مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110093 / تحميل: 7772
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢١-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

بالشجرة...) و(افسدت علينا...) لامعنى لان يقال فيه انه يدل دلالة صريحة على نفي الحديث، لأنه لا دلالة لفظية فيه على ذلك، وأقصى ما يمكن ادعاؤه انهما يدلان بالدلالة العقلية على نفيه باعتبار انه ترك الاستدلال بحديث الغدير في موقع كان الأولى أن يستدل به، فعدوله عنه دليل على عدم ثبوته وإلا لاستدل به. وهذه الدلالة لاتسمى دلالة صريحة.

ونحن ننكر عليك حتى هذه الدلالة العقلية لأنه لم يكن في موقع الاستدلال بحديث الغدير حتى يكون تركه دليلا على عدم ثبوته في القول الاول، لانه جاء احتجاجا على من احتج باستحقاق الخلافة بالقرابة من الرسول فقال لهم: إذا كان ذلك سببا للاستحقاق فمن كان اكثر قرابة وأقرب فهو أولى بالاستحقاق. والتشبيه بالشجرة والثمرة من التشبيهات البديعة في الباب فانه لبيان أولوية الاستحقاق للأقرب لأنه هو الثمرة التي هي أولى من أصل الشجرة بالاستفادة منها بل الثمرة هي الغاية المقصودة من الشجرة. وليس هذا موردا لذكر النص لأنه من باب النقض على المستدل بحجته.

وأما القول الثاني فعلى تقدير صحة نقله فان قوله: (لم ترع لنا حقا) كلام عام يجوز ان يراد به النص ويجوز ان يراد مطلق الحق الذي صورته في كلامك. وهذا التصوير الذي ذكرته وأطنبت فيه ليس في كلام الامام دلالة عليه وإنما هو من اجتهاد الكاتب حينما تخيل ان الامام لانص عليه فلا بد أن تكون احتجاجاته وشكواه ناشئة من اعتقاده بالأحقية.

٢٠١

٢ - تحدثت عن قصة انصراف الناس عنه بعد موت فاطمة فانه كلام غريب فانه لاربط له بقصة النص وإنما تلك القصة ترتبط بقصة التجاء الامام إلى مسالمة القوم بعد الانصراف عنه.

٣ - تقارن بين قول الامام: (فنظرت فاذا ليس لي معين...) وبين آية( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ) لتستدل من الآية على تكذيب نسبة هذا القول اليه. وازيدك انك بهذا الاستدلال تستطيع ان تكذب كثير من الأحاديث النبوية مثل احاديث الحوض ونحوها الدالة على ارتداد أصحابه بعده وتبدلهم ورجوعهم القهقرى والمروية في الصحاح.

غير اني احيلك على كتب التفسير لمعرفة مدى دلالة هذه الآية. وما علينا من كتب التفسير! لننظر بأنفسنا إلى مدى دلالة هذه الآية على المقصود:

ان دلالتها تكمن في كلمة (كنتم) فان كانت على ظاهرها من دلالتها على الماضي المنقطع بمعنى انهم كانوا فيما مضى خير امة ثم لم يستمر ذلك لهم فلا ينافيها أن تكون الامة قد انقلبت بعد الرسول على الاعقاب لأنه قال: كنتم خير امة، ولم يقل انتم خير امة أبد الدهر.

ولكن بعض المفسرين أوّل معنى (كنتم) فقال: انها للماضي الاستمراري مثل قوله تعالى:( وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) وأنا شخصياً كذلك أفهم هذا المعنى من الآية، غير ان الذي يشكل علينا ان المسلمين لم يكونوا في جميع عهودهم على ما تصف الآية الكريمة يأمرون بالمعروف وينهون عن

٢٠٢

المنكر لاسيما في مثل عهودهم الحاضرة التي لم يبق فيها من المعروف حتى رسمه فضلا عن أن يكون كلهم من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر. هذا هو الواقع المرير الذي لا سبيل لنا من انكاره والمكابرة فيه فكيف نتصور انطباق الآية على عهودنا وامثالها.

وعليه فليس الاشكال يخص الامة الاسلامية في أول عهودها بعد النبي بل في جميع عهودها الغابرة والحاضرة فكيف نستطيع التوفيق بين واقع امتنا المحزن وبين دلالة الآية على امتداح هذه الامة وتفضيلها على سائر الامم لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ كيف التوفيق ياترى؟

والذي يخطر في بالي من الجواب على ذلك أحد أمرين( الأول) وهو الأرجح عندي ان الآية قد تقدمتها آيات أٌخر ذكرت وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن هذا التشريع كما يبدو منها انه من مختصات المسلمين المخاطبين بهذا الوجوب على أن يتولى بعضهم هذا الأمر ثم ذكرت نهي المؤمنين عن ان يتفرقوا ويختلفوا من بعد ان جاءتهم البينات فتبيض وجوه بعض وتسود وجوه آخرين ثم قال: (كنتم خير امة...) لبيان انه لما كانوا خير الأٌمم لا ينبغي ان يختلفوا وسر انهم خير الأٌمم لأنه قد شرع لهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس المقصود الأخبار عن انهم كلهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لاسيما ان المخاطب

٢٠٣

بالوجوب بعض المسلمين على نحو الوجوب الكفائي (ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف...)

(الثاني) ان المراد انكم تأمرون بالمعروف من حيث مجموعكم ولو بامتثال البعض وان كان ذلك البعض قليلا باعتبار ان ذلك البعض من الامة يعمل باسمها كأنه يقول: انكم خير الامم لأن فيكم من يأمر بالمعروف وليس كذلك باقي الامم. وهذا كما نقول مثلا ان الأمة الانكليزية احتلت العراق، وليس المراد ان جميع الامة احتلته بل بعض جيوشها وذلك باعتبار ان ذلك البعض منها وكان عمله باسمها.

في البحث السابع

١ - تسأل عما إذا كان تناقض بين قول الامام: (لو وجدت اربعين ذوي عزم...) وبين قوله: (فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس...) فاني لم اعرف وجها للتناقض بين القولين فان الامام في الأول يقول: لو وجدت الأربعين على هذه الصفة لناهضت القوم، ومعنى ذلك انه لم يجد الأربعين فلم يناهضهم يعني انه سالمهم، ثم صرح في الثاني بأنه امسك يده عن نصرتهم غير انه لما رأى راجعة الناس عن الاسلام فرأى ان المصيبة في ذلك اعظم من مصيبة فوت الولاية فالتجأ أن ينصر الأسلام لأجل ذلك، لانصرة للامراء ولا لكونهم عنده أهلاً للنصرة كما هو مدلول كلامه. وأنت

٢٠٤

ترى ان احد الكلامين يتصل بالآخر ويكون متمماً له، فأين التناقض؟

أما انه لو ناهض القوم بالأربعين عندما يجدهم فانك تحتمل ان تدور عليه الدائرة كالحسين فهذا تكهن لم يعترف به الامام وهو من ظاهر كلامه كان جازما بأن الأربعين على هذه الصفة لو وجدهم لكانوا كافين له في النصرةعلى خصومه. أما انه يكون ذلك ثلما للاسلام لو انتصر عليهم، فمن أين نفهمه إذا فرضنا انه انتصر على غاصبي حقه من الخلافة التي هي بنص النبي وبها حينئذ قوام الاسلام لا هدمه إلا إذا كنا لانعترف بالنص فهذا أمر آخر.

وأما كفاية نصرة مالك بن نويرة فعلى تقديره فهو واحد من ذوي العزم إذا كان هو حقيقة من ذوي العزم الذين يشترطهم الامام فكيف تفرض ان الحجة قد قامت عليه بمالك وحده على انه كونه يعترف بحقه شيء وكونه من ذوي العزم شيء آخر.

وأما سؤالك عن اتفاق قوله عليه السلام: (فخشيت ان لم أنصر الاسلام وأهله ان أرى فيه ثلماً أو هدما) مع ما ذهبتُ اليه من تقاعس الامام عن نصرة الخلفاء إلا بمقدار الضرورة فانه واضح الاتفاق لان الامام في صدر كلامه ذكر انه أمسك يده ولكن ضرورة حفظ بيضة الاسلام دعته إلى النصرة. وهذا صريح بأن الضرورة هي التي دعته الى ذلك

٢٠٥

والضرورات تقدر بقدرها لا ان النصرة ابتدائية بدافع نفسي ليناقض ما قلته عنه، بل هذا الكلام مما يؤيد قولي ويؤكده وهو يدل على أن العمل الذي يعلم انه يضر بالاسلام يتركه ويعمل ما يرى عمله ضرورة اسلامية، فكيف كان قوله هذا يدل على انه يحجم عن الفعل أو القول الذي يكون خذلانا للاسلام كما رغبت انت ان تقوله وتتصوره عن هذه الكلمة.

نعم ان الامام اعظم وأجل ان يتقاعس عن عمل يراه واجبا لنصرة الاسلام، ومن اين يدل كلامه المنقول او كلامي المسطور على خلاف ذلك فاذا تباطأ ابو الحسن فانما تباطأ عن شيء يكون فيه نصرة لأبي بكر وعمر ولم يتباطأ عما تدعوه الضرورة الاسلامية الى فعله، وانما لم يشترك في الحروب لأنه حينئذ يكون مأموراً لهم وهذا ما كان يتحاشاه بل يتحاشونه معه. وما ذكرته في السقيفة عن ذلك ففيه الكفاية.

وأما قياسه في الاشتراك في الحروب بعمر وعثمان وطلحة وامثالهم فقياس مع الفارق البعيد، لو كان هناك قياس، وابو الحسن من تعرف في حروبه ايام خلافته ولم يشترك قبله ولا بعده من الخلفاء بنفسه في الحروب، فكيف يقاس غيره به وكيف لا يستغرب عدم اشتراكه في الحروب ايام الخلفاء قبله وكيف لا يدل ذلك على عدم تعاونه معهم معاونة صادقة؟

هذا ما أردت ان اقوله يا قرة العين في جوابات

٢٠٦

اسئلتك واعذرني إذا كنت قد رمزت لك رمزاً في كثير من الأبحاث اقتصاداً في الوقت واستعجالاً في الاجابة للشواغل التي دهمتني في خلال تسجيل هذه الرسالة فعاقتني عن الاسراع إلى اتمامها في الوقت المناسب.

وتقبل التحيات من المخلص

محمد رضا المظفر

١٢ جمادي الاولى سنة ١٣٧٣

٢٠٧

أهم مصادر الكتاب

١ - صحيح البخاري المطبوع بمصر عام ١٣٢٠ هـ

٢ - صحيح مسلم المطبوع بمصر عام١٣٩٠هـ

وما في ص٥٨ رجعنا فيه الى المطبوع عام ١٣٣٤ هـ

٣ - مسند احمد المطبوع بمصر عام١٣١٣ هـ

٤ - العقد الفريد المطبوع بمصر عام ١٣٥٣ هـ

٥ - مستدرك الحاكم

٦ - الجمع بين الصحيحين

٧ - كنز العمال

٨ - تاريخ الطبري

٩ - تاريخ ابن الأثير

١٠ - تاريخ الخميس

١١ - تاريخ اليعقوبي

١٢ - السياسة والامامة لابن قتيبة

١٣ - تاريخ الخلفاء للسيوطي

١٤ - تاريخ ابن خلدون

١٥ - مروج الذهب

١٦ - السيرة الحلبية

١٧ - سيرة ابن هشام

٢٠٨

١٨ - سيرة دحلان

١٩ - طبقات ابن سعد

٢٠ - الاصابة

٢١ - الاستيعاب

٢٢ - اسد الغاية

٢٣ - التهذيب لابن عساكر

٢٤ - ميزان الاعتدال

٢٥ - نهج البلاغة

٢٦ - شرح النهج لابن ابي الحديد

٢٧ - منهاج السنة لابن تيمية

٢٨ - الصواعق المحرقة له

٢٩ - مقالات الاسلاميين لأبي الحسن الأشعري

٣٠ - الملل والنحل للشهر ستاني

٣١ - الفصل في الملل والنحل لابن حزم

٣٢ - البيان والتبين للجاحظ

٣٣ - معجم البلدان

٣٤ - لسان العرب

٣٥ - حياة محمد للدكتور محمد حسين هيكل

٢٠٩

الفهرس

مقدمة ٩

١ - تأثير العقيدة على المؤرخ. ١٦

٢ - اضطراب التاريخ. ١٧

٣ - خطة الكتاب.. ١٩

تمهيد. ٢٣

الفصل الاول: مَوقِفْ النَّبي تجَاه الخَلافَة ٣٠

(١ هل كان يعلم بأمر الخلافة؟) ٣١

٢ - هل وضع حلا للخلاف؟ ٣٣

٣ - ايكال الامر الى اختيار الأمة ٣٥

٤ - لا نص في قاعدة الاختيار ٤٤

٥ - اختلاف امتي رحمة ٤٦

٦ - الاجماع على قاعدة الاختيار ٤٨

٧ - النص على أبي بكر ٥٢

٨ - النص على علي بن أبي طالب.. ٥٩

الفصل الثاني : تدبير النبي لمَنع الخِلاَف ٧٥

(أ - بعث اسامة) ٧٥

ب - ائتوني بكتف ودواة ٨٤

الفصل الثالث : بيعَة السقيفة ٩٦

(١- الدوافع لاجتماع السقيفة) ٩٦

٢ - نفسية الأنصار ٩٩

٣ - الأنصار حزبان. ١٠٣

٤ - هل مات النبي محمد ...؟ ١٠٩

٥ - وصول النبأ باجتماع الأنصار ١٢٠

٢١٠

٦ - تأثير دخول المهاجرين في اجتماع الأنصار ١٢٤

٧ - تأثير خطب أبي بكر على المجتمعين. ١٢٦

٨ - نقاش المهاجرين والأنصار ١٣٣

٩ - المهاجرون يربحون الموقف.. ١٣٧

١٠ - النتيجة ١٤١

الفصل الرابع : عَلي مَع الخلفَاء ١٤٧

(١ - الافتيات على الامام) ١٤٧

٢ - رأيه في بيعة السقيفة ١٤٧

٣ - الموقف الدقيق. ١٥٠

٤ - سلوكه مع الخلفاء ١٥٦

على هامش السَّقيفَة ١٦٥

نص رسالة الاستاذ عبد الله الملاح حول كتاب السقيفة ١٧١

نص رسالة الشيخ المظفر رداًعلى رسالة الاستاذ الملاح. ١٨٣

إلى حضرة الأخ الفاضل عبد الله الملاح المحترم ١٨٣

البحث الأول. ١٨٤

في البحث الثاني. ١٩٣

في البحث الثالث.. ١٩٤

في البحث الرابع. ١٩٦

في البحث الخامس.. ١٩٧

في البحث السادس. ٢٠٠

في البحث السابع. ٢٠٤

أهم مصادر الكتاب.. ٢٠٨

٢١١

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وقال الرازي: المروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس انّ هذا هو الشفاعة في الآية والحمل عليها متعين، ويدل عليه انّ مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنّه تعالى يقول: لا أودعك ولا أبغضك، بل لا أغضب على أحد من أصحابك وأتباعك وأشياعك طلباً لمرضاتك، وتطييباً لقلبك، فهذا التفسير أوفق لمقدم الآية.

أضف إليه الأحاديث الكثيرة الواردة في الشفاعة الدالة على أنّ شفاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في العفو عن المذنبين، وهذه الآية دلت على أنّه تعالى يفعل كل ما يرضاه فتحصل من مجموع الآية والخبر حصول الشفاعة، وعن جعفر الصادقعليه‌السلام انّه قال: « رضا جدي أن لا يدخل النار موحد »، وعن الباقرعليه‌السلام : « أنّ أهل القرآن يقولون: أرجى آية قوله:( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) وأنّا أهل البيت نقول: أرجى آية قوله:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) والله إنّها الشفاعة ليعطاها في أهل لا إله إلّا الله حتى يقول: رضيت »(١) .

__________________

(١) مفاتيح الغيب: ٨ / ٤٢٢.

٢٢١

٣

ما هي حقيقة الشفاعة ؟

إنّ الوقوف على حقيقة الشفاعة يتوقف على بيان أقسامها، وتفاسيرها فنقول: إنّ الشفاعة حسبما يستفاد من القرآن الكريم تطلق على معان أو على أقسام، وبعض هذه المعاني أو الأقسام وإن كان خارجاً عن الشفاعة المصطلحة بين أئمّة علم الكلام والتفسير، غير أنّ الوقوف على مفاد عامّة ما ورد في القرآن الكريم حول الشفاعة يتوقف على توضيح جميع هذه المعاني أو الأقسام، فنقول: إنّ الشفاعة على معان أو على أقسام :

١. الشفاعة التكوينية.

٢. الشفاعة القيادية.

٣. الشفاعة المصطلحة.

وإليك شرح هذه الأقسام :

١. الشفاعة التكوينية

تشهد النظرة العلميّة والفلسفيّة بقيام النظام الكوني على أساس سلسلة الأسباب والمسبّبات وارتباط كل ظاهرة من الظواهر الكونية بعلّة وسبب، وهذا أي كون العالم كعلّة خاصة من مجموعة العلل والمعاليل، مما أثبتته الأُصول

٢٢٢

الفلسفية واعترفت به الآيات القرآنية حسبما أوضحناه في الجزء الأوّل عند البحث عن التوحيد في الخالقية(١) ولا نعيدها هنا.

غير أنّ الظواهر الكونية بحكم أنّها ممكنة الوجود، غير مستقلّة في ذاتها كما هي غير مستقلّة في علّيتها وتأثيرها، بمعنى أنّها لا تؤثر إلّا بإرادة الله وإذنه سبحانه، ضرورة أنّها لو كانت مستقلّةً في التأثير يلزم أن تكون مستقلةً في الوجود لبداهة أنّ الاستقلال في العلية فرع الاستقلال في الوجود، ولو سلمنا الاستقلال في التأثير فلا محالة قد سلّمنا قبله الاستقلال في الذات وهو يساوق كون الشيء واجباً غنياً عن العلّة، وهو خلاف الفرض.

ولأجل ذلك اتّفقت الفلاسفة والمتكلمون إلّا من شذّ من المعتزلة على أنّه لا مؤثّر مستقلّ في الوجود غيره سبحانه، وأنّ غيره مفتقر في الوجود والتأثير إليه سبحانه، ولأجل ذلك صار شعار القرآن في حق الإنسان ( وحتى غير الإنسان أيضاً ): قوله:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ *إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ *وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ) (٢) وقوله سبحانه:( وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ ) (٣) .

وقال سبحانه حاكياً عن موسى الكليمعليه‌السلام :( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) (٤) .

فعالَم الكون بما أنّه عالَم إمكاني لا يملك من لدن ذاته وجوداً ولا كمالاً، بل كلما يملك من وجود وكمال فقد أُفيض إليه من جانبه سبحانه فهو بحكم

__________________

(١) معالم التوحيد: ٢٩٩ ـ ٣١٤.

(٢) فاطر: ١٥ ـ ١٧.

(٣) محمد: ٣٨.

(٤) القصص: ٢٤.

٢٢٣

الإمكان موجود مفتقر في عامة شؤونه، وتأثيره، وعلّيته.

وإلى ما ذكرنا من توقف تأثير كل ظاهرة كونية، على إذنه سبحانه يشير قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (١) .

فإنّ الآية بعدما تصف الله سبحانه بأنّه خالق السماوات الأرض في ستة أيام وأنّه استوى بعد ذلك على العرش، وأنّه يدبّر أمر الخلق، تعلن بأنّ كل ما في الكون من العلل الطبيعية والظواهر المادية يؤثر بعضه في البعض بإذنه سبحانه، وأنّه ليست هناك علّة مستقلة في التأثير بل كل ما في الكون من العلل، ذاته وتأثيره، قائمان به سبحانه وبإذنه، فالمراد من الشفيع في الآية هو الأسباب والعلل المادية وغيرها، الواقعة في طريق وجود الأشياء وتحقّقها وإنّما سميت العلة شفيعاً لأجل أنّ تأثيرها يتوقف على إذنه سبحانه فهي ( مشفوعة إلى إذنه سبحانه ) تؤثر وتعطي ما تعطي.

وعلى ذلك تخرج الآية عن الدلالة على الشفاعة المصطلحة بين أئمّة علم الكلام، وإنّما اخترنا هذا المعنى لوجود قرائن في نفس الآية، فإنّها تبحث في صدرها عن خلق السماوات والأرض وتحدّد مدّة الخلق والإيجاد بستة أيام، ثم ترجع الآية وتنص على سعة قدرته على جميع ما خلق وإحاطته بهم، وانّه بعد ما خلق السماوات والأرض، استوفى على عرش القدرة وأخذ يدبّر العالم وعند ذلك ينطرح في ذهن القارئ أنّه إذا كان هو المدبّر والمؤثر فما حال سائر المدبرات والمؤثرات التي يلمسها البشر في حياته ؟

فللإجابة عن هذا السؤال أتى بقوله:( مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ )

__________________

(١) يونس: ٣.

٢٢٤

مصرّحاً بأنّ كل تأثير وتدبير في سبب من الأسباب فإنّما هو بإذنه ومشيئته ولولا إذنه ومشيئته لما قام السبب بالسببية ولا العلة بالعلية، وهذه القرائن توجب حمل هذه الجملة على ما يجري في عالم الكون والوجود من التأثّر والعلّية، وتفسيرها بالشفاعة التكوينية وإنّ كل ظاهرة مؤثّرة كالشمس والقمر والنار والماء لا تؤثر إلّا بالاستمداد من قدرته سبحانه والاعتماد على إذنه ومشيئته حتى يتم بذلك التوحيد في الخالقية والتدبير، فلا خالق إلّا هو، كما لا مدبر إلا هو، فما يتراءى في صفحة الوجود من الخلق والتدبير فليس على ظاهرهما وإنّما تقوم سائر العلل بالخلقة والدبير مستمداً من حوله وقوته، فيرجع معنى الآية إلى أنّه لا مؤثّر في الكون إلّا من بعد إذنه، ولأجل ذلك تستنتج الآية وتخاطب البشر بأنّه إذا كان هو الخالق والمستولي على عرش القدرة والمدبر لجميع العالم، وإذا كان تأثير كل ما سواه بإذنه، فليعبد ذلك الرب سبحانه دون غيره، إذ هو اللائق دون ما سواه بالعبادة، فإنّ منشأ العبادة والخضوع هو الوقوف على الجمال والكمال المطلقين في المعبود بحيث يحمل ذلك الوقوف الإنسان العارف على العبادة والخضوع وليس ذلك الكمال موجوداً إلّا فيه سبحانه، لأنّه الخالق المستولي المدبّر المعطي لكل ما سواه: الوجود والتأثير، قال:( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .

إذا وقفت على ما ذكرنا تقف على أنّه لا يناسب حملها على الشفاعة المصطلحة التي تدور حول التكاليف والتشريعات وعصيان العباد ومخالفتهم لها، ثم توسيط الشفعاء لغفران ذنوبهم وحط سيئاتهم.

وإلى ما ذكرنا يشير العلّامة الطباطبائي بقوله: « إنّ ربكم معاشر الناس هو الله الذي خلق هذا العالم المشهود كله سماواته وأرضه في ستة أيام، ثم استوى على عرش قدرته، وقام مقام التدبير الذي إليه ينتهي كل تدبير وإرادة، فشرع يدبر أمر العالم، وإذا انتهى إليه كل تدبير من دون الاستعانة بمعين أو الاعتضاد بأعضاد ،

٢٢٥

لم يكن لشيء من الأشياء أن يتوسط في تدبير أمر من الأمور ـ وهو الشفاعة ـ إلّا من بعد إذنه، تعالى، فهو سبحانه هو السبب الأصلي الذي لا سبب بالأصالة دونه وغيره من الأسباب أسباب بتسبيبه وشفعاء من بعد إذنه، وإذا كان كذلك كان الله تعالى هو ربكم الذي يدبر أمركم لا غيره مما اتخذتموه أرباباً من دون الله وشفعاء عنده وهو المراد بقوله:( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أي لماذا لا تنتقلون انتقالاً فكرياً حتى تفهموا أنّ الله هو ربكم لا ربَّ غيره(١) .

٢. الشفاعة القيادية

المراد من هذا الصنف هو قيام قيادة الأنبياء والأولياء والأئمّة والعلماء والكتب السماوية مقام الشفيع والشفاعة في تخليص البشر من عواقب أعماله وآثار سيئاته.

وتوضيح ذلك: أنّه إذا كانت نتيجة الشفاعة المصطلحة يوم القيامة هي تخليص العصاة من عواقب أعمالهم، وآثار معاصيهم وأفعالهم، فإنّ قيادة الأنبياء والأولياء والكتب السماوية والعلماء وأقلامهم تقوم بنفس هذا العمل.

غير أنّ الفرق بين الشفاعتين واضح فإنّ الشفاعة المصطلحة توجب رفع العذاب عن العبد بعد استحقاقه له، وهذه الشفاعة توجب أن لا يقع العبد في عداد العصاة حتى يستحق.

وإن شئت قلت: إنّ الشفاعة الأولى تخلّص العبد بعد زلته وعثرته وبعد وقوعه في المهالك والمهاوي، ولكن الشفاعة القيادية تمنع من وقوع العبد في المهالك وزلته إلى المهاوي، فالأولى من قبيل الرفع، والثانية من قبيل الدفع، والفرق بينهما واضح، فإنّ الرفع يمنع المقتضي عن التأثير بعد وجوده، والدفع

__________________

(١) الميزان: ١٠ / ٦ ـ ٧.

٢٢٦

يمنع عن وجود المقتضي وتكوّنه.

وعلى ما ذكرنا من قيام قيادة الأنبياء والأئمّة مقام الشفيع والشفاعة في تخليص العبد من الوقوع في المهالك، يظهر أنّ إطلاق الشفاعة على هذا القسم ليس إطلاقاً مجازياً بل إطلاق حقيقي. وقد شهد بذلك القرآن والأخبار، قال سبحانه:( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (١) والضمير المجرور في( بِهِ ) يرجع إلى القرآن(٢) .

ولا شك أنّ ظرف شفاعة هذه الأمور إنّما هو الحياة الدنيوية، فإنّ تعاليم الأنبياء وقيادتهم الحكيمة وهداية القرآن وغيره إنّما تتحقق في هذه الحياة الدنيوية، وإن كانت نتائجها تظهر في الحياة الأخروية، فمن عمل بالقرآن وجعله أمامه في هذه الحياة قاده إلى الجنة في الحياة الأخروية، ولأجل ذلك نرى أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر الأمّة بالتمسك بالقرآن ويصفه بأنّه الشافع المشفّع ويقول: « فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفّع، وماحل مصدّق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبرهان »(٣) .

فإنّ قوله: ومن جعله أمامه، تفسير لقوله: فإنّه شافع مشفّع.

والحاصل: أنّ الشفاعة القيادية شفاعة بالمعنى اللغوي، فإنّ المكلفين بضم هداية القرآن وتوجيهات الأنبياء والأئمّة إلى إراداتهم وطلباتهم، يفوزون بالسعادة ويصلون إلى أرقى المقامات في الحياة الأخروية ويتخلّصون من تبعات المعاصي ولوازمها.

__________________

(١) الأنعام: ٥١.

(٢) مجمع البيان: ٢ / ٣٠٤.

(٣) الكافي: ٢ / ٢٣٨.

٢٢٧

فالمكلف وحده لا يصل إلى هذه المقامات، ولا يتخلص من تبعات المعاصي، كما أنّ خطاب القرآن والأنبياء وحده من دون أن يكون هناك من يسمع قولهم ويلبّي نداءهم لا يكون له أثر وإنّما يؤثر إذا انضمّ عمل المكلف إلى هدايتهم، وهدايتهم إلى عمل المكلف فعندئذ تتحقق هذه الغاية.

وبهذا تبيّن أنّ هذه الشفاعة لغوية، لا تمت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة، وذلك لأنّ جميع هذه الأمور، أعني اتّباع المكلف وقيادة الأنبياء وهداية القرآن، غير متحققة إلّا في الظروف الدنيوية وإن كانت تظهر النتيجة التامة في الحياة الأخروية، والشفاعة المصطلحة عبارة عن تحقق الشفاعة في الحياة الأخروية وظهور نتائجها فيها، وعندئذ يكون بين الشفاعتين بون بعيد.

والدليل على أنّ ظرف الشفاعة المصطلحة هو الحياة الأخروية: ما ورد في القرآن الكريم، حيث عرف ظرفها اليوم الأخروي، إذ قال سبحانه:( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) (١) .

وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ) (٢) وقال سبحانه:( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (٣) وقال سبحانه:( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ *إِلا مَن رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الرَحِيمُ ) (٤) .

فأنت إذا لاحظت هذه الآيات وأمعنت النظر في كلمة( يَوْمَ ) التي وردت في هذه الآيات مكررةً، تقف على أنّ ظرف إعمال الشفاعة وتحققها وظهور نتائجها

__________________

(١) البقرة: ٤٨.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) طه: ١٠٩.

(٤) الدخان: ٤١ ـ ٤٢.

٢٢٨

جميعاً إنّما هو الحياة الأخروية، أعني اليوم الموعود الذي وعده الله لجميع الناس.

وأمّا الشفاعة القيادية فنفس الشفاعة وتحقّقها وتكوّنها في الحياة الدنيا وإنّما تتحقّق نتائجها وتظهر آثارها في الحياة الأخروية فكيف يصح أن تفسّر إحدى الشفاعتين بالأخرى ؟!

والذي يكشف عن ذلك هو أنّ بعض الآيات النافية للشفاعة والمثبتة لها إنّما وردت في نفي عقيدة اليهود القائلين بالشفاعة الباطلة، فأراد القرآن بنصوصه إخراج أمر الشفاعة بصورة صحيحة لا تأباه الفطرة، ولا تنخرم به الأصول العقلية، فبما أنّ اليهود يعتقدون بأنّ انتسابهم إلى الأنبياء يوجب أن لا تمسّهم النار يوم القيامة إلّا أياماً معدودة، جاء القرآن يفنّد هذه المزعمة بنفي الشفاعة المطلقة المحررة من كل قيد وإثبات شفاعة محدودة ومقيّدة، وعلى ذلك فالنفي والإثبات في آيات الشفاعة لا يردان على المورد الواحد إلّا بجعل ظرف تلك الشفاعة هو يوم القيامة والحياة الأخروية.

وعلى ذلك لا ينبغي لمفسّرٍ إرجاع الآيات المربوطة بالشفاعة، إلى الشفاعة القيادية، التي لا ترتبط بعقيدة اليهود في أمر الشفاعة وليس لها ظرف إلّا هذه الحياة الدنيوية.

أضف إلى ذلك أنّ القرآن يعرّف الملائكة بأنّهم من الشفعاء ويقول سبحانه:( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) (١) ومن المعلوم أنّ الشفاعة الممكنة من الملائكة في حق الإنسان إنّما هي الشفاعة المصطلحة، لا القيادية فإنّ البشر العادي لا يقدر على الاستنارة والاستفادة من الملك، ولا يمكن للملك أن يتكفل قيادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا.

__________________

(١) النجم: ٢٦.

٢٢٩

وهذه الوجوه وغيرها تفنّد زعم من فسّر الشفاعة الواردة في القرآن الكريم بالشفاعة القيادية، منهم الشيخ الطنطاوي في تفسيره، فإنّه لما لم يتوفّق لحل مشاكل الشفاعة التي اخترعتها بعض العقول المنحرفة في أمر الولاية، صار إلى تفسير آياتها بالشفاعة القيادية، وأخذ يفسرها بتعاليم الأنبياء وهداية القرآن التي يصل بها الإنسان إلى الفوز والسعادة، ويتخلّص بها من العذاب حيث قال :

إنّ شفاعة الأنبياء ليس من قبيل الهبات المالية ولا الوظائف الإدارية وإنّما هي نفحات علمية وأخلاق حكمية وآداب نبوية(١) .

فَمَن فَقِهَ ما قالوه واتّبع ما رسموه واستثمر من بذور الشفاعة ما بذروه، تمت له الشفاعة ودخل مع الجماعة وليس هذا القول بمخالف أهل السنّة ولا المعتزلة، فإنّ خروج العاصي من النار بالشفاعة أو إبعاده عنها قبل الدخول وكذلك زيادة الحسنات في الأعمال للصالحين، كل هذا جاء من شفاعته واتّباعه بل كل ثواب فإنّما هو بسبب ذلك وهكذا كل نجاة، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لو لم يأت لنا بالشريعة لكنّا أقرب إلى الحيوان فصرنا باتّباعه داخلين في شفاعته، ولا يكون ذلك إلّا باتّباعه ولا ننال إلّا ما استعددنا له.

سؤال وجواب

ولقائل أن يقول: إنّ القول بمسألة تجسّم الأعمال بمعنى أنّ ما يفعله الإنسان من صالح الأعمال وما يرتكبه من جرائمها سيجسم في الحياة الأخروية بالوجود المناسب لظرف تلك الحياة ربّما يدفع تخصيص الشفاعة القيادية بالحياة الدنيوية، ويوجب عموميتها لغير هذا الظرف أيضاً، وذلك لأنّ التجسم لا يختص بنفس الأعمال بل يعم الروابط الموجودة بين الناس حتى رابطة التابعية والمتبوعية

__________________

(١) تفسير الطنطاوي: ١ / ٦٩ ـ ٧٠.

٢٣٠

ورابطة الإمامة والقيادة الحاكمة في الحياة الدنيوية، فإنّ صريح الآيات هو أنّ كل أُناس يُدّعى بإمامتهم فالقيادة الموجودة في هذه الحياة يمتد وجودها إلى الحياة الأخروية، فمن كان قائداً في هذا الظرف فهو قائد في الحياة الأخروية، قال سبحانه:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (١) فهذه الآية تكشف عن أنّ القيادة سيمتد وجودها وينجر من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى، ويدل على ذلك بوضوح قوله سبحانه في حق فرعون:( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الوِرْدُ المَوْرُودُ ) (٢) .

وهذه الآية تدل ـ بوضوح وصراحة ـ على امتداد وجود القيادة من هذه الحياة إلى الحياة الأخروية، فالإمام الحق يقود أُمّته إلى الجنة، والإمام الباطل يقدم قومه ويوردهم النار، وعلى ذلك فكل إمام سواء كان حقّاً أو باطلاً شفيع يسوق المشفوع له إلى الغاية التي يتوخّاها، ولا يختص ظرف تلك الشفاعة بالحياة الدنيوية.

ولكن الإجابة عن هذا السؤال واضحة، فإنّ القول بأنّ حقيقة التجسّم امتداد لنفس العمل الدنيوي إلى الحياة الأخروية غفلة عن حقيقة التجسّم الذي كشف عنه القرآن في بعض آياته.

فإنّ التجسّم الذي يعترف به القرآن هو عبارة عن ظهور نفس العمل الدنيوي بالوجود المناسب للعالم الأخروي، فالقيادة في الحياة الأخروية ليست امتداداً للقيادة الحاكمة في الحياة الدنيوية بل هو ظهور تلك القيادة بالوجود المناسب للعالم الأخروي، والفرق بين الوجودين كالفرق بين الذهب ومعدنه، فليس هناك ذهبان بل هناك ذهب واحد، يظهر تارة بوجود معدني مع ما يرافقه

__________________

(١) الإسراء: ٧١.

(٢) هود: ٩٨.

٢٣١

من الشوائب والأغيار، وأُخرى بوجوده المصفّى، والذهب المصبوب المصفّى من تلك الزوائد والشوائب، نفس الذهب في حالته الأوّلية.

ويدلّ على ما ذكرناه ـ من أنّ هنا شيئاً واحداً يظهر بوجودين ـ الآيات الواردة حول مسألة التجسم قال سبحانه:( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (١) وقال سبحانه:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ) (٢) وصريح الآيتين هو أنّ الحاضر هو نفس العمل، كما أنّ المحضر نفس ما عملته النفس لا شيء آخر مغاير للوجود الدنيوي.

ويدل بوضوح على ذلك قوله سبحانه في حق مكتنزي الذهب والفضة:( يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) (٣) فالمحمي الظاهر في شكل النار هو نفس ما اكتنز من الذهب والفضة كما هو صريح قوله:( هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ ) ، وقوله:( فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) لا شيئاً آخر، ولا امتداداً لذلك الوجود.

وعلى ذلك فالقيادة الأخروية والشفاعة التي تنتزع من تلك القيادة صورة أُخروية لنفس القيادة والشفاعة الدنيوية، وحقيقة عينية لها، فإنّ الله سبحانه يوجد تلك القيادة بالوجود المناسب لهذا الظرف، وعلى ذلك فظرف الشفاعة القيادية وموضع تكونها هو الحياة الدنيوية، وما يظهر من القيادة يوم القيامة هو ظهور تلك الرابطة لا شيء آخر، وعلى ذلك فلا يناسب تفسير آيات الشفاعة أو بعضها بمسألة تجسّم العمل وتجسّم الروابط والقيادات الموجودة في الحياة الدنيوية للبشر، فسوق فرعون قومه يوم القيامة إلى النار هو تجسم للقيادة التي اتخذها فرعون لنفسه

__________________

(١) الكهف: ٤٩.

(٢) آل عمران: ٣٠.

(٣) التوبة: ٣٥.

٢٣٢

في هذه الدنيا وتبعتها أُمّته المسكينة، فهذه القيادة الدنيوية تتمثل في الآخرة بالقيادة إلى النار.

٣. الشفاعة المصطلحة

وحقيقة هذه الشفاعة لا تعني إلّا أن تصل رحمته سبحانه ومغفرته وفيضه إلى عباده عن طريق أوليائه وصفوة عباده، وليس هذا بأمر غريب فكما أنّ الهداية الإلهية التي هي من فيوضه سبحانه، تصل إلى عباده في هذه الدنيا من طريق أنبيائه وكتبه، فهكذا تصل مغفرته سبحانه وغفرانه إلى المذنبين والعصاة يوم القيامة من عباده عن ذلك الطريق.

وإن شئت قلت: إنّ إرادته الحكيمة جرت في صفحة الوجود أن يتحقق كل شيء من طريق الأسباب الخاصة، والعلل المعينة فكما أنّ رحمته التي وسعت كل شيء تصل إلى عباده في الحياة الدنيوية، عن طرق خاصة وعلل طبيعية يلمسها كل من فتح عينه على الكون، فكذلك رحمته المعنوية ومغفرته الوسيعة تصل في الحياة الأخروية إلى عباده عن طريق علل وأسباب خاصة ومن تلك الأسباب، أولياؤه وصفوة خلقه، ودعاؤهم وطلباتهم.

وما ذلك إلّا لأنّ الله سبحانه قد جعل لكل شيء سبباً وقضى أن لا يصدر المسبب إلّا بتوسط أسبابه، فدار الوجود وصفحة الكون مدار الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات، وقد جرت عليه مشيئته وإرادته.

أضف إلى ذلك أنّ وصول فيضه عن طريق أوليائه إلى عباده، تكريم للأولياء، وإظهار لمقامهم ونوع مثوبة لهم بالنسبة إلى طاعتهم وتضحياتهم، في طريق الحق، وإبلاغ رسالاته وأوامره.

ولا بعد في أنّ يصل غفرانه سبحانه إلى عباده يوم القيامة عن طريق خيرة

٢٣٣

عباده فإنّ الله سبحانه قد جعل دعاءهم في الحياة الدنيوية سبباً، ونص بذلك في بعض آياته فنرى أنّ أبناء يعقوب لما عادوا خاضعين، رجعوا إلى أبيهم وقالوا له:( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) (١) فأجابهم يعقوب بقوله:( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (٢) .

وليس يعقوب وحيداً في هذا الباب بل النبي الأكرم أحد من يستجاب دعاؤه في حق العصاة قال سبحانه:( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) (٣) .

وهذه الآيات ونظائرها مما لم نذكرها مثل قوله:( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (٤) تدل على أنّ مغفرته سبحانه قد تصل إلى عباده بتوسيط واسطة كالأنبياء، وقد تصل بلا توسيط واسطة، كما يفصح عنه سبحانه بقوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) (٥) ، وقوله:( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (٦) إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن أنّ توبة العبد تجلب المغفرة بلا واسطة أحد وقد تصل بتوسيط واسطة هي من أعز عباده وأفضل خليقته وبريته.

وتتضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق وبخاصة دعاء الصالحين من المؤثرات الواقعة في سلسلة نظام العلة والمعلول، ولا تنحصر العلة في العلل الواقعة في إطار الحس، فإنّ في الكون مؤثرات خارجة عن إحساسنا

__________________

(١) يوسف: ٩٧.

(٢) يوسف: ٩٨.

(٣) النساء: ٦٤.

(٤) التوبة: ١٠٣.

(٥) التحريم: ٨.

(٦) هود: ٩٠.

٢٣٤

وحواسنا بل قد تكون بعيدة حتى عن تفكيرنا، يقول سبحانه:( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً *وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً *وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً *فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً *فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) (١) .

فما المراد من( المُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) ؟ أهي مختصة بالمدبرات الطبيعية المادية، أو المراد هو الأعم منها ؟ فقد روي عن أمير المؤمنين تفسيرها بالملائكة الأقوياء، الذين عهد الله إليهم تدبير الكون والحياة بإذنه سبحانه، فكما أنّ هذه المدبرات يجب الإيمان بها وان لم تعلم كيفية تدبيرها وحقيقة تأثيرها، فكذلك الدعاء يجب الإيمان بتأثيره في جلب المغفرة، ودفع العذاب وان لم تعلم كيفية تأثيره.

ويشير إلى ذلك ما روي عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث سئل عن الأحراز التي يتداولها سواد الناس يقصدون بها الاستشفاء، وهل أنّها تستطيع أن تغير القدر أو لا ؟ فأجابصلى‌الله‌عليه‌وآله : « هي من قدر الله »(٢) . فأخبر بهذا عن أنّ الدعاء أيضاً جزء من القدر الإلهي، فكما قدر أن يشفى المريض بسبب الداوء كذلك قدر أن يشفى بالدعاء.

ثم إنّ العلّامة الطباطبائي رضوان الله عليه قد أوضح كيفية تأثير الشفاعة في جلب الغفران ودفع العذاب بقوله: « إنّ الشفيع إنّما يحكّم بعض العوامل المربوطة بالمورد، المؤثرة في رفع العقاب مثلاً من صفات المشفوع عنده ( أي الله سبحانه ) على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم وترتب العقاب على مخالفته ( إلى أن قال: ) ومن هنا يظهر أنّ الشفاعة من مصاديق المسببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الأوّل ومسبّبه.

__________________

(١) النازعات: ١ ـ ٥.

(٢) التاج الجامع للأصول: ٣ / ١٧٨ ـ ١٧٩. وروى الصدوق عن الإمام الصادقعليه‌السلام عندما سئل عن الرقى: أتدفع من القدر شيئاً ؟ فقال: « هي من القدر ». راجع توحيد الصدوق: ٣٨٩.

٢٣٥

وإن شئت قلت: إنّ الشفيع يستفيد من صفات الله العليا من الرحمة والخلق والإحياء والرزق وغير ذلك في إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه، فكما أنّ الشفاعة التكوينية ( التي مر ذكرها وشرحها في القسم الأوّل من الشفاعة ) ليست إلّا توسط العلل والأسباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها كما يفصح عنه قوله سبحانه:( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) (١) فكذلك الشفاعة المصطلحة فإنّ الآيات تثبت الشفاعة لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الإذن والارتضاء، فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبداً من عباده ساءت حاله بالمعصية وشملته بلية العقوبة، ولله الملك وهو القائل عز من قائل:( فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) (٢) .(٣)

وبذلك ظهر أنّ الشفاعة المصطلحة قسم من الشفاعة التكوينية، بمعنى تأثير دعاء النبي ومسألته في جلب الغفران بتوسيط صفاته العليا في هذا الأمر.

أضف إلى ذلك: انّ تأثير الشفاعة في جلب الغفران ونزول الفيض، لا يحتاج إلى هذا التحليل أساساً، فإنّ الله سبحانه هو مالك يوم الدين وله الملك وله الأمر، فكما أنّ له إحباط عمل الكفار والمنافقين إذ يقول سبحانه:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنثُوراً ) (٤) وقال سبحانه:( فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (٥) فكذلك له أن يغفر من ذنوب عباده ما شاء ولمن شاء وبما شاء إذ يقول:( إِنَّ اللهَ

__________________

(١) يونس: ٣.

(٢) الفرقان: ٧٠.

(٣) الميزان: ١ / ١٦١ ـ ١٦٣ بتلخيص.

(٤) الفرقان: ٢٣.

(٥) محمد: ٩.

٢٣٦

لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (١) ، والآية واردة في غير مورد الإيمان والتوبة فإنّ الإيمان والتوبة، يغفر بهما الشرك أيضاً.

فكما أنّ له تكثير القليل من العمل قال سبحانه:( أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَرَّتَيْنِ ) (٢) وقال سبحانه:( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) (٣) كذلك له أن يجعل المعدوم من العمل موجوداً قال سبحانه:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِنْ عَمَلِهِم مِن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) (٤) .

وهذه الآية تصرح بأنّ ثواب العمل يصل إلى ذرية الإنسان أيضاً وإن لم تفعل هي بنفسها.

ولا يتوهم من هذه الآيات أنّ المغفرة والعقاب لا يخضعان لقانون بل الله يفعل ما يفعل بملاكات ومصالح مقتضية خفية علينا، ولتكن من ذلك شفاعة أوليائه وتوسط صفوة عباده في هذا المورد.

مبررات الشفاعة

إنّ هناك مبررات لجعل الشفاعة من أسباب المغفرة ورفع العذاب نذكر بعضها :

١. ابتلاء الناس بالذنب والتقصير

ربما يقال إذا كان المنقذ الوحيد للإنسان يوم القيامة هو عمله الصالح كما

__________________

(١) النساء: ٤٨ و ١١٦.

(٢) القصص: ٥٤.

(٣) الأنعام: ١٦٠.

(٤) الطور: ٢١.

٢٣٧

هو صريح الآيات، فلماذا جعلت الشفاعة وسيلة للمغفرة، وسبباً لرفع العذاب أو ليس الله يقول:( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَىٰ ) (١) وقال سبحانه:( فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ ) (٢) وقال سبحانه:( وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ) (٣) وعلى ذلك فلماذا أُدخلت الشفاعة في سلسلة العلل لجلب المغفرة ؟

ولكن الإجابة على هذا السؤال واضحة فإنّ الفوز بالسعادة وإن كان يعتمد على العمل أشد الاعتماد غير أنّ صريح الآيات الأخر هو انّ العمل بنفسه ما لم تنضم إليه رحمته الواسعة لا ينقذ الإنسان من تبعات تقصيره، قال سبحانه:( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمّىً ) (٤) وقال سبحانه:( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ ) (٥) .(٦)

__________________

(١) الكهف: ٨٨.

(٢) القصص: ٦٧.

(٣) القصص: ٨٠.

(٤) النحل: ٦١.

(٥) فاطر: ٤٥.

(٦) الآيتان بحكم السياق تعنيان الكفار والعصاة، فلا تعمّان المعصومين من الناس، فإنّ الآية المتقدمة على تلك الآية في سورة النحل تعني الذين لا يؤمنون بالآخرة، وتقول:( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَىٰ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل: ٦٠ ).

كما أنّ الآية المتقدمة على الواردة في سورة فاطر تعني المستكبرين فتقول:( اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً ) ( فاطر: ٤٣ ) ثمّ يقول:( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً *وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا ) .

وعلى ذلك فالمنصرف من لفظة ( الناس ) في الآيتين هو الكفار والمستكبرون.

٢٣٨

وقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « أيّها الناس انّه ليس بين الله وبين أحد نسب ولا أمر يؤتيه به خيراً أو يصرف عنه شراً إلّا العمل ألا لا يدّعين مدع ولا يتمنين متمن، والذي بعثني بالحق لا ينجي إلّا عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت »(١) .

ولأجل ذلك نرى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « إنّه ليغان على قلبي، وإنّي لاستغفر الله كل يوم مائة مرة »(٢) .

ويدل هذا الحديث على أنّ كل من كثر قربه منه سبحانه يستفيد من مغفرته وفيضه العام أكثر من غيره.

٢. سعة رحمته لكل شيء

إنّ التدّبر في الآيات القرآنية يعطي انّ رحمة الله سبحانه واسعة تسع كل الناس، إلّا من بلغ إلى حد لا يقبل التطهر، ولا الغفران، قال سبحانه حاكياً عن حملة العرش الذين يستغفرون للذين تابوا واتبعوا سبيله:( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ) (٣) .

نرى أنّ حملة العرش يدلّلون طلب غفرانه سبحانه للتائبين والتابعين لسبيله بكون رحمته واسعة وسعت كل شيء.

كما نرى أنّه سبحانه يأمر نبيه أن يواجه الناس كلّهم حتى المكذّبين لرسالته

__________________

(١) الشرح الحديدي لنهج البلاغة: ٢ / ٨٦٣.

(٢) صحيح مسلم: ٨ / ٧٢، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، ط محمد علي صبيح. وللعلماء في معنى الحديث توجيهات ذكرها القاضي في الشفاء في الفصل الأوّل من الباب الأوّل من القسم الثالث.

(٣) غافر: ٧.

٢٣٩

بقوله:( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) (١) .

ونرى في آية ثالثة يعد الذين يجتنبون الكبائر بالرحمة والمغفرة ويقول:( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ) (٢) . وهذه الآيات توضح مفاد ما ورد في الأدعية الإسلامية من قولهعليه‌السلام : « يا من سبقت رحمته غضبه ».

كيف ونحن نرى أنّ الله سبحانه يعد القانط من رحمة الله والآيس من روحه كافراً وضالاً ويقول:( وَلا تَيْأَسُوا مِن رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللهِ إِلا القَوْمُ الكَافِرُونَ ) (٣) ويقول أيضاً:( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ ) (٤) ويقول سبحانه:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (٥) .

فإذا عرفنا القرآن بأنّ الله سبحانه ذو رحمة واسعة تفيض على كل شيء، فعند ذلك لا مانع من أن تفيض رحمته وغفرانه عن طريق أنبيائه ورسله وأوليائه فيقبل أدعيتهم، وطلباتهم في حق عباده بدافع انّه سبحانه ذو رحمة واسعة، كما لا مانع أن يعتقد العصاة في شرائط خاصة بغفرانه سبحانه من طرق كثيرة لأجل أنّه عد القانط ضالاً والآيس كافراً.

وعلى الجملة فكما يجب على المربي الديني أن يذكّر عباد الله بعقوبته وعذابه وما أعدّ للعصاة والكفار من سلاسل ونيران، يجب عليه أيضاً أن يذكّرهم برحمته الواسعة ومغفرته العامة التي تشمل كل شيء إلّا من بلغ من الخبث والرداءة درجة

__________________

(١) الأنعام: ١٤٧.

(٢) النجم: ٣٢.

(٣) يوسف: ٨٧.

(٤) الحجر: ٥٦.

(٥) الزمر: ٥٣.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407