مفاهيم القرآن الجزء ٣

مفاهيم القرآن0%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 543

مفاهيم القرآن

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف:

الصفحات: 543
المشاهدات: 185496
تحميل: 5040


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 185496 / تحميل: 5040
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

وصحيفة جسمانية بل كان لوحاً برزخياً، ومن قدر على قراءة نقوش ذاك اللوح وحروفه وجمله يقدر على قراءة ما كتب في الألواح والصحائف المادية، ولكنّك قد وقفت على إرسال الرواية وأنّ الحديث غير موصول بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا من ناحيتها.

بقيت في المقام روايات ضعاف ومراسيل، نقله بعض المتأخرين، ولا يمكن الاستدلال بها في مثل هذه المسألة، ودونك ما نقلوه :

قال القاضي الحافظ أبو الفضل بن عياض بن موسى بن عياض: انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا يكتب، ولكنّه اُوتي علم كل شيء حتى قد وردت آثار بمعرفته بالخط وحسن تصويرها، كقوله لا تمدوا بسم الله الرحمن الرحيم(١) رواه ابن شعبان(٢) من طريق ابن عباس، وقوله في الحديث الآخر الذي يروى عن معاوية أنّه كان يكتب بين يديهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له: الق الدواة(٣) وحرف القلم(٤) وأقم الباء(٥) وفرق السين(٦) إلى آخر ما نقله(٧) والمظنون أنّ الحديث من ولائد النزعات الباطلة تزلّفاً للاُمويين.

عرض وتحقيق :

لا بأس بإكمال البحث بما وصل إلينا من الروايات من أئمّة أهل البيت مع ترجمة رجال اسنادها وتوضيح مضامينها على وجه الاجمال وقد نقل المجلسي منها كثيراً في بحاره في الباب السادس من الجزء السادس عشر المختص بحياة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله (٨) .

__________________

(١) قال القارئ في شرحه: أي مد سينه من غير تبيّن روى الدارمي عن زيد بن السن إذا كتبت فبيّن السين.

(٢) هو أبو إسحاق العصري المالكي له ترجمة في الميزان مات سنة خمسة وستين وثلاثمائة.

(٣) أمر من الاق الدواة إذا جعل لها ليقة وأصلح لها مدادها.

(٤) أي اجعل شقه الأيمن أزيد من الطرف الآخر قليلاً لأنّه أسرع في الكتابة وأبدع في اللطافة.

(٥) أي طولها.

(٦) أسنانها.

(٧) راجع فتح الباري: ج ٩ ص ٤٤، شرح الشفاء: ج ١ ص ٧٢٦ ـ ٧٢٧.

(٨) بحار الأنوار: ج ١٦ ص ١٣١ ـ ١٣٥.

٣٤١

١. أخرج الصدوق في علل الشرائع عن ابن الوليد عن سعد(١) عن ابن عيسى(٢) عن الحسين بن سعيد ومحمد البرقي عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: كان النبي يقرأ الكتاب ولا يكتب(٣) .

والحديث صحيح رجاله كلهم ثقاة بالاتفاق ولكنّه ظاهر، أو محمول على عهد الرسالة لما عرفت من تنصيص الكتاب العزيز على كونه اُمّياً قبل البعثة.

٢. أخرج الصدوق في علله عن أبيه عن سعد(٤) عن عيسى عن البزنطي عن أبان عن الحسن الصيقل قال: سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: كان مما منّ الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان اُمّياً لا يكتب ولا يقرأ الكتاب(٥) والسند صحيح إلى البزنطي، نعم اختلفت كلماتهم في أبان ورمَوْه بالناووسية والنسبة غير محققة، والرجل من أصحاب الاجماع، والحسن الصيقل مهمل في كتب الرجال لم يوصف بالوثاقة ولم يرد فيه طعن، والحديث وإن لم يكن صحيحاً لكنّه يعتبر خصوصاً لنقل « أبان » الذي هو أحد أصحاب الاجماع عنه، والحديث نظير ما تقدم عليه في الحمل والظهور بل أظهر من سابقه في كونه راجعاً إلى أيام نبوّته وعهد رسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقرينة قوله: « كان ممّا منّ الله عزّ وجلّ به على نبيّه ».

٣. أخرج الصدوق في علل الشرائع عن أبيه عن سعد عن معاوية بن الحكيم عن البزنطي عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: كان ممّا منّ الله عزّ وجلّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقرأ ولا يكتب، فلما توجه أبو سفيان إلى « اُحد » كتب العباس إلى النبي فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة فقرأه، ولم يخبر أصحابه وأمرهم أن يدخلوا المدينة، فلما دخلوا المدينة أخبرهم(٦) والخبر صحيح إلى البزنطي وهو

__________________

(١) المراد سعد بن عبد الله.

(٢) أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي.

(٣) علل الشرائع: ص ٥٣.

(٤) قد أوضحنا المراد منه ومن بعده في الحديث المتقدم.

(٥) علل الشرائع: ص ٥٣ ومعاني الأخبار: ص ٢٠.

(٦) علل الشرائع: ص ٥٣.

٣٤٢

من أصحاب الاجماع ورجاله كلهم ثقاة غير أنّ في آخره إجمالاً واهمالاً، يلحقه بالمراسيل نعم لا بأس بمضمونه فهو يؤيد ما قدمناه من الصحيحين، وأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ أحياناً في عهد الرسالة لكن نقله زيني دحلان في سيرته بصورة اُخرى ودونك نصه: كتب العباس للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بجمعهم وخروجهم وراودوه على الخروج معهم فأبى واعتذر بما لحقه يوم بدر ولم يساعدهم بشيء من المال فجاء كتابه للنبي وهو بقبا وكان العباس أرسل الكتاب مع رجل من بني غفار استأجره وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل ذلك، فلما جاء الكتاب فك ختمه ودفعه لاُبي بن كعب فقرأه عليه فاستكتم اُبياً ثمّ نزلصلى‌الله‌عليه‌وآله على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس(١) .

٤. أخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار عن الحسن بن علي عن أحمد بن هلال عن خلف بن حماد عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : إنّ النبي كان يقرأ ويكتب ويقرأ ما لم يكتب(٢) ويكفي في ضعف الحديث أنّه مروي عن أحمد بن هلال الذي خرج التوقيع عن الناحية المقدسة في لعنه ونقل الصدوق عن شيخه ابن الوليد عن سعد أنّه قال: ما سمعنا ورأينا بمتشيّع رجع عن تشيّعه إلى النصب إلّا أحمد بن هلال.

أضف إليه أنّه مخالف لما قدمناه من الصحيحين من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ ولا يكتب(٣) .

فاتضح أنّ ما يصح من هذه المأثورات إنّما هو الحديث الأوّل والثاني ويؤيدهما الثالث وهي بمجموعها تهدف إلى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ ولا يكتب أيام رسالته ورحاب دعوته ولا ضير في الالتزام به خصوصاً إذا كان غير متظاهر بالقراءة، مكتفياً بقدر الضرورة، ويؤيدها حديث بدء الرسالة.

__________________

(١) سيرة زيني دحلان على هامش السيرة الحلبية: ج ٢ ص ٢٤.

(٢) بصائر الدرجات: ص ٦٢.

(٣) راجع الحديث الأوّل والثاني.

٣٤٣

٥. أخرج الكليني في كتاب الحجة باسناده عن الحسن بن العباس الحريش عن أبي جعفر الثانيعليه‌السلام عن أبي عبد الله قال :

كان عليعليه‌السلام كثيراً ما يقول: ما اجتمع التيمي والعدوي عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقرأ:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ) بتخشّع وبكاء فيقولان: ما أشد رقّتك لهذه السورة ؟ فيقول رسول الله لما رأت عيني ووعى قلبي، ولما يرى قلب هذا من بعدي فيقولان: وما الذي رأيت وما الذي يرى ؟ قال: فيكتب لهما في التراب:( تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) قال: ثمّ يقول: هل بقى شيء بعد قوله عزّ وجلّ:( كُلِّ أَمْرٍ ) فيقولان: لا، فيقول: هل تعلمان من المنزل إليه بذلك ؟ فيقولان: أنت يا رسول الله، فيقول: نعم، فيقول: هل تكون ليلة القدر من بعدي ؟ فيقولان: نعم، قال: فيقول: فهل ينزل ذلك الأمر فيها ؟ فيقولان: نعم، قال: فيقول: إلى من ؟ فيقولان: لا ندري، فيأخذ برأسي ويقول: إن لم تدريا فادريا هو هذا من بعدي، قال: فإن كانا ليعرفان تلك الليلة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من شدة ما يداخلهما من الرعب(١) .

وجه الدلالة: أنّ قولهعليه‌السلام : « فيكتب لهما في التراب » بصيغة المعلوم دال على أنّ النبي كان يكتب هذه الآيات في التراب.

ويؤسفنا أنّ الحديث ضعيف للغاية.

لأجل الحسن بن العباس بن الحريش، قال النجاشي: « أبو علي روى عن أبي جعفر الثاني ضعيف جداً له كتاب « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وهو كتاب ردئ الحديث، مضطرب الألفاظ(٢) .

وقال الغضائري: « أبو محمد ضعيف جداً يروي عن أبي جعفر الثاني فضل « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وله كتاب مصنف فاسد الألفاظ، تشهد مخائله على أنّه موضوع وهذا الرجل لا يلتفت إليه ولا يكتب من حديثه ».

__________________

(١) الكافي كتاب الحجة باب « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وتفسيرها ص ٢٤٩ طبع مكتبة الصدوق.

(٢) فهرست النجاشي: ص ٤٥ ط الهند.

٣٤٤

قال المحقق التستري: « إن أردت أن تقف على صحة ما قاله النجاشي والغضائري في حق الرجل فراجع باب « فضل إنّا أنزلناه » من الكافي تجد صحة كلامهما فترى أنّه روى في ذاك الباب تسعة أخبار بسند واحد كلها عن الحسن بن عباس بن الحريش عن الجوادعليه‌السلام فلفظها فاسد ومعناها كاسد وهكذا راجع تفسير القمي في أول سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

ثم نقل بعض أحاديثه، ونقده نقداً نزيهاً.

حصيلة الكلام في اُمّية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

قد أصبحت اُمّية النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يختاره الله لإبلاغ رسالته أمراً واضحاً كوضوح شمس الضحى، لا يشك فيها ذو مسكة ومن له أدنى إلمام بتاريخ الجزيرة وحياة الاُمّة العربية، العائشة فيها وأمّا حديثها بعد البعثة فالامعان في ما نقلناه من حديث بدء الرسالة والصحيحين المرويين عن الإمام الصادقعليه‌السلام يعطي أنّه كان يقرأ ولا يكتب، فلو جاز الركون في مثل المقام إلى هذه النقول المروية بصورة الآحاد من الأخبار، فنحكم بمفادها، وإلّا فالحكم ببقائه على ما كان عليه من الاُمّية قبل البعثة أوثق وأسد، ويؤيد الأخير ما نقلناه في قصة الحديبية في بعض صورها التي عرفناك، والتعليل الوارد في الآية الكريمة أعني قوله سبحانه:( إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) خصوصاً لو كان مراد القائل تظاهرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بصناعة القراءة والكتابة على أظهر الناس، ورؤوس الأشهاد، فإنّه يجر الشك إلى ما قبل الرسالة كما لا يخفى.

نحن وقساوسة الغرب والمستغربة :

بالرغم من شهادة تاريخ الحجاز في الدور الجاهلي، ومحيطه البدوي على اُمّية النبي وعشيرته وأقربائه، نجد مغالطات وتشكيكات أثارتها قساوسة الغرب حول

__________________

(١) قاموس الرجال: ج ٣ ص ١٨٢ ـ ١٨٣، راجع تنقيح المقال: ج ١ ص ٢٨٦.

٣٤٥

اُمّيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتبعهم بعض المستغربة في الشرق، الذين يتطفّلون على موائد الغربيين في كل شيء، حتى فيما يرجع إلى الإسلام والمسلمين، والشرق والشرقي، غير واقفين على نواياهم وما تكنه صدورهم وضمائرهم، من القضاء على الإسلام والمسلمين، والحقد والعداء للنبي الأعظم ورسالته، وما يستهدفون من بث هذه التشكيكات والمغالطات، التي لها طابع التحقيق، حول الرسول الأكرم واُمّيته.

وفي الوقت نفسه، لا مصدر لهم في انكار اُمّيته إلّا مراسيل عن مجاهيل، أو انتحالات أعداء الدين، نظراء ابن أبي العوجاء و كل ذلك لبثّ الريب في قلوب البسطاء من المسلمين بالنسبة إلى رسالته، ودينه، وكتابه، حتى يتخذوا ذلك ذريعة لانكار رسالته الالهية واتصاله بالعوالم الروحية حتى يصوّروا لهم، أنّ النبي كان قارئاً وكاتباً وأنّ ما جاء به من المعارف والأحكام هي انتاج عبقريته الفذة وشخصيته اللامعة، وسبره في الكتب وغوره فيها، شأن كل باحث متتبع.

غير أنّ جهلهم أو تجاهلهم الحقيقة ودعاياتهم الواسعة لا يؤثر شيئاً في قلوب المثقفين من الاُمّة، كيف وقد تسالمت عليها الاُمّة منذ ألف وقرون لم ينبس أحد ببنت شفة على خلافه، حتى جعل صاحب المنار وغيره « اُمّية » النبي أحد وجوه اعجاز القرآن وقالوا: إنّ الضمير في قوله سبحانه:( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) يعود إلى ـ المبلغ ـ بكسر اللام أي الرسول نفسه لا إلى القرآن، وقال في تفسير الآية: « فإن خفي عليكم الحق بذاته فهذه آية من أظهر آياته، وهي عجزكم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن، من رجل اُمّي مثل الذي جاءكم به، وهو عبدنا ورسولنا محمد وإن عجزتم عن الاتيان بسورة من مثله، تساوي سورة في هدايتها وتضارعها في اسلوبها وبلاغتها، وأنتم فرسان البلاغة وعصركم أرقى عصور الفصاحة فاعلموا ما جاء به، بعد أربعين سنة فأعجزكم بعد سبقكم لم يكن إلّا بوحي إلهي وامداد سماوي »(١) .

وما ذكره من رجوع الضمير إلى النبي وإن كان خلاف ظاهر الآية، خصوصاً في

__________________

(١) المنار: ج ١ ص ١٩١.

٣٤٦

قوله سبحانه:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء ـ ٨٨ ) وفي قوله سبحانه:( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) ( هود ـ ١٣ ) إلّا أنّه أحد وجوه اعجازه.

قال العلّامة الشهرستاني: « إنّ من وجوه اعجاز القرآن والاعجاب به صدوره من مثل محمد الاُمّي ربيب البادية، البعيد عن حضاير الفنون، البعيد عن حواضر الحكماء ومحاضر العلماء ـ إلى أن أوضح مقاله بمثال ـ وقال: الشعب الواثق بأنّ سفيره لا يقرأ ولا يكتب ولا يخون، ولا يكذب ولم يعهد منه الشعر ففي وضع راهن كهذا لو يفاجئهم سفيرهم بكتاب فذ في الكتابة والإنشاء والإملاء وادعى أنّه مرسل به من ناحية السلطان فإنّ الشعب ضروري ايمانه واذعانه له، وعدم اتهامه بأنّه المباشر لهذه الفرية ».

٣٤٧
٣٤٨

الفصل السادس

علم الغيب

في

الكتاب العزيز

أظنّك أيّها القارئ الكريم في غنى عن بيان معنى « الغيب » ومفاده، لغةً وعرفاً، فإنّ للغيب « أصلاً صحيحاً يدل على تستر الشيء عن العيون، ثم يقاس من ذلك الغيب ما غاب، ممّا لا يعلمه إلّا الله ».

« ويقال: غابت الشمس تغيب غيبة وغيوباً وغيباً. وغاب الرجل عن بلده. وأغابت المرأة فهي مغيبة، إذا غاب بعلها، ووقعنا في غيبة وغيابة أي هبطة من الأرض يغاب فيها. قال الله تعالى في قصة يوسفعليه‌السلام :( وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الجُبِّ ) والغابة: الاجمة والجمع غابات وغاب، وسمّيت لأنّه يغاب فيها »(١) .

وقال الراغب: « الغيب مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين يقال: غاب عن كذا، قال تعالى:( أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) واستعمل في كل غائب عن

__________________

(١) مقاييس اللغة: ج ٤ ص ٤٠٣.

٣٤٩

الحاسة، وعما يغيب عن علم الانسان بمعنى الغائب قال تعالء:( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ويقال: للشيء غيب وغائب باعتباره بالناس لا بالله تعالى فإنّه لا يغيب عنه شيء كما لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وقوله:( عَالمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) أي ما يغيب عنكم وما تشهدونه والغيب في:( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداية العقول وإنّما يعلم بخبر الأنبياء:(١) .

توضيحه: أنّ الغيب يقابل الشهود، فما غاب عن حواسّنا وخرج عن حدودها، فهو غيب، سواء أكان أمراً مادياً، قابلاً للإدارك بالحواس، كالحوادث الواقعة في غابر الزمان، والمتكوّنة حالياً، الغائبة عن حواس المخبر، أو بعد لاي من الدهر، أم كان مما يمتنع إدراكه بالحس أو وقوعه في أفقه، كذاته تعالى، وحقيقة البعث والنشور، والحساب، ونفخ الصور، والميزان، وملائكة الله، وجنته وناره، ولقائه، وحقيقة الحياة، في النشأة الاُخرى، والوحي والنبوّة إلى آخر ما يجب الإيمان به وتصديقه، كما يدل عليه قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) ( البقرة: ٣ ـ ٤ ).

وقد أوضحه بعض الأعلام بقوله :

الغيب: في العرف العربي اسم لمعنى يقابل الحضور وضد الشهود، كما في القرآن:( عَالمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) وفي الحديث النبوي: « ألا فليبلغن الشاهد الغائب » وفي كلام الإمام عليعليه‌السلام : « شهود كالغيب ».

والشهود: كناية عن اتصال الحواس بالحاضر لديها وهو المراد من الحضور أيضاً فالغيب كالغائب، ما لا يتصل به الحس، وبه سمّي المسافر غائباً، وخلافه حاضراً، فالنبأ الغيبي، بناء على ما عرفت، هو النبأ الذي لا يتصل بالمحسوس لديك فعلاً، وإن

__________________

(١) مفردات الراغب: ص ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٣٥٠

كان أصله محسوساً من قبل، ثم غاب كالمسافر أو بالعكس كالمولود الذي كان في غيابة الرحم، محجوباً عن الحواس ثمّ ولد بعد، فصار محسوساً بين الناس.

وربّ اُمم دوّخت الأقيال والأجيال في سالف الدهر، كجرهم وأياد، ثمّ بادت، وهم اليوم غيب، وأنباؤهم الخطيرة تعد في زوايا التاريخ من الغيوب، وربّ جراثيم الأمراض كانت محجوبة، أو لا تزال محجوبة عن الحواس، ثمّ في مستقبل الأجيال تقوى الآلات على استكشافها، فتصير محسوسة مشهودة، وربّ طعام يقصر عن شمّه حسّ الانسان والحيوان، إلّا النمل الذي فاق حسّه على غيره، فيهتدي إليه ولا يغيب عنها، أو كحبة خردل لا تغيب عن الغراب، لحدة بصره، بينما هي غائبة عن غيره، أو صوت متحرك في دياجير الظلام لا يغيب عن احساس الفرس، لقوّة سمعه بينما يغيب عن غيره(١) .

وهذا البيان الضافي يوقفنا على أنّ الغيب على قسمين: مطلق واضافي، فالمطلق منه ما لا يقع في اُفق الحس أبداً ويمتنع إدراكه بالآلات والأدوات المادية كذاته سبحانه وصفاته وغيرهما ممّا عدّدناه، والاضافي ما يتفاوت بحسب الظروف والاشخاص، فربما يكون غيباً في ظرف، فجرثومة السل كانت غيباً في غابر الزمان، قبل أن يقف عليها مكتشفوها، ويروها تحت المجهر إلى أن عادت أمراً محسوساً في هذه الظروف التي كثرت فيها الأدوات العلمية، وسهل الوقوف على صغار الموجودات التي لا يدركها الطرف مجرداً عن الآلات الحديثة

وإلى ذلك يشير العلّامة الطباطبائي بقوله: الأشياء المجهولة، أي غير الواقعة تحت الحواس، غيب، ومن الحري أن نسمّيها عندئذ غيباً نسبياً، لأنّ هذا الوصف الطارئ عليها، وصف نسبي يختلف بالنسب والاضافات، كما أنّ ما في الدار مثلاً، من الشهادة بالنسبة إلى من فيها، ومن قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها، وكذا الأضواء والأكوان المحسوسة بحاسّة البصر، من الشهادة بالنسبة إلى البصر، ومن الغيب

__________________

(١) المعجزة الخالدة: ص ٧١ ـ ٧٢.

٣٥١

بالنسبة إلى حاسّة السمع، والمسموعات التي ينالها السمع، شهادة بالنسبة إليه، وغيب بالنسبة إلى البصر، ومحسوساتهما جميعاً من الشهادة بالنسبة إلى الانسان الذي يملكهما في بدنه ومن الغيب بالنسبة إلى غيره من الاناسي(١) .

وبذلك يصح لنا أن نصطلح ونعبّر عن الغيب البحت(٢) ب‍ « الغيب عن العالم المادي » وعن الغيب النسبي ب‍ « الغيب في العالم ».

بما أنّ الغيب البحت، لا يخرج عن تحت الخباء، فلا يتفاوت حاله بحسب الظروف والأحوال، فالواجب على الانسان، الإيمان به، إذا قام الدليل على وجوده لامتناع شهودها، والتعرف على حقيقتها ما لم يخرق الانسان الحجب المادية، ولم يلق الستار عن مشاعره، حتى يتعرّف عليها كتعرّفه على المحسوسات ولا يحصل ذلك إلّا بالموت، والتحلل من الجسد، والتحرر من المادة حتى يصدق عليه قوله سبحانه :

( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ *لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ( ق: ٢١ ـ ٢٢ ).

أنواع المغيبات في القرآن :

إنّ المغيبات الواردة في القرآن لا تزيد اُصولها على أقسام ثلاثة :

الأوّل :

الخبر عن الله سبحانه وأسمائه وصفاته، والخبر عن الروحانيات وملائكته وتدبيره العوالم الأرضية، والسماوية، وشؤون الاحياء بعد الموت في البرزخ وحالة الأرواح قبل المعاد وبعده من نعيم أو جحيم، والقرآن يموج بهذه المعاني الغيبية المطلقة التي لا

__________________

(١) الميزان: ج ٧ ص ١٢٨.

(٢) ما أسميناه غيباً بحتاً فإنّما هو مجرد اصطلاح ليحصل الفرق بين القسمين وإلّا فإنّما هو غيب بحت بالنسبة إلى العالم المادي، وأمّا بالنسبة إلى نفسه أو ما يسانخه من الموجودات أو الواجب سبحانه فليس غيباً أصلاً.

٣٥٢

يتعرف عليها الحس ولا تقع في اُفقه في هذا الظرف.

الثاني :

الإخبار عن اُمم قد خلت من قبل وطويت حياتها، فأصبحوا ممّا لا يرى حتى مساكنهم ومواطنهم، من دون أن يرجع إلى كتب السير والتاريخ والكهنة والربانيين أو يطالع كتاباً أو باباً خاصاً في هذا الموضوع. ومثله الخبر عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره، والاشعار بملاحم وفتن وأحداث في مستقبل الزمن، كإخبار القرآن عن إنّ ابا لهب وامرأته يموتان كافرين، في قوله تعالى:( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ *وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ *فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) ( المسد: ١ ـ ٥ )، وإخباره عن غلبة الروم، بعد بضع سنين في قوله سبحانه:( الم *غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ ) ( الروم: ١ ـ ٤ ).

وتلحق بذلك الاُمور التي قيل اختص علمه بها سبحانه، كوقت الساعة: والمستور في ظلمات الارحام، الواردة في قوله سبحانه:( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان ـ ٣٤ ).

وسوف نرجع إلى البحث عن هذه الآية وتقف على نظرنا فيها.

الثالث :

الإخبار عن بعض الموجودات أو النواميس السائدة في الكون، وقد كان مغيباً عند نزول الوحي عن ادراك الحواس المجردة عن الأدوات المخترعة في هذا الزمان، كإخباره سبحانه عن زوجية الأشياء عامة بقوله:( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( الذاريات ـ ٤٩ ) ووجود الدابة في السماوات بقوله:( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ

٣٥٣

قَدِيرٌ ) ( الشوري ـ ٢٩ ).

إلى غير ذلك من إخباراته عن الحقائق العلمية والنواميس المطردة في الكون.

ثمّ إنّ الزرقاني أرجع اُصول أنباء الغيب الواردة في القرآن إلى اُمور ثلاثة على وجه يقرب ممّا ذكرناه، قال: من ذلك قصص عن الماضي البعيد، المتغلغل في أحشاء القدم، وقصص عن الحاضر الذي لا سبيل لمحمد إلى رؤيته ومعرفته فضلاً عن التحدث به وقصص عن المستقبل الغامض الذي انقطعت دونه الأسباب وقصرت عن إدراكه الفراسة والألمعية والذكاء ـ إلى أن قال: ـ أمّا غيوب الماضي فكثيرة تتمثّل في تلك القصص الرائعة التي يفيض بها التنزيل ولم يكن لمحمد إليها من سبيل كقصة نوح، وموسى، ومريم، وأمّا غيب الحاضر فنريد به ما يتصل بالله تعالى والملائكة والجن والجنّة والنار ونحو ذلك ممّا لم يكن للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله سبيل إلى رؤيته ولا العلم به، فضلاً عن أن يتحدث عنه على هذا الوجه الواضح.

ومن غيب الحاضر أو الماضي ما جاء في طي القرآن من حقائق ومنافع ومبادئ لم يكشف عنها إلّا العلم الحديث، وأمّا غيب المستقبل فهو تنبّأ بحوادث وقعت كما أخبر(١) .

نعم أرجع العلّامة الشهرستاني أنواع المغيبات إلى ثمانية أقسام(٢) ويرجع اُصولها إلى الوجوه الثلاثة التي أوضحناها.

ثمّ إنّ هذا التقسيم، إنّما هو بالنسبة إلى البشر المحدود، الذي تغيب الأشياء عنه، وأمّا بالنسبة إليه سبحانه فالأشياء كلّها حاضرة لديه، بأعيانها الخارجية فالماضي والحال والمستقبل عنده سواسية:( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ) ( يونس: ٦١ ) فهو المحيط بكل ما دق وجل، ولا يشذ عن محيط علمه خبر خطير ولا صغير إلّا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير.

__________________

(١) مناهل العرفان: ج ٢ ص ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

(٢) المعجزة الخالدة: ص ٧٢.

٣٥٤

الإخبار عن الغيب أحد وجوه إعجازه :

ثمّ إنّ المغيبات التي أشرنا إليها إجمالاً، دلّت قبل كلّ شيء على كون القرآن كتاباً سماوياً، أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه، فإنّ الإخبار عن المغيبات الكونية، والنواميس السائدة في الوجود، أو الإخبار عن الاُمم البائدة على النحو الذي ذكرناه أو الإخبار عن شؤون البشر في مستقبل أدواره، والإيماء إلى الملاحم والفتن، والتي لا يدل عليها ولا يرشد إليها الحس، أمر خارج عن طوق البشر، فلا مصدر لها إلّا كونها وحياً أو إلهاماً، من خالقه إلى مخلوقه ورسوله الذي ارتضاه فهو عالم الغيب والشهادة فلا يطلع على غيبه أحداً إلّا من ارتضاه من رسول، فمستند النبي في مثل هذه المغيبات هو الله علام الغيوب.

وقد عرفت أنّ الإخبار عن الغيب بأقسامه الثلاثة كثير في القرآن المجيد، وأنّ استقصاء الموضوع بعامّة نواحيه، يحوج الباحث إلى تأليف مفرد. وقد قام عدة من الفضلاء في عصرنا بجمع الآيات التي أخبرت عن النواميس السائدة على الكون من أسرار الخلقة ونواميس الطبيعة، مما كانت مختفية في عصر نزول القرآن، ولم يكن سبيل إلى استكشافها إلّا من طريق الوحي ففسرّوها وأوضحوا مداليلها(١) وبذلك أغنونا عن أفاضة القول في هذا القسم من الغيب، وأمّا غير هذا القسم من أقسام المغيبات التي جاءت في القرآن فمجمل القول فيه :

إنّ المتفحّص في ما أخبر القرآن به من أحوال الاُمم والحوادث الماضية، يجد من نفسه أنّ المصدر الوحيد لبيان تلك الحوادث هو الوحي الالهي ليس غير وأنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتلقها من مثقفي عصره ولا من الكتب الدارجة في عهده، التي تنسب إلى الوحي وتعزى إلى الأنبياء، إذ لو فرضنا أنّه أخذ ما أتى به من القصص من أحبار اليهود وأساقفة النصارى وقسيسيهم وكهنة العرب والكتب الدينية الرائجة من التوراة

__________________

(١) راجع كتاب العلوم الطبيعية والقرآن، والقرآن والعلوم الحديثة وغيرهما.

٣٥٥

والانجيل، لوجب أن تنعكس على كتابه ظلال مصادر علمه، ومآخذ نقله، ونحن نرى مخالفة القرآن لكتب العهدين في جميع النواحي عامة وفي ناحية القصص خاصة.

إنّ القرآن اشترك في بعض القصص مع التوراة الرائجة التي اتفق اليهود والنصارى على أنّها كتاب الله المنزل على رسوله « موسى »عليه‌السلام فأوردت التوراة الدارجة تلك القصص مملوءة بالخرافات وجاء في بيانها بجمل تشابه كلام المبتلى بالهذيان.

غير أنّ القرآن الكريم لما كان كلام الله القدوس، ووحيه، قد نقل كثيراً من قصص الاُمم وتواريخها، بأبلغ العبارات وأحسنها، وأنصع الجمل وأسدّها نزيهة عمّا يمس كرامة الله سبحانه وكرامة أنبيائه ورسله، ولو صح ما ذكر من اختلاق النبي الأكرم للقرآن من جانب نفسه يجب أن يتأثر بمصادر نقلها، وامتنع حسب العادة أن لا يذكر شيئاً من محتوياتها مع ما فيها من القعقعة التاريخية، والناقل لقصص العهدين يستحيل أن لا ينعكس على أفكاره وكلامه، ما يجده فيهما.

يجب على علماء المسلمين ولاسيما الاخصائيين منهم في علم السير والتاريخ القيام بتأليف موسوعة كبيرة(١) تتضمن عرض ما جاء في العهدين من القصص والحوادث على ما جاء في القرآن ثمّ القضاء الصحيح بين النقلين حتى يتبيّن أنّ ما يحتوي عليه القرآن من سمّو المعارف ورصانة التعليم، لا يمكن أن يعزى إلّا إلى الوحي السماوي، وأنّ ما تشتمل عليه كتب العهدين من قصص الخرافة وأباطيل الأحاديث لا تلتئم مع البرهان، ولا تتمشّى مع المنطق الصحيح، وأنّ هذه الكتب قد دست وزورت

__________________

(١) نعم، قد قام لفيف من الفطاحل الأعلام فألّفوا في هذا المضمار كتباً ورسائل تسد جوع القارئ بعض السد فعالجوا بعض النواحي من هذه الاطروحة شكر الله مساعيهم، فراجع إلى « الهدى إلى دين المصطفى » و « الرحلة المدرسية » للعلامة الحجة البلاغي و « نفحات الاعجاز » و « البيان في تفسير القرآن » لآية الله الخوئي و « الميزان في تفسير القرآن » ج ٣ تأليف المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي، ثمّ حكّم عقلك ووجدانك هل ترى أنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ معارف كتابه واقتبس معارف قرآنه وقصصه من هذه الكتب.

٣٥٦

وتطرّق إليها التحريف بيد اُناس لا خلاق لهم من الدين ولا الشرف الانساني.

بقي من أقسام الغيب الوارد في الكتاب العزيز أمران :

١. ما يرجع إلى الإخبار عن الله سبحانه وأسمائه وصفاته والعوالم الروحية وغيرها التي يموج بها القرآن، فقد خصصنا لبيان هذه المعارف القسم الأوّل من كتابنا هذا فشرحنا لك هذه المعارف وما فيها من سمو ورصانة واحداً بعد واحد حسب الترتيب الذي وقفت عليه في مقدمة الكتاب.

٢. ما يرجع إلى الخبر عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره وما يلم به من ملاحم وفتن، فهذا هو الذي نبحث عنه في المقام على وجه الاختصار فنقول :

إنّ القرآن قد أخبر عن الحوادث التي كان التكهّن والفراسة يقتضيان خلافه من حيث النظر إلى الحال الحاضر وطغيان الشرك وضعف الدعوة الإسلامية، وما يجري من النكال والتشريد، والجفاء على ملبيها، مع أنّه صار صادقاً في جميع ما اخبر به ولم يخالف الواقع في شيء منها، ولا شك أنّه لم يكن له طريق في الإخبار بهذه المغيبات إلّا الوحي، هب أنّه تكهّن أو تفرّس في بعض إخباراته ـ وأجل نبي العظمة عن هذه الفرية الشائنة، فهل يمكن القول بأنّه تفرس في جميع ما اخبر به، وأنّه تنبأ معتمداً على علائم وإمارات كانت ترشده إليها، مع أنّ المفروض أنّ الأحوال الحاضرة في بعض إخباراته كانت تقتضي خلاف ما اخبر به كما سيوافيك بيانه، ونحن نأتي في المقام بكثير من الآيات التي تتضمن الإخبار عن الحوادث المستقبلية التي تحققت بعد إخبارها في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعد لحوقه بالرفيق الأعلى بيسير، وأمّا الاستقصاء في ذلك فلنتركه إلى من أراد الغور أكثر من ذلك.

نقول: هناك مغيبات عن ملاحم أحداث وفتن اخبر بها القرآن وظهر صدقها في عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده بقليل، فهذه الأخبار تدل قبل كل شيء على صحة نبوّته وأنّ القرآن منزّل من عنده سبحانه، ولا يمكن حملها على ما يحدث بالمصادفة أو القرائن أحياناً من أقوال الكهنة أو العرّافين والمنجمين فإنّ كذب هؤلاء أكثر من صدقهم

٣٥٧

والناس لا يحصون عليهم أقوالهم، ولا يبحثون عن حيلهم وتلبيساتهم، وإنّما يذكرون بعض ذلك إذا اقتضته الحال، كتشنيع أبي تمام على المنجمين في زعمهم أنّ عمورية لا تفتح إلّا عند نضج التين والعنب في قصيدته المعروفة التي مطلعها :

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

إلى أن يقول:

سبعون ألفاً كآساد الشرى نضجت

جلودهم قبل نضج التين والعنب

على أنّ دأب المنجمين هو أن يعبّروا عمّا يتوقعون من أحداث المستقبل بآرائهم وبقرائن الأحوال وأخبار الصحف الدورية، برموز وكنايات واشارات يفسرون بها الوقائع بأهوائهم، وأمّا ما يعرفه الفلكيون بالحساب كالخسوف والكسوف ومطالع الكواكب ومغاربها فليس من التنجيم المحرم ولا من علم الغيب في شيء(١) .

__________________

(١) راجع المنار: ج ١ ص ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٣٥٨

مغيبات القرآن

وأخباره الغيبية

١. تنبؤ القرآن بعجز البشر عن معارضته بمثله :

لقد تحدى القرآن في مواضع عديدة من آيات سوره تحدّياً يثير روح المنافسة على أشدها في نفوس من يتحداهم، وتحققت نبوءة القرآن ولا تزال متحققة حيث انقرضت طبقة المخاطبين ومضت أجيال من عرب وأعجام، وكلهم اعترفوا بالعجز عن المعارضة مع كثرة من تتطاول أعناقهم إلى هدم بناء الدين، وإبطال معجزة الإسلام الخالدة.

إنّ المتأخرين من الناقدين لا يعييهم في العادة أن يستدركوا على السابقين إمّا نقصاً يعالجوه بالكمال أو كمالاً يعالجونه بما هو أكمل منه، وإذا فرضنا أنّ واحداً قد عجز عن هذا، فمن البعيد أن تعجز عنه جماعة، وإذا عجزت جماعة فمن البعيد أن تعجز اُمّة، وإذا عجزت اُمّة، فمن البعيد أن يعجز جيل، وإذا عجز جيل فمن البعيد أن تعجز أجيال، فكيف يصدر إذن مثل هذا التحدّي عن رجل يعرف ما يقول فضلاً عن رجل عظيم، فضلاً عن محمد أفضل المرسلين؟ وهل يمكن أن يفسر هذا التحدّي الجريء الطويل العريض، إلّا بأنّه استمداد من وحي السماء واستناد إلى من يملك السمع والأبصار، وحديث عن من بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه(١) .

__________________

(١) مناهل العرفان: ج ٢ ص ٢٦٨.

٣٥٩

وقد نص بذلك التحدّي في موارد من آيات سوره.

منها قوله سبحانه :

( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة: ٢٣ ـ ٢٤ ).

أخبر القرآن في بداية أمر النبي بمكة عن عجز البشر عن مباراة القرآن ومعارضته إلى يوم القيامة، وأنّ الناس لا يسعهم الاتيان بمثل هذا القرآن، مهما تظاهروا وتناصروا وحتى اليوم تنقضي على هذا التحدي والتنبؤ قرون وهو صادق في وعده وعهده وسيبقى التحدّي قائماً مادام القرآن، ويستمر عجز البشر عن مجابهة هذا التحدي.

قال الطبرسي: « ولن » في قوله:( وَلَن تَفْعَلُوا ) تنفي على التأبيد في المستقبل وفيه دلالة على صحة نبوّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّه يتضمن الإخبار عن حالهم في مستقبل الأوقات بأنّهم لا يأتون بمثله، فوافق المخبر عنه الخبر(١) .

ويليها في التنبؤ بعجز البشر والجن عن معارضة القرآن، قوله سبحانه :

( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء ـ ٨٨ ).

وقد بلغ في تحدّيه إلى أن اكتفى من المتحدّي بإتيان عشر سور مثله، بل سورة واحدة من سوره.

قال سبحانه:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٦٣.

٣٦٠