مفاهيم القرآن الجزء ٣

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 543

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 202121 / تحميل: 6198
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

مقدمة الطبعة الأُولى

بسم الله الرحمن الرحيم

منهج متكامل

في

عالم التفسير

الإسلام دين الله الأبدي الخالد وشريعته الدائمة الباقية مع مرّ العصور والأزمان، ولابد لهذه الشريعة الباقية من سند قوي يسندها، ودليل واضح يدل على أنّها حق لا يتسرّب إليه أي شك أو شبهة، فكان ذلك السند والدليل هو القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المعجزة الخالدة التي ستبقى سنداً حياً للشريعة الإسلامية إلى يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين.

لقد كانت المعاجز التي ظهرت على أيدي موسى بن عمران والمسيح بن مريمعليهما‌السلام ، معاجز تخص عصرهما، فلم يشاهد منها شيء في العصور المتأخّرة عنهما، ذلك لأنّ شريعتيهما كانتا خاصّة بفترة زمنية معيّنة محدودة بحدود مؤقتة، فكانت معاجزهما كافية لتلك الفترة التي تسري فيها شريعتهما.

أمّا نبوّة نبي الإسلام محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله التي هي آخر النبوّات، وشريعته التي هي خاتمة الشرائع، فلابد لها من معجزة تناسبها، وتواكب سيرها الزمني لتكون النبراس الذي

٢١

يضيء الطريق للجيل المعاصر للرسول والأجيال التي ستأتي بعده إلى ماشاء الله تعالى. يمحو صدأ الشكوك عن أذهان كافة البشر، ويدلّهم دلالة واضحة إلى طريق الحق اللاحب والصراط المستقيم.

القرآن وآفاقه اللامتناهية

لم يمض من نزول القرآن نصف قرن، إلّا وقد وضع علماء الإسلام علوماً جمة لفهمه وكشف أسراره ومعانيه، ولو أمعنا النظر لرأينا أنّ كثيراً من العلوم، وضعت أوّلياتها لاستيضاح مداليل آيات القرآن وما يمكن أن يستخرج من جملها وعباراتها وذلك كالنحو، والصرف، واللغة، والمعاني، والبيان، والبديع، والقراءة، والتجويد، وقصص القرآن، وشأن نزول الآيات.

مع هذه الجهود الجبارة المبذولة من قبل أعلام العلماء طيلة القرون الأربعة عشر الماضية، ومئات المؤلفات الكبيرة والصغيرة المدوّنة في سبيل الكشف عن الأسرار الكامنة في الآيات القرآنية.

مع كل هذه المساعي، لم يصلوا إلى أعماق ما في القرآن من عجائب الأسرار وغرائب الحكم الكامنة فيه.

يسير الانسان حثيثاً في استجلاء معارف القرآن الفكرية وقوانينه الاجتماعية والأخلاقية وسائر تعاليمه العالية. ولكنه لم يزل، يجد الجديد فيه عندما يتعمق في البحث، ويرى ما قد غفل عنه الأقدمون ولم يصلوا إليه. كأنه أمام بحر مواج بالحقائق العلمية لا يدرك غوره، ولا يتوصل إلى أعماقه، ولا يمكن معرفة ما فيه من الأسرار والعجائب.

كأنّ القرآن الكريم، هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة، الواسع الأطراف، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره، إلّا معرفة أنّه لا يزال الانسان في الخطوات الاُولى من التوصل إلى مكامنه الخفية في أغواره. فإنّ كتاب الله تعالى كذلك ،

٢٢

لا يتوصل إلى كل ما فيه من الحقائق والاسرار، لأنّه منزل من عند الله الذي لا تتصور له نهاية، ولا يمكن تحديده بحدود وأبعاد، فيجب أن تكون في كتابه لمعة من لمعاته، ويثبت بنفسه أنّه من عنده، ويتوفر فيه ما يدل على أنّه كتاب سماوي ليس من صنع البشر، وهو خالد إلى ما شاء الله تعالى.

أنّ نبي الإسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو أوّل من لفت الأنظار إلى تلكم المزيّة وأنّ هذه المزيّة من أهم خصائصه، حيث يقول في وصفه له: « له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة »(١) .

وبعد النبي يأتي دور أول تلميذ لمدرسته وهو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ليصف القرآن بقوله: « أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره ـ إلى أن قال ـ: وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الإسلام وبنيانه، وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينزفه المنتزفون وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغضيها الواردون »(٢) .

وسأل رجل علي بن موسى الرضاعليه‌السلام فقال: ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلّا غضاضة ؟ فقال: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة »(٣) . نرى أن الرضاعليه‌السلام لا يشير في هذا الحديث إلى موضوع خلود القرآن فقط، بل يشير أيضاً إلى سر خلوده وبقائه غضاً جديداً لا يتطرق إليه البلى والذبول.

ويجب أن نذكّر القارئ بأنّ النبي وأئمّة أهل البيت: لم يكونوا وحدهم هم الذين لفتوا الأنظار إلى موضوع آفاقه اللامتناهية، بل عظماء العرب والعارفون منهم

__________________

(١) الكافي، كتاب القرآن، ج ٢، ص ٥٩٩.

(٢) شرح نهج البلاغه لعبده، ج ٢، ص ٢٠٢.

(٣) البرهان في تفسير القرآن، ج ١، ص ٢٨.

٢٣

أدركوا هذه الحقيقة في أيام الإسلام الاُولى، واعترفوا بعجزهم عن الوصول إلى أغوراه، والتوصل إلى ما فيه من الأسرار والحكم.

هذا الوليد بن المغيرة حكيم العرب وريحانتهم وخطيبهم المنطيق يجلس إلى النبي ليستمع ما كان يتلوه من آيات « سورة غافر »، وبعد هنيئة ذهب إلى قومه « بني مخزوم » ليقول لهم مصارحاً: ( والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن، وأنّ له لحلاوة، وأنّ عليه لطلاوة، وأن أعلاه لمثمر، وأنّ أسفله لمغدق، وأنّه ليعلوا وما يعلى )(١) .

يمكن اعتبار قول الوليد هذا، أول تقريظ بشري صدر من انسان واع أدرك بفطرته وذوقه السليم أنّ القرآن ( أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وأنّه يعلو وما يعلى ).

التفسير في مختلف الاتجاهات

في القرن الثالث الهجري ـ عندما قطعت العلوم الإسلامية أشواطاً بعيدة، ووصلت إلى مراحل عالية من النضج والرقي ـ حدث في علم التفسير تطوّر ملموس، فإنّه قبل هذه الفترة كان التفسير منحصراً بنقل أحاديث مروية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو آراء بعض الصحابة والتابعين وأحياناً بعض أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام، أمّا في هذا القرآن وما بعده فقد أدخل كل ذي اختصاص المباحث العائدة إلى موضوع اختصاصه، في التفسير، بل ربّما لا يكتب بعضهم إلّا ما يدخل في إطار العلم الذي أصبح له اليد الطولى فيه.

فأعلام الأدب العربي خصصوا كتبهم التي تتناول القرآن بمباحث الاعراب واللغة والاشتقاق، كما صنع الزجاج والواحدي مؤلّف كتاب « البسيط » وأبو حيّان مؤلّف كتاب « البحر والنهر ».

وشيوخ البلاغة اهتموا بصورة خاصّة بما يتعلّق بفصاحة القرآن وأسراره البلاغية

__________________

(١) مجمع البيان، ج ١٠، ص ٣٨٧.

٢٤

التي كانت العرب تدركها بفطرتها السليمة، وذوقها المرهف، وحاول هؤلاء الشيوخ إثبات إعجاز القرآن من هذه الزاوية التي تعود إلى اللفظ والتركيب. ومن باب المثال نذكر منهم الزمخشري وكتابه « الكشّاف ».

والفلاسفة والمتكلّمون والمتصوفة أطالوا الكلام في الآيات التي توافق اتجاههم الفكري ولم يهتموا اهتماماً كبيراً بالجوانب الاُخرى من المباحث التفسيرية، بل نرى في كثير من كتاباتهم أنّهم أوّلوا بعض الآيات تأويلات بعيدة لا يحتملها الذوق الخالي عن المسبقات الذهنية الفلسفية والكلامية والصوفية، وذلك كما صنع الفخر الرازي في كتابه « مفاتيح الغيب » ومحيي الدين ابن العربي في التفسير المنسوب إليه، وعبد الرزاق الكاشاني في كتابه « تأويل الآيات » وقبلهم اخوان الصفا في رسائلهم المشهورة.

والفقهاء توفروا في تفاسيرهم على آيات الأحكام فأشبعوها بحثاً ودراسة، ومرّوا على بقية الآيات مروراً سريعاً كما صنع القرطبي في تفسيره، بل خص جماعة من الفقهاء كتبهم بتفسير آيات الأحكام فقط ولم يتناولوا بقية الآيات أصلا كالجصّاص والفاضل المقداد والمقدس الأردبيلي والشيخ أحمد الجزائري.

وجماعة آخرون خدموا القرآن بجمع قصصه وما يتعلّق بأسباب نزول الآيات والقراءات واختلاف القرّاء والقواعد التجويدية، كالواحدي في كتابه « أسباب النزول » والداني في كتابه « التيسير » والجزري في « المقدمة الجزرية » والسجاوندي في كتابه « الوقوف » وغيرهم.

وقد خطا فريق من المفسّرين خطوات أوسع، فحاولوا التوفّر على كل هذه الأبحاث ودرجها بصورة مختصرة في تفاسيرهم، ومن هؤلاء الشيخ الطوسي في « التبيان » والطبرسي في « مجمع البيان » والنيسابوري في « غرائب القرآن » والآلوسي في « روح البيان ».

المنهج الصحيح في التفسير

المفسّر الحقيقي هو الذي يتجرّد عن ميوله الخاصّة، وعقائده الشخصية تجرّداً

٢٥

كاملاً ويعرض آراءه على الآيات القرآنية لا الآيات على ما يعتقده.

والطريق المفيد لتفسير القرآن، أن لا يروم المفسّر، تفسير كتاب الله سبحانه وقلبه ممتلئ بآراء وأفكار تخصّه، ولا يتقدم إليه باحثاً عمّا قد يؤيد آراءه وأفكاره بل أن يتقدم إليه ليكتشف مقاصده ومراميه، فإنّ العقيدة التي يمتلئ بها الشخص تملك عليه كل تفكيره، ولا تترك له سبيلا إلى المقاصد التي يستهدفها الكتاب.

إنّ أحسن المناهج المتّبعة في التفسير، عرض بعض الآيات على بعضها والاستمداد من الأحاديث الإسلامية الصحيحة لاستخراج المعاني والمفاهيم القرآنية استخراجاً صحيحاً. فيجب لاتّباع الطريقة المستقيمة في التفسير مراعاة الشرطين التاليين :

١. تفسير القرآن بالقرآن :

إنّ القرآن الكريم يؤكد بأنّه تبيان لكل شيء حيث يقول:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ( النحل: ٨٩ )، فالقرآن حيث يكون موضّحاً لكل شيء كما هو مصرّح في هذه الآية، فهو موضّح لنفسه أيضاً، إذ لا معنى لأن يكون القرآن تبياناً لكل شيء ولا يكون تبياناً لنفسه فلابد أن يوضح أيضاً ما يبدو أنّه غامض في نفسه، ومعنى هذا، أنّه يمكن استيضاح بعض الآيات لفهم المراد من البعض الآخر.

القرآن كلّه « هدى » و « بيّنة » و « فرقان » و « نور » كما في قوله تعالي( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) ( البقرة: ١٨٥ ) وقوله تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) ( النساء: ١٧٤ ).

والكتاب الذي يحتوي على هذه المزايا لا محيص من الاعتراف بأنّه يرفع عن نفسه ما يظن فيه من الالتباس والغموض، ذلك لأنّه لا يمكن أن يكون كتاباً فارقاً بين الحق والباطل، ونوراً هادياً للبشرية، وبرهاناً مرشداً إلى ما فيه الصواب ثمّ يكون في جملة من آياته تعقيد يتيه الانسان في فهمه والتوصل إلى مفاهيمه. وعليه يجب الرجوع إلى الآيات نفسها لفهم ما اُشكل من الآيات الاُخرى التي تشبهها.

٢٦

قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ القرآن يصدق بعضه بعضاً ».

وقال منعاً لحشر الآراء والنظريات الشخصية في التفسير وحملها على الآيات حملاً: « من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار »(١) .

إنّ تفسير القرآن الكريم بعضه ببعض، وعرض الآيات على ما يشبهها في المنطوق أو الهدف، هو الطريقة المأثورة عن أئمّة أهل البيت: فإنّ الدقة في الأحاديث التفسيرية المروية عن الأئمة تثبت بوضوح ما نقول، وتدل على أنّ هذا المنهج كان المنهج المحبّب إليهم في إيضاح النصوص القرآنية لتلامذة مدرستهم.

إنّ الاحاديث التفسيرية المروية عن أئمّة أهل البيت: تدلّ دلالة واضحة على أنّهم استعانوا بنفس الآيات وعرض بعضها على بعض، في تفسيرها وبيان معانيها وإيضاح مداليلها ومفاهيمها ولم يتصدوا في وقت من الأوقات لحمل آرائهم الشخصية على الآيات الكريمة حملاً، بل استنتجوا من مقارنة الجمل والكلمات والألفاظ الموجودة في بعض الآيات استيضاح آيات اُخرى مشابهة لها في المنطوق أو المفهوم.

يقول عليٌّعليه‌السلام في كلام له يصف فيه القرآن: « كتاب الله تبصرون به وتنطقون به وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله ولا يخالف بمصاحبه عن الله »(٢) .

ولا بأس أن نقدم هنا نموذجاً من تفسير القرآن بعضه ببعض ليرى القارئ الكريم كيف يمكن رفع الالتباس عن الآيات بهذه الطريقة :

يقول تعالى في سورة الشعراء ـ ١٧٣ في قوم لوط:( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ المُنذَرِينَ ) أنّ هذه الآية واضحة كل الوضوح من جهة المفهوم ولكن فيها غموض من جهة المصداق، فإنّ الانسان يتحيّر من المعنى المراد من المطر السوء، إلّا أنّ الآية

__________________

(١) حديث متفق عليه بين الفريقين.

(٢) نهج البلاغه، ج ٢، ص ٢٢، الخطبة ١٢٩.

٢٧

٧٤ من سورة الحجر، تبيّن هذا المعنى عندما تقول:( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ) .

إنّ اتّباع هذه الطريقة يكشف كثيراً من الحقائق الخفية ويلقي أضواء على ما اُبهم من الآيات، شريطة أن يجعل الإنسان الصبر على البحث، والدقة الكاملة والتأنّي في إصدار الحكم، رائداً له.

٢. على ضوء الأحاديث الإسلامية الصحيحة :

إنّ بعض الآيات تصرح بأنّ النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو المبيّن للقرآن والمعلّم لآياته، فيقول تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ) ويقول:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ) ( الجمعة: ٢ ).

من هاتين الآيتين نعرف أنّ ما اُبهم من القرآن لمصالح لا نعلمها نحن، يجب الرجوع للكشف عن غوامضها إلى النبي وأهل بيته الذين هم عدل القرآن بشهادة حديث الثقلين المتفق على روايته عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولابد هنا أن نلفت الأنظار إلى أهمية معرفة الأحاديث الصحيحة، والتمييز بينها وبين الأحاديث غير الصحيحة، وأنّه لا يمكن الاعتماد على ما نقل عن الصحابة والتابعين في التفسير بصورة مرسلة غير مسندة، بل يجب التثبت فيها والتأكد من أنّها واجدة لشرائط الحجية التي هي مذكورة في محالها من مباحث علوم الحديث، وإلّا فلا يحسن الاستناد إليها في كشف ما اُبهم من القرآن، بسبب بعد العهد من عصر الوحي أو كون الآيات نزلت مجملة كذلك لمصالح خاصة ليس هنا محل تفصيلها(١) .

ولقد أثرت عن أهل البيت: في هذا المجال أحاديث لوحظ في أكثرها جانب التربية والتعليم والمحاولة لتقريب استفادة المعاني والنكات إلى الأذهان، ( من

__________________

(١) مثل الآيات التي ذكرت فيها الصلاة والصوم والزكاة والحج و

٢٨

دون حشر رأي خاص فيها وحمله على الذي يستعرضه ) بتدبّر ودقة، وهذا موضوع يتضح جلياً لمن أمعن النظر في تلك الأحاديث التفسيرية. وهذه الأحاديث لها قيمتها الخاصة وإن لم يصح إسناد بعضها، لمجانبتها عن التفسير التعبدي ومحاولتها التعليم وإرشاد القارئ إلى كيفية استفادة المعاني من الآية نفسها من دون إستناد إلى شيء آخر.

تأثير الحضارة الغربية في المنهج التفسيري

لقد أثّرت ترجمة الفلسفة اليونانية وعلومها إلى العربية في فهم معاني الآيات والمفاهيم القرآنية تأثيراً بعيد المدى، فقد ادخلت في التفسير جملة من المسائل الفلسفية والطبيعية التي لا تمت إليه بصلة، وحملت عليه حملاً لا يمكن تقبّلها لو تجردنا عن الاتجاه الفلسفي اليوناني الوافد.

إنّ بعض المفسّرين أوّلوا كثيراً من الآيات حسب المفاهيم الفلسفية الوافدة من المشائيين والاشراقيين وعلى ضوء القواعد البطليموسية في الهيئة القديمة وعلم الفلك، وللتوفيق بين هذه الآراء والآيات القرآنية والأحاديث التفسيرية، تشبّثوا بنظريات بعيدة كل البعد عن السياق والمفهوم القرآني، وكانت محاولتهم فاشلة، بعد تبدّل النظريات العلمية والمكتشفات التجريبية.

وقد واجه القرآن هذه المشكلة أيضاً بل أعمق منها بكثير عندما وسّعت اُوربا الخطوات إلى المدنية الحاضرة وكانت لها آراء حديثة في النظريات الفلكية والطبيعية والرياضية وغيرها وسخّرت بمكتشفاتها العلمية الجديدة البحار والوديان، وراحت لتسيطر على ما في أجواء السماء.

وانتقل كثير من هذه النظريات الحديثة إلى الشرق ممزوجاً بشيء من سوء الظن بالنسبة إلى المسائل الدينية والاُصول المذهبية، ذلك لأنّ اُوربا اتخذت التجربة والحس قاعدة أساسية لعلومها، وأهملت إهمالاً كليّاً كل ما يتعلّق بما وراء الطبيعة وربّما عملت على إنكارها وإبادتها وإبعادها عن المجادلات العلمية.

٢٩

إنّ وفود هذا النوع من الفكر المزيج بسوء الظن بالمسائل الغيبية والمعارف الإلهية، دعا البعض إلى الابتعاد عن الدين، والالحاد فيه، كما دعا البعض الآخر إلى تأويل الآيات بما يوافق الاتجاه الفكري المعاصر، وآل بهم الأمر إلى أن يأوّلوا الآيات المصرّحه بمعاجز الأنبياء، والروح، والجن، والبرزخ، بتأويل يوافق الاُسس المادية والطبيعية(١) .

كما أنّ تقدم العلوم الطبيعية في مجالات مختلفة، دفع بعض الباحثين إلى أن يفرطوا في تأويل الآيات حسب الاُسس الطبيعية والنواميس الكونية، كأنّ القرآن كتاب في الكيمياء والفيزياء وليس له أهداف اُخرى.

وفي مطاوي بعض الكتب التفسيرية المؤلّفة في هذا القرن، نرى الاتّجاه العلمي والفكري الغربي بوضوح، في عرض المسائل القرآنية وتحليلها، وهي تحاول بكل ما تملك من القوى أن توفق بين المفاهيم القرآنية الاجتماعية والأخلاقية، وبين النظريات الغربية، كأنّها كتبت للتوفيق بين المدرسة الإلهية والمدرسة الاُوروبية المعاصرة.

أنّ هذا الفريق من الباحثين جلبتهم العقيدة الدينية بالقرآن الكريم وتقديسه والإذعان به، وانجرفوا من جهة اُخرى فى تيار المدنية الغربية المبنية على أساس إنكار المقدسات والمعنويات أو إرضاء لميولهم الخاصة نحو هذه المدنية، عملوا جادين في تأويل الآيات بالطريقة التي ذكرناها.

نزول القرآن نجوماً

لا شك أنّ الآيات القرآنية نزلت تدريجياً، على قلب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة ثلاث وعشرين سنة، ولا نريد في هذا المجال، الحديث عن علة نزول القرآن هكذا، لأنّه

__________________

(١) هذه الظاهرة المادية تبرز بوضوح في تفسير السيد أحمد خان الهندي والطنطاوي وفي « المنار » وتلامذة مدرسته قليلاً.

٣٠

تحدّث هو عن هذا في بعض الآيات(١) .

وإنّما الذي يهمّنا الحديث عنه هنا هو: أنّ القرآن لم يكن كتاباً من صنع البشر يتكوّن من أبواب وفصول ويبحث في كل موضوع عن نقطة خاصة، وإنّما هو كتاب سماوي أنزله الله تعالى لإرشاد البشر إلى المبدأ والمعاد والتكامل الروحي والجسمي، ولا يحتاج مثل هذا الكتاب إلى التنظيم والالتزامات المتبعة في المؤلّفات الاُخرى ولأجل ذلك فله خصائص لا توجد في غيره ونشير إلى بعضها فيما يلي :

١. تنتقل الآيات من موضوع إلى موضوع آخر لمناسبات تستدعي الانتقال إذ ربّما تذكر عدة مواضيع في سورة واحدة، هدفها الوعظ، والإرشاد، وإيقاظ الضمير، والعطف نحو العقل والحكمة، فجاءت تلكم المواضيع واحدة بعد اُخرى، يجمعها ذلك الهدف الخاص، ولكن يسبق إلى أذهان بعض أنّه لا ربط وثيق بينها، إلّا أنّه يجد عند الدقة والتدبّر، نوعاً خاصاً من الارتباط الذي يسلك عقودها في سلك واحد ووجود هذا القسم من الآيات الكثيرة، من الوفرة بحيث يغنينا عن التمثيل لها هنا.

٢. أهمية توجيه الفكر الإنساني، وفطرته نحو الهدى والحق من جانب وإيقاظ الضمائر الميتة الكامنة في نفوس مريضة من جانب آخر، تستدعي تكرار بعض الموضوعات في مناسبات شتى، والعود إليها بمختلف الأساليب البيانية، وهذا في تكرار الخطابات من الأهمية بمكان وهو من المحسنات التي لابد منها في الكلام الموجه إلى الناس بشكل عام.

مثلاً أنّنا نرى القرآن الكريم يكرّر في مناسبات شتى موضوع الاعتبار من حياة الاُمم السالفة والملوك والجبابرة والطغاة الماضين كما أنّه يذكر موضوع:( سِيرُوا فِي الأَرْضِ ) في أكثر من مناسبة واحدة، وفلسفة هذا التكرار والعود إلى الموضوع مرّة بعد اُخرى هي ما ذكرناه.

__________________

(١)( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان ـ ٣٢ ).

٣١

٣. ربّما يتحدّث القرآن الكريم في سورة عن جانب خاص من جوانب قصة أو موضوع متعدد الجوانب، واسع الأطراف لتعلّق ذاك الجانب الخاص فقط بما يقصده من الكلام دون سائر جزئياتها وتفاصيلها، ثمّ يعود في سورة اُخرى إلى تلك القصة أو ذلك الموضوع ليذكرها بتفاصيلها وجزئياتها. وأكثر ما نشاهد هذا في قصص الاُمم الماضية للاعتبار بها، وهذه طريقة ضرورية لكتاب اُنزل لهداية الناس وانتشالهم من الضلال.

٤. يتبع القرآن طريقة التدرّج، في بيان مفاهيمه العقلية ومعارفه التربوية فيستدل مثلاً على مفهوم من مفاهيمه في بعض السور باستدلال، ثم يعود إلى استدلال آخر لنفس المفهوم في سورة اُخرى. وبهذا توزع الأدلّة في عدة أمكنة وتذكر حسب المناسبات التي تقتضي ذلك.

مثلاً أنّ موضوع المعاد والرجوع إلى حياة جديدة من المسائل الإسلامية والقرآنية المهمة التي ركّز على إثباتها القرآن، فاستدل له بأدلّة ستة(١) ولكنّها موزّعة، لكل واحدة

__________________

(١) انّ الفكرة تتضح أبعادها، وتنكشف جوانبها، إذا تعددت الاستدلالات عليها من طرق شتى، والمثال على ذلك حديث البعث والمعاد في القرآن الكريم، فقد استدل القرآن على إمكان وقوعه بطرق ستة، ونحن نذكرها في المقام على وجه الاجمال ونكتفي في بيان كل طريق، بآية واحدة، مع كثرتها في كل باب :

١. الاستدلال بعموم قدرته على كل شيء كما في قوله سبحانه:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ المَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الأحقاف ـ ٣٣ ).

٢. قياس الاعادة على الابتداء كما في قوله سبحانه:( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) ( الانبياء ـ ١٠٤ ).

٣. الاستدلال على امكان احياء الموتى، باحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات كما في قوله سبحانه:( وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ) ( الروم ـ ١٩ ).

٤. قياس قدرة الاعادة على قدرة اخراج النار من الشجر الأخضر كما في قوله سبحانه:( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) ( يس: ٧٩ ـ ٨٠ ).

٣٢

منها في مكانها نكتة خاصة.

* * *

هذه الخصائص القرآنية التي استعرضنا بعضها، تدفعنا إلى أن نشبّه القرآن الكريم بحديقة غنّاء مليئة بالأزهار الملوّنة، والورود المنوّعة، وقد وزعت توزيعاً طبيعياً جميلاً تأخذ بالأبصار، فهي بالرغم من أنّها موزّعة إلّا أنّ فيها طرافة وظرافة، لأنّ كل واحد منها وضع في مكانه اللائق به.

الجمود فى التفسير

انّ استعراض كتب التفسير وملاحظتها بشيء من الإمعان، يوصلنا إلى حقيقة غير خافية، وهي: أنّ علماء الإسلام مع شدّة اهتمامهم بالتفسير وفهم الآيات والكشف عن معانيها، لم تتطور مؤلّفاتهم التفسيرية بالقدر الذي يجب أن تتطور طيلة القرون الأربع عشر الماضية.

فمع غض النظر عن طائفة من التفاسير المهمة المعاصرة، نرى أنّ التفسير لم يتم ولم يتكامل عند السنّة والشيعة منذ تفسير « الطبري » إلى « المنار » وتفسير « التبيان » إلى « الميزان ».

ومن العوامل التي سبّبت الجمود المذكور، أنّ التفاسير سارت على وتيرة واحدة في تفسير القرآن سورة فسورة، ففسّروها من البدء إلى الختم أو فسّروا بعضها على

__________________

وسيوافيك في بحث المعاد أنّ للآية معنى آخر ألطف بكثير مما ذكره المفسرون، ورائدنا فيه التدبير في ذيل الآية، وما كشفه العلم الحديث في حقيقة الحرارة الكامنة في الأشجار وحقيقة انطلاقها منها عند الاحتراق.

٥. الاستدلال بالوقوع على الامكان فإنّ أدل دليل على امكان الشيء وقوعه ولأجل ذلك نقل سبحانه قصة بقرة بني إسرائيل ( البقرة: ٦٧ ـ ٧٣ )، وحديث عزير ( البقرة ـ ٢٥٩ ).

٦. الاستدلال ببعض المنامات الطويلة التي امتدت ثلاثمائة سنين فإنّ النوم أخو الموت ولا سيما الطويل منه كما أنّ القيام منه يشبه تجدد الحياة وتطورها.

٣٣

الترتيب المذكور، ولم يهتمّوا في كتابة التفسير بالتفسير الموضوعي(١) الذي يقتضي نزول الآيات نجوماً وتوزع الآيات الراجعة إلى أكثر الموضوعات في أمكنة وسور القرآن.

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم

وما ذكرنا حول نزول القرآن التدريجي وألمعنا إلى ما فيه من الخصائص يقتضي أن يفسّر القرآن أيضاً حسب الموضوع إلى جانب تفسيره على ترتيب السور، فتجمع آيات كل موضوع في مكان وتفسر مجموعتها لئلاّ تتشتت الجوانب المختلفة.

مثلاً المفسّر الذي يحاول التعمّق في الحديث عن السماء والأرض على ضوء القرآن الكريم، أو يريد أن يبحث بحثاً مستوفى عن المعاد، أو يستعرض قصص بني إسرائيل، أو يحكم في أفعال الإنسان من جهة الجبر والاختيار، أو يكشف عن المعارف الإسلامية المتعلّقة بأفعال الله تعالى من قبيل الإرادة والهداية والضلال والقضاء والقدر لابد أن يتبع الطريقة الموضوعية التي ذكرناها ليتمكن من جمع أطراف الموضوع جمعاً كاملاً شاملاً.

من جملة الأسباب التي دعت إلى ظهور عقائد مختلفة بين المسلمين، وتشبّث كل صاحب عقيدة بطائفة من الآيات، أنّهم وجهوا اهتمامهم إلى آيات خاصة لتركيز معتقداتهم، وأهملوا الآيات التي تكشف لهم آفاقاً اُخرى، وتوضح لهم النقاط التي زلّوا فيها، ولو أنّهم كانوا يلاحظون في كل مسألة من المسائل العقائدية الآيات بمجموعها لدرأوا عن أنفسهم الوقوع في هذه المهاوي السحيقة.

ومن باب المثال نذكر بهذا الصدد أصحاب مذهب الجبر في أفعال الانسان أو مذهب التفويض فيها فإنّهم ابتلوا بما ذكرناه وخبطوا خبط عشواء في فهم المقاصد الإلهية وتفسيرها.

__________________

(١) نريد من « التفسير الموضوعي » تفسير القرآن على حسب الموضوعات التي وردت فيه وبحث القرآن في مواضع مختلفة مقابل تفسيره على حسب السور والآيات.

٣٤

أجل يمكن القول بأنّ العلّامة المجلسي هو أوّل من استعمل إجمالاً هذه الطريقة ( التفسير حسب الموضوع )، فإنّه في كتابه « بحار الأنوار » جمع الآيات المربوطة بكل موضوع في أوّل الأبواب، وفسّرها تفسيراً سريعاً بلا استنتاج منه. وهذه الخطوة القصيرة خطوة جليلة في عالم التفسير نأسف على أنّ المفسرين بعده لم يسيروا على ضوئها، ولا يمكن تفسير القرآن بالقرآن، والاستفادة الكاملة منه وتلقّي مفاهيمه العالية الصحيحة إلّا بالمنهج المذكور.

أوّليات الطريقة الموضوعية في التفسير

لا شك أنّ الطريقة الموضوعية فى التفسير التي نتحدّث عنها في هذا المجال طريقة، لم ينهجها علماء التفسير حتى الآن، كما قلناه وعليه نعتقد أنّ فيها كثيراً من الصعوبات التي تعترض سيرها، فإنّ تنظيم الآيات وتقسيمها حسب الموضوعات أمر لا يتم بعمل فردي، بل لابد من لجنة تتولّى هذا العمل، ويجب أن يكون أعضاء اللجنة اُناساً علماء لهم الخبرة الطويلة، والاختصاص في الفروع العلمية المختلفة. وممارسة طويلة في الآيات القرآنية وفهم معانيها واستنباط مقاصدها ودرك مفاهيمها العالية.

ونقترح أن تتبع هذه اللجنة الإرشادات التالية :

١. تقرأ الآيات واحدة واحدة بدقة وإمعان لافرازها موضوعياً، ثمّ يهيّأ فهرس دقيق للموضوعات الواردة في القرآن والمبحوث عنها في آياتها ليعلم بصورة مؤكدة عدد ما جاء فيها من المباحث المختلفة، وما ورد في كل واحد منها، من الآيات.

٢. تهيّأ بطاقات خاصة بكل موضوع، لتكتب فيها آياته. والأحسن في هذا أن تصور هذه البطاقات في عدة نسخ، لتوضع في متناول أيدي الباحثين والمحقّقين ليقرأوها ثم يبدوا ملاحظاتهم وانتقاداتهم، وبعد المداولة في شأنها من قبل العلماء، تطبع بصورة نشرات حسب الحروف الهجائية وتوزّع في إطار واسع ليطّلع عليها المعنيون في

٣٥

الأقطار.

٣. وبعد أن تنتهي اللجنة من فهرسة الآيات كما ذكرناه، يدعى كبار الشخصيات الإسلامية العلمية ليتولّى كل واحد منهم، موضوعاً حسب اختصاصه، فتقدم اللجنة لهم الموضوعات التي تم فهرستها، ليختار هو الموضوع الذي جمعت آياته في البطاقات الخاصة به، ويكتب حولها ما يرى من البحوث والدراسات.

والنتيجة الحاصلة من هذه الجهود المشتركة المبذولة من قبل كبار علماء الإسلام أنّه تكتب للقرآن الكريم دائرة معارف كبيرة ملؤها التحقيق والبحث العلمي لتبرز ما فيه من الحقائق التي لا زالت خفية حتى الآن.

انّ هذا العمل الجبار ( بالاضافة إلى ما يحتاج من ميزانية ضخمة ) رهن لجنة مركزية تكون حلقة وصل بين علماء الإسلام القاطنين في أقطار نائية بعيدة الأطراف فإنّه لا يتم عمل كبير كهذا العمل إلّا باللجنة المركزية، فهي التي تنتخب الأعضاء الذين يقومون بفهرسة الآيات، وهي التي تصوّر البطاقات وتعرضها على الباحثين والناقدين وبعد التنسيق الدقيق تنشرها في نشرات متسلسلة، وهي التي تتصل بالشخصيات العلمية لكتابة التفسير كما ذكرناه.

إنّ هذا الاقتراح ربّما يكون كبيراً وغير قابل التنفيذ في رأي البعض، إلّا أنّه بسيط عند ذوي الهمم العالية والعاملين في حقول العلم والثقافة، فقد قامت جمعيات دينية قبل هذا بأعمال مشابهة، لكتبهم المنسوبة إلى السماء، وكان جهدهم من الطرافة بحيث أظهر كتبهم المحرّفة بحلل زاهية تأخذ بالأبصار وتثير إعجاب القارئين لها.

ونحن نأمل أن يتصدى مراجع الدين وكبار العلماء لتحقيق هذه الاُمنية، فيتداولوا بينهم الأمر لإزالة العوائق عن الطريق وتيسير المقدّمات الأوّلية وتعيين نقطة الانطلاق لهذا المشروع الديني العلمي.

٣٦

منهجنا في هذا الكتاب

بعد أن أمضى مؤلّف هذا الكتاب خمس عشرة(١) سنة في دراسة القرآن الكريم دراسة مستوعبة وكتابة تفاسير لبعض السور، أجمع عزمه على كتابة نماذج من التفسير الموضوعي المقترح، ليعبّد الطريق للمحققين الذين يحلو لهم السير في هذا السبيل ومن الطبيعي أنّ مثل هذا العمل الإسلامي الكبير خارج عن نطاق شخص واحد، ويحتاج إلى ذوي الاختصاص من العلماء كما ذكر سابقاً، ولكن بدأ به من زاوية، كان المؤلف قد أشبعها بحثاً ودراسة وهيّأ موادها من ذي قبل.

انّه فكّر في نفسه، ربّما لا يتحقق هذا الأمل الجديد، أو لا يسعفه الأجل في أن يرى انجازه كما يتصوره ويود إنجازه، فعزم على أن يخطو خطوة نحوه ورائده « الميسور لا يسقط بالمعسور » وعند ما يهيّئ الله تعالى جماعة من محققي الإسلام لهذا المشروع، يمكنهم اعتبار هذا الكتاب جزءاً من دائرة معارف القرآن بعد سد ما يرون فيه من النقص الذي هو من لوازم عمل الفرد.

لقد اخترنا من بين الموضوعات الكثيرة التى ترجع إلى النبىّ الأكرم هذه المواضيع :

١. الإسلام شريعة عالمية لا إقليمية.

٢. الخاتمية في الذكر الحكيم وأنّ الرسول الأعظم هو خاتم الأنبياء.

٣. النبي الاُمّي في القرآن المجيد.

٤. علم الغيب في الكتاب العزيز.

٥. أسماء النبي وصفاته في القرآن العزيز.

__________________

(١) بدأ المؤلف بالبحث عن خصوص هذا النمط من التفسير منذ عام ١٣٨٨ ه‍ بعد ما صرف شطراً من عمره في تفسيره على النمط الآخر أعني تفسير القرآن على حسب السور.

٣٧

ولما خرج هذا الجزء إلى البياض، عرضته على الاُستاذ العلّامة، المفكّر الإسلامي الكبير السيّد محمد حسين الطباطبائي مؤلّف الكتاب القيّم « الميزان في تفسير القرآن » وغيره من الآثار الخالدة، فقدّره واستحسنه وشجعني على مواصلة العمل، وتفضّل بكلمة(١) سجلتها في صدر الكتاب لتبقى ذكرى خالدة من عواطفه الكريمة المبذولة لأحد تلامذة مدرسته وللاُستاذ ـ روحي فداه ـ منّي تحيّة عبقة وتمنيات خالصة.

وفي الختام لو ترتب ثواب على عملي الضئيل فإنّما أهديه :

إلى من أنا مدين له في كل شيء حتى في هذه الدراسات التي بين يديك.

إلى أوّل من فتح قلبي على أشعة نور القرآن وأرشد عقلي إلى الاهتداء بهداه.

إلى سيدي الوالد آية الله الشيخ محمد حسين السبحاني(٢) تغمده الله برحمته والله ولي التوفيق

قم ـ إيران

جعفر السبحاني

٢٠ جمادى الآخر ١٣٩٣ ه‍

__________________

(١) وقد أتتنا كتب ورسائل من الشخصيات العلمية بعد انتشار هذا الجزء لأوّل مرة نشرنا بعضها في مقدّمة الجزء الثاني وقد وافاك بعضها في أول هذا الجزء من هذه الطبعة.

(٢) لبّى دعوة ربّه ضحوة يوم الحادي عشر من شهر شوال عام ١٣٩٢ ه‍، سعيداً نقي الصحيفة ودفن في مقبرة العلماء بقم بعد أن شيّع جنازته الزكية حشد من العلماء وشيوخ الحوزه العلمية وقد حك على صخرة قبره هذان البيتان :

إنّ الذي صنع الجميل مخلّد

لا سيما في العلم والعرفان

فإذا انقضت أيام مدة عمره

فجميل صنع المرء عمر ثان

تجد ترجمته الضافية في مقدمة كتابه « نخبة الأزهار » بقلم العلّامة الحجة السيد أحمد الأشكوري دام ظله، رحم الله الماضين من علمائنا العاملين ووفقنا للاهتداء بهداهم والسير على ضوء تعاليمهم. والله خير موفق ومعين.

٣٨

الفصل الأوّل

عالمية الإسلام

على

ضوء القرآن الكريم

الحديث عن دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله متعددة الجوانب، واسع الأبعاد، بعيد الأغوار، وبالرغم من سعة مجالات القول، وجوانب البحث فيها، فانّنا نحاول بهذه النظرة الثاقبة الفاحصة، أن نتحدّث عن ناحية خاصة لدعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّها دعوة عالمية لا إقليمية، وهي من أبرز الخطوط التي يستهدفها القرآن بشأن دعوته ورسالته.

نحن في رحاب القرآن الكريم، نسمع نداءه العالمي، وإن فصلتنا عنه حقب بعيدة من الزمان، ونعي صراحته ومجاهرته: بأنّ الإسلام عقيدة لا ينفرد بها شعب أو مجتمع بعينه، ولا يختص ببلد، أو بلاد معينة، بل هو دين ذو قوانين تسري على الأفراد على اختلافهم: في العنصر، والوطن، واللسان، ولا يفترض لنفوذه حاجزاً بين بني الانسان، ولا يعترف بأية فواصل وتحديدات جنسية، أو اقليمية.

فهذا تاريخ دعوته، وسيرته في نشر دينه، نتطلّع إليه بشوق ولهفة، حيث يبدد الدياجير من أمام أبصارنا، وبصيرتنا، ويقرّب لنا الواقع دونما تكلّف، أو اصطناع.

٣٩

كانت دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدء أمرها تدور بين أهله وعشيرته، ممتثلاً لما أمره الله سبحانه بذلك، بقوله:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء ـ ٢١٤ )، والسر في ذلك أنّ النفوذ في الآل والعشيرة ألزم وأسهل من الأجانب والأباعد.

مضى رسول الله في دعوته السرية ثلاث سنين، وهو ينذر طيلة تلك المدة قومه وعشيرته، ويؤمي إلى عموم دعوته تارة، ويجاهر بذلك اُخرى، ويستنتج أنّ دعوته وشريعته عالمية، سوف تعم العالم كله، ولا تحبس بإطار خاص.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله في خطاب ألقاه في داره، حينما وفد إليه أعمامه وأخواله ومن كانت له به صلة :

« والله الذي لا إله إلّا هو، أنّي رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة(١) والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن َّكما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وأنّها الجنّة أبداً، والنار أبداً »(٢) .

ثمّ إنّه كان ينتهز الفرص، التي تسنح له للاجهار بدعوته، إلى أن أمره تعالى بأن يصدع بما اُمر به، وأن ينادي الناس عامّة باتباع دينه وشريعته، امتثالاً لما أمره سبحانه به، بقوله :

( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ) ( الحجر ـ ٩٤ ).

فصعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الصفا وهو يهتف ويقول: واصباحاه ! فاجتمع الناس حوله، فقال: إن أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أكنتم تكذّبوني ؟ قالوا: ما جرّبنا عليك كذباً، فقال: يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار، فإنّي لا اُغني عنكم من الله شيئاً، انّي لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد، إنّما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو، فانطلق يريد أهله فخشى أن

__________________

(١) أليس هذا تصريحاً بعمومية رسالته في بدء دعوته.

(٢) الكامل لابن الأثير، ج ٢، ص ٤١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

من المسلمين »(1) .

5 ـ وروى ابن عباس قال : اقبل النبيّ (ص) وقد حمل الحسن على رقبته فلقيه رجل ، فقال نعم المركب ركبت يا غلام ، فقال رسول الله (ص) ونعم الراكب هو.(2)

6 ـ وروى عبد الله بن عبد الرحمن بن الزبير قال : أشبه أهل النبي (ص) وأحبهم إليه الحسن رأيته يجيء وهو ساجد فيركب رقبته أو قال : ظهره فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل ، ولقد رأيته وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر(3)

7 ـ وروى ان النبي6 صلى احدى صلاتي العشاء فسجد سجدة أطال فيها السجود ، فلما سلم قال له الناس : في ذلك فقال : ( إن ابنى هذا ـ يعنى الحسن ـ ارتحلنى فكرهت أن أعجله )(4)

__________________

(1) الاصابة 1 / 330 ، صحيح البخاري ذكره فى الصلح ، ورواه الامام احمد بن حنبل فى مسنده 5 / 44 باسناده عن المبارك عن الحسن عن ابي بكرة قال : كان رسول الله6 يصلي بالناس ، وكان الحسن بن علي يثب على ظهره إذا سجد ، ففعل ذلك غير مرة ، فقالوا له : والله إنك لتفعل بهذا شيئا ، ما رأيناك تفعله باحد ، قال المبارك : فذكر شيئا ثم قال : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله تبارك وتعالى به بين فئتين من المسلمين ، وذكره ابن حجر في صواعقه وجاء في العقد الفريد 1 / 164 ان الرسول6 دخل على ابنته فاطمة فوجد الحسن طفلا يلعب بين يديها ، فقال لها : إن الله سيصلح على يدي ابنك هذا بين فئتين عظيمتين من المسلمين.

(2) الصواعق : ص 82 ، حلية الاولياء.

(3) الاصابة 2 / 11

(4) البداية والنهاية 8 / 33

٨١

8 ـ وصعد6 على المنبر ليخطب ، فجاء الحسن فصعد المنبر ، فوضعه على رقبته حتى كان يرى بريق خلخاليه من اقصى المسجد ، وهما يلمعان على صدر الرسول ، ولم يزل على هذه الحالة حتى فرغ6 من خطبته(1)

9 ـ وقال6 : « من سره أن ينظر إلى سيد شباب اهل الجنة فلينظر الى الحسن »(2)

10 ـ وقال6 : « الحسن ريحانتي من الدنيا »(3) 11 ـ وروى انس بن مالك قال دخل الحسن على النبي6 فأردت أن أميطه عنه ، فقال6 : « ويحك يا أنس دع ابنى ، وثمرة فؤادي ، فان من آذى هذا فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله »(4)

هذه طائفة من الاخبار التي وردت عن النبي6 في سبطه الاكبر ، ويلمس فيها أسمى الوان التكريم والحفاوة والحب العميق.

الطائفة الثانية :

أما ما أثر عن النبي6 في حق السبطين8 فكوكبة من الروايات الصحاح التي دونها الثقات والحفاظ ، وهي صريحة

__________________

(1) البحار 6 / 58

(2) فضائل الاصحاب : ص 165 ، البداية والنهاية 8 / 35

(3) الاستيعاب 2 / 369

(4) كنز العمال 6 / 222

٨٢

الدلالة في أنهما8 من أعز الناس عند رسول الله صلى عليه وآله ومن أحبهم له ، ونذكر منها ما يلي :

1 ـ روى سعيد بن راشد ، قال : جاء الحسن والحسين8 يسعيان الى رسول الله6 فأخذ أحدهما فضمه الى إبطه ، ثم جاء الآخر فضمه إلى إبطه الاخرى ، وقال : ( هذان ريحانتي من الدنيا من أحبنى فليحبهما )(1) وكان النبي6 دوما يضفى عليهما هذا اللقب ، وقد وردت بذلك روايات عديدة(2)

2 ـ وروى انس بن مالك قال : سئل رسول الله6 أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال6 : « الحسن والحسين » وكان يقول : لفاطمة ادعي ابني فيشمهما ويضمهما إليه(3)

3 ـ وروى أسامة بن زيد قال : طرقت النبي6 ذات ليلد في بعض الحاجة فخرج النبيّ6 وهو مشتمل

__________________

(1) ذخائر العقبى : ص 124

(2) روى ابو نعيم في حلية الاولياء 3 / 201 عن جابر ان رسول الله6 قال : لعلي بن ابي طالب7 سلام عليك يا ابا الريحانتين اوصيك بريحانتي من الدنيا خيرا فعن قليل ينهد ركناك والله خليفتي عليك ، قال فلما قبض النبيّ6 : قال علي7 : هذا احد الركنين اللذين قال النبي6 فلما ماتت فاطمة3 قال علي (ع) : هذا الركن الآخر الذي قال النبيّ6 : وفي كنز العمال 7 / 110 عن سعد بن مالك قال دخلت على النبيّ6 والحسن والحسين يلعبان على ظهره ، فقلت يا رسول الله أتحبهما؟ فقال : ومالي لا احبهما ، وانهما ريحانتى من الدنيا

(3) صحيح الترمذي 2 / 306 فيض القدير 1 / 148

٨٣

على شيء لا ادري ما هو؟ فلما فرغت من حاجتي ، قلت : ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ قال فكشفه فاذا هو حسن وحسين على وركيه ، فقال : ( هذان ابناي ، وابنا ابنتي ، اللهم ، إني احبهما فأحبهما وأحب من يحبهما )(1)

4 ـ وروى سلمان الفارسي قال سمعت رسول الله6 يقول : ( الحسن والحسين ابناي من احبهما احبني ، ومن احبني أحبه الله ، ومن أحبه الله ادخله الجنة ، ومن أبغضهما ابغضني ومن ابغضني ابغضه الله ، ومن ابغضه الله ادخله النار »(2)

5 ـ وروى ابن عمر قال : قال رسول الله6 : « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما »(3)

6 ـ واعتلى6 أعواد المنبر يخطب ، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران ، وهما يمشيان ويعثران ، فنزل6 عن المنبر فحملهما ، ووضعهما بين يديه ، وقال : صدق الله

__________________

(1) صحيح الترمذي 2 / 240 ، كنز العمال 7 / 110 ، وذكر آخر الحديث ابن حجر فى صواعقه ص 114

(2) مستدرك الحاكم 3 / 166 ، وبتغيير يسير رواه الهيثمي في مجمعه 9 / 811 وكذلك فى كنز العمال 6 / 221

(3) مستدرك الحاكم 3 / 167 ، صحيح ابن ماجة ، وتظافرت الاخبار الواردة عن النبيّ6 ان سبطيه سيدا شباب اهل الجنة ، روى الترمذي في صحيحه 2 / 306 عن ابي سعيد الخدري قال : قال رسول الله6 « الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة » ورواه احمد بن حنبل فى مسنده 3 / 3 ، وروى الخطيب البغدادي في تاريخه 1 / 140 بسنده عن علي7 قال قال : رسول الله : ( الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة )

٨٤

إذ يقول :( أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) ( لقد نظرت إلى هذين الصبيين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما )(1)

7 ـ وروى ابن عباس قال : بينا نحن ذات يوم مع النبي6 إذ أقبلت فاطمة سلام الله عليها تبكى ، فقال لها رسول الله6 : فداك أبوك ، ما يبكيك؟ قالت إن الحسن والحسين خرجا ، ولا أدرى أين باتا ، فقال لها رسول الله6 : لا تبكين فان خالقهما ألطف بهما مني ومنك ، ثم رفع يديه ، فقال : اللهم احفظهما وسلمهما ، فهبط جبرئيل ، وقال يا محمد ، لا تحزن فانهما في حظيرة بني النجار ، نائمان ، وقد وكل الله بهما ملكا يحفظهما ، فقام النبي6 ومعه أصحابه حتى أتى الحظيرة فاذا الحسن والحسين8 معتنقان نائمان ، وإذا الملك الموكل بهما قد جعل أحد جناحيه تحتهما والآخر فوقهما ، يظلهما ، فأكب النبي6 عليهما يقبلهما ، حتى انتبها من نومهما ، ثم جعل الحسن على عاتقه الايمن ، والحسين على عاتقه الايسر ، فتلقاه أبو بكر ، وقال يا رسول الله : ناولني أحد الصبيين أحمله عنك ، فقال6 نعم المطي مطيهما ، ونعم الراكبان هما ، وأبوهما خير منهما ، حتى أتى المسجد فقام رسول الله6 على قدميه وهما على عاتقيه ثم قال :

« معاشر المسلمين ، ألا أدلكم على خير الناس جدا وجدة؟

« بلى يا رسول الله »

« الحسن والحسين ، جدهما رسول الله6 خاتم المرسلين ، وجدتهما خديجة بنت خويلد ، سيدة نساء أهل الجنة »

__________________

(1) صحيح الترمذي 2 / 306 ، صحيح النسائي 1 / 209

٨٥

ثم قال6 : « ألا أدلكم على خير الناس عما وعمة؟ » قالوا : بلى يا رسول الله

« الحسن والحسين عمهما جعفر بن أبي طالب ، وعمتهما أم هاني بنت أبي طالب. »

ثم قال : « أيها الناس ، ألا أدلكم على خير الناس خالا وخالة؟ » قالوا : بلى يا رسول الله

« الحسن والحسين ، خالهما القاسم بن رسول الله ، وخالتهما زينب بنت رسول الله ».

ثم قال : اللهم ، انك تعلم أن الحسن والحسين في الجنة ، وعمهما ، في الجنة ، وعمتهما في الجنة ، ومن أحبهما في الجنة ، ومن أبغضهما في النار.(1)

ودل الحديث على مدى حبه6 لسبطيه ، وانهما أحب أهل بيته إليه ، وآثرهما عليه ، ومن المعلوم أن شأن النبوة بعيد عن الاندفاع بعواطف الحب ، فانه6 لم يمنحهما هذا الحب الا لانهما مصدرا كل فضيلة ، ومنبعا كل خير.

8 ـ وروى جابر ، قال دخلت على النبي6 والحسن والحسين على ظهره ، وهو يقول : « نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما »(2) وبهذا المضمون روى عمر قال رأيت الحسن والحسين8 على عاتقي النبي6 فقلت نعم الفرس تحتكما فقال النبي6 ونعم الفارسان هما(3) وقد نظم ذلك

__________________

(1) ذخائر العقبى : ص 130

(2) كنز العمال 7 / 108 ، مجمع الهيثمي 9 / 182

(3) مجمع الهيثمي 9 / 181 ، كنز العمال 7 / 106

٨٦

شاعر العقيدة السيد الحميرى فى قوله :

اتى حسنا والحسين الرسول

وقد برزا ضحوة يلعبان

فضمهما وتفداهما

وكانا لديه بذاك المكان

ومرا وتحتهما عاتقاه

فنعم المطية والراكبان

9 ـ وروى يعلى بن مرة الثقفي(1) قال : جاء الحسن والحسين يستبقان الى رسول الله6 فضمهما إليه ، وقال : إن الولد مبخلة مجبنة(2)

10 ـ وقال6 : ( الحسن والحسين سبطان من الاسباط )(3)

11 ـ وبلغ من مزيد حبه واشفاقه على سبطيه أنه كان يعوذهما خوفا عليهما من الحسد ، فقد روى أبو نعيم بسنده عن عبد الله ، قال : كنا جلوسا مع رسول الله6 إذ مرّ الحسن والحسين وهما صبيان ، فقال : هات ابنى أعوذهما بما عوذ به إبراهيم ابنيه اسماعيل ، واسحاق ، فقال : « اعيذكما بكلمات الله التامة من كل عين لامة ، ومن

__________________

(1) روي في المستدرك الحديث عن يعلى بن منبه الثقفي ، وراجعنا كتب التراجم فلم نجد يعلى بن منبه وانما الموجود يعلى بن مرة ، ولعل ما وقع ما فى المستدرك كان سهوا ، وجاء فى كل من الاصابة ، واسد الغابة ان يعلى بن مرة من افاضل الصحابة ، روى عن رسول الله6 وعن امير المؤمنين7 وشهد مع النبيّ6 الحديبية ، وبايع بيعة الرضوان وشهد خيبر ، والفتح وهوازن والطائف.

(2) مستدرك الحاكم 3 / 168 ، مسند الامام احمد بن حنبل 4 / 172

(3) الصواعق المحرقة : ص 114 ، كنز العمال 6 / 221

٨٧

كل شيطان وهامة »(1) وليس في سجل المودة الانسانية أجمل من هذا الحنان ، ولا أكرم من هذا العطف.

12 ـ ومما اشتهر بين المسلمين قوله6 : « الحسن والحسين إمامان إن قاما وان قعدا »(2) واضفى6 على حفيديه حلة الامامة ، وهي من أهم الصفات الماثلة فيهما وذلك لما تستدعيه من المثل العليا التي لا تتوفر إلا عند من اختاره الله واصطفاه من بين عباده ، فقد خص الله بها خليله إبراهيم قال تعالى :( قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (3) وسنتحدث عن الامامة ، وما يعتبر في الامام من المؤهلات ، والصفات عند عرض مثله7 .

الطائفة الثالثة :

وتواترت النصوص الصحيحة عن النبي6 في لزوم مودة أهل بيته ، وانه حرب لمن حاربهم ، وسلم لمن سالمهم ، وقرنهم بمحكم الكتاب ، وجعلهم سفن النجاة ، وأمان الأمة ، وإلى القراء بعض تلك السنن.

__________________

(1) حلية الاولياء 5 / 44 الفضائل الخمسة من الصحاح الستة 3 / 177

(2) البحار 10 / 78 ، وجاء في نزهة المجالس 2 / 184 ، وفى الاتحاف بحب الاشراف : ص 129 ان رسول الله6 قال للحسن والحسين :« انتما الامامان ولامكما الشفاعة » وجاء فى منهاج السنة 4 / 210 ان رسول الله6 قال : للحسين 7 « هذا امام ابن امام اخو امام ابو أئمة تسعة ».

(3) سورة البقرة : آية 124

٨٨

1 ـ روى زيد بن أرقم أن رسول الله6 قال : لعلي وفاطمة والحسن والحسين: : ( أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم »(1)

2 ـ وعن أبي بكر قال : رأيت رسول الله6 خيم خيمة ، وهو متّكئ على قوس عربية ، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين: فقال : « معشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة ، وحرب لمن حاربهم ، وولي لمن والاهم ، لا يحبهم إلا سعيد الجد ، طيب المولد ، ولا يبغضهم إلا شقي الجد ردىء الولادة »(2)

3 ـ وروى احمد بن حنبل أن النبي6 أخذ بيد الحسن والحسين ، وقال : « من احبني ، وأحب هذين وأباهما ، وامهما كان معي فى درجتي يوم القيامة »(3)

4 ـ وروى جابر ، قال رسول الله6 : ذات يوم بعرفات ، وعلى تجاهه « ادن منى يا علي خلقت أنا وأنت من شجرة أنا أصلها وأنت فرعها ، والحسن والحسين أغصانها فمن تعلق بغصن منها ادخله الله الجنة »(4)

5 ـ وروى ابن عباس قال : قال رسول الله6 ( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتى أمان لأمتي من الاختلاف

__________________

(1) كنز العمال 7 / 102 ، سنن ابن ماجة ص 14 ورواه ابن كثير فى البداية والنهاية عن ابي هريرة.

(2) الرياض النضرة 2 / 252

(3) مسند احمد 1 / 77 ينابيع المودة ص 164 صحيح الترمذي 2 / 2 / 301

(4) مسند احمد 1 / 77

٨٩

فاذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس )(1)

6 ـ روى زيد بن أرقم قال : قال رسول الله6 « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى ، احدهما اعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتى ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما »(2)

إن حديث الثقلين من أوثق الأحاديث النبوية ، واكثرها ذيوعا ، وقد اهتم العلماء به اهتماما بالغا لانه يحمل جانبا مهما من جوانب العقيدة الاسلامية ، كما انه من اظهر الأدلة التي تستند إليها الشيعة في حصر الامامة في اهل البيت ، وفي عصمتهم من الاخطاء والاهواء لان النبيّ6 قرنهم بكتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلا يفترق أحدهما عن الآخر ومن الطبيعي أن صدور آية مخالفة لاحكام الدين تعتبر افتراقا عن الكتاب العزيز ، وقد صرح النبيّ6 بعدم افتراقهما حتى يردا عليه الحوض ، فدلالته على العصمة ظاهرة جلية ، وقد كرر النبي6 هذا الحديث في غير موقف من المواقف لأنه يهدف الى صيانة الأمة والمحافظة على استقامتها وعدم انحرافها في المجالات العقائدية ، وغيرها أن تمسكت باهل البيت ولم تتقدم عليهم ، ولم تتأخر عنهم.

واستيفاء البحث في جوانب الحديث يستدعى وضع كتاب خاص ، وقد كفانا مئونة البحث عنه ما ذكره العلماء من التحقيق الرائع في جميع مناحى الحديث سواء أكان من ناحية السند أم الدلالة وغيرها(3)

__________________

(1) مستدرك الحاكم 3 / 149

(2) صحيح الترمذي 2 / 308 ، اسد الغابة 2 / 12

(3) المراجعات : ص 49 ـ 52 ، الاصول العامة للفقه المقارن ص 164 ـ 187

٩٠

7 ـ روى أبو سعيد الخدرى قال : سمعت النبي6 يقول : « إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له »(1)

يقول الامام شرف الدين في مرجعاته القيمة في بيان الحديث ما نصه « وأنت تعلم أن المراد من تشبيههم: بسفينة نوح أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأصوله عن أئمتهم الميامين نجا من عذاب النار ، ومن تخلف عنهم كان كمن آوى « يوم الطوفان » إلى جبل ليعصمه من أمر الله ، غير أن ذاك غرق فى الماء وهذا في الحميم والعياذ بالله. والوجه في تشبيههم: بباب حطة هو أن الله تعالى جعل ذلك الباب مظهرا من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه ، وبهذا كان سببا للمغفرة.

هذا وجه الشبه ، وقد حاوله ابن حجر إذ قال : ـ بعد أن أورد هذه الاحاديث وغيرها من أمثالها ـ

« ووجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم وعظمهم شكرا لنعمة مشرفهم وأخذ بهدي علمائهم نجا ، من ظلمة المخالفات ، ومن تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان » إلى أن قال : ( وبباب حطة ـ يعني ووجه تشبيههم بباب حطة ـ ان الله جعل دخول

__________________

(1) مجمع الزوائد 9 / 168 ، وجاء في مستدرك الحاكم عن حنش الكناني قال : سمعت أبا ذر يقول : وهو آخذ بباب الكعبة : أيها الناس من عرفنى فأنا من عرفتم ، ومن انكرني فأنا أبو ذر سمعت رسول الله يقول : « مثل اهل بيتى مثل سفينة نوح من ركبها نجا. ومن تخلف عنها غرق » وقد تظافرت الأخبار بهذا النص.

٩١

ذلك الباب الذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سببا للمغفرة ، وجعل لهذه الأمة مودة أهل البيت سببا لها »(1)

8 ـ قال6 : « معرفة آل محمد براءة من النار وحب آل محمد جواز على الصراط ، والولاية لآل محمد أمان من العذاب. »(2)

9 ـ قال6 : « من مات على حب آل محمد مات شهيدا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الايمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ، ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس الى بيت زوجها ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة الله »(3)

10 ـ قال6 : « واجعلوا أهل بيتى منكم مكان الرأس من الجسد ، ومكان العينين من الرأس ، ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين »(4)

__________________

(1) المراجعات : ص 54

(2) المراجعات : ص 58 نقلا عن كتاب الشفاء ص 40

(3) المراجعات : ص 59 نقلا عن الامام الثعلبي في تفسير آية المودة من تفسيره الكبير

(4) المراجعات نقلا عن الشرف المؤبد ص 58.

٩٢

ان الواجب على المسلمين أن يجعلوا أهل بيت نبيهم مكان الرأس من الجسد ، ومكان العينين من الرأس ، فيتمسكوا بأهدافهم ، ويأخذوا بأفعالهم وأقوالهم ، ولو انهم حققوا ذلك لكانوا سادات الامم وهداة الشعوب ولكنهم ناصبوهم العداء ، واخروهم عن مراتبهم ، وأزالوهم عن مكانتهم ، فاصيبت الامة بالنكسات ، وحفت بها الخطوب والاخطار فانا لله وإنا إليه راجعون.

11 ـ قال (ص) : لا تزول قدما عبد ـ يوم القيامة ـ حتى يسأل عن أربع ، عن عمره فيما أفناه ، وعن جسده فيما أبلاه ، وعن ماله فيما أنفقه ، ومن أين اكتسبه ، وعن محبتنا أهل البيت »(1)

إن المسلمين مسئولون أمام الله عن مودة أهل البيت وعن حبهم ، ومن اظهر ألوان الحب الأخذ بأقوالهم والاقتداء بهم في جميع المجالات.

12 ـ قال (ص) : من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال عليا من بعدي ، وليوال وليه وليقتد بأهل بيتى من بعدي فانهم عترتي ، خلقوا من طينتى ورزقوا فهمي وعلمي فويل للمكذبين بفضلهم من امتي ، القاطعين فيهم صلتى ، لا أنالهم الله شفاعتي »(2)

ونقتصر على هذه السنن التي أثرت عن الرسول6 في أهل بيته ، وهناك عشرات أمثالها ذكرت في كتب الحديث وهي تهتف بفضلهم ، وتلزم المسلمين بالرجوع إليهم في جميع المجالات.

__________________

(1) المراجعات نقلا عن السيوطي في احياء الميت ، والنبهانى فى اربعينه.

(2) كنز العمال 6 / 217.

٩٣

احتفاء المسلمين به :

واحتفى المسلمون بالامام الحسن احتفاء بالغا فكان كبار الصحابة يقابلونه بالتجلة والتكريم ، ويتسابقون الى القيام بخدمته ، فهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة كان إذا ركب الحسن والحسين8 بادر فأمسك لهما الركاب وسوى عليهما الثياب ، وقد لامه مدارك بن زياد على ذلك فنهره وقال له :

« يا لكع أو تدري من هذان؟! هذان ابنا رسول الله6 أو ليس مما أنعم الله به علي أن أمسك لهما الركاب ، وأسوي عليهما الثياب »(1)

وبلغ من تعظيم المسلمين وتكريمهم لهما انهما كانا يفدان الى بيت الله الحرام ماشيين فما اجتازا على ركب الا ترجل ذلك الركب اجلالا واكبارا لهما ، وإذا طافا بالبيت الحرام بلغ زحام الناس عليهما مبلغا هائلا لم يشاهد نظيره لاجل السلام عليهما والتبرك بزيارتهما(2) وكان أبو هريرة إذا رأى الامام الحسن (ع) مقبلا قام إليه فقبله بسرته لأنه رأى رسول الله6 يفعل ذلك(3) وحقا للمسلمين أن يكرموا حفيد نبيهم ويقدسوه بعد ما كرمه النبيّ6 ورفع من شأنه.

__________________

(1) تاريخ ابن عساكر 4 / 212 ، مناقب ابن شهرآشوب 2 / 143

(2) البداية والنهاية 8 / 37

(3) مسند الامام احمد بن حنبل 2 / 255 ، انساب الاشراف للبلاذري

٩٤

الفاجعة الكبرى

٩٥
٩٦

وقطع الحسن7 شوطا من طفولته مع جده الرسول6 حتى توسعت مداركه ونمت ملكاته ، وهو ناعم البال قرير العين ، يستقبل الحياة كل يوم بثغر باسم وبهناء وسعادة ، يرى من جده6 الحنان والعطف ، ومن مشيخة الصحابة التعظيم والتكريم ، وقد رأى7 ما منح به الاسلام من التوسع وكثرة الغزوات حتى دخل الناس في دين الله افواجا افواجا ، فقد تحطمت عروش الشرك واندحرت قوى الالحاد ، وغزت الجيوش الاسلامية مكة التي هي اعز بلد وامنعه في الجزيرة العربية ، وقام الاسلام وهو عبل الذراع مفتول الساعد شامخ الكيان وسرت موجات فتحه الى أغلب شعوب الأرض ، وقد غمرت قلوب المسلمين المسرات على هذا النصر الذي أعزهم الله وأيدهم به وكان أشد المسلمين فرحا واعظمهم سرورا بهذه الانتصارات التي حققها الاسلام أهل البيت.

ولكن لم تدم لهم الحالة الهانئة فقد عبس الزمن فى وجوههم ، واكفهر ، وغزا قلوبهم بخوف غامض وحزن بهيم فقد آن للرسول6 أن يفد على الله ، وينتقل الى حظيرة القدس ، وقد بدت له طلائع الرحيل وامارات الانتقال وهي :

1 ـ وكانت أول النذر بمغادرته لهذه الحياة نزول الوحي عليه بهذه الآية( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقد اثارت كوامن التوجس في نفسه فقد سمعه المسلمون ينعى نفسه ويقول :

« ليتنى اعلم متى يكون ذلك؟ »

ونزلت عليه بعد هذه الآية سورة « النصر » فكان يسكت بين التكبير والقراءة ويقول :

« سبحان الله وبحمده ، استغفر الله واتوب إليه »

٩٧

وقد ساور قلوب المسلمين الخوف والجزع فانطلقت قلوبهم قبل السنتهم تستفهم عن هذه الحالة الرهيبة فاجابهم6 :

« إن نفسي قد نعيت لي »(1)

وحينما سمع المسلمون ذلك قدّت قلوبهم وانهارت قواهم ، وغامت أبصارهم بفيض من الدموع ، وأصابتهم رجفة هزت كيانهم واشاعت في نفوسهم الجزع والخوف.

2 ـ ونزل عليه القرآن الكريم في تلك السنة مرتين فاستشعر بذلك حضور الاجل المحتوم(2) واخذ ينعى نفسه ، ويعلن مفارقته لهذه الحياة وقد تصدعت القلوب لهذا النبأ وطافت بالمسلمين أمر الوان المحن والخطوب

حجة الوداع :

ولما علم الرسول6 بانتقاله الى دار الخلود ، وهو قد تحمل في سبيل ارشاد المسلمين وهدايتهم من العنت والعناء ما تنوء بحمله النفوس رأى أن يتم النهاية لرسالته المقدسة ويضع الخطة السليمة التي تضمن لامته من بعده السعادة والنجاح فحج6 من اجل ذلك حجته الأخيرة الشهيرة بحجة الوداع ، في السنة العاشرة من الهجرة واشاع بين الوافدين لبيت الله الحرام ان هذا الالتقاء هو آخر العهد بهم قائلا :

« انى لا ادري لعلي لا القاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف ابدا »

وجعل يطوف على الجماهير ويعرفهم بما يضمن لهم السعادة والنجاح « يا أيها الناس ، اني تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل

__________________

(1) مناقب ابن شهر اشوب 1 / 127.

(2) الخصائص الكبرى 2 / 368

٩٨

بيتى »(1)

لقد قرن بين الكتاب والعترة الطاهرة وجعل التمسك بهما منجاة من الفتن والزيغ ، ولو أن الامة تابعته في قوله ، وتمسكت بهما لما حلت بها الاهواء والخطوب وما عراها الذل والهوان ، وما اختلفت كلمتها ، ولا تشعبت الى فرق واحزاب( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )

غدير خم :

ولما فرغ النبي6 من أداء مناسك الحج اتجه الى يثرب فلما وصل موكبه الى غدير خم هبط عليه أمين الوحي فأمره أن يحط رحله في رمضاء الهجير ، وينصب الامام أمير المؤمنين خليفة من بعده ومرجعا لأمته ، وكان أمر السماء يحمل طابعا مهما بالغ الخطورة ، فقد نزل عليه الوحي بهذه الآية :

( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (2) واضطرب النبي من هذا الانذار وهذا التهديد ، إنه إن لم ينفذ ما أراد الله في تقليد أمير المؤمنين بهذا المنصب الخطير فما بلغ رسالة الله وضاعت جميع اتعابه وجهوده ، فانبرى6 بعزم ثابت الى تنفيذ ذلك وإن اغضب الطامعين بالخلافة والمنحرفين عن الامام7 ، فوضع6 اعباء المسير وحط رحله في ذلك المكان القاحل وكان الوقت قائضا حتى كان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه ليتقى من الحر وامر صلى الله

__________________

(1) صحيح الترمذي 2 / 308

(2) سورة المائدة نزلت هذه الآية فى يوم الغدير ذكر ذلك الواحدى فى اسباب النزول ص 150 والفخر الرازي فى تفسيره الكبير وغيرهما.

٩٩

عليه وآله باجتماع الجماهير فلما اجتمعوا صلى بهم فلما انفلت من صلاته أمر أن توضع حدائج الابل لتكون له منبرا فصنعوا له ما اراد فاعتلى عليها وكان عدد الحاضرين مائة الف أو يزيدون ، وقد اتجهوا بقلوبهم قبل اسماعهم الى الرسول ليسمعوا ما يلقى عليهم ، وانبرى6 فبين لهم ـ اولا ـ جهاده المقدس واتعابه الشاقة فى سبيل ارشادهم وانقاذهم من حضيض الشرك والعبودية ، وذكر لهم ـ ثانيا ـ جملة من الاحكام الاسلامية والآداب الدينية فأمرهم بتطبيقها على واقع حياتهم ، وبعد ذلك قال لهم :

« فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين »

فناداه مناد من القوم

« وما الثقلان يا رسول الله؟ »

فاجابه6 : « الثقل الاكبر كتاب الله طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا ، والآخر الاصغر عترتي وان اللطيف الخبير نبأني انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فسألت ذلك لهما ربي فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا »

ثم أخذ بيد علي حتى بان بياض إبطيهما وعرفه القوم اجمعون وقال :

« أيها الناس ، من أولى الناس بالمؤمنين من انفسهم؟

فاجابوه « الله ورسوله اعلم »

فقال6 : إن الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من انفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه قال ذلك ثلاث مرات او أربع مرات ، ثم قال :

« اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، واحب من أحبه ، وابغض

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543