مفاهيم القرآن الجزء ٣

مفاهيم القرآن10%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 543

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 543 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 202047 / تحميل: 6195
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بينما يخص الانذار بالمخاطبين في هذه الآية يعمّم الانذار لكلّ الناس في آية اُخرى ويقول:( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) ( يونس ـ ٢ ).

٢. عد بعض أهل الكتاب من الصالحين :

انّ القرآن الكريم يعد بعض أهل الكتاب من الصالحين حيث يقول :

( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ *يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ( آل عمران: ١١٣ ـ ١١٤ ).

فلو كانت رسالة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عالمية يجب أن يرجع إلى شريعتها كلّ من يعيش تحت السماء من أصحاب الشرائع السماوية فعندئذ كيف يعد بعض من لم يرجع إليها من الصالحين ويصفهم بالأوصاف المذكورة في هاتين الآيتين ؟

الجواب :

انّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الرجوع إلى سياق الآيات فانّه سبحانه لـمّا وصف أهل الكتاب بأنّ أكثرهم الفاسقون وقال :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) .

وقال:( لَن يَضُرُّوكُمْ إلّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) .

وقال في حق اليهود :

( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ) ( آل عمران: الآيات١١٠، ١١١، ١١٢ ).

أراد سبحانه أن لا يبخس حق الأقلّية الصالحة منهم، تمشّياً مع الحقيقة، ووفاء للحق. وقال :

( لَيْسُوا سَوَاءً ) .

٦١

أي ليس الجميع ـ من أهل الكتاب ـ على وتيرة واحدة، وأنّه يوجد بينهم من يستقيم على دينه، ويثبت على أمر الله، ويتلوا آيات الله فهم الذين يعدّون من الصالحين أي الذين صلحت نفوسهم فاستقامت أحوالهم وحسنت أعمالهم.

ومن المعلوم أنّ توصيف ثلة قليلة بالصلاح إنّما هو في مقابل الأكثرية الموصوفة بالفسق والطغيان وقتل الأنبياء والاعتداء.

وهذا التحسين النسبي لا يدل على إقرار شريعتهم وعدم نسخه بالإسلام وأنّهم لو عملوا بشريعتهم لكانوا من الناجحين.

ويدل على ذلك أنّه سبحانه يصرّح في الآية ١١٠ بلزوم إيمان أهل الكتاب بما آمن به المسلمون ويقول :

( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ) .

وعلى ذلك يتّضح مساق الآية وهدفها.

إجابة اُخرى :

غير أنّ المفسرين فسّروا الآية على وجه آخر وقالوا: لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة قالت أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلّا شرارنا فأنزل الله:( لَيْسُوا سَوَاءً ـ إلى قوله ـمِنَ الصَّالِحِينَ ) .

روي ذلك عن ابن عباس وقتادة وابن جريح.

وقيل انّها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم(١) .

غير أنّ هذا التفسير لا يلائم ظاهر الآية فالظاهر أنّ الموصوفين بالصلاح من أهل الكتاب حين نزول الآية كما هو ظاهر قوله:( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) ولو كان المراد هو المؤمنون المسلمون لما عبّر عنهم بهذا العنوان ولا ينافي ما ذكرنا توصيفهم

__________________

(١) مجمع البيان ج ٤ ص ٤٨٨، راجع الدر المنثور ج ٢ ص ٦٤ و ٦٥.

٦٢

بأنّهم يتلون آيات الله آناء الليل إذ عندهم من المناجات والأدعية له الشيء الكثير لا سيّما في زبور داود.

٣. تخصيص الانذار باُمّ القرى ومن حولها :

وهناك بعض الآيات تخص الانذار باُمّ القرى ومن حولها حيث يقول :

( وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) ( الأنعام ـ ٩٢ ).

وقال سبحانه :

( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) ( الشورى ـ ٧ ).

فهاتان الآيتان يستظهر منهما اختصاص نطاق رسالته في إطار أُمّ القرى ومن حولها.

وأُمّ القرى أمّا علم من اعلام مكّة أو كلّي اطلق عليها في هذه الآية.

وعلى أي تقدير فتشعر باختصاص الرسالة بما ذكر فيها.

الجواب :

غير خفي على القارئ النابه أنّ ما ادّعاه من الظهور ضعيف جداً، ولو سلم فلا يتجاوز حد الاشعار الابتدائي(١) ولا يعتنى به اتّجاه الحجّج الدامغة الدالّة على سعة نطاق رسالته وعدم محدوديتها بشيء من الحدود والقيود، كما وافاك بيانها.

__________________

(١) بل ذيل نفس الآية دليل على عموم رسالته، حيث أنّه سبحانه قال:( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) وظاهره أنّ كل من يؤمن بالآخرة من العرب والعجم يؤمن بهذا الكتاب، وإنّه منزّل من ربّهم: مصدّق لما تقدمه من الكتب، فلو كانت دعوته اقليمية أو طائفية لما كان لإيمان من ليس من تلك الطائفة أو لا يعيش في الجزيرة العربية معنى صحيح.

٦٣

نحن نسأله لماذا نسي أو تناسى قوله سبحانه في نفس هذه السورة ( الأنعام ) الدالّ على عمومية رسالته، وأن ّ الله سبحانه أمره أن ينذر بكتابه كلّ من بلغه هتافه في أقطار الأرض وأرجاء العالم. وقال سبحانه:( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ).

وصريح هذه الآية أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرلينذر بقرآنه كلّ من بلغه ووصل إليه هتافه، عربياً كان أو أعجمياً، شرقياً كان أم غربياً، فلماذا أخذ الكاتب بالإشعار الضعيف وترك التصريح على خلافه مع كونهما في سورة واحدة ؟!

فلو أنّه كتب ما كتب بدافع التحقيق والبخوع للحقائق، فلماذا فتح بصره وألقى أسدالاً على بصيرته فاعتمد على الاشعار ورفض التصريح.

ومن المتحتمل أنّه رأى الآيتين، لكنّه حسب أنّ الله تعالى نقض كلامه الوارد في ابتداء السورة بختامها وهو سبحانه يقول:( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء ـ ٨٢ ).

نحن لا نميط الستر عن نواياه وضمائره وهو قد وقف على هذه الآية وغيرها مما سردناه من الآيات الدالّة على عالمية رسالته، لكن الظاهر أنّه لا يستهدف بذلك إلّا تعكير الصفو وبث بذور الشك في قلوب السذّج والبسطاء من الاُمّة الإسلامية لغاية هو أعرف بها وإن كان لا يفوتنا عرفانها.

والحق أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن في دعوته وانذاره بدعاً من الرسل، فقد مشى في ابلاغه على سنن من قبله من المرسلين، فالمسيح كان رسول الله، إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني إسرائيل(١) ، ومع ذلك كلّه فقد بدأ هتافه بكونه رسولاً إلى بني إسرائيل مع أنّه رسول

__________________

(١) نعم لم يثبت كون المسيح مبعوثاً إلى الناس أجمع، كما سيوافيك بيانه في هذا البحث بل كان مبعوثاً إلى اُمّة كبيرة أوسع من بني اسرائيل، لما ثبت من بعثهعليه‌السلام رسلاً من حوارييه وتلاميذه إلى الاُمم التي لا تمت إلى بني إسرائيل بصلة، وهو دليل على أوسعية نطاق رسالته من بني اسرائيل.

٦٤

إليهم وإلى غيرهم وقال:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ( الصف ـ ٦ ).

فخصّ خطابه ورسالته ببني إسرائيل مع كونه رسول الله إلى غيرهم أيضاً ولا ضير في ذلك لأنّ كونه رسولاً إليهم لا ينافي كونه رسولاً إلى غيرهم فإنّ اثبات الحكم لموضوع لا يلازم نفيه عن غيره.

وقد ضارعه نبي الإسلام، فهو مع كونه رسول الله إلى الناس جميعاً، ومع أنّه أمره الله أن ينذر بقرآنه قومه وكلّ من بلغه كتابه في مشارق الأرض ومغاربها(١) أمره الله سبحانه أن يقول:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام ـ ٩٢، الشورى ـ ٧ ) فإنّ كونه مبعوثاً لانذار الاُمّة العربية القاطنة في عاصمتها مكة ومناطقها التابعة لها، لا ينافي كونه مبعوثاً إلى غيرها أيضاً ومنذراً بكتابه سواها.

وقد حذى الرسول حذو القرآن في خطاباته الشخصية في اندية الانذار والابلاغ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما وفدت إلى داره عشيرته وأقربوه: « انّي رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامّة » وهو في الوقت نفسه حينما صعد على الصفا خص قريشاً بالخطاب وقال: « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار ».

وقد وافيناكم بتلك الدرية في صدر البحث(٢) .

هذه سيرة الرسول وسيرة من قبله، من اُولي العزم من الرسل، فهم يقتفون في توجيهاتهم ودعواتهم مقتضى الحال، مراعين في ذلك شرائط البلاغة، وإلقاء الكلام على وفق الحكمة، فربّما دعت المصلحة إلى توجيه الكلام إلى مجتمع خاص، كما أنّه ربّما اقتضت توجيهه إلى الناس عامة من دون أي تنافر وتناكر في التوجيهين.

وإن شئت قلت: انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بُعث إلى عشيرته والعرب والناس جميعاً على سبيل « تعدد المطلوب » كما قال: « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار » وقال: « انّي رسول

__________________

(١) الأنعام ـ ١١٩.

(٢) أنظر ص ١٣٥ من كتابنا هذا.

٦٥

الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة » وكانت كلّ واحدة من هذه الطوائف الثلاثة صالحة لأن يبعث إليهم رسول خاص. وعلى ذلك فله أن يصرّح حسب مقتضيات المقام بأحد الأغراض التي اُرسل لأجلها ويسكت عن الآخرين بلا استنكار.

ويشير إلى ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بعثت إلى الناس كافة، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب، فإن لم يستجيبوا لي، فإلى قريش، فإن لم يستجيبوا لي، فإلى بني هاشم، فإن لم يستجيبوا لي، فإلي وحدي »(١) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام :

« إنّ الله تبارك وتعالى أعطى محمداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى:: التوحيد والاخلاص وخلع الانداد والفطرة الحنيفية السمحة ولا رهبانية ولا سياحة إلى أن قال: ونصره بالرعب وجعل له الأرض مسجداً وطهوراً وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والانس »(٢) .

ونظير ذلك لو بعثت انساناً لينجز لك اُموراً مختلفة، وكان كلّ واحد منها صالحاً لأن يبعث لانجازه شخص خاص، فعند ذلك يصح لك أن تقول: بعثته ليعمل كذا وتذكر أحد الاُمور التي بعث لأجلها وتسكت عن ذكر الباقي كما يصح للمبعوث أن يقول: بعثت لأفعل كذا ويذكر أحد الأهداف التي بعث لتحقيقها من دون أن يذكر الأمرين الآخرين وهكذا

على أنّ الآية التي استدل بها القائل على ضيق نطاق رسالته، مكية، وردت في سورتي الأنعام والشورى المكيتين، ولم تكن الظروف في مكة تبيح له الاجهار غالباً بنفس رسالته، فضلاً عن الاجهار بعالميتها، فلا عتب عليه لو خص خطابه بجمع دون جمع. مع سعة نطاقها في نفس الأمر، إذا اقتضت المصلحة ذلك لأنّ المرمى الأهم في هذه البيئة، الاجهار بنفس الرسالة لا كمّها ولا كيفها وإن كان يصلح أن يصرّح في بعض

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ١ ص ١٩٢.

(٢) الكافي ج ٢ ص ١٧ وسيوافيك بعض الروايات عند البحث عن « الخاتمية في الأحاديث ».

٦٦

الأوقات بعالمية رسالته إذا كان الظرف في مكّة صالحاً. كما في قوله سبحانه:( وَمَا هُوَ إلّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) ( القلم ـ ٥٢ ) والآية مكية بلا كلام. وكما في قوله:( لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ) والسورة مكية، وإن شئت قلت: انّ الظروف في مكّة كانت مختلفة متلوّنة، ولم تكن حياة الرسول رخاءاً وشدة على نسق واحد، فتارة كانت بيئة مكة قاسية عنيفة لا تسمح بالجهر بنفس رسالته، فضلاً عن المصارحة بكيفها وكمّها، والمسلمون من جانب ـ اضطهاد قريش لهم ـ كانوا يعيشون في حالة عصيبة واُخرى كانت الأزمة قليلة مخففة بحلول أشهر الحج أو طروء حوادث تمنع العصابة المشركة المجرمة وتكفّهم عن إيذاء المسلمين.

وعند ذاك كان يفسح المجال أمام النبي وأصحابه بأن يبلغوا الدعوة وفق الظروف وحسب المقتضيات شدة وضعفاً، فنراه في مواقفه بمكة يصرّح بجانب من جوانب الدعوة على صعيد خاص كقوله: يا معشر قريش انقذوا أنفسكم واُخرى ينادي بعموم دعوته مما يستفاد من أنّه بعث إلى الناس كافة ولأجل ذلك نواجه في سورة واحدة لونين من طريقة الدعوة، فنرى أنّها في صدرها تأخذ بجميع جوانب دعوته وتصرّح بعموم دعوته وعالمية رسالته، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمر من جانبه سبحانه أن ينذر بقرآنه قريشاً وكلّ من بلغه كتابه وانذاره حيث قال:( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) وفي الوقت نفسه نرى في خلال السورة، لوناً خاصاً من الدعوة حيث تخصّها بمن في اُمّ القرى ومن حولها ويقول:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) فيعلم من ذلك أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يوجّه دعوته حسب ما تقتضيه المصلحة تبعاً للأحوال المختلفة وتبدل الظروف الزمانية والمكانية من دون توهّم تناقض في طريق الدعوة ولونها.

جواب آخر عن الشبهة :

جاء بعض المعاصرين من الأجلاّء، في تعاليقه القيّمة على كتاب « الابطال » بجواب آخر(١) مبني على أمرين :

__________________

(١) ترى اجمال هذا الجواب في مجمع البيان ج ٣، ص ٣٣٤، و ج ٥، ص ٢٢ والمفردات للراغب مادة « اُم ».

٦٧

الأوّل: انّ المراد من « القرى » في قوله تعالى:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ما يعم المدن الواسعة، وقد أطلق لفظ القرية في القرآن على المدينة أيضاً كقوله تعالى:( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) ( يوسف ـ ٨٢ ) والقرية التي اقترح أبناء يعقوب على أبيهم أن يسألها، هي مدينة « مصر » وقد كانت يوم ذاك مدينة كبيرة، ذات أبواب متفرّقة، لقوله سبحانه:( يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ) ( يوسف ـ ٦٧ ).

الثاني: قد استفاضت الروايات من مهبط الوحي والتنزيل على أنّ الله سبحانه دحى الأرض يوم دحاها، من تحت مكة، والمراد من الدحو من تحتها أنّ أرض مكة هي أوّل قطعة من الأرض اخرجت من الماء، بعد ما كانت الأرض بعامة أجزائها مغمورة بالماء، ثمّ برز سائر اجزائها، عن تحت الماء تدريجاً، وبذلك صارت مكة اُمّاً لسائر البلاد، وأصلاً لسائر القرى ومركزاً تكوينياً للأرض.

قال: إذا كان إطلاق اُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة، فيصير المراد من « أُمّ القرى »، أي أُمّ البلاد الموجودة في العالم ومركزها التكويني كما يصير المراد من( وَمَنْ حَوْلَهَا ) عامة من يعيش في نواحي الأرض وسائر أقطارها كلّها وإليه ذهب حبر الاُمّة عبد الله بن عباس، وفسّره الإمام الطبرسي بقوله: « من سائر الناس وقرى الأرض كلّها »(١) فتصير الآية من الأدلّة الدالّة على عالمية رسالته.

وفي هذا الجواب مجال للنظر والبحث :

أمّا أوّلاً: فلأنّ أُمّ القرى ليست علماً لمكّة، بل كلّياً اُطلق عليها في هذه الآية بما أنّها إحدى مصاديقه، كيف وقد قال سبحانه مبيّناً لسنّته في الاُمم الماضية جميعاً:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص ـ ٥٩ ) أي حتى يبعث في أُمّ تلك القرى رسولاً يبلّغ رسالات الله عليهم. وهذه سنّة الله تعالى في ابادة الاُمم الطاغية مطلقاً، غير مختصة بالاُمّة العائشة بمكّة ومن حولها.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ ص ٢٢.

٦٨

وهذا إمام اللغة ابن فارس، يقول في مقاييسه: « أُمّ القرى، مكّة، وكلّ مدينة هي أُمّ ما حولها من القرى ».

قال ابن فندق في تاريخه: إذا تركّزت اُمور منطقة خاصة في محل، يقال له باعتبار القرى والقصبات التابعة له، أُمّ القرى، ثم أتى بأمثلة وقال: فصنعاء أُمّ القرى في اليمن، « وبغداد » أُمّ القرى في العراق، بعد ما كانت « البصرة » يوماً أُمّ القرى ومرو أُمّ القرى في خراسان وهكذا(١) .

فهذا التركيب ( أُمّ القُرى ومن حولها ) ليس من مصطلحات القرآن واختصاصاته بل كان دارجاً في عصر الرسالة وقبله وبعده، وقد نزل القرآن بلسان النبي الذي هو لسان قومه وليس له في هذا التركيب اصطلاح خاص، بل هو والعرف في ذلك سواسية، فلا يصلح أن يحمل على غير ما هو المتفاهم عندهم. فإذا قيل:( لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) وقامت القرينة على أنّ المراد من أُمّ القرى مكة، فلا يراد منه وممّا عطف عليه إلّا ما يراد في نظائرها، فإذا قيل: هذا إمام البصرة أو سائسها ومن حولها، فلا يراد إلّا نفوذ حكمه في نفس البصرة والمناطق التابعة لها، حكماً وسياسة واقتصاداً، أو غيرها من وشائج الارتباط ودوافع التبعية، لا أنّه إمام الأرض شرقاً وغرباً، وهكذا إذا قيل: بعث نبي الإسلام لينذر مكّة ومن حولها، لا يراد منه إلّا أنّه بعث لينذر من يعيش في مكة والمناطق التابعة لها عرفاً، سياسة وحكماً أو اقتصاداً وتجارة، أو غيرها من القرى القريبة المتاخمة لها، القائمة عند حدودها والمناطق التابعة لها في العلاقات الاجتماعية لا أنّه بعث لينذر أهل العالم كلّه، فإنّ إرادة هذا المعنى من هذا التركيب غير معهود، لو لم يكن مستهجناً.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ما ذكره من حديث دحو الأرض إلى آخره، صحيح، غير أنّ إطلاق أُمّ القرى على مكة بهذه المناسبة التكوينية يحتاج إلى دليل، ودون اثباته خرط القتاد، والعرب الجاهليون كانوا يطلقون أُمّ القرى، على مكّة، من غير أن يكون لهم علم

__________________

(١) تاريخ بيهق ج ص ٢٢ بتعريب منّا.

٦٩

ولا عهد بهذه المعارف، وليس إطلاقها عليها من خصائص القرآن، بل هو يتبع في ذلك لما هو الدارج، والحق في الجواب ما أوضحناه.

٤. كلّ نبي مبعوث بلسان قومه

جرت سنّة الله على بعث رسله بلسان قومهم، وهذا هو الأصل لو كان الرسول مبعوثاً إلى خصوص إنقاذ قومه.

أمّا إذا كان مبعوثاً إلى اُمّة أوسع من قومه، وكان كلّ قوم يتكلّمون بلسانهم الخاص فعند ذلك لا حاجة إلى نزول كتابه بجميع الألسنة، لأنّ الترجمة تنوب عن ذلك مع ما في نزوله بلسانين أو أزيد من التطويل، وامكان تطرّق التحريف والتبديل والتنازع والاختلاف. فبقي أن ينزل بلسان واحد. وأولى الألسنة لسان قوم النبي ولغتهم لأنّهم أقرب إليه، ولا معنى لرفض هدايتهم والتوجّه إلى غيرهم.

على أنّ إيمان قومه به، وخضوعهم له، ربّما يثير رغبة الآخرين بالإيمان به كما أنّ إعراض قومه جيمعاً عن دعوته ورغبتهم عنه، تثير روح الشك والترديد في قلوب البعداء عنه، قائلين بأنّه لو كان في دعوته خير لما أعرض عنه قومه.

على أنّ في إرسال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بلسان قومه نكتة اُخرى وهو أنّ قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يملكون نفسيّة خاصة وهو عدم رضوخهم واستجابتهم بسهولة لعادات غيرهم وألسنتهم.

فلو أنزل الله سبحانه كتابه إليهم بغير لسانهم لما آمنوا به كما قال سبحانه:( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الأَعْجَمِينَ *فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) ( الشعراء: ١٩٨ ـ ١٩٩ ) فلأجل ذلك بعثه الله سبحانه بلسان قومه حتى يسد باب العذيرة عليهم.

ولأجل هذه المهمة الاجتماعية يجب على الرسول صرف همّته أوّلاً في هداية قومه وانقاذهم حتى يتسنّى له هداية الآخرين، وهذه سنّة متبعة في الاُمور العادية، فضلاً عن المبادئ العامّة.

٧٠

وإلى ذلك تهدف الآية التالية:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم ـ ٤ ) ومفاد الآية أنّه سبحانه لم يجر في بعث رسله مجرى الاعجاز وخرق العادة، ولا فوّض إلى رسله من الهداية والضلال شيئاً، بل أرسلهم بلسانهم العادي الذي يتحاورون به كل يوم مع أقوامهم ليبيّنوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم إلّا بيان ما اُمروا به وأمّا الغاية من بعثهم، أعني الاهتداء فهو بيد الله سبحانه، لا يشاركه في ذلك رسول ولا غيره.

وعلى ذلك فليست في الآية دلالة ولا إشعار بلزوم اتحاد لغة الرسول مع لغة من اُرسل إليهم، حتى يلزم منهم اختصاص دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقومه. إذ الآية تصرّح بلزوم موافقة لغة الرسول مع لسان قومه، لا اتّحاد لغته مع لسان كل من اُرسل إليهم، كما هو أساس الشبهة، ومن الممكن المتحقق أن يكون المرسل إليه أوسع من قومه كما هو الحال في ثلّة جليلة من الرسل، فقد دعا إبراهيم عرب الحجاز إلى الحج، والوفود إلى زيارة بيته، وأمر سبحانه كليمه بدعوة فرعون إلى الإيمان به، ودعا نبيّنا اُمّتي اليهود والنصارى إلى الإيمان برسالته، فآمن منهم من آمن. وبقي منهم من بقي.

مغالطة اُخرى حول الآية

نرى بعض من فسّر الآية بأنّ مفادها: « أنّ كلّ رسول من الله يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم »، جاء بمغالطة شوهاء في مفاد الآية، وقال: إذا كان معنى الآية ما ذكر فهو ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا، من لا يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم ليس رسولاً منه سبحانه. فلو فرضنا أنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مبعوثاً إلى العالمين كلّهم مع اختلافهم في اللسان، يلزم منه كونه غير مبعوث من الله سبحانه أصلاً.

وعلى الجملة: تنتج عالمية رسالته، وسعة نطاق دينه، كونه غير مرسل من جانبه عزّ وجلّ.

ومنشأ هذه المغالطة ما تخيّله المغالط من مفاد الآية، إذ ليس مفادها ما تصوّره من

٧١

أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان من اُرسل إليهم حتى يصح ما بني عليه، بل مفاده: أنّ كلّ رسول يوافق لسانه لسان قومه، وفي الوقت نفسه يمكن أن يكون مبعوثاً إلى أزيد من قومه(١) أو إلى قومه فقط.

نعم تنعكس الآية إلى قولنا: من لا يوافق لسانه، لسان قومه ليس رسولاً من الله سبحانه، وهو صحيح، وأمّا نبي الإسلام فالمفروض أنّ لسان كتابه ولغة دعوته موافقة مع لسان قومه.

وعلى أي تقدير فالمراد من القوم هم الذين عاش فيهم الرسول وخالطهم ولا يختص بالذين هو منهم نسباً، والشاهد على ذلك أنّه سبحانه صرّح بمهاجرة لوط من « كلدة » وهم سريانيو اللسان، إلى المؤتفكات وأهلها عبرانيون، وفي الوقت نفسه سمّاهم قومه، وأرسله إليهم، ثم أنجاه وأهله إلّا امرأته(٢) .

__________________

(١) هذا أحد الاحتمالات في اُولي العزم، أعني من اُرسل إلى أزيد من اُمّة، راجع الميزان ج ١٢ ص ١٣ وسوف نحقق معنى هذه الكلمة على ضوء ما ورد في الذكر الحكيم في فصول هذا الكتاب.

(٢) الميزان ج ١٢ ص ١٣.

٧٢

هل كانت

نبوّة نوح والكليم والمسيح

عالمية ؟

قد اتضح من هذا البحث الضافي أنّ رسالة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله رسالة عالمية، فهو مبعوث إلى شرق الأرض وغربها.

غير أنّه اكمالاً للبحث نبحث عن نبوّة ورسالة الأنبياء الثلاثة، فهل كانت نبواتهم ورسالاتهم عالمية أم كانت تقتصر على أقوامهم، أو المناطق التي ظهروا فيها ؟

ونبحث في المقام عما يفيده القرآن في هذا الموضوع مع غض النظر عمّا يوجد في التوراة والانجيل وما يدعيه علما ء اليهود والنصارى لأنّ البحث في المقام قرآني ينظر إلى الموضوع من زاوية خاصة، فيقع الكلام في مقامات :

الأوّل: في عمومية نبوّة نوح وعدمها.

الثاني: في عمومية نبوّة الكليم وعدمها.

الثالث: في عمومية نبوّة المسيح وعدمها.

ويتضح ممّا ذكرنا حال رسالة الخليلعليه‌السلام أيضاً.

وليكن القارئ الكريم على ذكر من نكتة، وهي أنّ ما سنذكره من الآيات ونستدل بها لا يعدو عن كونها اشعارات واستظهارات ولا يمكن أن يستدل بكلّ واحدة منها على المقصود، نعم يمكن اعتبار مجموعها دليلاً مفيداً للاطمئنان.

٧٣

على أنّ تلك الاشعارات إنّما تتم إذا لم يكن هناك دليل صريح على خلافها وإلّا فتكون النسبة بين تلك الاشعارات وما يدل على خلافها من قبيل نسبة الأصل إلى الدليل الاجتهادي الحاكم بالاشتغال.

فيرتفع الأصل بموضوعه عند وجود الدليل الاجتهادي.

هل رسالة نوح كانت مختصّة بقومه ؟

يمكن استظهار الاختصاص من قوله سبحانه:( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) ( نوح ـ ١ )، فهو يشعر باختصاص رسالته بقومه(١) .

وأمّا صيرورة رسالته بعد الطوفان عالمية، لانحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك الناس، فإنّما هو لأمر عارض لا يضر بخصوصية رسالته.

أضف إلى ذلك أنّ قدر المسلم هو أنّ الطوفان لم يكن عالمياً بل خاصاً بمنطقة من الأرض التي كان يعيش فيها قومه، ويؤيد ذلك أنّه لا وجه لتعذيب غيرهم واهلاكهم بتكذيب قومه خاصة.

فانّ الظاهر من القرآن هو أنّ التعذيب كان لتكذيب قومه، قال سبحانه:( وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) ( هود: ٣٦ ـ ٣٧ ) أضف إلى ذلك أنّ عمومية الرسالة تتطلب وجود امكانيات تمكن الرسول من إيصال نداء رسالته وصوت دعوته إلى جميع أنحاء العالم، وذلك لم يكن متوفراً في عهد نوح، كما سيوافيك بيانه مفصّلاً.

تحقيق وتنقيب :

إنّ العلّامة الطباطبائي ( رضوان الله عليه ) قد طرح مسألة عمومية نبوّة نوح

__________________

(١) لاحظ الآيات ٢٥ ـ ٤٨ من سورة هود، ترى فيها اشعارات كثيرة باختصاص رسالته بقومه.

٧٤

عليه‌السلام في الجزء العاشر من تفسيره القـيّـم « الميزان » فقال :

المعروف عند الشيعة عموم رسالتهعليه‌السلام وأمّا أهل السنّة فمنهم من قال بعموم رسالته مستنداً إلى ظاهر الآيات الناطقة لشمول الطوفان لأهل الأرض كلّهم كقوله سبحانه:( رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) ( نوح ـ ٢٦ )، وقوله تعالى:( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إلّا مَن رَّحِمَ ) ( هود ـ ٤٣ ) وقوله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) ( الصافات ـ ٧٧ ).

وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة: أنّ نوحاً أوّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ولازم ذلك كونه مبعوثاً إليهم كافة.

ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبي: « وكان كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ».

وأجابوا عن الآيات بأنّها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي التي كان يسكنها نوح وقومه، وهي وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) ( يونس ـ ٧٨ ).

فمعنى الآية الاُولى: لا تذر على هذه الأرض من كافري قومي ديّاراً، وكذا المراد بالثانية: « لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله » وكذا المراد بالثالثة: « وجعلنا ذريته هم الباقين » من قومه.

ثمّ انّه ـ قدّس الله سرّه ـ أفاد أنّه لم يستوفوا حقّ الكلام في هذا البحث ثمّ اختار هو عموميّة نبوّته ورسالته بتقديم مقدّمة حاصلها :

أنّ الواجب في عناية الله أن يهدي الانسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حد ما يهدي سائر الأنواع إليه، ولا يكفي في هدايته ما جهز به الإنسان من العقل البشري، بل لابد من طريق آخر لهدايته وسوقه إلى قمة الكمال وهو تعليم الإنسان شريعة الحق، ومنهج الكمال والسعادة، وهو طريق الوحي، وهو نوع تكليم إلهي يعلم الانسان ما يفوز بالعمل به، والاعتقاد به في حياته الدنيوية والاخروية فطريق النبوّة ممّا لا

٧٥

مناص منه في تربية النوع البشري بالنظر إلى العناية الإلهية.

وإن شئت قلت: الواجب في عناية الله تزويد المجتمع الانساني بشريعة يأخذ بها في حياته الاجتماعية دون أن يخص بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية له بهم، ولازمه أن يكون أوّل شريعة نزلت على البشر شريعة عامّة، وقد أخبر الله سبحانه أنّ شريعة نوح هي أوّل شريعة نزلت على المجتمع البشري قال سبحانه:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى ـ ١٣ )، ومقام الامتنان يقتضي بأنّ الشرائع الإلهية المنزلة على البشر عبارة عمّا جاء ذكرها في هذه الآية، وأوّل ما نزلت من الشرائع هي شريعة نوح، ولو لم تكن عامة للبشر، بل كانت خاصة بقومه لكان هناك أمّا نبي آخر، وشريعة اُخرى لغير قوم نوح والحال أنّه لم يذكر في هذه الآية ولا في موضع آخر من كلامه سبحانه.

وأمّا اهمال سائر الناس غير قومه في زمنه وبعده إلى حين(١) .

ملاحظات في كلام العلّامة الطباطبائي

وفيما ذكرهقدس‌سره ملاحظات نلفت نظر القارئ الكريم إليها :

أمّا أوّلاً: فإنّ ما ذكره من أنّه يجب في عناية الله تكميل الأنواع وأنّ الشريعة الإلهية تكمل النوع الانساني، وأنّ التشريع تكميل للتكوين ممّا لا كلام فيه، غير أنّ الكلام هو في قابلية سائر العناصر البشرية الاُخرى المعاصرة لنوح، الساكنة في مناطق اُخرى لتلقي الشريعة وأخذها والعمل بها، فإنّه من المحتمل أن لا تكون تلك العناصر والأفراد لبداوتها وبساطة شعورها وحياتها أهلاً لارسال الشريعة إليهم وعدم بلوغهم بعد إلى حد يستأهلون معه للتعليم الإلهي، فإنّه من البديهي أنّ البلوغ الجسماني وحده لا يكفي في تلقي الشريعة والعمل بها، بل يجب أن يكون معه مقدرة فكرية واستعداد نفسي يؤهّله لاستقبال الشريعة، والدخول في مدرسة الوحي الإلهي. فمثل بعض المجتمعات قبل أن

__________________

(١) الميزان ج ١٠ ص ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٧٦

تصل إلى هذه المرتبة مثل الطفل الناشئ لا يستأهل ولم يصبح صالحاً للدخول في المدرسة وتلقي التربية المدرسية.

وثانياً: فإنّ ما استفادهرحمه‌الله من الآية ب‍ « أنّ شريعة نوح أوّل شريعة نزلت إلى البشر » اشعار كسائر الاشعارات فمن المحتمل أن تكون هناك شريعة اُخرى نزلت قبل نوح ولكن لم تذكر لعدم بلوغها إلى مرتبة الشرائع المذكورة في هذه الآية.

وأمّا ثالثاً: انّ من الممكن أن يكون هناك شريعة في عرض شريعة نوح تختص بقوم آخر لكنّه لم يذكرها القرآن، كيف لا وأنّ القرآن صرّح بأنّه لم يستوعب قصص جميع الأنبياء حيث قال:( مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) ( غافر ـ ٧٨ ) وقال سبحانه:( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) ( النساء ـ ١٦٤ ).

وفي الختام أنّ ما ذكرناه حول دعوة نوح كمثل ما نذكره حول الكليم والمسيح مجرد نظرية منبعثة من التدبّر في آيات الذكر الحكيم فمن المحتمل أن لا تكون صائبة، والعصمة لله سبحانه ولرسوله والأئمّة الهداة.

ثم إنّه دام ظله رتب على مختاره في تعميم رسالة نوح أنّ الطوفان كان عاماً لجميع الأرض حيث قال: تبين الجواب عن السؤال: هل الطوفان كان عاماً لجميع الأرض فإنّ عموم دعوته يقضي بعموم العذاب.

ثمّ أيّده بما جاء في كلامه تعالى أنّه أمر نوحاً أن يحمل من كلّ زوجين اثنين ابقاء على الأنواع الحيوانية فلو كان الطوفان خاصاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق ـ كما قيل ـ لم تكن هناك أية حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين(١) .

وقد تبيّن ممّا ذكرناه من اختصاص دعوة نوح وعدم عموميتها عدم صحة ما اعتمدت عليه النظرية.

__________________

(١) الميزان ج ١٠ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٧٧

وأمّا ما استشهد به فيمكن أن يكون للحفاظ على الحيوانات في منطقته إذ كان من العسير انتقال الحيوانات التي تعيش في مناطق اُخرى إلى قومه، والله سبحانه هو العالم.

هل كانت نبوّة الكليم عالمية ؟

إنّ تنقيح الموضوع يتوقّف على البحث في مقامين :

الأوّل: في عموم دعوته إلى التوحيد.

الثاني: في عموم شريعته وشمول أحكامه.

ونعني من عموم دعوته في مسألة التوحيد أنّه كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل وغيرهم، في دعوتهم جميعاً إلى توحيده سبحانه وكسر كلّ صنم ووثن.

كما أنّه نعني من عموم شريعته شمول كلّ ما جاء به موسى في التوراة من الفروع والأحكام لبني إسرائيل وغيرهم(١) وعموم دعوته إلى التوحيد لا يلازم عموم شريعته، دون العكس(٢) ولأجل ذلك جعلنا البحث في مقامين، فنقول :

المقام الأوّل: في عموم دعوته في أصل التوحيد ورفض الأوثان والأصنام كلّها.

الظاهر من الآيات الواردة حول دعوة الكليم، أنّه كان مبعوثاً إلى خصوص بني إسرائيل مثل قوله سبحانه :

( وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ) ( البقرة ـ ٩٢ ).

وقوله سبحانه:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ) ( الصف ـ ٥ ).

__________________

(١) وللفرق بين المقامين يعبّر عن الأوّل بعموم الدعوة والنبوّة وعن الثاني بعموم الشريعة والرسالة فلاحظ.

(٢) لامكان انحصار دعوته بالنسبة إلى قوم في الاُصول ولا يمكن العكس إذ لا تصح الدعوة إلى الفروع منفكة عن الدعوة إلى الاُصول.

٧٨

وهذه الآيات الكثيرة تشعر باختصاص دعوته بقوم موسى وإنّما قلنا « تشعر » لوضوح أنّ ارساله إلى قومه، لا يدل على عدم إرساله إلى غيرهم، فإنّ شعيباً كان مرسلاً من جانبه سبحانه إلى أهل مدين كما يدل عليه قوله تعالى:( وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ) ( الأعراف ـ ٨٥ ).

وفي الوقت نفسه كان مبعوثاً إلى أصحاب الايكة كما يدل عليه قوله سبحانه:( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ *إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ) ( الشعراء ١٧٦ ـ ١٧٧ ).

ولأجل ذلك قلنا انّ ما نستدل به لا يعدو عن كونه استظهارات واشعارات إذا توفرت تفيد الاطمئنان ولو كان هناك دليل صريح على عموم دعوته ونبوّته، لسقطت هذه الاستظهارات عن الاعتبار.

موقف دعوة الكليم من القبطيين

يمكن أن يقال: بأنّ دعوة موسى في مسألة التوحيد، كانت تعم بني إسرائيل والقبطيين.

وتستفاد عمومية دعوته إليهم أيضاً من بعض الآيات مثل قوله سبحانه:( حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الاعراف ـ ١٠٥ ).

وقوله سبحانه:( قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الأعراف ـ ١٣٤ ).

وقوله سبحانه:( اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ *فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الهُدَىٰ ) ( طه: ٤٣ و ٤٤ ـ ٤٧ ).

وقوله سبحانه:( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ *أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا

٧٩

بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء: ١٦ ـ ١٧ ).

وقوله سبحانه حكاية عن فرعون:( قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) ( الشعراء ـ ٢٧ ).

وقوله سبحانه:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الزخرف ـ ٤٦ ).

وقوله سبحانه:( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً *فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً ) ( المزمل ١٥ ـ ١٦ ).

وقوله سبحانه:( وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) ( الذاريات ـ ٣٨ ).

وهذه الآيات وما يشابهها تفيد أنّ دعوته إلى عبادة الله والانخلاع عن عبادة الأوثان كانت تعم بني إسرائيل والقبطيين ولأجل ذلك ضرب مع رئيسهم فرعون موعداً لا يخلفه هو ولا ذاك، فاتفقا على أن يكون موعدهم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فلما ألقى موسى ما ألقى وتلقف ما صنعوا من الكيد والسحر، القي السحرة ساجدين قائلين بأنّهم آمنوا بربّ موسى وهارون(١) .

هذا كلّه يفيد بوضوح شمول دعوته للقبطيين أيضاً وأنّه كان مأموراً من الله بدعوة فرعون وملائه إلى الايمان بالله سبحانه وترك عبادة البشر والاستعلاء على عباد الله واستضعافهم، ويؤيده أنّه لـمّا أدركه الغرق قال فرعون:( آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ ) ( يونس ـ ٩٠ ) ولم يك ينفع إيمانه ذلك الوقت ولأجله خاطبه سبحانه بقوله:( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) ( يونس ـ ٩١ ).

ومع ذلك كلّه ففي النفس من شمول دعوته ـ حتى بهذا المعنى للقبطيين، شيء.

أمّا أوّلاً: فلأنّه يحتمل أنّه كان نبيّاً ورسولاً إلى اُمّة بني إسرائيل فقط ليخلصهم

__________________

(١) راجع سورة طه: الآيات ٤٢ ـ ٧٠.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الصفتين هو ذلك الاستعداد الذاتي وما هو موجود فيهم «بالقوّة». أي أنّ الإنذار يؤثّر فقط في أولئك الذين لهم أسماع واعية وقلوب مهيّأة ، فالإنذار يترك فيهم أثرين : الأوّل إتّباع الذكر والقرآن الكريم ، والآخر الإحساس بالخوف بين يدي الله والمسؤولية.

وبتعبير آخر فإنّ هاتين الحالتين موجودتان فيهم بالقوّة ، وإنّها تظهر فيهم بالفعل بعد الإنذار ، وذلك على خلاف الكفّار عمى القلوب الغافلين الذين لا يملكون اذنا صاغية وليسوا أهلا للخشية من الله أبدا.

هذه الآية كالآية من سورة البقرة حيث يقول تعالى :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

٢ ـ باعتقاد الكثير من المفسّرين أنّ المقصود من «الذكر» هو «القرآن المجيد».

لأنّ هذه الكلمة جاءت بهذه الصورة مرارا في القرآن الكريم لتعبّر عن هذا المعنى(١) ، ولكن لا مانع من أن يكون المقصود من هذه الكلمة أيضا المعنى اللغوي لها بمعنى مطلق التذكير ، بحيث يشمل كلّ الآيات القرآنية وسائر الإنذارات الصادرة عن الأنبياء والقادة الإلهيين.

٣ ـ «الخشية» كما قلنا سابقا ، بمعنى الخوف الممزوج بالإحساس بعظمة الله تعالى ، والتعبير بـ «الرحمن» هنا والذي يشير إلى مظهر رحمة الله العامّة يثير معنى جميلا ، وهو أنّه في عين الوقت الذي يستشعر فيه الخوف من عظمة الله ، يجب أن يكون هنالك أمل برحمته ، لموازنة كفّتي الخوف والرجاء ، اللذين هما عاملا الحركة التكاملة المستمرة.

الملفت للنظر أنّه ذكرت كلمة «الله» في بعض من الآيات القرآنية في مورد

__________________

(١) انظر النحل : ٤٤ وفصّلت : ٤١ ، والزخرف : ٤٤ والقمر : ٢٥ ، وفي نفس الوقت فإنّ لفظة «ذكر» تكرّرت في القرآن كثيرا بمعنى «التذكير المطلق».

١٤١

«الرجاء» والتي تمثّل مظهر الهيبة والعظمة( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) (١) إشارة إلى أنّه يجب أن يكون الرجاء ممزوجا بالخوف ، والخوف ممزوجا بالرجاء على حد سواء (تأمّل!!).

٤ ـ التعبير بـ «الغيب» هنا إشارة إلى معرفة الله عن طريق الاستدلال والبرهان ، إذ أنّ ذات الله سبحانه وتعالى غيب بالنسبة إلى حواس الإنسان ، ويمكن فقط مشاهدة جماله وجلاله سبحانه ببصيرة القلب ومن خلال آثاره تعالى.

كذلك يحتمل أيضا أنّ «الغيب» هنا بمعنى «الغياب عن عيون الناس» بمعنى أنّ مقام الخشية والخوف يجب أن لا يتّخذ طابعا ريائيا ، بل إنّ الخشية والخوف يجب أن تكون في السرّ والخفية.

بعضهم فسّر «الغيب» أيضا بـ «القيامة» لأنّها من المصاديق الواضحة للأمور المغيبة عن حسّنا ، ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.

٥ ـ جملة «فبشّره» في الحقيقة تكميل للإنذار ، إذ أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البدء ينذر ، وحين يتحقّق للإنسان اتّباع الذكر والخشية وتظهر آثارها على قوله وفعله ، هنا يبشّره الباريعزوجل .

بماذا يبشّر؟ أوّلا يبشّره بشيء قد شغل فكره أكثر من أي موضوع آخر ، وهو تلك الزلّات التي ارتكبها ، يبشّره بأنّ الله العظيم سيغفر له تلك الزلّات جميعها ، ويبشّره بعدئذ بأجر كريم وثواب جزيل لا يعلم مقداره ونوعه إلّا الله سبحانه.

الملفت للنظر هو تنكير «المغفرة» و «الأجر الكريم» ونعلم بأنّ استخدام النكرة في مثل هذه المواضع إنّما هو للتدليل على الوفرة والعظم.

٦ ـ يرى بعض المفسّرين أنّ (الفاء) في جملة «فبشّره» للتفريع والتفضيل ، إشارة إلى أنّ (اتّباع التذكر والخشية) نتيجتها «المغفرة» و «الأجر الكريم» بحيث أنّ الاولى وهي المغفرة تترتّب على الأوّل ، والثانية على الثاني.

__________________

(١) الأحزاب ، ٢١.

١٤٢

بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر والثواب العظيم للمؤمنين والمصدّقين بالإنذارات الإلهية التي جاء بها الأنبياء ، تنتقل الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب والمجازاة ، تقول الآية الكريمة :( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ) .

الاستناد إلى لفظة «نحن» إشارة إلى القدرة العظيمة التي تعرفونها فينا! وكذلك قطع الطريق أمام البحث والتساؤل في كيف يحيي العظام وهي رميم ، ويبعث الروح في الأبدان من جديد؟ وليس نحيي الموتى فقط ، بل( وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) وعليه فإنّ صحيفة الأعمال لن تغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا وتحفظها إلى يوم الحساب.

جملة «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال التي قاموا بها ولم يبق لها أثر ، أمّا التعبير «وآثارهم» فإشارة إلى الأعمال التي تبقى بعد الإنسان وتنعكس آثارها على المحيط الخارجي ، من أمثال الصدقات الجارية (المباني والأوقاف والمراكز التي تبقى بعد الإنسان وينتفع منها الناس).

كذلك يحتمل أيضا أن يكون المعنى هو أنّ «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال ذات الجنبة الشخصية ، و «آثارهم» إشارة إلى الأعمال التي تصبح سننا وتوجب الخير والبركات بعد موت الإنسان ، أو تؤدّي إلى الشرّ والمعاصي والذنوب. ومفهوم الآية واسع يمكن أن يشمل التّفسيرين.

ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) .

أغلب المفسّرين اعتبروا أنّ معنى «إمام مبين» هنا هو «اللوح المحفوظ» ذلك الكتاب الذي أثبتت فيه وحفظت كلّ الأعمال والموجودات والحوادث التي في هذا العالم.

والتعبير بـ «إمام» ربّما كان بلحاظ أنّ هذا الكتاب يكون في يوم القيامة قائدا وإماما لجميع المأمورين بتحقيق الثواب والعقاب ، أو لكونه معيارا لتقييم الأعمال

١٤٣

الإنسانية ومقدار ثوابها وعقوبتها.

الجدير بالملاحظة أنّ تعبير (إمام) ورد في بعض آيات القرآن الكريم للتعبير عن «التوراة» حيث يقول سبحانه وتعالى :( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ) .

وإطلاق كلمة «إمام» في هذه الآية على «التوراة» يشير إلى المعارف والأحكام والأوامر الواردة في التوراة ، وكذلك للدلائل والإشارات المذكورة بحقّ نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففي كلّ هذه الأمور يمكن للتوراة أن تكون قائدا وإماما للخلق ، وبناء على ذلك فإنّ الكلمة المزبورة لها معنى متناسب مع مفهومها الأصلي في كلّ مورد استعمال.

* * *

مسألتان

١ ـ أنواع الكتب التي تثبت بها أعمال الناس

يستفاد من الآيات القرآنية الكريمة أنّ أعمال الإنسان تدون وتضبط في أكثر من كتاب ، حتّى لا يبقى له حجّة أو غدر يوم الحساب.

أوّلها : «صحيفة الأعمال الشخصية» التي تحصى جميع أعمال الفرد على مدى عمره( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (١) .

هناك حيث تتعالى صرخات المجرمين( يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .(٢) وهو الكتاب الذي يأخذه المحسنون في أيمانهم والمسيئون في شمائلهم ـ الحاقّة ١٩ و ٢٥.

ثانيا : «صحيفة أعمال الامّة» والتي تبيّن الخطوط الاجتماعية لحياتها ، كما

__________________

(١) الإسراء ، ١٤.

(٢) الكهف ، ٤٩.

١٤٤

يقول القرآن الكريم :( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ) .(١)

وثالثها : «اللوح المحفوظ» وهو الكتاب الجامع ، ليس لأعمال جميع البشر من الأوّلين والآخرين فقط ، بل لجميع الحوادث العالمية ، وشاهد آخر على أعمال بني آدم في ذلك المشهد العظيم ، وفي الحقيقة فهو إمام لملائكة الحساب وملائكة الثواب والعقاب.

٢ ـ كلّ شيء أحصيناه

ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل بأرض قرعاء ، فقال لأصحابه : «ائتوا بحطب ، فقالوا : يا رسول الله ، نحن بأرض قرعاء! قال : فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاءوا به حتّى رموا بين يديه ، بعضه على بعض ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . هكذا تجمع الذنوب ، ثمّ قال : إيّاكم والمحقّرات من الذنوب ، فإنّ لكلّ شيء ، طالبا ، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين»(٢) .

هذا الحديث المؤثّر ، صورة معبّرة عن أنّ تراكم صغائر الذنوب والمعاصي يمكنه أن يولد نارا عظيمة اللهب.

في حديث آخر ورد أنّ «بني سلمة» كانوا في ناحية المدينة ، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد ، فنزلت هذه الآية( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ آثاركم تكتب» ـ أي خطواتكم التي تخطونها إلى المسجد ، وسوف تثابون عليها ـ فلم ينتقلوا(٣) .

__________________

(١) الجاثية ، ٢٨.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٧٨ ، ح ٢٥.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ١٥ ، ص ١٢ ، نقل هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري ، كما في صحيح الترمذي وجاء مثله في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري أيضا ، وقد ذكره مفسّرون آخرون كالآلوسي والفخر الرازي والطبرسي والعلّامة الطباطبائي ـ أيضا ـ بتفاوت يسير.

١٤٥

اتّضح إذا أنّ مفهوم الآية واسع وشامل ، وله في كلّ من تلك الأمور التي ذكرناها مصداق.

وقد يبدو عدم انسجام ما ذكرنا مع ما ورد من «أهل البيت»عليهم‌السلام حول تفسير «إمام مبين» بأمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام. كما ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام : «لمّا أنزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا : يا رسول الله ، هو التوراة؟ قال : لا ، قالا : فهو الإنجيل؟ قال : لا ، قالا : فهو القرآن؟ قال : لا ، قال : فأقبل أمير المؤمنين عليعليه‌السلام فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو هذا ، إنّه الإمام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كلّ شيء»(١) .

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال : «أنا والله الإمام المبين ، أبيّن الحقّ من الباطل ، ورثته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٢) .

فمع أنّ بعض المفسّرين من أمثال «الآلوسي» ، قد إستاء كثيرا من عملية نقل أمثال هذه الروايات من طرق الشيعة ، ونسبهم لذلك إلى عدم المعرفة والاطلاع وعدم التمكّن من التّفسير ، إلّا أنّه بقليل من الدقّة يتّضح أنّ أمثال هذه الروايات لا تتنافى مع تفسير «الإمام المبين» بـ «اللوح المحفوظ». بلحاظ أنّ قلب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمقام الأوّل ، ثمّ يليه قلب وليّه ، ويعتبران مرآة تعكس ما في اللوح المحفوظ ، وإنّ الله سبحانه وتعالى يلهمهم القسم الأعظم ممّا هو موجود في اللوح المحفوظ ، وبذا يصبحان نموذجا من اللوح المحفوظ ، وعليه فإنّ إطلاق «الإمام المبين» عليهما ليس بالأمر العجيب ، لأنّهما فرع لذلك الأصل ، ناهيك عن أنّ وجود الإنسان الكامل ـ كما نعلم ـ يعتبر عالما صغيرا ينطوي على خلاصة العالم

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق ، باب معنى الإمام ، صفحة ٩٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٧٩.

١٤٦

الكبير ، وطبقا للشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

أتزعم أنّك جرم صغير؟

وفيك انطوى العالم الأكبر

والعجيب أنّ «الآلوسي» لا يستبعد هذا التّفسير مع إنكاره للرّوايات السالفة الذكر ، وعلى كلّ حال فليس من شكّ في كون المقصود من «الإمام المبين» هو «اللوح المحفوظ» فإنّ الروايات السالفة الذكر يمكن تطبيقها عليه «دقّق النظر!!».

* * *

١٤٧

الآيات

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) )

التّفسير

واضرب لهم مثلا أصحاب القرية :

لمتابعة البحوث الماضية في الآيات السابقة حول القرآن ونبوّة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمؤمنين الصادقين ، والكفّار المعاندين ، تطرح هذه الآيات نموذجا من موقف الأمم السابقة بهذا الصدد ، إنّ هذه الآيات وبعضا من الآيات التالية لها ،

١٤٨

والتي تشكّل بمجموعها ثماني عشرة آية ، تتحدّث حول تأريخ عدد من الأنبياء السابقين الذين بعثوا لهداية المشركين عبّاد الأوثان الذين سمّاهم القرآن الكريم( أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ) وكيف أنّهم نهضوا لمخالفة أولئك الأنبياء ، وتكذيبهم ، وكانت خاتمتهم أن أخذهم العذاب الأليم ، لتكون تنبيها لمشركي مكّة من جهة ، وتسلية للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفئة المؤمنين القليلة به في ذلك اليوم. على كلّ حال فإنّ التأكيد على إيراد هذه القصّة في قلب هذه السورة التي تعتبر هي بدورها قلب القرآن الكريم ، بسبب تشابه ظروف تلك القصّة مع ظروف المسلمين في ذلك اليوم.

أوّلا تقول الآيات الكريمة :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ) (١) .

«القرية» في الأصل اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس ، وتطلق أحيانا على نفس الناس أيضا ، لذا فمفهومها يتّسع حتّى يشمل المدن والنواحي ، وأطلقت في لغة العرب وفي القرآن المجيد مرارا على المدن المهمّة مثل «مصر» و «مكّة» وأمثالهما.

لكن ما اسم هذه القرية أو المدينة التي ذكرت في هذه الآية؟

المشهور بين المفسّرين أنّها «أنطاكية» إحدى مدن بلاد الشام. وهي إحدى المدن الرومية المشهورة قديما ، كما أنّها ضمن منطقة نفوذ تركيا جغرافيا في الحال الحاضر ، وسنتعرض إلى تفصيل الحديث عنها في البحوث الآتية إن شاء الله ، وعلى كلّ حال فإنّه يظهر جيدا من آيات هذه السورة الكريمة أنّ أهل تلك المدينة كانوا يعبدون الأصنام ، وأنّ هؤلاء الرسل جاؤوا يدعونهم إلى التوحيد ونبذ الشرك.

__________________

(١) يعتقد البعض بأنّ «أصحاب القرية» مفعول أو للفعل «اضرب» و «مثلا» مفعول ثان مقدّم ، والبعض يقول : إنّها بدل عن «مثلا» ، ولكن الظاهر رجاحة الاحتمال الأوّل.

١٤٩

بعد ذلك العرض الإجمالي العام ، تنتقل الآيات إلى تفصيل الأحداث التي جرت فتقول :( إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ) (١) .

أمّا من هم هؤلاء الرسل؟ هناك أخذ وردّ بين المفسّرين ، بعضهم قال : إنّ أسماء الإثنين «شمعون» و «يوحنا» والثالث «بولس» ، وبعضهم ذكر أسماء اخرى لهم.

وكذلك هناك أخذ ورد في أنّهم رسل الله تعالى ، أم أنّهم رسل المسيحعليه‌السلام (ولا منافاة مع قوله تعالى :( إِذْ أَرْسَلْنا ) إذ أنّ رسل المسيح رسله تعالى أيضا) ، مع أنّ ظاهر الآيات أعلاه ينسجم معه التّفسير الأوّل ، وإن كان لا فرق بالنسبة إلى النتيجة التي يريد أن يخلص إليها القرآن الكريم.

الآن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالّين قبال دعوة الرسل ، القرآن الكريم يقول : إنّهم تعلّلوا بنفس الأعذار الواهية التي يتذرّع بها الكثير من الكفّار دائما في مواجهة الأنبياء( قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ) .

فإذا كان مقرّرا أن يأتي رسول من قبل الله سبحانه ، فيجب أن يكون ملكا مقرّبا وليس إنسانا مثلنا. هذه هي الذريعة التي تذرّعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول التشريعات الإلهية ، والمحتمل أنّهم يعلمون بأنّ جميع الأنبياء على مدى التاريخ كانوا من نسل آدم ، من جملتهم إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، الذي عرف برسالته ، ومن المسلّم أنّه كان إنسانا ، وناهيك عن أنّه هل يمكن لغير الإنسان أن يدرك حاجات الإنسان ومشكلاته وآلامه؟

وثمّ لماذا أكّدت الآية أيضا على صفة «الرحمانية» لله؟ لعلّ ذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى ضمن نقله هذه الصفة في كلامهم يشعر بأنّ الجواب كامن في كلامهم ، إذ أنّ

__________________

(١) بعض المفسّرين قالوا بأنّ كلمة «إذ» هنا بدل عن «أصحاب القرية» ، وذهب آخرون بأنّها متعلّق لفعل محذوف تقديره «اذكر».

١٥٠

الله الذي شملت رحمته العالم بأسره لا بدّ أن يبعث الأنبياء والرسل لتربية النفوس والدعوة إلى الرشد والتكامل البشري.

كذلك يحتمل أيضا أن يكونوا قد أكّدوا على وصف الرحمانية لله ليقولوا بذلك أنّ الله الرحمن العطوف لا يثير المشاكل لعباده بإرسال الرسل والأنبياء ، بل إنّه يتركهم وشأنهم! وهذا المنطق الخاوي المتهاوي يتناسب مع مستوى تفكير هذه الفئة الضالّة.

على كلّ حال ، فإنّ هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جرّاء مخالفة هؤلاء القوم الضالّين ولم يضعفوا ، وفي جوابهم( قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ) ومسئوليتنا إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل واضح وبيّن فحسب.

( وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

من المسلّم به أنّهم لم يكتفوا بمجرّد الادّعاء ، أو القسم بأنّهم من قبل الله ، بل إنّ ممّا يستفاد من تعبير «البلاغ المبين» إجمالا أنّهم أظهروا دلائل ومعاجز تشير إلى صدق ادّعائهم ، وإلّا فلا مصداقية (للبلاغ المبين) ، إذ أنّ البلاغ المبين يجب أن يكون بطريقة تجعل من الميسّر للجميع أن يدركوا مراده ، وذلك لا يمكن تحقّقه إلّا من خلال بعض الدلائل والمعجزات الواضحة.

وقد ورد في بعض الرّوايات أيضا أنّ هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء بعض المرضى المستعصي علاجهم ـ بإذن الله ـ كما كان لعيسىعليه‌السلام .

ولكن الوثنيين لم يسلموا أمام ذلك المنطق الواضح وتلك المعجزات ، بل إنّهم زادوا من عنفهم في المواجهة ، وانتقلوا من مرحلة التكذيب إلى مرحلة التهديد والتعامل الشديد( قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ ) (١) .

ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم في نفس الفترة التي بعث فيها هؤلاء الأنبياء ، وكانت إمّا نتيجة معاصي هؤلاء القوم ، أو كإنذارات إلهية لهم ،

__________________

(١) تقدّم الكلام عن «التطيّر» بالتفصيل في تفسير سورة الأعراف ، الآية ١٣١ ، وذيل الآية ٤٧ من سورة النمل.

١٥١

فكما نقل بعض المفسّرين فقد توقّف نزول المطر عليهم لملمدّة(١) ، ولكنّهم لم يعتبروا من ذلك ، بل إنّهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل. ولم يكتفوا بذلك ، بل إنّهم أظهروا سوء نواياهم من خلال التهديد الصريح والعلني ، وقالوا :( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

هل أنّ «العذاب الأليم» هو تأكيد على مسألة الرجم ، أو زيادة المجازاة أكثر من الرجم وحده؟

يوجد احتمالان ، ولكن يبدو أنّ الاحتمال الثاني هو الأقرب ، لأنّ الرجم من أسوأ أنواع العذاب الذي قد ينتهي أحيانا بالموت ، ومن الممكن أن ذكر العذاب الأليم إشارة إلى أنّنا سنرجمكم إلى حدّ الموت ، أو أنّه علاوة على الرجم فإنّنا سنمارس معكم أنواعا اخرى من التعذيب التي كانت تستعمل قديما كإدخال الأسياخ المحمّاة في العيون أو صبّ الفلز المذاب في الفمّ وأمثالها.

بعض المفسّرين احتملوا أيضا أنّ (الرجم) هو تعذيب جسماني أمّا «العذاب الأليم» فهو عذاب معنوي روحي(٢) . ولكن الظاهر أنّ التّفسير الأوّل هو الأقرب.

أجل ، فلأنّ أتباع الباطل وحماة الظلم والفساد لا يملكون منطقا يمكنهم من المنازلة في الحوار ، فإنّهم يستندون دائما إلى التهديد والضغط والعنف ، غافلين عن أنّ سالكي طريق الله لن يستسلموا أمام أمثال هذه التهديدات ، بل سيزيدون من استقامتهم على الطريق ، فمنذ اليوم الأوّل الذي سلكت فيها أقدامهم طريق الدعوة إلى الله وضعوا أرواحهم على الأكف ، واستعدوا لأي نوع من الفداء والتضحية.

هنا ردّ الرسل الإلهيون بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء :( قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ ) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ذيل الآيات محلّ البحث.

(٢) وذلك في حال كون «لنرجمنّكم» من مادّة «رجم» بمعنى السبّ والاتّهام والقذف.

١٥٢

فإذا أصابكم سوء الحظّ وحوادث الشؤم ، ورحلت بركات الله عنكم ، فإنّ سبب ذلك في أعماق أرواحكم ، وفي أفكاركم المنحطّة وأعمالكم القبيحة المشؤومة ، وليس في دعوتنا ، فها أنتم ملأتم دنياكم بعبادة الأصنام وأتباع الهوى والشهوات ، وقطعتم عنكم بركات الله سبحانه وتعالى.

جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ جملة( أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ ) جملة مستقلّة وقالوا : إنّ معناها هو «هل أنّ الأنبياء إذا جاءوا وذكروكم وأنذروكم يكون جزاؤهم تهديدهم بالعذاب والعقوبة وتعتبرون وجودهم شؤما عليكم؟ وما جلبوا لكم إلّا النور والهداية والخير والبركة. فهل جواب مثل هذه الخدمة هو التهديد والكلام السيء؟!(١) .

وفي الختام قال الرسل لهؤلاء( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) .

فإنّ مشكلتكم هي الإسراف والتجاوز ، فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب ذلك هو الإسراف وتجاوز الحقّ ، وإذا أصاب مجتمعكم المصير المشؤوم فبسبب ذلك الإسراف في المعاصي والتلوّث بالشهوات ، وأخيرا ففي قبال الرغبة في العمل الصالح تهدّدون الهادفين إلى الخير بالموت ، وهذا أيضا بسبب التجاوز والإسراف.

وسوف نعود إلى شرح قصّة أولئك القوم ، وما جرى لهؤلاء الرسل ، بعد تفسير الآيات الباقية التي تكمل القصّة.

* * *

__________________

(١) التقدير هو «أئن ذكّرتم قابلتمونا بهذه الأمور» أو «أئن ذكّرتم علمتم صدق ما قلنا».

١٥٣

الآيات

( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) )

١٥٤

التّفسير

المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف!

تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصّة. والإشارة تتعلّق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة وكيف وقفوا حتّى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل.

تشرع هذه الآيات بالقول :( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) .

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسّرين أنّ اسمه «حبيب النجّار» هو من الأشخاص الذين قيّض لهم الاستماع إلى هؤلاء الرسل والإيمان وأدركوا بحقّانية دعوتهم ودقّة تعليماتهم ، وكان مؤمنا ثابت القدم في إيمانه ، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء ، أسرع ـ كما يستشفّ من كلمة يسعى ـ وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحقّ بما استطاع. بل إنّه لم يدّخر وسعا في ذلك.

التعبير بـ «رجل» بصورة النكرة يحتمل انّه إشارة إلى أنّه كان فردا عاديا ، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع ، وسلك طريقه فردا وحيدا. وكيف أنّه في نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والإيمان مدافعا عن الحقّ ، لكي يأخذ المؤمنين في عصر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درسا بأنّهم وإن كانوا قلّة في عصر صدر الإسلام ، إلّا أنّ المسؤولية تبقى على عواتقهم ، وأنّ السكوت غير جائز حتّى للفرد الواحد.

التعبير بـ «أقصى المدينة» يدلّل على أنّ دعوة هؤلاء الأنبياء وصلت إلى النقاط البعيدة من المدينة ، وأثّرت على القلوب المهيّأة للإيمان ، ناهيك عن أنّ أطراف المدن عادة تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول

١٥٥

الحقّ والتصديق به ، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرفّهة تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحقّ.

التعبير بـ «يا قوم» يوضّح حرقة هذا الرجل وتألمّه على أهل مدينته ، ودعوته إيّاهم إلى اتّباع الرسل ، تلك الدعوة التي لم تكن لتحقّق له أي نفع شخصي.

والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد ، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته؟

فقد أشار أوّلا إلى هذه القضيّة( اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ) . فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل ، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة ماديّة شخصية ، ولا يريدون منكم مالا ولا جاها ولا مقاما ، وحتّى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة : لا يريدون منكم أجرا ولا أي شيء آخر.

وهذا ما أكّدت عليه الآيات القرآنية مرارا فيما يخصّ الأنبياء العظام ، كدليل على إخلاصهم وصفاء قلوبهم ، وفي سورة الشعراء وحدها تكرّرت هذه الجملة خمس مرّات( وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) (١) .

ثمّ يضيف : إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون :( وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) إشارة إلى أنّ عدم الاستجابة لدعوة ما إنّما يكون لأحد سببين : إمّا لأنّ تلك الدعوة باطلة وتؤدّي إلى الضلال والضياع ، أو لأنّها حقّ ولكن الدعاة لها يكتسبون من تلك الدعوة منافع شخصية لهم ممّا يؤدّي إلى تشويه النظرة إلى تلك الدعوة ، ولكن حينما لا يكون هذا ولا ذاك فما معنى التردّد والتباطؤ عن الاستجابة.

ثمّ ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء الرسل ، فيقول :( وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) .

فإنّ من هو أهل لأن يعبد هو الخالق والمالك والوهّاب ، وليس الأصنام التي لا

__________________

(١) الآيات : ١٠٩ ـ ١٢٧ ـ ١٤٥ ـ ١٦٤ ـ ١٨٠.

١٥٦

تضرّ ولا تنفع ، الفطرة السليمة تقول : يجب أن تعبدوا الخالق لا تلك المخلوقات التافهة.

والتأكيد على «فطرني» لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضا وهو : إنّني حينما أرجع إلى الفطرة الأصيلة في نفسي ألاحظ بوضوح أنّ هناك صوتا يدعوني إلى عبادة خالقي ، دعوة تنسجم مع العقل ، فكيف أغضّ الطرف إذا عن دعوة تؤيّدها فطرتي وعقلي؟!

والملفت للنظر أنّه لا يقول : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ بل يقول :( وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) لكي يكون بشروعه بالحديث عن نفسه أكثر تأثيرا في النفوس وبعد ذلك ينبّه إلى أنّ المرجع والمآل إلى الله سبحانه فيقول :( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

أي : لا تتصوّروا أنّ الله له الأثر والفاعلية في حياتكم الدنيا فقط ، بل إنّ مصيركم في العالم الآخر إليه أيضا ، فتوجّهوا إلى من يملك مصيركم في الدارين.

وفي ثالث استدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية لله بنفي العبودية للأصنام ، فيكمل قائلا :( أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ ) .

هنا أيضا يتحدّث عن نفسه حتّى لا يظهر من حديثه أنّه يقصد الإمرة والاستعلاء عليهم ، وفي الحقيقة هو يحدّد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما يقولون : نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعا لنا أمام الله ، فكأنّه يقول : أيّة شفاعة؟ وأي معونة ونجاة تريدون منها؟ فهي بذاتها محتاجة إلى مساعدتكم وحمايتكم ، فما ذا يمكنها أن تفعل لكم في الشدائد والملمّات؟

التعبير بـ «الرحمن» هنا علاوة على أنّه إشارة إلى سعة رحمة الله وأنّه سبب لكلّ النعم والمواهب ، وذلك بحدّ ذاته دليل على توحيد العبادة ، فإنّه يوضّح أنّ الله الرحمن لا يريدون أحدا بضرّ ، إلّا إذا أوصلت الإنسان مخالفاته إلى أن يخرج من

١٥٧

رحمة الله ويلقي بنفسه في وادي غضبه.

ثمّ يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر : إنّي حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكا لله فإنّي سأكون في ضلال بعيد :( إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فأي ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنبا إلى جنب خالق السموات والأرض!!

وعند ما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من استعراض تلك الاستدلالات والتبليغات المؤثّرة أعلن لجميع الحاضرين( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) .

أمّا من هو المخاطب في هذه الجملة( فَاسْمَعُونِ ) والجملة السابقة لها( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ ) ؟

ظاهر الآيات السابقة يشير إلى أنّهم تلك المجموعة من المشركين وعبدة الأوثان الذي كانوا في تلك المدينة ، والتعبير بـ «ربّكم» لا ينافي هذا المعنى أيضا ، إذ أنّ هذا التعبير ورد في الكثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدّث عن الكفّار حينما تستعرض الاستدلالات التوحيدية(١) .

وجملة «فاسمعون» لا تنافي ما قلنا ، لأنّ هذه الجملة كانت دعوة لهم لاتّباع قوله ، بالضبط كما ورد في قصّة مؤمن آل فرعون حيث قال :( يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ) غافر ـ ٣٨.

ومن هنا يتّضح أنّ ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المخاطب في هذه الجملة هم أولئك الرسل ، والتعبير بـ «ربّكم» وجملة «فاسمعون» قرينة على ذلك ـ لا يقوم عليه دليل سليم.

لكن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك المؤمن الطاهر؟

القرآن لا يصرّح بشيء حول ذلك ، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنّهم ثاروا عليه وقتلوه.

__________________

(١) راجع الآيات ٣ و ٣٢ يونس ـ ٣ و ٥٢ هود ـ ٢٤ النمل ٢٩ ـ الكهف وغيرها.

١٥٨

نعم فإنّ حديثه المثير والباعث على الحماس والمليء بالاستدلالات القويّة الدامغة ، واللفتات الخاصّة والنافذة إلى القلب ، ليس لم يكن لها الأثر الإيجابي في تلك القلوب السوداء المليئة بالمكر والغرور فحسب ، بل إنّها على العكس أثارت فيها الحقد والبغضاء وسعرت فيها نار العداوة ، بحيث أنّهم نهضوا إلى ذلك الرجل الشجاع وقتلوه بمنتهى القسوة والغلظة. وقيل انّهم رموه بالحجارة ، وهو يقول : اللهمّ اهد قومي ، حتّى قتلوه(١) .

وفي رواية اخرى أنّهم وطؤوه بأرجلهم حتّى مات(٢) .

ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) وهذا التعبير ورد في خصوص شهداء طريق الحقّ في آيات أخرى من القرآن الكريم( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) .(٣)

والجدير بالذكر والملاحظة أنّ هذا التعبير يدلّل على أنّ دخوله الجنّة كان مقترنا باستشهاده شهادة هذا الرجل المؤمن ، بحيث أنّ الفاصلة بين الإثنين قليلة إلى درجة أنّ القرآن المجيد بتعبيره اللطيف ذكر دخوله الجنّة بدلا عن شهادته ، فما أقرب طريق الشهداء إلى السعادة الدائمة!!

وواضح أنّ المقصود من الجنّة هنا ، هي (جنّة البرزخ) لأنّه يستفاد من الآيات ومن الرّوايات أنّ الجنّة الخالدة في يوم القيامة ستكون نصيب المؤمنين ، كما أنّ جهنّم ستكون نصيب المجرمين.

وعليه فإنّ هناك جنّة وجهنّم أخريين في عالم البرزخ ، وهما نموذج من جنّة وجهنّم يوم القيامة ، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال : «والقبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النار»(٤) .

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٥ ، ص ١٨ و ١٩.

(٢) تفسير التبيان ، ج ٨ ، ص ٤١٤.

(٣) آل عمران ، ١٦٩.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ٢١٨.

١٥٩

وما احتمله البعض من أنّ هذه الجملة إشارة إلى خطاب يخاطب به هذا المؤمن الشهم في يوم القيامة ، وأنّها تحوي جنبة مستقبلية ، فهو خلاف لظاهر الآية.

على كلّ حال فإنّ روح ذلك المؤمن الطاهرة ، عرجت إلى السماء إلى جوار رحمة الله وفي نعيم الجنان ، وهناك لم تكن له سوى امنية واحدة( قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ) .

يا ليت قومي يعلمون بأي شيء( بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) (١) .

أي : ليست أنّ لهم عين تبصر الحقّ ، لهم عين غير محجوبة بالحجب الدنيوية الكثيفة والثقيلة ، فيروا ما حجب عنهم من النعمة والإكرام والاحترام من قبل الله ، ويعلموا أي لطف شملني به الله في قبال عدوانهم عليّ

لو أنّهم يبصرون ويؤمنون ، ولكن يا حسرة!!

في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يخصّ هذا المؤمن «إنّه نصح لهم في حياته وبعد موته»(٢) .

ومن الجدير بالملاحظة أنّه تحدّث أوّلا عن نعمة الغفران الإلهي ، ثمّ عن الإكرام ، إذ يجب أوّلا غسل الروح الإنسانية بماء المغفرة لتنقيتها من الذنوب ، وحينها تأخذ محلّها على بساط القرب والإكرام الإلهي.

والجدير بالتأمّل أنّ الإكرام والاحترام والتجليل ، وإن كان من نصيب الكثير من العباد ، وأصولا فإنّه ـ أي الإكرام ـ يتعاظم مع «التقوى» جنبا إلى جنب ،( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (٣) . ولكن (الإكرام) بشكل مطلق وبدون أدنى قيد أو شرط جاء في القرآن الكريم خاصا لمجموعتين :

__________________

(١) بخصوص موقع (ما) في الجملة احتملت ثلاثة احتمالات : إمّا مصدرية ، أو موصولة ، أو استفهامية ، ولكن يبدو أنّ احتمال كونها استفهامية بعيد ، ويبقى أنّ الأقرب كونها موصولة ، مع أنّ المعنى لا يختلف كثيرا حينما تكون مصدرية.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلّد ٨ ، ـ صفحة ٢٠.

(٣) الحجرات ، ١٣.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543