مفاهيم القرآن الجزء ٣

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 543

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 202263 / تحميل: 6215
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

مقدّمةالمؤلّف

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

الله تعالى أحمد، وأصلي وأسلم على خاتم رسله أحمد، وعلى أوصيائه ما لاح في السماء فرقد، وما هزج طائر على أفنانه وغرّد.

وبعد فقد كنت شرعت عام ١٣٤٠هـ بتأليف كتاب تنتظم دفتاه تاريخ الشيعة الديني والسياسي على أثر هزات هنا وهناك تنتقص قدر هذه الفرقة من فرق المسلمين بمؤلفات فيها الكثير مما عُزي إلى الإمامية، ولم يكن مما تعتقده وهي منه براء. وما كان على مؤلفي تلك الكتب في عصر الطباعة إلا الرجوع إلى ما هو في متناولهم من المؤلفات المطبوعة المنشورة، وجلها الصريحة ذات العقيدة الصحيحة، لتسلم مؤلفاتهم من معرّة ما يجافي الحق والحقيقة ولا يأتي بخير اللهم إلا تفريق صفوف المسلمين في عصر هم أحوج فيه إلى تأليف الكلمة والوقوف صفاً واحداً للذود عن حياض كرامتهم وعزة دينهم المتين، ويا حبذا لو التف كل مسلم غيور طالب إحقاق الحق حول لواء جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية المؤسسة لهذا الغرض النبيل في مصر، ولا نذكر جامعة الأزهر إلا بخير، والأزهر الشريف الخالد المشيدة دعائمه منذ ألف عام ونيّف للقيام برسالتي العلم والدين وأدائهما حق الأداء والقضاء المبرم على التعصبات المذهبية لم يفرّط بمهمته، ومهمته الكبرى في هذا العصر أن يقضي على تلك المنازعات، وجلها وليد السياسات التي انتهى أجلها وأزيحت عللها.

فجامعة الأزهر مفروض على علمائها أن ينهضوا بكل ما يعزّز

٢١

الجامعة الإسلامية ويصلوا ما أمر الله به أن يوصل من إزاحة علل التفرق.

وبعد فإن من إثارة تلك المجادلات التي فتح بابها الموصد على مصراعيه فريق من كتاب مصر ومن غير مصر أن نشأت فوضى جدلية اختلط فيها الحابل بالنابل، وخاض غمارها كثير ممن لم يؤت الحكمة والاعتدال، ومن خدم سياسة الأجنبي عن قصد أو غير قصد. ولا ننقص بعض المؤلفين حقهم، فكانوا من المنصفين، وكانوا من الحريصين على قطع خط الرجعة على المفرقين، ومنهم مؤلف كتاب السنة والشيعة من علماء بيروت العاملين، وفريق من أعلام الكتّاب المصريين. وكان من مستغلّي تلك البلبلة وهي سلاح ماضي الحدين فريق من كتبة الفرنج، ومنهم مؤلف (عقيدة الشيعة) الذي حشا كتابه بكل ما هو أشبه بالعبادات من اتصاله بالاعتقادات والمأخوذ عن العامة لا عن الخاصة، ولم يكن فيه أثر للتمحيص، فيتبيّن الرشد من الغيّ والصحيح من الفاسد. وإذا كان نفر من المسلمين أنفسهم من ينتهج هذا الطريق، ولا يكلف نفسه التحقيق، فأي ملام على الأجنبي، وجل اعتماده وما يهدف إليه ما يمكن لدولته استغلال كل ما يوهن قوة من يطمح في إخضاعه لسلطانه، والنفر المولعون بالجدل البيزنطي هم أعوانه وأنصاره من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، ومن حيث يقصدون أو لا يقصدون.

وكأن الشيعة وخاصة الإمامية نكرة مجهولة وكتب اعتقاداتها المنشورة ملء مكاتب الشرق والغرب محتاجة إلى التعريف، وهو من الباحثين كقاب قوسين أو أدنى ولا يكلفهم عناء كثيراً.

فنهض بهذه المهمة إمام من أئمة الإمامية فألف رسالة (أصل الشيعة وأصولها) ألا وهو المرحوم الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي وهو من كبار المدرسين ومن المراجع في التقليد، فكانت رسالة على اختصارها جامعة لكل ما يهم الباحث الوقوف عليه من عقائد الشيعة، وطبعت عدة مرات كما نقلت إلى كثير من اللغات الأجنبية، وتلقى مؤلفها العظيم تقاريظ كثيرة من علماء المسلمين على اختلاف المذاهب ومن المستشرقين إلى ما في تلك الرسالة من دعوة إلى التقرّب الإسلامي.

وفي احتدام تلك المعمعة الجدلية، وفيما حامَ حول الشيعة من الظنون، وما عزي إلى الإمامية منهم ما لم يعتقدوه دار في خُلدي على قلة

٢٢

المصادر أن أفرد كتاباً بالتأليف في تاريخ الشيعة الديني والسياسي تاركاً تدوين تاريخها الأدبي، وقد حفلت به الكتب القديمة والحديثة وفي هذا العصر، وقد أُلف فيه موسوعتان جليلتان الأولى (أعيان الشيعة) للإمام العلاّمة المرحوم السيد محسن الأمين العاملي، والثانية لإمام عصره في التأليف العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني النجفي (طبقات أعلام الشيعة في مختلف العصور إلى العصر الحاضر)، وهناك موسوعة ثالثة وهي (الطليعة في شعراء الشيعة) لمؤلفها المتتبع الضليع العلامة الشيخ محمد طاهر السماوي، وللعلامة الإمام السيد حسن الصدر الكاظمي كتاب جليل في موضوع مؤلفي الشيعة سماه (تأسيس الشيعة الكرام) وقد طبع مختصره، وللعلامة الشيخ علي آل كاشف الغطاء والد الشيخ محمد الحسين مؤلف كتاب (أصل الشيعة وأصولها) الآنف الذكر كتاب (طبقات الشيعة)، هذا ولست في صدد إحصاء المؤلفات الشيعية الأدبية المتعذر علي، فأكتفي بهذه الجملة، وها أنا أشرع في تدوين مباحث الكتاب مستمداً منه تعالى التُوفِّيق والتسديد في القول والعمل وعليه الاتكال. واتّباعاً للطريقة المألوفة عند العلماء المؤلفين لسهولة دراسة مؤلفاتهم على مختلف أهدافها وموضوعاتها من التبويب رتبت كتابي هذا على كتابين الأول وينطوي على معتقدات الإمامية، ويتناول ما يتّسع له المجال من الفروق بينها وبين معتقدات بعض فرق الشيعة المخالفة لها وينسب إليها منه ما هي منه براء.

والكتاب الثاني وهو (تاريخ الشيعة السياسي) ويشمل دول الشيعة على اختلاف المذاهب ممن يشملهم هذا الاسم، وعلى خاتمة تتضمن دعوة المسلمين كافة إلى التحرر من التعصب الممقوت للمذهب والعقيدة والذي أدّى إلى ذهاب ريحهم وتفرقهم قِدداً، وانتقاص أطراف ملكهم الواسع، وصيّرهم خولاً لمن كانوا لهم أتباعاً، وجنوا من ثمرات ذلك التنازع ما أطمع فيهم الغريب، وهم في هذا العصر أحوج منهم في كل العصور إلى التضامن والتآزر وترك التنازع فيما لا يجدي، وهو آية الفشل في ميادين الحياة، وإلى الاعتصام بعروة العقيدة الإسلامية الجامعة التي هي فوق الشبهات والأهواء، وقى الله تعالى المسلمين شر التفرق الذي أدّى بهم إلى الضعف، وجمعهم على التناصر والتظافر وإعلاء دين الله الإسلام، والله مع الجماعة.

٢٣

٢٤

الفكرة الشيعية

أسبابها - انتشارها

٢٥

٢٦

نأتي في هذا الجزء من كتابنا تاريخ الشيعة وهو تاريخها السياسي على مقدمة نشرح فيها الأسباب التي جعلت للشيعة كياناً سياسياً قام على منابذة السياسة الأموية، ثم على مناجزة السياسة العباسية، وكان من جهادها السياسي المستتر في عهد هاتين الدولتين تحت ستار التكتم والتقية، أن قام للشيعة دول في المشرق والمغرب كان القائمون على سلطانها في أول الأمر رجالاً من العلويين من بني الحسن والحسين، ومن العباسيين يوم انتشر دعاة الشيعة من العلويين والعباسيين في مختلف الأمصار الإسلامية، يدعون متحدين للفريقين. على أن الدعوة العباسية لم تكن في ظاهرها إلا دعوة للعلويين، ولم يطل العهد حتى أثمرت هذه الدعوة ثمرة اقتطفها بنو العباس، وما كان هؤلاء وقد آل إليهم السلطان وخلافة الإسلام أعطف على العلويين من الأمويين، ولا أقلّ تنكّراً لهم من أولئك، ممّا كان من أثره قيام دولة علوية في الشرق وأُخرى في الغرب الأفريقي والأندلسي من الأدارسة من بني الحسن، ومن الفاطميين من بني الحسين. ثم كان للشيعة في عهد انحلال الدولة العباسية وانتثار عقد سلطانها وامتداد الأيدي الغريبة إليها من التُّرك والفرس والعرب، دول من غير القبيل الهاشمي والفاطمي كالدول: البويهية والحمدانية وبني دُبيس وصدقة.

أما الأسباب فإنها كثيرة وقد بحث عنها المؤرخون، فمنهم من تعرّض لبحث القريب منها وأغفل البعيد، ومنهم من تعرّض لبحث الأمرين، وإنّا نلخصها معتمدين في ذلك على منطق الوقائع ووضوح الحوادث، وهي فيما استنتجناه تعود إلى أمور:

٢٧

الأول (الخلافة):

هذا المنصب الخطير الذي كان يعتقد الشيعة أنه لعلي وبني علي من فاطمة بالوصية من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وبالنص الجلي الذي لا ارتياب فيه، ولهم أدلة من الحديث والكتاب على انحصاره في علي والأئمة من بنيه وأنه كمنصب النبوة وهو خلافة لها لا يرجع إلى الشورى والاختيار، وأنه من الأصول الاعتقادية. فصرفُه عن علي وأهل بيته كان ولا ريب من أسباب سخط الشيعة ومن دواعي عملهم في السر والخفاء على إعادته إلى نصابه وصرفه إلى أهله الذين هم أجدر به، وهو المنصوص عليه في اعتقادهم.

الثاني:

سكت الشيعة مختارين أو مكرهين على الطاعة لمن ملكوا ناصية الخلافة بالاختيار والانتخاب والوصية والشورى للخلفاء الثلاثة وهم لم يبتعدوا عن إدارة مهامّها عن أسلوبها الديني؛ وسكتوا كما سكت إمامهم عن المناجزة في سبيل استردُّدها إليه لاعتبارات كثيرة رآها علي وحزبه من أعظم الدواعي إلى السكوت والرضا بالأمر الواقع، وفي الخروج عنها ما يتخوف منه على بَيضة الإسلام، وهو لم يستكمل بعدُ دعوته ولم يعتصم بعد بالقوة التي ترد عنه أعداءه الكثيرين، وتحمي تلك الدعوة ممن همّوا بالخروج عن الإسلام وقد رأوا رؤوس الفتنة تطلع بالردّة حوالي المدينة وبالأقطار العربية الأُخرى من أنحاء الجزيرة، ورأوا بنظرهم البعيد وحرصهم على انتشار الدعوة الإسلامية ما يكون من الإضرار بها إن انصرفوا إلى التنازع فيما بينهم المؤدّي إلى ذهاب ريحهم وتبدّد قوتهم وهو سلاح حاد للطامعين بالخروج من القريب، وبنقض الدعوة من الغريب القوي من الرومان والفرس. فرأوا - والحكمة الرشيدة فيما رأوا - أن ترك المطالبة بالحق - والمطالبة به تؤدي إلى مثل هذه النتائج - واجب محتَّم، فسكتوا، وإذا كان في السكوت ضرر ففي تركه أكبر الضررين. فكان عليّ وحزبه المثل الأعلى في الإعراض عن التنازع، والالتفاف حول الخلفاء ومناصرتهم، وفيها مناصرة للإسلام، والظهور بمظهر الوحدة وهي قوة حامية للدعوة صائرة إلى إعزاز الإسلام كلمة الله الباقية في الأرض.

٢٨

الثالث:

إن مما لا ريب فيه أن قيام الخلافة على الشكل الذي قامت فيه من الانتخاب الذي لم يستكمل شرائطه حتى عند من يقول بالاختيار في هذا المنصب، أن أسكتت المصلحة الإسلامية العامة من كان منصوصاً عليه من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وحزبه عن نقضه بقوة الجدل أو بقوة السلاح، وعن منازعة من صار إليه بانتخاب فريق من ذوي الحل والعقد دون الفريق الآخر، ومنهم علي وحزبه من الهاشميين وغير الهاشميين من أفاضل الصحابة، فلم يكن هذا السكوت المنبعث عن تلك المصلحة التي راعاها الفريق الذي عُزل عن حقه في الاختيار أو افتئت على حقه في النص، إلا بالذي يترك في النفوس أثراً إن لم يكن في نفس صاحب الحق فإنه في نفوس حزبه، وإن غلبت عليه دواعي الحال فلم تغلب عليه دواعي الاستقبال يوم تمكّن الفرص منه، والجرح إذا لم يندمل يوم فساده فهو إلى النكأة قريب.

كوّنت هذه الحال فكرةً لدى الشيعة فعملوا لها في السر على استرجاع الحق إلى أهله، ومن رسخت في نفوسهم هذه الفكرة يرونها واجباً دينياً يجب العمل به يوم تمكن الفرصة من العمل، فكانت كامنة في هذه النفوس الشيعية كمون النار في الرماد، وهي مع ذلك لم تجد إلا ما يستثيرها ويستفزّها ويذكّيها. ولم يجد حاملوها من حسن السياسة ما يخفف من سخائمهم، ولا ننكر أنه قد اندسّ فيهم من لم يكن مخلصاً لا لعلي ولا للمسلمين، ومن لم يكن راضياً عن خلافة الخلفاء إمّا حسداً وهو يرى مكانة قبيله أشرف من مكانة قبيلهم، وإمّا طمعاً في ولايةٍ من ولايات الخلافة، وهو لم يكن ذا حظ منها عملاً بقول الشاعر:

إذا لم يكن للمرء في دولة امرئٍ = نصيب ولا حظّ تمنَّى زوالها

والنفوس مطبوعة على حب السلطان وأبهة الحكم، ولا سيما ممن يرجع إلى قبيل شريف، وإما عقيدة في علي خرج بها عن حد القصد، وادّعى فيه ما لم يدعه هو ولا حزبه كابن سبأ وأضرابه، وإما رجاء في المستقبل بالمشاركة في الأمر والنهي. فكان العباسيون كالعلويين والأمويين يرون أن لهم في ذلك المنصب من المؤهلات أضعاف ما لمن ولِيَهُ من الخلفاء، فأدّى ذلك كله إلى اصطباغ الفكرة الشيعية بكثير من الألوان.

٢٩

الرابع:

إن سياسة الخلافة كانت في عهد الخليفتين الأولين لا تبتعد عن روح الدين كما عرفت. وكانت حريصة على جمع الكلمة الإسلامية وبعيدة عن الاستئثار والافتئات، وأقرب إلى تأليف القلوب النافرة من خلافة الثالث المعتز بقبيله الأموي الكثير العدد. وقد سلف أن الأمويين لم تكن لهم قدم راسخة في الإسلام، بل كانوا حرباً عليه وأعداء ألدّاء للدعوة، وقد أُكرهوا على دخولهم في الإسلام إكراهاً يوم فتح مكّة الذي ظهر فيه أمر الإسلام والمسلمين، ودانت له جبابرة مكة وعتاة العرب، وغلب على يهود خَيْبَر وقُرَيْظَة وبني المُصْطَلِق.

بسط هذا القبيل يده في سلطان هذا الخليفة الأموي، وولي كبريات الولايات والأعمال، وشاء القدر أن يلي معاوية في عهد الخليفة الثاني ولاية الشام، وتمتد ولايته إلى خلافة عثمان، فيتسع أمامه مجال ترسيخ قواعد سلطانه. وقد جمعت هذه الولاية مما خلفه فيها الرومان من كنوز الثروة ومن العمران الزاخر والخصب العجيب ما يزيد في قوة سلطانه ونفوذه. وهو قد أوتي دهاء إلى سياسة مشى فيها بعيداً جد البعد عن روح السياسة الإسلامية الدينية، فكان فيه مطمع لذوي النفوس الضعيفة الطامحة إلى مشاركته في رغد العيش ورفاهيته.

هذا إلى ما نال في سلطان هذه الخلافة أعلام صحب علي من إرهاق وترويع، ومنها ما أصاب الصحابي الجليل أبا ذَرّ الغفاري من نفي إلى الشام، ومن الشام إلى الرَّبَذة حيث مات في هذا المنفى.

كانت هذه السياسة الجديدة وهي قائمة على إدارة رجال أمويين لا يعرفون للقصد حداً، وهي مصطبغة بصبغة بعيدة عن روح الدين، من أسباب نفور الشيعة ومن أسباب قوة الفكرة الشيعية في العمل لإرجاع الخلافة إلى أهلها، ولا نستطيع أن نقول: إن لعلي يداً في تغذيتها، وهو أبعد عن إحداث فتنة في الإسلام، ولكن ماذا يعمل علي في سبيل إخماد ثائرة النفوس، وقد امتلأت سخيمة من هذه السياسة القائمة على إرهاق أشياعه والابتعاد بالخلافة عن مناهجها الدينية...، وقد عرفت أن في الملتفّين حول الدعوة الشيعية أصنافاً من الناس ومنهم من له هوى غير

٣٠

هوى على ورجوع الخلافة إلى علي. فكان من نتائج تلك السياسة ومن مجموع هذه العناصر المكوّنة منها فكرة الدعوة للخلافة الحقة، انتقاض الأمصار على عثمان وقيام من قام منها من الكوفة ومصر والمدينة بمحاصرته في داره فمقتله. وما كان الجاني عليه في نفس الأمر والواقع إلا رجال قبيله، وهم وحدهم الملومون عند الباحث المنصف، وهم الذين جنوا على الإسلام لا الشيعة كما يزعم كثير من الباحثين، وخاصة في هذا العصر الذي توفرت فيه لديهم الأسباب لتمحيص الحقائق، وأوتوا وراء ذلك علماً بأساليب البحث ومعرفة بفلسفة المباحث الإسلامية وتاريخ الإسلام. ولئن بعدت عنهم الحوادث التي حدثت واكتنفها كثير من الغموض بواسطة العصبيات المذهبية التي تكونت من العصبيات الحزبية، فإن منطق تلك الحوادث التي تضافر على نقلها علماء الفريقين من الحزبين أو المذهبين، ما يرشد المنصف إلى سواء السبيل، وإلى تعليل تلك الحوادث بعللها الصحيحة، ولا سيما إذا تجرد عن التقليد لسلفه أو انجرّ إليه وهو في موقف تعليل الحوادث بعامل التأثير الخفي بما كان لسلفه من الرأي وهو في موقف تعليل الحوادث بعامل التأثير الخفي بما كان لسلفه من الرأي والاعتقاد، وهو يظن أنه يكتب لفلسفة التاريخ الإسلامي، وما مؤدى فلسفته إلا الغمز من قناة الشيعة وتسفيه آرائهم وإلصاق كل جناية بهم.

الخامس:

لم يكن ما مُني به عليّ، وقد آل إليه مصير الخلافة، من الانتقاض عليه ممن بايعه أمس، ومن وقعة الدار، وقد شاء أعداؤه أن يحمّلوه منها أثقل الأوزار. وتحيّن معاوية الفرصة وقد استوسق له أمر الشام وأُطلقت يده في حكمه الذي استمر مدة طويلة، فاتّخذ من مقتل عثمان ذريعة لمنافسة عليّ في الخلافة، وما كان له بكفء في منزلة من منازل الشرف والفضيلة، مِمّا أَدّى إلى وقوع أعظم حرب منذ ظهور الإسلام وحتى ذلك الوقت بعد حرب الجمل التي جرها نقض من بايع بيعته.

لم يكن ما مُني به عليّ من هذه الأحداث العظيمة إلاّ حافزاً عظيماً لشيعته ومن التفّ حولهم وقال بمقالتهم ونفر من افتئات معاوية بالأمور نفورهم، لترويج تلك الفكرة الشيعية، وإن شئت فقل السياسية أو الحزبية.

٣١

السادس:

مقتل عليّ منازعاً في خلافته الحقة، مغلوباً على أمره من مناوئيه من هنا وهناك، فلا يمكن له من تقويم المعوّج والسير بالأمة في سياسة تضمن لها انتظام أمري دينها ودنياها، وابتلاؤها، وابتلاؤه بعد وقعة (صفّين) بالخوارج ممن كانوا يتظاهرون بالتشيّع له ثم بالتآمر عليه وقتله، وانتهاء الأمر إلى معاوية بعد ستة أشهر من خلافة الحسن التي انتهت إليه، وهو في حزب متضعضع الأركان مشتت الأهواء، تجمعت فيه عناصر لم يكن الكثير منها مخلصاً.

كان من الطبيعي، بعد هذين الحادثين العظيمين: مقتل علي وفشل جيش الحسن في محاربة معاوية، أن ينتهي أمر الحسن إلى ترك الحرب ومسالمة معاوية على شروط ومواثيق التزم بها.

وكان من جراء هذه الأحداث وإِخلاف معاوية للميثاق الذي أعطاه للحسن، وما جرّه هذا الميثاق على شيعة الحسن من المغارم والمظالم والقتل الذريع على يد عمّاله أمثال زياد وسَمُرَة وعمرو بن سعيد الأشْدَق وبُسْر بن أبي أَرْطاة وأضرابهم - دع ما كان في أيامه من الأحداث التي يمقتها الدين، والتي صبغت الخلافة الدينية بصبغة السلطان الدنيوي الجائر - كان ذلك كله وما إليه من أسباب نموّ تلك الفكرة.

السابع:

وهو مقتل الحسين، بعد مقتل الحسن مسموماً على يد جَعْدَة زوجته بِدَسيسَةٍ من معاوية، وقيام يزيد بعده بسلطان الخلافة وهو من لم تحمد سيرته لا في الدين ولا في سياسة الملك والسلطان.

كان هذا من أعظم الأسباب، بل كاد ينحصر فيه، ظهور الفكرة الشيعية بصورة عملية منظمة، وزاد في تنظيمها ما كان يلاقيه بعض رجالات أهل البيت بعد يزيد من الظلم الأموي، وقد ولي الأمر من بني أُميّة مروان وأبناء مروان.

وكان أول هدف للشيعة في سبيل تحقيق الفكرة الشيعية هو قيامهم وعلى رأسهم المختار بأخذ ثأر الحسين. ومن الواضح البيّن أن الذين كانوا ينظّمون الدعوة والذين قاموا بالثورة يرجعون إلى (محمد بن الحنفيّة)، ثم إلى ولده من بعده. ولم يكن أحد من ولد الحسن والحسين في أول الأمر

٣٢

ممن يدعى إليه أو يرضى الدعوة لنفسه، فكان المختار بثورته داعية محمد بن الحنفيّة، ثم انتشر الدعاة باسم بني محمد بن الحنفية وبني العباس، أو للرضا من آل محمد ظاهراً. أما ابن قتيبة فهو يقول في كتابه (الإمامة والسياسة) في بدء الفتن والدولة العباسية، قولاً لم ينظر فيه إلاّ إلى سبب واحد من الأسباب التي ذكرناها وغيرها مما لم نذكره ومما سنذكره في هذهِ المقدمة، قال:

(لما سلّم الحسن بن علي الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، قامت الشيعة من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة واليمن وأهل البصرة وأرض خراسان في سَتْرٍ وكتمان. فاجتمعوا إلى محمد بن علي (وهو محمد بن الحنفيّة)، فبايعوه على طلب الخلافة إن أمكنه ذلك. وعرضوا عليه قبض زكاتهم لينفقوها يوم الوثوب حين تحين الفرصة فيما يحتاج من النفقة على مجاهدته، فقبلها. وولّى على شيعة كل بلد رجلاً منهم، وأمره باستدعاء من قبله منهم في سرّ وتوصية إليهم ألا يبوحوا بمكتومهم إلاّ لمن يوثق به حتى يرى للقيام موضعاً. فأقام محمد بن الحنفية إمام الشيعة قابضاً لزكاتهم حتى مات. فلما حضرته الوفاة ولّى عبد الله ابنه من بعده وأمره بطلب الخلافة إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، وأعلم الشيعة بتوليته إياه، فأقام عبد الله بن محمد بن علي وهو أمير الشيعة. فبلغ ذلك سليمان بن عبد الملك في أول خلافته أن الشيعة قد بايعت عبد الله بن محمد بن علي بعد أبيه، فبعث إليه، وقد أعدّ له في أفواه الطرق رجالاً معهم أشربة مسمومة، وأمرهم إذا خرج من عنده أن يعرضوا عليه الشراب، فلما دخل على سليمان أجلسه إلى جانبه ثم قال له: بلغني أن الشيعة بايعتك على هذا الأمر، فجحده عبد الله وقال: بلغك الباطل، وما زال لنا أعداء يبلغون الأئمة قبلك عنا مثل ما بلغك ليغروهم بنا فيدفع الله عنا كيد من ناوأنا، وأنا بما يلزمني من مؤونتي أشغل مني بطلب هذا الأمر. ثم خرج من عنده في وقت شديد الحر، فكان لا يمر بموضع إلاّ قام إليه الرجل بعد الرجل يقول له: هل لك في شربة سويق اللوز وسويق كذا وكذا يا ابن بنت رسول الله؟ ونفسه موجسة منهم، فيقول: بارك الله لكم، حتى إذا وصل إلى آخر الطريق خرج إليه رجل من خبائه وبيده عُسٌّ فقال: هل لك في شربة من لبن يا ابن بنت رسول الله؟ فوقع في نفسه أن اللبن مما لا يسمم، فشرب منه ثم مضى،

٣٣

فلم ينشب أن وجد للسمّ حسّاً فاستدلّ على الطريق إلى الحميمة، وبها جماعة آل العباس، وقال لمن معه: إن متّ ففي أهلي، ثم توجّه فنزل على محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس فأخبره الخبر، وقال له: إليك الأمر والطلب للخلافة بعدي، فولاّه وأشهد له من الشيعة رجالاً، ثم مات. فأقام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ودعوة الشيعة له حتى مات، فلمّا حضرته الوفاة ولّي محمد بن إبراهيم الأمر، فأقام وهو أمير الشيعة وصاحب الدعوة بعد أبيه، انتهى)(١) .

وكأن تسليم الحسن الأمر إلى معاوية بعد أخذه عليه العهود، نبَّه الشيعة، وهم يعلمون أنهم إذا لم ينكمشوا في أمرهم ويقلّدوه رجلاً من آل علي أو ولد العباس، وقد تنازل عنه الحسن ولم ينهض به الحسين - والإمامة لأخيه - فهم مأخوذون في عقر دارهم مُستهدفون للظلم، وإن كان هذا الرأي لا يراه كل الشيعة، ومنهم من يعتقد انحصاره في علي والأئمة من بنيه من فاطمة، وإنه ليس لسواهم ولا لبني العباس. ولكنه قد يكون في الشيعة من يؤيد القائمين وإن لم يروا رأيهم في إمامة محمد بن الحنفية وولده وولد ابن عباس، منهم إن لم يتفقوا معهم في العقيدة فهم متفقون معهم في التماس الخلاص من الظلم الأموي.

الثامن:

لم يكتف معاوية باغتصاب الخلافة من عليّ وهو المتعين لها على مذهب الإمامية بالنصّ ومذهب أهل السنة والجماعة ببيعة أهل الحلّ والعقد وهو الإمام المفترض الطاعة الذي لا تجوز محاربته. ولم يكتف بمحاربته وهو الظالم له، ولا بطغيان جيوشه على بلاده وانتقاصها من أطرافها وتأمير مثل (بُسْر بن أبي أرطاة) عليها، وهو الفظ الغليظ وحسبه لؤماً قتله في غزوته اليمن طفليّ عاملها من قبل علي بن عبد الله بن عباس. لم يكتف بهذه الأفاعيل حتى سنّ مَسبَّة عليّ في حياة عليّ، ولم يتحرّج من أن يسمعها ولده الحسن وقبيله الهاشميّ غير متأثم لا مستعظم، ثم درج عليها من وُلّي الأمر بعده من الأمويين إلى أن أبطلها عمر بن عبد العزيز.

____________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة.

٣٤

هل هذا من العقل والدهاء اللذين وُصف بهما معاوية؟ وهل من الحكمة استفزاز العلويين وأشياعهم وقبيلهم الهاشميّ بمثل هذه البدعة من سبّ إمام حق مفترض الطاعة؟... وهل تحتملها النفوس الأبيّة مهما اتّصف أهلها بالتؤدة والحلم والأناة...؟

أليست وحدها - دع تلك الأحداث العظام التي أحدثها في الإسلام ومنها أخذه البيعة لولده الذي لا يدين بدين الحقّ - مما يكون من أعظم الأسباب لتضامن الحزب الساخط على هذه السياسة ومثيلها من سياسة من وُلّوا الخلافة من بني أميَّة...؟

التاسع:

لم يكتف الأمويون باغتصابهم الخلافة بغير حق، وهم ليسوا لها بأهل، وافتئاتهم بسلطانها وهم ليسوا برشدة ولا بحكماء حتى اتخذوا لهم أشياعاً من الظَّلمَة. فكان لمعاوية مثل زياد وسَمُرَة وبُسْر بن أبي أَرْطاة، وكان ليزيد مثل عبيد الله بن زياد، وكان لعبد الملك مثل الحجاج، ولهشام مثل يوسف بن عمر، ولغيرهم مثل هؤلاء ممن كان همهم اضطهاد أشياع علي وهم كثر منتشرون في كل بلد إسلامي، وما كانوا بل وما كانت الأمة إن أسكتتها القوة وهي بعد مجتمعة تحت سلطان الخلافة المغمور بالفتوح وامتلاك ناصية الأمم، بالراضية عن شكل هذا الحكم السابح في بحار من الدماء والجرائم والآثام. ومع ذلك فإن القائمين عليه لم يدعوا طريقة من طرق استفزاز من لهم مكانتهم في نفوس الأمة ولا سيما من عليّة الهاشميين إلاّ وقد سلكوها غير ناظرين إلى ما لها من العُقْبى في تفريق شملهم يوم قيام الفرصة السانحة وانتزاع الأمر المغصوب منهم يوم يمكّن منه القدر.

أحرجوا الحسين فأخرجوه، وقد رأى الخروج واجباً، وقد طلبوا منه وهو الإمام الحق وسبط الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يبايع يزيد. وظن وقد كاتبه الكوفيون، وبايع منهم لابن عمه (مسلم بن عقيل) ثمانية عشر ألفاً، أنه سيكون في منعة، وفي جيش كوفي مناصر يتغلب به على يزيد وأنصار يزيد، فيخلّص المسلمين منه ومنهم. ولكن انتهى الأمر بفشل الكوفيين ونكثهم البيعة له وبمقتله ومقتل أهله وأنصاره القليلين.

٣٥

ولكن لم تكن هذه المأساة إلاّ المُعْول الأول لانتقاض بنيان الخلافة الأموية حجراً فحجراً.

استفزّوا زيد بن علي، ودم جده بعد لم يجفّ من أرض الكوفة ومأساته الفادحة لم تُنس، فخرج آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ولم يكن طالباً للإمامة وهو يعلم أنها ليست له بل هي لأخيه (أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)). وظن كما ظن أبوه من قبله أنه في عزة ومنعة بأنصاره الكوفيين الذين بايعوه كما بايعوا جده، وأصابه من نكثهم بيعته ما أصاب جده، فانتهى الأمر بقتله وصلبه.

وقال بعض أشياع الأمويين فيه:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ولم نرَ مهدياً على الجذع يُصلبُ

وقـستم بـعثمان عـلياً سفاهة وعثمان أزكى من علي وأطيب

قد ذكر المؤرخون أسباباً لخروجه، وسنذكرها في مواضعها من هذا الكتاب، وكان خروج زيد سنة مائة وإحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين.

وخرج بعده ولده يحيى بن زيد بن علي بن الحسين سنة خمس أو ست وعشرين بالجوزجان من بلاد خراسان، منكراً للظلم وما عم الناس من الجور، فانتهى خروجه بقتله وصلبه، ولم يزل مصلوباً إلى أن خرج أبو مسلم صاحب الدولة العباسية وقتل قاتله (سَلْم بن أَحْوز)، وأنزل جثة يحيى فصلى عليها ودفنت هناك.

أمّا ما كان لمقتل يحيى من الأثر في النفوس الخراسانية وثورتها على الظلم الأموي، فخُذْ دليلاً عليه ما ذكره المؤرخون ومنهم المسعودي في مروجه فقال:

(وأظهر أهل خراسان النياحة على يحيى بن زيد سبعة أيام في سائر أعمالها في حال أمنهم على أنفسهم من سلطان بني أميّة، ولم يولد في تلك السنة بخراسان مولود إلاّ وسُمّي بيحيى أو بزيد لما داخلَ أهل خراسان من الجزع والحزن عليه)(١) .

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي المجلد ٢ ص١٨٥ - المطبعة البهية سنة ١٣٤٦هـ.

٣٦

نشاط الشيعة لتنظيم الدعوة

ونشرها ضد الأمويين

هذه الأسباب التي ذكرناها لا نزعم أنها هي وحدها التي أهابت بالشيعة إلى نفورها من الأمويين وحكمهم الظالم، بل هناك أسباب أُخرى نعرض عنها للاختصار مجتزئين بما ذكر.

هذه الأسباب إلى ما يضارعها دعت الشيعة إلى تنظيم صفوفها وتنظيم دعاتها إلى كل ما ينقض بنيان السلطان الأموي.

وإليك ما علّله ابن خلدون في تاريخه من خروج العلويين حيث قال:

(قد تقدم لنا ذكر شيعة أهل البيت لعلي بن أبي طالب وبنيه رضي الله عنهم، وما كان من شأنهم بالكوفة وموجدتهم على الحسن في تسليم الأمر لغيره، واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم، حتّى قتل المتولون كِبَر ذلك منهم (حِجْر بن عَديّ) وأصحابه. ثم استدعوا الحسين بعد وفاة معاوية، فكان من قتله بكربلاء ما هو معروف. ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، فخرجوا بعد وفاة يزيد وبيعة مروان، وخروج عبيد الله بن زياد من الكوفة، وسمّوا أنفسهم التوّابين، وولّوا عليهم (سُليمان بن صُرَد)، ولقيتهم جيوش ابن زياد بأطراف الشام فاستلحموهم.

ثم خرج (المختار بن أبي عُبيد) بالكوفة طالباً بدم الحسين رضي الله عنه وداعياً لمحمد بن الحنفيَّة، وتبعه على ذلك جموعه من الشيعة، وسماهم شرطة الله. وزحف إليه (عُبيد الله بن زياد) فهزمه المختار وقتله. وبلغ محمد بن الحنفيّة من أحوال المختار ما نقمه عليه فكتب إليه بالبراءة

٣٧

منه، فصار إلى الدعاء (لعبد الله بن الزُّبَيْر)، ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن علي بن الحسين إلى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك، فقتله صاحب الكوفة (يوسف بن عمر) وصلبه. وخرج إليه ابنه يحيى بالجَوْزَجان من خُراسان فقُتل وصُلب كذلك، وطُلّت دماء أهل البيت في كل ناحية)(١) .

وبعد أن أوجز اختلاف الشيعة في الإمامة ومصيرها إلى مذاهب الإمامية والزيدية أتباع زيد، والكيسانية المعتقدين إمامة محمد بن الحنفية قال:

(ولمّا صار أمر بني أمية إلى اختلال، أجمع أهل البيت بالمدينة وبايعوا بالخلافة سراً لمحمد بن عبد الله بن حسن المُثَنّى بن الحسن بن علي، وسلّم له جميعهم، وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو المنصور، وبايع فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدمه فيهم، ولما علموا له من الفضائل عليهم. ولهذا كان مالك وأبو حنيفة يجتمعان إليه حين خرج من الحجاز، ويريدون بذلك أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل، وربما صار إليه الأمر من عند الشيعة بانتقال الوصية من زيد بن علي. وكان أبو حنيفة يقول بفضله ويحتج إلى حقه، فتأدت إليهما المحنة بسبب ذلك أيام أبي جعفر المنصور حتى ضرب مالك على الفُتياء في طلاق المكره، وحبس أبو حنيفة على القضاء)(٢) .

لم يدع رجال الشيعة وسيلة من وسائل التفكير في حمل الكافة على مقت الخلافة الأموية - وإن كان ما يصدر عنها كافياً لنماء ذلك المقت - ولم يتركوا ذريعة من الذرائع لتكوين فكرة عامة، ولا حيلة من الحيل لتفكيك عرى عصبيتها والعمل المشترك على دكّ عرشها، إلاّ وقد تذرعوا. وأنشأوا الأحزاب الخفيّة وبثوا الدعاة في الأمصار ولا سيما البعيدة عن عاصمة الخلافة كبلاد خراسان الواسعة، وهي البلاد التي لم تقم فيها عصبية للأمويين بل ولا للعرب وأهلها، وإن دخلوا في الإسلام فهم لا

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون ج٤ ص٣، ٤ - دار الكتاب اللبناني - بيروت.

(٢) نفسه ج٤ ص٥، ٦.

٣٨

ينسون عزة سلطانهم وقد انتزعه منهم العرب، ولا كان في طبيعة الحكم الأموي من العدل ما يحملهم على النسيان أو التناسي وفي نفوسهم نزوع إلى استردُّد ملكهم واسترجاع سلطانهم المفقود، فكانوا بطبيعة الحال أميل إلى الحزب الهاشمي المعارض والنفوس مطبوعة على هوى المستضعف. دع ما في انضمامهم إلى هذا الحزب ما يرون فيه الوصول إلى بغيتهم وهي رجوع سلطانهم إليهم وفيهم من عرف بفصل الدعاوة أو بدراسة الدين الحق لأهله.

ولهذه العوامل اعتزت الدعوة الهاشمية بخراسان بكثرة الأشياع والأتباع وقيام (أبي مسلم الخراساني).

العصبية بين النِّزاريّة واليَمانية:

ومن آثار هذه السياسة الشيعية الخفية المرتكزة على دمامة التفكير الصحيح من الحزب المعارض، قيام العصبية النِّزارية واليمانية التي كان (الكُميت) الشاعر الهاشمي السياسي أول من أذكى جذوتها وهو نزاري، وكان خصمه الذي نَهَدَ لمعارضته (دِعْبِل) الشيعي الشاعر الهاشمي السياسي وهو يماني.

وسبب قيام هذه العصبية بعد أن أتى الإسلام على كل عصبية جاهلية، أنّ الكُميت لما قال الهاشميات قصد البصرة فأتى (الفَرَزْدَق) وهو شيعي فأنشد قصيدته التي مستهلُّها:

طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب

ولمّا أتمّ إنشادها قال له: (أظهِر، ثم أظهِر...)، وهذا هو غرض الكُميت الذي كان يقصده من عرض قصيدته على شاعر عصره الفَرَزْدق.

(ولما قدم الكميت المدينة أتى أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، فأذن له، وأنشده فلما بلغ من قصيدته قوله:

وقتيل بالطفّ غودر منهم بين غوغاء أمة وطغام

بكى أبو جعفر ثم قال:«يا كُميت، لو كان عندنا مال لأعطيناك،

٣٩

ولكن لك ما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لِحسَّان بن ثابت: لا زلت مؤيداً بروح القدس ما ذببت عنا أهل البيت» .

فخرج الكُميت من عنده، فأتى عبد الله بن الحسن بن علي فأنشده فقال: يا أبا المستهل، إن لي ضيعة أُعطيت فيها أربعة آلاف دينار، وهذا كتابها، وقد أشهدت لك بذلك شهوداً، وناوله إياه.

فقال له الكُمَيت:

(بأبي أنت وأمّي، إني كنت أقول الشعر في غيركم أريد بذلك الدنيا والمال، ولا والله ما قلت فيكم إلاّ لله، وما كنت لآخذ على شيء جعلته لله مالاً ولا ثمناً.

فألحّ عبد الله عليه وأبى من إعفائه، فأخذ الكُميت الكتاب ومضى. فمكث أياماً ثم جاء إلى عبد الله فقال:

(بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول الله، إني لي حاجة).

فقال له عبد الله: (وما هي؟ وكل حاجة لك مقضية). قال الكُميت: (كائنة ما كانت؟). قال عبد الله: (نعم).

قال الكُمَيت: (هذا الكتاب تقبله وترتجع الضيعة).

ووضع الكتاب بين يدي عبد الله، فقبله عبد الله.

ونهض عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأخذ ثوباً جلداً فدفعه إلى أربعة من غلمانه، ثم جعل يدخل دور بني هاشم ويقول:

(يا بني هاشم...، هذا الكُميت قال فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم وعرض دمه لبني أمية فأثيبوه بما قدرتم)، فيطرح الرجل في الثوب ما قدر عليه من دنانير ودراهم، واعلم النساء بذلك فكانت المرأة تبعث ما أمكنها حتى إنها لتخلع الحلي عن جسدها. فاجتمع من الدنانير والدراهم ما قيمته مائة ألف درهم، فجاء بها إلى الكميت، فقال:

(يا أبا المستهل...، أيتناك بجهد المقل ونحن في دولة عدونا، وقد جمعنا هذا المال وفيه حلى النساء كما ترى، فاستعن به على دهرك).فقال الكُميت:

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وصحيفة جسمانية بل كان لوحاً برزخياً، ومن قدر على قراءة نقوش ذاك اللوح وحروفه وجمله يقدر على قراءة ما كتب في الألواح والصحائف المادية، ولكنّك قد وقفت على إرسال الرواية وأنّ الحديث غير موصول بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا من ناحيتها.

بقيت في المقام روايات ضعاف ومراسيل، نقله بعض المتأخرين، ولا يمكن الاستدلال بها في مثل هذه المسألة، ودونك ما نقلوه :

قال القاضي الحافظ أبو الفضل بن عياض بن موسى بن عياض: انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا يكتب، ولكنّه اُوتي علم كل شيء حتى قد وردت آثار بمعرفته بالخط وحسن تصويرها، كقوله لا تمدوا بسم الله الرحمن الرحيم(١) رواه ابن شعبان(٢) من طريق ابن عباس، وقوله في الحديث الآخر الذي يروى عن معاوية أنّه كان يكتب بين يديهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له: الق الدواة(٣) وحرف القلم(٤) وأقم الباء(٥) وفرق السين(٦) إلى آخر ما نقله(٧) والمظنون أنّ الحديث من ولائد النزعات الباطلة تزلّفاً للاُمويين.

عرض وتحقيق :

لا بأس بإكمال البحث بما وصل إلينا من الروايات من أئمّة أهل البيت مع ترجمة رجال اسنادها وتوضيح مضامينها على وجه الاجمال وقد نقل المجلسي منها كثيراً في بحاره في الباب السادس من الجزء السادس عشر المختص بحياة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله (٨) .

__________________

(١) قال القارئ في شرحه: أي مد سينه من غير تبيّن روى الدارمي عن زيد بن السن إذا كتبت فبيّن السين.

(٢) هو أبو إسحاق العصري المالكي له ترجمة في الميزان مات سنة خمسة وستين وثلاثمائة.

(٣) أمر من الاق الدواة إذا جعل لها ليقة وأصلح لها مدادها.

(٤) أي اجعل شقه الأيمن أزيد من الطرف الآخر قليلاً لأنّه أسرع في الكتابة وأبدع في اللطافة.

(٥) أي طولها.

(٦) أسنانها.

(٧) راجع فتح الباري: ج ٩ ص ٤٤، شرح الشفاء: ج ١ ص ٧٢٦ ـ ٧٢٧.

(٨) بحار الأنوار: ج ١٦ ص ١٣١ ـ ١٣٥.

٣٤١

١. أخرج الصدوق في علل الشرائع عن ابن الوليد عن سعد(١) عن ابن عيسى(٢) عن الحسين بن سعيد ومحمد البرقي عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: كان النبي يقرأ الكتاب ولا يكتب(٣) .

والحديث صحيح رجاله كلهم ثقاة بالاتفاق ولكنّه ظاهر، أو محمول على عهد الرسالة لما عرفت من تنصيص الكتاب العزيز على كونه اُمّياً قبل البعثة.

٢. أخرج الصدوق في علله عن أبيه عن سعد(٤) عن عيسى عن البزنطي عن أبان عن الحسن الصيقل قال: سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: كان مما منّ الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان اُمّياً لا يكتب ولا يقرأ الكتاب(٥) والسند صحيح إلى البزنطي، نعم اختلفت كلماتهم في أبان ورمَوْه بالناووسية والنسبة غير محققة، والرجل من أصحاب الاجماع، والحسن الصيقل مهمل في كتب الرجال لم يوصف بالوثاقة ولم يرد فيه طعن، والحديث وإن لم يكن صحيحاً لكنّه يعتبر خصوصاً لنقل « أبان » الذي هو أحد أصحاب الاجماع عنه، والحديث نظير ما تقدم عليه في الحمل والظهور بل أظهر من سابقه في كونه راجعاً إلى أيام نبوّته وعهد رسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقرينة قوله: « كان ممّا منّ الله عزّ وجلّ به على نبيّه ».

٣. أخرج الصدوق في علل الشرائع عن أبيه عن سعد عن معاوية بن الحكيم عن البزنطي عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: كان ممّا منّ الله عزّ وجلّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقرأ ولا يكتب، فلما توجه أبو سفيان إلى « اُحد » كتب العباس إلى النبي فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة فقرأه، ولم يخبر أصحابه وأمرهم أن يدخلوا المدينة، فلما دخلوا المدينة أخبرهم(٦) والخبر صحيح إلى البزنطي وهو

__________________

(١) المراد سعد بن عبد الله.

(٢) أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي.

(٣) علل الشرائع: ص ٥٣.

(٤) قد أوضحنا المراد منه ومن بعده في الحديث المتقدم.

(٥) علل الشرائع: ص ٥٣ ومعاني الأخبار: ص ٢٠.

(٦) علل الشرائع: ص ٥٣.

٣٤٢

من أصحاب الاجماع ورجاله كلهم ثقاة غير أنّ في آخره إجمالاً واهمالاً، يلحقه بالمراسيل نعم لا بأس بمضمونه فهو يؤيد ما قدمناه من الصحيحين، وأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ أحياناً في عهد الرسالة لكن نقله زيني دحلان في سيرته بصورة اُخرى ودونك نصه: كتب العباس للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بجمعهم وخروجهم وراودوه على الخروج معهم فأبى واعتذر بما لحقه يوم بدر ولم يساعدهم بشيء من المال فجاء كتابه للنبي وهو بقبا وكان العباس أرسل الكتاب مع رجل من بني غفار استأجره وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل ذلك، فلما جاء الكتاب فك ختمه ودفعه لاُبي بن كعب فقرأه عليه فاستكتم اُبياً ثمّ نزلصلى‌الله‌عليه‌وآله على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس(١) .

٤. أخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار عن الحسن بن علي عن أحمد بن هلال عن خلف بن حماد عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : إنّ النبي كان يقرأ ويكتب ويقرأ ما لم يكتب(٢) ويكفي في ضعف الحديث أنّه مروي عن أحمد بن هلال الذي خرج التوقيع عن الناحية المقدسة في لعنه ونقل الصدوق عن شيخه ابن الوليد عن سعد أنّه قال: ما سمعنا ورأينا بمتشيّع رجع عن تشيّعه إلى النصب إلّا أحمد بن هلال.

أضف إليه أنّه مخالف لما قدمناه من الصحيحين من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ ولا يكتب(٣) .

فاتضح أنّ ما يصح من هذه المأثورات إنّما هو الحديث الأوّل والثاني ويؤيدهما الثالث وهي بمجموعها تهدف إلى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ ولا يكتب أيام رسالته ورحاب دعوته ولا ضير في الالتزام به خصوصاً إذا كان غير متظاهر بالقراءة، مكتفياً بقدر الضرورة، ويؤيدها حديث بدء الرسالة.

__________________

(١) سيرة زيني دحلان على هامش السيرة الحلبية: ج ٢ ص ٢٤.

(٢) بصائر الدرجات: ص ٦٢.

(٣) راجع الحديث الأوّل والثاني.

٣٤٣

٥. أخرج الكليني في كتاب الحجة باسناده عن الحسن بن العباس الحريش عن أبي جعفر الثانيعليه‌السلام عن أبي عبد الله قال :

كان عليعليه‌السلام كثيراً ما يقول: ما اجتمع التيمي والعدوي عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقرأ:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ) بتخشّع وبكاء فيقولان: ما أشد رقّتك لهذه السورة ؟ فيقول رسول الله لما رأت عيني ووعى قلبي، ولما يرى قلب هذا من بعدي فيقولان: وما الذي رأيت وما الذي يرى ؟ قال: فيكتب لهما في التراب:( تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) قال: ثمّ يقول: هل بقى شيء بعد قوله عزّ وجلّ:( كُلِّ أَمْرٍ ) فيقولان: لا، فيقول: هل تعلمان من المنزل إليه بذلك ؟ فيقولان: أنت يا رسول الله، فيقول: نعم، فيقول: هل تكون ليلة القدر من بعدي ؟ فيقولان: نعم، قال: فيقول: فهل ينزل ذلك الأمر فيها ؟ فيقولان: نعم، قال: فيقول: إلى من ؟ فيقولان: لا ندري، فيأخذ برأسي ويقول: إن لم تدريا فادريا هو هذا من بعدي، قال: فإن كانا ليعرفان تلك الليلة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من شدة ما يداخلهما من الرعب(١) .

وجه الدلالة: أنّ قولهعليه‌السلام : « فيكتب لهما في التراب » بصيغة المعلوم دال على أنّ النبي كان يكتب هذه الآيات في التراب.

ويؤسفنا أنّ الحديث ضعيف للغاية.

لأجل الحسن بن العباس بن الحريش، قال النجاشي: « أبو علي روى عن أبي جعفر الثاني ضعيف جداً له كتاب « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وهو كتاب ردئ الحديث، مضطرب الألفاظ(٢) .

وقال الغضائري: « أبو محمد ضعيف جداً يروي عن أبي جعفر الثاني فضل « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وله كتاب مصنف فاسد الألفاظ، تشهد مخائله على أنّه موضوع وهذا الرجل لا يلتفت إليه ولا يكتب من حديثه ».

__________________

(١) الكافي كتاب الحجة باب « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وتفسيرها ص ٢٤٩ طبع مكتبة الصدوق.

(٢) فهرست النجاشي: ص ٤٥ ط الهند.

٣٤٤

قال المحقق التستري: « إن أردت أن تقف على صحة ما قاله النجاشي والغضائري في حق الرجل فراجع باب « فضل إنّا أنزلناه » من الكافي تجد صحة كلامهما فترى أنّه روى في ذاك الباب تسعة أخبار بسند واحد كلها عن الحسن بن عباس بن الحريش عن الجوادعليه‌السلام فلفظها فاسد ومعناها كاسد وهكذا راجع تفسير القمي في أول سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

ثم نقل بعض أحاديثه، ونقده نقداً نزيهاً.

حصيلة الكلام في اُمّية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

قد أصبحت اُمّية النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يختاره الله لإبلاغ رسالته أمراً واضحاً كوضوح شمس الضحى، لا يشك فيها ذو مسكة ومن له أدنى إلمام بتاريخ الجزيرة وحياة الاُمّة العربية، العائشة فيها وأمّا حديثها بعد البعثة فالامعان في ما نقلناه من حديث بدء الرسالة والصحيحين المرويين عن الإمام الصادقعليه‌السلام يعطي أنّه كان يقرأ ولا يكتب، فلو جاز الركون في مثل المقام إلى هذه النقول المروية بصورة الآحاد من الأخبار، فنحكم بمفادها، وإلّا فالحكم ببقائه على ما كان عليه من الاُمّية قبل البعثة أوثق وأسد، ويؤيد الأخير ما نقلناه في قصة الحديبية في بعض صورها التي عرفناك، والتعليل الوارد في الآية الكريمة أعني قوله سبحانه:( إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) خصوصاً لو كان مراد القائل تظاهرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بصناعة القراءة والكتابة على أظهر الناس، ورؤوس الأشهاد، فإنّه يجر الشك إلى ما قبل الرسالة كما لا يخفى.

نحن وقساوسة الغرب والمستغربة :

بالرغم من شهادة تاريخ الحجاز في الدور الجاهلي، ومحيطه البدوي على اُمّية النبي وعشيرته وأقربائه، نجد مغالطات وتشكيكات أثارتها قساوسة الغرب حول

__________________

(١) قاموس الرجال: ج ٣ ص ١٨٢ ـ ١٨٣، راجع تنقيح المقال: ج ١ ص ٢٨٦.

٣٤٥

اُمّيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتبعهم بعض المستغربة في الشرق، الذين يتطفّلون على موائد الغربيين في كل شيء، حتى فيما يرجع إلى الإسلام والمسلمين، والشرق والشرقي، غير واقفين على نواياهم وما تكنه صدورهم وضمائرهم، من القضاء على الإسلام والمسلمين، والحقد والعداء للنبي الأعظم ورسالته، وما يستهدفون من بث هذه التشكيكات والمغالطات، التي لها طابع التحقيق، حول الرسول الأكرم واُمّيته.

وفي الوقت نفسه، لا مصدر لهم في انكار اُمّيته إلّا مراسيل عن مجاهيل، أو انتحالات أعداء الدين، نظراء ابن أبي العوجاء و كل ذلك لبثّ الريب في قلوب البسطاء من المسلمين بالنسبة إلى رسالته، ودينه، وكتابه، حتى يتخذوا ذلك ذريعة لانكار رسالته الالهية واتصاله بالعوالم الروحية حتى يصوّروا لهم، أنّ النبي كان قارئاً وكاتباً وأنّ ما جاء به من المعارف والأحكام هي انتاج عبقريته الفذة وشخصيته اللامعة، وسبره في الكتب وغوره فيها، شأن كل باحث متتبع.

غير أنّ جهلهم أو تجاهلهم الحقيقة ودعاياتهم الواسعة لا يؤثر شيئاً في قلوب المثقفين من الاُمّة، كيف وقد تسالمت عليها الاُمّة منذ ألف وقرون لم ينبس أحد ببنت شفة على خلافه، حتى جعل صاحب المنار وغيره « اُمّية » النبي أحد وجوه اعجاز القرآن وقالوا: إنّ الضمير في قوله سبحانه:( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) يعود إلى ـ المبلغ ـ بكسر اللام أي الرسول نفسه لا إلى القرآن، وقال في تفسير الآية: « فإن خفي عليكم الحق بذاته فهذه آية من أظهر آياته، وهي عجزكم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن، من رجل اُمّي مثل الذي جاءكم به، وهو عبدنا ورسولنا محمد وإن عجزتم عن الاتيان بسورة من مثله، تساوي سورة في هدايتها وتضارعها في اسلوبها وبلاغتها، وأنتم فرسان البلاغة وعصركم أرقى عصور الفصاحة فاعلموا ما جاء به، بعد أربعين سنة فأعجزكم بعد سبقكم لم يكن إلّا بوحي إلهي وامداد سماوي »(١) .

وما ذكره من رجوع الضمير إلى النبي وإن كان خلاف ظاهر الآية، خصوصاً في

__________________

(١) المنار: ج ١ ص ١٩١.

٣٤٦

قوله سبحانه:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء ـ ٨٨ ) وفي قوله سبحانه:( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) ( هود ـ ١٣ ) إلّا أنّه أحد وجوه اعجازه.

قال العلّامة الشهرستاني: « إنّ من وجوه اعجاز القرآن والاعجاب به صدوره من مثل محمد الاُمّي ربيب البادية، البعيد عن حضاير الفنون، البعيد عن حواضر الحكماء ومحاضر العلماء ـ إلى أن أوضح مقاله بمثال ـ وقال: الشعب الواثق بأنّ سفيره لا يقرأ ولا يكتب ولا يخون، ولا يكذب ولم يعهد منه الشعر ففي وضع راهن كهذا لو يفاجئهم سفيرهم بكتاب فذ في الكتابة والإنشاء والإملاء وادعى أنّه مرسل به من ناحية السلطان فإنّ الشعب ضروري ايمانه واذعانه له، وعدم اتهامه بأنّه المباشر لهذه الفرية ».

٣٤٧
٣٤٨

الفصل السادس

علم الغيب

في

الكتاب العزيز

أظنّك أيّها القارئ الكريم في غنى عن بيان معنى « الغيب » ومفاده، لغةً وعرفاً، فإنّ للغيب « أصلاً صحيحاً يدل على تستر الشيء عن العيون، ثم يقاس من ذلك الغيب ما غاب، ممّا لا يعلمه إلّا الله ».

« ويقال: غابت الشمس تغيب غيبة وغيوباً وغيباً. وغاب الرجل عن بلده. وأغابت المرأة فهي مغيبة، إذا غاب بعلها، ووقعنا في غيبة وغيابة أي هبطة من الأرض يغاب فيها. قال الله تعالى في قصة يوسفعليه‌السلام :( وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الجُبِّ ) والغابة: الاجمة والجمع غابات وغاب، وسمّيت لأنّه يغاب فيها »(١) .

وقال الراغب: « الغيب مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين يقال: غاب عن كذا، قال تعالى:( أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) واستعمل في كل غائب عن

__________________

(١) مقاييس اللغة: ج ٤ ص ٤٠٣.

٣٤٩

الحاسة، وعما يغيب عن علم الانسان بمعنى الغائب قال تعالء:( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ويقال: للشيء غيب وغائب باعتباره بالناس لا بالله تعالى فإنّه لا يغيب عنه شيء كما لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وقوله:( عَالمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) أي ما يغيب عنكم وما تشهدونه والغيب في:( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداية العقول وإنّما يعلم بخبر الأنبياء:(١) .

توضيحه: أنّ الغيب يقابل الشهود، فما غاب عن حواسّنا وخرج عن حدودها، فهو غيب، سواء أكان أمراً مادياً، قابلاً للإدارك بالحواس، كالحوادث الواقعة في غابر الزمان، والمتكوّنة حالياً، الغائبة عن حواس المخبر، أو بعد لاي من الدهر، أم كان مما يمتنع إدراكه بالحس أو وقوعه في أفقه، كذاته تعالى، وحقيقة البعث والنشور، والحساب، ونفخ الصور، والميزان، وملائكة الله، وجنته وناره، ولقائه، وحقيقة الحياة، في النشأة الاُخرى، والوحي والنبوّة إلى آخر ما يجب الإيمان به وتصديقه، كما يدل عليه قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) ( البقرة: ٣ ـ ٤ ).

وقد أوضحه بعض الأعلام بقوله :

الغيب: في العرف العربي اسم لمعنى يقابل الحضور وضد الشهود، كما في القرآن:( عَالمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) وفي الحديث النبوي: « ألا فليبلغن الشاهد الغائب » وفي كلام الإمام عليعليه‌السلام : « شهود كالغيب ».

والشهود: كناية عن اتصال الحواس بالحاضر لديها وهو المراد من الحضور أيضاً فالغيب كالغائب، ما لا يتصل به الحس، وبه سمّي المسافر غائباً، وخلافه حاضراً، فالنبأ الغيبي، بناء على ما عرفت، هو النبأ الذي لا يتصل بالمحسوس لديك فعلاً، وإن

__________________

(١) مفردات الراغب: ص ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٣٥٠

كان أصله محسوساً من قبل، ثم غاب كالمسافر أو بالعكس كالمولود الذي كان في غيابة الرحم، محجوباً عن الحواس ثمّ ولد بعد، فصار محسوساً بين الناس.

وربّ اُمم دوّخت الأقيال والأجيال في سالف الدهر، كجرهم وأياد، ثمّ بادت، وهم اليوم غيب، وأنباؤهم الخطيرة تعد في زوايا التاريخ من الغيوب، وربّ جراثيم الأمراض كانت محجوبة، أو لا تزال محجوبة عن الحواس، ثمّ في مستقبل الأجيال تقوى الآلات على استكشافها، فتصير محسوسة مشهودة، وربّ طعام يقصر عن شمّه حسّ الانسان والحيوان، إلّا النمل الذي فاق حسّه على غيره، فيهتدي إليه ولا يغيب عنها، أو كحبة خردل لا تغيب عن الغراب، لحدة بصره، بينما هي غائبة عن غيره، أو صوت متحرك في دياجير الظلام لا يغيب عن احساس الفرس، لقوّة سمعه بينما يغيب عن غيره(١) .

وهذا البيان الضافي يوقفنا على أنّ الغيب على قسمين: مطلق واضافي، فالمطلق منه ما لا يقع في اُفق الحس أبداً ويمتنع إدراكه بالآلات والأدوات المادية كذاته سبحانه وصفاته وغيرهما ممّا عدّدناه، والاضافي ما يتفاوت بحسب الظروف والاشخاص، فربما يكون غيباً في ظرف، فجرثومة السل كانت غيباً في غابر الزمان، قبل أن يقف عليها مكتشفوها، ويروها تحت المجهر إلى أن عادت أمراً محسوساً في هذه الظروف التي كثرت فيها الأدوات العلمية، وسهل الوقوف على صغار الموجودات التي لا يدركها الطرف مجرداً عن الآلات الحديثة

وإلى ذلك يشير العلّامة الطباطبائي بقوله: الأشياء المجهولة، أي غير الواقعة تحت الحواس، غيب، ومن الحري أن نسمّيها عندئذ غيباً نسبياً، لأنّ هذا الوصف الطارئ عليها، وصف نسبي يختلف بالنسب والاضافات، كما أنّ ما في الدار مثلاً، من الشهادة بالنسبة إلى من فيها، ومن قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها، وكذا الأضواء والأكوان المحسوسة بحاسّة البصر، من الشهادة بالنسبة إلى البصر، ومن الغيب

__________________

(١) المعجزة الخالدة: ص ٧١ ـ ٧٢.

٣٥١

بالنسبة إلى حاسّة السمع، والمسموعات التي ينالها السمع، شهادة بالنسبة إليه، وغيب بالنسبة إلى البصر، ومحسوساتهما جميعاً من الشهادة بالنسبة إلى الانسان الذي يملكهما في بدنه ومن الغيب بالنسبة إلى غيره من الاناسي(١) .

وبذلك يصح لنا أن نصطلح ونعبّر عن الغيب البحت(٢) ب‍ « الغيب عن العالم المادي » وعن الغيب النسبي ب‍ « الغيب في العالم ».

بما أنّ الغيب البحت، لا يخرج عن تحت الخباء، فلا يتفاوت حاله بحسب الظروف والأحوال، فالواجب على الانسان، الإيمان به، إذا قام الدليل على وجوده لامتناع شهودها، والتعرف على حقيقتها ما لم يخرق الانسان الحجب المادية، ولم يلق الستار عن مشاعره، حتى يتعرّف عليها كتعرّفه على المحسوسات ولا يحصل ذلك إلّا بالموت، والتحلل من الجسد، والتحرر من المادة حتى يصدق عليه قوله سبحانه :

( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ *لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ( ق: ٢١ ـ ٢٢ ).

أنواع المغيبات في القرآن :

إنّ المغيبات الواردة في القرآن لا تزيد اُصولها على أقسام ثلاثة :

الأوّل :

الخبر عن الله سبحانه وأسمائه وصفاته، والخبر عن الروحانيات وملائكته وتدبيره العوالم الأرضية، والسماوية، وشؤون الاحياء بعد الموت في البرزخ وحالة الأرواح قبل المعاد وبعده من نعيم أو جحيم، والقرآن يموج بهذه المعاني الغيبية المطلقة التي لا

__________________

(١) الميزان: ج ٧ ص ١٢٨.

(٢) ما أسميناه غيباً بحتاً فإنّما هو مجرد اصطلاح ليحصل الفرق بين القسمين وإلّا فإنّما هو غيب بحت بالنسبة إلى العالم المادي، وأمّا بالنسبة إلى نفسه أو ما يسانخه من الموجودات أو الواجب سبحانه فليس غيباً أصلاً.

٣٥٢

يتعرف عليها الحس ولا تقع في اُفقه في هذا الظرف.

الثاني :

الإخبار عن اُمم قد خلت من قبل وطويت حياتها، فأصبحوا ممّا لا يرى حتى مساكنهم ومواطنهم، من دون أن يرجع إلى كتب السير والتاريخ والكهنة والربانيين أو يطالع كتاباً أو باباً خاصاً في هذا الموضوع. ومثله الخبر عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره، والاشعار بملاحم وفتن وأحداث في مستقبل الزمن، كإخبار القرآن عن إنّ ابا لهب وامرأته يموتان كافرين، في قوله تعالى:( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ *وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ *فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) ( المسد: ١ ـ ٥ )، وإخباره عن غلبة الروم، بعد بضع سنين في قوله سبحانه:( الم *غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ ) ( الروم: ١ ـ ٤ ).

وتلحق بذلك الاُمور التي قيل اختص علمه بها سبحانه، كوقت الساعة: والمستور في ظلمات الارحام، الواردة في قوله سبحانه:( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان ـ ٣٤ ).

وسوف نرجع إلى البحث عن هذه الآية وتقف على نظرنا فيها.

الثالث :

الإخبار عن بعض الموجودات أو النواميس السائدة في الكون، وقد كان مغيباً عند نزول الوحي عن ادراك الحواس المجردة عن الأدوات المخترعة في هذا الزمان، كإخباره سبحانه عن زوجية الأشياء عامة بقوله:( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( الذاريات ـ ٤٩ ) ووجود الدابة في السماوات بقوله:( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ

٣٥٣

قَدِيرٌ ) ( الشوري ـ ٢٩ ).

إلى غير ذلك من إخباراته عن الحقائق العلمية والنواميس المطردة في الكون.

ثمّ إنّ الزرقاني أرجع اُصول أنباء الغيب الواردة في القرآن إلى اُمور ثلاثة على وجه يقرب ممّا ذكرناه، قال: من ذلك قصص عن الماضي البعيد، المتغلغل في أحشاء القدم، وقصص عن الحاضر الذي لا سبيل لمحمد إلى رؤيته ومعرفته فضلاً عن التحدث به وقصص عن المستقبل الغامض الذي انقطعت دونه الأسباب وقصرت عن إدراكه الفراسة والألمعية والذكاء ـ إلى أن قال: ـ أمّا غيوب الماضي فكثيرة تتمثّل في تلك القصص الرائعة التي يفيض بها التنزيل ولم يكن لمحمد إليها من سبيل كقصة نوح، وموسى، ومريم، وأمّا غيب الحاضر فنريد به ما يتصل بالله تعالى والملائكة والجن والجنّة والنار ونحو ذلك ممّا لم يكن للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله سبيل إلى رؤيته ولا العلم به، فضلاً عن أن يتحدث عنه على هذا الوجه الواضح.

ومن غيب الحاضر أو الماضي ما جاء في طي القرآن من حقائق ومنافع ومبادئ لم يكشف عنها إلّا العلم الحديث، وأمّا غيب المستقبل فهو تنبّأ بحوادث وقعت كما أخبر(١) .

نعم أرجع العلّامة الشهرستاني أنواع المغيبات إلى ثمانية أقسام(٢) ويرجع اُصولها إلى الوجوه الثلاثة التي أوضحناها.

ثمّ إنّ هذا التقسيم، إنّما هو بالنسبة إلى البشر المحدود، الذي تغيب الأشياء عنه، وأمّا بالنسبة إليه سبحانه فالأشياء كلّها حاضرة لديه، بأعيانها الخارجية فالماضي والحال والمستقبل عنده سواسية:( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ) ( يونس: ٦١ ) فهو المحيط بكل ما دق وجل، ولا يشذ عن محيط علمه خبر خطير ولا صغير إلّا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير.

__________________

(١) مناهل العرفان: ج ٢ ص ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

(٢) المعجزة الخالدة: ص ٧٢.

٣٥٤

الإخبار عن الغيب أحد وجوه إعجازه :

ثمّ إنّ المغيبات التي أشرنا إليها إجمالاً، دلّت قبل كلّ شيء على كون القرآن كتاباً سماوياً، أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه، فإنّ الإخبار عن المغيبات الكونية، والنواميس السائدة في الوجود، أو الإخبار عن الاُمم البائدة على النحو الذي ذكرناه أو الإخبار عن شؤون البشر في مستقبل أدواره، والإيماء إلى الملاحم والفتن، والتي لا يدل عليها ولا يرشد إليها الحس، أمر خارج عن طوق البشر، فلا مصدر لها إلّا كونها وحياً أو إلهاماً، من خالقه إلى مخلوقه ورسوله الذي ارتضاه فهو عالم الغيب والشهادة فلا يطلع على غيبه أحداً إلّا من ارتضاه من رسول، فمستند النبي في مثل هذه المغيبات هو الله علام الغيوب.

وقد عرفت أنّ الإخبار عن الغيب بأقسامه الثلاثة كثير في القرآن المجيد، وأنّ استقصاء الموضوع بعامّة نواحيه، يحوج الباحث إلى تأليف مفرد. وقد قام عدة من الفضلاء في عصرنا بجمع الآيات التي أخبرت عن النواميس السائدة على الكون من أسرار الخلقة ونواميس الطبيعة، مما كانت مختفية في عصر نزول القرآن، ولم يكن سبيل إلى استكشافها إلّا من طريق الوحي ففسرّوها وأوضحوا مداليلها(١) وبذلك أغنونا عن أفاضة القول في هذا القسم من الغيب، وأمّا غير هذا القسم من أقسام المغيبات التي جاءت في القرآن فمجمل القول فيه :

إنّ المتفحّص في ما أخبر القرآن به من أحوال الاُمم والحوادث الماضية، يجد من نفسه أنّ المصدر الوحيد لبيان تلك الحوادث هو الوحي الالهي ليس غير وأنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتلقها من مثقفي عصره ولا من الكتب الدارجة في عهده، التي تنسب إلى الوحي وتعزى إلى الأنبياء، إذ لو فرضنا أنّه أخذ ما أتى به من القصص من أحبار اليهود وأساقفة النصارى وقسيسيهم وكهنة العرب والكتب الدينية الرائجة من التوراة

__________________

(١) راجع كتاب العلوم الطبيعية والقرآن، والقرآن والعلوم الحديثة وغيرهما.

٣٥٥

والانجيل، لوجب أن تنعكس على كتابه ظلال مصادر علمه، ومآخذ نقله، ونحن نرى مخالفة القرآن لكتب العهدين في جميع النواحي عامة وفي ناحية القصص خاصة.

إنّ القرآن اشترك في بعض القصص مع التوراة الرائجة التي اتفق اليهود والنصارى على أنّها كتاب الله المنزل على رسوله « موسى »عليه‌السلام فأوردت التوراة الدارجة تلك القصص مملوءة بالخرافات وجاء في بيانها بجمل تشابه كلام المبتلى بالهذيان.

غير أنّ القرآن الكريم لما كان كلام الله القدوس، ووحيه، قد نقل كثيراً من قصص الاُمم وتواريخها، بأبلغ العبارات وأحسنها، وأنصع الجمل وأسدّها نزيهة عمّا يمس كرامة الله سبحانه وكرامة أنبيائه ورسله، ولو صح ما ذكر من اختلاق النبي الأكرم للقرآن من جانب نفسه يجب أن يتأثر بمصادر نقلها، وامتنع حسب العادة أن لا يذكر شيئاً من محتوياتها مع ما فيها من القعقعة التاريخية، والناقل لقصص العهدين يستحيل أن لا ينعكس على أفكاره وكلامه، ما يجده فيهما.

يجب على علماء المسلمين ولاسيما الاخصائيين منهم في علم السير والتاريخ القيام بتأليف موسوعة كبيرة(١) تتضمن عرض ما جاء في العهدين من القصص والحوادث على ما جاء في القرآن ثمّ القضاء الصحيح بين النقلين حتى يتبيّن أنّ ما يحتوي عليه القرآن من سمّو المعارف ورصانة التعليم، لا يمكن أن يعزى إلّا إلى الوحي السماوي، وأنّ ما تشتمل عليه كتب العهدين من قصص الخرافة وأباطيل الأحاديث لا تلتئم مع البرهان، ولا تتمشّى مع المنطق الصحيح، وأنّ هذه الكتب قد دست وزورت

__________________

(١) نعم، قد قام لفيف من الفطاحل الأعلام فألّفوا في هذا المضمار كتباً ورسائل تسد جوع القارئ بعض السد فعالجوا بعض النواحي من هذه الاطروحة شكر الله مساعيهم، فراجع إلى « الهدى إلى دين المصطفى » و « الرحلة المدرسية » للعلامة الحجة البلاغي و « نفحات الاعجاز » و « البيان في تفسير القرآن » لآية الله الخوئي و « الميزان في تفسير القرآن » ج ٣ تأليف المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي، ثمّ حكّم عقلك ووجدانك هل ترى أنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ معارف كتابه واقتبس معارف قرآنه وقصصه من هذه الكتب.

٣٥٦

وتطرّق إليها التحريف بيد اُناس لا خلاق لهم من الدين ولا الشرف الانساني.

بقي من أقسام الغيب الوارد في الكتاب العزيز أمران :

١. ما يرجع إلى الإخبار عن الله سبحانه وأسمائه وصفاته والعوالم الروحية وغيرها التي يموج بها القرآن، فقد خصصنا لبيان هذه المعارف القسم الأوّل من كتابنا هذا فشرحنا لك هذه المعارف وما فيها من سمو ورصانة واحداً بعد واحد حسب الترتيب الذي وقفت عليه في مقدمة الكتاب.

٢. ما يرجع إلى الخبر عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره وما يلم به من ملاحم وفتن، فهذا هو الذي نبحث عنه في المقام على وجه الاختصار فنقول :

إنّ القرآن قد أخبر عن الحوادث التي كان التكهّن والفراسة يقتضيان خلافه من حيث النظر إلى الحال الحاضر وطغيان الشرك وضعف الدعوة الإسلامية، وما يجري من النكال والتشريد، والجفاء على ملبيها، مع أنّه صار صادقاً في جميع ما اخبر به ولم يخالف الواقع في شيء منها، ولا شك أنّه لم يكن له طريق في الإخبار بهذه المغيبات إلّا الوحي، هب أنّه تكهّن أو تفرّس في بعض إخباراته ـ وأجل نبي العظمة عن هذه الفرية الشائنة، فهل يمكن القول بأنّه تفرس في جميع ما اخبر به، وأنّه تنبأ معتمداً على علائم وإمارات كانت ترشده إليها، مع أنّ المفروض أنّ الأحوال الحاضرة في بعض إخباراته كانت تقتضي خلاف ما اخبر به كما سيوافيك بيانه، ونحن نأتي في المقام بكثير من الآيات التي تتضمن الإخبار عن الحوادث المستقبلية التي تحققت بعد إخبارها في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعد لحوقه بالرفيق الأعلى بيسير، وأمّا الاستقصاء في ذلك فلنتركه إلى من أراد الغور أكثر من ذلك.

نقول: هناك مغيبات عن ملاحم أحداث وفتن اخبر بها القرآن وظهر صدقها في عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده بقليل، فهذه الأخبار تدل قبل كل شيء على صحة نبوّته وأنّ القرآن منزّل من عنده سبحانه، ولا يمكن حملها على ما يحدث بالمصادفة أو القرائن أحياناً من أقوال الكهنة أو العرّافين والمنجمين فإنّ كذب هؤلاء أكثر من صدقهم

٣٥٧

والناس لا يحصون عليهم أقوالهم، ولا يبحثون عن حيلهم وتلبيساتهم، وإنّما يذكرون بعض ذلك إذا اقتضته الحال، كتشنيع أبي تمام على المنجمين في زعمهم أنّ عمورية لا تفتح إلّا عند نضج التين والعنب في قصيدته المعروفة التي مطلعها :

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

إلى أن يقول:

سبعون ألفاً كآساد الشرى نضجت

جلودهم قبل نضج التين والعنب

على أنّ دأب المنجمين هو أن يعبّروا عمّا يتوقعون من أحداث المستقبل بآرائهم وبقرائن الأحوال وأخبار الصحف الدورية، برموز وكنايات واشارات يفسرون بها الوقائع بأهوائهم، وأمّا ما يعرفه الفلكيون بالحساب كالخسوف والكسوف ومطالع الكواكب ومغاربها فليس من التنجيم المحرم ولا من علم الغيب في شيء(١) .

__________________

(١) راجع المنار: ج ١ ص ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٣٥٨

مغيبات القرآن

وأخباره الغيبية

١. تنبؤ القرآن بعجز البشر عن معارضته بمثله :

لقد تحدى القرآن في مواضع عديدة من آيات سوره تحدّياً يثير روح المنافسة على أشدها في نفوس من يتحداهم، وتحققت نبوءة القرآن ولا تزال متحققة حيث انقرضت طبقة المخاطبين ومضت أجيال من عرب وأعجام، وكلهم اعترفوا بالعجز عن المعارضة مع كثرة من تتطاول أعناقهم إلى هدم بناء الدين، وإبطال معجزة الإسلام الخالدة.

إنّ المتأخرين من الناقدين لا يعييهم في العادة أن يستدركوا على السابقين إمّا نقصاً يعالجوه بالكمال أو كمالاً يعالجونه بما هو أكمل منه، وإذا فرضنا أنّ واحداً قد عجز عن هذا، فمن البعيد أن تعجز عنه جماعة، وإذا عجزت جماعة فمن البعيد أن تعجز اُمّة، وإذا عجزت اُمّة، فمن البعيد أن يعجز جيل، وإذا عجز جيل فمن البعيد أن تعجز أجيال، فكيف يصدر إذن مثل هذا التحدّي عن رجل يعرف ما يقول فضلاً عن رجل عظيم، فضلاً عن محمد أفضل المرسلين؟ وهل يمكن أن يفسر هذا التحدّي الجريء الطويل العريض، إلّا بأنّه استمداد من وحي السماء واستناد إلى من يملك السمع والأبصار، وحديث عن من بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه(١) .

__________________

(١) مناهل العرفان: ج ٢ ص ٢٦٨.

٣٥٩

وقد نص بذلك التحدّي في موارد من آيات سوره.

منها قوله سبحانه :

( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة: ٢٣ ـ ٢٤ ).

أخبر القرآن في بداية أمر النبي بمكة عن عجز البشر عن مباراة القرآن ومعارضته إلى يوم القيامة، وأنّ الناس لا يسعهم الاتيان بمثل هذا القرآن، مهما تظاهروا وتناصروا وحتى اليوم تنقضي على هذا التحدي والتنبؤ قرون وهو صادق في وعده وعهده وسيبقى التحدّي قائماً مادام القرآن، ويستمر عجز البشر عن مجابهة هذا التحدي.

قال الطبرسي: « ولن » في قوله:( وَلَن تَفْعَلُوا ) تنفي على التأبيد في المستقبل وفيه دلالة على صحة نبوّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّه يتضمن الإخبار عن حالهم في مستقبل الأوقات بأنّهم لا يأتون بمثله، فوافق المخبر عنه الخبر(١) .

ويليها في التنبؤ بعجز البشر والجن عن معارضة القرآن، قوله سبحانه :

( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء ـ ٨٨ ).

وقد بلغ في تحدّيه إلى أن اكتفى من المتحدّي بإتيان عشر سور مثله، بل سورة واحدة من سوره.

قال سبحانه:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٦٣.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543