مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109729 / تحميل: 7680
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢١-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

كونها أصنافاً كثيرة مختلفة المراتب كجنود السلاطين ، والاختلاف هنا من حيث استعداد الذات ومختلف الصفات. فالمتجانس والمتشابه منها في الأوصاف يميل بعضها إلى بعض ، والمتخالف فيها يتباعد ويتباغض ، قال تعالى :( الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ) (١) .

وفي الحديث في أوصافها : «إن الروح حياتها علمها ، وموتها جهلها ، ومرضها شكها ، وصحتها يقينها ، ونومها غفلتها ، ويقظتها حفظها »(٢) .

وفيه أيضاً : « ألناس معادن كمعادن الذهب والفضة »(٣) أي : كما أن أجناس المعادن مختلفة في الصفات والخواص والآثار وبها تختلف قيمتها ورغبات الناس فيها فكذلك أرواح الناس فهم مختلفون في الصفات والحالات والملكات تتجلى أنوار الطيبات منها من أفق الأبدان وتظهر ثمراتها من أفنان الأعضاء. وتترائي كدورة الخبائث منها وظلماتها من وراء الأقوال والأفعال.

الأمر السابع : قال الصدوقرحمه‌الله : اعتقادنا في الروح أنها خلقت للبقاء لا للفناء ، لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما خلقتم للفناء ، بل خلقتم للبقاء ، وإنما تنقلون من دار إلى دار »(٤) . واعتقادنا فيها أنها إذا فارقت الأبدان فهي باقية ، منها منعمة ومنها معذبة إلى أن يردها الله إلى أبدانها ، قال الله تعالى :( ولا

__________________

١ ـ النور : ٢٦.

٢ ـ بحار الأنوار : ج٦١ ، ص٤٠.

٣ ـ بحار الأنوار : ج ٦١ ، ص ٦٥ ـ مرآة العقول : ج٩ ، ص ٢٥ ـ من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ، ص ٣٨٠.

٤ ـ بحار الأنوار : ج ٦ ، ص ٢٤٩.

٢١

تحسبن الذين ...) .

وقال المفيدرحمه‌الله ما حاصله : إن الأرواح بعد الأجساد على ضربين : منها ما ينقل إلى الثواب أو العقاب ، ومنها ما يبطل فلا يشعر بثواب ولا عقاب. وقد روي عن الصادقعليه‌السلام ما ذكرنا ، وسئل عمن مات أين تكون روحه؟ فقالعليه‌السلام : «من مات وهو ماحض للايمان محضاً يجعل في جنان من جنان الله ، يتنعم فيها إلى يوم المآب »(١) .

وشاهد ذلك ما حكاه الله تعالى عن قول حبيب النجار بمجرد قتله ودخوله في عالم البرزخ :( قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) (٢) ومن ماحض الكفر محضاً يجعل في النار فيعذب بها إلى يوم القيامة ، وشاهد ذلك قوله تعالى في آل فرعون بعد أن أهلكهم الله :( النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ) (٣) والغدو والعشي من شؤون برزخ الدنيا. وقال تعالى في الضرب الاخر :( إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً ) (٤) . فبين أن قوماً عند الحشر لا يعلمون مقدار لبثهم في القبور حتى يظن بعضهم أن ذلك كان يوماً ، ولا يمكن ذلك في حق من لم يزل منعماً ، أو لم يزل معذباً إلى يوم القيامة.

وهل المنعم والمعذب بعد الموت ، الروح أو الجسد الذي فيه الحياة؟ الأظهر عندي أنه الجوهر المخاطب ، وهو الروح التي توجه اليها

__________________

١ ـ بحار الانوار : ج ٦١ ، ص ٨١.

٢ ـ يس : ٢٦.

٣ ـ غافر : ٤٦.

٤ ـ طه : ١٠٤.

٢٢

الأمر والنهي والتكليف. فيجعل الله للأرواح أجساماً كأجسامهم في دار الدنيا ، ينعم مؤمنيهم ويعذب كفارهم وفساقهم دون أجسامهم التي في القبور يشاهدها الناظرون وتتفرق وتندرس. وهذا مذهبي في النفس ، ومعنى الإنسان المكلف عندي ، ولا أعلم بيني وبين فقهاء الامامية وأصحاب الحديث فيه اختلافاً ، انتهى.

وقال المحقق الطوسي فيما يشير إليه الإنسان بقوله : أنا : ( فيكون جوهراً عالماً والبدن وسائر الجوارح آلاته في أفعاله ، ونحن نسميه هاهنا : الروح ).

الأمر الثامن : النفس سلطان الجوارح ، وتسلطها عليها من أنفذ السلطات ، فبإرادتها تتحرك الأعظاء وتسكن. ولا تخلف لإرادتها عن وقوع المراد ، وهذا من أحسن أمثلة تسلط الرب تعالى على خلقه ونفوذ مشيئته فيما شاء وأراد ، وإن كان بينهما فرق واضح فإن النفس فضلاً عن تسلطها ، حادثة. ووجودها مفاض من إرادة الرب ، وأنه قد يحدث للأعضاء خلل ونقص لا يؤثر فيها إرادة النفس ، ولا يكون ذلك في إرادة الله ، وبهذه الملاحظة أطلق على النفس والقلب : إمام الأعضاء ومرجعها وهاديها ورئيسها المتولي لأمرها.

ففي مباحثة هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد التي نقلها للصادقعليه‌السلام فأمضاها وأقسم بالله تعالى على كونها مكتوبة في صحف إبراهيم وموسى : ( قال : قلت له : ألك قلب؟ قال : نعم ، قلت : وما تصنع به؟ قال : أميز كل ما ورد على هذه الجوارح. قلت : أفليس في هذه الجوارح

٢٣

غنيً عن القلب؟ قال : لا ، قلت : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال : يا بني ، إن الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته أو لمسته ردته إلى القلب فييقن اليقين ويبطل الشك ، قلت : إنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال : نعم ، قلت : فلا بد من القلب وإلا لم يستقم الجوارح قال : نعم ، فقلت : يا أبا مروان ، إن الله لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يصحح لهم الصحيح وييقن ما شك فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردون إليهم شكهم وحيرتهم. قال : فسكت ولم يقل شيئاً )(١) .

وفي خبر إبن سنان : (إعلم : أن منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم ، ألا ترى أن جميع جوارح الجسد شرط للقلب وتراجمة له مؤدية عنه )(٢) . الشرط كصرد جمع شرطة : أعوان الولاة.

وفي توحيد المفضل : (فكر يا مفضل في الأفعال التي جعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبر فيها ، فإنه جعل لكل واحدٍ منها في انطباع نفسه محرك يقتضيه ويستحث به ، وقال : فانظر كيف جعل لكل واح من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان وصلاحه محرك من نفس الطبع يحركه كذلك ويحدوه عليه )(٣) ويحدوه أي : يحثه ويحركه.

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : (سبحان الذي جمع من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها ، وفكر يتصرف بها ، وجوارح

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ٦١ ، ص ٢٤٩.

٢ ـ علل الشرايع : ص ١٠٩ ـ بحار الأنوار : ج ٦١ ، ص٢٤٩ ـ ج٧٠ ، ص ٢٥٥.

٣ ـ توحيد المفضل : ص٧٥ ـ بحار الأنوار : ج٦١ ، ص٢٥٥.

٢٤

يختدمها وأدوات يقلبها ، ومعرفةٍ يفرق بها بين الحق والباطل ، والأذواق والمشام والألوان والأجناس )(١) .

ووصف عليعليه‌السلام في نهج البلاغة قلب الإنسان وروحه بأن له مواد من الحكمة وأضداد من خلافها ، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ ، وإن غاله الخوف شغله الحذر ، وإن اتسع له الأمن استلبته الغرة ، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى ـ(٢) الخ ـ.

ثم إنه لا يخفى عليك أن الكلام في تشريح حقيقة الإنسان والنفس والروح رفيع المرقى صعب المنال ، والأقوال ـ في كيفية خلقه وتكوينه بجسمه وبدنه فضلاً عن روحه ونفسه وأن روحه مخلوقة قبل الأبدان بألفي عام أو أقل أو أكثر كما ورد بذلك نصوص كثيرة ، أو أنها مخلوقة من الأبدان ومكونة عنها كما أشرنا إليه ـ كثيرة مختلفة ، بل قد تنتهي إلى عشرة أو أكثر ، ولم يكن البحث في ذلك من أغراض هذا الكتاب. وكان ما ذكرنا من الآيات والنصوص وبعض الأقوال في ذلك إيضاحاً إجمالياً بالمقدار الميسور لموضوع علم الأخلاق وموضوع البحث.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١.

٢ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٠٨.

٢٥

 

٢٦

الدرس الأول

في بيان مما يدل على صلاح القلب وفساده

وليعلم أولاً : أن المقصد الأعلى والغرض الأسمى في هذا العلم السعي في إصلاح القلب وإكماله ، وتطهيره وتزكيته عن ذمائم الصفات ، وتزيينه وتحليته لفضائل السجايا وفواضل الملكات ، ليستعد على الاستفاضة من إنارة الألطاف الرحمانية وإضافة المعارف الالهية من حضرة ذي الجلال. فبالقلب شرف الإنسان وبه فضيلته على كثير من الخلق ، وبه ينال معرفة ربه التي هي في الدنيا شرفه وجماله ، وفي الآخرة مقامه وكماله. فالقلب هو العالم بالله ، والعامل لله ، والساعي إلى الله ، والمتقرب إلى جوار الله ، والجوارح أتباع وخدم يستعملها استعمال الملك للعبيد والصانع للآلة.

والقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من الآفات ، والمحجوب عن الله تعالى إذا استغرق في الشهوات وهو الذي يفلح الإنسان إذا زكاه ويخيب ويشقى إذا دساه وهو المطيع لله على الحقيقة والمشرق على الجوارح أنواره وهو العاصي في الواقع

٢٧

والظاهر على الأعضاء آثاره وباستنارته وظلمته تظهر محاسن الظن ومساويه ، إذا كل إناء يترشح بما فيه.

وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه ، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه ، وإذا جهله جهل نفسه ، واذا جهل نفسه فقد جهل ربه.

وهو الذي جهله أكثر الناس وغفلوا عن عرفانه ، وحيل بينهم وبينه بمعاصيهم والحائل هو الله ، فإنه يحول بين المرء وقلبه ، وينسى الإنسان نفسه ويضله ولا يهديه. ولا يوفقه لمشاهدته ومراقبته ومعرفة صفاته ، فمعرفة القلب وأحواله وأوصافه أصل الأخلاق وأساس طريق الكمال.

والقلب لطيفة ربانية روحانية لها تعلق بالبدن شبه تعلق الأعراض بالأجسام ، أو تعلق المستعمل بالآلة ، أو المكين بالمكان.

والروح أيضاً عبارة عن هذه اللطيفة الربانية العالمة المدركة ، وهو أمر عجيب رباني يعجز العقول عن إدراك كنهه.

والنفس أيضاً هي اللطيفة المذكورة ، وهي الإنسان في الحقيقة ، وتتصف بأوصاف مختلفة بحسب أحوالها ، فإذا سكنت تحت أمر الله وزال عنها الاضطراب لثقتها بالله ولم تتزلزل ولم تضطرب ولم تنحرف عن سبيل الله وطريق الحق عند معارضة الشهوات سميت بـ « النفس المطمئنة ». وإذا لم يتم سكونها ولكن كانت مدافعة عن نفسها معارضة مع ما تقتضيه شهواتها سميت بـ « النفس اللوامة ». وإن أذعنت وأطاعت للشهوات ودواعي الهوى والشياطين سميت بـ « النفس الأمارة بالسوء ».

ثم إن طريق تسلط الشيطان على القلب : الحواس الخمس الظاهرة والقوى الباطنة : كالخيال والشهوة والغضب. فالقلب يتأثر دائماً من هذه الجهات ، وأخص

٢٨

الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر ، والخواطر هي المحركات للإرادات ، فإن سند الأفعال الخواطر ، والخاطر يحرك الرغبة ، والرغبة تحرك العزم والنية ، والنية هي الإرادة التي تحرك العضلات والأعضاء.

والخواطر المحركة قسمان : قسم يدعوا إلى الخير ، وهو ما ينفع الإنسان في العاقبة ، وقسم يدعوا إلى الشر وهو ما يضره في العاقبة ، والخاطر المحمود إلهام ، والمذموم وسوسة ، وسبب الخاطر الداعي إلى الخير في الغالب هو الملك ، وإلى الشر هو الشيطان.

والملك خلق من خلق الله ، شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالمعروف. والشيطان خلق على ضد ذلك. شأنه الوعد بالشر والأمر بالفحشاء ، والتخويف بالفقر عند الهم بالخير ، ولعل المقام من مصاديق قوله تعالى :( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) (١) فإن الموجودات متقابلة مزدوجة بمعان مختلفة. وقد ورد أنه للقلب لمتان : لمة من الملك ولمة من الشيطان ، واللمة : الخطوة والدنو والمساس. وورد أيضاً : إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمان(٢) ، أي : بين خلقين مقهورين بإرادة الله التكوينية كالإصبع من صاحبها وهما : الملك والشيطان ومعنى كونه بينهما أن الله يخلي بينه وبين أي منهما أراد حسب اقتضاء عمل الإنسان ورغبته ودعائه.

ثم إن القلب بأصل الفطرة صالح مستعد لقبول دعوات الملك والشيطان ويترجح أحدهما على الآخر باتباع الهوى والشهوات أو الإعراض عنها والميل إلى الطاعات ، فإن اتبع الإنسان مقتضى الأول تسلط عليه الشيطان وصار القلب عشاً له ، وصار صاحبه ممن باض الشيطان وفّرح في صدره ودب ودرج في حجره. وإن

__________________

١ ـ الذاريات : ٥١.

٢ ـ المحجة البيضاء : ج٥ ، ص ٨٥ ـ بحار الانور : ج ٧٠ ، ص ٣٩ ـ مرآة العقول : ج ١٠ ، ص ٣٩٤.

٢٩

جاهد في مخالفة الشهوات كان قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم وعاد صاحبه ممن سبقت له من الله الحسنى ، وقد قال تعالى :( وقل رب أعوذ من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ) (١) .

وذكرنا هذا ليسهل عليك فهم ما سوف نذكره من الأحاديث المقصودة واستفدنا ذلك من كلمات بعض المحققين على ما نقله عنه الفاضل المجلسيقدس‌سره في جعليه‌السلام ٠ من البحار.

وأما النصوص الواردة في بيان القلب وحالاته فعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «في الإنسان مضغة إذا هي سلمت وصحت سلم بها سائر الجسد ، فإذا سقمت سقم لها سائر الجسد وفسد ، وهي القلب »(٢) . والمراد بالقلب : الروح الإنساني التي لها تعلق خاص بالقلب الصنوبري ، والمراد من صحتها : حصول صفة التسليم لها ، ومن مرضها : عروض الطغيان عليها ، وسلامة سائر الجسد عدم صدور المعاصي منه ، وسقمه صدورها عنه. وهذا هو المراد من قولهعليه‌السلام :« إذا طاب قلب المرء طاب جسده ، وإذا خبث القلب خبث الجسد »(٣) . وكذا من قول عليعليه‌السلام : «أشد من مرض البدن مرض القلب ، وأفضل من صحة البدن تقوى القلوب »(٤) .

وفي صحيح أبان عن الصادقعليه‌السلام : «ما من مؤمن إلا لقلبه أذنان في جوفه : أذن ينفث فيها الوسواس الخناس ، وأذن ينفث فيها الملك ، فيؤيد الله المؤمن بالملك وذلك قوله : وأيدهم بروح منه »(٥) . وورد في النصوص : أن للقلب أذنين ، فإذا هم العبد

__________________

١ ـ المؤمنون : ٩٧ ـ ٩٨.

٢ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص ٥٠ ـ الخصال ص٣١.

٣ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٥٠ ـ الخصال ص ٣١ ـ نور الثقلين : ج٣ ، ص ٥٨٥.

٤ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٥١.

٥ ـ بحار الأنوار : ج٦٣ ، ص١٩٤ ـ ج٦٩ ، ص٢٦٧ ـ ج٧٠ ، ص٤٨ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٢٦٧ ـ مرآة العقول : ج٩ ، ص٣٩٢ ـ نور الثقلين : ج٥ ، ص٢٦٩.

٣٠

بذنب قال له روح الإيمان : لا تفعل ، وقال له الشيطان : إفعل(١) .

وأن بعض القلوب منكوس لا يعي الخير أبداً ، وبعضها فيه الخير والشر يعتلجان ، وبعضها مفتوح فيه مصباح يزهر ولا يطفأ نوره(٢) .

وأن من علائم الشقاء قسوة القلب والحرص على الدنيا والإصرار على الذنب وجمود العين(٣) .

وأنه إذا أراد الله بعبد خيراً فتح عيني قلبه فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه(٤) .

وأن للقلب أذنين ، الملك وروح الإيمان يساره ويأمره بالخير ، والشيطان يساره ويأمره بالشر ، فأيهما ظهر على صاحبه غلب(٥) .

وأن قلوب المؤمنين مطوية بالأيمان طياً ، فإذا أراد الله إنارة ما فيها فتحها بالوحي(٦) .

وأن الخطيئة أفسد شيء للقلب. فما تزال به حتى تجعله منكوساً(٧) .

وأنه ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب ، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب(٨) .

وأن للقلب إعراباً كالحروف ، فرفع القلب اشتغاله بذكر الله ، وفتحه رضاه

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٤٤.

٢ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص ٥١.

٣ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٥٢.

٤ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص ٥٣.

٥ ـ نفس المصدر السابق.

٦ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٥٤.

٧ ـ نفس المصدر السابق.

٨ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٥٥.

٣١

عن الله ، وخفضه اشتغاله بغير الله ، ووقفه غفلته عن الله(١) .

وأن لله في عباده آنية وهو القلب ، فأحبها إليه أصفاها وأصلبها وأرقها أصفاها من الذنوب وأصلبها في دين الله وأرقها على الأخوان(٢) .

وأن القلوب مرة يصعب عليها الأمر فتحب الدنيا ، ومرة يسهل فترق وتسلوا عن الدنيا ويحقر عنده ما في أيدي الناس من الأموال حتى كأنها تعاين الآخرة والجنة والنار(٣) .

وأنه لو دامت على هذه الحالة لصافحت الملائكة ومشت على الماء(٤) .

وأن للقلب اضطراباً عند طلب الحق وخوفاً ، فإذا أصابه اطمأن به ، فإن من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام. ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء(٥) .

وأن الله يحول بين المرء وقلبه ، والحيلولة : أن لا يأتي بشيء مما يشتيهيه من الحرام إلا وهو ينكره ويعلم أن ذلك باطل ، ولا يستيقن أن الحق باطل أبداً ، ولا يستيقن أن الباطل حق أبداً(٦) .

وأن لله خزانة أعظم من العرش وأوسع من الكرسي وأطيب من الجنة وهي القلب(٧) .

 وأنه يأتي عليه تارات أو ساعات ليس فيه إيمان ولا كفر شبه الخرقة

__________________

١ ـ نفس المصدر السابق.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص٥٦.

٣ ـ نفس المصدر السابق.

٤ ـ بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص٥٧.

٥ ـ نفس المصدر السابق.

٦ ـ بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص٥٨.

٧ ـ بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص٥٩.

٣٢

البالية(١) .

وأن قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر(٢) .

وأن القلب السليم هو الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه(٣) .

وأنه لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت(٤) .

وأنه إذا نشطت القلوب فأودعوها ، وإذا نفرت فودعوها(٥) ، فإنه إذا أكره عمى(٦) .

__________________

١ ـ نفس المصدر السابق.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

٣ ـ نفس المصدر السابق.

٤ ـ نفس المصدر السابق.

٥ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٦٠.

٦ ـ بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص٦١.

٣٣

٣٤

الدرس الثاني

في محاسبة النفس ومراقبتها

قال تعالى :( ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ ) .(١) المخاطب المأمور ، هو الإنسان أمر بالنظر إلى أعماله التي تحصّلها وتقدمها أمامه لآخرته ، ولازمه النظر إلى من تصدر عنه الأعمال ومعرفته وهو نفسه أيضاً ، فالناظر : النفس باعتبار قوتها العاقلة المدركة المميزة بين الحق والباطل ، الداعية إلى الصلاح والسعادة ، والمنظور إليه أيضاً ذاتها باعتبار صفاتها وغرائزها الداعية إلى الانحراف عن الحق واتباع الهوى والشهوات ، والأمر للارشاد ، فأرشد الله تعالى نفس كل إنسان إلى النظر في نفسها وما هي عليه من العقائد والملكات والأعمال ، فإن جميع ذلك مما يقدمه الإنسان لآخرته ، إيماناً أو كفراً ، فضيلة أو رذيلة ، طاعة أو عصياناً ، والجامع لجميعها سعادة أو شقاوة ، ولا يكون النظر إلا ممن عرف ذلك كله ، أصولها وفروعها ، وعلم بما هو النفس واجدة له أو فاقدة ، وهذه هي المحاسبة للنفس ، وتنتج ذلك القيام بإصلاحها

__________________

١ ـ الحشر : ١٨.

٣٥

وسوقها إلى مراحل تهذيبها.

والنصوص أيضاً في هذه الباب كثيرة. فقد ورد : أن العلم الذي طلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة هو علم الأنفس(١) .

وأنه على العاقل أن يكون له ساعة يحاسب فيها نفسه(٢) .

وأنه لا يزال ابن آدم بخير ما كان له واعظ من نفسه وما كانت المحاسبة من همه(٣) .

وأن من لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى(٤) .

وأن من رعى قلبه عن الغفلة ونفسه عن الشهوة وعقله عن الجهل فقد دخل في ديوان المتنبهين(٥) .

وأنه إذا رأيت مجتهداً أبلغ منك في الاجتهاد فوبخ نفسك ولمها وحثها على الازدياد(٦) .

وأن أكيس الكيّسين من حاسب نفسه(٧) .

وأنه يجب على كل إنسان أن يسأل نفسه في كل يوم عن عمل ذلك اليوم.

وأن من لم يجعل له من نفسه واعظاً فإن مواعظ الناس لن تغني عنه شيئاً(٨) .

وأنه لا يكمل إيمان العبد حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٦٨.

٢ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٦٤.

٣ ـ نفس المصدر السابق.

٤ ـ نفس المصدر السابق.

٥ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٦٨.

٦ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٦٩.

٧ ـ نفس المصدر السابق.

٨ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٧٠.

٣٦

شريكه والسيد عبده(١) .

وأن من حاسب نفسه ربح ، ومن غفل عنها خسر(٢) .

وأن الصادقعليه‌السلام قال : « حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا في مواقف القيامة(٣) .

وأن على العاقل ان يحصي على نفسه مساويها في الدين والرأي والأخلاق والأدب فيجمع ذلك في صدره أو في كتاب ويعمل في إزالتها »(٤) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٧٢.

٢ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٧٣.

٣ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٦٤.

٤ ـ بحار الأنوار : ج٧٨ ، ص٦.

٣٧

٣٨

الدرس الثالث

في مجاهدة النفس وبيان حدودها

قال تعالى :( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباك ) (١) .

وقال تعالى :( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ) (٢) .

وقال تعالى :( الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) (٣) .

الجهاد والمجاهدة : استفراغ الوسع في مدافعة العدو ونحوه ، وهو على ثلاثة أضرب : مجاهدة العدو الظاهر من إنسان وغيره ، ومجاهدة الشيطان ، ومجاهدة النفس وهواها ، والجميع داخل في المراد من الآيات الشريفة. والأمر بالجهاد والحث عليه في هذه الآيات بالنسبة إلى جهاد النفس إرشاد إلى ما يدركه العقل بنفسه ، فإن جهاد النفس في الحقيقة عبارة عن فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمشتبهات ، والقيام بذلك شكر للمنعم وهو واجب عقلاً ، وتركها سبب

__________________

١ ـ الحج : ٧٨.

٢ ـ العنكبوت : ٦.

٣ ـ العنكبوت : ٦٩.

٣٩

للوقوع في ضرر الهلكة والعذاب الأليم ، ورفع الضرر واجب عقلاً ، فالأوامر في هذه الآيات كأوامر الاطاعة والتسليم والاتباع لله ورسوله من الآيات الكريمة وكذا النصوص الحاثة على ذلك من السنة كلها إرشادات الهية ونبوية وولوية يترتب على موافقتها سعادة الإنسان وعلى مخالفتها شقاوته.

والأخبار الواردة في هذا الباب عن النبي الأقدس واهل بيته المعصومين : كثيرة جداً.

فقد ورد أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث سرية فلما رجعوا قال : «مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر ، قيل : يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال : جهاد النفس ، ثم قال : أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه »(١) .

وورد : أن من جاهد نفسه عن الشهوات واللذات والمعاصي فإنما يجاهد لنفسه(٢) .

وأن جهاد المرء نفسه فوق جهاده بالسيف(٣) .

وأنه سئل الرضاعليه‌السلام عما يجمع خير الدنيا والآخرة؟ فقال : خالف نفسك(٤) .

وأن من جاهد نفسه وهزم جند هواه ظفر برضا الله(٥) .

وأنه لا حجاب أظلم وأوحش بين العبد وبين الرب من النفس والهوى(٦) .

وأن أحمق الحمقاء من اتبع نفسه هواه(٧) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٦٥ ـ مجمع البحرين : ج٢ ، ص٦٨ ـ الفصول المهمة : ص٣٢٨.

٢ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٦٥.

٣ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٦٨.

٤ ـ الفقه : ص٣٩٠.

٥ ـ المحجة البيضاء : ج٨ ، ص١٧٠ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٦٩ ـ مستدرك الوسائل : ج١١ ، ص١٣٩.

٦ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٦٩.

٧ ـ بحار الأنوار : ج٧٠ ، ص٧٠.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

عليهم » فأبوا، قال: « فإنّي أُناجزكم » فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة، ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك، قال: « والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتى يهلكوا ».

ثم قال الزمخشري: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلّا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، وأما ضم الأبناء والنساء، فلأجل أنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده، وأحب الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة، وخص الأبناء والنساء لأنّهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربّما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمّون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق(١) .

إنّ معجزة النبي ـ وهي حلول العذاب على نصارى نجران ـ وإن لم تتحقّق بسبب انصراف النصارى عن المباهلة، إلّا أنّ ذهاب الرسول إلى المباهلة واستعداده لذلك من جانب، وانسحاب نصارى نجران من الدخول مع الرسول في هذا التباهل من جانب آخر، يكشفان عن أنّ حلول العذاب كان حتمياً لو تباهلوا، فقد أدركوا الخطر وأحسّوا بخطورة الموقف، فاستعدوا للمصالحة والتنازل.

__________________

(١) الكشاف: ١ / ٣٢٦ ـ ٣٢٧ ( بتلخيص يسير ) ولاحظ مجمع البيان: ١ / ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

١٠١

مطالبة النبي بالمعاجز، الواحدة بعد الأُخرى

إنّ القرآن يصرح بأنّ النبي كلّما أتى لقومه بمعجزة طالبوه بمعجزة أُخرى، وأصرّوا على أن تكون معاجزه مثل ما أُوتي رسل الله من قبل، وهذا يدل على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن فوقع مورد الاعتراض والإصرار.

قال سبحانه:( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) (١) .

فلنقف على المراد من لفظ( آيَةٌ ) الواردة في هذا المورد، فليس المراد منها نفس القرآن، ولا الآية القرآنية، لأنّ لفظ الآية كما ترى جاءت بصورة النكرة، وهي تكشف عن نوع خاص منها، بينما إذا كان المقصود هو القرآن أو الآية القرآنية، كان ينبغي أن يكون الكلام على نحو آخر، والآية نظير قوله سبحانه:( وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ ) (٢) .

والمقصود منها: كل آية معجزة، تثبت صلة الرسول بالله سبحانه نظير قوله سبحانه:( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) (٣) .

إنّ لفظ الآية يستعمل في القرآن في موارد :

١. العلامة المطلقة: فيقال هذا آية ذلك، قال سبحانه:( وَكَأَيِّن مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ *وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلا وَهُم مُشْرِكُونَ ) (٤) .

__________________

(١) الأنعام: ١٢٤.

(٢) يونس: ٩٧.

(٣) البقرة: ١٤٥.

(٤) يوسف: ١٠٥ ـ ١٠٦.

١٠٢

ومثله قوله سبحانه:( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) (١) .

وقد استعمل لفظ الآية في هذا المعنى كثيراً في القرآن الكريم، ويقصد من الآية علامة الشيء، إذا كانت دالة على وجوده سبحانه وصفاته، أو ما إذا كانت مقارنة مع العبرة، كما في قوله سبحانه:( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (٢) .

٢. الآية القرآنية: مثل قوله سبحانه:( ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ ) (٣) وقوله سبحانه:( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) (٤) .

٣. المعجزة لا بمعنى انّ الآية بمعنى المعجزة، بل بمعنى نفس العلامة ولكن مقرونة بهذا الوصف وكأنّ لفظة المعجزة مقدرة بعدها، ومن هذا القبيل قوله سبحانه:( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ ) (٥) .

وعلى الجملة فليس للفظ( الآيَةَ ) إلّا معنى واحد، وإنّما الاختلاف في المستعمل فيه، فيكون الشيء آية للعبرة، أو آية لقدرته وعلمه، أو آية لكون الآتي بها مبعوثاً من جانبه سبحانه، إلى غير ذلك، فالتمييز بين الموارد إنّما هو بحسب القرائن الحافة بالكلام.

__________________

(١) الإسراء: ١٢.

(٢) يونس: ٩٢.

(٣) آل عمران: ٥٨.

(٤) آل عمران: ١١٣.

(٥) آل عمران: ٤٩.

١٠٣

وعلى ذلك فالمراد من قوله سبحانه:( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) هو العلامة الدالة على أنّ الآتي بها مبعوث من جانبه سبحانه، فتكون معجزة للناس وموجبة للتحدي.

ولو كان المراد الآية القرآنية لكان الأنسب بل المناسب أن يستعمل كلمة « النزول » بدل « المجيء » فيقال: وإذا نزلت عليهم آية، مكان( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ) .

على أنّ الدقة في مضمون الآية والقرائن الحافة بها تعطي أنّ المقصود من لفظة الآية هنا هو غير القرآن، غاية ما في الباب أنّ المشركين كانوا يريدون أن تكون المعاجز التي يأتي بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مثل المعاجز التي أتى بها موسىعليه‌السلام مثلاً.

وأما علّة اختلاف الأنبياء في صنوف المعاجز، فسيوافيك بيانها في الفصل القادم.

وصف معاجز النبي بالسحر

إنّ هناك آيات تصرّح بأنّ المشركين كلّما رأوا من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله معجزة قالوا: إنّها سحر، وهذا أدلّ دليل على ظهور معاجز ـ عدا القرآن ـ على يد النبي الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أمّا هذه الآيات فمنها قوله سبحانه:( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ *وَقَالُوا إِنْ هَٰذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (١) وكلمة( رَأَوْا ) وتنكير لفظ( آيَةً ) شاهدان على أنّ المقصود من الآية هو غير القرآن من المعاجز، وإلاّ كان المناسب أن يستعمل ألفاظ « النزول » أو « السماع » أو غير ذلك، مكان « الرؤية »، أو تبديل النكرة

__________________

(١) الصافات: ١٤ ـ ١٥.

١٠٤

بالمعرفة، نظير قوله سبحانه:( وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) .

ولأجل ذلك نرى المفسّرين يستشهدون بهذه الآية وغيرها على إثبات معاجز للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله غير القرآن الكريم.

النبي الأعظم وبيّناته

تفيد الآية التالية أنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء إلى الناس بالبينات، وهي المعاجز، بقرينة سائر الآيات الأخر التي استعملت فيها كلمة البينات في المعاجز، قال سبحانه:( كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (١) .

والبيّنات جمع البيّنة بمعنى المبيّن لحقيقة الأمر، وربّما يحتمل أنّ المراد منها هو القرآن، أو البشائر الواردة في الكتب النازلة قبل القرآن حول النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن ملاحظة الآيات الأخر التي استعملت فيها هذه الكلمة وأُريد منه المعاجز والأعمال الخارقة للعادة، توجب القول بأنّ المراد: إمّا خصوص المعاجز، أو الأعم منها ومن غيرها، وقد ورد فيما يلي من الآيات لفظ « البيّنات » وأُريد منها المعاجز.

قال سبحانه:( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ ) (٢) ،( ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ ) (٣) ( إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ ) (٤) ( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) (٥) إلى غير ذلك ممّا ورد فيه لفظ البينات وأُريد منه الخوارق للعادة، لاحظ المعجم المفهرس لفظة البينات.

__________________

(١) آل عمران: ٨٦.

(٢) البقرة: ٨٧.

(٣) النساء: ١٥٣.

(٤) المائدة: ١١٠.

(٥) المائدة: ٣٢.

١٠٥

ولا نقول إنّ لفظ البيّنة بمعنى المعجزة، بل هي كما عرّفناك هو الدليل المبين للحقيقة، والمعاجز أحد مصاديقها.

إخبار النبي عن الغيب كالمسيح

يعد القرآن الإخبار عن المغيبات من معاجز السيد المسيحعليه‌السلام ويقول حاكياً عنه:( وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (١) . وقد أخبر النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله عن طائفة من المغيبات بواسطة الوحي الذي يوحى إليه، وجاءت عدة من هذه المغيبات في القرآن الكريم منها قوله مخبراً عن انتصار الروم بعد هزيمتهم( الم *غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ ) (٢) . كما أخبر عن هزيمة قريش في بدر قال:( سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (٣) .

وقد جمعنا موارد إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المغيبات عن طريق الوحي في الجزء الثالث من هذه الموسوعة(٤) . فلاحظ.

معاجز الرسول الأعظم في الأحاديث الإسلامية

ما ذكرناه بعض ما ورد من معاجز النبي الأكرم في القرآن، غير أنّه ورد في الأحاديث والروايات الصحيحة ما ينص على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن أكثر من أن تحصى، وقد جمعها وأحصاها علماء الحديث ودوّنوها في كتبهم، ومؤلّفاتهم، وأجمع كتاب أُلِّف في هذا الموضوع ما جمعه الشيخ العاملي ( المتوفّى

__________________

(١) آل عمران: ٤٩.

(٢) الروم: ١ ـ ٣.

(٣) القمر: ٤٥.

(٤) معالم النبوة في القرآن الكريم: ٤٥٥ ـ ٥٥٦ وأيضاً ٥٠٣ ـ ٥٠٩.

١٠٦

عام ١١٠٤ ه‍ ) وأسماه « إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات » وقد نقل فيها معجزات النبي بمئات الأسناد، استخرجها من كتب الشيعة والسنّة، جزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

على أنّ أحاديث المسلمين حول معاجز نبي الإسلام تمتاز على روايات اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم من ناحيتين :

الأولى: قلة المسافة الزمنية بيننا وبين حوادث عهد النبي وكثرتها بيننا وبين حوادث عهود النبيين موسى وعيسىعليهما‌السلام وغيرهما، وهذا يوجب الاطمئنان إلى روايات المسلمين أكثر من غيرهم.

الثانية: تواتر الروايات الإسلامية حول معاجز النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وعدمه في الجانب الآخر، خاصة إذا عرفنا أنّ الروايات التي ينقلها اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم تنتهي إلى أفراد قلائل.

وليعلم القارئ أنّا لسنا بصدد تصحيح كل ما نسب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من المعجزات وخوارق العادات سواء أصحّ سنده، أم لا، أطابق كتاب الله أم لا، أوافق الأصول العقلية أم لا، بل نحن بصدد نفي السلب الكلي الذي ادّعاه أعداء القرآن والسنّة.

هذا بعض ما يمكن التحدّث عنه هنا حول معاجز نبي الإسلام العظيم، غير القرآن الكريم معجزته الخالدة.

١٠٧
١٠٨

٣

تحقيق وتحليل

لمفاد الآيات النافية للمعجزة

١٠٩

في هذا الفصل

١. الطرق العلمية الثلاث لإثبات نبوّة مدّعي النبوة.

٢. يجب على النبي أن يكون مزوداً بالمعاجز، ولا يجب عليه القيام بكل ما يقترح الناس عليه.

٣. انّما يصح القيام بالمعجزة المطلوبة إذا تعلّق الطلب بالأمر الممكن لا المحال، وكان بين الطالبين جماعة مستعدة للانضواء تحت راية النبي.

٤. المعجزة نوع تصرف في الكون ولا تتحقق إلّا بإقدار وإذن من الله سبحانه.

٥. الهدف الأسمى من الإعجاز هو هداية الناس، فلو تعلّق طلب المقترحين بإبادتهم لما صح القيام به.

٦. هناك معاجز لو طلبها الناس ولم يؤمنوا بالنبي بعد الإتيان بها لعمّهم العذاب.

٧. عرض الآيات الثمانِ عشرة التي استدل بها القساوسة على عدم تجهز النبي بمعجزة سوى القرآن.

٨. عدم قيام النبي بمقترحات الطالبين بالمعجزة لفقدان الشرائط اللازمة في القيام بمقترحات الطالبين، وهي عشرة.

١١٠

مفاد الآيات النافية للمعجزة

لا شك أنّ المعجزة إحدى الطرق لإثبات دعوى النبي، نعم الإعجاز أحد الطرق لا الطريق الوحيد، وقد قرّر في الأبحاث الكلامية بأنّ هناك طريقين آخرين لإثبات دعوى النبوة :

الأوّل : تصريح النبي السابق بنبوة النبي اللاحق، كما ورد التصريح في التوراة والإنجيل بنبوّة النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحكاه سبحانه في القرآن الكريم بقوله:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ) (١) .

وقوله سبحانه:( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (٢) .

والآيتان تشيران إلى تنصيص الكتب السابقة على نبوة النبي الخاتم، فعلى من يريد الاهتداء فعليه أن يرجع إلى تلكم الكتب التي تحتوي على بيان صفات النبي وخصوصياته حتى يكون ذا بصيرة في الأمر، فالآيتان تنبهان بهذا الطريق

__________________

(١) الأعراف: ١٥٧.

(٢) الصف: ٦.

١١١

الذي هو إحدى الطرق.

الثاني : ملاحظة القرائن والشواهد، من حياة مدّعي النبوة وشريعته ومحتوى كتابه وأصحابه وأخلاقه وسوابقه وممارساته، إلى غير ذلك من القرائن، التي لو تضافرت لأفادت اليقين بصدق دعوى المدّعي للنبوّة وأنّه صادق في ادّعائه، وهذا الطريق هو المتعارف في المحاكم القضائية لتمييز المحق من المبطل، وهو الطريق الأتقن والأكثر اطمئناناً.

وقد سلكنا هذين الطريقين في إثبات نبوّة نبينا في أبحاثنا الكلامية.

وعلى ذلك فالإعجاز أحد الطرق، لا الطريق الوحيد، ومع الاعتراف بهذه الحقيقة، يجب إلفات نظر القارئ إلى النقاط التالية :

الأولى : هل يجب على النبي القيام بكل ما يقترحه الناس عليه من معاجز أو أنّه يجب أن يتمتع بالدلائل المثبتة لصدق دعواه وبالمعجزات الساطعة التي تفيد القطع لكل من يريد الحقيقة ويتحرّاها دون غرض أو مرض، سواء أطابقت تلك المعاجز مقترحات من بعث إليهم أم خالفتها ؟

وبعبارة أُخرى: يجب أن تبلغ معجزات النبي حداً يوجب طمأنينة النفس واستيقانها برسالته لكل من يطلب الحقيقة ويتوخّاها، ولا يجب على النبي حتماً أن يقوم بالإتيان بكل ما يطلب منه.

إنّ العقل لا يوجب أكثر من أن تكون دعوى النبوة مقترنة بالدلائل والشواهد التي تُثبت صلة النبي بالله سبحانه، وتكون كافية في إفادة الإذعان بصدقه، وأمّا قيامه بكل ما يطلب منه، فلا دليل على وجوبه لا من العقل ولا من الشرع.

ومن هنا يتبين أنّ اللازم على النبي هو القيام بإقناع الناس من حيث

١١٢

المجموع، وأمّا قيامه بإقناع كل فرد فرد على حدة وتنفيذ طلبات آحاد الناس فلا دليل عليه، وتشهد على ذلك حياة الأنبياء، فقد أعطى سبحانه لموسى الكليم تسع آيات بيّنات، وللمسيح ما آتاه من المعجزات الواردة في قوله سبحانه:( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) (١) .

أقول: إنّ الله سبحانه قد أعطاهما تلكم المعاجز، ولم يكلفهما بالقيام بإقناع كل فرد بالإتيان بكل ما يقترحه حسب ميوله وأغراضه.

نعم، لابد أن تكون معجزة كل نبي مشابهة لأرقى فنون عصره وزمانه، والتي يكثر العلماء بها من أهل عصره، فإنّه أسرع للتصديق، وأقوم للحجة، فكان من الحكمة والصواب أن يخص موسى بالعصا، واليد البيضاء، لمّا شاع السحر في زمانه وكثر الساحرون، ولذلك كانت السحرة أسرع الناس إلى تصديق ذلك البرهان والإذعان به حين رأوا العصا تنقلب ثعباناً وتلقف ما يأفكون ثم ترجع إلى حالتها الأولى، فرأى السَحَرَة ذلك، وعلموا أنّه خارج عن حدود السحر، وآمنوا بأنّه معجزة إلهية وأعلنوا إيمانهم في مجلس فرعون، ولم يعبأوا بسخط فرعون ولا بوعيده.

وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح، وأتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب، وكان للطب رواج باهر في سورية وفلسطين، لأنّهما كانتا مستعمرتين لليونان، وحيث بعث الله المسيح في هذين القطرين شاءت الحكمة أن تجعل برهانه شيئاً يشبه الطب، فكان من معجزاته أن يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ليعلم أهل زمانه أنّ ذلك شيء خارج عن قدرة البشر وغير مرتبط

__________________

(١) آل عمران: ٤٩.

١١٣

بمبادئ الطب وانّه ناشئ عما وراء الطبيعة.

وأمّا النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد برعت العرب في عصره في البلاغة وامتازت بالفصاحة، وبلغت الذروة في فنون الأدب حتى عقدوا النوادي وأقاموا الأسواق للمباراة في الشعر والخطابة، فلأجل ذلك اقتضت الحكمة أن يخص نبي الإسلام بمعجزة البيان وبلاغة القرآن، ليعلم كل عربي أنّ هذا خارج عن طوق البشر، ويعترف به كل من يتوخّى الحقيقة(١) .

نعم، هناك وجوه أُخر اقتضت جعل المعجزة الخالدة للنبي الخاتم هو القرآن، وقد أوضحنا تلك الوجوه في أبحاثنا الكلامية.

نعم، يجب أن تكون معجزة النبي مشابهة لأرقى فنون العصر، فقط، وأمّا لزوم قيامه بكل المقترحات والمطلوبات فلا، لأنّ الأنبياء بعثوا لغرض التربية والتعليم، وتجب عليهم مكافحة الجهل بالوسائل الصحيحة الكافية، لا أن يأتوا بكل مطلوب لكل جاهل أو متجاهل حسب هوسهم.

كما يجب أن تكون دعوتهم مقترنة بالمعاجز حتى تحقّق صلتهم بالله سبحانه ويتبين أنّ الله الحكيم هو الذي أعطاه تلك المقدرة، ولو كانوا كاذبين لما جاز في منطق العقل والحكمة إقدارهم عليها، لأنّ في إقدار الكاذب على المعاجز، إغراء بالجهل وإشادة بالباطل، وذلك محال على الحكيم تعالى، فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالة على صدقه وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوته سواء أطابقت مطلوب الناس أم لا.

وإذا رأينا أنّ نبياً من الأنبياء قد امتنع عن القيام ببعض المعاجز، وبعبارة أصح: إذا لم يأذن الله له في الإتيان بها، فإنّما هو لأجل أنّه سبحانه جهّزه بأوضح الدلائل وزوّده بأتقن المعاجز بحيث تكون كافية لكل من يتوخّى الحقيقة ويطلب

__________________

(١) البيان: ٤٨ ـ ٤٩.

١١٤

الواقع، وليس عليه سبحانه أزيد من نصب الدلائل وإقامة البراهين، فلو انّ القرآن يصف الأنبياء بقوله:( فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (١) ويصف نبيَّه بقوله:( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (٢) ، فلا تهدف تلك الجملة إلّا الإشارة إلى أنّ وظيفته الأساسية إنّما هي التبشير والإنذار المقترنين بالمعاجز الكافية، وانّه لا يجب عليه أن يستجيب لطلب كل من اقترح عليه أمراً أو يطلب منه معجزة حسب هواه، وليست هذه الأوصاف نافية لأصل المعاجز من رأسها.

الثانية : انّما يصح قيام النبي بالإتيان بالمعجزة المطلوبة منه إذا تعلّق الطلب بالأمر الممكن لا المستحيل، لأنّه خارج عن إطار القدرة، فعند ذلك لو طلب من النبي رؤية الله سبحانه جهرة، أو ولوج الجمل في سم الخياط، فالسؤال ساقط من أساسه لاستحالة الموضوع.

الثالثة : إنّما يجب على النبي القيام بالإتيان بالمعاجز المطلوبة المقترحة عليه من قبل الناس، إذا كانت بين الطالبين بها جماعة مستعدة للانضواء تحت لواء الحق بعد أن شاهدوا المعجزة، وأمّا لو كانوا يطالبون بها ويقترحوها عناداً ولجاجاً، ومع ذلك يصرون على كفرهم وإنكارهم حتى لو أُتي بمطلوبهم، فلا يجب على النبي الإجابة لدعوتهم لأنّ الإتيان بالمعاجز في هذه الحالة يعد أمراً لغواً وعبثاً، وذلك لأنّ الهدف من المعاجز أحد أمرين :

الأوّل: سوق الناس إلى الله سبحانه عن طريق الإيمان بنبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته، والمفروض أنّ تلك الغاية منتفية في المقام، لأنّ الطالبين بالمعاجز يشكّلون جماعة متعنتة ومعاندة فلا يؤمنون وان أُتي بأضعاف ما يريدون ويطلبون.

__________________

(١) البقرة: ٢١٣.

(٢) الرعد: ٧.

١١٥

وأمّا الكلام في أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أين يحصل له هذا العلم ويكشف أحوالهم، فهو خارج عن هذا البحث.

الثاني : إتمام الحجة على الكافرين المعاندين المغرضين حتى لا يقولوا يوم القيامة ولا يحتجّوا على الله سبحانه بأنّه ما جاءهم من بشير ولا نذير، والمفروض أنّ تلك الغاية قد حصلت بالإتيان بسائر المعجزات التي جاء بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من غير اقتراح لما عرفت من أنّه يجب تزويد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتجهيزه بالمعاجز سواءً طابقت مقترحات قومه أو لا.

إنّ القارئ الكريم سيلمس تلك الحقيقة عند استعراض الآيات التي رفض النبي فيها إجابة الطالبين بالمعاجز، فإنّ أكثرها واردة في ذلك المجال، وانّه لم يكن غرض الطالبين الاهتداء والانتفاع بها، بل كانوا يطلبونها لأغراض أُخر، إمّا تعجيزاً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب أهوائهم أو تلاعباً بما سيصدر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الرابعة: انّ المعجزة نوع تصرف في العالم، والنبي بماله من ولاية تكوينية مكتسبة منه سبحانه، يقدر على التصرّف في الأكوان بأن يخلع صورة من المادة ويلبسها صورة أُخرى، كما خلع موسى الكليم صورة العصا من مادتها وألبسها صورة الثعبان بإذن ربّه، وكما بدّل المسيح الصورة الطينية إلى الصورة الطيرية، كل ذلك بإذنه سبحانه، وأمر منه، وعند ذلك فليس لهم حرية مطلقة في الخلع واللبس والتنفيذ والتصرّف وإنّما يفعلون ذلك بإذن منه سبحانه، قال الله تعالى:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) (١) .

وبما أنّ هذه الآية تعد نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله آتياً بالمعجزة، تدلّ على أنّ الآتي بها والمتصرّف في الأكوان هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بما له من روح قدسية يقدر معها على ذلك الأمر.

__________________

(١) الرعد: ٣٨.

١١٦

ولكنها تقيد تنفيذ النبي وتصرفه بإذنه سبحانه، فالأولياء وفي طليعتهم الأنبياء لا يشاءون إلّا ما شاء الله ولا يخرجون عن إطار مشيئته سبحانه.

فلو رأينا أنّ النبي قد رفض بعض المقترحات، فإنّما هو لأجل هذا السبب، فلم يكن إذن من الله سبحانه بالقيام بتلك المعاجز المقترحة، وعدم إذنه سبحانه لأجل كون عمل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لغواً لا يترتب عليه أثر من هداية السائلين أو إتمام الحجة على المغرضين، إذ المفروض أنّ السائلين ليسوا في مقام الاهتداء، والحجة قد تمت على المغرضين من قبل، ولأجل ذلك ليست هناك غاية صحيحة تبعث النبي إلى القيام بالمعاجز.

الخامسة : انّ الهدف الأسمى من الإعجاز هو هداية الناس إلى الطريق المستقيم، فلو كانت نتيجة الإعجاز إفناء الناس وإهلاكهم، لما صحّ في منطق العقل القيام بتلك الدعوة، فلو طلبوا من الرسل أن يخسف الله بهم الأرض أو يسقط عليهم السماء كسفاً أو يبيدهم العذاب من وجه الأرض، فلا يصحّ القيام بذلك الطلب، لأنّ في إجابته نقضاً للغرض وإفناءً للهدف، وهم: قد بعثوا لهداية الناس لا لإبادتهم وإهلاكهم، وسوف يلمس القارئ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لو امتنع في بعض المواقف عن القيام ببعض المقترحات فقد كان لأجل ذلك الأصل الذي دلّ العقل على رصانته.

السادسة : قد دلّت الآيات الكريمة على أنّ هناك معاجز لو طلبها الناس من نبيهم وقام هو بمقترحهم ومع ذلك قد رفضوا الاعتناق بدينه والتصديق برسالته، سيصيبهم العذاب الأليم، قال سبحانه:( وَمَا مَنَعَنَا أَن نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) (١) .

__________________

(١) الإسراء: ٥٩.

١١٧

والمراد من الآيات المقترحة هي المعاجز التي طلبها أقوام الأنبياء منهم ثم كذبوها فنزل العذاب عليهم بسبب تكذيبهم، وسيوافيك بيان مفاد الآية في محلها وانّ أية معجزة يوجب تكذيبها نزول العذاب.

هذا من جانب، ومن جانب آخر انّ الله سبحانه وعد النبي برفع العذاب الدنيوي عن هذه الأمّة ما دام هو فيها إكراماً لمقامه وتعظيماً لشأنه، قال سبحانه:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) (١) .

وعلى ضوء هذين الأمرين يتبيّن أنّ الامتناع عن القيام ببعض المعجزات المقترحة ـ التي يستلزم تكذيبها نزول العذاب ـ إنّما هو لأجل هذا الوعد القطعي الذي قطعه الله على نفسه لنبيّه، فكل معجزة يستلزم تكذيبها نزول العذاب فهي معجزة ممنوعة لأجل هذا الأمان الذي أعطاه الله سبحانه لأمّة نبيّه.

السابعة : انّ شرط القيام بالمعجزة المطلوبة هو أن لا تكون الإجابة لطلب القوم سبباً لتحقير المعاجز الأُخر وازدراءً لها، إذ في القيام ـ في هذه الصورة ـ نوع تصديق لموقف الخصم، وإغراء له في الضلالة، ولأجل ذلك نرى النبي يجيب القوم عندما طلبوا منه معجزة غير القرآن بصورة التحقير لهذه المعجزة الخالدة الباقية على وجه الدهر بقوله:( فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ) (٢) .

الثامنة : انّ الهدف من بعث الأنبياء وتزويدهم بالآيات والبينات هو إيجاد الأرضية المناسبة لإيمان قومهم وإذعانهم بما جاء به الرسل اختياراً، فإنّ الإيمان ـ بل كل عمل حسن ـ إنّما يعد كمالاً إذا اختاره الإنسان وانساق إليه بصميم قلبه، وأمّا إذا أُلجئ واضطر إليه بلا اختيار فلا يعد كمالاً له ولا يستحق ثواباً.

__________________

(١) الأنفال: ٣٣.

(٢) يونس: ٢٠.

١١٨

ولذلك نرى في مورد يتمنّى النبي ( أو يشعر كلامه بذلك التمنّي ) أن يأتي بآية ملجئة لهم إلى الإيمان وملزمة لهم على الاذعان أجابه سبحانه:( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَىٰ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ ) (١) .

وسوف يوافيك شرح الآية وهدفها.

التاسعة : انّ القيام بالطلب إنّما يصح إذا لم يكن المطلوب على خلاف السنّة الإلهية الحكيمة الجارية في الكون، وعلى ذلك فلو طلب القوم أن يأتي لهم النبي بجنة وينبوع حتى يريحهم من الكد والكدح فلا يستحق هذا الطلب الإجابة، لأنّ سنته تعالى جرت على إرزاق الناس من طريق العمل والكسب، وسيوافيك توضيح ذلك عند البحث عن قوله:( وَقَالُوا لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً ) (٢) .

العاشرة : إنّما يصح القيام إذا كان بين المطلوب والمقترح والرسالة الإلهية رابطة منطقية حتى يستدل بالأوّل على الآخر، وعلى ذلك فلو طلبوا من النبي أن يكون ذا ثروة طائلة فلا يصح للنبي الإجابة، لأنّ ثروة الرجل ليست دليلاً على صحة منطقه، وسيوافيك شرح ذلك عند البحث عن قوله سبحانه:( أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً ) (٣) .

فلو أنّ النبي امتنع عن القيام ببعض المعاجز فإنّما هو لأجل هذا الأصل، وأنت إذا لاحظت هذه الأمور تبيّن لك أنّ الآيات التي رفض فيها النبي القيام بمقترحات القوم ومطلوباتهم من المعاجز فإنّما هو لأجل فقدان إحدى هذه

__________________

(١) الأنعام: ٣٥.

(٢) الإسراء: ٩٠.

(٣) الإسراء: ٩١.

١١٩

الشرائط التي نعيد الإشارة إليها في ما يلي باختصار :

١. انّ الواجب هو اقتران دعوة النبي بالدلائل والمعاجز الكافية حتى تفيد الإذعان بصدق دعوته، لا القيام بكل معجزة تقترح عليه من آحاد الأمّة.

٢. لو اقتضت الحكمة الإلهية قيام النبي بمقترحات قومه، فإنّما تصح عقلاً الإجابة لها إذا تعلّق الطلب بالأمر الممكن لا المستحيل، فعدم الإجابة للمقترح المستحيل لا يدل على أنّه لم يزود بالمعاجز.

٣. انّما يجب على النبي القيام بالمعاجز إذا دلّت القرائن على أنّ الهدف من طلبها هو الانضواء تحت لواء الحق والاهتداء بها لا طلبها عناداً ولجاجاً وتلاعباً بشأن النبي ومعجزاته.

٤. الإعجاز نوع تصرف في الأكوان يقوم به النبي بإذن منه سبحانه، ولا يصدر الإذن منه في كل الأحايين والأوقات، وإنّما يصدر فيما إذا كانت هناك مصلحة مقتضية للتصرف.

٥. انّ الهدف من الإعجاز هو هداية الناس، فلو تعلّق الطلب بإهلاكهم وإبادتهم لم تكن إجابته صحيحة في منطق العقل لكونها نافية للغرض.

٦. انّ المعاجز التي يستلزم تكذيبها نزول العذاب الأليم كما نزل على الأمم السابقة لا يصح للنبي القيام بها، لأنّه سبحانه كتب على نفسه دفع العذاب عن الأمّة ما دام النبي فيهم، وهذا الوعد القطعي الإلهي يمنع عن القيام بتلكم المقترحات.

٧. انّ كل معجزة مطلوبة صارت سبباً لتحقير المعاجز الأخرى وازدراءً لها لا يجب على النبي في منطق العقل القيام بها، لأنّ فيه نوع تصديق لموقفهم المتعنّت.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407