مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109855 / تحميل: 7707
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢١-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

قالعليه‌السلام : «من أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان ورد النّار».(1)

وفي الآية اللاحقة ينقل القرآن الكريم جواب قادة الضلال والانحراف بأنّه ليس بيننا وبينكم أي تفاوت ، فإذا قلنا فقد أيدتم ، وإذا خطونا فقد ساعدتم ، وإذا ظلمنا فقد عاونتم ، وإذن فذوقوا بإزاء أعمالكم عذاب الله الأليم ،( وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) .

والمقصود من «الأولى» الطائفة الأولى أي القادة (قادة الضلال الانحراف) والمقصود من «الأخرى» الأتباع ، والأنصار.

* * *

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 182 ، 17

٤١

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) )

التفسير

مرّة أخرى يتناول القرآن بالحديث مصير المتكبرين والمعاندين ، يعني أولئك الذين لا يخضعون لآيات الله ولا يستسلمون للحق ، فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ) .

وقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها ، وأمّا الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد : اهبطوا به إلى سجّين».(1)

وقد رويت بهذا المضمون أحاديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير الطبري وسائر التفاسير ، في ذيل الآية المبحوثة.

__________________

(1) مجمع البيان في ذيل الآية المبحوثة.

٤٢

من الممكن أن يكون المقصود من السماء هنا معناه الظاهر ، وكذا يمكن أن تكون كناية عن مقام القرب الإلهي ، كما نقرأ في الآية (9) من سورة فاطر :( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

ثمّ أضاف قائلا :( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) ، أي حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة.

إنّ هذا التعبير كناية لطيفة عن استحالة هذا الأمر ، وقد اختير هذا المثال والتصوير الحسّي للإخبار عن عدم إمكان دخول هؤلاء الأشخاص في الجنّة ، فكما لا يتردد أحد في استحالة عبور الجمل بجثته الكبيرة من خلال ثقب الإبرة ، فكذلك لا ينبغي الشك في عدم وجود طريق لدخول المستكبرين إلى الجنّة مطلقا.

و «الجمل» في اللغة يعني البعير الذي خرجت أسنانه حديثا ، ولكن أحد معاني الجمل هو الحبل القوي والمتين الذي تربط به السفن أيضا(1) .

وحيث إنّ بين الحبل والإبرة تناسبا أقوى وأكثر ، لهذا ذهب بعضهم إلى هذا المعنى عند تفسير الآية ، ولكن أكثر المفسّرين الإسلاميين رجّح المعنى الأوّل ، وهم على حق في هذا الاتجاه لأمور :

أوّلا : إنّ في أحاديث أئمّة الإسلام كذلك تعابير تناسب التّفسير الأوّل.

ثانيا : إنّه يلاحظ نظير هذا التّفسير حول الأثرياء (المتكبرين الأنانيين) في الإنجيل أيضا ، ففي إنجيل لوقا الباب 18 الجملة 24 و 25 نقرأ هكذا : إنّ عيسى قال : «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله. لأنّ دخول الجمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله».

ولا أقل يستفاد من هذه العبارة أنّ هذه الكناية كانت متداولة بين الشعوب

__________________

(1) راجع «تاج العروس» ، و «القاموس» مادة الجمل.

٤٣

منذ قديم الزمان.

وقد نستعمل هذا المثل أيضا ، في محاوراتنا اليومية الآن ، فيقال عن الأشخاص المتشدّدين جدّا أحيانا ، والمتساهلين جدّا أحيانا أخرى : (إنّ فلانا تارة لا يدخل من باب المدينة ، وتارة يدخل من ثقب إبرة).

ثالثا : بالنظر إلى أنّ استعمال لفظة الجمل في المعنى الأوّل (أي البعير) أكثر ، بينما استعمالها في الحبل الغليظ قليل جدا ، لهذا يبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وفي خاتمة الآية يضيف تعالى للمزيد من التأكيد والتوضيح قائلا :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) .

وفي الآية اللاحقة يشير إلى قسم آخر من عقوبتهم المؤلفة إذ يقول :( لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ) (1) .

ثمّ يضيف للتأكيد( وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) .

والملفت للنظر والطريف : أنّه يعبّر عنهم مرّة بـ «المجرم» ومرّة بـ «الظالم» وثالثة بـ «المكذبين» لآيات الله ، ورابعة بـ «المستكبرين» ، وترجع جميعها إلى حقيقة واحدة في الواقع.

* * *

__________________

(1) المهاد جمع مهد وزان عهد أي الفرش ، والغواش في الأصل غواشي جمع غاشية بمعنى كل نوع من أنواع الغطاء ، كما أنّه يطلق على الخيمة أيضا ، وفي الآية الحاضرة يمكن أن يكون بمعنى الخيمة أو بمعنى الغطاء.

٤٤

الآيتان

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) )

التّفسير

الطّمأنينة الكاملة والسّعادة الخالدة :

إنّ أسلوب القرآن ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ هو عرض الطوائف المختلفة وبيان مصائرها جنبا إلى جنب لتأكيد الموضوع ، وشرح أوضاعها عن طريق المقارنة والمقايسة بينها.

ولقد كان البحث في الآيات السابقة حول المكذبين لآيات الله ، والمستكبرين والظالمين ، وهنا يشرح ويبيّن المستقبل المشرق للمؤمنين إذ يقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

٤٥

وقد أتى بين المبتدأ والخبر بجملة معترضة(1) . توضّح الكثير من الإبهامات إذ يقول :( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) .

وهذه الجملة تؤكّد بأنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور بأن الايمان بالله ، والإتيان بالعمل الصالح وسلوك سبيل المؤمنين ، أمر متعسر غير مقدور إلّا لأفراد معدودين ، لأنّ التكاليف الإلهية في حدود الطاقة البشرية وليست أكثر منها ، وبهذا فتح الطريق في وجه كل أحد عالما كان أو جاهلا ، صغيرا كان أو كبيرا ، ودعا الجميع إلى اللحاق بهذا الصف ، فالمطلوب من كل أحد العمل بمقدار قابليته الفكرية والبدنية وإمكانياته.

إنّ هذه الآية ـ مثل سائر الآيات القرآنية ـ تحصر وسيلة النجاة والسعادة الأبدية في الإيمان والعمل الصالح ، وهكذا تفنّد العقيدة النّصرانية المحرفة الذين يعتبرون صلب المسيح في مقابل ذنوب البشر وسيلة للنجاة ، ويقولون : إنّه قربان لخطايا الإنسانية.

إنّ إصرار القرآن الكريم على مسألة الإيمان والعمل الصالح ، في الآيات المختلفة لتفنيد هذه المقولة وأمثالها.

وفي الآية اللاحقة أشار تعالى إلى واحدة من أهم النعم التي أعطاها الله سبحانه لأهل الجنّة ، والتي تكون سببا لطمأنينتهم النفسية وسكنتهم الروحية ، إذ قال( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ ) .

و (الغل) في الأصل بمعنى نفوذ الشيء خفية وسرّا ، ولهذا يقال للحسد والحقد والعداوة ، الذي يتسلّل إلى النفس الإنسانية بصورة خفية (الغل) ، وإنّما يطلق «الغلول» على الرشوة بهذه المناسبة لأنّها تؤخذ خفيّة وسرّا لارتكاب

__________________

(1) ينبغي أن لا يتصور أحد بأنّ معنى الجملة المعترضة هو أنّ مفادها أجنبي وغريب من الموضوع المعترض ، بل لا بدّ أنّ هناك ارتباطا ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها ، وإن كانت من حيث التركيب توسطت كلاما متصلا ، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة المعترضة معترضة من حيث التركيب اللفظي ، لا من حيث المعنى.

٤٦

خيانة.(1)

وفي الحقيقة إنّ من أكبر عوامل الشقاء التي يعاني منها الناس في هذه الحياة ، ومصدر الكثير من الصراعات الإجماعية الواسعة التي تؤدي ـ مضافا إلى الخسائر الفادحة في المال والنفس ـ الى زعزعة الاستقرار الروحي ، هو الحسد والحقد.

فنحن نعرف الكثير ممن لا ينقصهم شيء في الحياة ، ولكنّهم يعانون من الحسد والحقد للآخرين ، وهو عذابهم الوحيد الذي يعكر صفو حياتهم ويضيق عليهم رحبها ، ويترك معيشة هؤلاء المرفهين ساحة تجوال عساكر الحزن والغم ، وتدفعهم إلى سلوكيات مرهقة وغير منطقية.

إنّ أهل الجنّة معافون من هذه الشقاوات والمحن بالكلية ، لأنّهم لا يتصفون بهذه الصفات القبيحة ، فلا حسد ولا حقد في قلوبهم ، ولهذا لا يتعرضون لعواقبها النكرة. إنّهم يعيشون معا في منتهى التواد والتحابب والصفاء والسكينة.

إنّهم راضون عن وضعهم الذي هم فيه ، حتى الذين يعيشون في مراتب أدنى من الجنّة لا يحسدون من فوقهم أبدا ، ولهذا تنحل أعظم مشكلة تعترض طريق التعايش السلمي.

ولقد نقل بعض المفسّرين حديثا في المقام عن السدّي قال : «إنّ أهل الجنّة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ ، فهو الشراب الطهور ، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا»(2) .

إن هذا الحديث وإن لم ينته سنده إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهما‌السلام وإنّما رواه أحد المفسّرين وهو «السّدي» ولكنّه لا يبعد أن يكون قد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

__________________

(1) للمزيد من التوضيح راجع الآية (161) من سورة آل عمران.

(2) تفسير المنار ، المجلد 8 ، الصفحة 421.

٤٧

الأصل ، لأنّ هذه الأمور ليست من المسائل والقضايا التي يستطيع السدّي وأمثاله الاطلاع عليها.

وعلى كل فهي إشارة لطيفة إلى الحقيقة التالية ، وهي أنّ أهل الجنّة قد تطهروا باطنا وظاهرا ، جسما وروحا ، فهم يتحلون بالجمال الجسماني ، والجمال الروحاني معا ، ولهذا فهم لا يعانون ، ـ مطلقا ـ من الحسد والحقد.

فما أسعد من يبني لنفسه في هذه الدنيا جنّة أخرى ، بتطهير صدره من الحقد والحسد ليتخلّص من افرازاتهما المؤلمة.

وبعد ذكر هذه النعمة الروحانية ، يشير القرآن الكريم إلى نعمهم المادية الجسدية ، فيقول :( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ) .

ثمّ بعكس رضى أهل الجنّة الكامل الشامل الذي يعبرون عنه بالحمد والشكر لله وحده على ما هداهم إليه من النعم( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ) .

وهنا يأتيهم النداء بأن ما ورثتموه من النعم إنّما هو بسبب أعمالكم( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

ومرّة أخرى نصل إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ النجاة رهن بالعمل الصالح ، وليسن بالأماني والظنون الخاوية.

و «الإرث» في الأصل بمعنى انتقال مال أو ثروة من شخص إلى آخر من دون أن يكون بينهما عقد (أي الانتقال عبر مسير طبيعي تلقائي ، لا عن طريق البيع والشراء) ولهذا يطلق الإرث على انتقال أموال الميت إلى خلفه.

لماذا عبّر بالإرث؟

وهنا ينقدح سؤال وهو : كيف يقال لأهل الجنّة : هذه النعم أورثتموها لقاء أعمالكم؟

٤٨

والجواب أوضحه حديث روي بطرق الشيعة والسنّة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «ما من أحد إلّا وله منزل في الجنّة ، ومنزل في النّار ، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النّار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة ، فذلك قوله أورثتموها بما كنتم تعملون»(1) .

فهذا الحديث يشير إلى أنّ أبواب السعادة والشقاء مفتوحة أمام جميع الناس قاطبة ، وإنّه لم يخلق أحد يوم خلق وهو من أهل الجنّة ، أو من أهل النّار ، بل يمتلك الجميع قابلية الوصول إلى كلا هذين المنزلين ، وإنّما إرادتهم هي التي تحدد وتقرّر مصيرهم.

ومن البديهي أنّه عند ما يستقر المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة في الجنّة ، ويستقر الكفار والأشرار في النّار ينتقل مكان ومنزل كل واحد منهما الى الآخر بصورة طبيعية.

وعلى كل حال ، فإن هذه الآية وهذا الحديث هما من البراهين والدلائل الواضحة على نفي الجبر ، وثبوت الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 31 ، وتفسير القرطبي ، المجلد الرّابع ، الصفحة 2645 ، وتفاسير أخرى.

٤٩

الآيتان

( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) )

التّفسير

بعد البحث في الآيات السابقة حول مصير أهل الجنّة وأهل النّار ، أشار هنا إلى حوار هذين الفريقين في ذلك العالم ، ويستفاد من ذلك أنّ أهل الجنّة وأهل النّار يتحادثون بينهم وهم في مواقعهم في الجنّة أو النّار.

فيقول أوّلا :( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ) .

فيجيبهم أهل النّار قائلين : نعم وجدنا كل ذلك. عين الحقيقة( قالُوا : نَعَمْ ) .

ويجب الالتفات إلى أن (نادى) وإن كان فعلا ماضيا ، إلّا أنّه هنا يعطي معنى المضارع ، ومثل هذه التعابير كثيرة في القرآن الكريم ، حيث يذكر الحوادث التي تقع في المستقبل حتما بصيغة الفعل الماضي ، وهذا يعدّ نوعا من التأكيد ، يعني أنّ

٥٠

المستقبل واضح جدّا ، وكأنّه قد حدث في الماضي وتحقق.

على أنّ التعبير بـ «نادى» الذي يكون عادة للمسافة البعيدة ، يصوّر بعد المسافة المقامية أو المكانية بين هذين الفريقين.

وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو : وما فائدة حوار هذين الفريقين مع أنّهما يعلمان بالجواب؟

وجواب هذا السؤال معلوم ، لأنّ السؤال ليس دائما للحصول على المزيد من المعلومات ، بل قد يتّخذ أحيانا صفة العتاب والتوبيخ والملامة ، وهو هنا من هذا القبيل. وهذه هي واحدة من عقوبات العصاة والظالمين الذين عند ما كانوا يتمتعون بلذائذ الدنيا ، حيث كانوا يؤذون المؤمنين بالعتابات المرّة ، والملامات المزعجة ، فلا بدّ ـ في الآخرة ـ أن ينالوا عقابا من جنس عملهم كنتيجة طبيعة لفعلهم ، ولهذا الموضوع نظائر في سور القرآن المختلفة ، منها ما في آخر سورة المطففين.

ثمّ يضيف تعالى بأنّه في هذا الوقت بالذات ينادي مناد بنداء يسمعه الجميع : أن لعنة الله على الظالمين( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) .

ثمّ يعرّف الظالمين ويصفهم بقوله :( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ ) (1) .

ومن الآية الحاضرة يستفاد مرّة أخرى أنّ جميع الانحرافات والمفاسد قد اجتمعت في مفهوم «الظلم» وللظالم مفهوم واسع يشمل جميع مرتكبي الذنوب ، والآثام ، وخصوصا الضالون المضلّون.

__________________

(1) يبغونها عوجا بمعنى يطلبونها عوجا ، أي أنّهم يرغبون ويجتهدون في أن يضلوا الناس بإلقاء الشبهات والدعايات المسمومة عن الطريق المستقيم. كما أنّ الراغب قال في «المفردات» عوج (بفتح العين) يعني الاعوجاج الحسي ، وعوج بكسر العين يطلق على الاعوجاجات التي تدرك بالفكر والعقل ، ولكن هذا التفصيل لا ينسجم مع ظاهر طائفة من الآيات القرآنية مثل الآية (107) من سورة طه (فتأمل بدقّة).

٥١

من هو المؤذّن! والمنادي؟

من هو هذا المؤذن الذي يسمعه الجميع؟ وفي الحقيقة له سيطرة وتفوق على جميع الفرقاء والطوائف؟

لا يستفاد من الآية شيء في هذا المجال ، ولكن جاء في الأحاديث الإسلامية المفسّرة والموضّحة لهذه الآية ، تفسير المؤذّن بأمير المؤمنين عليعليه‌السلام .

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني ـ الذي هو من علماء أهل السنّة بسنده عن «محمّد بن الحنفية» عن عليعليه‌السلام أنّه قال : «أنا ذلك المؤذّن».

وهكذا روى بسنده عن «ابن عباس» أنّ لعلّيعليه‌السلام أسماء في القرآن الكريم لا يعرفها الناس ، منها «المؤذّن» في قول الله تعالى :( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) فهو الذي ينادي بين الفريقين أهل الجنّة وأهل النّار ، ويقول : «ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفّوا بحقّي»(1) .

ولقد رويت روايات وأحاديث متعددة مماثلة بطرق الشيعة ، منها ما رواه الصّدوقرحمه‌الله بسنده عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب بالكوفة منصرفه في نهروان ، وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويعيبه ويقتل أصحابه ، فقام خطيبا (إلى أن قال) : «وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة ، قال اللهعزوجل ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) أنا ذلك المؤذن ، وقال :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) أنا ذلك الأذان»(2) .

ونحن نرى أنّ السبب في انتخاب أمير المؤمنين عليعليه‌السلام مؤذنا ومناديا في ذلك الوقت هو : أوّلا : لأنّه كان له مثل هذا المنصب من قبل الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا أيضا ، فهو بعد فتح مكّة كلّف من جانب الله بأن يتلو الآيات الأولى من سورة البراءة

__________________

(1) مجمع البيان عند الآية المطروحة هنا.

(2) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 17.

٥٢

على مسامع الناس بصوت عال في موسم الحج ، تلك الآيات التي تبدأ بقوله :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (1) .

ثانيا : إنّ موقف الإمام عليعليه‌السلام طوال حياته الشريفة كان موقف المكافحة للظلم ، والنضال ضد الظالمين ، حتى أنّ دفاعه عن المظلوم وعداءه للظالم وخاصّة مع ملاحظة ظروف عصره لتسطع في الصفحات البارزة من تأريخه.

أفليست الحياة في العالم الآخر هي نوع من تجسم كبير وواسع ومتكامل لحياة البشر في هذا العالم؟ وكلاهما بالتالي وجهان لعملة واحدة.

فإذا كانت هذه حقيقة من الحقائق ، لم يبق أي مجال لاستغراب أن يكون مؤذن ذلك اليوم ، والذي يلعن الظالمين في مكان بين الجنّة والنّار ، بأمر من الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو علىعليه‌السلام .

من هذا يتّضح الجواب والردّ على ما كتبه كاتب «المنار» الذي شكك في كون هذا المقام لعليعليه‌السلام فضيلة ، إذ يقول : ولو كنّا نعقل لإسناد هذا التأذين إليه كرم الله وجهه معنى يعدّ به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرّواية بما دون السند الصحيح(2) .

إذ يجب أن نقول له : كما أنّ النيابة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبلاغ سورة البراءة في موسم الحج تعتبر من أكبر فضائلهعليه‌السلام ، وكما أنّ مكافحته للظالمين والجائرين تعتبر من أبرز فضائله ، يكون حمله لهذه المهمّة في القيامة والذي يعد استمرارا لنفس ذلك البرنامج فضيلة طاهرة له أيضا.

كما يتّضح ممّا قلناه ـ أيضا ـ الردّ على ما كتبه «الآلوسي» كاتب تفسير «روح المعاني» الذي قال : ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنّه علي كرم

__________________

(1) التوبة ، 3.

(2) تفسير المنار ، ج 8 ، ص 426.

٥٣

الله تعالى وجهه ما لم يثبت من طريق أهل السنّة(1) .

لأن هذا الحديث ـ كما أسلفنا ـ نقله علماء الفريقين السنة والشيعة كلاهما في كتبهم ومصنفاتهم ، فلا مجال للتشكيك في صدوره.

* * *

__________________

(1) روح المعاني ، ج 8 ، ص 123.

٥٤

الآيات

( وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) )

التّفسير

الأعراف معبر مهم إلى الجنّة :

عقيب الآيات السابقة التي بيّنت جانبا من قصّة أهل الجنّة وأهل النّار ، تحدث في هذه الآيات حول «الأعراف» التي هي منطقة في الحد الفاصل بين الجنّة والنّار مع خصوصياتها.

٥٥

وفي البداية يشير إلى الحجاب الذي أقيم بين أهل الجنّة وأهل النّار ، إذ يقول :( وَبَيْنَهُما حِجابٌ ) .

ويستفاد من الآيات اللاحقة أنّ الحجاب المذكور هو «الأعراف» وهو مكان مرتفع بين الفريقين يمنع من رؤية كل فريق الفريق الآخر ، ولكن وجود مثل هذا الحجاب لا يمنع من أن يسمع كل منهما صوت الآخر ونداءه ، كما مرّ في الآيات السابقة.

فلطالما رأينا جيرة يتحادثون من وراء الجدار ، ويستجلي أحدهما حال الآخر دون أن يراه ، على أنّ الذين يقفون على الأعراف ، أي على الأقسام المرتفعة من هذا المكان المرتفع ، يرون كلا الفريقين (تأملوا جيدا).

ويستفاد من بعض آيات القرآن الكريم ، مثل الآية (55) من سورة الصافات ، أن أهل الجنّة ربّما تطّلعوا من أماكنهم وشاهدوا أهل النّار ، ولكن مثل هذه الموارد الاستثنائية لا تنافي ما عليه وضع الجنّة والنّار أساسا ، وأنّ ما قلناه آنفا يعكس ويصور الكيفية لهذين المكانين ، وإن كان لهذا القانون ـ أيضا ـ بعض الاستثناءات ، فيمكن أن يشاهد بعض أهل الجنّة أهل النّار في شرائط خاصّة.

إنّ ما يجب أن نذكر به مؤكدين قبل الخوض في بيان كيفية الأعراف هو أن التعابير الواردة حول القيامة والحياة الأخرى لا تستطيع ـ بحال ـ أن تكشف القناع عن جميع خصوصيات تلكم الحياة ، بل للتعابير ـ أحيانا ـ صفة التشبيه والتمثيل.

وأحيانا تكشف بعض تلك التعابير عن مجرّد شبح في هذا المجال ، لأنّ الحياة في ذلك العالم تكون في آفاق أعلى ، وهي أوسع بمراتب كثيرة من الحياة في هذا العالم ، تماما مثل سعة الحياة الدنيا هذه بالقياس إلى عالم الرحم والجنين.

وعلى هذا فلا عجب إذا كانت الألفاظ والمفاهيم المتداولة في هذا العالم لا تستطيع أن تعكس بصورة كاملة ومعبّرة تلك المفاهيم.

٥٦

ثمّ إنّ القرآن الكريم يقول :( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) يرون كلّا من أهل الجنّة وأهل النّار ويعرفونهم بملامح وجوههم.

و «الأعراف» في اللغة جمع «عرف» بمعنى المحل والموضع المرتفع ، ولهذا يطلق على شعر ناصية الفرس ، والريش الموجود على عنق الديك لفظ العرف ، فيقال «عرف الفرس» أو «عرف الديك» ، ومن هذا المنطلق يطلق على المكان المرتفع من البدن لفظ العرف أيضا (وسوف نتحدث بتفصيل حول خصوصيات منطقة الأعراف التي جاء ذكرها في هذه الآية بعد الفراغ من تفسير الآيات).

ثمّ يقول : أنّ هؤلاء الرجال ينادون أهل الجنّة ويسلّمون عليهم ، ولكنّهم لا يدخلون الجنّة وإن كانوا يرغبون في ذلك( وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) .

ولكن عند ما ينظرون إلى الطرف الآخر ويشاهدون أهل النّار يصطلون فيها ، يتضرعون إلى الله طالبين أن لا يجعلهم مع الظالمين( وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (1) .

والجدير بالذكر أنّه استخدم في رؤية أهل النّار في الآية لفظة( وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ ) يعني عند ما تعطف أبصارهم نحو جهنم لمشاهدة أهلها ، وهذه أشارة إلى أنّهم يكرهون مشاهدة أهل النّار ، وكأنّ نظرهم إليهم مقرون بالإكراه والإجبار.

وفي الآية اللاحقة يضيف : إنّ أصحاب الأعراف ينادون فريقا من الجهنميين الذين يعرفونهم بملامح وجوههم ويلومونهم قائلين : أمّا ترون أنّ جمعكم للأموال والأفراد والتجبّر والتكبّر عن قبول الحق لم ينفعكم شيئا ، فأين تلك الأموال وأولئك الأعوان؟ وماذا حصدتم من تلك المواقف والصفات السيّئة؟!

__________________

(1) «تلقاء» في الأصل ـ حسب قول بعض المفسّرين وأهل الأدب ـ مصدر ، وهو بمعنى المقابلة ، ولكن استعمل فيما بعد في معنى ظرف المكان ، أي في المكان المقابل والمحاذي.

٥٧

( وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) .

ومرّة أخرى يقولون موبخين ومعاتبين ، وهم يشيرون إلى جمع من ضعفاء المؤمنين المستقرين فوق الأعراف :( أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ) .

وفي المآل تشمل الرحمة الإلهية هذه الطائفة من ضعفاء المؤمنين ، ويقال لهم( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) .

من كل ما قلنا اتضح أنّ المراد من ضعفاء المؤمنين هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ولكنّهم بسبب تورطهم في بعض الذنوب كانوا موضع ازدراء من قبل أعداء الحق في الدنيا ، وكانوا يركزون على هؤلاء ويقولون : كيف يمكن لمثل هؤلاء أن تشملهم الرحمة الإلهية؟ وكيف يمكن لمثل هؤلاء أن يسعدوا؟ ولكن روح الإيمان والحسنات التي كانت عندهم فعلت فعلتها ـ في المآل ـ وفي ظلّ اللطف الرّباني والرحمة الإلهية ، فسعدوا ودخلوا الجنّة.

من هم أصحاب الأعراب :

«الأعراف» في الأصل ـ وكما أسلفنا ـ منطقة مرتفعة ، ويتّضح في ضوء القرائن التي وردت في آيات القرآن وأحاديث أئمّة الإسلام ، أنّه مكان خاص بين قطبي السعادة والشقاء ، أي الجنّة والنّار. وهو كحجاب حائل بين هذين ، أو كأرض مرتفعة فصلت بين هذين الموضعين بحيث يشرف من يقف عليها على الجنّة والنّار ، ويشاهد كلا الفريقين ، ويعرفهم بوجوههم المبيضة أو المسودة ، المشرقة أو المظلمة المكفهرة.

والآن لنرى من هم الواقفون على الأعراف؟ ومن هم أصحاب الأعراف؟

إنّ دراسة الآيات الأربع المبحوثة هنا تفيد أنّه ذكر لهؤلاء الأشخاص نوعين متناقضين مختلفين من الصفات.

٥٨

ففي الآية الأولى والثّانية وصف الواقفون على الأعراف بأنّهم يتمنون أن يدخلوا الجنّة ، ولكنّ ثمّة موانع تحول دون ذلك ، وعند ما ينظرون إلى أهل الجنّة يحيونهم ويسلمون عليهم ويودون لو يكونون معهم ، ولكنّهم لا يستطيعون فعلا أن يكونوا معهم ، وعند ما ينظرون إلى أهل النّار يستوحشون ممّا آلوا إليه من المصير ، ويتعوذون بأنّه من ذلك المصير ، ومن أن يكونوا منهم.

ولكن يستفاد من الآية الثّالثة والرّابعة بأنّهم أفراد ذوو نفوذ وقدرة ، يوبخون أهل النّار ويعاتبونهم ، ويساعدون الضعفاء في الأعراف على العبور إلى منزل السعادة.

وقد قسمت الرّوايات الواردة في هذا المجال أهل الأعراف الى هذين الفريقين المختلفين أيضا.

ففي بعض الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام نقرأ : «نحن الأعراف»(1) أو عبارة : «آل محمّد هم الأعراف»(2) وما شابه هذه التعابير.

ونقرأ في طائفة أخرى عبارة : «هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى»(3) أو «هم الشهداء على الناس والنّبيون شهداؤهم»(4) وروايات أخرى تحكي أنّهم الأنبياء والأئمّة والصلحاء والأولياء.

ولكن طائفة أخرى مثلما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام تقول : «هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فإن أدخلهم النّار فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته»(5) .

وثمّة روايات متعددة أخرى في تفاسير أهل السنة قد رويت عن «حذيفة» و

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد الثاني ، الصفحة 17 و 18 و 19.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 33 و 34.

(5) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 17.

٥٩

«عبد الله بن عباس» و «سعيد بن جبير» وأمثالهم بهذا المضمون(1) .

ونرى في هذه التفاسير أيضا مصادر تفيد أنّ أهل الأعراف هم الصلحاء والفقهاء والعلماء أو الملائكة.

وبالرغم من أنّ ظاهر الآيات وظاهر هذه الرّوايات تبدو متناقضة في بدون النظر ، ولعله لهذا السبب أبدى المفسّرون في هذا المجال آراء مختلفة ، ولكن مع التدقيق والإمعان يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض ومنافاة ، لا بين الآيات ولا بين الأحاديث ، بل جميعها تشير إلى حقيقة واحدة.

وتوضيح ذلك : أنّه يستفاد من مجموع الآيات والرّوايات ـ كما أسلفنا ـ الأعراف معبر صعب العبور على طريق الجنّة والسعادة الأبدية.

ومن الطبيعي أنّ الأقوياء الصالحين والطاهرين هم الذين يعبرون هذا المعبر الصعب بسرعة ، أمّا الضعفاء الذي خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فيعجزون عن العبور.

كما أنّه من الطبيعي أيضا أن تقف قيادات المجموع وسادة القوم عند هذه المعابر الصعبة مثل القادة العسكريين الذين يمشون في مثل هذه الحالات في مؤخرة جيوشهم ليعبر الجميع. يقفون هناك ليساعدوا ضعفاء الإيمان ، فينجو من يصلح للنجاة ببركة مساعدتهم ومعونتهم ونجدتهم.

وعلى هذا الأساس ، فأصحاب الأعراف فريقان : ضعفاء الإيمان والمتورطون في الذنوب الذين هم بحاجة إلى الرحمة ، والأئمّة السادة الذين يساعدون الضعفاء في جميع الأحوال.

وعلى هذا فإن الطائفة الأولى من الآيات والأحاديث تشير إلى الفريق الأوّل من الواقفين على الأعراف ، وهم الضعفاء ، والطائفة الثّانية منها تشير إلى الفريق

__________________

(1) تفسير الطبري ، المجلد 7 ، الصفحة 137 و 138 عند تفسير الآية.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

لا يقبل معها التطهير كما قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (١) .

٣. الأصل هو السلامة

دلت التجارب والبراهين العقلية على أنّ الأصل الأوّلي في الخليقة هو السلامة وانّ المرض والانحراف أمران يعرضان على المزاج ويزولان بالمداواة والمعالجة، وليس هذا الأصل مختصاً بالسلامة من حيث العيوب الجسمانية بل الأصل هو الطهارة من الأقذار والأدران المعنوية فقد خلق الإنسان على الفطرة النقية السليمة من الشرك والعصيان التي أشار إليها القرآن بقوله:( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (٢) . وقال النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كل مولود يولد على الفطرة، ثم أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه »(٣) .

وعلى ذلك فلا غرو في أن تزول آثار العصيان عن الإنسان بالعلاج والمداواة الخاصة في مواقف شتى حتى تظهر الخليقة الأولى التي فطر عليها.

فقد جعل الله سبحانه المواقف التي يمر بها الإنسان بعد موته في البرزخ ويوم القيامة، وسائل لتطهير الإنسان وتصفيته من آثار الذنوب وتبعاتها، ولا غرو في أن يكون الشفعاء المرضيون عند الله، أطباء يعالجون أُولئك المرضى، بتصرفاتهم ونفوسهم القوية حتى يزيلوا عنهم غبار المعصية، ودرن الذنب حتى تعود الجوهرة الإنسانية نقية صافية ناصعة فيستحق الإنسان نعيم الآخرة ودخول الجنّة إلّا من بلغ إلى حد لا يقبل العلاج والتداوي، لأجل أنّ ذاته قد انقلبت إلى ما يضاد

__________________

(١) النساء: ٤٨.

(٢) الروم: ٣٠.

(٣) التاج الجامع للأصول: ٤ / ١٨٠، تفسير البرهان: ٣ / ٢٦١، الحديث ٥.

٢٤١

الجوهرة الإنسانية النقية التي لا تقبل أيّة مداواة أو علاج، كما لو اتخذ لربه شريكاً فاستحق الخلود في النار.

فليس التوقّف في البرزخ ولا في المراحل المتنوعة في يوم القيامة ولا الدخول في النار مدة محدودة ولا شفاعة الأنبياء والأولياء في حقهم، إلّا تصرفاً تكوينياً في حقهم حتى تعود الجوهرة الأوّلية إلى حالتها الطبيعة الأولى وتصفو من كل شائبة تعلّقت بها نتيجة العصيان والتمرد.

٤. الآثار البنّاءة والتربوية للشفاعة

إنّ تشريع الشفاعة، والاعتراف بها في النظام الإسلامي إنّما هو لأجل غايات تربوية تترتب على ذلك التشريع والاعتقاد به، وذلك لأنّ الاعتقاد بالشفاعة المقيدة بشروط معقولة سيوافيك بيانها، من شأنه بعث الأمل في نفوس العصاة وأفئدة المذنبين، يدفعهم إلى العودة عن سلوكهم الإجرامي، وإعادة النظر في منهج حياتهم الشرير، ويمسكهم عن الاستمرار والتمادي في ماهم عليه من التمرد والعصيان، وذلك لأنّهم إذا رأوا أنّ الرجوع عن منتصف الطريق الباطل إلى طريق الصواب والحق، سينقذهم من ما يترتب على أفعالهم السيئة التي ارتكبوها مدة من عمرهم، اغتنموا الفرصة بتغيير وضعهم وتعديل سلوكهم إلى ما فيه رضا ربهم.

وهذا الاعتقاد ـ بالرغم مما اعترض عليه من جانب البعض بأنّه يوجب الجرأة ويحيي روح التمرد في العصاة والمجرمين ـ يتسبب في إصلاح سلوك المجرم ويقظته وإنابته، والتخلّي عن ما يرتكبه من آثام ويقترفه من ذنوب.

وتظهر حقيقة الحال إذا لاحظنا مسألة التوبة التي اتفقت عليها الأمّة ونص بها الكتاب والحديث، فإنّه لو كان باب التوبة موصداً في وجه العصاة

٢٤٢

والمذنبين، واعتقد المجرم بأنّ عصيانه مرة واحدة أو مرّات سيخلده في عذاب الله، ولا مناص له منه، فلا شك انّ هذا الاعتقاد يوجب التمادي في اقتراف السيئات وارتكاب الذنوب، لأنّه يعتقد بأنّه لو غير وضعه وسلوكه في مستقبل أمره، لا يقع ذلك مؤثراً في مصيره وخلوده في عذاب الله، فلا وجه لأن يترك المعاصي، ويغادر اللذة المحرمة، ويتحمّل عناء العبادة والطاعة، بل يستمر على وضعه السابق حتى يوافيه أجله.

وهذا بخلاف ما إذا وجد الجو مشرقاً والطريق مفتوحاً، والنوافذ مشرعة واعتقد بأنّه سبحانه سيقبل توبته إذا كانت نصوحاً، وإنّ رجوعه هذا سيغير مصيره في الآخرة، وينقذه من تبعات أعماله، وأليم العذاب عليها فعند ذلك سيترك العصيان، ويرجع إلى الطاعة، ويستغفر لذنوبه، ويطلب الإغضاء عن سيئاته.

فهذا الاعتقاد له الأثر البناء في تهذيب الناس والشباب خاصة، وكم وكم من شباب اقترفوا السيئات، وأمضوا الليالي في اللذة المحرمة، ثم عادوا إلى خلاف ما كانوا عليه في ظل التوبة والاعتقاد بأنّها تجدي المذنبين، وبأنّ أبواب الرحمة والفلاح مفتوحة بعد لم تغلق، فعادوا يسهرون الليالي في العبادة، ويحيونها بالطاعة.

وليس هذا إلّا أثر ذلك الاعتقاد، وذاك التشريع.

ومثل ذلك، الاعتقاد بالشفاعة المحدودة، فانّه إذا اعتقد العاصي بأنّ أولياء الله سبحانه قد يشفعون في حقّه في شرائط خاصة إذا لم يهتك الستر، ولم يبلغ إلى حد لا تنفع معه شفاعة الشافعين، فعند ذلك سوف يعيد النظر في مسيره ويحاول تطبيق نفسه على شرائط الشفاعة حتى يستحقها، ولا يحرمها.

نعم الاعتقاد بالشفاعة المطلقة، المحررة من كل قيد، من جانب الشفيع والمشفوع له، هو الذي يوجب التجرّي والتمادي في العصيان، وهذه الشفاعة

٢٤٣

مرفوضة في منطق العقل والقرآن، وكأنّ المعترض قد خلط بين الشفاعة المحدودة والشفاعة المطلقة من كل قيد، ولم يميز بينهما وبين آثارهما.

فالشفاعة الموجبة للتجري ومواصلة العناد والتمرّد، هي الاعتقاد بأنّ الأنبياء والأولياء سيشفعون في حقّه يوم القيامة على كل حال وفي جميع الشرائط وإن فعل ما فعل، وارتكب ما ارتكب، وعند ذلك سيستمر في عمله الإجرامي إلى آخر حياته رجاء تلك الشفاعة التي لا تخضع لضابطة وقانون، ولا تتقيد بقيد أو شرط.

وأمّا الشفاعة التي نطق بها الكتاب وأقرّت بها الأحاديث واعترف بها العقل، فهي الشفاعة المحدودة بشرائط في المشفوع له والشافع، ومجمل تلك الشرائط هو أن لا يقطع جميع علاقاته العبودية مع الله، ووشائجه الروحية مع الشافعين ولا يصل تمرده إلى حد القطيعة، ونسف الجسور.

فالاعتقاد بهذا النوع من الشفاعة مثل الاعتقاد بتأثير التوبة في الغفران ماهية وأثراً.

إنّ في التشريعات الجنائية العالمية السائدة في المجتمعات البشرية قانوناً يسمّى « قانون العفو عن السجناء الدائمين » يسمح للمسؤولين بأن يعفوا عن السجناء أو يقلّلوا من مدة عقوباتهم إذا هم غيّروا سلوكهم، وأظهروا الندامة والتوبة، وهذا القانون ليس من شأنه أن يبعث على الجرأة والعناد، بل من شأنه أن يدفع السجين إلى أن يصلح نفسه، ويعدل سلوكه، ويحقّق في نفسه شرائط استحقاق العفو والتخفيف على أمل أن ينطبق عليه ذلك القانون ويشمله العفو، وبهذا يكون هذا القانون المنطقي موجباً للإصلاح لا الإصرار، وداعياً إلى الأوبة لا الاستمرار.

٢٤٤

٥. الأمر بيده سبحانه أوّلاً وآخراً

ما ذكرناه من الوجوه هي مبررات الشفاعة والجهات التعليلية لجعلها في صميم العقائد الإسلامية، ومع ذلك كلّه فالأمر إليه سبحانه إن شاء إذن في الشفاعة وان لم يشأ لم يأذن، فهو القائل سبحانه:( مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (١) .

وصفوة القول: وانّ الشفيع انّما يشفع بإذنه وفي إطار مشيئته، وتحت الشروط التي يرتضيها، إذ هو الذي يبعث الشفيع على أن يشفع في حق المشفوع له، وعند ذلك فلا تستلزم شفاعة الشافعين خروج الأمر عن يده، وتحديد سلطته تعالى، وملكه، وسيوافيك بعض القول في ذلك عند التعرض للإشكالات المتوهمة حول الشفاعة.

__________________

(١) فاطر: ٢.

٢٤٥

٤

ما هو أثر الشفاعة

أهو إسقاط العقاب أو زيادة الثواب ؟

قد وقفت على آيات الشفاعة وأهدافها، وأقسامها، وانّ الشفاعة من الأصول الأساسية في العقيدة الإسلامية، غير انّه بقي هنا بحث وهو الوقوف على أثر الشفاعة، وانّ نتيجتها هي حط ذنوب المذنبين وإسقاط العقاب والمضار عنهم والعفو عن العصاة، أو هي ازدياد الثواب ورفع الدرجات، وقد ذهب إلى الأوّل جمهور المسلمين، وإلى الثاني فرقة المعتزلة وقد وقفت عند نقل الأقوال، على عقائدهم غير انّ الواجب هنا هو تعيين الموقف الصحيح من هذا الأمر.

إنّ الأسلوب الصحيح لتفسير القرآن الكريم له هو تجريد المفسّر نفسه عن كل رأي سابق، ووقف النظر على مدلول الآية والاهتداء إلى مرماها باستنطاقها واستنطاق أخواتها التي يمكن أن تقع قرينة لفهم المراد منها، وأمّا تفسير الآيات على ضوء الآراء المسبقة، وتطبيقها على تلك الأفكار وجعلها دليلاً على صحتها، فهو نفس التفسير بالرأي الذي حذّر عنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديث المتواتر عنه: « من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار »(١) .

وإن شئت قلت: يجب على المفسّر أن يتخذ نفس القرآن هادياً لمقصوده

__________________

(١) حديث متفق عليه، رواه الفريقان.

٢٤٦

سبحانه لا أن تكون الآراء المتخذة سلفاً، سبباً لتطبيق القرآن عليها، فإنّ هذا هو الآفة الكبيرة التي أصابت فرقاً من المسلمين، ودفعتهم إلى اتخاذ مواقف شاذة.

إنّ الآيات الواردة حول الشفاعة ـ مع الأسف ـ لم تتخلص عن هذه الآفة عند بعض هذه الفرق فإنّ الآيات الواردة حول الشفاعة ليست ناظرة إلى ما ذهبت إليه المعتزلة من أنّ نتيجتها هو رفع الدرجة وزيادة الثواب فقط، ولا أقل، لا تنحصر مداليلها بهذا بل هي ذات مدلول وسيع يعم كلا الأمرين من حط الذنوب والعقاب ورفع الدرجة وزيادة للثواب.

لم تكن مسألة الشفاعة فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها، بل كانت فكرة رائجة بين أُمم العالم من قبل وخاصة بين الوثنيين واليهود، نعم انّ الإسلام قد طرحها مهذبة من الخرافات ومما نسج حولها من الأوهام، وقررها على أُسلوب يوافق أُصول العدل والعقل وصحّحها تحت شرائط في الشافع والمشفوع له التي تجر العصاة إلى الطهارة من الذنوب، وكف اليد عن الآثام والمعاصي، ولا توجد فيهم جرأة وجسارة على هتك الستر، حسبما أوضحناه في الفصل الماضي.

وغير خفي على من وقف على آراء اليهود والوثنيين في أمر الشفاعة انّ الشفاعة الدارجة بينهم خصوصاً اليهود كانت مبنية على رجائهم لشفاعة أنبيائهم وآبائهم، في حط ذنوبهم، وغفران آثامهم، ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي، ويرتكبون الذنوب تعويلاً على ذلك الرجاء.

وفي هذا الموقف يقول سبحانه رداً على تلك العقيدة الباعثة إلى الجرأة:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (١) ويقول أيضاً رفضاً لتلك الشفاعة المحررة من كل قيد:( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (٢) .

__________________

(١) البقرة: ٢٥٥.

(٢) الأنبياء: ٢٨.

٢٤٧

وحاصل الآيتين: انّ أصل الشفاعة التي تدّعيها اليهود ويلوذ إليها الوثنيون حق ثابت في الشريعة السماوية، غير انّ لها شروطاً أهمها إذنه سبحانه للشافع ورضاؤه للمشفوع له.

وعلى ذلك فكيف يصح لنا تخصيص الآيات بقسم خاص من الشفاعة وهي شفاعة الأولياء لرفع الدرجة، وزيادة الثواب ؟

وأوضح دليل على عمومية الشفاعة للقسم الثالث من الأقسام الماضية ما أصفق على نقله المحدّثون من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي »(١) .

ومع هذه القرائن والأحاديث الكثيرة التي ستمر عليك في فصلها الخاص لا يصح تخصيص الآيات بالمورد الذي ذهبت إليه المعتزلة.

دافع المعتزلة إلى اتخاذ الرأي الخاص

إنّ الدافع الوحيد للمعتزلة كلّهم أو أكثرهم إلى تخصيص آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العصاة هو الموقف الذي اتّخذوه في حق العصاة ومقترفي الذنوب في أبحاثهم الكلامية، فانّهم قالوا بخلود أهل العصيان في النار، وهذه العقيدة منسوبة إلى جميعهم أو أكثرهم، ومن الواضح أنّ من يتخذ مثل هذا الموقف لا يصح له أن يعمّم آيات الشفاعة إلى العصاة، وذلك لأنّ التخليد في النار لا يجتمع مع التخلّص عنها بالشفاعة.

وإليك ما نقل عن المعتزلة في هذا الصعيد: قال المفيد: اتفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجّه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى، والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة، ووافقهم على هذا القول

__________________

(١) ستوافيك مصادر الحديث في البحث الروائي.

٢٤٨

كافة المرجئة سوى محمد بن شبيب، وأصحاب الحديث قاطبة، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عام في الكفار وجميع فساق أهل الصلاة.

واتفقت الإمامية على أنّ من عذب بذنبه من أهل الإقرار والمعرفة والصلاة لم يخلد في العذاب وأُخرج من النار إلى الجنة، فينعم فيها على الدوام، ووافقهم على ذلك من عددناهم، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعموا انّه لا يخرج من النار أحد دخلها للعذاب(١) .

نعم نسب العلّامة الحلي في « كشف المراد » تلك العقيدة إلى بعض المعتزلة لا إلى جميعهم(٢) وكذلك نظام الدين القوشجي في شرحه على التجريد(٣) .

وقد خالفهم أئمّة المسلمين وعلماؤهم في هذا الموقف وقالوا بجواز العفو عن العصاة عقلاً وسمعاً.

أمّا العقل، فلأنّ العقاب حق لله تعالى فيجوز تركه.

وأمّا سمعاً، فللآيات الدالة على العفو فيما دون الشرك قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (٤) والآية واردة في حق غير التائب، لأنّ الشرك مغفور بالتوبة أيضاً، وقال سبحانه:( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) (٥) أي تشملهم المغفرة مع كونهم ظالمين.

وقال سبحانه:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن

__________________

(١) أوائل المقالات: ١٤.

(٢) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ٢٦١، طبعة صيدا.

(٣) شرح التجريد للقوشجي: ٥٠١.

(٤) النساء: ٤٨.

(٥) الرعد: ٦.

٢٤٩

رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ) (١) إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة على العفو في حق العصاة.

ومع ذلك لا مانع من شمول أدلّة الشفاعة لهم، وأوضح دليل على العفو بدون التوبة قوله سبحانه:( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) (٢) فانّ عطف قوله:( وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) على قوله:( يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ) بواو العطف، يدل على التغاير بين الجملتين، وانّ هذا العفو لا يرتبط بالتوبة وإلاّ كان اللازم عطفه بالفاء.

وقال سبحانه:( وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) (٣) ، فانّ الآية واردة في غير حق التائب، وإلاّ فإنّ الله سبحانه يغفر ذنوب التائب جميعاً لا كثيرها مع أنّه سبحانه يقول:( وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) .

فتلخص من ذلك انّه لا مانع من القول بجواز العفو في حق العصاة كما لا مانع من شمول آيات الشفاعة لهم.

نعم يجب إلفات النظر إلى نكتة وهي انّ بعض الذنوب الكبيرة ربّما تقطع العلائق الإيمانية بالله سبحانه، كما تقطع الأواصر الروحية مع النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فصاحب هذه المعصية لا تشمله الشفاعة، فيجب عليه ورود النار حتى يتطهر بالعذاب، وتصفو روحه من آثار العصيان ويصير لائقاً لشفاعة الشافعين.

إلى هنا تم الكلام حول آيات الشفاعة وأصنافها وحقيقتها وأثرها في المطيع والعاصي. وبقي الكلام حول بعض الإشكالات التي آثارها بعضهم، فيجب علينا التعرض لها على وجه الإجمال والإجابة عنها بما يقتضي المقام.

__________________

(١) الزمر: ٥٣.

(٢) الشورى: ٢٥.

(٣) الشورى: ٣٠.

٢٥٠

٥

إشكالات مثارة حول الشفاعة

هاهنا إشكالات مثارة حول الشفاعة ناشئة من قياس الشفاعة الواردة في الشريعة الإسلامية على الشفاعة الرائجة في الحياة البشرية المادية والتي تسمّى بالوساطة، ولو كان المستشكلون يعرفون حقيقة الشفاعة التي نص بها القرآن والحديث، لما تفوّهوا بتلك الإشكالات التي لا تليق بالبحث والنقد في الكتب العلمية.

غير انّ انتشار هذه الإشكالات بين الشباب دعانا إلى عقد هذا البحث وإفراده عمّا سبق، وإليك الإشكالات واحداً بعد واحد، والإجابة عنها على نحو الإجمال :

الإشكال الأوّل

لا شك أنّ الشفاعة لا تشمل جميع أنواع الجرائم والمعاصي، وعامة أنواع العصاة والمجرمين، إذ عندئذ يصير القانون لغواً، ويعود التكليف بلا أثر، وانّما الشفاعة في بعض أنواع الجرم، وفي حق بعض المجرمين دون بعض، وعندئذ يطرح هذا السؤال :

إنّ حقيقة كل جرم هي التجاوز على الحدود، وكل مجرم يعتدي على حدود

٢٥١

الله، فما معنى أن يقع بعض أقسام الجرم والمجرمين في إطار الشفاعة دون البعض مع اشتراك الجميع في هدم الحدود، والتجاوز والعدوان ؟

الجواب

إنّ ما زعمه المستشكل من استلزام الشفاعة الترجيح بلا مرجح، والتفريق في القانون إنّما يتم إذا كان جميع ألوان الجرم وأنواع المجرمين في درجة واحدة في الآثار والتبعات والكشف عن النفسيات، وأمّا إذا كان للجرم مراتب أو كان المجرمون على درجات في النفسيات والروحيات فلا تستلزم الشفاعة ما ذكره المستشكل، فلا يستوي من أحرق منديل أحد عدواناً، ومن أحرق مصنعاً كبيراً تعيش به مئات من العمال، فكلا العملين تجاوز وعدوان ولكن شتان بين الأوّل والثاني.

ولأجل ذلك تكون العقوبات والتبعات متفاوتة حسب تفاوت مراتب الجرم وحسب كشف العمل عن روحية المجرم ونفسيته.

فهناك شاب لا يملك نفسه عن النظر إلى المرأة الأجنبية نظراً ممزوجاً بالسوء، وهناك آخر يعتدي بالعنف عليها، فكلا العملين عدوان على القانون وتجاوز على الحدود وتجاهل للحرمة ولكن تختلف مراتبهما. وعلى ذلك فإذا كان المجرمون مختلفين ومتفاوتين في مراتب الجرم فلا تعد الشفاعة في حق من كان أخف جرماً دون الآخر تفريقاً في القانون.

كما أنّ هناك فرقاً بين مجرم قد حافظ على روابطه الإيمانية مع الله، وعلى علاقاته الروحية مع الشفيع بحيث لا يعد المجرم إنساناً أجنبياً عن كلا المقامين، ومجرم قد قطع كل علاقاته الإيمانية والروحية بحيث صار إنساناً أجنبياً عن الشافع والمشفوع عنده، فتشريع الشفاعة في حق الأوّل وقبولها في شأنه دون الثاني

٢٥٢

لا يعد تفريقاً في القانون، وعملاً مخالفاً للتسوية فيه.

والذي يوضح ذلك انّه سبحانه قد فرق بين الذنوب وأخبر بأنّ بعضها لا يغفر أبداً إلّا مع التوبة، وإنّ بعضها يغتفر بدونها أيضاً، قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً ) (١) .

فهل يسوغ لنا أن نعترض على عدم التسوية بين المشرك وغيره في غفران ذنوب الثاني دون الأوّل ؟ كلا. فانّ المشرك قد قطع جميع علاقاته مع الله سبحانه دون غير المشرك.

وعلى الجملة فهذا الإشكال مبني على الغض عمّا ورد في الكتاب والسنّة من تقسيم الجرائم إلى الكبائر والصغائر، وما ورد من أنّ الاجتناب عن الكبائر يوجب غفران الصغائر، قال سبحانه:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُدْخَلاً كَرِيماً ) (٢) .

وربما يقرر هذا الإشكال بوجه آخر فيقال: إنّه جرت مشيئة الله الحكيمة على إجراء القوانين والسنن على نمط واحد قال سبحانه:( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً ) (٣) ، وعلى ذلك فقبول الشفاعة في حق بعض المجرمين نوع تغيير في السنن الحكمية الثابتة.

وأنت خبير إنّ هذا الإشكال هو نفس ما تقدم جوهراً، وان كان يختلف عنه شكلاً، فإنّ الأساس في التقرير الأوّل انّ الشفاعة تفرقة في القانون، والأساس في هذا البيان هو انّ الشفاعة تبديل وتحويل لسنن الله التي لا يتطرق إليها التبدّل

__________________

(١) النساء: ٤٨.

(٢) النساء: ٣١.

(٣) فاطر: ٤٣.

٢٥٣

والتحوّل.

والإجابة عن هذا التقرير واضحة جداً، فكما انّ العقاب سنّة إلهية، فكذلك المغفرة والعفو عن الجرم والمجرم في شرائط خاصة سنّة من السنن الإلهية، فلا يعد الاعتراف بأحدهما نقضاً لسنته. والقائل جعل العقاب هو الأصل وتخيل انّ العفو والمغفرة نوع تغيير في سننه.

وان شئت قلت: إنّ قوله سبحانه:( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً ) (١) لا يهدف إلى أنّه ليس له إلّا شأن واحد وعمل فارد لا يتجاوز عنه ( وهو عقاب المجرم في كل الأحايين ) بل هو سبحانه( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (٢) ، وقال سبحانه:( يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ ) (٣) .

كيف وانّ لله سبحانه أسماء وصفات، ولكل واحد منها تجل وظهور في عالم الكون، فهو بما انّه المحيي والمميت، فله تجل في الكون بالإحياء والإماتة وبما انّه القاهر والمنتقم والرؤوف والرحيم، فله أيضاً تجلّيات في الكون، ولا يعد كل تجلّ ناقضاً للآخر أو تحويلاً لسنته سبحانه، وما هذا إلّا لأن الكل سنن لا أنّ هناك سنة واحدة وهو الإحياء حتى تكون الإماتة ناقضة لها.

وهناك قصة قد رواها الأصمعي لا تخلو من صلة بالمقام، قال الأصمعي: كنت في البادية وأقرأ القرآن عن ظهر القلب، وكانت هناك امرأة من أهلها، فقرأت قوله سبحانه هكذا:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ ) (٤) ـ والله غفور رحيم ـ فاعترضت وقالت بأنّه سبحانه لو كان

__________________

(١) فاطر: ٤٣.

(٢) الرحمن: ٢٩.

(٣) الرعد: ٣٩.

(٤) المائدة: ٣٨.

٢٥٤

غفوراً ورحيماً لما أمر بقطع أيديهما ؟! قال الأصمعي: ففتحت القرآن فرأيت انّ في قراءتي لحناً والصحيح( عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ووقفت بأنّ الأمر بقطع الأيدي لا يصح أن يقع مظهراً لرحمته وغفرانه، بل هو مظهر لعزّه وحكمته.

هذه المرأة الربيبة في البادية تشير بكلامها إلى ما أدركه الفلاسفة في ضوء البراهين من أنّ لله سبحانه أسماء وصفات، ولكلٍّ منها تجلّ خاص، فكما أنّه يتجلّى في كل مجال من التكوين باسم خاص، فهكذا عالم التشريع يتجلّى في كل حكم بما يناسبه من الاسم، فالمناسب لقطع يد السارق هو التجلّي باسم العزة والحكمة لا الغفران والرحمة، لأنّ كل تجلّ يتناسب مع اسم خاص.

والعجب انّ القائل استدل على ما يهدف إليه من الإشكال من عدم تطرق التحول والتبدل في سنن الله بقوله سبحانه:( هَٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ *إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ ) (١) مع أنّ الآية تهدف إلى أمر آخر، ويفسره قوله سبحانه:( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) (٢) .

وكلتا الآيتين تهدفان إلى أنّ طريقه سبحانه صراط مستقيم لا تجد فيه عوجاً ولا أمتا، وهذا بخلاف ما يدعو إليه الشيطان فإنّ فيه كل الاعوجاج.

الإشكال الثاني

إنّ تشريع الشفاعة يجر إلى التمادي في العصيان والتعدّي والاستمرار في العدوان، وانّ المجرم حسب اعتقاده بالشفاعة سيستمر على عدوانه رجاء غفران

__________________

(١) الحج: ٤١ ـ ٤٢.

(٢) الأنعام: ١٥٣.

٢٥٥

ذنوبه بالشفاعة(١) .

الجواب

إنّ هذا الإشكال ينبع من قياس الشفاعة التي وردت في الكتاب والسنّة، بالشفاعة الرائجة في أوساط الناس، ولو كان المستشكل واقفاً على الفرق الجوهري بينهما لما عدّ الشفاعة عاملاً للجرأة، وذريعة للعصيان، وذلك لأنّه مردود نقضاً وحلاً، أمّا الأوّل فمن وجوه :

١. لو كان تشريع الشفاعة عاملاً للجرأة لكان الوعد بالمغفرة عاملاً للجرأة أيضاً مع أنّه سبحانه وعد بها في قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (٢) .

لاحظ قوله سبحانه:( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ ) (٣) فإنّ لفظ( عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) جملة حالية تبين شمول المغفرة للناس في حال كونهم معتدين ومجرمين، فلو كان الوعد بالشفاعة عاملاً للجرأة لكان الوعد بالمغفرة في هذه الآيات عاملاً لها أيضاً.

٢. انّه سبحانه قد وعد بأنّ الاجتناب عن الكبائر يوجب التكفير عن بعض السيئات، قال سبحانه:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ

__________________

(١) وفي كلام الكاتب فريد وجدي إشارة إلى هذا الإشكال لاحظ: ٥ / ٤٠٢، مادة شفع من دائرة معارفه. وقال الطنطاوي: إنّ الشفاعة بالمعنى الذي يفهمه العامة تقود الأمّة إلى الانتكاس على أُمّ الرأس، ويبقى الدين من أسباب التأخر لا الرقي. لاحظ: ١ / ٦٩ من تفسيره، وما ذكره ليس إلّا خلطاً بين الشفاعة السائدة في المجتمع المادي في الدنيا عند الرؤساء والمتنفذين فيهم، والشفاعة التي جاء بها القرآن الكريم، وستوافيك الفروق الموجودة بين الشفاعتين.

(٢ النساء: ٤٨ و ١١٦.

(٣) الرعد: ٦.

٢٥٦

سَيِّئَاتِكُمْ ) (١) فهل يجد المستشكل في نفسه انّ هذا التشريع يوجب جرأة العباد على ارتكاب بعض السيئات رجاء غفرانها بالاجتناب عن الكبائر ؟

٣. لو كان تشريع الشفاعة مستلزماً لما تخيّله القائل لكان تشريع التوبة من عوامل الجرأة والأسباب التي تجر العباد إلى العصيان والعدوان، قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً ) (٢) .

هذا وذاك يكشفان عن أنّ المستشكل لم يقف على مغزى الشفاعة وما تهدف إليه الآيات والروايات وإلاّ لما عد الشفاعة الباعثة للأمل في النفوس، موجباً للجرأة وسبباً للتمادي في العصيان، وقد أشرنا ـ فيما سبق ـ إلى بعض الآثار التربوية البنّاءة الموجودة في الشفاعة.

هذا كله نقضاً وأمّا حلاً فالإشكال يتغذى من الشفاعة المتصورة في بعض الأذهان، وهو انّ للإنسان أن يفعل ما يريد تعويلاً على الشفاعة واغتراراً بها.

وأمّا الشفاعة المحدودة الشاملة لبعض العباد التي لم تنقطع علاقاتهم بالله سبحانه، وبأوليائه فلا تبعث على الجرأة، بل تبعث أملاً في نفس العاصي ويدفعه إلى أن يرجع عن التمادي في المعصية، ويصلح حاله فيما يأتي من الزمان، كما أوضحناه فيما سبق، فلا نعيد، ولكن نأتي هنا ببيان آخر، وهو انّ الشفاعة الموعود بها لو كانت أمراً منجزاً، مطلقاً، واضحاً من حيث الجرم، والمجرم متعيناً من حيث الوقت ونوع العقوبة، لكان لما تخيله المستشكل وجه، ولكن الشفاعة الموعود بها لأجل عمد تنجزها، واشتراطها بشروط وإبهامها من حيث الجرم والمجرم، وعدم تعيّنها من حيث الوقت ونوع العقوبة، فلا يستلزم ذلك، وإليك توضيح ذلك :

إنّ الشفاعة التي نطق بها القرآن ووعد بها ليست أمراً منجزاً ومطلقاً من كل

__________________

(١) النساء: ٣١.

(٢) التحريم: ٨.

٢٥٧

قيد وشرط، فإنّ الشفاعة مقيدة بإذنه سبحانه وكون المشفوع له مرضياً عنده، قال سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) (١) وقال سبحانه:( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (٢) ، وليس من الممكن أن يتيقن المجرم بأنّه ممن يشمله إذنه سبحانه وارتضاؤه. إذ ليس في وسع أحد أن يدّعي أنّه من العباد الذين تشملهم المغفرة الإلهية يوم القيامة بالإذن في الشفاعة في حقهم وكونه من العباد المرضيين كيف وقد قال سبحانه:( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلا القَوْمُ الخَاسِرُونَ ) (٣) .

هذا من وجه، ومن وجه آخر: انّ الشفاعة مبهمة من حيث الجرم والمجرم، إذ لم يرد أي توضيح في موردها وانّها تشمل أي جرم من الأعمال الإجرامية وأي مجرم من أنواع المجرمين فهي مبهمة من تلك الناحية، وهذا الإبهام يصد العاصي عن أن يعتمد على الشفاعة المحتملة في حقه، بل ربّما تدعوه إلى التحفظ عن اقتراف بعض المعاصي لئلاّ يحرم من الشفاعة.

هذا وكما انّ الشفاعة مبهمة من تلك الناحية فهي أيضاً مبهمة من ناحية الوقت وأنواع العقوبات، فإنّ الآيات ناطقة بأنّ يوماً من أيام القيامة يمتد امتداد ألف سنة أو أكثر، قال سبحانه:( وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) (٤) وقال سبحانه:( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (٥) ، وعلى ذلك فللعصاة والطغاة بل العباد كلهم مواقف مختلفة يوم القيامة، وهي مواقف رهيبة ومخيفة ذات أوضاع تهز القلوب، ومن المعلوم انّه لم يعين وقت الشفاعة، وانّه في أي وقت تتحقق في حق المجرم أفبعد

__________________

(١) البقرة: ٢٥٥.

(٢) الأنبياء: ٢٨.

(٣) الأعراف: ٩٩.

(٤) الحج: ٤٧.

(٥) المعارج: ٤.

٢٥٨

هذه الإبهامات الثلاثة يبقى مجال لأن يعول المجرم على الشفاعة أو يتمادى في المعصية ؟!

إنّ غاية ما في الشفاعة أنّها بصيص من الرجاء ونافذة من الأمل فتحه القرآن في وجه العصاة حتى لا ييأسوا من روح الله، ورحمته، وأن لا يغلبهم الشعور بالحرمان من عفوه فيتمادوا في العصيان.

الإشكال الثالث

الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره ـ حكم به أم لا ـ فلا تتحقق الشفاعة إلّا بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع، فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلّا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن كان أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أنّ المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به، وأمّا الحاكم المستبد الظالم فإنّه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشيء وهو عالم بأنّه ظالم وانّ العدل في خلافه، ولكنّه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة، وكل من النوعين محال على الله تعالى، لأنّ إرادته تعالى على حسب علمه وعلمه أزلي لا يتغير(١) .

وحاصل الإشكال: انّ قبول الشفاعة يستلزم أحد أُمور ثلاثة :

١. أمّا أن يكون الحاكم في حكمه الأوّل جائراً عالماً بذلك.

٢. أن يكون الحاكم في حكمه الأوّل جائراً غير عالم به.

٣. أن يكون الحاكم في حكمه الأوّل عادلاً لكنه يعدل عن هذا الحكم على خلاف المصلحة ونزولاً عند رغبة الشفيع.

__________________

(١) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧.

٢٥٩

أمّا الأوّل، فيستلزم أن يكون الحاكم جائراً غير عادل.

أمّا الثاني، فهو يستلزم أن يكون الحاكم جاهلاً بحقيقة حكمه.

أمّا الثالث، فيستلزم أن يكون الحاكم ناقضاً للحكم المبني على العدل لأجل شفاعة الشفيع، والكل ممتنع في حقه سبحانه.

الجواب

لو أنّ الأستاذ قد أمعن في حقيقة الشفاعة التي نطق بها القرآن الكريم وفسرتها الأحاديث الإسلامية، لما جعل أمر قبول الشفاعة مردّداً بين أحد أُمور ثلاثة ممتنعة في حقه سبحانه، فإنّ الشفاعة لا ترتبط بأحد هذه الأمور، بل هي من واد آخر نشير إليه بتقديم مقدمة وهي :

إنّ الحكم يتبع موضوعه، فكل موضوع له حكم خاص فمادام الموضوع باقياً على وضعه الأوّل لا ينفك عنه الحكم، فإذا تبدّل إلى موضوع آخر يتبدّل حكمه إلى حكم آخر، أو يصير ذا حكم جديد غير ما حكم به على الموضوع الأوّل، مثلاً المائع ما دام كونه خمراً فهو رجس يجب الاجتناب عنه، فإذا تبدّل إلى الخل يتبدّل حكمه، أثر تبدّل موضوعه، فيكون محكوماً بالطهارة، ولا يعد الحكم الثاني ناقضاً للحكم الأوّل، ولا يوجب اختلاف الحكم اختلافاً وتبدّلاً في علم الحاكم بل للحاكم من أوّل الأمر علمان، وحكمان، كل مرتبط بموضوعه، فقد كان الحاكم عالماً وحاكماً بأنّ الخمر نجس حرام، وانّ الخل طاهر حلال، وما حصل من التغيير فإنّما هو تغيير في المعلوم والموضوع لا في العلم.

ونظير ذلك العاصي والتائب فإنّ العصيان حالة نفسية في الإنسان، فله حكمه الخاص من العقاب لأجل طغيانه وعدوانه، كما أنّ التوبة حالة نفسانية مغايرة للحالة الأولى فلها حكمها الخاص، فالإنسان العاصي محكوم بحكم كما

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407