مفاهيم القرآن الجزء ٣

مفاهيم القرآن7%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 543

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 201850 / تحميل: 6191
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ترى أنّه سبحانه عندما رام أن يشير إلى هذه الكتب المعهودة عرفها باللام إشارة إلى معهوديتها.

أضف إليه أنّ الهدف الأسمى للآية من نفي التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو قلع جذور الريب والشك من قلوب المبطلين، ولا يتحصل ذلك إلّا بكونه اُمّياً غير قارئ ولاكاتب قط، ولا يحسن القراءة والكتابة أصلاً. ولو صح ما يرتئيه الدكتور لما نهضت الآية إلى رفع آثار الشك وغبار الريب بل كان باب اكتساب الشك في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلقاء الريب في قلوب ضعفاء الناس بنبوّته مفتوحاً بمصراعيه. إذ كان للجاحد المبطل أن يقول انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمزاولته صحف والكتب العربية، وقف على أحوال الماضين وأقاصيص الأوّلين، فأودع نتائج أفكاره وما استحصل عليه منها بعد سبره لغورها، في هذه الصحائف وفي ضمنها من هذه السور والآيات التي افتراها على الله، وقد رماه بهذه الفرية الشائنة رؤوس الكفر والعناد فيما حكاه عزّ وجلّ:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان ـ ٥ ).

وفي نفس الآية دليل بارز على أنّ الهدف منها هو نفي مطلق التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث عطف على الجملة الأولى:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) قوله:( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) .

بيانه: لو كان المراد من الآية سلب القدرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في خصوص ما يتعلّق بتلاوة الكتب الدينية النازلة باللغة العبرانية أو غيرها من اللغات غير الدارجة في الجزيرة العربية، لكان له تعالى أن يقتصر عل الجملة الاُولى، ولا يردفها بقوله:( وَلا تَخُطُّهُ ) لوضوح الملازمة بين السلبين. فإذا كان الرجل لا يقدر على قراءة كتاب اُلّف بلغة خاصة، فهو لا يقدر على خطها وترسيمها بتاتاً، فعلى ذلك لماذا جيئ بالمعطوف مع امكان الاستغناء عنه بما تقدم عليها.

ولكن لو كان الغرض هو التنبيه على اُمّية النبي بأوضح العبارات، والاجهار بها بأصح الأساليب، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل بعثته لم يكن قارئاً ولا كاتباً بتاتاً، بل كان بعيد عن ذلك

٣٠١

كل البعد، لصح عطفها على ما تقدم عليها، لأنّ العرف إذا حاول توصيف الرجل بالاُمّية يقول في حقه: إنّه لا يعرف القراءة والكتابة، أو أنّه ليست بينه وبين التلاوة والكتابة أية صلة، ولا يقتصر على نفي الاُولى بل يردفها بنفي الاُخرى أيضاً، توضيحاً للمراد. والله سبحانه لـمّا أراد التركيز على اُمّية النبي وأنّه طيلة عمره كان بعيداً عن مجالات العلم والدراسة، أتى بما هو الدارج في لسان العرب، إذا أرادوا توصيف الشخص بالاُمّية.

والشاهد على ما ذكرنا: أنّك لو ألقيت هذه الآية على أي عربي عريق في لغته ولسانه، يقضي بأنّ المقصد الأسنى منها نفي معرفتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتلاوة والكتابة على الاطلاق. نعم الآية خاصة بما قبل البعثة، لا تعم ما بعدها ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية فانتظر.

وربما يقال(١) : إنّ الآية تنفي مطلق التلاوة والكتابة ولكنّه لا يدل على نفي احسانهما عنه: قلت: سيوافيك جوابه عند البحث عن وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة.

النص الثاني من القرآن على كونه اُمّياً :

يدل على ذلك قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .

( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( الأعراف: ١٥٧ ـ ١٥٨ ).

قد وصف سبحانه نبيّه في هذه الآية بخصال عشر وهي: أنّه رسول، نبي، اُمّي ،

__________________

(١) نقله الشيخ الطوسي في تبيانه راجع ج ٨ ص ٢١٦ ط بيروت.

٣٠٢

مكتوب اسمه في التوراة والانجيل، ومنعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحل لهم الطيبات، يحرّم عليهم الخبائث، يضع عنهم الإصر، ويرفع عنهم الأغلال.

وهذه الصفات التي تضمّنتها الآية في حق النبي الأكرم واضحة حتى الوصف الذي هو موضوع البحث ( الاُمّي ) إذ الاُمّي حسب تنصيص الكتاب المبين هو من لا يقدر على القراءة ولا يحسن الكتابة كما يقول سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ ٧٨ ).

قوله سبحانه:( لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) توضيح لقوله اُمّيون أي منهم اُمّة منقطعون عن كتابهم لا يعلمون منه إلّا أوهاماً وظنوناً يتلوها عليهم علماؤهم، الذين يحرفون كتاب الله وكلماته عن مواضعها، ويحسب هؤلاء السذّج أنّه الكتاب المنزل إليهم من ربّهم. ولذلك قال سبحانه في الآية التالية:( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة ـ ٧٩ ).

فلو كانوا عارفين بالكتاب قادرين على قراءته وتلاوته لما اغتروا بعمل المحرّفين، ولميّزوا الصحيح من الزائف غير أنّ اُمّيتهم وجهلهم به حالت بينهم وبين اُمنيتهم.

قال الرازي: إنّه تعالى وصف محمداً في هذه الآية بصفات تسع(١) إلى أن قال: الصفة الثالثة كونه اُمّياً، قال الزجّاج: معنى الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب، قال عليه الصلاة والسلام: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب(٢) فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون، والنبي كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّياً(٣) .

__________________

(١) لا، بل عشر، كما عرفت.

(٢) إيعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه: ج ١ ص ٣٢٧ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا أو هكذا، مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.

(٣) مفاتيح الغيب: ج ٤ ص ٣٠٩.

٣٠٣

وقال البيضاوي: الاُمّي لا يكتب ولا يقرأ، وصفه به تنبيهاً على أنّ كمال علمه مع حاله هذا، إحدى معجزاته(١) .

هذا وقد أصفقت على ما ذكرنا من المعنى للاُمّية معاجم اللغة المؤلّفة في العصور الزاهرة بأيدي الخبراء الأساطين وفي مقدّمهم: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفّى عام ٣٩٥ صاحب « مقاييس اللغة »(٢) وغيرها من الكتب الممتعة ودونك كلامه :

« اُم » له أصل واحد يتفرع منه أربعة أبواب وهي الأصل، والمرجع والجماعة والدين، قال الخليل: كل شيء تضم إليه ما سواه مما يليه، فإنّ العرب تسمّي ذلك اُمّاً ومن ذلك اُم الرأس: وهو الدماغ، اُم التنائف: أشدها وأبعدها، اُم القرى: مكة وكل مدينة هي اُم ما حولها من القرى، واُم القرآن: فاتحة الكتاب واُم الكتاب ما في اللوح المحفوظ، واُم الرمح: لواؤه وما لف عليه، وتقول العرب للمرأة التي ينزل عليها: اُم مثوى، واُم كلبة: الحمى، واُم النجوم: السماء، واُم النجوم: المجرّه إلى أن عد كثيراً من هذه التراكيب فقال: الاُمّي في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلة الناس لا يكتب، فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه(٣) .

ومحصل كلامه أنّه ليس للاُم إلّا مادة واحدة وهي الأصل لغيرها ومنه يتفرع غيرها فاُم الانسان اُم لأنّها أصله وعرقه وهكذا

وهذا الزمخشري إمام اللغة والبلاغة فسر قوله تعالى:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) بأنّهم لا يحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة

__________________

(١) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج ٣ ص ٢٣٠ مع شرحه لاسماعيل القنوي.

(٢) بلغ ابن فارس الغاية في الحذق باللغة، وكنه أسرارها وفهم اُصولها، وقد حاول في تأليف هذا المعجم أن يوحّد المعاني المتعددة المفهومة من لفظ واحد وذلك بارجاعها إلى أصل واحد تفرّعت عنه تلك المعاني في الاستعمال ـ وقد إنفرد من بين اللغويين بهذا التأليف ولم يسبقه إلى مثله أحد، ولم يخلفه غيره.

(٣) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٤

ويتحققوا ما فيها(١) .

وقال أمين الإسلام في مجمع البيان: ذكروا للاُمّي معاني :

أوّلها: أنّه الذي لا يكتب ولا يقرأ.

ثانيها: أنّه منسوب للاُمّة والمعنى أنّه على جبلة الاُمّة قبل استفادة الكتاب.

ثالثها: أنّه منسوب إلى الاُم والمعنى أنّه على ما ولدته اُمّه قبل تعلم الكتابة.

قلت: هذه المعاني متقاربة تهدف إلى مفهوم واحد. وإنّما الاختلاف في انتسابه إلى الاُم أو الاُمّة وقد جمع ابن فارس في كلامه كلا الاحتمالين.

هذه نصوص بعض أئمّة اللغة وأساطين التفسير، إذا شئت فلاحظ كلمات الباقين منهم.

الآراء الشاذة في تفسير الاُمي :

ربّما يجد القارئ في طيات بعض التفاسير معاني اُخر للاُمّي لا تتفق مع ما أصفقت عليه أئمّة اللغة والتفسير فلا بأس بذكرها ودحضها :

١. الاُمي منسوب إلى اُم القرى وهي علم من أعلام مكة كما يدل عليه قوله سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الشورى ـ ٧ ) وعلى ذلك فالمراد من الاُمي أنّه مكي.

وفيه مواقع للنظر والنقد :

أوّلاً: إنّ اُم القرى ليست من أعلام مكة ـ وإن كان يطلق عليها ـ غير أنّ الإطلاق لا يدل على كونه من أعلامها، بل هو موضوع على معنى كلي وهي إحدى مصاديقه ولا تنس ما ذكره ابن فارس بقوله: « كل مدينة هي اُم ما حولها من القرى » فيعلم من ذلك

__________________

(١) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف: ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٥

أنّ اُم القرى مفهوم كلي يصح اطلاقه على أية بلدة تتصل بها قرى كثيرة بالتبعية، وهذه القرى تعمتد عليها في اُمور حياتها، ويعاضد ما ذكرناه ( كون اُم القرى كلياً ) قوله عزّ وجلّ:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص ـ ٥٩ ) فالآية ( بحكم رجوع الضمير في اُمها إلى القرى ) صريحة في أنّها ليست علماً لموضع خاص، لأنّ مشيئته تعم الاُمم في هذا الأمر ( أهلاك الاُمم وإبادتهم بعد انذارهم ببعث الرسل ) ولا تختص باُمّة دون اُخرى، أو نقطة دون نقطة، وعلى هذا، فمفاد الآية أنّ الله سبحانه يمهل أهل القرى من دون فرق بين قرية وقرية، حتى يبعث في مركزها الذي هو مركز الثقل بالنسبة إليها، والمجتمع لأكثر الناس، وملتقى أفكارهم، رسولاً يبشرّهم وينذرهم، فإذا ضربوا عنه صفحاً وهجروا مناهجه، يبيدهم ويهلكهم بألوان العذاب وهذه مشيئة الله وعادته في الاُمم السالفة البائدة جميعاً، مكية كانت أم غيرها.

وثناياً: لو صح كونه من أعلام مكة فالصحيح عند النسبة إليها هو القروي لا الاُمّي، هذا ابن مالك يقول في ألفيته :

وانسب لصدر جملة وصدر ما

ركب مزجا ولثان تتما

اضافة مبدوة بابن وأب

أو ما له التعريف بالثاني وجب

فيما سوى هذا انسبن للأول

مالم يخف للبس كعبد الأشهل

قال ابن عقيل في شرحه: إذا نسب إلى الإسم المركب فإن كان مركباً تركيب جملة أو تركيب مزج، حذف عجزه واُلحق صدره ياء النسب فتقول في تأبّط شراً: تأبطي، وفي بعلبك: بعلي، وإن كان مركب إضافة، فإن كان صدره ابناً أو أباً أو كان معروفاً بعجزه، حذف صدره واُلحق عجزه ياء النسبة، فنقول في ابن الزبير: زبيري، وفي أبي بكر: بكري، وفي غلام زيد: زيدي، وإن لم يكن كذلك(١) .

والاقتصار على الابن والأب من باب المثال والحكم يعم الاُم والابنة والأخ

__________________

(١) شرح ابن عقيل: ج ٢، ص ٣٩١.

٣٠٦

والاُخت، لاشتراك الجميع معهما في المناط والملاك ـ وهو كونها مركبة تركيب اضافة وحصول الالتباس لو اُلحقت بصدرها.

وثالثاً: إنّ الله وصف نبيّه في الآية بصفات تناسب موضوع النبوّة، فلو كان الاُمّي فيها بالمعنى الذي أوضحناه، لتلاءم الكلام، وتكون تلك الصفة هادفة إلى آية نبوّته وبرهان رسالته، لأنّه مع كونه اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب، أتى بشريعة كافلة لسعادة الناس وسيادتهم وجاء بكتاب فيه هدى ونور، وتضمن من الحقائق والمعارف ما لا يقف عليه حتى الأوحدي من الناس فضلاً عمّن لم يقرأ ولم يكتب، وهذا برهان رسالته ودليل صلته بالله وكونه مبعوثاً ومؤيداً منه تعالى.

ولو كان المراد منه ما زعمه القائل من كونه مكياً وأنّه وليد ذلك البلد، لكان الاتيان به في ثنايا تلك الأوصاف والخصال اقحاماً بلا وجه واقتضاباً بلا جهة.

وإن شئت قلت: لو كان المراد من الاُمي ما ذكرناه لكان فيه إشارة إلى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع كونه باقياً على الحالة التي ولد عليها، قد أتى بكتاب عجز الناس عن تحدّيه، وكلّ البلغاء عن معارضته، وخرس الفصحاء لديه، مضافاً إلى ما فيه من المعارف الالهية والحقائق العلمية والدساتير والقوانين الاجتماعية والاقتصادية في شؤون الحياة الانسانية ومسائلها المعقدة، وهذا دليل على صدق دعوته، وأنّه مبعوث من عنده تعالى، وهذه النكتة تفوتنا إذا فسرناه بأنّه مكي ووليد الحرم والبلد الأمين إذ ليس في كونه مكّياً أي امتياز حتى ينوّه به.

وإلى ما ذكرنا يشير قوله عزّ وجلّ:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة ـ ٢ ).

فإنّ توصيف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه منهم ( أي من الاُمّيين ) للاشارة إلى أنّه مع كونه اُمّياً مثلهم يعلّمهم الكتاب والحكمة، وما ذلك إلّا لكونه مؤيداً منه تعالى بروح تعاضده وموجهاً بتوجيهه لارتقاء تلكم المدارج، فالآية من قبيل اتيان الشيء ببيّنته وبرهانه.

٣٠٧

نعم ورد في بعض المأثورات حول تفسير الاُمّي انتسابه إلى اُم القرى، وسوف نرجع إلى هذه الروايات بالإيراد والمناقشة في اسنادها ومضامينها.

الرأي الثاني :

٢. ما اختاره الدكتور عبد اللطيف الهندي في مقاله المومى إليه فقال: الاُمّي من لم يعرف المتون العتيقة السامية، ولم ينتحل إلى ملّة أو كتاب من الكتب السماوية والشاهد عليه أنّ الله جعل الاُمّي في الكتاب العزيز، مقابل أهل الكتاب فيستظهر منه أنّ المراد منه هي الاُمّة العربية الجاهلة بما في زبر الأوّلين من التوراة والانجيل غير منتحلة إلى دين أو ملة لا من لا يقدر على التلاوة والكتابة.

أقول: ما ذكره الدكتور زلّة وعثرة لا تستقال فإنّ اطلاق الاُمّيين على العرب المشركين ليس « بسبب جهلهم بالمتون السامية، وإن كانوا عارفين بلسان قومهم قادرين على تلاوته وكتابته » كما حسبه الدكتور، بل بسبب جهلهم بقراءة لغتهم وكتابتها لأنّ الثقافة العربية بمعنى قراءة اللغة العربية وكتابتها، كانت متدهورة في العصر الجاهلي وكانت الاُمّية هي السائدة ولا يسودهم في تلكم الظروف شيء غيرها وكانت القدرة على القراءة والكتابة محصورة في ثلّة قليلة لا يتجاوز أفرادها عدد الأصابع.

فهذا الإمام البلاذري أتى « في فتوح بلدانه » بأسماء الذين كانوا عارفين بالقراءة والكتابة في العهد الجاهلي فما تجاوزت عدتهم عن سبعة عشر رجلاً في « مكة » وعن أحد عشر نفراً في « يثرب » وقال: اجتمع ثلاثة نفر من طي ب‍ « بقة » وهم مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلّمه منهم قوم من أهل الأنبار ثمّ تعلّمه أهل الحيرة من أهل الأنبار وكان بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي، ثم السكوني صاحب دومة الجندل، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين وكان نصرانياً فتعلم « بشر » الخط العربي من أهل الحيرة ثمّ أتى مكة في بعض شأنه فرآه سفيان بن اُمية بن عبد شمس وأبو قيس بن عبد

٣٠٨

مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يعلّمهما الخط فعلّمهما الهجاء، ثمّ أراهما الخط فكتبا، ثمّ إنّ بشراً وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلّم الخط منهم وفارقهم بشر، ومضى إلى ديار مضر، فتعلّم الخط منه عمرو بن زرارة بن أعدس فسمّي عمرو الكاتب، ثمّ أتى بشر الشام فتعلّم الخط منه ناس هناك وتعلّم الخط من الثلاثة الطائيين أيضاً رجل من طابخة كلب، فعلّمه رجل من أهل وادي القرى فأتى الوادي يتردد فأقام بها وعلّم الخط قوماً من أهلها ـ إلى أن قال: ـ فدخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب، عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالبو(١) .

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته، أنّ عهد قريش بالكتابة والخط العربي لم يكن بعيداً بل كان حديثاً وقريباً بعهد الرسول فقد تعرفوا عليها قبيل ظهور الإسلام حيث قال في الفصل الذي عقده لبيان أنّ الخط والكتابة من عداد الصنايع الانساية :

كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الأحكام والاتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترف وهو المسمّى بالخط الحميري وانتقل منها إلى الحيرة لما كان فيها دولة آل المنذر بسبأ التبابعة إلى أن قال: ومن الحيرة لقّنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر، يقال إنّ الذي تعلّم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن اُمية ويقال حرب بن اُمية وأخذها من أسلم بن سدرة وهو قول ممكن وأقرب ممن ذهب إلى أنّهم تعلّموها من أياد أهل العراق وهو بعيد، لأنّ اياداً وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة، والخط من الصنايع الحضرية فالقول بأن أهل الحجاز إنّما لقنوها من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير، هو الأليق من الأقوال(٢) .

فإذا كان هذا مبدأ تعرفهم بالكتابة والقراءة وكان هذا مقياس ثقافتهم وتعرفهم عليها في المنطقتين ( مكة والمدينة ) فما ظنك بهم في المناطق الاُخرى، نعم كانت الربوع

__________________

(١) فتوح البلدان: ص ٤٥٧.

(٢) مقدمة ابن خلدون: ص ٤١٨، طبع بيروت، الطبعة الرابعة.

٣٠٩

المختصة باليهود والنصارى، تزدحم بأحبارهم وحفّاظ كتبهم، فكانت القراءة والكتابة رائجتين بينهم، لمسيس حاجتهم إلى معرفة كتابهم وما فيه من الطقوس والسنن.

فإذا ألممت أيها الباحث ولو إلمامة عابرة بروح ذلك العصر، ووقفت على ما كان يسود في تلكم الظروف والبيئات، لقضيت بأنّ المراد من الاُمّي حتى في ما استعمل عند أهل الكتاب هو العاجز عن القراءة والكتابة بقول مطلق كقوله سبحانه:( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ ) ( آل عمران ـ ٢٠ ) ويوضح ما ذكرناه قوله سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ ٧٨ )(١) فالآية بحكم رجوع الضمير( وَمِنْهُمْ ) إلى اليهود، تقسم اليهود إلى طائفتين، طائفة يعلمون الكتاب، واُخرى طائفة اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً بل تتخيله أمانياً فقد أطلق الاُمّي في هذه الآية على بعض أهل الكتاب بملاك جهله بكتابه، قراءة وكتابة، ولكن الجهل بالكتاب الذي نزل بلسانه ولسان قومه يلازم الجهل بسائر اللغات طبعاً.

فهذا الكتابي بما أنّه لا يحسن القراءة والكتابة قط، اُمّي كالعربي الاُمّي بلا تفاوت.

وقصارى ما يمكن أن يقال: إنّه ليس للاُمّي إلّا مفهوم واحد وضع له وضعاً واحداً، غير أنّ مفهومه يختلف حسب اختلاف الظروف والبيئات، حسب اختلاف الاضافات والنسب، فالاُمّي في أجواء الكتابيين عبارة عمّن لا يعرف لغة كتابه فلو قيل: ذلك الكتابي اُمّي فالمقصود منه بقرينة لفظ « الكتابي » كونه اُمّياً بالنسبة إلى كتابه الذي ينتحل إليه، كما أنّ الاُمّي في البيئات العربية عبارة عمّن لا يحسن العربية قراءة وكتابة وهكذا

وبناء على ذلك فالاُمّيون في قوله سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ ) عبارة عن الطائفة الجاهلة بالمتون السامية من أهل الكتاب، لا يحسنون تلاوتها

__________________

(١) هذه الآية بما أنّها تقسّم أهل الكتاب والمنتحلين إليه إلى طائفتين اُمّية وغير اُمّية، تبطل ما ادعاه الدكتور من أنّ الاُمّي عبارة عن من لم ينتحل إلى الدين ولم ينسب إلى ملّة.

٣١٠

ولا كتابتها، إلّا أنّ ذلك الاطلاق لا يثبت كون الاُمّي موضوعاً على من لا يعرف اللغة السامية كما حسبه الدكتور. بل لـمّا كان محور البحث في الآية أهل الكتاب وانقسامهم إلى طائفة عالمة بما في كتابهم، وطائفة جاهلة به، اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً، صار ذلك كالقرينة على أنّ المقصود من الاُمّيين فيها، هي الطائفة الجاهلة بالمتون السامية واللغة التي اُنزلت بها كتبهم.

وهذا الوجه لا يشمل « الاُمّي » في غير هذه الآية ولا على الموارد العارية عن هذه القرينة ولا يثبت كونه موضوعاً لمن يكون جاهلاً بالمتون السامية، كما ادعاه القائل.

إذا وقفت على ما ذكرناه وقوف المستشف للحقيقة، لأذعنت أنّه ليس للاُمّي إلّا مفاد واحد وهو الباقي على الحالة التي ولد عليها. ولو اطلق في مورد أو موارد على من لا يعرف المتون السامية، فلأجل قرينة دلّت عليه، فهو من باب تطبيق الكلي على فرده الخاص لا أنّه موضوع على ذلك الخاص.

بحث وتنقيب :

لقد بان الحق بأجلى مظاهره بحيث لم تبق لمجادل شبهة في دلالة الذكر الحكيم على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب قبل أن يختاره الله تعالى للتبشير والانذار، وظهر ما هو الحق الصراح في معنى الاُمّي الذي وصف الله به نبيّه الأكرم، نعم روي عن بعض أئمّة أهل البيت في تفسير الاُمّي ما يتراءى منه خلاف ما أوضحناه وحققناه ودونك ما روي عنهم في هذا الباب(١) .

١. أخرج الصدوق في علل الشرائع ومعاني الأخبار عن أبيه عن سعد(٢) عن ابن

__________________

(١) سوف نرجع في آخر البحث إلى تحقيق القول في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت وغيرهم في المقام والغرض هنا عرض ما يرجع إلى خصوص تفسير لفظ الاُمّي فقط.

(٢) سعد بن عبد الله القمي ترجمه شيخ الطائفة في باب أصحاب العسكريعليه‌السلام .

٣١١

عيسى(١) عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام فقلت: يا بن رسول الله لم سمّي النبي الاُمّي ؟ فقال: ما يقول الناس ؟ قلت: يزعمون أنّه سمّي الاُمّي لأنّه لا يحسن أن يكتب، فقال: كذبوا عليهم لعنة الله في ذلك، والله يقول في محكم كتابه:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن، والله لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو قال: بثلاثة وسبعين لساناً وإنّما سمّي الاُمّي لأنّه كان من أهل مكة، ومكة من اُمّهات القرى وذلك قول الله عزّ وجلّ:( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام ـ ٩٢ )(٢) .

وأخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار المتوفّى عام ٢٩٠ في بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي مثله.

ونقله الشيخ المفيد معلّم الاُمّة في « اختصاصه » بهذا السند أيضاً.

والحديث على كل تقدير ينتهي إلى محمد البرقي وهو مختلف فيه جداً لاستناده إلى المراسيل والضعاف، وهو يروي عن جعفر بن محمد الصوفي الذي أهمله أصحاب المعاجم فالحديث ساقط عن الحجية.

أضف إليه ما في متنه من الشذوذ، وفيه جهات من النظر :

أوّلاً: قوله إنّ النبي يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً، يعطي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مشغولاً بقراءتها والكتابة بها في عامة حياته أو رسالته فقط، وحمله على الإمكان والتعليق وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قادراً عليهما باثنين وسبعين لساناً لو شاء وأراد، ولكنّه لم يشأ ويقرأ ولم يكتب بها أصلاً، خلاف الظاهر، وعلى ما استظهرناه فالرواية تخالف ماهو المتواتر من حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، ثقة جليل.

(٢) علل الشرائع ص ٥٣، ومعاني الأخبار ص ٢٠.

٣١٢

إذ لو كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على النحو الذي تصفه الرواية لذاع ذكره وطار صيته بهذا الوصف ولا يكاد يخفى على الناس أمره. على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في البيئة العربية الاُمية كان في منتأى عن سماع الألسنة أو رؤية أصحابها فلم يكن في موطنه ولا دار هجرته من يعرفها أو يتكلم بها فكيف يتكلم بهذه اللغات، وهو لا يجد من يشافهه بها، ولم تكن تحضره صحيفة أو صحائف كتبت بغير اللغة العربية.

ثانياً: إنّ تفسير الاُمّي بكونه منسوباً إلى اُمّ القرى، يخالف ما اتفقت عليه أئمّة الأدب، وجهابذة اللغة، وأعلام التفسير بل يخالف القرآن الكريم حيث فسّر سبحانه بغير ذلك وقال:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) فلا يصح الركون في هذه المسألة إلى حديث ينتهي إلى من اختلف في وثاقته، إلى من أهمله علماء الرجال في كتبهم.

ولسنا من الفئة التي تعرض القرآن والحديث الصحيح على القواعد العربية المدوّنة بعد أجيال من نزول القرآن ونشر الحديث، بيد علماء الأدب، فإنّ تلك الفئة ضالّة مضلّة مستحقة للرد والطعن. إذ الصحيح عرض القواعد على القرآن والحديث دون العكس، فإنّ المقياس الوحيد لتمييز الصحيح عن غيره، إنّما هو كلام أهل اللسان والأساليب الدارجة بينهم، لا القواعد المدوّنة إذا لم ترجع إلى مصدر وثيق.

وعلى هذا فلو وجدنا القاعدة الأدبية المصطادة من تتبع بعض الموارد ومن كلام العرب، مخالفة للقرآن الكريم أو الحديث الثابت عنهم، أو الكلام الصادر عن عربي صميم، وجب علينا هدم القاعدة، ورميها بالخطأ والغلط، لا تأويل الذكر الحكيم والحديث الصحيح، والكلام المنقول عن أهل اللسان إذ القرآن سواء أقلنا إنّه كلام إلهي اُوحي إلى نبيّنا الأكرم أم قلنا إنّه من منشآته ومبدعاته ( وأجل النبي عن هذه الفرية الشائنة ) كلام صحيح، صادر أمّا عن الله سبحانه أو عن عربي صميم شب وترعرع بين الاُمّة العربية وقضى عمره وحياته بين ظهرانيهم.

وعلى أي تقدير فهو الحجة في تدوين القاعدة وتأسيسها دون العكس ومثله الآثار المنقولة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣١٣

ونحن مع هذا الاعتراف الصريح لا نقر بما جاء في الحديث حول تفسير الاُمي وأنّه منسوب إلى اُم القرى ولا نرمي أئمّة الأدب بالخطأ والاشتباه، إذ الحديث قاصر سنداً وينتهي إلى من اختلفت فيه كلمة أهل الجرح والتعديل، إلى من لم تتضح حاله ووثاقته، ولو ثبت صدوره عن أئمّة أهل البيت، لهدمنا القاعدة النحوية في باب النسب وأخذنا بما فيه.

ثالثاً: إنّ الحديث لا ينسجم مع مضمون ما سيوافيك من الحديثين(١) ، فإنّ مفادهما هو كون النبي يقرأ ولا يكتب أصلاً، وهذا يثبت له القراءة والكتابة باثنين وسبعين لساناً، فلا مناص في مقام الترجيح عن الأخذ بهما وطرح ذاك، لقوة اسنادهما وصحتهما على ما عرفت.

٢. أخرج الصدوق في معاني الأخبار عن ابن الوليد عن سعد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت: إنّ الناس يزعمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكتب ولم يقرأ ؟ فقال: كذبوا لعنهم الله أنّى يكون ذلك وقال الله عزّ وجلّ:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ، فيكون يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ أو يكتب به ؟ قال: قلت: فلم سمّي النبي الاُمي ؟ قال: نسب إلى مكة وذلك قول الله عزّ وجلّ:( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) فاُم القرى مكة فقيل اُمّي لذلك(٢) .

ونقله صاحب البصائر عن عبد الله بن محمد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفر(٣) .

__________________

(١) راجع البحث الآتي تحت عنوان « عرض وتحقيق » والمقصود من الصحيحين ما رواه هشام بن سالم، والحسن الصيقل عن الصادقعليه‌السلام .

(٢) علل الشرائع: ص ٥٤٢.

(٣) بصائر الدرجات: ص ٦٢، بحار الأنوار: ج ١٦ ص ١٣٣.

٣١٤

ويؤسفنا أنّ الحديث مع ما في متنه من العلات، غير موصول السند إلى الإمام، فالرواية مرفوعة وهو نوع من المرسل الذي لا يعتمد عليه.

وفي هذا المقال يلمس القارئ حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق الدينية ألا وهي مغزى كون النبي لا يحسن القراءة والكتابة قبل أن يختاره الله تعالى للتبشير والانذار.

نعم بقي الكلام في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة ولأجل ذلك عقدنا لتحقيقه الفصل التالي :

٣١٥

أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

بعد بزوغ دعوته

قد اهتدينا بهدى القرآن وساقتنا الأدلّة إلى القول بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قبل البعثة اُمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يسجل التاريخ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك العهد قراءة لوح أو كتباة صحيفة، ولم يكن ذلك اختلافاً تواطأ عليه المسلمون لهدف خاص كما حسبه الدكتور في مقاله(١) بل كان تقريراً للواقع وقد قابلنا التفكير السطحي الخاطئ بالرد والنقد.

غير أنّنا طلباً لوضوح الحقيقة، واكمالاً للبحث، نردف المقال بالبحث عن وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد بزوغ دعوته وبعثته إلى الناس، وأنّه هل بقي على ما كان عليه من الاُمية، لنفس المصلحة التي اُوجبت اُميته قبل أن يبعث إلى هداية الناس، أو لم يبق عليه، بل كشف الحجاب عن ضميره الحي وعقله الواعي، وقلبه الواسع، عندما بزغت دعوته وبعث رسولاً إلى الناس ولا يمكن القضاء البات إلّا بعد الوقوف على ما ذكره الفطاحل من رواة الحديث وأعلام التفسير.

وقد اختار ثلة جليلة من المحققين القول الثاني أنّ تمكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باذنه سبحانه

__________________

(١) زعم الدكتور في مقاله أنّ اُمية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فكرة حديثة بين المسلمين، لصيانة القرآن عن التحريف وحفظه عن حدوث الزيادة والنقيصة عليه من جانب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ الاُمي يعكس كل ما اُلقي عليه بلا تغيير وتحريف، ولا يقدر على تحويره بخلاف غيره، فانظر ما أجرأ هذا الرجل على تحريف الكلم عن مواضعه.

٣١٦

من القراءة والكتابة بعد ما نزل عليه الوحي واستدلوا على ذلك بوجوه لا تخلو من مناقشات واشكلات، ونحن نذكر تلكم الوجوه، ثمّ نردفها بما هو المختار عندنا :

١. الوجوه التي اعتمد عليها شيخنا المفيد :

هذا هو الشيخ المفيد استدل بأدلة ووجوه اعتقد أنّها الحجج الكافية لاثبات ما يرتئيه من أنّ النبي كان عارفاً بالقراءة والكتابة بعد بعثته ودونك ما أفاده برمّته :

١. إنّ الله تعالى لما جعل نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جامعاً لخصال الكمال كلها، وخلال المناقب بأسرها لم تنقصه منزلة بتمامها، ليصح له الكمال، ويجتمع فيه الفضل والكتابة فضيلة من منحها فضل، ومن حرمها نقص.

٢. إنّ الله تعالى جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حاكماً بين الخلق في جميع ما اختلفوا فيه، فلا بد أن يعلمه الحكم في ذلك، وقد ثبت أنّ اُمور الخلق قد يتعلق أكثرها بالكتابة فتثبت بها الحقوق، وتبرأ بها الذمم، وتقوم بها البيّنات، وتحفظ بها الديون، وتحاط بها الأنساب، وأنّها فضل تشرف المتحلّي به على العاطل منه، وإذا صح أنّ الله جلّ اسمه قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة، محسناً لها.

٣. إنّ النبي لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه، وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمة باعثه، فثبت أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة.

٤. إنّ الله سبحانه يقول:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( سورة الجمعة ـ ٢ ) ومحال أن يعلمهم الكتاب وهو لا يحسنه، كما يستحيل يعلمهم الكتاب والحكمة وهو لا يعرفهما، ولا معنى لقول من قال: إنّ الكتاب هو القرآن خاصة، إذ اللفظ عام والعموم لا ينصرف عنه إلّا بدليل، لا سيما على قول المعتزلة وأكثر

٣١٧

أصحاب الحديث.

٥. يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( سورة العنكبوت ـ ٤٨ ) فنفى عنه احسان الكتابة وخطه قبل النبوّة خاصة، فأوجب احسانه بذلك لها بعد النبوّة، ولولا أنّ ذلك كذلك لما كان لتخصيصه النفي معنى يعقل، ولو كان حالهصلى‌الله‌عليه‌وآله في فقد العلم بالكتابة بعد النبوّة، كحاله قبلها لوجب إذا أراد نفي ذلك عنه أن ينفيه بلفظ يفيده، لا يتضمن خلافه فيقول له: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذ ذاك ولا في الحال، أو يقول: لست تحسن الكتابة ولا يتأتى منك على كل حال، كما أنّه لما أعدمه قول الشعر ومنعه منه نفاه بلفظ يعم الأوقات فقال الله تعالى:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ) ( يس ـ ٦٩ ) وإذا كان الأمر على ما بيّناه ثبت أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة بعد أن نبّأه الله تعالى ما وصفناه، وهذا مذهب جماعة من الإمامية ويخالف فيه باقيهم وسائر أهل المذاهب والفرق يدفعونه وينكرونه(١) .

وفي ما ذكره رحمه الله مناقشات نشير إليها :

أوّلاً: انّ الكتابة وإن كانت من الكمالات « ومن منحها له سبحانه فضل ومن حرمها نقص » غير أنّ ذلك يعد للعاديين الذين ينحصر طريق اكتسابهم للمعارف بها وحدها، وأمّا من لا يحتاج إليها بل له طريق آخر لدرك الحقائق واكتساب المعارف كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يعد التمكن من الكتابة والقراءة فضيلة له حتى يكون عدمهما نقصاً في حقه، كيف وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عرف الواجب جلّ اسمه وصفاته وأفعاله ووقف على حقائق الكون ودقائقه عن طريق الوحي الذي هو أوثق وأسدّ الطرق الممكنة، لا يخطأ ولا يشتبه وعند ذاك لا حاجة له إلى هذه الطرق العادية غير المصونة عن الخطأ والاشتباه.

أضف إليه لو فرضنا أنّ بقاء النبي على ما كان عليه من الاُمية كان يرفع الشك

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ١١١ ـ ١١٣ ط تبريز.

٣١٨

عن قلوب السذج من الناس ويؤكد ايمانهم واذعانهم بنبوّته وبما جاء به من الشريعة والكتاب وجب على المولى سبحانه ابقاءه على ما كان عليه من الصفات والنعوت، طلباً للغاية التي بعثه لأجل احرازها وتحققها، فإذا كان هو الملاك في اُمّيته قبل بزوغ دعوته فليكن هو الملاك في بقائه عليها فلا وجه لعد أحدهما نقصاً في حقهصلى‌الله‌عليه‌وآله دون الآخر.

ثانياً: إنّ ما ذكره « انّ الكتابة فضل تشرف المتحلي به على العاطل منه وإذا صح أنّ الله قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة محسناً لها » صحيح جداً وقد فضّل الله سبحانه نبيّنا على جميع الأنبياء والرسل ومنحه من الفضائل ما لم يمنحه لغيره غير أنّه لما كانت هناك مصلحة أولى وأهم كما صرح الله بها سبحانه في كتابه وهي طرد الريب عن القلوب الضعيفة، صرفه الله سبحانه عن تعلّم القراءة والكتابة طيلة عمره، ولم يمكنه منها طلباً لهذه الغاية المهمة وترك المهم توخّياً للأهم لا يعد نقصاً لو لم يعد كمالاً.

وإلى ذلك يشير الفاضل القنوي في تعليقه على « أنوار التنزيل » بقوله: ولذلك صارت الاُمية شرفاً وفخراً في شأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصفة نقص في حق غيره.

وبذلك نجيب عن ما أفادهرحمه‌الله :

« لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمته » لأنّه إذا جاز احتياج النبي الأعظم في مورد خاص إلى بعض رعيته توخياً لبعض المصالح المهمة، لا يستلزم جواز احتياجه في الموارد الخالية عنها فإنّ الأوّل لا يعد نقصاً عند العقلاء ولأجل ذلك يرجّحون الأهم على المهم عند التزاحم، بخلاف الثاني.

ثالثاً: إنّ قوله سبحانه:( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) لا يدل على ما رامه أمّا إذا قلنا إنّ المراد من الكتاب هو القرآن كما هو الظاهر المتبادر إلى الذهن فإنّ تلاوة الآية

٣١٩

لا تفتقر إلى معرفة الكتابة إذا تلقى التالي محفوظاته من وحي أو تلقين، ومن الناس من يتعلّم القرآن من الصدور لا السطور ويتلوه كما حفظ بدون توقف على معرفة الخط، وأمّا إذا قلنا إنّ المقصود منه الكتابة وإن كان بعيداً جداً فليس معناه تعليم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لقومه الكتابة مباشرة إذ لم يعهد ولم ير بأسانيد صحيحة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جلس مع أفراد اُمّته يعلّمهم نقوش الحروف الهجائية وتراكيبها الأبجدية قطعاً، وإنّما المراد أنّه قام بأمر تعليم الاُمّة مهمة الكتابة، فقد تواتر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله اتّخاذه الأسرى يشترط عليهم أن يعلّموا أهل مدينته الخط والكتابة(١) فكان الأسير إذا علّم الكتابة عشرة من المسلمين أطلق النبي سراحه مكافأة لعمله وبهذه الوسيلة البسيطة عمّم في اتباعه صناعة الخط وأخرجهم من ظلمة الاُمّية وأصبح مقر الاسراء مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة ما يحتاجون إليه من علوم ذلك العهد.

وأمّا ما تمسك به من مفهوم الآية وأنّ لفظة:( مِن قَبْلِهِ ) يفهم منها أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد الوحي إليه فيوافيك نقده في البحث التالي :

ثم إنّ للعلاّمة الشهرستاني كلمة قيمة في المقام يجري مجرى الجواب عن ما ذكره المفيد فلاحظه(٢) .

٢. الاستدلال بمفهوم الآية :

نقل شيخ الطائفة استدلال القوم على اُمّية النبي الأعظم بقوله سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت ـ ٤٨ ) ثم اعترض عليهم بما هذا ملخصه :

__________________

(١) قال الاُستاذ عمر أبو النصر في كتابه « العرب ص ٢٣ »: وكان فداء الأسرى الذين يعرفون القراءة والكتابة تلقين عشرة من صبيان المدينة الكتابة، وكذلك أصبح مقر الأسرى مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة.

(٢) راجع مجلة المرشد البغدادية لسنتها الرابعة ص ٣٢٧ ـ ٤٢٨ ما أفاده العلّامة الحجة السيد هبة الدين الشهرستاني على ما نقله عنها العلّامة المتتبع الجرندابي في تعاليقه على أوائل المقالات.

٣٢٠

« إنّ الآية لا تدل على أنّ النبي كان اُمياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه ».

« ولو دلّت الآية على أنّه لم يكن يحسن الكتابة قبل الايحاء إليه، لدلّت بالمفهوم على أنّه كان يحسنها بعد الايحاء إليه، حتى يكون فرقاً بين الحالتين ولا يكون الاتيان بالقيد ـ قبله ـ لغواً »(١) .

وفي ما أفاده مواقع للنظر :

أوّلاً: ففرق واضح بين من يحسن الكتابة ويتركها، ومن لا يحسنها أصلاً، فانّ من يحسن الكتابة، لا يتركها دائماً، بل يتركها مؤقتاً بسبب ظروف تلم به ولا يصح الاستدلال بتركه مؤقتاً، على أنّه لا يحسنها ولا يستكشف حاله منه، وأمّا من لم يكتب منذ نعومة أظفاره إلى أن بلغ الأربعين بل ناهز الخمسين كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيعد ذلك دليلاً عند العرف على أنّه لا يحسنها أصلاً وبتاتاً.

فالآية حسب ما يفهم منها عرفاً، تدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمياً لا يقدر على الكتابة، وقوله سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) بالنظر إلى ذيله وهو رفع الشك عن قلوب المبطلين، كناية عن كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمّياً لا يحسن شيئاً من القراءة، لا أنّه كان عارفاً بها ولكنّه تركها لمصلحة أو غيرها.

وثانياً: إنّ استفادة المفهوم من الآية ودلالة القيد ـ من قبله ـ عليه مشكلة جداً وإن قلنا بدلالته على المفهوم في مقام آخر، وذلك أنّ دلالة القيد عليه إنّما هي إذا كان بقاء الحكم وعدمه عند ارتفاع القيد سواسية، فعند ذلك يستدل بأخذ القيد في موضوع الحكم على دخله في الغرض وفي الحكم المذكور في القضية ويكون مرجعه إلى ارتفاع الحكم السابق بارتفاع القيد كما إذا قيل: أكل زيد قبل طلوع الشمس، وأمّا إذا كان بقاء

__________________

(١) التبيان: ج ٨ ص ٢١٦ ط لبنان ويظهر من الآلوسي في تفسيره الاعتماد على هذا الوجه.

٣٢١

الحكم عند ارتفاع القيد أولى في نظر السامع كما في المقام فلا يستنبط منه المفهوم فإنّ من بقى على اُميته حتى ناهز الأربعين بل الخمسين أولى بأن يبقى على تلك الحالة في ما بقي من عمره، فإنّ الرجل إذا لم يحصل على ملكة الكتابة إلى أن ورد في العقد الخامس من عمره لا يحتمل في حقه عادة أن يعود إلى تحصيلها بعد هذه المراحل الطويلة، وعلى ذلك فلا يمكن الاستدلال على رفع الحكم المستفاد من قوله:( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ ) وقوله:( وَلا تَخُطُّهُ ) عند ارتفاع القيد، أي لا يدل على أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد بعثته كما هو المقصود.

خلاصة القول: إنّ الآية غير دالة على وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد بزوغ دعوته ولا يدل على شيء من الطرفين والتمسك بمفهوم القيد:( مِن قَبْلِهِ ) إنّما يصح إذا سيق الكلام لأجل افادته والإيماء إلى اختلاف حاله في المقامين وأمّا إذا سيق الكلام لغير هذه الغاية فلا يدل على ما استظهره من المفهوم، فانّ الغاية من الإتيان بالقيد هو الاستدلال باُمّيته قبل نزول الوحي عليه، على صدق مقاله ودعوته فإنّ الاُمّي إذا أتى بكتاب أخرس بفصاحته فرسان البلاغة وقادة الخطابة وسادات القوافي وملوك البيان بل أدهش بقوانينه اساطين القوانين والنظام، يعد كتابه هذا بهذه الأوصاف والنعوت آية على كونه وحياً إلهياً خارجاً عن طوق القدرة البشرية، وأمّا أنّه هل بقي على الاُمّية بعد ما صار نبيّاً يوحى إليه أو لا ؟ فخارج عن هدف هذه الآية وليست له صلة بمرماها ومقصدها وعلى ذلك نظائر في اللغة والعرف.

ولقد أحسن المرتضى، فلم يجعل الآية دليلاً على تغيّر حاله بعد بعثته، وسلك مسلكاً متوسطاً غير ما سلكه استاذه الشيخ المفيد وما قصده تلميذه شيخ الطائفة الطوسي ودونك نقل كلامه :

هذه الآية:( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) تدل على أنّ النبي ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فالذي نعتقده في ذلك، التجويز لكونه عالماً بالقراءة والكتابة، والتجويز لكونه غير عالم بهما من غير قطع بأحد الأمرين وظاهر الآية يقتضي

٣٢٢

أنّ النفي قد تعلق بما قبل النبوّة دون ما بعدها، ولأنّ التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوّة(١) لأنّ المبطلين إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فلا تعلق له بالريبة والتهمة فيجوز أن يكون تعلّمها من جبرئيل بعد النبوّة(٢) .

وكلامه هذا يعرب عن توقفه في المسألة كما هو صريح قوله: « من غير قطع بأحد الأمرين » وما ذكره « ظاهر الآية يقتضي أنّ النفي قد تعلق بما قبل النبوّة دون ما بعدها » صحيح لو أراد بذلك نفي دلالة الآية على أحد الأمرين وأمّا لو أراد به دلالتها على كونه قارئاً وكاتباً بعد فموهون بما أوضحناه عند البحث عن كلام تلميذه الجليل شيخ الطائفة رحمه الله، مع أنّه بعيد عن ظاهر كلامه.

وأمّا ما أفاده من « إنّ المبطلون إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فلا تعلّق له بالريبة والتهمة » غير ثابت ولا ظاهر بل يمكن أن يتطرق الشك إلى نبوّته لو كان يحسنها بعد النبوّة إذا تظاهربها في مرآى ومسمع من الناس، فلاحظ التعليقة السابقة.

٣. الاستدلال بقوله سبحانه:( يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً )

استدل الدكتور عبد اللطيف الهندي بقوله سبحانه:( رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً *فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ) ( البينة: ٢ ـ ٣ ) قال: « إنّه يدل على تحقق التلاوة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيام رسالته وفي رحاب دعوته ».

لكنّه لا يدل على ما رامه فإنّ التلاوة كما تصدق على التلاوة عن الكتاب، تصدق

__________________

(١) اختصاص التعليل بما قبل النبوّة غير ظاهر بل لو تظاهر النبي بالقراءة والكتابة بعد نبوته، فهو وإن كان يعد معجزة ومفخرة له عند من خلصت نيته، وطهر قلبه، لكنّه يوجب تسلل الشك إلى اُمّيته قبل نبوته عند المبطلين والمشككين فيضلّون ويضلّون، وينشرون الأوهام والأراجيف حول دعوته ورسالته، نعم لو كان عارفاً بها غير متظاهر لصح اختصاص التعليل بما قبل النبوّة.

(٢) مجمع البيان: ج ٨ ص ٢٨٧، مناقب آل أبي طالب: ج ١ ص ١٦١.

٣٢٣

على التلاوة عن ظهر القلب، ويؤيده أنّه لم يرو عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أيام رسالته أنّه تلا القرآن عن غير ظهر قلبه، أضف إلى ذلك ما ذكره المفسّرون في « صحف مطهرة » من الاحتمالات التي تخرجها عن محيط هذه الصحف المادية التي يرومها المستدل ومن شاء الاحاطة بها فليرجع إلى التفاسير.

ونظير ذلك قوله سبحانه:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ * إلّامَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ) ( الأعلى: ٧ ـ ٨ ) إذ معناه: سنقرأ عليك القرآن فلا تنساه ونجعلك قارئاً باذن منه فلا تنسى ما تتلقاه من أمين الوحي، إلّا بمشيئة منه فإنّ الاقراء والانساء كليهما بيده سبحانه، فلا يدل إلّا على تلاوة القرآن وقراءته عن ظهر القلب فقط كما كان هو دأب النبي في تلاوة كل ما اُوحي إليه، وهو غير ما يرومه الدكتور وأمثاله.

قال الزمخشري: بشّر الله تعالى باعطاء آية بيّنة وهي أن يقرأ عليه جبرئيل ما يقرأ عليه من الوحي وهو اُمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه.

وأمّا الاستثناء فلا يدل على تحقق الانساء منه سبحانه بالنسبة إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بل هو للتنبيه على أنّ الأمر كله بيده، وإن منحت كرامة الحفظ إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله فليس بمعنى تفويض الأمر إليه وخروجه عن يد الله سبحانه، بل الأمر في كلا الحالين بيده، فالله الذي جعله قارئاً لا ينسى، قادر على أن يصيره ناسياً لا يحفظ شيئاً، ولا يخطر على روعه شيء، فوزان الاستثناء في هذه الآية وزان الاستثناء في قوله سبحانه:( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ( هود ـ ١٠٨ ).

فلا يدل على تحقق المشيئة في المستقبل منه سبحانه حتى ينافي خلود المؤمنين في الجنة.

٤. الاستدلال بقوله سبحانه:( اكْتَتَبَهَا )

استدل بعض الأعلام بقوله سبحانه:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان ـ ٥ ) وفسّره في الكشّاف بقوله: اكتتبها: اكتتبها لنفسه

٣٢٤

وأخذها كما تقول: استكب الماء واصطبه: إذا سكبه وصبّه لنفسه وأخذه(١) وكأنّه يريد أن يفهم أنّ زيادة التاء في « اكتتبها » للدلالة على أنّ كتابته كانت لنفسه بخلاف المجرد عنها كقولنا « كتب فلان » فإنّه أعم من أن يكون ذلك لنفسه أو لغيره.

وقال الشيخ الطوسي: اكتتبها هو وانتسخها فهي تملى عليه حتى ينسخها(٢) وجه الاستدلال، أنّ المشركين قالوا: إنّ القرآن أساطير كتبها محمد لا من تلقاء نفسه بل بالإملاء عليه من غير، فقولهم: يكتب الأساطير بإملاء الغير عليه، صريح في أنّه بعد الايحاء إليه كان كاتباً يكتب القرآن، وبما أنّ الكتابة صفة كمال لا ينسبها إليه خصومه كذباً وافتراء فلا بد أن تكون ثابتة له في تلك الحال(٣) .

ولكن ما أقامه من الدليل موهون جداً فإنّ الكتابة وإن كانت صفة كمال إلّا أنّ شهادة الخصم إنّما تدل على اتصافه بها إذا كانت الشهادة صادرة عن خلوص وصفاء وأمّا إذا جعلها ذريعة لإنكار نبوّته، فلا يعد رميه بها دليلاً على صدق النسبة فإنّ القوم لما عجزوا عن الوقيعة في قرآنه ولم يتمكنوا من معارضته ومباراته دخلوا من باب آخر، حتى يفتحوا بذلك باب الريب على نبوّته وكتابه وقالوا إنّ هنا من يملي عليه القرآن بكرة وأصيلاً، وهو يكتب ما يملى عليه ولا هدف لهم من تلك الفرية إلّا التشكيك في نبوّته ونزول الوحي عليه ولولا ذلك لما وصفوه بها ولا بغيرها من الصفات، فإنّ التوصيف، بأدنى مراتب الكمال، يخالف ما يرمون إليه من انتقاصة.

على أنّ هنا في لفظة « اكتتبها » احتمالاً آخر وهو أنّه أمر بالكتابة والاستنساخ، احتمله الرازي بل اختاره وقال: معنى « اكتتب » ههنا، أنّه أمر أن يكتب له كما يقال: « احتجم » و « افتصد » إذا أمر بذلك(٤) .

إلى هنا تم ما وقفنا عليه من الأدلّة القرآنية التي أقامها القائلون على أنّ النبي كان قارئاً وكاتباً بعد نزول الوحي عليه، وقد عرفناك وهن الجميع، ووقفت على ما فيها من

__________________

(١) الكشاف: ج ٢ ص ٤٠٠.

(٢) التبيان: ج ٧ ص ٤٧٢.

(٣) تفسير الآيات المتشابهات: ص ٤٧ ـ ٤٨.

(٤) مفاتيح الغيب: ج ٦ ص ٣٥٣.

٣٢٥

المناقشات.

نعم هناك وجوه عقلية واستحسانات، اعتمد عليها بعض من اختار هذا النظر، ونحن نأتي بها.

٥. الاستدلال بالأولوية :

استدل بها المجلسي وقال إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قادراً على التلاوة والكتابة بالاعجاز وكيف لا يعلم من كان عالماً بعلوم الأوّلين والآخرين، انّ هذه النقوش موضوعة لهذه الحروف، ومن كان قادراً باذن الله على شق القمر وأكبر منه، كيف لا يقدر على نقش الحروف والكلمات على الصحائف والألواح والله تعالى يعلم(١) .

وما ذكره لا يخرج عن حدود الاستحسان إذ من الممكن أن لا يمكنه الله من القراءة والكتابة لمصلحة هو أعلم بها، أو لأجل رفع الريب والشك عن جانب نبوّته كما هو غير بعيد حتى بالنسبة إلى ما بعد النبوّة، إذا تظاهر بالقراءة والكتابة.

٦. التجارة تتوقّف على الكتابة :

قال بعض من عاصرناه: « إنّ المشركين رموه بالكذب والسحر والجنون والفرية ولم ينسبوه إلى الاُمية مع كونها صفة نقص لا سيما للتجار ذوي رحلة الشتاء والصيف، فإذا لم يعيبوه بالاُمّية كان ذلك دليلاً على أنّه كان بعد النبوّة قارئاً وكاتباً »(٢) .

ونناقش ما أفاده :

أوّلاً: إنّ عدم رميهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالاُمّية، فلعدم كونها عيباً عندهم، كيف والقوم كانوا جماعة اُمّية وكانت تلك الصفة هي السائدة عليهم، وكان الرامي بها والمرمى إليها في هذا الوصف سواسية.

__________________

(١) بحار الأنوار: ج ١٦ ص ١٣٦.

(٢) تفسير الآيات المتشابهات: ص ٥٠.

٣٢٦

ثانياً: إنّ التجارة وإن كانت تتوقف على القراءة والكتابة في الأوساط المدنية غير أنّ الدارج في البيئات البعيدة عن الحضارات كان غير ذلك، خصوصاً قريش الذين كانت لهم رحلة الشتاء والصيف، فكانوا يبيعون أو يشترون، ويرجعون، من دون أن يبقى لهم أو عليهم شيء.

هذا ما لدى القائلين من الأدلّة على كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله قارئاً وكاتباً بعد بزوغ نبوّته، هلم معي ندرس بعض ما وقفنا لهم في المقام من كلمات تؤكد من نقلناه عنهم.

قال الشيخ: « إنّ الحاكم يجب أن يكون عالماً بالكتابة والنبي عليه وآله السلام كان يحسن الكتابة بعد النبوّة وإنّما لم يحسنها قبل البعثة »(١) .

وتبعه ابن ادريس الحلي في باب سماع البيّنات من كتاب القضاء وجاء بعين ما نقلناه عن الشيخ(٢) .

واختاره العلّامة الحلي في كتاب النكاح عن تذكرته عند البحث عن مختصات النبي الأكرم حيث قال: كان يحرم عليه الخط والشعر تأكيداً لحجته وبياناً لمعجزته قال الله تعالى:( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) وقال تعالى:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ) ( يس ـ ٦٩ ).

وقد اختلف في أنّه هل كان يحسنها أو لا: وأصح قولي الشافعي الثاني وإنّما يتجه التحريم عل الأول(٣) أي على القول بأنّه كان يحسن الكتابة إذ على فرض عدم عرفانه بها، فالتحريم يكون لغواً وتحصيلاً للحاصل.

غير أنّ دلالة الآية على حرمة الكتابة عليه، مبني على كون « لا » في قوله:( وَلا تَخُطُّهُ ) ناهية وهو خلاف الظاهر، خصوصاً بملاحظة سياق الآية أي قوله تعالى:( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) فإنّه جملة خبرية وهو يقتضي أن تكون الجملة التالية لها أيضاً خبرية لا انشائية.

__________________

(١) المبسوط: كتاب القضاء ج ٨ ص ١٢٠.

(٢) السرائر: باب سماع البيّنات من كتاب القضاء وهو غير مرقم.

(٣) تذكرة الفقهاء: ج ٢ ص ٥٦٦ الطبعة الجديدة المرقمة.

٣٢٧

وقد اقتفى في ذلك قول الشيخ في مبسوطه حيث قال: « وقد خصّ الله نبيّه محمداً بأشياء وميّزه بها عن خلقه أربعة: واجب، ومحظور، ومباح، وكراهة ـ إلى أن قال: ـ وأمّا المحظورات فحظرت عليه الكتابة وقول الشعر وتعليم الشعر »(١) .

اُمّية النبي في الأحاديث :

لقد بان الحق وظهرت الحقيقة من هذا البحث الضافي حول هذه الآيات، فلم نجد آية تدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد بزوغ دعوته، صار قارئاً أو كاتباً.

نعم وردت أحاديث وروايات، رواها الفريقان، ربّما يركن إلى بعضها، ويستدل به على تمكنه من القراءة والكتابة بعد بعثته، بإعجاز منه سبحانه، وإن كان الكل لا يخلو من اشكال ونحن نورد هنا تلكم الأحاديث :

منها: حديث بدء الوحي

ررى أصحاب السير والتفسير :

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يجاور في حراء من كل سنة شهراً حتى إذا كان الشهر الذي بعثه الله سبحانه فيه خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حراء حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، جاءه جبرئيل بأمر الله، ولنترك وصف ذلك إلى ما ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله :

« فجاءني جبرئيل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ ؟ قلت: ما أقرأ ؟ فغتني به(٢) حتى ظننت أنّه الموت، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ ؟ قال: قلت: ما أقرأ ؟ قال: فغتني

__________________

(١) راجع المبسوط أوائل كتاب النكاح: ج ٤ ص ١٥٢ ـ ١٥٣.

(٢) كذا في جامع الاُصول والطبري والغت: حبس النفس، وفي صحيح البخاري والمواهب « غطني » وهي بمعنى الغت أيضاً.

٣٢٨

به حتى ظننت أنّه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ ؟ قال: قلت: ماذا أقرأ ؟ ما أقول ذلك إلّا افتداءاً منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي فقال:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) قال: فقرأتها ثمّ انتهى، فانصرف، وهببت من نومي، فكأنّما كتبت في قلبي، قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوت من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل، قال: فرفعت رأسي إلى السماء انظر فإذا بجبرئيل في صورة رجل صف قدميه في افق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل ».

ويظهر من البخاري من صحيحه أنّ جبرئيل نزل بسورة العلق حينما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقضاً لا نائماً، وأنّه تحمّل بدء الوحي في حال اليقظة حيث قال: فجاءه الملك فقال: اقرأ ؟ ما أنا بقارئ(١) قال: فأخذني فغطني حتى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ ؟ قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني، فقال: اقرأ ؟ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثمّ أرسلني فقال:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ) .

كلمة حول سند الحديث :

إنّ سند الحديث ينتهي إلى أشخاص ثلاثة يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ودونك أسمائهم.

١. عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، أخرج الحديث عنه ابن هشام في سيرته ج ١ ص ٢٣٥، والطبري في تفسيره ج ٣٠ ص ١٦٢، وتاريخه ج ٢ ص ٣٠٠، وقد ترجم الرجل ابن الاثير في اُسد الغابة ج ٣ص ٣٥٣، وقال ذكر البخاري أنّه رأى النبي وذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي، وهو معدود في كبار التابعين يروي عن عمر وغيره من

__________________

(١) وهذا شاهد على أنّ الملك لم يرد أن يلقنه الآيات ليتابعه في القراءة فإنّ ذلك أمر مقدور للقارئ والاُمّي، ولو أراد هذا كان المناسب أن يقول ماذا أقرأ، بل أراد أن يقرأه النبي بنفسه بلا متابعة.

٣٢٩

الصحابة.

٢. عبد الله بن شداد، أخرج الحديث عنه الطبري في تفسيره ج ٣٠ ص ١٦٢ وفي تاريخه ج ٢ص ٢٩٩. ترجمه ابن الأثير في اُسد الغابة ج ٤ ص ١٨٣. وقال ولد على عهد النبي روى عن أبيه وعن عمر وعلي.

وعلى ذين السندين فالحديث مرسل غير موصول السند إلى النبي الأكرم إذ من البعيد أن يرويا الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه.

٣. عائشة اُمّ المؤمنين، أخرج البخاري عنها الحديث في صحيحه ج ١ص ٣ وج ٣ ص ١٧٣ في تفسير سورة العلق والطبري في تفسيره ج ٣٠ ص ١٦١. وعلى ذلك فقد تفردت هي بنقل هذا الحديث، ومن البعيد جداً أن لا يحدث النبي هذا الحديث بغيرها، مع اشتياق غيرها إلى سماع أمثال هذه الأحاديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وعند ذلك يشكل الاستدلال بالحديث جداً.

نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكري كما في البحار ج ١٨ ص ٢٠٦ لكن كون التفسير من الإمام فيه كل الشك والريب ونقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه ج ١ص ٤٠ ـ ٤٤، والمجلسي في بحاره ج ١٨ ص ١٩٦.

توضيح مفاد الرواية :

إنّنا مهما جهلنا بشيء من الأشياء، فلا يمكن أن نجهل بأنّ النبوّة منصب الهي لا يتحمله إلّا الأمثل فالأمثل من الناس، ولا يقوم بأعبائها إلّا من عمر قلبه بالإيمان، وزود بالخلوص والصفاء وغمره الطهر والقداسة، واُعطي مقدرة روحية عظيمة لا يتهيب حين ما يتمثل له رسول ربّه وأمين وحيه، ولا تأخذه الضراعة والخوف عند سماع كلامه ووحيه، وتلك المقدرة لا تفاض من الله على عبد إلّا بعد معدّات ومقدّمات :

منها: شموخ أصلاب آبائه وطهارة أرحام اُمّهاته، حتى ينتقل من صلب شامخ إلى صلب آخر مثله، ومن رحم طيبة إلى اُخرى مثلها.

٣٣٠

منها: البخوع للعبادة، والعكوف على المجاهدات النفسانية والرياضات التي لا تنازع الفطرة، بل تعدل الميول والغرائز وتهديها سبيل الرشاد والسلام.

منها: التفكير في آثار صنعه وعجائب خلقه وبدائع كونه بتعمّق وتدبّر حتى يهديه التفكير في جمال الطبيعة إلى معرفة بارئها معرفة تامة تليق بحال نبيّه.

منها: أن يكون في رعاية أكبر ملك يهديه إلى طرق المكارم ومحاسن الأخلاق كما أشار إليه مولانا أمير المؤمنين في الخطبة القاصعة: « لقد قرن بهصلى‌الله‌عليه‌وآله من لدن ان كان فطيماً، أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر اُمّه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة ؟ فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى إلّا أنّك لست بنبي ولكنّك وزير، وأنّك لعلى خير »(١) .

هذا البيان الضافي من أمير الإسلام والبيانعليه‌السلام يؤمي إلى كثير مما ذكرناه من المقدمات، ويرسم لنا صورة اجمالية من حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الأكرم قبل بعثته وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله منذ نعومة أظفاره، ومنذ أن فطم من الرضاع، وقع تحت كفالة أكبر ملك يسلك به طريق المكارم، ويرشده إلى معالم الهداية ومدارج الكمال، ويصونه طيلة حياته من طفولته إلى شبابه وإلى كهولته من كل سوء.

هذا البيان يفيدنا بأنّ نفس أي انسان لا تستعد لقبول الوحي إلّا بعد اقتحام عقبات وطي مراحل، وأنّ الملك الأكبر لم يزل يواصل نبي الإسلام ليله ونهاره حتى استعدت نفسه لقبول الوحي، وتمثّل أمينه بين يديه، والقاء كلام ربّه إليه ووعيه له منه، بانطباعه في لوح نفسه، وإذا اقتحم تلكم العقبات وتحققت تلكم المقدمات والمعدات

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة القاصعة ص ٣٧٤ طبع عبده.

٣٣١

وتم الاستعداد، ارتقت نفسه إلى ذلك الحد الأسمى فانحسرت عن قلبه الأغطية وارتفعت عنه الحجب، حيث أخذ يعاين الأشياء على ما هي عليه، ويقف على الحقائق على النحو الذي يليق به ويقدر على تلاوة ما لم يكن قادراً عليها.

وقد تحققت تلك الغاية وبلغت نفسه الشريفة إلى ذلك الحد في الشهر الذي اختاره الله تعالى فيه رسولاً إلى الناس، فجاءه أمين الوحي بلوح برزخي يحتوي على آيات من القرآن الكريم فعرضه على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وطلبه منه أن يقرأه فأبى وتجافى عن قراءته قائلاً بأنّه اُمّي لا يقرأ ولا يكتب، وأنّه ماقرأ وما كتب طيلة عمره فغطه الأمين ثلاث مرات فإذا به يقرأ.

نحن لا نعلم كنه هذا الغط ولا نستطيع إدراكه، وليس هو إلّا أثراً مادّياً لأمر معنوي كاماطة الستر عن روحه وقلبه، وهذا أمر طبيعي في مثل هذا الموقف العظيم الجليل الذي تنوء به أجسام وأرواح البشر، فإنّ لكل عمل روحي ولا سيما لمثل كشف الغطاء أثراً خاصاً في أبداننا، والأثر البارز المادي لكشف الغطاء عن قلب النبي ونفسه، هو الغط الذي أحسّه في ذلك الحين، وإلّا فالغط المادي لا مدخلية له في القدرة على القراءة والتلاوة.

هكذا كانت هذه اللحظة الحاسمة من حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله منعطفاً رائعاً إلى مرحلة جديدة، فكشف عنه الغطاء آن الغط، فقدر على قراءة ما لم يقدر عليه فعرف الحروف والنقوش، بل الحقائق فصار أكمل إنسان يطأ الأرض بقدميه، ويعيش في اديمها ويتظلّل بسمائها.

وهذا البيان منضمّاً إلى ما سمعته من حديث بدء الوحي يدفعنا إلى القول بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد انقلبت حاله بعد البعثة بإعجاز من الله سبحانه واقدار منه تعالى. غير أنّ ما ذكرنا مبني على صحة الحديث واتصال سنده إلى النبي ولكنّك عرفت أنّ الحديث مقطوع غير موصول بالنبي الأكرم فلاحظ.

٣٣٢

منها: حديث المطالبة بالقلم والدواة :

أخرجه أصحاب الصحاح والسنن ونقلها أهل السير والأخبار كافة ويكفيك ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، فقال عمر: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : قوموا، فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية ما حال بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم(١) .

أخذ المستدل بظاهر الحديث وقال: النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله طلب أن يكتب كتاباً، وظاهره كون الكاتب نفسه لا غير، لكنّه نسى أو تناسى أنّ في الإسناد مجازاً وأنّه من باب كتب الأمير، أو كتب الملك وليس معناه أنّه كتب بنفسه، بل السيرة على أنّ الملك أو الأمير يمليان والكاتب يكتب وينفّذانه بخاتمهما، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يملي والكاتب يكتب ولا يكتب بيده، وهكذا كانت سيرة الخلفاء من بعده، ما كانوا يكتبون إلّا في مواقف خاصة.

منها قصة الحديبية :

ملخّصه: لما اعتمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب، هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا: لا نقر بهذا، لو نعلم أنّك رسول لله ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد الله، فقال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله، ثمّ قال لعليعليه‌السلام :

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ٢ ص ٢٢ كتاب العلم، وأخرجه مسلم في آخر الوصايا في صحيحه: ج ٢ ص ١٤، وأحمد في مسنده: ج ١ ص ٣٢٥ وغيرهم من أعلام الاُمّة.

٣٣٣

امح رسول الله، قال علي: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الكتاب وليس يحسن يكتب، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدخل مكة السلاح إلّا السيف في القراب الخ(١) .

وقد تمسك بظاهر الرواية « أبو الوليد الباجي » فادّعى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كتب بيده بعد أن لم يكن يكتب، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة وانّ الذي قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم :

برئت ممّن شرى دنيا بآخرة

وقال إنّ رسول الله قد كتبا

فجمعهم الأمير فاستظهر « الباجي » عليهم بما لديه من المعرفة وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن بل يؤخذ من مفهوم القرآن، لأنّه قيد النفي بما قبل ورود القرآن، فقال:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) وبعد أن تحققت اُمنيته وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب في ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فتكون معجزة اُخرى.

وذكر « ابن دحية » أنّ جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك منهم شيخه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة من طريق مجاهد، عن عون بن عبد الله، قال: ما مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى كتب وقرأ، قال مجاهد: فذكرته للشعبي فقال: صدق قد سمعت من يذكر ذلك(٢) .

الجواب عن الاستدلال بالرواية :

إنّ ما رواه البخاري وغيره ممّن جنح إليه على خلاف ما يرتئيه المستدل أدل، فإنّ

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ٥ باب عمرة القضاء ص ١٤١، الكامل: ج ٢ ص ١٣٨، مسند أحمد: ج ٤ ص ٢٩٨ ولفظه هكذا: فكتب مكان رسول الله، هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله إلّا يدخل مكة السلاح إلّا في القراب.

(٢) فتح الباري: ج ٩ ص ٤٤ وأضاف الباجي بأنّ في معرفة الكتاب بعد اُمّيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله معجزة اُخرى لكونها من غير تعليم، لاحظ مناهل العرفان: ج ١ ص ٣٥٨.

٣٣٤

قوله: « وأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب » أصدق شاهد على اُميته.

أضف إلى ذلك ما ورد في بعض الروايات من قول النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي: « أرني إيّاها » أو قوله: « فضع يدي عليها » فهو شاهد صدق على بقائه على ما كان عليه من الاُمّية.

ولأعلام الحديث والتاريخ كلمات ضافية حول الرواية تميط الستر عن وجه الحقيقة، فلنأت بما وقفنا عليه.

١. قال ابن حجر: إنّ النكتة في قوله: « فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب » هو بيان قوله: « أرني إيّاها » فإنّه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع عليعليه‌السلام من محوها، إلّا لكونه لا يحسن الكتابة.

على أنّ قوله بعد ذلك « فكتب » فيه حذف تقدير، أي فمحاها لعلي فكتب وبهذا جزم ابن التين وأطلق « كتب » بمعنى أمر بالكتابة، وهو كثير كقوله: كتب إلى قيصر وكتب إلى كسرى.

وعلى تقدير حمله على ظاهره فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة، أن يصير عالماً بالكتابة ويخرج عن كونه اُمّياً فإنّ كثيراً ممّن لا يحسن الكتابة، يعرف تصوير بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده وخصوصاً الأسماء ولا يخرج بذلك عن كونه اُمّياً.

واحتمل أن يكون المراد: جرت يده بالكتابة حينئذ وهو لا يحسنها فخرج الكتاب على وفق المراد، فيكون معجزة اُخرى في ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه اُمّياً وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمّة الاُصول من الأشاعرة وتبعه « ابن الجوزي » وتعقب ذلك السهيلي وغيره بأنّ هذا وإن كان ممكناً ويكون آية اُخرى لكنّه يناقض كونه اُمّياً لا يكتب وهي الآية التي قامت بها الحجة وأفحم الجاحد وان حسمت الشبهة، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة، وقال السهيلي والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضاً، والحق أنّ معنى قوله فكتب: أي أمر علياً

٣٣٥

أن يكتب(١) .

٢. قال الحلبي: تمسك بعضهم بظاهر الحديث وقال: إنّ النبي كتب بيده يوم الحديبية معجزة له، مع أنّه لا يقرأ ولا يكتب وجرى على ذلك أبو الوليد الباجي المالكي فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه وقالوا: هذا مخالف للقرآن.

ـ إلى أن قال ـ: والجمهور على أنّ الروايات التي فيها « أنّه أخذ الكتاب بيده فكتب » محمول على المجاز أي أمر أن يكتب الكاتب(٢) .

أقول: إنّ لفظة « بيده » ليست في نسخ صحيح البخاري ونص على ذلك الحلبي أيضاً وقوله: « ليس يحسن أن يكتب » الوارد في صحيحه وغيره من المصادر الأصلية(٣) دال على ما نرتئيه في هذا المقال.

نعم رواه البخاري في كتاب الصلح بصورة اُخرى قال: « فلمّا كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا: لا نقرّ بها فلو نعلم أنّك رسول الله ما منعناك ـ إلى أن قال ـ: ثم قال لعلي: امح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الكتاب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة سلاح إلّا في القراب »(٤) .

إنّ تلك الواقعة قد رويت بصورتين اُخريين، رواهما أعلام السير والتاريخ.

الاُولى: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر علياً أن يمحو لفظ « رسول الله » فامتنع علي من محوه فقال رسول الله: أرنيه، فأراه علي، فمحاه بيده الشريفة، ثم أمر علياً أن يكتب ودونك لفظ الرواية: أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علياً أن يكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) فتح الباري: ج ٩ ص ٤٥.

(٢) السيرة الحلبية: ج ٣ ص ٢٤ وسيرة زينى دحلان في هامش السيرة: ج ٢ ص ٢١٤ ولكن اللفظ للأخير.

(٣) راجع الأموال: ص ١٥٨ ونقله عن المجلسي في بحاره: ج ٢٠ ص ٣٧١.

(٤) صحيح البخاري: ج ٣ ص ١٨٥ فحذف قوله وليس يحسن يكتب.

٣٣٦

سهيل بن عمرو، فقال: فعلى مَ نقاتل ؟ اكتب اسمك واسم أبيك، فقال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله، فأمر بمحوها فعند ذلك كثر الضجيج واللغط وأشاروا إلى السيوف فقال عليعليه‌السلام ما أنا بالذي أمحوه، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ستدعى إلى هذا وأنت مضطهد مقهور(١) إلى أن قال: وضج المسلمون وارتفعت الأصوات وجعلوا يقولون لا نعطي هذه الدنية، وجعل رسول الله يخفضهم ويومي بيده إليهم أن اسكتوا ثمّ قال: أرنيه، فأراه عليٌّعليه‌السلام فمحاه بيده الشريفة ثمّ أمر علياً أن يكتبه.

نعم يظهر من البخاري أنّ النبي محاه من دون أن يريه عليّاعليه‌السلام وربّما يستدل به على تمكّنه من القراءة، فروى في كتاب الصلح: لما صالح رسول الله أهل الحديبية ـ إلى أن قال: ـ فقال لعلي: أمحه، فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه رسول الله بيده وصالحهم على أن يدخل(٢) .

ويحتمل أنّه تركه للاختصار، اعتماداً على ما نقله في كتاب « الجزية والموادعة مع أهل الحرب » وقد نقل القصة فيه عن « البراء » هكذا فقالوا: لو علمنا أنّك رسول الله لم نمنعك ولبايعناك ولكن اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ـ إلى أن قال: ـ فقال لعلي: امح رسول الله، فقال عليٌّ: لا أمحاه أبداً، قال: فأرنيه؟ قال: فأراه إيّاه، فمحاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بيده(٣) .

ومع هذا التصريح لا يعبأ بما نقله من دون هذه الزيادة.

__________________

(١) هذا من أعلام النبوّة فلاقى علي أمير المؤمنين يوم صفين عندما رضوا بالحكمين ما لاقاه رسول الله في هذا اليوم، روى أهل السير والتاريخ أنّ علياً أمر لكاتبه أن يكتب: هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ومعاوية بن أبي سفيان، فقال عمرو بن العاص: لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك ولكن أكتب: هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب، فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : صدق الله وصدق رسوله أخبرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ثم كتب الكتاب، راجع السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣.

(٢) صحيح البخاري كتاب الصلح: ج ٣ ص ١٨٤.

(٣) صحيح البخاري كتاب الجزية: ج ٤ ص ١٠٤.

٣٣٧

وروى الشيخ الأكبر المفيد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي: فضع يدي عليها، فمحاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيده وقال لأمير المؤمنينعليه‌السلام ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض ثم تمم أمير المؤمنينعليه‌السلام الكتاب(١) .

وفي اعلام الورى: قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : امحها يا علي، فقال له: يا رسول الله إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة. قال: فضع يدي عليها فمحاها رسول الله بيده وقال لعلي: ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض(٢) .

روى أمين الإسلام الطبرسي القصة بطولها وقال: ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله امح رسول الله، فقال: يا رسول الله إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمحاه، ثم قال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله(٣) .

وعلى هذه الصورة من الرواية: أنّ رسول الله نفسه محا لفظة رسول الله، لكن علياً كتب الكتاب بأمره دون رسول الله.

الثانية: وهي تشترك مع الاُولى في التصريح بأنّ الكتاب كتبه عليعليه‌السلام من بدئه إلى ختمه بأمر رسول الله واملاء منه وتفترق عنها بأنّه ليس فيها عن محو لفظة رسول الله عين ولا أثر.

خلاصتها: أنّه عندما أحسّ الهدوء وانخفضت الأصوات بإيماء منهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر رسول الله علياً أن يكتب هذا ما صالح أو قاضى عليه محمد بن عبد الله فكتب على حسب ما املاه عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ودونك نقل ما رواه الطبري في تاريخه.

قال سهيل: لو شهدت أنّك رسول الله لم اقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) السيرة الحلبية: ج ٣ ص ٢٤ وسيرة زيني دحلان: ج ٢ ص ٢١٢، والارشاد: ص ٦ واللفظ للأخير.

(٢) اعلام الورى: ص ١٠٦.

(٣) مجمع البيان: ج ٩ ص ١١٨ راجع تفسير القمي: ص ٦٣٤.

٣٣٨

وسهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب(١) وقريب منه ما رواه البخاري نفسه في موضع آخر(٢) واليعقوبي في تاريخه(٣) والواقدي في مغازيه(٤) وابن هشام في سيرته(٥) وغيرهم من أساطين التاريخ والحديث(٦) ويقرب منه ما رواه الكليني في روضته حيث قال: قال رسول الله لعلي: اكتب: هذا ما قاضى رسول الله وسهيل بن عمرو، فقال سهيل: فعلى مَ نقاتلك يا محمد ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله، فقال له الناس أنت رسول الله، قال: اكتب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال له الناس: أنت رسول الله(٧) .

فبعد هذا الاتفاق والاصفاق من أعلام التاريخ والحديث والتفسير على أنّ الكتاب كتبه علي باملاء من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أوّله إلى آخره فهل يصح الركون إلى ما تفرد به البخاري وأحمد واعتمد عليهما الجزري في كامله، مع أنّ البخاري نقض ما نقله في باب « عمرة القضاء » في كتاب الصلح على ما عرّفناك.

على أنّ التضارب الصريح الذي نشاهده في نقل البخاري في المقام يمنع النفس عن الركون إليه، فقد اضطرب نقله وكلامه من وجوه :

١. تراه أنّه نقل القصة في موضع هكذا « أخذ رسول الله الكتاب وليس يحسن يكتب، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد الله »(٨) ، وفي الوقت نفسه ساقها في موضع آخر من كتابه بنفس اللفظ السابق، ولكنه حذف قوله: « وليس يحسن يكتب »(٩) .

٢. تراه أنّه يصرح بأنّ النبي أمحا لقبه بإراءة عليعليه‌السلام حيث يقول: فقال لعلي: امحه، فقال عليعليه‌السلام لا أمحاه أبداً، قال: فأرينه ؟ قال: فأراه إيّاه فمحاه النبي بيده(١٠) .

__________________

(١) تاريخ الطبري: ج ٢ ص ٢٨١.

(٢) صحيح البخاري كتاب الصلح: ج ٣ ص ١٩٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي: ج ٢ ص ٤٥.

(٤) المغازي: ج ٢ ص ٦١٠.

(٥) السيرة: ج ٢ ص ٣١٧.

(٦) راجع صحيح مسلم: ج ٥ ص ١٧٤.

(٧) روضة الكافي: ص ٣٢٦.

(٨) صحيح البخاري: ج ٥ ص ١٤١.

(٩) نفس المصدر: ج ٣ ص ١٨٥.

(١٠) صحيح البخاري: ج ٤ ص ١٠٤.

٣٣٩

ومع ذلك تراه ينقل امحاء النبي، من دون أن يشير بأنّه كان بإراءة من علي حيث قال: « فقال لعلي: امح رسول الله، فقال: ما أنا بالذي امحاه، فمحاه رسول الله بيده »(١) .

٣. يظهر منه في موضع أنّ علياً هو الذي كتب اسم النبي بعد امحائه ما امحاه حيث قال: « فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : والله إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني، اكتب محمد بن عبد الله »(٢) .

منها كتاب النبي إلى العذار :

روى البخاري عن العذار بن خالد قال كتب لي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا ما اشترى محمد رسول الله من العذار بن خالد بيع المسلم المسلم لا داء ولا خبيئة ولا غائلة(٣) .

ودلالته على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كتب الكتاب بنفسه ضعيفة، لا يمكن الركون إليه في هذه المسألة إذ كثيراً ما يسند الفعل إلى الاُمراء والملوك ويراد منه التسبيب لا المباشرة.

كما أنّ الاستدلال على بقاء النبي على ما كانت عليه قبل الدعوة بقوله في الحديث المروي: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب، ليس بسديد إذ يكفي في صدق مضمونه كون أكثر من بعث إليه اُمّيون لا يكتبون ولا يحسنون.

فذلكة البحث :

ما سردناه لك من الأحاديث في هذه الصحائف، قد رواه الجمهور في صحاحهم، وقد وافاك عدم دلالة كثير منها على ما نرتئيه، غير حديث بدء الوحي ولو صح سنده واعتمدنا على ما تفردت بنقله « عائشة » فإنّما يدل على أنّه سبحانه مكّن عبده من قراءة اللوح الذي كان بيد أمين الوحي، ولم يكن ذاك اللوح، لوحاً مادياً

__________________

(١) المصدر السابق: ج ٣ ص ١٨٥.

(٢) راجع المصدر السابق: ج ٣ ص ١٩٥.

(٣) صحيح البخاري: ج ٣ ص ٧.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543