، لاستجلاء الملامح الغائبة للحكومة الإسلاميّة، اُمور :

أوّلاً: العودة إلى المصادر الأساسيّة للإسلام، ونعني بها الكتاب والسّنّة المطهّرة والسيرة الشريفة التي سار عليها الأئمّة الواقعيّون.

ثانياً: أن لا يخلطوا بين ما وقع وجرى على الساحة الإسلاميّة في مجال الحكم، وبين ما هو مرسوم لنظام الحكم في أصل الشريعة المقدّسة.

ثالثاً: أن لا يخلطوا بين تأريخ المسلمين ونظام الدين، لأنّ ذلك التأريخ لا يكون ممثلاً واقعيّاً لكلّ تعاليم الدين، ولا مبرزاً لجميع حقائقه.

فإذا تجاوزنا جميع هذه الحواجز المانعة عن رؤية الحقيقة، استطعنا أن نقف على الصورة الحقيقيّة لنظام الحكم الإسلاميّ وأبعاده، وجميع خصوصياته وامتيازاته.

إنّا مع تقديرنا لكلّ ما قام به علماؤنا الأقدمون من خدمات عظيمة في تدوين الفكر الإسلاميّ وحمايته وصيانته وتعميقه وتوضيحه، نعذرهم في عدم توضيحهم لصورة الحكومة الإسلاميّة، نظراً للظروف الصعبة وغير العاديّة التي عاشوها وقاسوا منها الأمرّين كما ستعرف، ولكنّنا نعتبر القيام بهذا الأمر واجباً حتميّاً بالنسبة إلى كتّابنا

٦٩

ومفكّرينا المعاصرين، وخاصّةً أنّ الحاجة إلى ذلك ـ بعد قيام أوّل حكومة إسلاميّة من نوعها في بلد إسلاميّ هو إيران ـ قد أصبحت شديدةً وماسةً في الوقت الذي يتطلّع فيه الكثير من المسلمين إلى إقامة الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة في بلادهم أيضاً.

إنّ غموض موضوع ( الحكومة الإسلاميّة ) جعل أكثر المسلمين في هذا العصر لا يعرفون عنها سوى، أنّها كبقية الحكومات القائمة في بعض البلاد الإسلاميّة التي تنتحل لنفسها صفة الإسلام واسمه، وهي أبعد ما تكون عن الإسلام جوهراً وشكلاً، أسلوباً وسياسة.

إنّ الحكومة الإسلاميّة تمتاز بخصوصيّات وخصائص عديدة تميّزها عن جميع الحكومات الحاضرة ـ والغابرة ـ التي تتقمّص رداء الإسلام كذباً وزوراً.

إنّ التتبّع في الكتاب والسّنّة يقضي، بأنّ الحكومة في الإسلام تقوم بأحد أمرين، لكلّ واحد ظرفه الخاصّ :

١. التنصيص الإلهيّ على الحاكم الأعلى باسمه وشخصه. وهذا فيما لو كان هناك نصّ أو نصوص على حاكميّة شخص معيّن على الاُمّة كما في النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله باتّفاق المسلمين، أو الأئمة المعصومين حسب ما يذهب إليه الشيعة.

ومن المعلوم، أنّه لو كان هناك نصّ لما جاز العدول عنه إلى الطريق الآخر الذي سنشير إليه.

٢. التنصيص الإلهيّ على صفات الحاكم الأعلى، وشروطه، ومواصفاته الكليّة فيما إذا لم يكن هناك تنصيص على الشخص، أو كان ولكن الظروف تحول دون الوصول إليه، والانتفاع بقيادته.

ومن المعلوم، أنّ الطريق الثاني يؤخذ به في ظرف عدم الطريق الأوّل.

وعلى كلّ تقدير، فالحاكميّة تنصيصيّة منه سبحانه مطلقاً، فهي إمّا بالتنصيص على الشخص المعيّن، أو التنصيص على المواصفات الكليّة، وإلى هذا القسم الثاني يرجع انتخاب الاُمّة حسب الشرائط والضوابط.

٧٠

التنصيص الإلهيّ على الحاكم الأعلى

باسمه وشخصه

إن الحاكميّة كما أسلفنا(١) ، حقّ مختصّ بالله سبحانه، ولا حاكمية لسواه إلّا بإذنه، وله الحقّ وحده في تعيين من يقود البشرية، ويسوس اُمورهم ويحكمهم

وهذا هو ما يؤكّده القرآن الكريم في كثير من آياته صراحة وتلويحاً، إذ يقول :

( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام: ٥٧ ).

( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الانعام ٦٢ ).

( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ) ( يوسف: ٤٠ ).

يقول العلاّمة الطباطبائيّ: ( إنّ نظرية التوحيد التي يبني عليها القرآن الشريف بنيان معارفه، لـمّا كانت تثبت حقيقة ( التأثير في الوجود ) لله سبحانه وحده لا شريك له، وإن كان الإنتساب مختلفاً باختلاف الأشياء، غير جار على وتيرة واحدة، كما ترى أنّه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه، ثمّ ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة بنسب مختلفة، وكذلك العلم والقدرة والحياة والمشيئة والرزق والحسن، إلى غير ذلك. وبالجملة، لـمّا كان التأثير له تعالى، كان(٢) الحكم الذي هو نوع من التأثير والجعل له تعالى، سواءً في

__________________

(١) راجع الجزء الأول من كتابنا: ٥٧٨.

(٢) جواب لـمّا الشرطيّة.

٧١

ذلك الحكم في الحقائق التكوينيّة أو في الشرائع الوضعيّة(١) الاعتباريّة، وقد أيّد كلامه تعالى هذا المعنى، كقوله:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( الأنعام: ٥٧ يوسف: ٦٧ ) وقوله تعالى:( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) ( الأنعام: ٦٢ ) وقوله تعالى:( لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَىٰ وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ ) ( القصص: ٧٠ ) وقوله تعالى:( وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) ( الرعد: ٤١ ) ولو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقّب حكمه ويعارض مشيئته، وقوله تعالى:( فَالْحُكْمُ للهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) ( غافر: ١٢ ) إلى غير ذلك.

ويدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى، قوله:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ أَمَرَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) ( يوسف: ٤٠ ) فالحكم لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره، على ظاهر ما يدلّ عليه ما مرّ من الآيات، غير أنّه تعالى ربّما ينسب الحكم مطلقاً وخاصةً التشريعيّة منه إلى غيره، كقوله تعالى:( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ) ( المائدة: ٩٥ ) وقوله لداوودعليه‌السلام :( إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ ) ( ص: ٢٦ ) وقوله للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ ) ( المائدة: ٤٩ ) وقوله( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) ( المائدة: ٤٤ ) إلى غير ذلك من الآيات وضمّها إلى القبيل الأوّل يفيد، أنّ الحكم الحقّ لله سبحانه ب‍ ( الأصالة ) وأوّلاً، لا يستقلّ به أحد غيره، ويوجد لغيره بإذنه وثانياً. ولذلك عدّ تعالى نفسه أحكم الحاكمين وخيرهم، لما أنّه لازم الأصالة والاستقلال والأوّليّة، فقال:( أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ ) ( التين: ٨ ) وقال:( وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( الأعراف: ٨٧ )(٢) ».

وكتب حول قوله تعالى:( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) ( الأنعام: ٦٢ ) أيضاً يقول: ( قوله

__________________

(١) المصطلح لدى الاُصولييّن في الوضعيّة هو الأحكام والقوانين المجعولة كالسببيّة والشرطيّة والرئيسيّة والمرؤوسيّة والحاكميّة والمحكوميّة ويقابله الأحكام التكليفيّة الخمسة المعروفة كالوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة.

غير أنّ الأستاذ قدس‌سره أراد منها هنا مطلق الأحكام التشريعيّة سواء أكانت بلسان الوجوب والحرمة، أم غيرها، ممّا تسمّى ـ اصطلاحاً بالأحكام الوضعيّة.

(٢) تفسير الميزان ٧: ١١٧ ـ ١١٨.

٧٢

تعالى:( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) إلخ لـمّا بيّن تعالى اختصاصه بمفتاح الغيب وعلمه بالكتاب المبين الذي فيه كل شيء، وتدبيره لأمر خلقه من لدن وجدوا، إلى أن يرجعوا إليه، تبيّن أنّ الحكم إليه لا إلى غيره، وهو الذي ذكره فيما مرّ من قوله:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) أعلن نتيجة بيانه فقال:( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) ليكون منبّهاً لهم ممّا غفلوا عنه )(١) . فإذا لم تكن الحاكميّة إلّا لله تعالى، كان إليه وحده أمر التنصيص والتعيين للحاكم الأعلى، أمّا على الاسم والشخص، كما إذا اقتضت المصالح أن يكون لون الحكومة على هذا النمط، أو على الصفات والشروط اللازمة فيه، كما إذا اقتضت المصلحة أن يكون لون الحكومة على هذا الطراز.

بيد انّ المسلمين قد اتفقوا على أنّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان حاكماً منصوباً من جانبه سبحانه على الاُمّة.

ومن المعلوم، أنّه لو كان هناك تنصيب للشخص لما كان للاُمّة رفض النصّ والتعيين والركون إلى الطريق الآخر يقول سبحانه:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا ) ( الأحزاب: ٣٦ ).

وقد نصّ الله تعالى على حاكمية النبيّ، وحاكميّة ولاة الأمر من بعده إذ قال في كتابه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ( النساء: ٥٩ ).

ومن الواضح أنّ وجوب إطاعة النبيّ واولي الأمر(٢) في كلّ ما يأمر وينهى دليل

__________________

(١) تفسير الميزان ٧: ١٣٦.

(٢) المشهور بين الإماميّة تبعاً للأخبار أنّ المراد من اولي الأمر، أشخاص معيّنون بأسمائهم وشخصيّاتهم، وقد نصّ النبيّ عليهم في متواتر الأحاديث والروايات، التي رواها أعلام الحديث من الفريقين، فهي قضيّة خارجيّة ـ حسب المصطلح المنطقيّ ـ مقصورة على أولئك الأشخاص، وليست قضيّةً كليّةً قانونيّةً مضروبةً على إطاعة كلّ من ولي الأمر من المؤمنين، حتّى تصير قضيّةً حقيقيّةً حسب اصطلاح المنطق. وإن كان ـ ربّما ـ يجب إطاعة ولي الأمر من المؤمنين، لكنّه بسبب دليل آخر لا لأجل هذه الآية، وهناك وجه آخر في مفاد الآية قرّر في محلّه.

٧٣

على حاكميّته وولايته المفوّضة إليه من جانب الله بتنصيصه سبحانه على ذلك.

كيف لا وقد صرح القرآن بولاية النبيّ، وحكومته على الأنفس فضلاً عن الأموال بقوله سبحانه:( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب: ٦ ).

فهذه الآية، تدلّ ـ بوضوح ـ على أنّه تعالى نصب النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله حاكماً، وأولاه سلطةً على نفوس المؤمنين وأموالهم، سلطةً شرعيةً في إطار الحقّ والعدل والصلاح.

خاصّةً أنّه ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: « إنّها نزلت في الإمرة يعني الإمارة »(١) .

هذا والأدلة على أنّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان حاكماً منصوباً من جانبه سبحانه، أكثر ممّا ذكرناه من الآيات، وبما أنّه لم يختلف فيه أحد من المسلمين نكتفي بما أوردناه.

إنّما البحث في صيغة الحكومة بعد النبيّ الأكرم، فهل هي كانت على غرار حكومة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ الله سبحانه نصب أشخاصاً معيّنين للحكومة بلسان نبيّه، أو أنّ الحكومة بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله على غرار الطريق الثاني، أعني التنصيص على الصفات والشروط الكلية اللازمة للحاكم، وحثّ الاُمّة على تعيين الحاكم من عند أنفسهم حسب تلك الصفات والشروط وعلى ضوء تلكم المواصفات.

فهناك قولان، ذهبت إلى كلّ واحد طائفة من المسلمين.

ما هي صيغة الحكومة بعد النبيّ ؟

إنّ تحليل صيغة الحكومة بعد النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من المسائل الهامّة التي فرقت المسلمين إلى طائفتين كبيرتين، تمثّل كلّ واحدة منهما شطراً كبيراً من الاُمّة الإسلاميّة.

ورفع النقاب عن وجه الحقيقة في هذا المجال، يحتاج إلى تجرد عن الأهواء والميول

__________________

(١) مجمع البحرين: ٤٥٧، الطبعة الجديدة.

٧٤

الطائفية، ولأجل ذلك نسأل الله سبحانه أن يوفّقنا لإراءة ما نلمسه بالدليل فنقول :

إنّ طائفةً كبيرةً من المسلمين ذهبت إلى أنّ صيغة الحكومة بعد الرسول، وإلى مدّة خاصّة من الزمن، كانت حكومةً تنصيصيةً إلهيّةً على غرار حكومة النبيّ الأكرم نفسه، فالله تعالى نصّ على أسماء من يجب أن يخلفوا النبيّ، على لسانه، وأوجب طاعتهم وحرّم مخالفتهم.

ويمكن استجلاء الحقيقة، وصدق هذا المدّعى، بالطرق الثلاث التالية :

١. محاسبة المصالح العامّة، وما كانت تقتضيه في تلك الفترة، فنرى، ماذا كانت تقتضي مصالح الاُمّة الإسلاميّة آنذاك، وأيّ لون من ألوان الحكومة كانت تتطلّب، هل كانت تقتضي الحكومة التنصيصيّة على الاسم والشخص ؟ أو التنصيص على الصفات والشروط ؟

وبتعبير آخر: هل كانت المصالح في تلك الفترة تقتضي التنصيص على أشخاص معيّنين ؟ أو ترك الأمر إلى انتخاب الاُمّة حسب الضوابط المقرّرة شرعاً ؟.

٢. لا شك أنّ وفاة الرسول الأكرم وغيابه عن الساحة كان من شأنه أن يحدث فراغاً بعده، فكان لابد من سد هذا الفراغ بمن يكون كالنبيّ علماً وسياسةً وخلقاً وقيادةً، فهل كان يمكن سدّ هذا الفراغ بانتخاب الاُمّة، أو لا يمكن إلّا بالتنصيص على فرد معيّن ؟.

٣. لـمّا كانت مسألة القيادة موضع اهتمام المسلمين في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده، فحينئذ لا بدّ أن يكون للنبيّ وأصحابه في ذلك المجال رأي ونظر، فماذا يستفاد من النصوص الواردة حول هذه المسألة ؟.

ولنبدأ بعون الله بذكر هذه الطرق على وجه التفصيل :

٧٥

الطريق الأوّل

المصالح العامّة في الصدر الأوّل

وشكل الحكومة

١. عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة.

٢. الاُمّة الإسلاميّة وآلخطر الثلاثيّ.

٣. العشائريات تمنع من الاتفاق على قائد.

ماذا كانت تقتضيه المصالح ؟

ماذا كانت تقتضي مصالح الاُمّة الإسلاميّة آنذاك ؟ هل كانت تقتضي أن يترك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمّته لتختار هي من تريد لقيادتها ؟ وهل كانت الظروف آنذاك تساعد على مثل هذا الأمر ؟ أو كان يجب النص على أشخاص معيّنين لذلك المقام الخطير ؟ وبعبارة واضحة: هل كانت المصلحة تقتضي تنصيب الإمام من جانب الله سبحانه بلسان نبيّه ؟ أو كانت المصلحة تقتضي أن يترك مسألة الخلافة بعده إلى رأي الاُمّة ؟

إنّ اُموراً كثيرةً تدلّ على أنّ مصالح الاُمّة كانت آنذاك تتطلّب تنصيب الإمام والقائد الذي يخلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وتعيينه بلسانه في حياته، بل كان في عدم التعيين والتنصيب، وترك الأمر إلى اختيار الاُمّة وانتخابها، من الاختلاف والتفرّق وعدم الاتّفاق

٧٦

ما يشكل أكبر الخطر على تلك الجماعة ويعرّضها للتقهقر.

وإليك بيان هذه الاُمور :

أ ـ عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة

إنّ الاُمّة الإسلاميّة ـ كما يدلّنا عليه التأريخ ـ لم تبلغ في القدرة على تدبير اُمورها، وإدارة شؤونها، وقيادة سفينتها حدّ الاكتفاء الذاتيّ، الذي لا يحتاج معه إلى نصب قائد لها من جانب الله تعالى.

وقد كان عدم بلوغ الاُمّة هذا طبيعياً، لأنّه من غير الممكن إعداد أمّة كاملة الصفات، قادرة على إدارة نفسها، وبالغة في الرّشد القياديّ والإداريّ حدّاً يجعلها مستغنيةً عن نصب قائد محنّك رشيد لها.

إنّه من غير الممكن إعداد مثل هذه الاُمّة وتربيتها في فترة ثلاث وعشرين سنة مليئة بالأحداث والوقائع الجسيمة، ومشحونة بالحروب الطاحنة والهزات العنيفة.

وليس هذا مختصاً بالاُمّة الإسلاميّة، بل التجارب تدلّ على أنّه من غير الممكن تربية أمّة كانت متوغّلةً في العادات الوحشيّة والعلاقات الجاهليّة، والنهوض بها إلى حدّ تصير أمّة كاملةً تدفع عن نفسها تلك الرواسب والعادات والخصائص الجاهليّة المتخلّفة، وتتقدّم بنفسها إلى ذرى الكمال، بحيث تستغني عن نصب قائد محنّك ورئيس مدبر، بل هي تقدر على تشخيص مصالحها في تعيين القائد.

إنّ إعداد مثل هذه الجماعة ومثل هذه الاُمّة لا يمكن ـ في العادة ـ إلّا بعد انقضاء جيل أو جيلين، وبعد مرور زمن طويل يكفي لتغلغل التربية الإسلاميّة إلى أعماق تلك الاُمّة، بحيث تخلط مفاهيم الدين بدمها وعروقها، وتتمكّن منها العقيدة درجةً يحفظها من التذبذب، والتشرذم والتراجع إلى الوراء.

وهذا ممّا لم يتيسّر للمسلمين الذين تولّى النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله تربيتهم وصياغتهم، فإنّ الأحداث التي وقعت، أثبتت، أنّ الإسلام لم يتعمّق في نفوس أكثرية المسلمين

٧٧

وعقولهم، ولم تجتثّ الرواسب الجاهلية المتأصّلة فيهم، فقد كانت هذه الرواسب تلوح منهم بين حين وآخر، وتظهر مظاهر التذبذب والتردّد، كلمّا أحكمت الصعوبات والمحن بقبضتها عليهم !!!

ففي معركة ( احد ) مثلاً عندما ترك بعض الرماة مواقعهم على الجبل ( خلافاً لأمر الرسول الأكرم وتأكيداته على البقاء ) وبوغت المسلمون بهجوم الكفار عليهم وهم يجمعون الغنائم، واصيبوا بنكسة كبرى وروّج الأعداء المشركون شائعات عن مقتل النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هرب بعض المسلمين من ساحة المعركة، ولاذ بعضهم بالجبل، بل فكّر بعضهم بالتفاوض مع المشركين حتّى أتاهم أحد المقاتلين ووبّخهم على فرارهم وتخاذلهم وتردّدهم قائلاً: « إن كان محمّد قد مات فربّ محمّد حيّ، قوموا ودافعوا عن دينه »(١) .

ولم تكن هذه الواقعة وحيدة من نوعها، فقد ظهرت بادرة الارتداد من بعضهم في ( هوازن ) ما لا يقلّ عمّا ظهر في أحد.

فقد روى ابن هشام عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، قال: لـمّا استقبلنا وادي حنين، انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف( أي متّسع ) حطوط( أي منحدر ) انّما ننحدر فيه انحداراً، وقال: وفي عماية الصبح، وكان القوم ( العدو ) قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه وقد أجمعوا وتهيّأوا وأعدّوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلّا الكتائب قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد وانشمر ( أي انهزم ) الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد وانحاز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات اليمين، ثمّ قال: « أين أيّها الناس هلمّوا إلّي، أنا رسول الله ».

فانطلق الناس ( أي هربوا ) إلّا أنّه قد بقي مع رسول الله نفر من المهاجرين والأنصار.

فلمّا انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من جفاة أهل مكّة الهزيمة ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٨٣.

٧٨

تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضّغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإنّ الأزلام لمعه في كنانته، وصرخ جبلة بن الحنبل: ( الا بطل السحر اليوم )(١) .

إلى غير ذلك من الأحداث والوقائع، التي كشفت عن تأصّل الرواسب الجاهليّة في نفوسهم، وعدم تغلغل الإيمان والعقيدة في قلوبهم. حتّى أنّنا نجد القرآن يشير إلى ذلك تعليقاً على ما حدث ووقع منهم في معركة ( أحد ) إذ يقول سبحانه:( وَمَا مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) ( آل عمران: ١٤٤ ).

ويقول في شأن من راح يبحث عن ملجأ له فراراً من الموت:( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ ) ( العمران: ١٥٤ ).

وصفوة القول، أنّنا لا ننكر ـ في الوقت نفسه ـ وجود من بلغت عقيدته واستقامته حداً استوجب أن يتحدث الله عنه في كتابه بقوله:( إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة: ١١١ ).

بيد أنّ الأكثرية منهم لم تكن قد بلغت ذلك المبلغ من رسوخ الإيمان وعمق العقيدة، ولم يكونوا قد تخلّصوا تماماً من رواسب الجاهلية.

ويدلّ على ما ذكر من عدم تغلغل الإيمان في نفوس أكثرية الصحابة والمعاصرين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالإضافة إلى ما ورد من آيات، ما أخرجه أصحاب الصحاح والسنن، والمسانيد في هذا المجال من أخبار وأحاديث صحيحة.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢: ٤٤٢ ـ ٤٤٤.

٧٩

فقد روى البخاري عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: « ما بعث الله من نبيّ ولا استخلف من خليفة إلّا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشّرّ وتحضّه عليه، فالمعصوم من عصمه الله »(١) .

وروى البخاري أيضاً في صحيحه(٢) في باب ( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ) من كتب التفاسير بسنده عن ابن عباس، قال :

خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: « ألا وإنّه يجاء برجال من امتي فيؤخذ بهم ذات الشّمال فأقول يا ربّ: أصحابي فيقول: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصّالح( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فيقال: إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم ما فارقتهم »(٣) .

فهل كان يجوز لصاحب الدعوة ـ والحال هذه ـ أنّ يتجاهل أمر القيادة من بعده، ولا ينصب أحداً باسمه وشخصه، ويدع تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام، الناشئة في الدين، التي لم تترسّخ العقيدة الإسلاميّة في مشاعر الأكثريّة من أبنائها وأفرادها، ولم تكتسب من التربية الفكريّة، والإداريّة ما يجعلها قادرةً على إدارة نفسها بنفسها بحزم، ومتمكّنةً من تدبير شؤونها بدراية وحنكة ؟!

أم لابدّ من تعيين قائد ونصب زعيم مدير لها بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يكون له من المؤهلات

__________________

(١) صحيح البخاري ٤: باب ( بطانة الإمام وأهل مشورته ): ١٥٠.

(٢) صحيح البخاري ٣: ٨٥.

(٣) وقد ورد هذا الحديث بنصّه وطوله، أو باختلاف يسير في: كتاب التفسير في باب( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) وفي باب ( كيف الحشر ) من صحيح البخاري نفسه، وفي صحيح مسلم في كتاب الجنّة ونعيمها، وفي صحيح الترمذيّ بطريقتين باب ( ما جاء في شأن الحشر ) وفي أبواب ( تفسير القرآن )، وفي صحيح النسائيّ ( ج ١ ) في ذكر أوّل من يكسى، وفي مستدرك الحاكم في كتاب التفسير في ( سورة الزخرف )، وفي مسند أحمد بن حنبل ( ج١: ص٢٣٥ وص ٢٥٣ ) وفي مسند الطيالسيّ ( ج ١ ) في أحاديث سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.

وفي الدرّ المنثور للسيوطيّ في تفسير قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ) وقال أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذيّ.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

15 ـ السيد جون فنيزات :

الكاتب الانجليزي السيد جون فينزات ، يقول : « محمد اعظم اولئك الذين يطلبون الخير للانسان ، وظهور محمد دلالة علىٰ احد اكمل العقول في جميع العالم ».

الىٰ هنا استمعتم الىٰ اعترافات بعض اكبر فلاسفة الشرق والغرب ، حول نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه المقدّس وقرآنه المجيد.

وان جميع كل ما قاله العلماء والمثقفون في حقّه يحتاج الىٰ مجال اوسع من الوقت.

مثل ما اعترف به السيد باير(1) ، والدكتور ماركسي فلومانس الامريكي واستاذ جامعة واشنطن(2) المستشرق الالماني المعروف نولد(3) ، والسيد جول لابوم ، العالم الفرنسي الذي كتب فهرساً لمواضيع القرآن بالفرنسية ، وسائر العلماء الذين تحدثوا عن نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن الكريم.

ومن خلال نقل هذا الموجز من الاعترافات التي ذكرناها عن علماء ومستشرقي الشرق والغرب ، يتضح جلياً بانّه ليست قلوب المسلمين في الشرق هي الوحيدة المفعمة بحب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هناك اُناس في قلب اوروبا المادية وامريكا الغارقة في زخارف الدنيا ، وصلهم شعاع من عظمة هذا الرسول الكريم

________________

(1) Bair

(2) Washington

(3) Nuldt

١٤١

فاتجهوا نحوه بقلوبهم ، علىٰ الرغم من سلطة البابوات والقساوسة وحراب الدول الاستعمارية ، وبالرغم من البيئة التي يعيشون فيها والمتطورة من الناحية المادية ، بحيث انهم لو كانوا غير مطلعين علىٰ تلك القوة الخلاقة وكيفية توالدهم وتناسلهم وتكوينهم ، لإدعوا الربوبية.

في تلك المجتمعات ، لو زرت المحافل العلمية لكبار العلماء ، لعرفت ان رجالاً كثيرون من اهل العلم والمعرفة ممن يحضون بأحترام الناس في جميع العالم ، يعشقون نبي الاسلام ، ذلك الرجل الاُمّي الذي كان يعيش ، قبل الف واربعمائة سنة في عالم مظلم وبين جاهلية لا توصف علىٰ رمال الحجاز.

لو وددتّم أيّها السادة المحترمون مزيد من الاطلاع علىٰ ما قاله كبار علماء اوروبا فيما يتعلق بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عليكم بالرجوع الىٰ كتاب « محمد من منظار الآخرين ».

١٤٢

البحث في بعض قوانين الاسلام

الدكتور : ايها الشيخ ، الاعترافات التي نقلتها لنا عن كبار علماء الشرق والغرب حول نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن وقوانينه ، قيمة ومهمة جداً ، ومع ذلك يبقىٰ هناك سؤال ، هو : مع ان هؤلاء العلماء والمستشرقين لم يكونوا مسلمين ومن اتباع نبي الاسلام ، فما هو سبب اعترافاتهم تلك ؟!

الشيخ : اهم موضوع ، جعل دنيا العلم تركع امام نبي الاسلام ، هو القوانين المحيرة التي جاء بها ذلك الرجل العظيم من قبل الله للمظلومين في العالم.

وكيف لا يركع كبار علماء الشرق والغرب أمام نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الذي جاء بقوانين من قبل الله لضمان سعادة البشر في مختلف المجالات ، فيما عجز الآخرون عن الاتيان بمثلها ، علىٰ الرغم من انه كان يعيش في عصر مظلم قبل أربعمة عشر قرناً في صحراء الحجاز وهو الاُمي الذي لم يدرس كلمة واحدة.

ولو اردنا البحث في هذا الامر بشكل علمي وعميق ، ودراسة قوانين الاسلام ومن ثم مقارنتها بقوانين سائر العالم ، فسوف يطول بنا الحديث فيما وقت سفرنا قصير لا يسع ذلك ، ولكن من اجل ان نعرف قيمة الدين الذي نتشرف ونفتخر باتباعه ، سنبحث في عموميات وكليات بعض قوانين الدين ، ولكي يتضح ايضاً ، ان اعتراف الشخصيات العلمية الكبيرة في العالم بما يتعلق

١٤٣

بالرسول والرسالة هو نتيجة لمشاهدة هذه الالتفاتات العلمية الظريفة الموجودة في تلك القوانين التي جاء بها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

المساواة في القانون

من خصوصيات الاسلام ، المساواة بين جميع الناس في القانون ، فالاسلام يرىٰ الجميع متساوين امام القانون ، ولا يرىٰ لأحد ميزة علىٰ آخر.

والقانون في الجهاز الديني يحكم الجميع بنحو واحد وبمنتهىٰ القوة ، وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (1) .

اصدقائي الاعزاء !

في ذلك العصر الذي كانت فيه الحروب العرقية والطبقية منتشرة بشدة في جميع انحاء العالم ، في ذلك العصر الذي كان فيه السود والفقراء فاقدين لجميع الحقوق الاجتماعية والفردية ، اعلن نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله المساواة التامة بين جميع البشر قانونياً من خلال ندائه السماوي الذي جاء به ، والغىٰ جميع الفوارق الوهمية التي أوجدت فوارق عميقة ورهيبة بين الناس ، واعلن امام غرور اهل الجزيرة العربية بصراحة :

________________

(1) سورة الحجرات : 13.

١٤٤

« لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض علىٰ أسود إلّا بالتقوىٰ ».

لقد بعث رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في الضعفاء والفقراء والسود الحياة من جديد وجعلهم يتحركون في الحياة جنباً الىٰ جنب مع البيض والاقوياء والاغنياء.

وقد خطىٰ نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله خطوات واسعة ومهمة في مجال المساواة بين جميع الناس امام القانون ، ليس في ما مضى فقط ، بل لا زالت تلك القوانين على درجة كبيرة من الاهمية والقيمة والاحترام إلى اليوم.

أو ليس غريباً ؟! ان الفئات المحرومة في المجتمع ، والاشخاص الذين كانوا لا يملكون شيئاً من انفسهم امام رئيس القبيلة ، وكان عليهم ان يفتدوه بأرواحهم فضلاً عن اموالهم ، اصبحت بعد ان أنار الاسلام عقولها وبعث الحياة في جسدها ، ترد على صفعة رئيس القبيلة بصفعة مماثلة لها ، وتقتص لنفسها منه ، لقد استطاعت تلك الانامل الضعيفة بالمساواة التي طرحها الاسلام ان تلامس خدّ رئيس القبيلة الذي كان مالك الرقاب السابق ؟!

ان المساواة التي يطرحها الاسلام بين الناس امام القانون ، قوية وثابتة بشكل لا يستثنىٰ منها اي مقام ومسؤول او اية قوة.

ملك آل جفنة في قبضة القانون

كان جبلة بن الايهم ( الغساني ) من ملوك آل جفنة ، وقد اختار الاسلام ، وأراد ان يزور الخليفة آنذاك ، فتحرك نحو المدينة مع كوكبة من حاشيته ومعهم

١٤٥

خمسمائة حارس مدجج بالسلاح لحمايته والسير بين يديه.

وعندما قاربوا المدينة ارسلوا رسولاً يخبر الخليفة بقدومهم ، فخرج الخليفة في استقبالهم واكرمهم ، ودخلت قافلة جبلة المجلّلة المدينة وأهلها لا يعيرونهم أهمية ، بينما رجال القافلة مدججون بالسلاح ويرتدون افضل الملابس والمجوهرات.

وبعد ايام من دخولهم المدينة حان وقت الحج فخرجوا مع الخليفة الى مكة ، وكانت قافلتهم تحضىٰ بأحترام المسلمين اين ما حلّوا في الطريق حتىٰ وصلوا مكة.

لا بدّ ان يصفع ملك آل جفنة

وفي مكة وقع حادث جعل جبلة ملك آل جفنة يبتعد عن الاسلام ويرتد الىٰ النصرانية بعد ان كان مسلماً ، والحادث بشكل مختصر :

داس رجل عربي من قبيلة بني فزار برجله وهو لا يعلم ذيل حُلة جبلة التي كانت تخط وراءه الأرض وهو يطوف الكعبة(1) ، فغضب جبلة لذلك ، فأمسك بأنف الرجل وضغط عليه ، فتألم الرجل كثيراً ، فيما يذكر بعض المؤرخين انه صفعه علىٰ وجهه ، فسكت الرجل مضطراً وهو يرىٰ تلك المجموعة الكبيرة من الحرس مع جبلة اين ما يتحرك حتىٰ في طواف الكعبة.

________________

(1) كان طول الحلّة وجرّ الذيل في ذلك العصر وبين العرب ، من علامات الاشراف والترف ، وقد حكم عليها الاسلام بالكراهية.

١٤٦

لكن عدم امتلاك قوة لا يعني الضعف في حكومة العدل والقانون ، لأن المظلوم يعلم جيداً ان هناك يد القانون القوية هي التي تدافع عنه وتحميه.

وعندما وجد ذلك الرجل نفسه مظلوماً ومعتدىٰ عليه من قبل جبلة ، اشتكىٰ عند الخليفة استناداً الىٰ عدل الاسلام ، واخبر الخليفة بما جرىٰ.

وبعد ان سمع الحاكم ( الخليفة ) شكوىٰ الرجل ، احضر جبلة علىٰ الفور ، وسأله عمّا حدث.

ومقابل سؤال الحاكم ، أجاب جبلة بصراحة بأنه فعل ذلك ، وقال : لولا حرمة الكعبة لعاقبته بالسيف ! لأنه اعتدى عليّ.

وبعد ان اسمتع الحاكم الىٰ جواب جبلة ، قال : لقد تعديت يا جبلة علىٰ الرجل وهو مظلوم وانت تعترف بذلك ، واستناداً للقانون يجب ان ترضى الرجل منك ، او تستعد للقصاص.

لكن جبلة الذي لم يفهم علىٰ الظاهر معنىٰ القصاص ، تساءل : وكيف يقتص هذا الرجل مني ؟

فقال الخليفة : كما صفعته او ظغطت علىٰ انفه وآلمته ، يجب ان يصفعك او يضغط علىٰ انفك.

كاد جبلة ان يطير عقله بعد سماعه ذلك الكلام ، وتساءل متعجباً : كيف يمكن لهذا الرجل ان يصفعني وانا ملك آل جفنة القوي ، فيما هو رجل عادي من المسلمين.

١٤٧

فقال له الخليفة : ان الاسلام جمعك وايّاه وليس لك فضل عليه الّا بالتقوىٰ.

والاسلام لا يفرق بينك مع قوتك وهذا الرجل البسيط ، فالجميع متساوون امام قانون الاسلام.

فقال جبلة : كنت اتصوّر ان تزداد عزّتي ويزيد جلالي بالاسلام ، وتزيد كذلك سلطتي علىٰ اتباعي ورعاياي.

فقال له الخليفة : جبلة! لا تتحدث عبثاً ، فالجميع متساوون امام القانون.

وبعد ان شاهد جبلة هذه الصراحة ، طلب من الخليفة ان يمهلهه الليلة كي يتأمّل في الامر اكثر ، ويرضي الرجل من نفسه ، او ان يقول الرجل بالقصاص منه.

فوافق الخليفة علىٰ طلب جبلة ( طبعاً بعد ان اخذ موافقة الرجل ) ، لكن جبلة لم يشاهد بعد تلك الليلة ، لانّه فرّ ومن معه ليلاً من يد القانون ، واتّجه مباشرة الىٰ القسطنطنية عند هرقل ملك الروم ، وارتد الىٰ النصرانية(1) .

وهذه القصة التاريخية نموذج علىٰ المساواة التي طرحها الاسلام ، وهو ما حدث قبل اربعة عشر قرناً في ذلك العصر المظلم.

________________

(1) شرح نهج البلاغة للخوئي.

١٤٨

نماذج علىٰ التمايز العرقي في الغرب

اصدقائي الاعزاء !

هل يوجد في جميع العالم الغربي الذي اصمّ البشرية نداءهم بالمساواة. وهل يمكن ان نشاهد مثل ذلك النموذج العملي للمساواة في قلب تلك الدول ؟ وهل يمكن لفرّاش بسيط ان يقتص من رئيس جمهورية الولايات المتحدة الظالم ، اذا ما حصل عليه اعتداء من قبل ذلك المتجبرّ ؟ أ يستطيع ان يقتص منه ويصفعه ، مثل ما حدث في تلك القصة التاريخية ؟!

أيّها السادة المحترمون !

بين القول والعمل مسافة شاسعة ، لقد مضت سنوات طويلة ونحن نسمع بتساوي الاسود والابيض في جميع انحاء الغرب ، وقاموا بنشاطات عديدة لرفع التمايزات العرقية ، كما حدثت حروب دموية لألغاء التمايز بين السود والبيض في الغرب ، ومثال ذلك حرب الشمال والجنوب في الولايات الامريكية حيث كان الشمال يدعو لتحرير الرق ، فيما كان الجنوب يصرّ علىٰ بقاءه ، وقد استمرت تلك الحرب اربعة سنوات وقتل فيها من الشماليين ما يقرب مليون شخص ، فيما قدم الجنوبيون 258 الف قتيل ، ما عدىٰ 360 ألف جريح والدمار

١٤٩

الواسع الذي حدث نتيجة لتلك الحرب(1) .

ومع كل النشاطات التي في هذا المجال ، لا زال التمايز العنصري موجوداً في الولايات المتحدة الامريكية ! ولا زال السود المساكين لا يستطيعون دخول الفنادق المخصصة للبيض بطمائنينة ، او الدخول الى القطار المخصص للبيض ، ولا زال زواج الأبيض بالسوداء او العكس يعتبر عملاً دنيئاً ، ومن العار للأسر البيضاء ان يتزوج احد من افرادها او اقرباءها من السود المساكين ، ولا زالت فنادق البيض مفصولة عن فنادق السود هناك !

تحدثت بعض الصحف مؤخراً ان احدىٰ الشخصيات الافريقية المعروفة كان ينوي السفر الىٰ الولايات المتحدة ، فحجز بالهاتف قبل ايام من سفره غرفاً له ولرفاقه في احد الفنادق الامريكية المعروفة ، لكنه بعد ان وصل من المطار الىٰ الفندق المذكور وعرّف نفسه لمدير الفندق وطلب منه مفاتيح الغرف التي حجزها من قبل ، اجابه المدير بصراحة : هذا الفندق خاص بالبيض ، ولا يسمح لكم بدخوله لأنكم من السود !

ولا زالت هناك قطارات في امريكا ( تلك التي تتحرك بين مسافات طويلة ) فيها شرطة مسؤوليتهم المحافظة على النظام والحيلولة دون وقوع مشاجرات بين البيض والسود ، الذين يحدد لكل منهم اماكن خاصة ، لكن وعلىٰ الرغم من وجود الشرطة ، فأنه غالباً ما تقع مشاجرات دموية بين السود والبيض. وقبل مدة شاهدت في احدىٰ صحف طهران المسائية صورة لطفلين

________________

(1) تاريخ الولايات المتحدة الامريكية ، تأليف : الان نوينز وهنري ستيل كاماجر ، ترجمة : الدكتور محسن راهنما.

١٥٠

ابيض واسود ، وقرأت التعليق العجيب والمهم جداً تحت الصورة وهو : « الاطفال البيض والسود يدرسون في مدرسة واحدة جنباً الىٰ جنب » !

أليس عجباً ، ان تعتبر الدول الغربية دراسة الاطفال البيض والسود في مدرسة واحدة ، احدىٰ مفاخرها الاجتماعية ! وهذا غيث من فيض للحالة المأساوية التي يعيشها السود في امريكا والدول الاوروبية ، وأليس عجيباً ان لا يدرك البيض الامريكان والاوروبيون تلك الحقيقة وهي ان الاختلاف في اللون والعرف ليس دليلاً علىٰ الفضيلة والتفوق !

لكن مجرد اللون لا يعد سبباً للاستضعاف والحرمان في الاسلام ، فالمسلم الابيض يعمل جنباً الىٰ جنب مع اخيه الاسود في جميع المجامع الدينية سواءاً في القديم او اليوم ، ولا يشعر بأي انزعاج او ضجر ، وهم متساوون في الحقوق الاجتماعية وجميع شؤون الحياة ، يتزوجون منهم ويزوجونهم و كما ان الحكومة الاسلامية تستطيع ان تعطي اكبر المناصب السياسية او الدينية الىٰ السود علىٰ اساس الكفاءة ، وهو ما نملك عنه نماذج عديدة في تاريخ الاسلام ، وهذهِ من الامثلة علىٰ المساواة في الاسلام الذي جاء به النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الف واربعمائة سنة ، في حين ان عصر الذرّة اليوم لا زال يحلم بذلك.

١٥١

المساواة الاسلامية من منظار علماء اوروبا

يقول الدكتور غوستاف لوبون ، العالم الفرنسي الشهير في كتابه « حضارة الاسلام والعرب » :

« المساواة بين المسلمين علىٰ اكمل وجهها ، تلك المساواة التي يتحدّث عنها الاوروبيون جميعاً بشوق وحرارة ولا نجدها إلّا في طيات الكتب ، نجدها عملياً بين المسلمين ، وقد أصبحت من الأعراف الشرقية ، فالتمايزات الشديدة التي حدثت بين الفئات والطبقات في اوروبا اثر الثورة الصناعية والتي ستشهدها ثورات اكثر دموية اخرىٰ. غير موجودة بين المسلمين ، فالخادم والمرافق يستطيع ان يتزوج ابنة سيده دون ممانعة ومشكلة(1) ».

ويقول السيد لوبلاي(2) حوال المساواة في الاسلام :

«الانظمة المطبقة فيما يتعلق بالكادحين والعمال ونتائجها السيئة التي ظهرت في اوروبا ، لا يزال المسلمون مصانون منها ، فلا زالت تسودهم انظمة اساسية تصلح بين الغني والفقير والسيد والعبد ، وتجعلهم قريبون من بعضهم ، مثل صلاة الجماعة والمسجد والحج ، ويكفي القول ان بعض الدول الاوروبية المتسلّطة التي ترىٰ ان تتعلّم منها تلك الدول ( الاسلامية ) الكثير ، عليها هي

________________

(1) يفهم من هذا الكلام ان التمايز الطبقي في اوروبا وصل الىٰ حدّ يتعجب فيه الدكتور غوستاف لوبون من زواج المرافق والخادم من ابنة سيده ، ويعتبر ذلك حدثاً غير عادياً.

2 ـ Mu. le.play

١٥٢

ان تتعلّم منهم دروساً كثيرة ( مثل المساواة ).

والحقيقة ان نموذج الحكومة الديمقراطية « حكم الشعب » يعمل به في الاسلام بأحسن وجه ، لانه ومع وجود خليفة مقتدر فأن الجميع متساوون امام القانون وليس هناك وضيع أو شريف أو غني أو فقير ، والحقوق تراعىٰ بالكامل ، لقد الغىٰ الاسلام التمايزات العائلية والطبقية والقبلية والقومية ، وقال بأن جميع المسلمين متساوون واُخوة امام الاسلام ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

أجل ، لم يساوي الدين الاسلامي المقدس بين المسلمين من قبل فقط من الناحية القانونية ، بل لو اسلم قوم في اقصىٰ نقاط الدنيا وكانوا من اكثر الناس تخلفاً ، فأنهم ومنذ لحظة اسلامهم يصبحون اخوة لسائر المسلمين ومتساوون معهم في الحقوق والواجبات ولا يحق للحكومة الاسلامية ان تعتدي عليهم او تهاجمهم ».

يقول الدكتور غوستاف لوبون في هذا الصدد :

«لم يكن العرب يستطيعون الضغط علىٰ مختلف الاقوم في البلاد التي فتحوها ، لإن اولئك الناس دخلوا الاسلام وقبلوا احكامه وقوانينه برضىًٰ وارادة ، وجميع المسلمين ( من اي قوم كانوا ) متساوون واخوة برأي الحكومة الاسلامية وهذه الاخوة والمساواة مبينة على اساس احكام القرآن ، الذي لا يستطيع الفاتحون العرب تغيره ، وبذلك اتحد الغالب والمغلوب وشكلوا امة قوية كبيرة ، وقد استمرت هذهِ الوحدة وهذا الاتحاد علىٰ مدىٰ حكم العرب وخلافتهم ».

١٥٣

مسألة الرّق وحلولها

تطرّقنا الىٰ مسألة التمايز العرقي ونفي هذا النوع من التفوق والافضلية بين البشر من الناحية القانونية ، وقد يتساءل البعض ، اذن ما هي قصة « العبد والجارية » التي يعترف بها الاسلام رسمياً ؟

وفي جواب ذلك السؤال ، نقول ان الحقيقة خلاف ذلك ، فالاسلام لم يقرّ مسألة الرّق ، بل وضع لها حلّاً تدريجياً وسريعاً ومن عدّة طرق.

وبسبب سعة الموضوع وعدم امكانية شرحه بشكل كافي من جهة ، ولأهميته من جهة اخرىٰ ، فأننا سنتعرض له بشكل سريع ومختصر.

1 ـ لم يأت الاسلام بالرّق ، بل وجده حقيقة واقعة في المجتمع الذي نزل فيه ، اذن ، لا علاقة لأصل المسألة بالاسلام.

2 ـ لم يكن باستطاعة الاسلام ، كما لم يكن عملياً اساساً ، نفي الرّق بشكل كامل ابتداءً ، بسبب ترسخه في ذلك المجتمع ، ولانه ليست هناك ثورة استطاعت تطبيق جميع اهدافها بمجرد الاعلان عن نفسها مباشرةً ، ويجب ان لا ننسىٰ الحقيقة العلمية التي تقول ان التغير النوعي لا يحدث الّا بعد طي مراحل كميّة.

فإذا لم تكن هناك مراحل كمية ، يكون الأمر تطرفاً ولربما يواجه ردود فعل حادة أيضاً ، مما يعرّض « أصل الدين » الىٰ خطر حقيقي ، ولأثبات هذه

١٥٤

الحقيقة يكفي ان نشير الىٰ قرار ألغاء الرّق في أمريكا الذي أعلنه ابراهام لينكولن ، رئيس الجمهورية سنة 1816 ، والذي ادىٰ الىٰ وقوع الحرب الاهلية بين الشمال والجنوب والمآسي التي تعرضت لها ولايات الشمال والجنوب علىٰ السواء ، ( كان الجنوب يعارض الغاء الرّق بسبب دورهم في الانتاج الزراعي هناك(1) فلم تكن ولايات الجنوب متطورة مثل ولايات الشمالي كي تستبدل العبيد بالآلات الصناعية في الانتاج ).

أو الاصلاح الذي حدث في جنوب فيتنام الشمالية علىٰ يد حكومة « هانوي » و « فيت مين » ولأنها كانت مستعجلة وبدون طي مراحل كميّة ، ادت الىٰ مقتل عشرة آلاف شخص(2) الىٰ ان تدخل « هوشه مينه » شخصياً وانهىٰ المسألة.

والآن ، مع الأخذ بالعديد من الحقائق التاريخية والعلمية ، ومع الأخذ أيضاً بدور الرّق ، المهم والاساسي في المجالات الانتاجية والخدماتية في مجتمع الجزيرة العربية قبل اربعة عشر قرناً ، أليس من البساطة ان يقول شخص : « لماذا لم يلغي الاسلام منذ الوهلة الاولىٰ الرّق ، ولم يمنعه تماماً ؟! » فهل كان هذا الامر عملياً وممكناً اساساً ؟! وهل توجد في تاريخ العالم ايديولوجية ثورية استطاعة تطبيق جميع اهدافها بعد انتصارها مباشرةً ، حتىٰ يكون الاسلام ثانيها ؟!

3 ـ لقد تحدث القرآن في ستة اماكن عن « حرية العبد » وقد اوصىٰ او امر

________________

(1) من اجل معلومات اُخرى في الموضوع ، راجع :

تاريخ الولايات المتحدة الامريكية ، تأليف : الان نوينز وهنري ستيل كاماجر.

(2) يمكن الرجوع في ذلك الىٰ كتاب « حياة هوشي مينه ».

١٥٥

به(1) في حين انّه لا نجد فيه ما يقول بأخذ الرق او « الاستبعاد » بتاتاً.

4 ـ وضع الاسلام طرقاً « تدريجية » او مرحلية ولكن مؤثرة وحاسمة لحل مسألة الرّق ونفيها بشكل كامل ، وهي كثيرة جداً ، منها :

أ ـ العقود الثنائية بين المالك والمملوك ، مثل « المكاتبة » او « التدبير » والذي ينتهي الىٰ عتق العبيد ، وقد اقرّها الاسلام ( خاصة الدور الذي تلعبه الحكومة الاسلامية في هذا الصدد ، من خلال مساعدتها للرّق مالياً من اجل تحريرهم ).

ب ـ هناك بعض الذنوب ، اشترط الاسلام تحرير العبيد للتكفير عنها. ( الكفارات ).

ج ـ يصرف قسم من ميزانية الدولة ( الزكاة ) لشراء العبيد من قبل الحكومة وعتقهم ، وقد امر القرآن بذلك.

د ـ وفي النهاية ، جاء في بعض الروايات الاسلامية ، انه لو كان احد المسلمين يمتلك عبداً ( غلاماً او جارية ) ولم تشمله الطرق التي ذكرناها اعلاه لكي يعتق ، فأنه يعتق بعد ثلاثة سنوات ( قبل المالك او لم يقبل ). هذا بالاضافة الىٰ التوصيات والتأكيدات الكثيرة التي وصىٰ بها الاسلام وأمر بها لتحرير العبيد من الغلمان والجواري ، خاصة وصاياه في الزواج من الجواري لان الزواج منهن كان مساوياً الىٰ حدّ ما بتحريرهن ، لانه كان عليهم ان يعتقوهن اولاً ومن ثم الزواج منهنّ.

________________

(1) راجع القرآن الكريم : سورة النساء الآية 92 ، وسورة المائدة الآية 89 ، وسورة المجادلة ، الآية 3 ومن ثم الآية 13 من نفس السورة.

١٥٦

5 ـ في الفترة التاريخية ما بين ظهور الاسلام وحتىٰ تهيئة الارضية لألغاءه ، اوصىٰ الاسلام واكد كثيراً علىٰ حسن معاملتهم ومراعاة الانصاف والعدل والمساواة معهم ، للحد الذي قال فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « واطعموهم مما تطعمون وألبسوهم مما تلبسون » لكي يشعروا أنهم جزءاً من الاسرة التي يعيشون معها ولهم حقوقهم وامتيازاتهم فيها.

6 ـ ذمّ الاسلام كثيراً ، عمل « بيع العبيد » ، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « شرّ الناس من باع الناس » كما ان هناك روايات كثيرة بهذا المعنىٰ.

7 ـ أمّا فلسفة وجود بعض الغلمان والجواري في بيوت الائمة المعصومين ، فهو امران :

الاول : كان الائمة يريدون من ذلك تقديم نموذج عملي لحسن معاملة الغلمان والجواري والاحسان اليهم والانصاف معهم والمساواة ، بل كانوا بعض الاحيان يقدمونهم علىٰ انفسهم ، لكي يتعلم المسلمون عملياً كيفية التعامل مع العبيد ما داموا في بيوت اسيادهم غير معتقين. والشاهد على ذلك تاريخ حياة « فضّة » بعنوان جارية في بيت فاطمةعليها‌السلام .

كانت بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تقسم عمل البيت يومياً من الطحن بالرحىٰ وعمل العجين والخبز والعناية بالاطفال مع فضّة ، ولم يكن للزهراءعليها‌السلام اي ميّزة في البيت.

الثاني : كانوا يعلّمون الآخرين كيف يشترون العبيد ( ويخرجوهم من حالة مجرد « بضاعة » تدار في السوق ) ويعتقونهم مباشرة أو بعد فترة قصيرة في المناسبات المختلفة ، مثل عيدي الفطر والاضحىٰ وامثالها ، بشكل جماعي او

١٥٧

فرادىٰ ، ويخلصوهم بذلك من حياة العبودية ، وهذا ما كان يفعله الائمة لكي يعلموا الناس ذلك.

8 ـ تجدر الاشارة الىٰ ان الفصل الذي تبحث فيه المسائل المتعلقة بالرّق في الفقه الاسلامي ، يسمى كتاب « العتق » وهو دليل علىٰ سياسة الاسلام العامة فيما يتعلق بالرّق.

ومع الأخذ بالمسائل التي طرحناها بصورة سريعة هنا ، فيما يتعلق بالرّق ، يتضح جلياً ، انه لم يكن ممكناً للاسلام فقط الاطاحة بنظام ظالم مثل الرّق الذي كان متأصلاً في مجتمع ذلك اليوم دفعة واحدة ، بل هو غير ممكن من الناحيتين العلمية والثورية أيضاً ، ومع ذلك فقد وظف هذا الدين السماوي جميع امكانياته واستخذم جميع الطرق والاساليب لمحو هذا العار من جبين البشرية ولكي يقتلعه من الاساس في المجتمع ، وهو العمل الذي نجح فيه الاسلام بأتم وجه.

وفي ختام هذا البحث ، لابد من الاشارة الىٰ هذه الاشكالية وهي : لماذا يجيز الاسلام استخدام اسرىٰ الحرب بعنوان عبيد في بعض الاحيان ؟ ومن اجل فهم هذا السؤال جيداً ، يجب الالتفات الىٰ ان الاسلام لم يكن يملك الا سبيلاً واحداً من بين عدة سبل ، فيما يتعلق بأسرىٰ الحرب :

1 ـ السبيل الاول هو اطلاق سراح جميع اسرىٰ الحرب ، وفي هذه الحالة تواجه الامة الاسلامية مشكلتين :

الاُولى : ان هؤلاء الاسرىٰ الذين اطلق سراحهم هم من اعداء الاسلام وسيعودون مباشرة الىٰ صفوف الكافر بعد اطلاق سراحهم ، وسيقفون ثانية في

١٥٨

الجبهة المواجهة للأسلام.

أمّا المشكلة الثانية : هي ان اطلاق سراح الاسرىٰ يكون من جانب المسلمين فقط وبما ان الكفار لا يطلقون سراح اسرىٰ المسلمين ففي حال تبادل الاسرىٰ. لا يكون بأيدي المسلمين ما يبادلونه بأسراهم.

2 ـ ابادة جميع اسرىٰ الكفار ، وهذا العمل ، اولاً ، غير صحيح في الحالة العادية وليس انسانياً ابداً وثانياً ، سيؤدي الىٰ ان يقوم الكفار بالمثل ويقتلون جميع اسرىٰ المسلمين.

3 ـ سجن اسرىٰ الحرب ، وهذا الفرض يستلزم اولاً ، اهدار قوة بشرية كبيرة في السجون ، وثانياً ، تحميل الدولة الاسلامية مصاريف باهضة اقتصادياً وانسانياً وامنياً.

4 ـ استبعاد هؤلاء والاستفادة منهم في العمل ، وهو الحلّ المنطقي والصحيح الوحيد الذي كان للاسلام ، لانه وبهذا العمل ، اولاً ، يستخدم بشكل جيد قوىٰ الاسرىٰ ويوظفها في مجالات الانتاج والخدمات وفي المجالات الثقافية احياناً.

وثانياً ، تعتبر البيئة الاسلامية ( وكما حدث بالفعل ) مركز تأهيل وتربية بالنسبة لهؤلاء الاسرىٰ ، لكي يتعرفوا علىٰ نظام العدل الاسلامي واحكامه وقوانينه الانسانية ، وثالثاً ، كانوا يعتبرون رهائن بيد المسلمين لمبادلتهم في اللحظة المناسبة بأسرىٰ المسلمين الذي وقعوا بيد الكفار.

١٥٩

النظام الاقتصادي الاسلامي

وهنا أجد من الضروري الحديث عن المذهب الاقتصادي في الاسلام وطريقته في توزيع الدخل والموارد والثروات الطبيعية ، ولأن هذا البحث يحتاج الىٰ دراسة موسعة ودقيقة ، فسأكتفي بالاشارة الىٰ بعض النقاط فيما يتعلق به :

1 ـ النظام الاقتصادي الاسلامي غير طبقي وهو لا يعرف التمايز بين الاشخاص اساساً.

2 _ يرىٰ الاسلام ان الاصالة « للعمل » فقط ، ويصرّح :

( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ) (1)

ومع ذلك فإذا كانت نتيجة العمل هي جمع المال وكنزه ، فالاسلام لم يجز ذلك أيضاً ، وقد أمر بانفاقه في سبيل الله ، قال تعالى :

( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (2) .

3 ـ الهدف من الانفاق في الاسلام هو ملء الفراغ الطبقي ، او حسب تعبير الروايات « لكي يستغني الفقير » وتصبح مستوياتهم المعيشية متقاربة ، وهو ما

________________

(1) سورة النجم : 39.

(2) سورة التوبة : 34.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627