مفاهيم القرآن الجزء ٣

مفاهيم القرآن7%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 543

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 202209 / تحميل: 6210
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

ويلاحظ بأنّ الإسلام، هو الذي يواجه وحده، بهذا الاشكال من بين سائر الشرائع، إذ ليس الإسلام عبارة عن تعاليم منحصرة في عدة أحكام عبادية وأخلاقية تؤدّى بصورة فردية، بين الانسان وربّه، أو بينه وبين نفسه، دون أن يتدخل في تحديد المناهج الاجتماعية والعلاقات الانسانية والمدنية، وليس منحصراً في هذه المقررات البسيطة، حتى لا يكون وافياً في جميع الأزمنة، بالغاية التي يهدف إليها وإنّما هو نظام تشريعي كامل، قد تدخل في شؤون المجتمع كافة، فهو ذو قوانين مدنية وقضائية وسياسية واجتماعية وعسكرية وعائلية، كفيلة باغناء البشرية، عن كل تشريع سوى تشريعه، وعن كل اصلاح غير اصلاحه، فهذه القوانين المحدودة كيف تغني المجتمع البشري عن ممارسة التشريع في الحوادث والموضوعات التي لم يكن بها عهد زمن نزول القرآن وبعثة الرسول ؟

وفي هذه النقطة، تفترق المسيحية عن الإسلام، إذ هي لا تتجاوز في تشريعها نطاق الأخلاق الفردية والتعبّد لله، بصلاة وصوم، في وقت معين، أمّا مناهج الحياة الاجتماعية وتنظيمها وتنسيق معاملاتها، ذلك ما يقرّه المجتمع نفسه، ويفوّضونه إلى السلطات الحاكمة.

ولكن الإسلام يتعرض لكل شأن من شؤون الحياة، ويقنّن ويشرّع لكل أمر من اُمور المجتمع، المدنية والمعاشية، بالاضافة إلى تشريعاته وقوانيه الأخلاقية، والعبادية الفردية، ويسد باب التشريع في ذلك على غيره، فالسلطة التشريعية بيده وحده، وعلى المجتمع أن يختار السلطة التنفيذية والسلطة القضائية فقط، ضمن ما يشرعه الإسلام.

وملخص السؤال، انّ المجتمع الإنساني، يواجه أوضاعاً وأحداثاً جديدة تطرح عليه مشاكل لاعهد للأزمنة السابقة بها، فلا نجد في التشريع الإسلامي لهذه الأوضاع والأحداث حكماً من الأحكام، إذن فحاجة المجتمع إلى قوانين وتشريعات جديدة لا تزال تتزايد كل يوم تبعاً لذلك، وبما أنّ نصوص الشريعة من الكتاب والسنّة محدودة، وحوداث المجتمع غير محدودة، فكيف يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث الطارئة غير المتناهية ؟

٢٦١

الجواب :

انّ خلود التشريع وبقاءه في جميع الأجيال ومسايرته للحضارات الانسانية، واستغناءه عن كل تشريع سواه، يتوقف على وجود أمرين فيه :

الأوّل: أن يكون التشريع ذا مادة حيوية خلاقة للتفاصيل بحيث يقدر معها علماء الاُمّة والاخصائيون منهم على استنباط كل حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كل عصر من الأعصار.

الثاني: أن ينظر إلى الكون والاجتماع بسعة وانطلاق، مع مرونة خاصة تماشي جميع الأزمنة والأجيال، وتساير الحضارات الانسانية المتعاقبة.

وقد أحرز التشريع الإسلامي كلا الأمرين :

أمّا الأمر الأوّل، فقد أحرزه بتنفيذ اُمور :

الأوّل: الاعتراف بحجية العقل في مجالات خاصة :

انّ من سمات التشريع الإسلامي التي بها يمتاز عن سائر التشريعات، ادخال العقل في دائرة التشريع، والاعتراف بحجيته في الموارد التي يصلح له التدخل والقضاء فيها، فالعقل أحد الحجج الشرعية وفي مصاف المصادر الاُخر للتشريع وأنّه يكشف عن الحكم الشرعي ويبيّن وجهة نظر الشارع في مورده، وأنّ من الممتنع أن يحكم العقل بشيء ولا يحكم الشرع على وفاقه أو يحكم بخلافه، فالملازمة بين العقل والشرع حتمية.

و لا يهمنا البحث في أنّ ما يدركه العقل في مورد هل هو نفس الحكم الشرعي ومن صميم التشريع الإسلامي أو أنّه يكشف عن نظر الشارع إذا توفرت فيه الشروط التي اعتبرها الشارع في حجية ادراكاته.

وإنّما المهم أن نقف على أنّ العقل احتل محلاًّ خاصاً في التشريع الإسلامي وانّ كل ما يحكم به العقل فكأنّه ينطق على لسان الشرع كالكتاب والسنّة، فعند ذاك اعتمد

٢٦٢

عليه في تبليغ الأحكام إلى الناس كما اعتمد على القرآن والسنّة.

وقد فتح هذا الاعتراف للإسلام بقاء وخلوداً، وجعله صالحاً للانطباق مع عامة الحضارات الانسانية، وغدا التشريع الإسلامي في ضوئه ذا سعة وانطلاق وشمول لما يتجدد من الأحداث ولما يطرأ من الأوضاع الاجتماعية الجديدة.

هذا بخلاف ما إذا اعتبرناه عنصراً غريباً في صعيد التشريع وعزلناه عن الحكم ورفضنا كل ما يدركه من الأحكام العقلية المحضة، فإنّه يؤدي إلى تجميد المخطط القانوني وعدم صلاحيته للحكم والتطبيق في البيئات والظروف الاجتماعية المختلفة.

نعم ليس معنى الاعتراف بحجية العقل، أنّه يطلق سراحه في جميع المجالات حتى يتاح له ( بما اُوتي من امكانات ووسائل محدودة ) أن يتسرّع في الحكم في مصالح الفرد والمجتمع وشكل العلاقات والروابط الاجتماعية والعبادات والأحكام التوقيفية.

بل فسح له الحكم في مجالات خاصة إذا توفرت فيه الشرائط التي تصونه عن الاشتباه والخطأ واقترن بالضمانات الكافية التي تحفظه عن الزلل، وسوف نشير إلى هذه الشرائط والضمانات، وستوافيك نماذج من الأحكام العقلية في هذا البحث.

فالقارئ الكريم إذا لاحظ كتاب الله العزيز وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته: يرى فيهما الحث البالغ الأكيد على التدبّر والتفكّر والتعقّل لما يعسر على الانسان الاحاطة والاحصاء ولنكتف بذكر بعض ما اثر في المقام.

قال الإمام الطاهر موسى بن جعفرعليه‌السلام لتلميذه هشام :

إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال:( فَبَشِّرْ عِبَادِ *الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبَابِ ) ( الزمر ١٧ ـ ١٨ ).

يا هشام: إنّ الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيين بالبيان ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة فقال:( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ

٢٦٣

وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ( البقرة ـ ١٦٤ ).

يا هشام: ثم وعظ أهل العقل ورغّبهم في الآخرة فقال:( وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( الأنعام ـ ٣٢ ).

يا هشام: إنّ العقل مع العلم فقال:( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلّا الْعَالِمُونَ ) ( العنكبوت ـ ٤٣ ).

ثم ذم الذين لا يعقلون فقال:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( البقرة ـ ١٧٠ ).

يا هشام ثم ذكر اُولي الألباب بأحسن الذكر وحلالهم بأحسن الحلية فقال:( يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إلّا أُولُوا الأَلْبَابِ ) ( البقرة ـ ٢٦٩ ).

يا هشام: إنّ الله تعالى يقول في كتابه:( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) يعني: عقل.

وقال( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ ) ( لقمان ـ ١٢ ) قال: الفهم والعقل.

يا هشام: ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلّا ليعقلوا عن الله فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام: إنّ لله على الناس حجّتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة وأمّا الباطنة فالعقول(١) .

وقال الصادق: حجة الله على العباد، النبي، والحجة في ما بين العباد وبين الله ،

__________________

(١) الكافي: ج ١ ص ١٣ ـ ١٦ ولم ننقله بطوله وإنّما اقتبسنا مقتطفات منه.

٢٦٤

العقل.

هذا الحديث وما قبله وغيرهما يعرب عن نظر الإسلام السامي في الأحكام التي يستقل بها العقل بشرط أن يتجرّد عن الرواسب المنحرفة والغرائز الحيوانية والعواطف الانسانية ويحكم حكماً باتاً عقلانياً محضاً غير منبعث عن هذه الجوانب ويحترز عن بعض الأساليب التي منع الشارع عن أعمالها في طريق استنباط الحكم الشرعي كالاقيسة والاستحسانات.

نعم لا يخلص الحكم العقلي من الزلل والخطأ إلّا بعد ملاحظة اُمور :

١. قصور الفكر الانساني وعجزه عن الاحاطة بمسائل الكون والنفس والاجتماع وضعف المدارك الحسية التي تربط الانسان بالواقع الاجتماعي والنفسي والكون الذي يعيشه.

٢. تأثّر الفكر الانساني بالجانب الانفعالي والحيواني من النفس كالغرائز النفسية والدوافع الحيوانية المستقرة في النفس التي لا تتخلّص منها النفس والفكر إلّا بعد جهد شاق.

٣. انطباع الفكر بالرواسب اللاشعورية والأعراف والتقاليد التي يرثها الانسان من البيئة الاجتماعية والتي تنتقل في المجتمع مع الأجيال من دون أن تفقد تأثيرها الخاص واطارها الاجتماعي الذي يسبغ عليها جانباً قدسياً في المجتمع.

وقد حاول الإسلام أن يحقق الضمانات الكافية التي تعصم الفكر من هذه الوجوه الثلاثة في مجال الحكم والتشريع.

كما حاول الإسلام من جانب أن يفسح المجال للعقل في الحكم ليحفظ الدستور ويصلح للحكم والتطبيق في البيئات والظروف المختلفة.

ومن جانب آخر حاول الإسلام أن يحفظ العقل ممّا يمكن أن يحفظ به إلى المستويات الحيوانية واللاشعورية أو ممّا تقصر عنه امكاناته العلمية(١) .

__________________

(١) لاحظ المدخل إلى دراسة التشريع الإسلامي ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

٢٦٥

قال العلّامة الحجة الشيخ محمد حسين الاصفهاني: إنّ القضايا المشهورة على أقسام :

منها ما فيه مصلحة عامة: كالعدل حسن، والجور قبيح، وعبّر عنها بالتأديبات الصلاحية.

منها: ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة كالحكم بقبح كشف العورة لانبعاثه عن الحياء وهو خلق فاضل.

منها: ما ينبعث عن رقة أو حمية أو أنفة أو غير ذلك واستلزام الحسن والقبح عقلاً للحكم الشرعي بالمعنى المتقدم في ما كان منشأه المصالح العمومية واضح لأنّ الشارع يرعى المصالح العمومية وكذا ما ينبعث عن الأخلاق الفاضلة لأنّ المفروض أنّها ملكات فاضلة، والمفروض انبعاث الحكم بالحسن والقبح عنها وأمّا ما ينبعث عن انفعالات طبيعية من رقة أو حمية أو أنفة أو غير ذلك فلا موجب لاشتراك الشارع مع العقلاء.

ولذا ترى الشارع ربّما يحكم لحكمة ومصلحة خاصة بما لا يلائم الرقة البشرية كالحكم بجلد الزاني والزانية غير ذات البعل مع كمال التراضي(١) .

وللشيخ الرئيس في اشارته كلام يوقفنا على أقسام الادراكات العقلية فراجع الاشارات وشرحها للحكيم الطوسي(٢) .

فإذا توفرت في الحكم العقلي هذه الشرائط وكان حكمه منبعثاً عن الجانب العقلي المحض، غير متأثر عن الجوانب اللاشعورية، والغرائز الحيوانية والعواطف الانسانية، وتجنب عن الأساليب الممنوعة وحكم من صميم التدبّر والتفكّر بحكم بات، يصير حجة بين الله وعبده، وحينئد يجب السير والسلوك على مقتضى حكمه وتنفيذ ما يقضي به تأسيساً أو تحديداً لاطلاق حكم شرعي أو تخصيصاً لعمومه ويصير عند ذاك أحد

__________________

(١) نهاية الدراية: ج ٢ ص ١٣٠.

(٢) الاشارات: ج ١ ص ٢٢٠ ط طهران.

٢٦٦

الأدلة التي يستنبط منها، الحكم الشرعي ويدور عليها رحى الاستنباط، ويعد قريناً للكتاب والسنّة، والاجماع ولا ينفك عن قرنائه وأعداله.

والباحث النابه، يجد الملازمة بين العقل والشرع، أحد القواعد المسلمة عند المحققين، من علماء الإسلام، الذين يعتنى بقولهم، فقد صرحوا بأنّ كل ما حكم به العقل، حكم به الشرع، وكل ما حكم به الشرع حكم به العقل.

إنّ للعقل دوراً كبيراً في استنباط كثير من الأحكام التي يصلح للعقل القضاء فيها ويقدر على ادراك ملاك الحكم ومناطه نظير الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، ووجوب الشيء وحرمة ضده أو عدمهما، وجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه وصحة العبادة والمعاملة وفسادهما، واجزاء الأوامر الاضطرارية والظاهرية والأحكام المتفرعة على تنجيز العلم الاجمالي وما يستقل به العقل عند اليأس عن الأدلّة السمعية فيحكم بالبراءة أو الاشتغال أو التخيير، حسب ما اقتضاه المقام. بل له دور واسع في باب المعاملات وغيرها.

فهذه الملازمات وغيرها، من الأحكام العقلية، مصادر لاستنباط كثير من الأحكام واستكشاف ما هو المرضي لدى الشارع، يستريح إليه الفقيه في تأسيس الحكم الشرعي أو تحديده، وفي تشخيص الوظيفة العملية عند اليأس عن العثور على الأدلّة السمعية وبذلك يسد الفراغ المتوهم في التشريع الإسلامي.

كل ذلك يرشدنا إلى أنّ التشريع الإسلامي، يتبنى الواقع ولا يحيد عن متطلبات الحياة، وأنّه ليس لتعاليمه طابع الرمز والتعبد السماوي وأنّ للإسلام علاقة واقعية بالعقل، لا تجد مثلها في الشرائع الاُخرى، بل لا يسوغ لغيره أن يدخل العقل في مصادر تشريعه، ويعده أحد الأدلّة.

الثاني: إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد :

إنّ الأحكام الشرعية عند العدلية من المسلمين، الذين يمثلون الطبقة العليا

٢٦٧

منهم، تابعة لمصالح ومفاسد في متعلقاتها، فلا واجب إلّا لمصلحة في فعله، ولا حرام إلّا لمفسدة في اقترافه، وقد تحقق عندهم إنّ للتشريع الإسلامي نظاماً لا تعتريه الفوضى وهذا الأصل، وإن خالف فيه بعض الاُمّة، غير أنّ نظرهم محجوج بكتاب الله وسنّة نبيه ونصوص خلفائه: ترى أنّه سبحانه يعلّل حرمة الخمر والميسر بقوله :

( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) ( المائدة ـ ٩١ ).

ويستدل على وجوب الصلاة بقوله سبحانه:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ ) ( العنكبوت ـ ٤٥ ) إلى غير ذلك من الفرائض والمناهي التي صرح أو اُشير إلى ملاكات تشريعهما في الذكر الحكيم.

وقد قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضاعليه‌السلام : « إنّ الله تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلّا لما فيه المنفعة والصلاح، ولم يحرّم إلّا ما فيه الضرر والتلف والفساد »(١) .

وقالعليه‌السلام في الدم: « إنّه يسيء الخلق ويورث القسوة للقلب، وقلة الرأفة والرحمة ولا يؤمن أن يقتل ولده ووالده »(٢) .

وهذا باقر الاُمّة وإمامها يقول: « إنّ مدمن الخمر كعابد وثن، ويورثه الارتعاش، ويهدم مروته ويحمله على التجسّر على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا »(٣) .

وغيرها من النصوص المتضافرة عن أئمّة الدين(٤) .

فإذا كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في الموضوع، فالغاية المتوخّاة من تشريعها، إنّما هو الوصول إليها، أو التحرّز عنها، وبما أنّ المصالح والمفاسد ليست على

__________________

(١) مستدرك الوسائل: ج ٣ ص ٧١.

(٢) بحار الأنوار: ج ٦٢: ص ١٦٥، الحديث ٣.

(٣) المصدر نفسه ص ١٦٤، الحديث ٢.

(٤) راجع علل الشرائع للشيخ الصدوق فقد أورد فيه ما أثر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة: في بيان علل التشريع وفلسفته.

٢٦٨

وزان واحد، بل ربّ واجب يسوغ في طريق احرازه، اقتراف بعض المحارم، لاشتماله على مصلحة كبيرة لا يجوز تركها أصلاً، وربّ حرام ذي مفسدة كبيرة، لا يجوز اقترافه، وإن استلزم ترك الواجب أو الواجبات.

ولأجل ذلك قد عقد الفقهاء باباً خاصاً، لتزاحم الأحكام وتصادمها في بعض الموارد، فيقدمون « الأهم على المهم » والأكثر مصلحة على الأقل منها، والأعظم مفسدة على الأحقر منها، وهكذا ويتوصّلون في تمييز الأهم عن المهم، بالطرق والامارات التي تورث الاطمئنان، وباب التزاحم في علم الاُصول غير التعارض فيه، ولكلّ أحكام.

وقد أعان فتح هذا الباب على حل كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربما يتوهم الجاهل أنّها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة، وأنّها من المعضلات التي لا تنحل أبداً، ولنأت على ذلك بمثال، وهو :

أنّه قد أصبح تشريح بدن الانسان في المختبرات من الضروريات الحيوية التي يتوقف عليه نظام الطب الحديث، فلا يتسنّى تعلم الطب إلّا بالتشريح والإطلاع على خفايا الأمراض والأدوية.

غير أنّ هذه المصلحة تصادمها، مصلحة احترام المؤمن حيّه وميّته، إلى حد أوجب الشارع، الاسراع في تغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن، ولا يجوز نبش قبره إذا دفن، ولا يجوز التمثيل به وتقطيع أعضائه، بل هو من المحرمات الكبيرة التي لم يجوز الشارع حتى بالنسبة إلى الكلب العقور، غير أنّ عناية الشارع بالصحة العامة وتقدم العلوم جعلته يسوغ اقتراف هذا العمل لتلك الغاية، مقدماً بدن الكافر على المسلم، والمسلم غير المعروف على المعروف منه، وهكذا

الثالث: التشريع الإسلامي ذو مادة حيوية

إنّ التشريع الإسلامي في مختلف الأبواب، مشتمل على اُصول وقواعد عامة، تفي باستنباط آلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري، على امتداد القرون

٢٦٩

والأجيال، وهذه الثروة العلمية، التي اختصت بها الاُمّة الإسلامية من بين سائر الاُمم، أغنت الشريعة الإسلامية عن التمسّك بكل تشريع سواها.

وقد تضافرت الروايات على أنّ جميع ما يحتاج الناس إليه قد جاءت فيه آية محكمة أو سنّة متّبعة.

أخرج الكليني باسناده عن عمر بن قيس عن أبي جعفرعليه‌السلام قال سمعته يقول: إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً.

روي باسناده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال سمعته يقول: ما من شيء إلّا وفيه كتاب أو سنّة.

اُخرج عن سماعة عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام قال: قلت له: أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه، أو تقولون فيه ؟ قال: بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه(١) .

وهذا العلّامة الحلي، أحد فقهاء الإمامة في القرن الثامن، قد ألّف عشرات الكتب في الفقه واُصوله، منها « تحرير الأحكام الشرعية » وقد حوى من الأحكام والقوانين ما يربو على أربعين ألف مسألة، استنبطها من هذه الاُصول الواردة في القرآن والسنّة النبوية، والأحاديث المأثورة عن أئمّة الدين، رتبها على ترتيب كتب الفقه في أربع قواعد: العبادات، والمعاملات، والايقاعات، والأحكام(٢) .

وجاء من بعده من الفقهاء والمجتهدين، فبحثوا عن موضوعات وأحكام، لم تكن لعصره بها صلة، فاستخرجوا ما لها من الحكم الشرعي، من تلكم الاُصول والقواعد بوضوح وانطلاق، ولم يجدوا التشريع الإسلامي عاجزاً في هذه المجالات.

__________________

(١) راجع الكافي « باب الرد إلى الكتاب والسنّة » ج ١ ص ٥٩ ـ ٦٢، تجد فيه أحاديث تصرح بما ذكر، والمراد منها اُصول الأحكام وجذورها لا فروعها وجزئياتها.

(٢) راجع الذريعة: ج ٤ ص ٣٧٨.

٢٧٠

وهذا « صاحب الجواهر » ذلك الفقيه الأعظم، من فقهاء القرن الثالث عشر الإسلامي، قد جاء في مشروعه الوحيد « جواهر الكلام » بأضعاف ما جاء به العلّامة الحلي، فإنّ الباحث عندما يقف أمام هذا الكتاب الثمين وينظر في مباحثه، يرى أمامه بحراً يزخر بالدرر التي تحار في حصرها النهى والخواطر وتنبهر لها عيون البصائر، فلقد حوى من الفروع والقوانين، ما يعسر عدها.

ولأجل ذلك استعارت منا الاُمم الغربية كثيراً من قوانينه، ( بعكس ما نحن عليه الآن من تبعيّتنا للقوانين الأجنبية ) وليس ذلك إلّا لأجل كون الفقه الإسلامي ذا مادة حيوية، وقواعد متموّجة، تستطيع أن تواجه الأحداث الطارئة طيلة القرون.

يوم كان الإسلام يبسط ظله على أكثر من نصف المعمورة، حيناً من الدهر وإنّ الاُمّة الإسلامية، كانت تتألّف من شعوب مسلمة مختلفة الألوان، لكلّ بيئة خواصها في العادات والتقاليد، وما يقع فيها من وقائع وأحداث، كان التشريع الإسلامي بقواعده واُصوله الوافرة، وافياً لاستخراج أحكامها، من دون أن تمدّ يدها إلى المساعدات الأجنبية.

الرابع: تشريع الاجتهاد

وهو بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية عن مصادرها المعينة، وهو رمز خلود الدين وبقاء قوانينه، لأنّه يحفظ غضاضة الدين وطراوته، ويجدده ويصونه عن الإندراس، ويغني المسلمين عن موائد الأجانب، باعطائه كل موضوع ما يقتضيه من حكم.

« أمّا لزوم فتح هذا الباب في أعصارنا هذه فلا يحتاج إلى البرهنة والدليل إذ نحن في زمن تتوال فيه المخترعات والصناعات، وتجعلنا هذه المجالات أمام أحد اُمور :

أمّا بذل الوسع في استنباط أحكام الموضوعات الحديثة، من الاُصول والقواعد الإسلامية.

أو اتباع المبادئ الاوربية، من غير نظر إلى مقاصد الشريعة، وأمّا الوقوف من غير

٢٧١

اعطاء حكم »(١) .

« وليس الاجتهاد من البدع المحدثة، فإنّه كان مفتوحاً في زمن النبوّة وبين أصحابهصلى‌الله‌عليه‌وآله فضلاً عن غيرهم، وفضلاً عن سائر الأزمنة التي بعده، نعم غايته إنّ الاجتهاد يومئذ، كان خفيف المؤونة جداً، لقرب العهد، وتوفّر القرائن، وامكان السؤال المفيد للعلم القاطع، ثم كلّما بعد العهد من زمن الرسالة وكثرت الآراء والأحاديث والروايات، ربّما قد دخل فيها الدس والوضع، وتوفرت دواعي الكذب على النبي، أخذ الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي، يصعب ويحتاج إلى مزيد من المؤونة واستفراغ الوسع »(٢) .

ويرشدك إلى وجوده في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قول الرسول لأمير المؤمنينعليه‌السلام عندما بعثه إلى اليمن: قال عليعليه‌السلام : بعثني رسول الله إلى اليمن، قلت يا رسول الله تبعثني وأنا شاب، أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء ؟ قال: فضرب بيده في صدري وقال: « اللّهمّ أهد قلبه وثبّت لسانه » فو الذي نفسي بيده ما شككت في قضاء بين اثنين(٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمعاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن: بم تقضي ؟ قال: بما في كتاب الله، قال فإن لم تجد ؟ قال: بما في سنّة رسول الله، قال: فإن لم تجد ؟ قال: اجتهد رأيي، ولا آلو جهداً، فسر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسوله بما يرضي رسوله(٤) .

__________________

(١) رسالة الإسلام، السنة الثالثة، العدد الثاني، عن مقال « أحمد أمين المصري ».

(٢) أصل الشيعة واُصولها، ص ١١٩ طبعة بيروت.

(٣) أعلام الورى: ص ١٣٧، والبحار: ج ٢١ ص ٣٦١، وشتان بين علمه واجتهادهعليه‌السلام وعلم الآخرين واجتهادهم.

(٤) الطبقات الكبرى: ج ٢ ص ٣٤٧ والاستيعاب، لابن عبد البر، في ترجمة « معاذ » واللفظ للثاني.

أقول: لو صح الحديث يكون المراد منه باعتبار وروده في أمر القضاء، هو فصل الخصومة في الأموال والنفوس، بما يعدها العقلاء عدلاً وأنصافاً وهذا المراد من قوله: اجتهد رأيي. وعندئذ لا يكون الحديث دليلاً على صحة مطلق الرأي حتى المستند إلى القياس والاستحسان واشباههما التي لا قيمة لها عندنا في عالم الاستنباط.

٢٧٢

« وبطبيعة الحال، أنّ الصحابي قد يسمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في واقعة، حكماً ويسمع الآخر في مثلها خلافه، وتكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير الحكمين وغفل أحدهما عن الخصوصية أو التفت إليها وغفل عن نقلها مع الحديث فيحصل التعارض في الأحاديث ظاهراً، ولا تنافي واقعاً، ولهذه الأسباب وأضعاف أمثالها، احتاج حتى نفس الصحابة الذين فازوا بشرف الحضور، في معرفة الأحكام إلى الاجتهاد، والنظر في الحديث وضم بعضه إلى بعض والالتفات إلى القرائن الحالية، فقد يكون للكلام ظاهر، ومراد النبي خلافه اعتماداً على قرينة في المقام، والحديث نقل، والقرينة لم تنقل ».

« وكل واحد من الصحابة، ممن كان من أهل الرأي والرواية، تارة يروي نفس ألفاظ الحديث، للسامع من بعيد أو قريب، فهو في هذا الحال راو ومحدّث وتارة يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية أو الروايات، بحسب نظره فهو في هذا الحال، مفت وصاحب رأي »(١) .

ولم يزل هذا الباب مفتوحاً عند الشيعة، من زمن صاحب الرسالة إلى يومنا هذا، وقد تخرج منهم الآلاف من المجتهدين والفقهاء، قد أحيوا الشريعة وأنقذوها من الانطماس، وأغنوا بذلك الاُمّة الإسلامية في كل مصر وعصر، عن التطلع إلى موائد الغربيين، وألّفوا مختصرات ومتطوّلات، لا يحصيها إلّا الله سبحانه.

وقد اقتدى الشيعة في فتح هذا الباب على مصراعيه في وجه الاُمّة بأئمّة دينهم وخلفاء رسولهم، الذين حثوا شيعتهم بأقوالهم وأفعالهم، على التفقّه في الدين والاجتهاد فيه، وأنّه « من لم يتفقّه، فهو اعرابي » وأرشدوهم إلى كيفية استخراج الفروع المتشابكة، من الآيات والاُصول المتلقاة عنهم، بالتدبر في الآيات والاُصول المتلقاة عنهم، وأمروا أصحابهم بالتفريع(٢) وقد بلغت عنايتهم بذلك ما جعلهم ينصبون بعض من يعبأ بقوله ورأيه في منصب الافتاء، إلى غير ذلك.

__________________

(١) أصل الشيعة: ص ١١٨.

(٢) ستوافيك روائع نصوصهم في هذا المضمار.

٢٧٣

والاجتهاد كما عرّفناك هو بذل الجهد في استنباط الأحكام عن أدلّتها الشرعية فلا يحتج به إلّا إذا بنيت أحكامه على أساس الكتاب والسنّة، وما يرجع إليها فهو مقيد من هذه الجهة وإن كان متحرراً من سوى ذلك، فلا يتقيد بمذهب ولا برأي، بل هو فوق المذاهب.

غير أنّ أئمّة أهل السنّة، قد أقفلوا باب الاجتهاد، إلّا الاجتهاد في مذهب خاص، كمذهب أبي حنيفة والشافعي، وبما أنّ الفتاوى المنقولة عنهم، مختلفة أخذ علماء كل مذهب يبذلون جهدهم لتشخيص ما هو رأي كل إمام في هذا الباب.

ولا أدري لماذا اقفل هذا الباب المفتوح من زمن الرسول، وإن تفلسف في بيان وجهه، بعض الكتّاب من متأخّريهم، وقال: ولم يكن مجرد اغلاق باب الاجتهاد باجتماع بعض العلماء واصدار قرار منهم، وإنّما كان حالة نفسية واجتماعية ذلك أنّهم رأوا غزو التتار لبغداد وعسفهم بالمسلمين، فخافوا على الإسلام ورأوا أنّ أقصى ما يصبون إليه، هو أن يصلوا إلى الاحتفاظ بتراث الأئمّة مما وضعوه واستنبطوه(١) .

ولا يكاد يخفى على القارئ الكريم ما في اعتذاره من الاشكال.

ولقد صدع بالحق الدكتور « حامد حفني داود » اُستاذ الأدب العربي بكلية الألسن في القاهرة في ما قدمه على كتاب عقائد الإمامية(٢) وقال :

إنّ الصورة المتوارثة عن جهابذة أهل السنّة أنّ الأجتهاد اُقفل بابه بأئمّة الفقه الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل.

هذا إذا عنينا الاجتهاد المطلق أمّا ما حاوله الفقهاء بعد هؤلاء من اجتهاد لا يعدو أن يكون اجتهاداً في المذهب أو اجتهاداً جزئياً في الفروع، وأنّ هذا ونحوه لا يكاد يتجاوز عند أهل السنّة القرن الرابع بحال من الأحوال، أمّا ما جاء عن الغزالي في القرن الخامس، وأبي طاهر السلفي في القرن السادس، وعز الدين بن عبد الله السلام وابن

__________________

(١) رسالة الإسلام: العدد الثالث، من السنة الثالثة عن مقال لأحمد أمين المصري.

(٢) للعلاّمة المغفور له الشيخ محمد رضا المظفر راجع ص ١٧ ـ ١٨ من المقدمة.

٢٧٤

دقيق العيد في القرن السابع، وتقي الدين السبكي، وابن تيمية في القرن الثامن والعلاّمة جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر السيوطي في القرن التاسع فإنّ هذا ونحوه لا يتجاوز ـ في نظر المنهج العلمي الحديث ـ باب الفتوى ولا يدخل في شيء من الاجتهاد، وهو القدر الذي أوضحناه في كتابنا « تاريخ التشريع الإسلامي في مصر ».

أمّا علماء الشيعة الإمامية فإنّهم يبيحون لأنفسهم الاجتهاد في جميع صوره التي حدّثناك عنها، ويصرّون عليه كل الاصرار ولا يقفلون بابه دون علمائهم في أي قرن من القرون حتى يومنا هذا.

وأكثر من ذلك تراهم يفترضون بل يشترطون وجود « المجتهد المعاصر » بين ظهرانيهم، ويوجبون على الشيعة اتباعه رأساً دون من مات من المجتهدين مادام هذا المجتهد المعاصر استمد مقوّمات اجتهاده ـ اُصولها وفروعها ـ من المجتهدين، وورثها عن الأئمّة كابراً عن كابر.

وليس هذا غاية ما يلفت نظري أو يستهوي فؤادي في قولهم بالاجتهاد.

وإنّما الجميل والجديد في هذه المسألة أنّ الاجتهاد على هذا النحو الذي تقرأه عنهم يساير سنن الحياة وتطوّرها، ويجعل النصوص الشرعية حية متحركة نامية متطورة، تتمشى مع نواميس الزمان والمكان، فلا تجمد ذلك الجمود الذي يباعد بين الدين والدنيا، أو بين العقيدة والحياة الذي نشاهده في أكثر المذاهب التي تخالفهم. ولعل ما نلاحظه من كثرة عارمة في مؤلفات الإمامية وتضخّم مطّرد في مكتبة التشيّع راجع ـ في نظرنا ـ إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه ».

هذا هو الاجتهاد، وهذا دوره في خلود الدين وصلوحه للظروف والبيئات ولم يكن اغلاقه إلّا جهلاً بأهميته أو ابتغاء للفتنة، أو تزلفاً إلى أبناء الدنيا، أو جبناً عن النطق بالصواب، وعلى أي تقدير فقد تنبّه بعض الجدد(١) من أهل النظر بلزوم فتحه وإنمائه، وأنّ الاجتهاد أحد مصادر الشريعة التي تسع كل تطور تشريعي، قال في مقال

__________________

(١) الاُستاذ علي علي منصور المصري مستشار مجلس الدولة لمحكمة القضاء الاداري.

٢٧٥

له حول الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية بمصر وإثبات ما عليه القواعد الشرعية من سموّ وشمول ودقة وأحكام مع اتسامها دائماً بالجدة، وملائمة أحكامها لكل حضارة ولكل بيئة ولكل زمان: « النصوص الشرعية للأحكام التي وردت في الكتاب والسنّة قليلة إذا ما قيست بمواد القانون في أي شريعة وضعية، إذ الآيات القرآنية التي تضمّنت اُصول الأحكام على ما أحصاها ابن قيم الجوزية لا تعدو مائة وعشرين آية من نيف وستة آلاف آية، أمّا الأحاديث فخمسمائة من أربعة آلاف حديث، ولقد أراد الله بذلك أن يهيأ للناس فرصة الاجتهاد في الفروع دون الاُصول، فجعل النصوص الأصلية لقواعد الشريعة عامة، دون التعمّق في التفاصيل ليتسع لها عقل من نزل فيهم القرآن وليترك للقوى الانسانية التي أودعها مخلوقاته، فرصة العمل والتفكير والتدبير واستنباط الأحكام فيما لا نص فيه من كتاب أو سنّة، لما يجد ويعرض لهم في حياتهم من مشاكل وأقضية تختلف باختلاف الزمان والمكان، وهذا هو الاجتهاد وهو أحد مصادر الشريعة المحمدية.

ومشروعية هذا المصدر ثابتة من حديث معاذ بن جبل إذ أنّه لـمّا بعثه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن قال له: بم تقض يا معاذ؟ قال: بكتاب الله، قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن لم تجد ؟ قال: فبسنّة رسول الله، قال: وإن لم تجد ؟ قال: اجتهد برأيي، فأقره على ذلك »(١) وما كان يمكن أن ينزل الكتاب والسنّة على غير هذا الاجمال والتعميم، لأنّ هذه الشريعة إنّما نزلت لكل زمان وكل مكان:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) .

ولو أنّ صاحب الشريعة عني بالتفاصيل والجزئيات لوجب أن يقدر ما سيكون عليه العالم من نظم مختلفة واختراعات مستحدثة في جميع الأمكنة والأزمنة فيضع لها ولما تفرّع عنها، من التفاصيل، ولو أنّه فعل ذلك لما اتسع وقت الرسالة لهذا كلّه، بل لأعرض الناس عن هذه الدعوة لتعقدها، ولأنّها تضمّنت أحكاماً عن جزئيات ومخترعات لا تقع تحت حسهم، ويصعب عليهم تصورها، لأنّها لم تعرف في زمانهم، ولنضرب لذلك مثلاً

__________________

(١) قد مر المراد من الحديث فلاحظ.

٢٧٦

فقد نزلت في القرآن آية تضمّنت الحكم العام لآداب التلاوة وجرت على نسق مختصر:( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) وحدث بعد نزولها بنيف وألف وثلثمائة عام أن اخترع المذياع ( الراديو والتلفزيون )، ولما بدأ باذاعة آيات الذكر الحكيم به، بدأ التسائل عن حكم الشرع والدين في ذلك أحلال هو أم حرام ؟ وهل تصح اذاعته في منتدى ترتكب فيه الآثام والموبقات وتدار كؤوس الخمر ؟

لا بدع في أنّ حكم هذه الجزئية لم يرد بنص صريح في الكتاب، وانّ ذلك ترك للاجتهاد على هدى الحكم العام الوارد بالآية الشريفة، لا بدع في ذلك، إذ لو اُريد للشريعة أن تتضمّن الأحكام المفصلة لجميع الفروع والجزئيات لوجب أوّلاً افهام الذين نزل عليهم الدين وقت الرسالة ما هو الراديو وما هو التلفزيون، ولو حاول الرسول ذلك وقال لهم: إنّ مخترعات البشر باذن الله ستجيء للعالم بعد ألف وثلثمائة عام بآلة يستطيع بها الانسان أن يسمع ويرى صورة المحدث وهو على بعد آلاف الفراسخ والأميال، لما صدّقوه لعدم امكانهم تصوره ولجادلوه فأكثروا جداله في كنه تلك الآلة، ولما لزمتهم حجته في أنّ الذي يقوله ليس من عنده وإنّما هو من عند الله لأنّ الحجة لا تلزمها صفة الاقناع إلّا متى دخلت مناط العقل، أمّا إذا كانت فوق إدراك المرسل إليهم فهي داحضة

والاجتهاد هو الباب الذي دخلت منه إلى حضيرة الشريعة الإسلامية كل الحضارات بما فيها من مشاكل قانونية ومالية واجتماعية فوسعها جميعاً وبسط عليها من محكم آياته وسديد قواعده ما أصاب المحجة، فكان للشريعة الإسلامية في ذلك تراث ضخم تسامي على كل الشرائع وأحاط بكل صغيرة وكبيرة من اُمور الدين والدنيا

أفبعد ذلك يصح في الأفهام أن تتهم الشريعة الإسلامية بالقصور، أو بأنّها نزلت لعرب الجزيرة لتعالج اُمورهم في حقبة من الزمان انقضى عهدها، أو أنّها تضيق عن أن تجد الحلول لمشاكل الحضارات الحديثة، إرجعوا إليها وإلى تراثها الضخم تجدوا أنّها عالجت الجليل والخطير والصغير والكبير من اُمور الدين والدنيا فيها ذكر ما مضى ،

٢٧٧

وفيها ذكر الحاضر، وفيها ذكر المستقبل وسيظل العلم الحديث يكشف عمّا فيها من كنوز وستترى المشاكل على العالم جيل بعد جيل، ويضطرب العالم في محاولة الحلول لها دون جدوى إلّا إذا رجع إلى أحكام هذا الدين وهذه الشريعة المحكمة السمحة، حيث الدواء الشافي والعلاج الحاسم لكل ما يجيب العالم في حاضره وفي مستقبله(١) .

وممّا يؤيد لزوم انفتاح باب الاجتهاد إلى يوم القيامة هو ما ذكره المقريزي في خططه حيث قال ما هذا ملخّصه :

انّه لم يكن كل واحد من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله متمكناً من دوام الحضور عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأخذ الأحكام عنه، بل كان في مدة حياته يحضره بعضهم دون بعض وفي وقت دون وقت، وكان يسمع جواب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن كل مسألة يسأل عنها بعض الأصحاب ويفوت عن الآخرين فلمّا تفرق الأصحاب بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله في البلدان تفرقت الأحكام المروية عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها، فيروى في كل بلدة منها جملة، ويروى عنه في غير تلك البلدة جملة اُخرى حيث أنّه قد حضر المدني من الأحكام ما لم يحضره المصري، وحضر المصري ما لم يحضره الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضره البصري، وحضر البصري ما لم يحضره الكوفي إلى غير ذلك، وكان كل منهم يجتهد فيما لم يحضره من الأحكام.

ولعدم تساوي هؤلاء المجتهدين في العلوم والإدراكات وسائر القوى والملكات تختلف طبعاً الآراء والاجتهادات، فمجرد تفاوت أشخاص الصحابة تسبب اختلاف فتواهم ثم تزايد ذلك الاختلاف بعد عصر الصحابة.

ثمّ قال: ثمّ بعد الصحابة تبع التابعون فتاوى الصحابة فكانوا لا يتعدون عنها غالباً، ولما مضى عصر الصحابة والتابعين صار الأمر إلى فقهاء الأمصار أبي حنيفة والسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريح بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان التيمي ( الظاهر عثمان بن مسلم البطي ) وسوار بالبصرة، والأوزاعي بالشام والليث بن سعد بمصر فكان هؤلاء الفقهاء يأخذون من التابعين وتابعيهم أو يجتهدون.

__________________

(١) مجلة رسالة الإسلام لجماعة دار التقريب العدد الأوّل من السنة الخامسة.

٢٧٨

وذكر المقريزي في الجزء الرابع من الخطط ما هذا ملخّصه :

انّه تولّى القاضي أبو يوسف القضاء من قبل هارون الرشيد بعد سنة ١٧٠ إلى أن صار قاضي القضاة فكان لا يولّي القضاء إلّا من أراده، ولـمّا كان هو من أخص تلاميذ أبي حنيفة فكان لم ينصب للقضاء ببلاد خراسان والشام والعراق وغيرها إلّا من كان مقلّداً لأبي حنيفة، فهو الذي تسبب في نشر مذهب الحنفية في البلاد.

وفي آوان انتشار مذهب الحنفية في المشرق نشر مذهب مالك في افريقية المغرب، بسبب زياد بن عبد الرحمان، فإنّه أوّل من حمل مذهب مالك إليها، وأوّل من حمل مذهب مالك إلى مصر سنة ١٦٠ هو عبد الرحمان بن القاسم.

قال: ونشر مذهب محمد بن ادريس الشافعي في مصر بعد قدومه إليها سنة ١٩٨ وكان المذهب في مصر لمالك والشافعي إلى أن أتى القائد « جوهر » بجيوش مولاه « المعز لدين الله أبي تميم معد » الخليفة الفاطمي، إلى مصر سنة ٣٥٨ فشاع بها مذهب الشيعة حتى لم يبق بها مذهب سواه ( أي سوى مذهب الشيعة ).

ثمّ إنّ المقريزي بين بدء انحصار المذاهب في أربعة فقال :

فاستمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة ٦٦٥ حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة وعودي من تمذهب بغيرها، وانكر عليه ولم يول قاض ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم(١) .

وهذه الكلمة الأخيرة « وتحريم ما عداها » تكشف عن أعظم المصائب على الإسلام حيث أنّه قد مضى الإسلام ما يقرب من سبعة قرون ومات فيها على دين الإسلام ما لا يحصى عددهم إلّا ربّهم ولم يسمع أحد من أهل القرنين الأوّلين اسم المذاهب أبداً ثم فيما بعد القرنين كان المسلمون بالنسبة إلى الأحكام الفرعية في غاية من

__________________

(١) راجع الخطط المقريزية: ج ٢ ص ٣٣٣ و ٣٣٤ و ٣٤٤.

٢٧٩

السعة والحرية، كان يقلد عاميهم من اعتمد عليه من المجتهدين وكان المجتهدون يستنبطون الأحكام عن الكتاب والسنّة على موازينهم المقررة عندهم في العمل بالسنّة النبوية، فأي شيء أوجب في هذا التاريخ على عامة المسلمين: « العامي المقلد والفقيه المجتهد » أن لا يخرج أحد في الأحكام الشرعية عن حد تقليد الأئمّة الأربعة، وبأي دليل شرعي صار اتباع أحد المذاهب الأربعة واجباً مخيراً، والرجوع إلى ما ورائها حراماً معيّناً مع علمنا بأحوال جميع المذاهب من بدئها وكيفية نشرها وتأثير العوامل في تقدم بعضها على غيرها، بالقهر والغلبة من الدولة والحكومة كما أفصح عن بعض ذلك ما ذكره ابن الفوطي في الحوادث الجامعة، ص ٢١٦ في وقائع سنة ٦٤٥ يعني قبل انقراض بني العباس باحدى عشرة سنة في أيام المستعصم الذي قتله هولاكو، سنة ٦٥٦ فلاحظ ذلك الكتاب(١) .

وفي الختام نلفت نظر القارئ الكريم لمعرفة قضية الاجتهاد وتطورة وعلل إيصاد بابه لدى بعض المسلمين إلى المصادر التالية :

١. المواعظ والاعتبار في الخطط والآثار: تأليف الشيخ تقي أبو العباس المعروف بالمقريزي المولود في بعلبك عام ٧٦٦ والمتوفّى بالقاهرة عام ٨٤٥.

٢. تاريخ اليعقوبي المعروف بابن واضح وقد طبع عام ١٣٥٨.

٣. الحوادث الجامعة في المائة السابعة لكمال الدين عبد الرزاق بن المروزي الفوطي البغدادي المتوفّي سنة ٧٢٣.

٤. الانصاف في بيان سبب الاختلاف.

٥. عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد: ألّفهما ولي الله الدهلوي المولود سنة ١١١٤ والمتوفّى ١١٨٠.

٦. الاقليد لأدلّة الاجتهاد والتقليد.

__________________

(١) راجع تاريخ حصر الاجتهاد لشيخنا العلّامة الطهراني ص ١٠٤.

٢٨٠

٧. الطريقة المثلى في الاشارة إلى ترك التقليد: ألّفهما صديق حسن خان القنوجي البخاري المتوفّى سنة ١٣٠٧، وطبعا بالاستانة عام ١٢٩٥.

٨. حصول المأمول من علم الاُصول: له أيضاً طبع في الجوائب سنة ١٢٩٦.

٩. مقالة صاحب السعادة أحمد تيمور باشا ابن إسماعيل بن محمد المولود في القاهرة سنة ١٢٨٨ وهي تحت عنوان نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة، طبعت مستقلة في القاهرة سنة ١٣٤٤.

١٠. ما كتبه محمد فريد وجدي في دائرة معارفه في مادتي « جهد وذهب » وما كتبه يعد أبسط ما كتب في الموضوع.

١١. أعلام الموقعين عن ربّ العالمين: للحافظ ابن القيم.

١٢. تاريخ حصر الاجتهاد: لشيخنا العلّامة الطهراني المتوفّى يوم الجمعة ١٣ ذي الحجة عام ١٣٨٩.

إلى غير ذلك من المؤلفات، وقد أشار إلى غير ما ذكرنا صديق حسن خان في كتابه حصول المأمول في علم الاُصول ص ١٩٨.

الحقيقة بنت البحث :

كلمة موجزة ومثل سائر، يهدف إلى أوضح الحقائق وأنصعها ويفيد أنّ الوقوف على الحقيقة وإماطة الستر عن وجهها وليد النقاش العلمي ووليد المحادثة وهذا مما لا يرتاب فيه أحد ويدركه كل من له حظ من الفكر والنظر.

وفي الحقيقة إنّ التقاء أفكار ذوي الآراء كالتقاء الأسلاك الكهربائية، فكما أنّ الأشعة الكهربائية، تتفجر من اتصالها سلباً وإيجاباً، فكذلك نور الحقيقة يشع أمامنا بتبادل الفكرتين وتعارضهما بالنفي والإيجاب.

إذ طالما يتخيل للانسان أنّه صائب في فكره ونظره، فإذا عرضه للبحث والنقاش

٢٨١

وتوارد عليه النفي والاثبات ربّما ظهر وهنه وضعفه.

نعم يجب على الباحث عن الحقيقة أن يعرض آراءه وأفكاره للجو الهادئ المتحرر عن التعصب لفئة غابرة، أو فكرة حاضرة، الشاخص أمام كل رأي فارغ عن الدليل والبرهنة، فالاجتهاد بهذا النحو رمز كشف الحقيقة، رمز خلود الإسلام وبقائه، رمز كونه غضاً طرياً في كل عصر وجيل.

نعم ربّما يجد الناشئ الجديد في نفسه حرجاً عند وقوفه على اختلاف أصحاب الآراء والمذاهب في اُصول الإسلام وفروعه، ويتخيله حاجزاً يعرقل خطاه عن الوصول إلى الواقع، ويتمنّى رفع الخلاف الفكري في المسائل من رأس بتأسيس مؤتمرات علمية من ذوي الأفكار.

بل ربّما نسمع من بعض الشباب سؤالاً يوجهه إلى الهيئات العلمية الإسلامية ويقول كان في وسع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجمع اُصول الإسلام وفروعه وكل ما يرجع إليه في كتاب، ويتركه بين الاُمّة حتى يسد بذلك باب التقوّل من بعده على المتقوّلين، فلماذا لم يفعل ذلك ؟!

لكنّه رأي غير ناضج، إذ لو جمعها النبي في كتاب وسلمه إلى الاُمّة، لاستولى الركود الفكري والتدهور العقلي على عقلية الاُمّة، وانحسر كثير من المفاهيم والقيم الإسلامية عن ذهنيتها، وأوجب ضياع العلم وتطرق التحريف إلى اُصوله وفروعه حتى إلى الكتاب الذي كتب فيه كل صغير وكبير.

فلم تقم للإسلام دعامة، ولا حفظ كيانه ونظامه، إلّا على ضوء هذه البحوث العلمية والنقاشات الدارجة بين العلماء، ورد صاحب فكر على ذي فكر آخر بلا محاباة.

وقد حكى شيخنا العلّامة المتضلّع شيخ الشريعة الاصفهاني(١) في مقدمة

__________________

(١) فقيه متضلّع، اُصولي بارع، خبير باسرار الحديث والتفسير فهو ممن يضن بهم الدهر إلّا في فترات يسيرة، كانرحمه‌الله آية في الذكاء والحفظ، أثنى عليه كل من أدركه وقرأ عليه، توفّي عام ١٣٣٩ هجرية قمرية في النجف الأشرف ودفن في الصحن الحيدري.

٢٨٢

كتابه(١) عن بعض الأعلام كلاماً يعرب عمّا قلناه، قال: إنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الاُمّة التي أعظم الله بها عليهم النعمة، حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابين، المؤدية إلى تحريف ما فيها، وإندارس تينك الملتين، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخول إلّا بيّنوه، ولفاعل فيه تحريف، إلّا قوّموه، حتى اتضحت الآراء وانعدمت الأهواء ودامت الشريعة البيضاء على ملئ الآفاق بأضوائها وشفاء القلوب بها من أدوائها، مأمونة عن التحريف، ومصونة عن التصحيف.

شبهة حول الاجتهاد الدارج في عصرنا :

ربّما يختلج في اذهان بعض القصر من الناس عدم مشروعية الاجتهاد الدارج في أعصارنا هذه مستدلاً بأنّ الفقه في هذه الأعصار أخذ لنفسه صورة فنية، وجاء على طراز سائر العلوم العقلية الفكرية بعدما كان في أعصار المتقدمين من العلوم البسيطة المبنية على سماع الأحكام من النبي والأئمّة وبثّها بين الناس من دون أن يجتهد الراوي في تشخيص حكم الله ويرجّح دليلاً على الآخر، أو يقيده أو يخصّص واحداً بالآخر، إلى غير ذلك من الاُصول الدارجة في زماننا.

الجواب عن الشبهة :

إنّ ذلك أشبه شيء بالشبهة ويمكن الجواب عنه بوجهين :

الأوّل: أنّ الاجتهاد بالمعنى الوسيع وأعمال النظر في الروايات، والتدقيق في دلالتها، وترجيح بعضها على بعض، كان موجوداً في أعصارهم، دارجاً بين أصحابهم فإنّ الاجتهاد وإن توسع نطاقه في أعصارنا وبلغ مبلغاًعظيماً، إلّا أنّ أصل الاجتهاد بالمعنى الجامع بين عامة مراتبه كان دارجاً في تلك الأعصار وأنّ الأئمّة أرجعوا شيعتهم إلى فقهاء أعصارهم، وكانت سيرة الناس الرجوع إليهم من دون تزلزل وتردد، أمّا ما يدل

__________________

(١) ابانة المختار، مخطوط نحتفظ بنسخة منه.

٢٨٣

على وجود الاجتهاد بهذا المعنى في أعصارهم فعدة روايات هي :

١. ما رواه ابن ادريس في « مستطرقات السرائر » نقلاً عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: إنّما علينا أن نلقي إليكم الاُصول وعليكم أن تفرّعوا(١) .

٢. ما روى عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضاعليه‌السلام : « قال علينا القاء الاُصول وعليكم التفريع »(٢) فإنّ التفريع الذي هو استخراج الفروع عن الاُصول الكلية الملقاة، وتطبيقها على مواردها وصغرياتها، إنّما هو شأن المجتهد وما هو إلّا الاجتهاد، نعم التفريع والاجتهاد يتفاوت صعوبة كما يتفاوت نطاقه حسب مرور الزمان، فإذا قالعليه‌السلام : لا تنقض اليقين بالشك، أو روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ضرر ولا ضرار، كان على المخاطبين وعلى علماء الأعصار المستقبلة استفراغ الوسع في تشخيص صغرياتها وما يصلح أن يكون مصداقاً له أو لا يصلح، فهذا هو ما نسميه الاجتهاد.

٣. ما رواه الصدوق في معاني الأخبار عن داود بن فرقد، قال: سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا إنّ الحكمة لتصرف على وجوه ولو شاء انسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب(٣) .

فإنّ عرفان معاني الكلام ليس إلّا تشخيص ما هو الأظهر بين المحتملات، بالفحص عن القرائن الحافّة بالكلام وبعرض أخبارهم على الكتاب والسنّة إلى غير ذلك ممّا يتضح به المراد، ويتعيّن ما هو المفاد، وليس هذا إلّا الاجتهاد.

٤. ما رواه الصدوق في عيونه بإسناده عن الرضاعليه‌السلام قال: من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم، ثم قال: إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ومتشابهاً كمتشابه القرآن فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا(٤) فإنّ رد المتشابه إلى محكمه يجعل أحدهما قرينة على الآخر، لا يتحقق

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ج ١٨: ص ٤١ ـ ٤٢، كتاب القضاء الباب ٦ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٥١ و ٥٢.

(٣ و ٤) الوسائل: ج ١٨ كتاب القضاء الباب التاسع من أبواب صفات القاضي الحديث ٢٧ و ٢٢.

٢٨٤

بدون الاجتهاد.

٥. الروايات الواردة في تعليم أصحابهم كيفية استفادة الأحكام والفروع عن الذكر الحكيم، مثل قول الإمام الباقرعليه‌السلام بعد ما سأله زرارة بقوله: إلّا تخبرني من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك وقال: يا زرارة قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ونزل به الكتاب عن الله عزّ وجلّ قال:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثم قال:( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ ) فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال:( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) فعرفنا حين قال:( بِرُءُوسِكُمْ ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال:( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ثم فسّر ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فضيّعوه(١) .

٦. ما في رواية عبد الأعلى مولى آل سام بعد ما سأل الإمام عن حكم المسح على المرارة. قال: هذا واشباهه يعرف من كتاب الله عزّ وجلّ قال الله تعالى:( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ( الحج ـ ٧٨ ) امسح على المرارة، فقد أوضح على السائل كيفية الاستنباط، ورد الفروع على اُصولها(٢) ونظير ما تقدم بل أقوى منه ما في مرسلة(٣) يونس الطويلة الواردة في أحكام الحائض والمستحاضة، فإنّ فيها موارد ترشدنا إلى طريق الاجتهاد إلى غير ذلك من الروايات المرشدة إلى دلالة الكتاب وكيفية الاستدلال، وهي منبثّة في طيات أبواب الفقه فراجع :

٧. قول الباقرعليه‌السلام لزرارة ومحمد بن مسلم حيث سألا أبا جعفر الباقرعليه‌السلام وقالا له: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي ؟ فقال: إنّ الله عزّ

__________________

(١) الوسائل: ج ١ أبواب الوضوء الباب ٢٣ الحديث ١.

(٢) الوسائل: ج ١ أبواب الوضوء الباب ٣٩ الحديث ٥.

(٣) وسائل الشيعة: ج ٢ أبواب الحائض الباب ٣ الحديث ٤.

٢٨٥

وجلّ يقول:( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) ( النساء ـ ١٠١ ).

فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر، قالا قلنا: إنّما قال الله عزّ وجلّ:( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ) ولم يقل: « افعلوا » فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر ؟ فقالعليه‌السلام : أوليس قد قال الله عزّ وجلّ:( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) ( البقرة ـ ١٥٨ ).

ألاّ ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض لأنّ الله عزّ وجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيه وكذلك التقصير شيء صنعه النبي وذكره الله في كتابه(١) .

٨. مقبولة عمر بن حنظلة ورواه المشايخ العظام في جوامعهم وتلقاها الأصحاب بالقبول، بل عليها المدار في كتاب القضاء وهي تصرح بوجود الاجتهاد بالمعنى الدارج في زماننا في عصر الصادقعليه‌السلام ودونك متنها: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك ؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً لأنّه أخذ بحكم الطاغوت ـ إلى أن قال: ـ قلت: كيف يصنعان ؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي جعلته عليكم حاكماً ومن ردّه فإنّما بحكم الله استخف، وعلينا قد رد والراد علينا كالراد على الله وهو على حد الشرك بالله، قلت: فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.

قال: قلت: فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه ؟ قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمع

__________________

(١) الوسائل: ج ٥: ص ٥٣٨، الباب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر، الحديث٢.

٢٨٦

عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، إلى آخر ما أفاده وفيه إرشاد إلى كيفية استنباط الحكم عن الكتاب والسنّة، وعلاج الخبرين المتعارضين بعرضهما عليهما(١) .

٩. روى العباس بن هلال عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: ذكر أنّ ابن أبي ليلى وابن شبرمة دخلا المسجد الحرام فأتيا محمد بن عليعليه‌السلام فقال لهما: بما تقضيان ؟ فقالا: بكتاب الله والسنّة، قال: فما لم تجداه في الكتاب والسنّة؟ قالا: نجتهد رأينا، قالعليه‌السلام : رأيكما أنتما ؟

فما تقولان في امرأة وجاريتها كانتا ترضعان صبيين في بيت وسقط عليهما فماتتا وسلم الصبيان ؟ قالا: القافة، قال: القافة يتجهم منه لهما، قالا: فاخبرنا ؟ قال: لا !!

قال ابن داود: مولى له جعلت فداك بلغني أنّ أمير المؤمنين علياًعليه‌السلام قال: ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى الله وألقوا سهاهم إلّا خرج السهم الأصوب فسكت(٢) .

١٠. روى الصيقل عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قلت: رجل طلّق امرأته طلاقاً لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره فتزوّجها رجل متعة أتحل للأوّل ؟ قالعليه‌السلام : لا، لأن الله تعالى يقول:( فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا ) ( البقرة ـ ٢٣٠ ) والمتعة ليس فيها طلاق(٣) .

١١. روى الحسن بن الجهم قال: قال لي أبو الحسن الرضاعليه‌السلام : يا أبا محمد ما تقول في رجل يتزوّج نصرانية على مسلمة ؟ قلت: جعلت فداك، وما قولي بين يديك ؟ قال: لتقولنّ فإنّ ذلك تعلم به قولي، قلت: لا يجوز تزويج نصرانية على مسلمة ولا على غير مسلمة، قال: ولِمَ ؟ قلت: لقول الله:( وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ) ( البقرة ـ ٢٢١ ) قال: فما تقول هذه الآية :

__________________

(١) الوسائل كتاب القضاء ج ١٨ الباب التاسع من أبواب صفات القاضي الحديث ١.

(٢) التهذيب: ج ٩ باب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ص ٣٥٩.

(٣) الوافي: ج ٣ أبواب النكاح باب تحليل المطلّقة لزوجها ص ٤٧.

٢٨٧

( وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) ؟ ( المائدة ـ ٥ ) قلت فقوله:( وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ ) نسخت هذه الآية فتبسّمعليه‌السلام ثم سكت(١) .

١٢. بل يظهر من كثير من الروايات وجود الاجتهاد بين أصحاب الأئمّة ونورد من تلكم الروايات حديثاً واحداً.

روى حسن بن محمد بن سماعة قال: سمعت جعفر بن سماعة وسئل عن امرأة طلقت على غير السنّة: ألي أن أتزوّجها ؟ فقال: نعم، فقلت: أليس تعلم أنّ علي بن أبي حمزة، روى: « إيّاكم والمطلّقات ثلاثاً على غير السنّة فإنّهنّ ذوات الأزواج » ؟ فقال: يا بني رواية علي بن أبي حمزة أوسع على الناس، قلت: وأي شيء روى علي بن أبي حمزة ؟ قال: روى عن أبي الحسن أنّه قال: الزموهم من ذلك ما ألزموا به أنفسهم، وتزوّجوهنّ فأنّه لا بأس بذلك(٢) .

فقد اجتهد جعفر بن سماعة حيث قدم الخبر الثاني على الأوّل باحدى ملاكات التقديم.

وقد ألّف في هذا المضمار العلّامة الحجة السيد عبد الرسول الشيرازي رسالة ممتعة وطبع قسم منها في بعض المجلاّت نسأل الله أن يوفّقه لنشر الجميع.

الخامس: حقوق الحاكم الإسلامي :

من الأسباب الباعثة على بقاء الدين وكونه ذا مادة حيوية صالحة لحل المشاكل والمعضلات الطارئة، كون الحاكم الإسلامي بعد النبي ممثلاً لقيادته الحكيمة في اُمور الدين والدنيا، التي من شأنها أن توجّه المجتمع البشري إلى أرقى المستويات الحضارية الصحيحة، فقد منح مثل هذا الحاكم بنص الشريعة الإسلامية كافة الصلاحيات

__________________

(١) الوافي: ج ٣ ص ٢٦ باب نكاح الذمية المشركة.

(٢) الوافي: ج ٢ كتاب الطلاق ص ١٦١ باب أنّ المخالف يقع طلاقه.

٢٨٨

المؤدية إلى حق التصرف المطلق في كل ما يراه ذا مصلحة للاُمّة، لأنّه يتمتع بمثل ما يتمتع به النبي والإمام من النفوذ المطلق، إلّا ما يعد من خصائصهما.

وإلى ذلك يشير شيخ الاُمّة الميرزا النائيني في أثره الخالد « تنبيه الاُمّة وتنزيه الملة » ويقول: « فوّض إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يراه لازماً من المقررات لمصلحة الجماعة وسد احتياجاتها، في اطار القوانين الإسلامية »(١) .

مثلاً إذا رأى الحاكم، أنّ المصلحة تقتضي فتح طريق أو شارع، فقد فوض إليه ذلك الأمر، فله أن يقرر وينفذ ما يحقق هذه الغاية، في ضوء العدل والانصاف كاجبار أصحاب الأراضي التي يمر بها الطريق على بيع أراضيهم ووضع ضريبة على صنف خاص من الشعب، أو كلّه لتأمين هذه الغاية.

وله أن يقرر ما يراه مناسباً لتنظيم السير، متوخياً في ذلك سلامة النفوس وسهولة الذهاب والاياب، كل ذلك في إطار القوانين العامة الإسلامية.

وهذه الحقوق كانت ثابتة في الدرجة الاُولى، للنبي الأعظم، لقوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب ـ ٦ ) وبعده لخلفائه المعصومين، أئمّة الدين، وفوضت من بعدهم، إلى علماء الاُمّة وفقهائهم الذين اُلقيت على كواهلهم اُمور تدبير حياة الاُمّة، وصيانة الشريعة، بالأدلّة القطعية المقررة في محلها.

إنّ الحاكم الإسلامي إذا نجح في تأسيس حكومة إسلامية في قطر من أقطار الإسلام أو في مناطقه كلّها وتوفرت فيه الشرائط والصلاحيات اللازمة وأخص بالذكر العلم الوسيع والعدل، يجب على المسلمين اطاعته، وله من الحقوق والمناصب والولاية، ما للنبي الأكرم من اعداد القوات العسكرية ودعمها بالتجنيد وتعيين الولاة وأخذ

__________________

(١) تنبيه الاُمّة وتنزيه الملة: ص ٩٧ ولا ينافي ما ذكره شيخ الاُمّة المحقق النائيني مع ما حققناه في الجزء الأول من كون التقنين والتشريع مختصاً بالله سبحانه، فإنّ ما يضعه الحاكم الإسلامي، أو مجلس الشورى إنّما هو من قبيل التخطيط، وتطبيق الكليات على مواردها لا من قبيل التشريع والتأسيس.

٢٨٩

الضرائب وصرفها في محالها إلى غير ذلك

وليس معنى ذلك أنّ الفقهاء والحكّام الإسلاميين مثل النبي والأئمّة في جميع الشؤون والمقامات حتى في الفضائل النفسانية والدرجات المعنوية فإنّ ذلك رأي تافه لا يركن إليه، إذ إنّ البحث إنّما هو في الوظائف المخوّلة إلى الحاكم الإسلامي والموضوعة على عاتقه لا في المقامات المعنوية والفضائل النفسانية، فإنّهم صلوات الله عليهم في هذا المضمار في درجة لا يدرك شأوهم ولا يشق لهم غبار حسب روائع نصوصهم وكلماتهم.

وليست السلطة مفخرة للحاكم يعلو بها على سائر المحكومين بل هي من وجهة النظر الإسلامية مسؤولية اجتماعية كبرى أمام الله سبحانه أوّلاً، وأمام المسلمين ثانياً، والجهة الجامعة ما بين الحاكم والإمام في إدارة دفة الحكم وسياسة العباد ليس لها أي ارتباط بالمثل الخلقية والصفات النفسانية(١) .

وهذه الوجوه التي مرت عليك بالاجمال أوجبت خلود الشريعة، وبقاءها وصلاحها لإدارة المجتمع في الأعصار كلّها، مع اختلافها في الحضارة والتقدم.

الأمر الثاني مرونة أحكامه :

من الأسباب الدافعة إلى صلوح الإسلام للبقاء والخلود، مرونة أحكامه التي تمكّنه من أن يماشي جميع الأزمنة والحضارات، وقد تمثّلت هذه المرونة باُمور :

١. الإسلام دين جامع والاُمّة الإسلامية اُمة وسط :

إنّ من الأسباب التي أوجبت خلود الدين الإسلامي، وأعطته الصلاحية للبقاء مع اختلاف الظروف وتعاقب الأجيال، كونه ديناً جامعاً بين الدعوة إلى المادة والدعوة

__________________

(١) ولاية الفقيه للاُستاذ الأكبر الإمام الخميني ـ قدّس الله سرّه ـ ص ٦٣ ـ ٦٦ وقد أشبعنا الكلام حول حقوق الحاكم الإسلامي في الجزء السابق فلاحظ.

٢٩٠

إلى الروح، ديناً وسطاً بين الماديّة البحتة والروحية المحضة، فقد آلف بتعاليمه القيمة بينهما، موالفة تفي بحق كل منهما، بحيث يتيح للانسان أن يأخذ قسطه من كل منهما بقدر ما تقتضيه المصلحة.

وذلك أنّ المسيحية غالت في التوجه إلى الناحية الروحية، حتى كادت أن تجعل كل مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبرى، فدعت إلى الرهبانية والتعزّب وترك ملاذ الحياة والانعزال عن المجتمع، والعيش في الأديرة وقلل الجبال، وتحمل الظلم والرفق مع المعتدين، كما غالت اليهودية في الانكباب على المادة حتى نسيت كل قيمة روحية، وجعلت الحصول على المادة بأي وسيلة كانت، المقصد الأسنى، ودعت إلى القومية الغاشمة والطائفية الممقوتة.

وهذه المبادئ سواء أصحت عن الكليم والمسيحعليه‌السلام أم لم تصح ( ولن تصح إلّا أن يكون لاصلاح انغمار الشعب الاسرائيلي في ملاذ الحياة يوم ذاك وانجائهم عن التوغل في الماديات وسحبهم إلى المعنويات بشدة وعنف ) وإن شئت قلت: « كانت تعاليمه اصلاحاً مؤقتاً لاسراف اليهود وغلوهم في عبادة المال حتى أفسد أخلاقهم وآثروا دنياهم على دينهم والغلو يقاوم موقتاً بضده »(١) . لا تتماشى مع الحضارات الانسانية التقدمية ولا تسعدها في معترك الحياة، ولا تتلائم مع حكم العقل ولا الفطرة السليمة.

لكن الإسلام جاء لينظر إلى واقع الانسان، بما هو كائن، لا غنى له عن المادة، ولا عن الحياة الروحية، فأولاهما عنايته، فدعا إلى المادة والالتذاذ بها بشكل لا يؤثر معه على الحياة الروحية، كما دعا إلى الحياة الروحية بشكل لا يصادم فطرته وطبيعته.

وحصيلة البحث: أنّه لم يعطل الفطرة في تشريعه وتقنينه، بل جعلها مقياساً لحكمه بالوجوب والتحريم، فإذا كان الحكم مطابقاً لطبع من شرعت له الأحكام حافظاً لكيانه، لا يتعارض مع ما يحتاج إليه جسمه وروحه، كان ماضياً ونافذاً حسب بقاء الفطرة ودوامها.

__________________

(١) الوحي المحمدي: ص ١٥٣.

٢٩١

وأمّا تفصيل الآيات التي تمثل رأي الإسلام في الدعوة إلى الدين والدنيا، إلى الروح والجسم، إلى المادة والمعنى، فليرجع فيه إلى الكتب المعدة لبيان ذلك.

ونختم البحث بكلمة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال: للمؤمن ثلاث ساعات، ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يرم فيها معاشه، وساعة يخلي بينه وبين نفسه ولذاتها(١) .

فقد قرن بين عبادة الله وطلب الرزق وترفيه النفس، بحيث جعل الجميع في مستوى واحد، فندب إلى عبادة الله، كما ندب إلى طلب المعاش، وتوخي اللذة بحكم واحد بلا مفاضلة.

فلو كان أداء الصلاة والصوم والقيام بالحج وظيفة دينية، فشق الطريق لطلب الرزق والمعاش، والقيام بالنزهة بين الرياض أو سباحة في البحر والعمل الرياضي البدني، وظيفة دينية للمؤمن، كما نص الإمامعليه‌السلام .

وهذا من الاُسس التي تنسجم مع الإسلام وتحول بينه وبين التصادم مع الحضارات المتواصلة، إلى عصرنا هذا، فإذا كان المنهج، منهجاً متوسّطاً بين المادية والروحية، مطابقاً لفطرة الانسان انقادت له مقاليد الحضارات الانسانية الصاعدة وارتفع التصادم.

٢. النظر إلى المعاني، لا المظاهر :

إنّ الإسلام ينظر إلى المعاني والحقائق، لا المظاهر والقشور، ولذلك لا تجد في الإسلام مظهراً خاصاً من مظاهر الحياة، له من القداسة ما يمنع تغييره، ويوجب حفظه إلى الأبد بشكله الخاص، ولأجل ذلك لا يقع التصادم بين تعاليمه مع التقدم العلمي الهائل في مظاهره، وأشكاله الخارجية.

توضيحه: أنّه لا شك أنّه كان في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هندسة خاصة للمساكن

__________________

(١) نهج البلاغة باب الحكم، رقم ٣٩٠.

٢٩٢

والبيوت، وشكل خاص في المأكل والملبس، ونمط خاص لبث العلم والتربية غير أنّ الذي كان يهم الإسلام ـ في جميع الأزمنة ـ لم يكن تخطيط الحياة البشرية على تلك الأشكال والأنماط بل كان الحقيقة والجوهر من كل ذلك، فإنّ الذي يبتغيه الدين الإسلامي هو وجود المسكن وتوفر الملبس وإشاعة العلم والتربية، وكون الغذاء حلالاً طيباً طاهراً.

وأمّا الكيفية والشكل والصورة فلا يهم الدين ولا يحدد شيئاً في مجاله، فليكن البيت بأيّة هندسة كانت، ولتصنع الملابس بأي شكل كان، وليطبخ الناس طعامهم على النحو الذي يريدون، وليشاع العلم بأيّة وسيلة كانت فليس كل ذلك مهماً ومطروحاً للدين.

وهذا هو سر خاتمية الدين الإسلامي وهذا هو سر خلوده، وتمشّيه مع تطور الحياة، وتقدم الحضارات.

والذي يوقفك على ذلك أنّ بيع الدم وشراءه كان من المعاملات المحرّمة ومصداقاً لقوله سبحانه :

( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) ( البقرة ـ ١٨٨ ).

وذلك لعدم وجود منفعة محلّلة للدم ولذلك قال الشيخ الأعظم الأنصاري في مكاسبه ( ص ٤١ ) :

« تحرم المعاوضة على الدم بلا خلاف » بل عن النهاية وشرح القواعد لفخر الدين والتنقيح: « الاجماع عليه، وتدل عليه الأخبار ».

بيد أنّ تقدم العلوم والحضارة أوجد للدم منفعة محلّلة كبيرة، فعليها تقوم « العملية الجراحية » ومداوة الجرحى عن طريق الحقن الدموية.

ولهذا عادت المعاملة بالدم ـ في هذا العصر ـ معاملة صحيحة، لا بأس بصحّتها وجوازها وليس هذا من قبيل منسوخية الحكم بل لتبدّل الحكم بتبدّل موضوعه كتبدل الخمر إلى الخل.

٢٩٣

وقس على ذلك سائر الاُمور فللإسلام خاصية الاهتمام باللب والجوهر في عامة المجالات وهذا أحد العناصر التي تجعله يساير عامة الحضارات الإنسانية إلى قيام يوم الدين.

٣. الأحكام التي لها دور التحديد :

من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين وانطباقه على جميع الحضارات الانسانية تشريعه للقوانين الخاصة التي لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته وقد اصطلح عليها الفقهاء، بالأدلّة الحاكمة، لأجل حكومتها وتقدمها على كلّ حكم ثبت لموضوع بما هو هو. فهذه القوانين الحاكمة، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي بها كل حضارة انسانية، مثلاً: قوله سبحانه :

( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ( الحج ـ ٧٨ ) حاكم على كل تشريع استلزم العمل به حرجاً، لا يتحمل عادة، للمكلف، فهو مرفوع، في الظروف الحرجية، ومثلاً قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا ضرر ولا ضرار » فكل حكم استتبع العمل به ضرراً شديداً، فهو مرفوع في تلك الشرائط، وقس عليهما غيرهما من القوانين الحاكمة.

نعم تشخيص الحاكم عن المحكوم، وما يرجع إلى العمل بالحاكم من الشرائط، يحتاج إلى الدقة والامعان والتفقّه والاجتهاد، ومن رأينا أنّ الموضوع يحتاج إلى التبسط أكثر من هذا، فالى مجال آخر أيها القارئ الكريم.

خاتمة المطاف :

إنّ بعض الكتّاب من الجدد طرح سؤالاً في المقام وجاء بجواب مبهم أوجد قلقاً واستياء في الأوساط العلمية ونحن ننقله بتعريب منّا :

السؤال: إنّكم تذهبون إلى ضرورة التكامل حتى في وجود الشخص النبي وأثبتم أنّ كل موجود يحتاج إلى السير التكاملي، إذن لماذا كان النبي محمد يقول: أنا خاتم

٢٩٤

النبيين ؟

الجواب: لقد أجاب على قسم من هذا الفيلسوف الإسلامي الكبير « محمد اقبال » وأضيف أنا الجواب على بقيته، وهو ما أذهب إليه وأنا مسؤول عنه، فأقول: عندما يقول النبي: « أنا خاتم الأنبياء » لا يريد أن يقول: « إنّ التشريعات التي أتيت بها تكفي البشرية إلى الأبد » بل الخاتمية تريد أن تقول: كان الانسان يحتاج حتى الآن ـ لاستمرار حياته إلى الهداية بما وراء ما يستمده من عقله وما توحيه تربيته البشرية، والآن في هذا العصر ( القرن السابع الميلادي ) وبعد أن أوجدت المدنية اليونانية وحضارة روما والتمدّن الإسلامي، وبعد أن اُنزل القرآن والإنجيل والتوراة، بلغت التربية المذهبية إلى الحد الذي كان لابد منه. وبعد هذا العصر ـ وعلى ضوء هذا القسم من التربية ـ بإمكان الانسان أن يحيى ويتكامل من دون حاجة إلى وحي ونبوّة جديدة وعلى هذا ختمت النبوّة فشقّوا الطريق بأنفسكم.

ولم يظهر لنا ماذا قصد من هذا الجواب وإليك بعض احتمالاته :

١. أن يقصد من قوله: « لا يريد أن يقول انّ التشريعات التي أتيت بها تكفي البشرية إلى الأبد » ما أوضحناه عند البحث عن السؤال الخامس، من أنّه يجب على علماء الاُمّة وفقهائهم عندما يحدث شيء من المشكلات والأزمات في جميع مجالات الحياة من الحوادث التي لم تكن معهودة في عصر صاحب الرسالة، استفراغ الوسع في استنباط أحكامها على ضوء الكتاب والسنّة واطار سائر المصادر الشرعية، فلو أراد هذا فهو حق لا إشكال فيه غير أنّ تلك النظرية لا تختص به ولا بالفيلسوف الإسلامي « محمد اقبال » حتى يكون هو المسؤول فيما ذهب إليه واختار، بل كل مسلم يؤمن بأنّ الإسلام شريعة الله الخالدة الدائمة الكاملة الوافية بحل جميع اُمور الحياة ومشاكلها من اُصولها إلى فروعها.

٢. أن يكون المقصود منه الاعلام بختم النبوّة والرسالة دون ختم التشريع فهو مفتوح لم يوصد بعد، فعلى الاُمّة أن تشرّع من القوانين حسب ما تحتاج إليه عبر الزمان.

٢٩٥

غير أنّ تلك فكرة عليها مسحة مسيحية محجوجة بما دلّت الضرورة والأدلّة على أنّ التشريع من حقوق الله سبحانه على عباده لم يفوّضه لأحد من أفراد الاُمّة.

٣. أن يكون المقصود أنّ هنا أحكاماً ثابتة ومقررات متغيّرة، حسب مقتضيات الزمان ومصالح الوقت، فلو أراد ذلك فقد أوضحنا حاله عند البحث عن السؤال الرابع فلاحظ.

* * *

هذه هي الخاتمية، ودلائلها المشرقة، وشبهاتها الضئيلة، وأسئلتها الهامة، وأجوبتها الرصينة عرضناها للبحث والتنقيب، ولم يكن رائدنا إلّا تبنّي الحقيقة وكشف الغطاء عن وجهها، متحررين من كل رأي سابق لا دليل عليه.

٢٩٦

الفصل الخامس

النبي الاُمّي

في الذكر الحكيم

لم يختلف اثنان من الاُمّة الإسلامية في أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة قبل بزوغ دعوته لمصلحة صرّح الله بها في الكتاب العزيز وسوف يوافيك بيانها. وصحائف حياته البيضاء أوضح دليل على ذلك، وقد أجمع أهل السير والتاريخ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدخل مدرسة ولم يحضر على أحد للدراسة وتعلّم الكتابة، بل هو منذ نعومة أظفاره، يوم كان في أحضان جده وعمّه إلى أن بلغ الأربعين، لم يحم حول هذه الاُمور وقد تواترت على ذلك كلمات العلماء الأبرار والفطاحل من أئمّة الإسلام، وقد اقتفوا في ذلك أثر كتاب الله العزيز ودونك نصوصه من مواضع مختلفة.

النص الأوّل قوله سبحانه :

( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت ـ ٤٨ ) سبحان الله ما أصرح كلامه وأوضح دلالته.

٢٩٧

هل تجد من نفسك ريباً في أنّه بصدد نفي تلاوة أي كتاب عن نبيّه الأكرم قبل نزول الوحي عليه، وكتابة أي صحيفة عنه، أوليس من القواعد الدارجة بين أئمّة الأدب، أنّ النكرة في سياق النفي تفيد انتفاء الحكم عن كل أفرادها وتعطي شمول السلب كقوله سبحانه:( وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ) ( الحج ـ ١٨ ) وقد قال سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) فأدخل النفي على النكرة وجعلها في سياقه، فإذن المراد من التلاوة المنفية تلاوة مطلق الكتاب كما أنّ المراد من الخط المنفى عنه تسطير أي كتاب وترسيم أي صحيفة تقع في ذهن السامع، فالضمير المتصل بالفعل ( لاتخطه ) عائد إلى ( كتاب ) وكأنّه جل شأنه قال وما كنت تخط كتاباً. وقد وافاك أنّ مثل هذا الكلام لوقوع النكرة في سياق النفي يفيد عموم النفي فالله سبحانه نفى عن نبيه، مطلق التلاوة والكتابة قبل بعثته.

ثمّ إنّه عزّ اسمه، علّل سلب هذا الأمر عن نبيّه بمصلحة أولى وألزم، وهي نفي ريب المبطلين وشك المشككين، إذ لو كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في برهة من عمره تالياً للكتب، وممارساً للصحف، لساغ للبسطاء من اُمّته والمعاندين منهم أن يرتابوا في رسالته وقرآنه، ويلوكوا في أشداقهم بأنّ ما جاء به من الصحف والزبر والسور والآيات، إنّما تلقّاها من الصحف الدينية وقد صاغها وسبكها في قوالب فصيحة، تهتز منها النفوس وترتاح إليها القلوب، فليست لما يدّعيه من نزول الوحي على قلبه، مسحة حق أو لمسة صدق.

وقد حكى سبحانه هذه الفرية الشائنة عن بعض المشركين فقال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا *وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان: ٤ ـ ٥ ) فالله سبحانه لقلع جذور الشك عن قلوب السذج من الاُمّة، والمبطلين منهم، صرفه عن تعلّم الكتابة حتى يصبح لنبيّه أن يتلو على رؤوس الاشهاد قوله سبحانه:( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس ـ ١٦ ).

٢٩٨

يعني يا معشر العرب: أنتم تحيطون خبراً بتاريخ حياتي فإنّي تربيّت بين ظهرانيكم ولبثت فيكم عمراً يناهز الأربعين، فهل رأيتموني أتلو كتاباً أو اخط صحيفة، فكيف ترمونني بالافك الشائن: بأنّه أساطير الأوّلين اكتتبتها، ثم افتريتها على الله، وأعانني على ذلك قوم آخرون.

فلو لم يكن النبي اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة بل كان قارئاً وكاتباً وممارساً لهما على رؤوس الأشهاد، لما أمكن له أن يتحدى الاُمّة العربية وفي مقدمتهم صناديد قريش بقوله:( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان ـ ٦ ). فلأجل تحقيق هذه المصلحة المهمة، نشأ النبي في أحضان قومه وشب وترعرع إلى أن ناهز الأربعين وهو اُمّي لا يحسن القراءة والكتابة، ولو كان وقتئذ قارئاً وكاتباً وهم اُمّيون لراجت شبهتهم في أنّ ما جاء به نتيجة اطلاع ودرس وأثر نظر في الكتب.

وجاء المفسّرون في المقام بكلمات درية وجمل موضحة للمراد فقال أمين الإسلام في تفسير الآية: « اللام » في قوله:( إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) للقسم وفي الكلام حذف، تقديره: ولو خططته بيمينك أو تلوت قبله كتاباً إذاً والله لارتابوا، والمعنى لو كنت تقرأ كتاباً أو تكتبه لوجد المبطلون طريقاً إلى إيجاد الشك في أمرك والقاء الريبة لضعفة الناس في نبوّتك ولقالوا: إنّما تقرأ علينا ما جمعته من كتب الأوّلين فلما ساويتهم في المولد والمنشأ ثمّ أتيت بما عجزوا عنه وجب أن يعلموا أنّه من عند الله تعالى وليس من عندك، إذ لم تجر العادة أن ينشأ الانسان بين قوم يشاهدون أحواله من صغره إلى كبره، ويرونه في سفره وحضره، لا يتعلّم شيئاً من غيره، ثم يأتي من عنده بشيء يعجز الكل عنه وعن بعضه ويقرأ عليهم أقاصيص الأوّلين(١) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٤ ص ٢٨٧.

٢٩٩

نظريات شاذة للدكتور الهندي

ثمّ إنّ للدكتور عبد اللطيف الهندي المعاصر ـ في مقال خاص له حول اُمّية النبي الأعظم ـ رأياً شاذاً وقد ألقى مقاله هذا باللغة الانكيلزية في المؤتمر الإسلامي المنعقد في حيدر آباد عام (١٩٦٤) فخرق الاجماع المسلّم بين طوائف المسلمين على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب، وخالف الرأي العام وقال إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة بل كان يقرأ ويكتب في حداثة سنّه إلى اُخريات أيّامه(١) ولما رأى أنّ تلك النظرية تخالف النص الصريح في القرآن الكريم جاء يتأوّل ظاهر الآية تأويلاً بارداً وقال ما هذا حاصله :

المراد من الكتاب في قوله:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) إنّما هو الكتب السماوية نظائر التوراة والانجيل النازلة بغير اللغة العربية فلم يكن النبي عارفاً بتلكم اللغات ولا قادراً على تلاوتها وهو غير القول بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن قارئاً ولا كاتباً حتى باللغة العربية التي هي لسان قومه وبيته.

ولا أدري ماذا حمل الكاتب على هذا التأويل إذ لو كان المراد نفي معرفته بهذه الكتب المعينة، لما صح له أن يقول:( مِن كِتَابٍ ) بل كان عليه أن يقول: ما كنت تتلو من قبله الكتاب أو الكتب مشيراً باللام إلى الكتاب أو الكتب المعهودة وقد أتى باللام فيما قصد نفي العرفان بالكتب السماوية عنه فقال تعالى:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الشورى ـ ٥٢ ).

وقال عزّ شأنه:( وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَٰؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ ) ( العنكبوت ـ ٤٧ ).

__________________

(١) وقد تأثر في نظره عن رجال الكنيسة والتبشير، قال الحداد في كتابه ـ القرآن والكتاب ـ ص ٤١٠ محمد لم يكن اُمّياً بل تاجراً دولياً ومثقفاً ومطّلعاً وبحاثة دينياً

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543