مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109961 / تحميل: 7727
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢١-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ولذلك قال تعالى:( فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ) (1) .

فالآية تريد أن تحدد المسؤوليات، وتسد أبواب التملصات المقيتة، من قبل من يظهرون الطاعة والإنقياد، ويبطنون الصدود والعناد، ويدبرون في الخفاء للإستئثار بالأمر، وإقصاء صاحبه الشرعي عنه، ولا شيء يدفعهم إلى ذلك سوى حب الدنيا وزينتها، وعدم الإعتداد بشيء آخر سواها..

فعلى الناس أن يحفظوا نعمة الله عليهم، وأن لا يفرطوا فيما حباهم الله به، ولا يخضعوا لأهواء أهل الكفر، ولا يخشوا كيدهم ومؤامراتهم، وإلا فإنهم سيذوقون وبال أمرهم، وستكون أعمالهم هي السبب في سلب هذه النعمة منهم وعنهم.

أكملت.. أتممت:

ويلاحظ: أن الآية قد عبرت بالإكمال بالنسبة للدين، وبالإتمام بالنسبة للنعمة، وربما يكون الفرق بينهما: أن الإكمال هو تتميم خاص، فإنه يستعمل حيث يكون للشيء أجزاء لها أغراض وآثار مستقلة، فكلما حصل جزء، تحقق معه أثره وغرضه.

فهو من قبيل العموم الأفرادي، ويمكن أن يمثل له بصيام شهر رمضان، فإن صيام أي يوم منه يوجب تحقيق أثره، ويسقط وجوبه، وتبقى سائر الأيام على حالها..

____________

1- الآية 150 من سورة البقرة.

٢٤١

أما الإتمام، فيستعمل فيما يكون له أجزاء لا يتحقق لها أثر حتى تكتمل، فيكون الأثر لمجموعها، فلو فقد واحد منها لانتفى الأثر المترتب على المجموع.

فهو نظير ساعات اليوم الذي يصام فيه، فإنها لا يترتب الأثر على صيامها إلا بعد انضمام أجزائها إلى بعضها، بحيث لا يتخلف جزء منها، فإنه يوصف بالتمام في هذه الحال، ولذلك قال تعالى:( أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (1) ، وكذلك الحال في الصلاة بالنسبة لأجزائها الأساسية الواجبة، فإن بطلان أو إسقاط أي جزء منها يوجب سقوط الصلاة نفسها، وبطلانها.

والدين هو مجموعة قضايا، ومفاهيم وأحكام، لها آثارها الخاصة بها، ولكل واحد منها طاعته ومعصيته على حدة.. فيصح التعبير عنه بالإكمال.

أما النعمة التي أتمها الله فهي هنا تشريع ما يكون موجباً لحفظ الدين، وهو ولاية أولياء الله تبارك وتعالى، لتقام بهم أركان الإسلام، وتنشر بهم أعلامه. وبذلك يأمن المؤمنون من أي فتنة أو افتتان.

ويتحقق بذلك شرط قبول أعمال العباد، فإذا نقض المسلمون عهدهم، ولم يلتزموا بطاعة الإمام، حرمـوا من بركـات وجوده، وعاشوا في المصائب والبـلايـا في حياتهم الدنيـا، ويكـونـون عرضـة للفتن والمحن بما كسبت أيديهم.

____________

1- الآية 187 من سورة البقرة.

٢٤٢

الإسلام مرضي لله تعالى دائماً:

وليس معنى قوله تعالى:( وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (1) . أن الإسلام لم يكن مرضياً قبل ذلك اليوم.. فإن الإسلام مرضي دائماً لله تعالى، والآية لا مفهوم لها..

لأنها تريد أن تقول: إن يأس الكفار، وإتمام النعمة وإكمال الدين، الذي رضيه الله تعالى لكم أيها البشر قد كان في هذا اليوم، فالله سبحانه راض لكم هذا في كل حين، وقد بلغه لكم على لسان أنبيائه، ووضع الضمانات لحفظ حدوده وشرائعه، وهيأ الظروف لبقائه واستمراره، من خلال تشريع الولاية، وتعريف الناس بأئمة دينهم، وبما يحفظهم من الضلال، ويدفع عن دينه تحريف المبطلين، وشبهات المضلين..

أو يكون المراد: أن الله كما لا يرضى الإسلام الناقص، لا يرضى الإسلام بدون حافظ لحدوده وشرائعه..

فإذا لم يبلغ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ما أنزل إليه من ربه كان الإسلام ناقصاً، وبلا حافظ معاً. ولا سيما مع ملاحظة: أن قبول الأعمال مرهون بولايته (عليه‌السلام ).

آية الإكمال نزلت مرتين:

ذكرنا في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

____________

1- الآية 3 من سورة المائدة.

٢٤٣

أموراً كثيرة حول آية الأمر بالبلاغ.. وآية إكمال الدين.. فلا غنى عن مراجعته.

وقلنا في ذلك الكتاب ما يلي: إن سورة المائدة قد نزلت يوم عرفة دفعة واحدة، فقرأها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على الناس، وسمعوا آية الإكمال، وحاول أن يبلغ أمر الإمامة في عرفة، فمنعته قريش وأعوانها.

ثم بدأت الأحداث تتوالى، وتنزل تلك الآيات المرتبطة بكل حدث على حدة. فنزلت بعد ذلك آية:( بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (1) . وجاءته بالعصمة من ربه، فبادر إلى إعلان إمامة علي (عليه‌السلام ) يوم الغدير، ثم تلا عليهم، أو نزلت عليه آية الإكمال بعد نصبه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) علياً (عليه‌السلام ) في ذلك اليوم الأغر، وقبل أن يشرع الناس بالتفرق.

فيكون الحديثان في نزول هذه الآية يوم عرفة، ويوم الغدير صحيحين معاً، لكن نزولها يوم عرفة كان في ضمن السورة، التي نزلت دفعة واحدة، ونزولها يوم الغدير كان بصورة منفردة عن بقية آيات السورة، بل ومنفردة عن سائر فقرات الآية التي هي في ضمنها كجملة إعتراضية، حسبما بيناه..

وقد نقل الرواية بذلك الطبرسي في الإحتجاج ونقلها غيره أيضاً(2) ،

____________

1- الآية 67 من سورة المائدة.

2- راجع: الإحتجاج (ط دار النعمان ـ النجف الأشرف) ج1 ص66 فما بعدها، وبحار الأنوار ج37 ص201 واليقين لابن طاووس ص343 والتفسير الصافي ج2 ص53 وروضة الواعظين ص89 وغاية المرام ج1 ص327 وج2 ص142 وج3 ص337 وموسوعة أحاديث أهل البيت "عليهم‌السلام " للنجفي ج8 ص48

٢٤٤

وفيها: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قرأ عليهم آية إكمال الدين يوم عرفة، حيث أمره الله تعالى بتبليغ ولاية علي (عليه‌السلام )، ولم تنزل العصمة.

ويعلم بالمراجعة: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حاول تنفيذ هذا الطلب، فمنع، فنزل قوله تعالى:( بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ..) (1) ، ففعل ذلك في يوم الغدير، ولم ينبس أحد منهم ببنت شفة إلا همساً.

ويؤيد هذ المعنى: ما ذكر في بعض الروايات، من أن يوم الغدير كان يوم الخميس كما سيأتي.

وهذا لا يتلاءم مع قولهم: إن يوم عرفة كان يوم الخميس، بل يتلاءم مع كون عرفة يوم الثلاثاء.

وقد روي عن عمر(2) ، ومعاوية، وسمرة بن جندب، ونسب إلى علي

____________

1- الآية 67 من سورة المائدة.

2- راجع: الدر المنثور ج2 ص258 عن الحميدي، و عن عبد بن حميد، وأحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن حبان، والبيهقي في سننه، وراجع: صحيح البخاري ج5 ص186 وج8 ص137 و (ط دار المعرفة) ج1 ص16 وصحيح مسلم ج8 ص238 و 239 والسنن الكبرى للبيهقي ج3 ص181 وج5 ص118 وسنن النسائي ج8 ص114 ومسند أحمد ج1 ص28 وسنن الترمذي ج4 ص316 وعمدة القاري ج18 ص199 وج25 ص23 ومسنـد الحميـدي ج1 ص19 والسنن الكـبرى للنسائي ج2 ص420 = = والمعجم الأوسط للطبراني ج1 ص253 وج4 ص174 ومسند الشاميين ج2 ص60 وفضائل الأوقات للبيهقي ص351 وكنز العمال ج2 ص399 وجامع البيان ج6 ص109 و 111 ومعاني القرآن للنحاس ج2 ص261 وتفسير السمعاني ج2 ص10 وشرح أصول الكافي ج6 ص121 وج11 ص278 والمحلى لابن حزم ج 7 ص 272.

٢٤٥

(عليه‌السلام ) أيضاً أن آية الإكمال نزلت في يوم عرفة(1) .

وهو ما يعني: أن آية الإكمال قد نزلت يوم عرفة في ضمن تمام السورة. ثم نزلت في موردها وحدها يوم الخميس، وهو يوم غدير خم.

ولو قلنا: إن الآية لم تنزل يوم الغدير، بل نزلت يوم عرفة فقط، لم يمكن أن نجد لمضمون الآية مورداً، ومنطبقاً حسبما أوضحناه.

كلام الأميني (رحمه‌الله ):

توضيح: أما العلامة الأميني (رحمه‌الله ) فلم يرتض ما ذكروه من أن

____________

1- راجع: مجمع الزوائد ج7 ص13 والمعجم الكبير ج7 ص220 وج12 ص198 وج19 ص392 ومسند الشاميين ج3 ص396 والجامع لأحكام القرآن ج2 ص15 والدر المنثور ج2 ص258 وتاريخ مدينة دمشق ج46 ص318 وسير أعلام النبلاء ج5 ص323 وتاريخ الإسلام للذهبي ج8 ص508 وتفسير القرآن العظيم ج2 ص15 والكامل لابن عدي ج5 ص11 وكنز العمال ج2 ص400 وجامع البيان ج6 ص106.

٢٤٦

آية إكمال الدين قد نزلت في عرفة، وأورد أدلة عديدة على بطلان ذلك..

وكلامه صحيح إن كان يقصد تكذيب قولهم: إن شأن نزولها هو يوم عرفة وحسب، وأنها نزلت فيه لحضور مناسبة نزولها.. فراجع كلامه(1) ..

ولكننا ذكرنا: أن سورة المائدة كانت قد نزلت قبل يوم الغدير كلها، بما فيها آية الإكمال، ثم صارت الأحداث تحصل، فتنزل الآيات المرتبطة بها مرة ثانية، فكلام الأميني (رحمه‌الله ) لا ينفي قولنا هذا..

أبو طالب لم يكن حاضراً:

وقد رووا عن ابن عباس: أن أبا طالب (عليه‌السلام ) كان يرسل كل يوم رجالاً من بني هاشم، يحرسون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، حتى نزلت هذه الآية( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (2) ، فأراد أن يرسل معه من يحرسه، فقال: يا عم: إن الله عصمني من الجن والإنس(3) .

____________

1- راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم "صلى‌الله‌عليه‌وآله " ج31 ص313 و 315.

2- الآية 67 من سورة المائدة.

3- الجامع لأحكام القرآن ج6 ص158 وتفسير القرآن العظيم ج2 ص81 والغدير ج1 ص228 ولباب النقول للسيوطي (ط دار إحياء العلوم) ص95 و (ط دار الكتب العلمية) ص83 ومجمع الزوائد ج7 ص17 وأسباب نزول الآيات ص135 والمعجم الكبير ج11 ص205 والدر المنثور ج2 ص298 وعن ابن مردويه، والطبراني.

٢٤٧

ونقول:

أولاً: إن ما ذكرناه آنفاً من الإجماع على نزول سورة المائدة في المدينة، وأنها آخر ما نزل، أو من آخر ما نزل.. ومن الصحابة من يقول: إنها نزلت في حجة الوداع ـ إن ذلك ـ يكفي للرد على هذه المزعمة. فإن أبا طالب قد توفي قبل الهجرة إجماعاً..

ثانياً: لقد كانت هناك حراسات للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) تجري في المدينة، وفي المسجد أسطوانة يقال لها: أسطوانة المحرس.. وكان علي (عليه‌السلام ) يبيت عندها يحرس رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. فإذا كانت الآية المشار إليها قد نزلت في مكة، فترك الحرس منذئذٍ، فلا معنى لتجديد الحراسات عليه في المدينة.

ثالثاً: تقدم في هذا الكتاب: أن أبا طالب (عليه‌السلام ) كان في الشعب إذا حلَّ الظلام، وهدأت الأصوات يقيم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من موضعه، وينيم علياً (عليه‌السلام ) مكانه. حتى إذا حدث أمر، فإن علياً يكون هو الفداء للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

فلو صح: أن أبا طالب كان يرسل رجالاً لحراسته (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كل يوم، فلا تبقى حاجة لهذا الإجراء، فإن الحرس موجودون، وأي أمر يحدث، فإنهم هم الذين يتصدون له..

ويلاحظ هنا: أن أبا طالب لم يختر غير علي (عليه‌السلام ) لهذه المهمة، الأمر الذي لم يكن بلا موجب وسبب، ولعل السبب أمر إلهي كان لا بد من امتثاله.

٢٤٨

رابعاً: إن آية الهجرة التي دلت على مبيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في الغار، وحديث مبيت علي (عليه‌السلام ) في فراش النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يكذب هذه الرواية أيضاً.

ويظهر لنا: أن المطلوب بهذه الرواية المكذوبة إلقاء الشبهة حول مبيت علي (عليه‌السلام ) مكان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في الشعب، وحول مبيته (عليه‌السلام ) مكانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في ليلة الهجرة.

بلغ ما أنزل إليك.. في اليهود:

من الأساليب التي يتبعونها لتضييع الحقيقة تكثير الأقوال في المورد، وقد زعموا: أن الأقوال في شأن نزول آية:( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (1) . بلغت العشرة(2) .

وقد رجح الرازي: أنها تريد أن تؤمن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من كيد اليهود والنصارى، فأمره الله بإظهار التبليغ، وعدم المبالاة بهم، ودليله على ذلك: أن ما قبل الآية وما بعدها مرتبط بأهل الكتاب(3) .

ونقول:

أولاً: إن السياق ليس حجة، ولا سيما بعد ورود الروايات الكثيرة المبينة لشأن النزول..

____________

1- الآية 67 من سورة المائدة.

2- التفسير الكبير للرازي ج12 ص49 والغدير ج1 ص225 و226.

3- التفسير الكبير ج12 ص50 والغدير ج1 ص226.

٢٤٩

ثانياً: إن أمر اليهود قد حسم قبل نزول الآية بعدة سنوات، أما النصارى فلم يكن لهم حضور يذكر ولا نفوذ ذو بال في جزيرة العرب..

ثالثاً: لم يكن قد بقي شيء من الشريعة يتوهم أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله )يمتنع عن إبلاغه خشية منهم، فكيف إذا كانت تصرح بأن الذي أمر الله نبيه بإبلاغه يعدل الدين كله، فقد قالت:( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (1) . مع أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد بلغ الرسالة كلها.. باستثناء بضعة أحكام قد لا تصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة. فذلك كله يدل: على أن ما أمر (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بإبلاغه له مساس بجميع أحكام الدين وشرائعه وحقائقه.. وهو الأمر الذي تخشاه قريش والطامعون والطامحون.. والذين أسلموا في الفتح وبعده.. وهو أخذ البيعة لعلي (عليه‌السلام ) بالخلافة من بعده.

مم يخاف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )؟!:

وفي الآية وعد للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بأن الله تعالى سوف يعصمه من الناس، ويحفظه منهم، فيرد سؤال: من أي شيء كان (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يخاف، إن بلَّغ ما أمره الله به؟! مع علمنا: بأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لا يبخل بنفسه ولا بأي شيء يعود إليه عن البذل في سبيل الله تعالى..

ونجيب:

بأن الذي أظهرته النصوص التي تقدمت في فصل سابق تحدثنا فيه عما

____________

1- الآية 67 من سورة المائدة.

٢٥٠

جرى في عرفة: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان يخاف من قومه الذين كانوا حديثي عهد بجاهلية أن يتهموه فيما يبلغهم إياه بما يبطل أثر تبليغه، ويوجب فساد دعوته، فهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان بصدد تحصين دعوته عن أن ينالها أولئك المتربصون بها بسوء.

ولعلك تقول: إذا كان هذا هو ما يخشاه الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فلا شك في أن الله يعلمه، فلماذا أمره بالتبليغ مع علمه بعدم إجتماع شرائطه؟!

ونجيب:

أولاً: إن الله تعالى تارة يأمر نبيه أمراً تنجيزياً فعلياً حاضراً بأمر قد اجتمعت شرائطه، وارتفعت موانعه.. وتارة يأمره بإبلاغ أمر بنحو يجعل للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) نفسه مهمة توفير بعض الشرائط، وإزالة بعض الموانع، وتوخي الوقت الأنسب، والأسلوب الأصوب في ذلك، والأمر في موضوع الإمامة من هذا القبيل، فإنه كان يحتاج إلى الإعداد الصحيح، وتهيئة النفوس، وتمهيد الوسائل المناسبة له..

ثانياً: إن قوله تعالى لنبيه وإن لم تفعل، لا يعني أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) هو الذي يختار أن لا يفعل، بل معناه: أن هذا الفعل إن لم يصدر منك بسبب منعهم إياك، كما حصل في عرفات، ثم في منى، فإننا سوف نعتبر أننا قد عدنا معهم إلى نقطة الصفر، وربما تقوم الضرورة بحربهم، كما حوربوا في بدر وأحد، والخندق، والفتح، وحنين..

ومما يدل على أن المشكلة هي في الناس الذين يمنعون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

٢٥١

قوله تعالى: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. وقوله: إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ. فإن هذه الفقرات قد جاءت لتؤيد وتؤكد صحة فعله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وصدق توقعاته، وأن ما فعله كان في محله، وأنه لولا العصمة الإلهية لم يصح التبليغ، لأنه سيكون بمثابة التفريط بالمهمة، وعدم توخي الظرف الملائم.

وربما يشير إلى ذلك أيضاً:( أنه عطف بالواو لا بإلفاء في قوله تعالى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ) (1) ، إذ لو عطف بإلفاء لأفاد أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) هو الذي يمتنع عن الإبلاغ بقرار منه، ووجود الداعي إلى هذا الإمتناع لديه، ولكنه حين عطف بالواو أفاد أن عدم الفعل سوف يطرأ عليه بسبب مانع وعارض.

فما بلغت رسالته:

إن قوله تعالى:( فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (2) . يدل على أن هذا الذي يراد تبليغه يوازي في أهميته وخطورته تبليغ الرسالة كلها، فبدونه تصبح الرسالة كلا شيء، وتذهب كل الجهود والتضحيات التي بذلت سدى أو فقل: لولاه تصبح الرسالة كلها، بمثابة الجسد الذي لا روح فيه، فهو تام التكوين، ولكن جميع أعضائه معطلة، فإذا نفخت فيه الروح، وسرت فيه الحياة، تحركت جميع الأجهزة وعملت بصورة منتظمة، فتصير العين ترى،

____________

1- الآية 67 من سورة المائدة.

2- الآية 67 من سورة المائدة.

٢٥٢

والأذن تسمع، واللسان يتكلم، واليد تتحرك.. والقلب ينبض..وتكون له مشاعر وأحاسيس، فيحب ويبغض، ويفرح ويحزن و.. و.. إلخ..

وولاية علي (عليه‌السلام ) كذلك، فإنها إن فقدت، فإن جميع أعمال الإنسان تفقد خصوصية التأثير في السعادة الأخروية، ويفتقد معها كثيراً من المنافع في الدنيا..

ولأجل ذلك ورد: أما لو أن رجلاً صام نهاره وقام ليله، وتصدق بجميع ماله، وحج جميع دهره، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه، وتكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله ثواب، ولا كان من أهل الايمان(1) .

تبرئة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ):

والتعبير في الآية الكريمة بـ:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (2) ، ليفيد: أن هذا الأمر ليس أمراً تدبيرياً أتى به الرسول من عند

____________

1- الآية 67 من سورة المائدة.

2- راجع: وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج1 ص119 وج27 ص42 و 66 و (ط دار الإسلامية) ج1 ص91 وج18 ص26 و 44 ومستدرك الوسائل ج17 ص269 وبحار الأنوار ج23 ص294 وج65 ص333 والكافي ج2 ص19 والمحاسن للبرقي ج1 ص287 وكتاب الأربعين للماحوزي ص97 ومستدرك سفينة البحار ج6 ص588 وج10 ص459 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج3 ص440 وج12 ص227 وتفسير كنز الدقائق ج2 ص544 والوافية للفاضل التوني ص174 وغاية المرام ج3 ص78.

٢٥٣

نفسه، بل هو أمر يبلغه لهم من حيث هو رسول يأتيهم بالقرار الرباني، الذي لا خيار له ولهم فيه..

ثم بين لهم بصورة أصرح وأوضح أن هذا الأمر أُنْزِلَ إِلَيْكَ.

ولكي لا تذهب بهم الأوهام إلى أن الذي جاء به هو الملك أو غيره، صرح لهم: بأنه مِنْ رَبِّكَ.

٢٥٤

الفصل الثامن: آيات سورة المعارج.. وسورة العصر..

٢٥٥

٢٥٦

الغدير وآيات سورة المعارج:

وتذكر هنا قضية ذلك المستكبر الذي لم يرض بنصب علي (عليه‌السلام ) إماماً يوم الغدير، فطلب من الله تعالى أن ينزل عليه العذاب، فنزل، ونزل قوله تعالى:( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ) (1) . وقد ناقش ابن تيمية في صحة هذه القضية.. ورد العلماء كلامه..

وقد ذكرنا ذلك كله في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وقد رأينا أنفسنا أمام أحد ثلاثة خيارات:

أولها: أن نهمل ذلك كله، فلا نورد منه شيئاً في كتابنا هذا.. ولم يعجبنا هذا الخيار لأسباب كثيرة منها حرمان القارئ الكريم من أمر له ارتباط ظاهر بحياة علي (عليه‌السلام )، وبأهم قضية تعنيه.

الثاني: أن نعيد كتابة ذلك كله من جديد. وهو خيار غير سديد، لأنه سيكون مجرد إتلاف للوقت، وضرب للجهد، لأجل اعتبارات شخصية ليست ذات أهمية.

الثالث: أن نستعير ما كتبناه هناك ونضعه هنا بين يدي القارئ الكريم

____________

1- الآيتان 1 و 2 من سورة المعارج.

٢٥٧

وقد آثرنا هذا الخيار الأخير، رغم ما فيه من حزازة شخصية بالنسبة إلينا..

فإليك ما أوردناه في الجزء الحادي والثلاثين من كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، حرفياً، وبدون أدنى تصرف فيه:

سورة المعارج مكية:

زعموا في مناقشاتهم لهذه الواقعة: أن سورة المعارج مكية، وهو ما ذكرته الرواية عن ابن عباس(1) ، وابن الزبير(2) ، فتكون قد نزلت قبل بيعة الغدير بسنوات.

ونقول:

الصحيح: أنها نزلت في المدينة، بعد حادثة الغدير، حيث طار خبر ما جرى في غدير خم في البلاد، فأتى الحارث بن النعمان الفهري أو (جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري).

____________

1- الدر المنثور ج6 ص263 عن ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي، وسعد السعود لابن طاووس ص291 وفتح القدير ج5 ص287 وتفسير الميزان ج6 ص56 وج20 ص11 ولباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص219 و (ط دار الكتب العلمية) ص202 وتفسير ابن أبي حاتم ج5 ص1690 وج10 ص3373 عن السدي.

2- الدر المنثور ج6 ص263 عن ابن مردويه، وفتح القدير ج5 ص287 وتفسير الميزان ج6 ص56.

٢٥٨

في هامش الغدير: (لا يبعد صحة ما في هذه الرواية من كونه جابر بن النضر، حيث إن جابراً قتل أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) والده النضر صبراً، بأمر من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لما أسر يوم بدر)(1) .

فقال: يا محمد، أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وبالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، فقبلنا منك، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك، ففضلته علينا، وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله؟!

فقال رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله ): والذي لا إله إلا هو، إن هذا من الله.

فولى جابر، يريد راحلته، وهو يقول: اللهم، إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم.

فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته، وخرج من دبره، وقتله. وأنزل الله تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ الآية)(2) .

____________

1- الغدير ج1 ص239 هامش.

2- الغدير ج1 ص239 عن غريب القرآن لأبي عبيد، ونقله أيضاً عن مصادر كثيرة أخرى. وراجع: شفاء الصدور لأبي بكر النقاش، والكشف والبيان للثعلبي، وتفسير فرات ص190 و (1410هـ ـ 1990م) ص505 وخصائص الوحي المبين لابن البطريق ص88 وكنز الفوائد للكراجكي، وشواهد التنزيل ج2 ص383 و 381 ودعاة الهداة للحاكم الحسكاني. والجامع لأحكام القرآن ج18 ص278 وتـذكـرة الخـواص ص30 والإكتفاء للوصـابي الشـافعي، وفرائـد = = السمطين ج1 ص82 وإقبال الأعمال لابن طاووس ج2 ص251 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص240 وبحار الأنوار ج37 ص136 و 162 و 176 وكتاب الأربعين للماحوزي ص154 و 161 وكتاب الأربعين للشيرازي ص115 ومعارج الوصول للزرندي الحنفي، ونظم درر السمطين ص93 والفصول المهمة لابن الصباغ ص41 وجواهر العقدين للسمهودي الشافعي، وتفسير أبي السعود للعمادي ج9 ص29 والسراج المنير (تفسير) للشربيني الشافعي ج4 ص364 والأربعين في مناقب أمير المؤمنين لجمال الدين الشيرازي ص40 وينابيع المودة ج2 ص370 وفيض القدير ج6 ص218 ومنهاج الكرامة ص117 والعقد النبوي والسر المصطفوي لابن العيدروس، ووسيلة المآل لأحمد بن باكثير الشافعي ص119 و 120 ونزهة المجالس للصفوري الشافعي ج2 ص209 والسيرة الحلبية ج3 ص302 و (ط دار المعرفة) ج3 ص337 والصراط السوي في مناقب النبي للقادري المدني، وشرح الجامع الصغير للحفني الشافعي ج2 ص387 ومعارج العلى في مناقب المرتضى لمحمد صدر العالم، وتفسير شاهي لمحمد محبوب العالم، وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج7 ص13 وذخيرة المآل في شرح عقد جواهر اللآلي لعبد القادر الحفظي الشافعي، والروضة الندية لمحمد بن إسماعيل اليماني ص156 ونور الأبصار للشبلنجي الشافعي ص159 والمنار (تفسير) لرشيد رضا ج6 ص464 والأربعون حديثاً لابن بابويه ص83 وخلاصة عبقات الأنوار ج8 ص342 و 357 و 362 و 368 و 370 والمراجعات ص274 وجامع أحاديث الشيعة ج1 ص52.

٢٥٩

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

التعميم في جانب النبي، وما يأتي في خامس الوجوه من تخصيص النبوة بالرؤية في المنام.

٢. « النبي » هو الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول هو الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين(١) .

وهذا كما ترى يوافق الفرق المذكور في جانب النبي ويخالفه في ناحية الرسول، إذ لا يخص الرسول بمن يتحمل الرسالة بواسطة الملك بل يعمم إلى محتملها بسبب الإيحاء في المنام.

٣. « الرسول » من يأتيه الملك بالوحي عياناً ويشافهه، و « النبي » يقال لمن يوحى إليه في المنام(٢) .

وهذا يوافق الفرق المذكور في جانب الرسول ويخالفه في ناحية النبي حيث يخصصه بالرؤية في المنام وهو جعل النبي أعم منها، وإن كان قيده بعدم توسيط الملك.

٤. « الرسول » الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي، والنبي الذي يوحى إليه في منامه، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً(٣) .

ولولا إنّه قد رتب على كلامه ما رتب، لكان ظاهره في بدء الأمر موافقاً لما تقدمه غير انّه لـمّا جعل النسبة بينهما أعم وأخص مطلقاً، وفرض أنّ النبي أعم من الرسول، فقد خالف الكلام المذكور قبله في جانب النبي وإن كان يوافقه من جانب آخر.

__________________

(١) مجمع البحرين: مادة « النبأ ».

(٢) فروق اللغة: ١٠٦.

(٣) مجمع البيان: ٧ / ٩١.

٣٦١

وكيف كان فقد استدل على كون النبوة والرسالة مرتبتين مختلفتين، وإنّ الرسول خصوص من ينزل عليه الملك، بقوله سبحانه :

( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَىٰ إِلا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً *قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ (١) لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) (٢) .

ومحصل مضمون الآيتين: انّ الذي يمنع الناس عن أن يؤمنوا برسالتك أنّهم يحيلون رسالة البشر من جانب الله ( حيث قالوا:( أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً ) ) وقد أخطأوا في ذلك، فإنّ مقتضى الطبيعة الإنسانية والأرضية وعناية الله بهداية عباده، أن ينزل إلى بعضهم من أبناء جلدتهم ملكاً، من السماء رسولاً لإرشادهم، حتى أنّ الملائكة، لو كانوا كالإنسان من حيث العيش على سطح هذه الأرض، لنزّل الله إلى بعضهم ملكاً من السماء رسولاً حاملاً لوحيه، وهذا يعطي أنّ الرسول إنسان ينزل عليه ملك من السماء بدين الله ثم هو يبلغه إلى الناس بأمر الله(٣) .

قال في الكشاف في تفسير قوله:( لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) يعلمهم الخير ويهديهم الرشاد، فأمّا الإنس فما هم بهذه المثابة إنّما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة، فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم(٤) .

إلى غير ذلك من الكلمات حول الآية، وهي تفيد أنّ رسالة أي فرد من البشر أو الملائكة القاطنين في الأرض إلى أمثالهم، لا تستقيم إلّا بنزول ملك من السماء يحمل رسالة الله إلى فرد مختار في الأرض يتحملها إلى أعداله وأمثاله.

__________________

(١) أي يمشون على أقدامهم كما يمشي الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويتعلّموا ما يلزمهم علمه.

(٢) الإسراء: ٩٤ ـ ٩٥.

(٣) الميزان: ١٣ / ٢٢١.

(٤) الكشاف: ٢ / ٢٤٦.

٣٦٢

ويشعر بذلك ما قاله موسىعليه‌السلام عندما خاطبه سبحانه بقوله:( أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ *وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ ) (١) أي أرسل إليه جبرئيل واجعله رسولاً مثلي واشدد عضدي به وقد أُجيبت دعوته حيث جعل سبحانه أخاه رسولاً مثله بقرينة قوله سبحانه:( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (٢) وقوله سبحانه:( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ ) (٣) ، وهذا الوجه يؤيّده بعض الأحاديث المرويّة بطرق صحيحة سوف نشير إليها ونترجم رجال أسنادها حسب اقتضاء المقام.

هذا غاية ما يمكن أن يوجه هذا القول، غير أنّ في دلالة الآيتين على كون حقيقة الرسالة متقومة بنزول الملك على الرسول خفاء واضح.

فلأنّها سيقت لرد مزاعم بعض المشركين من امتناع أن يكون البشر رسولاً مبعوثاً من الله إلى الناس، وانّه لابد أن يكون الرسول ملكاً لا بشراً، بأنّ التماثل بين المرسل والمرسل إليهم أوفق في الغرض الذي لأجله بُعث الرسول، لأنّ بين المتماثلين من التجاذب والتلاحم ما ليس في غيره، ولأجل ذلك جرت حكمة الله على جعل الرسل بشراً ولو استقرت الملائكة في الأرض لجعل رسلهم من جنسهم أيضاً ملائكة، وليست الآية بصدد تحديد مفهوم الرسالة وإنّها متقومة بنزول الملك إلى الرسول.

أضف إلى ذلك أنّ دلالة قوله:( لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) على ما يرتئيه القائل مبنية على أن يكون الملك النازل من السماء، رسولاً إلى الرسول

__________________

(١) الشعراء: ١٢ ـ ١٣.

(٢) طه: ٤٧.

(٣) الشعراء: ١٦.

٣٦٣

المختار منهم لا رسولاً إليهم جميعاً، وعند ذاك يصح ما يراه القائل من كون رسالة الرسول حتى رسالة الملك بين الملائكة، تتوقف على نزول ملك من السماء إليه، ينبئه بأخبار السماء، مع أنّ ظاهر الآية خلافه وانّ الملك النازل هو بنفسه نبي الملائكة ورسولهم لا أنّه ينزل هذا الملك على ملك آخر ليكون هو الآخر رسولاً.

وأمّا الآية الثانية فلها إشعار بهذا القول، ولا يبلغ حد الدلالة، لأنّ طلب موسى من الله سبحانه أن يرسل جبرئيل إلى أخيه ليخلع عليه الرسالة، لا يدل على تحديد مفهوم الرسالة بنزول الملك فقط بل هو أحد طرقها لا طريقها المنحصر.

الفرق الخامس

النبي من يوحى إليه في المنام(١) فيطلع على بعض الملاحم والمغيبات، ولكن الرسول يشاهد الملك ويعاينه ويكلّمه ويراه.

والموافقة مع هذا القول مشكلة.

فإن أُريد أنّ النبي عبارة عمن يوحى إليه في المنام، وان حيثية النبوة قائمة بالإيحاء إلى النبي بالمنام فقط، كما انّ الرسالة متقومة بمعاينة الملك ومشاهدته، فيرده أنّ النبي صفة مشبهة بمعنى المطلع على الغيب على زنة اللازم أو المخبر عن الغيب ( إذا كان بمعنى الفاعل كما هو ظاهر بعض المعاجم ) من أي طريق اتفق، سواء أكان بالإيحاء إليه في النوم، أو بإلقاء في قلبه وروعه، أو بسماع الكلام من جبل أو شجرة أو بمعاينة الملك ومخاطبته، فلا دليل على اختصاصه بالاطلاع على الغيب بالإيحاء إليه في المنام.

__________________

(١) أوعز إليه في مجمع البحرين في مادة « النبأ »، ونقله قولاً في مجمع البيان: ٧ / ٩١، والرازي في مفاتيحه: ٦ / ٣٤٤، واختاره صاحب الميزان في مواضع من كتابه: راجع ١ / ٢٨٠، و ١٣ / ٢٢١ ـ ٢٢٢، و ١٤ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠، وما نقلناه من الكلمات في ذيل الفرق الرابع الماضي ربما يمكن أن يشير بعضها إلى هذا الوجه.

٣٦٤

وقد خاطب الله سبحانه نبيه الكريم في كتابه المجيد بقوله:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) في مواضع كثيرة، أو أطلق عليه النبي، فهل ترى من نفسك أن تقول: إنّ ذلك الإطلاق إنّما هو بملاك الإيحاء إليه في المنام، مع أنّ الإيحاء إليه إنّما كان بنزول الملك ـ دائماً أو غالباً ـ كما هو ظهور قوله سبحانه:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) (١) .

نعم اتفق الإيحاء إليه في المنام قليلاً، كما يعرب عنه قوله سبحانه:( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ ) (٢) وقوله سبحانه:( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَاناً كَبِيراً ) (٣) .

على أنّه يمكن أن يقال: إنّ تلك الرؤيا وما تقدم عليها وإن كان اطلاعاً منه على الغيب ولكنه لم يكون وحياً مصطلحاً، وليس مطلق الكشف ومجرد الشهود والرؤيا الصادقة، وحياً مصطلحاً.

وإن أراد أنّ النبي مطلق من يصل إليه الخبر من جانب الله ويطلع على الغيب بواحد من الطرق التي ألمحنا إليها، وإليها يشير قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٤) وانّ الإيحاء في المنام أحد هذه الطرق، فهو حق في جانب النبي وتعاضده اللغة وموارد الاستعمال، فالنبي مطلق المطّلع على الغيب

__________________

(١) الشعراء: ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) الفتح: ٢٧.

(٣) الإسراء: ٦٠.

(٤) الشورى: ٥١.

٣٦٥

أو المخبر عنه سواء أكان اطلاعه عليه بالإيحاء إليه في المنام أو غيره.

وأمّا تخصيصه الرسول بمعاينة الملك، فقد استدل عليه ببعض الآيات وأيّدته بعض الروايات الآتية وقد تقدم بيانه.

وقد تمسكت الطائفة الضالة « البهائية » بهذا القول وادّعت بأنّ النبي هو خصوص من يوحى إليه في الرؤيا فقط، وانّ المختوم إنّما هو النبوة بهذا المعنى، لا الرسالة بمعنى مشاهدة الملك ومعاينته قبلاً، فختم النبوة لا يلازم ختم الرسالة.

وقد وافاك إنّ هذا قول مجرد عن البرهنة، وفارغ عن أي شاهد، بل هو عبارة عن منصب معنوي يستدعي الاطلاع على الغيب بإحدى الطرق التي ألمحنا إليها، فختم هذا الباب وسده يستلزم ختم الرسالة لما سنوضح من أنّ النبوة أساس الرسالة وإنّ ختم النبوة يلازم ختم الرسالة، فانتظر.

الفرق السادس

إنّ النبي والرسول كليهما مبعوثان إلى الناس، غير أنّ النبي بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيراً بما عند الله، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبأ النبوة كما يشعر به أمثال قوله تعالى:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) (١) وقوله تعالى:( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٢) وعلى هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أُصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله، من هداية الناس إلى سعادتهم، هلاكاً أو عذاباً أو نحو ذلك قال تعالى:( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٣) ، وعلى هذا يصير الرسول أخص من النبي كما هو صريح

__________________

(١) يونس: ٤٧.

(٢) الإسراء: ١٥.

(٣) النساء: ١٦٥.

٣٦٦

قول القائل: « والرسول هو الرسول الحامل لرسالة خاصة »(١) .

وهذا الفرق لا يخلو من خفاء أيضاً فإنّ جعل الرسول من له رسالة خاصة تستتبع مخالفة العذاب لم يدل عليه دليل وما استدل به من قوله سبحانه:( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً ) لا يدل على أنّ ما رآه داخل في حقيقة الرسالة، وإنّها محددة به، والدليل على ذلك إنّه لو قال مكانه: « حتى نبعث نبياً » لكان صحيحاً أيضاً، لتمامية الحجة، ببعث النبي والرسول كليهما، كما في قوله سبحانه:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (٢) فلولا إتمام الحجة ببعث النبي لما صح توصيفهم بعد البعث، بكونهم مبشرين ومنذرين.

وعلى أي حال فقد اضطرب رأيه في إبداء الفرق بين اللفظين فاختار في المقام ما نقلناه عنه، وقال في موضع آخر انّ النبي هو الذي يرى في المنام ما يوحى به إليه، والرسول هو الذي يشاهد الملك فيكلّمه(٣) .

وقد دفعه إلى اختيار ثاني النظرين وروده في الروايات ويظهر منه في موضع ثالث(٤) ما هو المختار عندنا، وسوف يوافيك بيانه.

__________________

(١) الميزان: ٢ / ١٤٥ و ٣ / ٢١٦ حيث قال: إنّ النبوة هي منصب البعث والتبليغ، والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحق بين الناس، أمّا بالبقاء والنعمة أو بالهلاك، وسيوافيك امكان إرجاع كلامه هذا إلى ما هو المعتمد عندنا، أعني: سابع الوجوه، مع تصريحه به في: ١٦ / ٣٤٥ من ميزانه.

(٢) البقرة: ٢١٣.

(٣) الميزان: ١٣ / ٢٢١ و ١٤ / ٤٢٩.

(٤) الميزان: ١ / ٢٧٤ حيث قال: النبوة معناها تحمل النبأ من جانب الله والرسالة معناها تحمل التبليغ والمطاعية والإطاعة، ونظيره ما أفاده في ١٦ / ٣٤٥ فقد عدّ التبليغ من شؤون الرسالة، مع أنّه عدّه في الجزء الثالث ص ٢١٦ من شؤون النبوة، والعصمة لله سبحانه ولمن اصطفاه من عباده.

٣٦٧

ما هو المختار عندنا ؟

وقبل الدخول في البحث نقدم أُموراً، تلقي الضوء على الحقيقة وتكشف الشك عن محيا الواقع.

الأوّل: النبأ في العرف العربي(١) الخبر الخطير الذي يستدعي الاهتمام به بالنظر إلى غاياته وآثاره فهو أخص من مطلق الخبر، وبه يسمّى النبي نبياً، لأنّه منبئ بما هو خطير من إنذار أو تبشير، والتنبّؤ إخبار بالغيب، لأنّه أظهر أفراد الخبر الخطير وأعظم مصاديق لنبأ العظيم(٢) .

النبي في اللغة مأخوذ من مادة « النبأ » بمعنى الخبر المهم العظيم الشأن أو بمعنى الارتفاع وعلو الشأن، والأوّل أظهر، وأكثر العرب لا تهمزه، بل نقل أنّه لم يهمزه إلّا أهل مكة، وقد أنكر النبي على رجل قال له: « يا نبيء الله »(٣) حيث روي أنّ رجلاً قال له: يا نبيء الله، فقال: « لا تنبر(٤) اسمي، إنّما أنا نبي الله ».

النبي « فعيل » بمعنى فاعل للمبالغة من النبأ: الخبر، لأنّه ينبئ عن الله، أي يخبر عنه، ويجوز فيه تحقيق الهمزة وتخفيفها، يقال: نَبَأ ونَبَّأ وأنبأ، قال سيبويه: ليس أحد من العرب إلّا ويقول: تنبّأ مسيلمة بالهمزة غير انّهم تركوا الهمزة في النبي، كما تركوه في الذرية والبرية والخابية إلّا أهل مكة فإنّهم يهمزون هذه الأحرف الثلاثة ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك كله(٥) .

قال الجوهري: يقال نبأت على القوم إذا طلعت عليهم، ونبأت من أرض

__________________

(١) ننقل في المقام نصوص أهل اللغة والعلم في تفسير النبي والرسول.

(٢) المعجزة الخالدة: ٧١.

(٣) المنار: ٩ / ٢٢٥، ورواه الصدوق في معاني الأخبار: ١١٣.

(٤) أي لا تهمز اسمي، النبر همز الحروف.

(٥) النهاية لابن الأثير: ٥ / ٣، مادة « نبأ ».

٣٦٨

إلى أرض، إذا خرجت من هذه إلى هذه، وهذا المعنى أراده الأعرابي بقوله « يا نبيء الله » لأنّه خرج من مكّة إلى المدينة فأنكر عليه الهمزة، لأنّه ليس من لغة قريش، وقيل إنّ النبي مشتق من النبأة وهي الشيء المرتفع(١) .

حكى الصدوق في معانيه عن أبي بشر اللغوي أنّه سمع منه في مدينة « السلام » أنّ « النبوّة » مأخوذة من « النبوّة » وهو ما ارتفع من الأرض، فمعنى النبوّة: الرفعة، ومعنى النبي: الرفيع(٢) .

قال ابن فارس: إنّ النبي من النبوة وهو الارتفاع كأنّه مفضل على سائر الناس برفع منزلته، ويقولون: النبي، الطريق « النبأ » الخبر، والمعنى المخبر ومن يهمز النبي فلأنّه أنبأ عن الله سبحانه(٣) .

وقال في المعجم الوسيط(٤) النبوة سفارة بين الله عز وجل وبين ذوي العقول لإزاحة عللها، النبي المخبر عن الله وتبدل الهمزة وتدغم فيقال: النبي.

هذه نصوص أئمّة اللغة والتفسير، ولو أردنا الاستيعاب لخرجنا عما هو المقصود وكلها تهدف إلى أنّ لفظ ( النبي ) لو كان مشتقاً من « نبو » ( الناقص الواوي ) بمعنى ارتفع، فهو بمعنى المرتفع منزلة، وإن كان من النبأ بالهمزة، فهو المخبر عن الله وعلى أي تقدير، فلا ترى في كلام واحد من أصحاب المعاجم دخول أحد هذه الفروق المذكورة في صلب معناه وجوهره حسب الوضع الأوّلي، فلو دل على شيء منها فإنّما هو لعلّة أُخرى كما نشير إليه في آخر البحث.

وأمّا الرسول فقد قال الراغب في مفرداته: « أصل الرسل هو الانبعاث على

__________________

(١) راجع الصحاح مادة « النبأ ».

(٢) معاني الأخبار: ٣٩.

(٣) المقاييس: مادة « النبأ ».

(٤) أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

٣٦٩

التؤدة ( التأنّي ) يقال ناقة مرسلة، سهلة المسير، وإبل مراسيل منبعثة انبعاثاً سهلاً، ومنه « الرسول » المنبعث، وتصور منه تارة الرفق فقيل على رسلك، إذا أمرته بالرفق، وتارة الانبعاث، فاشتق منه الرسول.

وقال العسكري في فروقه: أرسلت زيداً إلى عمرو، ويقتضي أنّك حملته رسالة إليه أو خبراً أو ما أشبه ذلك إلى أن قال: والنبوة يغلب عليها الإضافة إلى النبي فيقال نبوة النبي، لأنّه يستحق منها الصفة التي هي على طريقة الفاعل والرسالة تضاف إلى الله لأنّه المرسل بها، ولهذا قال برسالتي ولم يقل بنبوتي، والرسالة جملة من البيان يحملها القائم بها ليؤدّيها إلى غيره، والنبوة تكليف القيام بالرسالة فيجوز إبلاغ الرسالات، ولا يجوز إبلاغ النبوات(١) .

وكلا النصين من الراغب والعسكري، يهدفان إلى أمر واحد، وهو أنّ الرسالة نحو سفارة من الغير، لتنفيذ ما تحمله الشخص من جانب مرسله، وانّ ما نقل من الفروق من أعلام التفسير وغيره خارج عن جوهرها وصلب معناها، فإن دلّ عليها فإنّما هو لأمر آخر، كما سيوافيك بيانه.

الثاني: المفهوم من التدبر في الآيات وما في كلمات أعلام اللغة: انّ النبي هو الإنسان الموحى إليه من الله بإحدى الطرق المعروفة، وأمّا الرسول فهو الإنسان(٢) ( أو الأعم ) القائم بالسفارة من جانب شخص سواء أكان هو الله أو غيره بإبلاغ قول أو تنفيذ عمل.

وإن شئت قلت: إنّ النبوة منصب معنوي وارتقاء للنفس الإنسانية ،

__________________

(١) الفروق اللغوية: ٢٢٢، الباب الرابع والعشرون.

(٢) وما أشبه حال اللفظين: النبي والرسول بلفظي « المجتهد » و « المبلغ ».

(٣) سيوافيك بيان انّه لا يشترط في صدق الرسول كونه مبعوثاً من جانبه سبحانه، بل يعم ما لو كان مبعوثاً من شخص عادي، فانتظر.

٣٧٠

تستدعي إمكان الاطّلاع على الغيب بإحدى الطرق المألوفة، والرسالة سفارة للمرسَل ( بالفتح ) من جانب المرسِل ( بالكسر ) لتنفيذ ما تحمله منه في الخارج، أو ابلاغه إلى المرسل إليهم.

وإن شئت قلت: النبوة تحمّل الأنباء والأخبار عن الله، والرسالة تحمّل التبشير والإنذار والتبليغ من جانب أي شخص كان سواء أكان هو الله أم غيره(١) .

وتصديق ذلك يتوقف على إمعان النظر فيما نقلناه عن الأعلام في تفسير مادتي النبوة والرسالة اللتين اشتق منهما لفظا النبي والرسول.

توضيح ذلك: أنّ النبي باعتبار اشتقاقه من النبأ بمعنى الخبر(٢) كما عليه جمهور اللغويين عبارة عمّن قام به المبدأ وهو « النبأ » فلا مناص في حالة إطلاق النبي على شخص، عن اتصافه بمبدئه وقيامه به بنحو من أنحاء القيام فهو ـ بما أنّه واجد لهذا المبدأ أي الاطلاع على النبأ أو الأنباء عنه ـ نبي.

ففي أي مورد أُطلقت كلمة النبي في كلامه سبحانه أو جاءت في السنّة واللغة فلا يراد منها إلّا من خصص بهذه المكانة، أي مكانة تحمل النبأ وشرف الاتصال بالله والعلم بما عنده والإيحاء إليه بإحدى الطرق المذكورة في القرآن الكريم، أعني: سورة الشورى الآية ٥١.

ولأجل ذلك نراه سبحانه يقرن لفظ الوحي بلفظ النبيين ويقول:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ) (٣) .

__________________

(١) مثل قوله:( فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ ) ( يوسف: ٥٠ ).

(٢) نعم لا كل خبر أو كل نبأ، بل النبأ من الله ولو كان في اللغة موضوعاً للمعنى المطلق، لكن المصطلح استقر على استعماله في النبأ من الله.

(٣) النساء: ١٦٣.

٣٧١

وأمّا قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (١) فانتخاب الرسول دون النبي هو المناسب للوحي إنّما هو لأجل قوله( أَرْسَلْنَا ) الذي يناسب الرسول كما سيوافيك بيانه، والآية تهدف إلى أنّ الرسالات كلها كانت قائمة على أساس التوحيد ونفي عبادة غيره تعالى.

والمراد من الرسول في قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ) (٢) هو أمين الوحي(٣) ، يعني أنّ الرسول ( الروح الأمين ) يوحي إلى ذلك البشر الذي أراد الله أن يكلّمه، بإذنه سبحانه فالرسول في الآية موح لا موحى إليه كما لا يخفى.

وإلى ذلك يشير العلّامة اللغوي العسكري حيث يقول في فروقه: « والإنباء عن الشيء قد يكون من غير تحمل النبأ » فيريد أنّ النبوة متقومة بتحمل الخبر ولا يشترط في صدقها كون النبي مأموراً بإبلاغه إلى الغير(٤) بخلاف الرسالة فإنّها متقومة بتلك الحيثية.

وأمّا الرسالة: فحقيقتها عبارة عن القيام، بإنفاذ عمل أو إبلاغ كلام من جانب الغير سواء أكان هو الله سبحانه أم غيره(٥) وتحمّل التبشير والإنذار كما نقلناه عن الراغب والعسكري.

ويدل على ذلك أنّ الله سبحانه إذا أراد من نبيه تبليغ كلام عنه أو تحقيق عمل في الخارج يخاطبه كثيراً بقوله:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ) لا بلفظ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ )

__________________

(١) الأنبياء: ٢٥.

(٢) الشورى: ٥١.

(٣) وإلاّ لكان الأنسب مع قوله:( فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ) لفظ « النبي » لا « الرسول » كما لا يخفى.

(٤) نعم دلّت ظواهر الآيات على أنّ كل نبي كان مبعوثاً إلى الناس كما مضى.

(٥) سيوافيك دليل عمومية الرسالة من جانب المرسل ( بالكسر ) كما سيوافيك دليل عموميتها من جانب نفس المرسل ( بالفتح ).

٣٧٢

كقوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) (١) وقوله سبحانه:( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ) (٢) وهذا صريح في أنّ منصب الرسالة هو منصب التبليغ وتنفيذ أمر المرسل لا منصب نزول الوحي والإنباء عن الله مباشرة.

وأوضح منه، أنّه سبحانه إذا أراد أن يحدّد وظيفة سفرائه ويبيّن لهم أنّهم بعثوا للتبليغ والإبلاغ لا الإكراه والإلزام، يقول:( فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا البَلاغُ المُبِينُ ) (٣) ، وقوله سبحانه:( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا البَلاغُ المُبِينُ ) (٤) سبحانه:( فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ ) (٥) وقوله سبحانه:( إِلا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ) (٦) .

والنتيجة: إنّه إذا تعلّق غرضه سبحانه بالبلاغ بأشكاله المختلفة، يقرنه بالرسالة دون النبوة ويقول سبحانه:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ ) (٧) ، ويقول سبحانه:( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ ) (٨) ويقول أيضاً:( إِنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُم مَا أُرْسِلْتُ بِهِ ) (٩) ، إلى غير ذلك من الآيات.

__________________

(١) المائدة: ٦٧.

(٢) مريم: ١٩.

(٣) النحل: ٣٥.

(٤) العنكبوت: ١٨.

(٥) التغابن: ١٢.

(٦) الجن: ٢٣.

(٧) الأحزاب: ٣٩.

(٨) الأعراف: ٦٢.

(٩) الأحقاف: ٢٣.

٣٧٣

ولذلك ترى المسيحعليه‌السلام لـمّا ادّعى السفارة من الله وانّه جاء من عند الله لبيان أحكامه ورسالاته خاطب قومه بقوله:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) (١) ولم يقل « إني نبي الله ».

من كل ذلك يمكننا أن نستنتج أنّ الرسالة سفارة من المرسل لبيان ما تحمّله ( أي فرد كان ) ونشره بين الناس، وانّ الحيثية المقومة للرسالة، أمر يستدعي التبليغ والتنفيذ، وأمّا النبوة فإنّما هي منصب يستدعي الاتصال بالله سبحانه والعلم بما عنده من معارف وأحكام، ولا صلة بين الحيثيتين، سوى انّ النبوة أساس الرسالة(٢) فلا تستقيم رسالة الإنسان من الله إلّا بارتقائه إلى مقام النبوة واتصاله بالمبدأ الأعلى، فكانت الرسالة من آثار النبوة.

ولكن هذا الأمر لا يجعل اللفظين مترادفين ومشيرين إلى معنى واحد بل كل منهما موضوع لمعنى خاص لا يختلط أحدهما بالآخر.

الثالث: انّ النبي لم يستعمل في القرآن والحديث إلّا في الإنسان الموحى إليه من الله وبما انّ الجهة المقومة للنبوة عبارة عن كونه مطّلعاً على الغيب أو منبئاً عنه، فإنّه يصير النبي عندئذ عبارة عن الإنسان الموحى إليه من جانب الله، المطلع على الغيب، أو المنبئ عنه، فاعتبر فيه قيدان :

١. كونه إنساناً.

٢. كونه موحى إليه من جانب الله سبحانه ومتحمّلاً النبأ منه عزّ وجل.

وأمّا الرسول فلمّا كانت الجهة المقوّمة لرسالته، تحمل إنفاذ عمل أو بيان قول من جانب المرسل في إطار التبشير والإنذار أو ما يشبهه فلا يلزم أن يكون إنساناً بل يمكن أن يكون ملكاً أو جنّاً كما لا يلزم أن يكون مبعوثاً من جانب الله

__________________

(١) الصف: ٦.

(٢) المراد: الرسالة من جانب الله فلا ينافي ما سيوافيك من التوسع في الرسالة.

٣٧٤

سبحانه بل أعم منه، ومن هنا تجد القرآن يتوسع في استعمال كلمة « الرسول » من ناحيتين :

الأولى: التوسع من ناحية المرسل ـ بالفتح ـ حيث أطلقه على الملك المكلّف من قبله تعالى، بإنفاذ عمل كقوله سبحانه:( قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ) (١) وقوله سبحانه:( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) (٢) ، وقوله سبحانه:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) (٣) ، وهذا بخلاف النبي فإنّه لا يطلق إلّا على البشر.

الثانية: التوسع من جانب المرسل ـ بالكسر ـ فلا يخصه بالمرسل من ناحيته سبحانه بل يطلقه على مطلق المبعوث من جانب الغير كقوله سبحانه:( وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ ) (٤) ولا نفهم من( الرَّسُولُ ) في الآية إلّا نفس المعنى الذي نفهمه من قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) (٥) وهذا التوسع(٦) في لفظ الرسول في ناحيتي المرسل ( بالكسر ) والمرسل من خصائص الرسالة ولا يوجد شيء منه في النبي، فلا يطلقه القرآن إلّا على البشر ـ دون الملك ـ وعلى الذي يوحى إليه من ناحيته سبحانه دون غيره.

__________________

(١) هود: ٨١.

(٢) الحج: ٧٥.

(٣) الأنعام: ٦١.

(٤) يوسف: ٥٠.

(٥) المائدة: ٦٧.

(٦) بل يجري نظير هذا التوسع في لفظ المرسل، لقوله سبحانه:( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُرْسَلُونَ ) ( يس: ١٤ )، فقد اتفقت كلمة أكثر المفسّرين على أنّ المراد منه في الآية الفرقة المبعوثة من جانب المسيح إلى ابلاغ دينه وقوله سبحانه:( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ ) ( النمل: ٣٥ ).

٣٧٥

نتائج البحث

يستنتج ممّا ذكرناه أُمور :

الأوّل

إنّ النبوة متقوّمة بالاتصال بالله والإنباء عنه ونزول الوحي إلى من يسند إليه منصبها بإحدى الطرق، وأمّا الرسالة فهي متقوّمة بتحمّل الرسول إبلاغ كلام من المرسل إلى المرسل إليه، مثل قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ) (١) أو تنفيذ أمر في الخارج كما في قوله سبحانه:( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ) (٢) .

وعلى هذا فكل ما ذكروه في الفروق بين النبي والرسول سواء أصحت أم لا ممّا لا يدل عليه اللفظان بما لهما من المعنى اللغوي ولا هي داخلة في صلب معناهما ولا يدلاّن عليها بإحدى الدلالات الثلاث(٣) .

فالنبي هو الإنسان المتصل بالله سبحانه بسبب الإيحاء إليه، بطرقه المعهودة(٤) والرسول الشخص المرسل من جانب المرسل أي فرد كان لتبليغ أمر أو إنفاذ عمل، فليس في مفهوم الرسول المصطلح، انّه يوحى إليه، وانّه منبئ عن الله.

وإن شئت قلت: النبي: للإنسان المنبئ عن الله سبحانه، أو المطّلع على

__________________

(١) المائدة: ٦٧.

(٢) مريم: ١٩.

(٣) دلالة اللفظ على تمام معناه، دلالة مطابقية، وعلى جزئه تضمنية، وعلى لازم معناه التزامية.

(٤) وهذا هو المفهوم من مرادفه في اللغة الفارسية « پيامبر » أو « پيغمبر ».

٣٧٦

الخبر منه سبحانه، غير مقيد بشيء من هذه الفروق، كما أنّ الرسول هو الشخص المرسل من جانب أي شخص كان لتنفيذ أمر، وإبلاغ رسالة، غير محددة بشيء منها، ولأجل ذلك فإن انفرد لفظ النبي بالذكر، ولم يجمع مع لفظ الرسول لا يتبادر منه إلى الذهن إلّا المنبئ عن الله والمطّلع على الغيب فقط.

ومثله لفظ الرسول، إذا لم ينضم إليه لفظ النبي، فلا يتبادر منه إلى أذهاننا إلّا القائم بإبلاغ رسالة أو تنفيذ أمر فقط، من دون أن يتوجه الذهن إلى أحد هذه الفروق كما لا يتوجه إلى كونه مرسلاً من جانب الله، وعلى هذا فاللفظان مختلفان معنى وأمّا النسبة، فحيث إنّ القرآن يتوسع في استعمال الرسول، فيطلقه على الإنسان والملك، بخلاف النبي فلا يستعمله إلّا في الإنسان، بل يتوسع في استعمال الرسول من جانب المرسل ( بالكسر ) فيطلقه على المبعوث لا من جانبه سبحانه، مثل قوله سبحانه:( فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ ) (١) بخلاف النبي فيختص بالإنسان الموحى إليه من ناحيته سبحانه، فتكون النسبة هي الأعم والأخص مطلقاً، فليس كل رسول نبياً، لما عرفت من التوسع، وأمّا كون كل نبي رسولاً فلو قلنا بأنّ كل نبي مبعوث إلى تنفيذ رسالة ما يصح ما ذكر من النسبة: فكل نبي رسول، وليس كل رسول نبياً لما عرفت من التوسع في الجانبين.

وأمّا إذا سلمنا كون بعض النبيّين غير مبعوث إلى تنفيذ رسالة، فتنقلب النسبة إلى العموم والخصوص من وجه، فبعض النبيّين ليس برسول، كما أنّ بعض الرسل كالمبعوث من جانب غيره سبحانه ليس بنبي، وقد يجتمعان كما في نبينا وغيره من أُولو العزم وغيرهم.

ثمّ إنّي وقفت بعد ما حرّرت ذلك على كلمات تصرح ببعض ما ذكرناه :

__________________

(١) يوسف: ٥٠.

٣٧٧

١. النبوة تحمّل النبأ من جانب الله والرسالة معناها تحمل التبليغ(١) .

٢. للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى وعباده، وللنبي شرف العلم بالله وبما عنده(٢) .

٣. الرسول هو الذي يحمل رسالة من الله إلى الناس، والنبي هو الذي يحمل نبأ الغيب الذي هو الدين وحقائقه(٣) .

٤. الأقرب انّه لا فرق بينهما من حيث إنّ كلاً منهما ينبئه الله بما يريد، فإذا أنبأه وأمره بالتبليغ أُطلقت عليه كلمة النبي، لأنّ الله تعالى أنبأه، وكلمة الرسول لأنّه تعالى أمره بالتبليغ(٤) .

٥. الرسول والنبي واحد، والاختلاف إنما هو بالنظر والاعتبار من حيث إنّه يحمل رسالة الله، يقال له رسول، ومن حيث إنّه ينبئ بها الذين أُرسل إليهم يقال نبي(٥) .

والحاصل: انّ ما ذكر من الفروق سواء أصح أم لا فكلّه في مرتبة متأخرة عن حقيقة الرسالة والنبوة غير مأخوذ في صلب معناهما وإنّما يصار إليها لقرائن أُخر.

ويظهر ممّا ذكرناه ضعف ما نقلناه عن بعض الأجلّة: « انّ ما كان من العلوم والحقائق يفاض على الإنسان بواسطة الملك بحيث يشاهده ويكلّمه مشافهة

__________________

(١) الميزان: ١ / ٢٨٤.

(٢) الميزان: ٢ / ١٤٥.

(٣) المصدر نفسه: ١٦ / ٣٤٥، المراد تحديد الرسول المصطلح، وإلاّ فليس في معناه كونه مبعوثاً من جانبه سبحانه وبذلك يظهر حال أكثر الكلمات.

(٤) الكاشف: ٥ / ٣٤٠.

(٥) المصدر نفسه: ٧ / ٩١.

٣٧٨

ويقرأ عليه كلام ربّه أو يلقي في روعه يسمّى رسالة، والإنسان الحامل رسولاً، وأمّا ما يفاض إليه بغير الطريق المذكور يسمى نبوة والإنسان العالم بهذا الطريق نبياً ».

فانّه ينقض عليه: بأنّ كل ما ذكره، وإن كان مؤيداً ببعض المأثورات لكنّه خارج عن حقيقة معنى النبوة والرسالة حسب الوضع اللغوي، ولم يثبت انّ للقرآن اصطلاحاً خاصاً أو حقيقة شرعية في إطلاق اللفظين واستعمالهما، والظاهر أنّ القرآن جرى في إطلاقه واستعماله مجرى المألوف بين أهل اللسان، ولم يجئ في المقام باصطلاح خاص.

وعلى ذلك فكل ما ذكروه من الفروق، من أنّ الرسول هو من نزل عليه كتاب أو أتى بشريعة جديدة، أو خصوص من كان مأموراً بالتبليغ من الله، أو من يتلقى الوحي عن رسل السماء والملائكة، وانّ النبي على خلافه، فلا يشترط فيه نزول الكتاب أو مجيئه بشريعة جديدة، أو كونه مأموراً بالتبليغ من الله أو غير ذلك، كلّها على فرض صحتها، خارجة عن صلب معناهما، إذ لا يدل اللفظان على واحد منها أصلاً.

وبذلك يظهر أنّ الرسول وان كان يجب إطاعته فيما يأمر وينهي، لقوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) (١) أو أنّه وإن كان يتم الحجة على عباده سبحانه، بحيث تستتبع مخالفته هلاكاً وعذاباً، لقوله سبحانه:( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٢) غير انّ ذلك لا يستلزم دخول لزوم الإطاعة وإتمام الحجة في صلب معنى الرسول، فإنّ وزان قوله سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) وزان قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ

__________________

(١) النساء: ٦٤.

(٢) النساء: ١٦٥.

٣٧٩

بِآيَةٍ إلّا بِإِذْنِ اللهِ ) (١) ، بل كلاهما من لوازم الرسالة الإلهية التي تحملها الرسل، فإنّ الهدف الأسمى من إرسال الرسل، قطع العذر على الناس، وإتمام الحجة عليهم، وعند ذاك يجب على الناس إطاعتهم فيما يأمرون وينهون من جانبه سبحانه.

ولعل إلى ذلك يشير سيدنا الأستاذ بقوله: « إنّ النبي والرسول كلاهما مرسلان إلى الناس، غير انّ النبي بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيراً بما عند الله، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبأ النبوة، كما يشعر به أمثال قوله تعالى:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) (٢) وقوله تعالى:( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً ) (٣) .

وعلى هذا فالنبي هو الذي يبيّن للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أُصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام حجّة يستتبع مخالفته هلاكاً أو عذاباً أو نحو ذلك قال تعالى:( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٤) ، ولا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظهما بحسب المفهوم، ولازمه هو الذي أشرنا إليه من أنّ للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى وبين عباده، وللنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شرف العلم بالله وبما عنده »(٥) .

__________________

(١) الرعد: ٣٨.

(٢) يونس: ٤٧.

(٣) الإسراء: ١٥.

(٤) النساء: ١٦٤.

(٥) الميزان: ٢ / ١٤٣ وقد عرضنا آراءه المختلفة في ما سبق.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407