مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن19%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109748 / تحميل: 7687
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢١-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

أحب النبي المصطفى وابن عمه

علياً وسبطيه وفاطمة الزهرا

همو أهل بيت أذهب الرجس عنهمو

وأطلعهم أفق الهدى أنجماً زهرا

موالاتهم فرض على كل مسلم

وحبهمو سني الذخائر للأخرى

٦. وقال النبهاني:

آل طه يا آل خير نبي

جدكم خيرة وأنتم خيار

أذهب الله عنكم الرجس أه‍

‍ل البيت قدماً وأنتم الأطهار

لم يسل جدكم على الدين أجراً

غير ود القربى ونعم الاجار(١)

هذه نماذج ممّا قيل شعراً في مفاد الآية، وهي تكشف بكل وضوح وجلاء عن أنّ الآية لم تقصد منذ أن نزلت إلّا تكريس محبة ذوي القربى.

ولا شك أنّ الأشعار استوحت محتواها من اللغة وما فهمه المحدّثون، والعلماء الأوائل.

فالأبيات الماضية أمّا كانت من إنشاء العلماء أنفسهم، أو لقيت تأييدهم إلى درجة أنّهم نمَّقوا بها كتبهم في تفسير الآية، وهذا إن دلَّ على شيء فانّما يدلُّ على أنّ الآية لا تحتمل إلّا ما أسفرت عنه كتب الحديث والتفسير والتاريخ.

فهذه هي اللغة كما رأيناها، وهؤلاء هم الأدباء وأبياتهم كما قرأناها كلّها تتفق على أنّ الله سبحانه لم يطلب أجراً لرسالة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا محبَّة ذوي القربى.

وأمّا أنّه كيف يصلح أن تكون المودة في القربى أجراً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فسوف نعود إليه عند البحث عن المقام الثاني، فارتقب.

__________________

(١) لاحظ: الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء: ٢٢٩.

٤١

أسئلة وأجوبتها

ثمّ إنّ هاهنا أسئلة حول مفاد الآية طرحها بعض من لا إلمام له بتفسير كلام الله وتوضيح سنة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونحن نوردها هنا مع الإجابة عليها :

السؤال الأوّل :

لو أراد الله سبحانه من الآية مودّة القربى لقال: إلّا مودّة أقربائه، أو المودّة للقربى.

الجواب: انّ السائل توهم أنّ « القربى » جمع « القريب » أو « الأقرب » فقال لو أراد مودة أقربائه لقال كذا وكذا، ولكنّه غفل عن أنّ القربى مصدر كزلفى وبشرى كما قال الزمخشري في كشّافه، ولأجل ذلك لم يستعمل في القرآن إلّا مع المضاف كقوله « ذي القربى » و « ذوي القربى » و « أُولي القربى » مشيراً إلى صاحب القرابة الرحمية، وأمّا في مورد الآية فقد استعمل بلفظة « في القربى » بحذف المضاف من الأهل وغيره.

قال الزمخشري في كشافه: فإن قلت فهلا قيل إلّا مودة القربى، أو إلّا المودة للقربى، وما معنى قوله:( إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) ، قلت: جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها كقولك: « لي في آل فلان مودة، ولي فيهم هوى وحب شديد » تريد أحبهم وهم مكان حبي، ومحله، وليست « في » بصلة للمودة كاللام إذا قلت « إلّا المودة للقربى »، إنّما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك، المال في الكيس، وتقديره إلّا المودة ثابتة في القربى، ومتمكنة فيه « والقربى » مصدر بمعنى القرابة كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة والمراد « في أهل القربى »(١) .

__________________

(١) الكشّاف: ٣ / ٨١، ط مصر عام ١٣٦٧.

٤٢

قال النبهاني في الشرف المؤبد: القربى مصدر بمعنى القرابة وهو على تقدير مضاف أي ذوي القربى يعني الأقرباء قال: وعبر ب‍ « في » ولم يعبر ب‍ « اللام »، لأنّ الظرفية أبلغ وآكد للمودة(١) .

السؤال الثاني :

إنّ تفسير الآية بمودة أهل البيت وعترة النبي غفلة عن نقطة هامة، وهي: أنّ الآية وردت في سورة الشورى وهي سورة مكية ولم يكن يومذاك الحسنان، بل ربما لم تكن فاطمة أيضاً، فكيف تفسّر الآية بعترة النبي، وتخصص العترة بجماعة خاصة، أعني: علياً وفاطمة والحسن والحسين، مع أنّ أكثرهم لم يكونوا موجودين زمن نزول الآية ؟

وهذا السؤال يرجع إلى ابن تيمية في « منهاجه ص ٢٥٠ »، حيث قال: إنّ سورة الشورى مكية بلا ريب نزلت قبل أنْ يتزوج علي بفاطمة وقبل أنْ يولد له الحسن والحسين.

الجواب: انّ هناك طريقين لمعرفة الآيات المكية وتمييزها عن المدنية.

الطريق الأوّل: هو ملاحظة نفس مفاد الآية فهو الذي يكشف عن موضع نزول الآية أو السورة، إذ الآيات التي تدور حول التوحيد والمعارف العقلية، وانتقاد الوثنية ورفض الأوثان، والدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وبيان ما جرى في القرون الغابرة على الأمم السالفة، وما يشابه هذه الموضوعات هي مكية في الأغلب على أساس أنَّ القضايا الوحيدة التي كانت تطرح في المحيط المكي كانت تدور حول هذه المسائل وأمثالها، فإنّ محيط مكة في فجر الدعوة الإسلامية ما كان يتحمل أكثر من طرح هذه القضايا.

__________________

(١) الشرف المؤبد نقله عنه العلّامة شرف الدين في الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء: ٣٢.

٤٣

أمّا الآيات التي تدور حول شؤون النظام الإسلامي والجهاد ومحاجة اليهود والنصارى والأحكام الشرعية والنظم الاجتماعية فهي مدنية غالباً.

ولقد تمكّن العلماء مؤخراً أن يحصلوا بمعونة هذا المعيار الدقيق، على نتائج باهرة في مجال فهم النصوص القرآنية.

فإذا كان هذا هو الملاك في تشخيص مكية الآيات عن مدنيتها، فهذا يقودنا ـ بيسر ـ إلى اعتبار كون الآية المبحوثة هنا مدنيّة لا مكّية، لأنّها تناسب ظروف المدينة، ولا تناسب ظروف مكة، إذ ليس من المعقول أن يتحدّث النبي بمثل هذا الطلب في مكّة حيث لم يكن قد آمن به بعد إلّا نفر يسير لا يتجاوز عددهم عدد الأصابع أو يزيد عن ذلك بقليل، حيث كان يواجه أغلبية معادية، مبالغة في عدائها، متعنتة في خصومتها، وأمّا النفر اليسير، أعني: الجماعة القليلة المؤمنة، فما كان يناسب طلب شيء منهم حتى المودَّة وهم على ذلك الضعف والمحنة الشديدة والتشرّد والمعاناة.

لندع الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ولنأخذ أيَّ رجل بليغ آخر يعرف متى يتكلم وماذا يقول، ترى هل من الصحيح أن يقول لجماعة لم تؤمن به بعد أو لجماعة قليلة مؤمنة كانوا يعذبون بألوان التعذيب:( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) سواء أفسرت الآية بعترة الرسول وأهل بيته، أو غيرها من المعاني التي أبدعها بعضهم في تفسير الآية ؟

أجل انّ مثل هذا الطلب إنّما يصح أن يوجهه إلى الذين صدّقوه وآمنوا به وقبلوا دعوته وكانوا قد وصلوا إلى بعض الأهداف والنجاحات واستقرّت أُمورهم وصفا لهم الجو والحال.

وخلاصة القول: إنّ سؤال الأجر من جانب النبي وهو في إبّان الدعوة ليس أمراً بليغاً حيث لم يستتب له الأمر بعد، ولم يحصل هناك هدوء ولا سكون له ولمن

٤٤

آمن به واتبعه، وإنّما هو مناسب لظرف آخر مثل أواخر عهد الرسالة.

الطريق الثاني: لتمييز مكيّة الآيات عن مدنيتها هو الرجوع إلى النصوص الواردة في هذا المورد عن العلماء وكبار المفسرين، فإذا كان هو الميزان لمعرفة الآيات المكية من المدنية فإنّنا نجد المفسّرين ـ وبالأخص أُولئك الذين ألّفوا كتباً حول مواضع نزول الآيات والسور ـ يقولون: إنّ سورة الشورى مكيّة إلّا أربع آيات أُولاها قوله تعالى:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) فهذا إبراهيم بن عمر البقاعي الذي ألّف كتاباً في هذا المضمار وأسماه « نظم الدرر وتناسق الآيات والسور » يقول في كتابه هذا: سورة الشورى مكية إلّا الآيات ٢٣، ٢٤، ٢٥ و ٢٧(١) .

والواقع أنّه لم يكن البقاعي وحده هو القائل بمدنية هذه الآية، وإنّما قال به عدّة من المفسّرين منهم: نظام الدين النيسابوري، صاحب التفسير الكبير يقول في ابتداء تفسيره لسورة الشورى: سورة الشورى مكية إلّا أربع آيات ومنها آية المودّة في القربى نزلت في المدينة(٢) .

ويقول الخازن في تفسيره: سورة الشورى مكية، ونقل عن ابن عباس أنّ أربع آيات منها نزلت في المدينة أولاها:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) ( ثم يضيف قائلاً ): وليست هذه الآيات الأربع مدنية فحسب بل هناك آيات أُخرى نزلت بالمدينة أيضاً، فقد ذهب فريق إلى أنّ الآيات من ٣٩ إلى ٤٤ أيضاً مدنية(٣) .

__________________

(١) راجع تاريخ القرآن للزنجاني: ٥٨. والبقاعي هذا هو برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الشافعي، ولد عام ٨٠٩ ه‍، وتوفّي في دمشق عام ٨٨٥ ه‍. قال في كشف الظنون: ٢ / ٦٠٥: وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد جمع فيه من أسرار القرآن ما تتحير فيه العقول.

(٢) تفسير النيسابوري: ٣ / ٣١٢.

(٣) تفسير الخازن: ٤ / ٩٤.

٤٥

ثم إنّ بإمكان القارئ أن يراجع المصاحف التي طبعت تحت إشراف لجان أزهرية ومحققين منهم ليجد فيها هذه العبارة فوق سورة الشورى: سورة الشورى مكّية إلّا الآيات ٢٣، ٢٤، ٢٥ و ٢٧ فمدنية.

وليعلم القارئ أنّ ترتيب الكتاب العزيز في الجمع ليس على حسب ترتيبه في النزول إجماعاً وباتفاق جميع العلماء، ومن ثَمّ كانت أغلب السور المكية لا تخلو من آيات مدنية، وكذلك أكثر السور المدنية لا تخلو من آيات مكية، بحكم أئمّة السلف والخلف من الفريقين ووصف السورة بكونها مكية أو مدنية تابع لأغلب آياتها لا جميعها(١) .

ولكي يكون هذا الكلام مقروناً بالدليل ومدعماً بالبرهان نأتي بنماذج من هذا :

١. سورة العنكبوت مكية إلّا من أوّلها عشر آيات فهي مدنية(٢) .

٢. سورة الكهف مكية إلّا من أوّلها سبع آيات فهي مدنية، وقوله( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ) الآية(٣) .

٣. سورة هود مكية إلّا قوله:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ) وقوله:( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ ) (٤) .

٤. سورة مريم مكية إلّا آية السجدة وقوله:( وَإِن مِنكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) (٥) .

٥. سورة الرعد فانّها مكية إلّا قوله:( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وبعض آيها

__________________

(١) الكلمة الغرّاء: ٢٢٧.

(٢) راجع تفسير الطبري: ٢٠ / ٨٦، وتفسير القرطبي: ١٣ / ٣٢٣، والسراج المنير: ٣ / ١٦.

(٣) تفسير القرطبي: ١٠ / ٣٤٦، والإتقان: ١ / ١٦.

(٤) تفسير القرطبي: ٩ / ١، والسراج المنير: ٢ / ٤٠.

(٥) إتقان السيوطي: ١ / ١٦.

٤٦

الآخر، أو بالعكس(١) .

٦. سورة إبراهيم مكية إلّا قوله:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ ) الآيتين(٢) .

٧. سورة الإسراء مكية إلّا قوله:( وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ ) إلى قوله:( وَاجْعَل لِي مِن لَدُنكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ) (٣) .

٨. سورة الحج مكية إلّا قوله:( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ) (٤) .

٩. سورة النمل مكية إلّا قوله:( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) (٥) .

١٠. سورة القصص مكية إلّا قوله:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِن قَبْلِهِ ) (٦) .

١١. سورة القمر مكية إلّا قوله:( سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (٧) .

١٢. سورة يونس مكية إلّا قوله:( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ) الآيتين(٨) .

وغيرها مما نص به أئمّة التفسير، وما ذكرناه نماذج ممّا ذكروه.

فكما أنّ كون السورة مكيّة لا يستلزم كون جميع آياتها كذلك فكذلك كون السورة مدنية لا يستلزم كون جميعها كذلك، كما يجده المتتبع في طيات التفاسير.

__________________

(١) تفسير القرطبي: ٩ / ٢٧٨، ومفاتيح الغيب: ٥ / ٢٥٨.

(٢) تفسير القرطبي: ٩ / ٣٣٨، والسراج المنير: ٢ / ١٥٩.

(٣) تفسير القرطبي: ١٠ / ٢٠٣، وتفسير الرازي: ٥ / ٥٤٠، والسراج المنير: ٢ / ٢٦١.

(٤) تفسير القرطبي: ١٢ / ١، وتفسير الرازي: ٦ / ٢٠٦، والسراج المنير: ٢ / ٥١١.

(٥) تفسير القرطبي: ٥ / ٦٥، والسراج المنير: ٢ / ٢٠٥.

(٦) تفسير القرطبي: ١٣ / ٢٤٥، وتفسيرالرازي: ٦ / ٥٨٥.

(٧) السراج المنير: ٤ / ١٣٦.

(٨) تفسير الرازي: ٤ / ٧٧٤، والإتقان: ١ / ١٥، والسراج المنير: ٣ / ٢.

٤٧

كما أنّ بعض الآيات نزلت مرتين، نصّ بذلك العلماء، وعللوه بكونها عظة وتذكيراً، أو لاقتضاء علل متعددة ذلك(١) .

وإن شئت التفصيل فلاحظ أوائل السور من التفاسير تجد انّ المفسّرين حيث يحكمون بأنّ السورة مكية أو مدنية يستثنون في أغلب السور آيات خاصة، فلاحظ التفاسير في تفسير السور: المائدة، الأعراف، الرعد، الإسراء، الكهف، مريم، الحج، الشعراء، القصص، الروم، لقمان، سبأ، الزمر، الزخرف، الدخان، الرحمن.

فإنّ نظرة فاحصة في هذه السور والتفاسير حولها توقف الإنسان على أنّ كون السور مكية أو مدنية بمعنى أنَّ أغلب آياتها لا جميعها كذلك.

* * *

ولو فرضنا كون الآية مكية لكنه لا يستلزم كون المودة مقصورة على الموجودين من أقربائه بل يكون حكماً إسلامياً شاملاً لمن يتولَّد بعد نزول الآية من أقربائه نظير قوله:( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) فانّها شاملة لأولاد المخاطبين المتولدين بعد نزول الآية.

ثم إنّ تفسير النبيّ الآية بعلي وفاطمة وابنيهما يمكن أنْ يكون متأخراً عن نزول الآية لرفع الستار عن وجه الآية، فيكون من الإخبارات النبوية بالمغيبات.

ثمّ إنّ فرض مودتهما على الأمّة قبل ولادتهما لأجل كرامتهما عليه وقرب

__________________

(١) الإتقان: ١ / ٦٠، تاريخ الخميس: ١ / ١١ ومنها سورة الفاتحة، ولأجل تكرار نزولها سميت المثاني. وقد أخذنا هذه النصوص في مورد تلك الآيات عن الغدير: ١ / ٢٣٣، ٢٣٤ شكر الله مساعيه.

٤٨

منزلتهما منه، كما بشر الله آدم ونوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى بالنبي الخاتم، وعرّفهم جلالة قدره وعظم شأنه.

وعلى كل تقدير سواء أكان تفسير الآية بعلي وفاطمة وابنيهما مقارناً مع نزول الآية أم بعده، فقد روى المحدّثون عن ابن عباس أنّه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ فقال: « علي وفاطمة وابناهما »(١) .

وخلاصة القول: إنّ ما يعيّن مكيّة الآيات ومدنيتها هي الأحاديث الإسلامية، فالأحاديث التي تقول بأنّ سورة الشورى مكية هي التي تقول بأنّ آية( قُل لا أَسْأَلُكُمْ ) بل بضع آيات وردت فيها، نزلت في المدينة، ومخالفة هذه الأحاديث ليس سوى نوع اجتهاد في مقابل النص بل النصوص.

وعلى تسليم كونها مكية برمتها لا يضير عدم وجود بعض أفرادها حين النزول في مكة إذ أنّ من الجائز أن يشرِّع مقنن قانوناً يحترم طائفة من الناس يوجد بعض أفرادها حين التشريع، وهذا هو الاسلوب الذي يتبعه القرآن في كثير من تشريعاته حيث يقول:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَىٰ ) (٢) . فلفظ الغنيمة يشمل كل ما تغلب عليه المسلمون في الأجيال كلها، كما أنّ لفظ( وَلِذِي القُرْبَىٰ ) يشمل أقرباء النبي سواء أكانوا موجودين زمن نزول الآية أم لا.

__________________

(١) الذخائر: ٢٥، والكشّاف: ٢ / ٣٣٩، مطالب السؤول: ٨، مفاتيح الغيب: ٧ / ٦٦٥، مجمع الزوائد: ٩ / ١٦٨، الفصول المهمة: ١٢، الكفاية للكنجي: ٣١، شرح المواهب: ٧ / ٣ و ٢١، والصواعق: ١٠١ و ١٣٥ عند البحث في المقام السادس، نور الأبصار: ١١٢، الاسعاف: ١٠٥ وستوافيك نصوصهم.

(٢) الأنفال: ٤١.

٤٩

والعجب تسمية ذلك في كلام بعضهم ( أي إدراج الآية المدنية في السورة المكية أو بالعكس ) تحريفاً باطلاً فإنّ هذا تصور باطل عن معنى التحريف الذي هو بمعنى الزيادة والنقيصة في القرآن وإلاّ يلزم أن نعتبر كلَّ المفسّرين والمحدّثين من القائلين بالتحريف لأنَّهم كثيراً ما يعتبرون الآية مدنية في ضمن السورة المكية وبالعكس.

على أنّ التحقيق هو أنَّ القرآن جمع في عصر الرسول بهذا الشكل الحاضر فبأمره رتبت سوره ونظمت آياته، ووضعت كل آية في موضعها، فإذا كان ذلك بأمر الرسول فهل يصح أن نعتبره تحريفاً ؟

روى المفسّرون عن ابن عباس والسدّي: أنّ قوله تعالى:( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (١) آخر آية نزلت من الفرقان على رسول الله وانّ جبرئيل قال له ضعها على رأس الثمانين والمائتين من البقرة، وهذا القول كأنّما إجماعي، وانّما الاختلاف في مدة حياة الرسول بعد نزولها.

السؤال الثالث

إنّ المحبة حالة قلبية غير اختيارية فلا يمكن الأمر بها بأن تقع تحت دائرة الطلب، لأنّه لو كانت هناك موجبات الود وجدت المحبة قهراً وإن لم يوص بها، وإن لم تكن فلا توجد وان كانت هناك توصية بذلك.

الجواب: عزب عن المستشكل أنّه لو كانت المودة أمراً غير اختياري موجباً لعدم صحة الأمر بها، لزم عدم صحة النهي عنها أيضاً فإنّ الموضوع غير

__________________

(١) البقرة: ٢٨١.

(٢) الكشاف: ١ / ٣٠٣، مجمع البيان: ١ / ٣٩٤، الإتقان: ١ / ٧٧.

٥٠

الاختياري لا يقع تحت دائرة الطلب مطلقاً، لا تحت دائرة الأمر ولا تحت دائرة النهي، بينما نرى القرآن ينهى عن مودة الكفّار وأعداء الله ويقول وهو يصف المؤمنين:( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) (١) .

كما يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ ) (٢) .

والآية الأولى وإن كانت تخبر في الظاهر عن أحوال المؤمنين إلّا أنّ المقصود منها هو الحث على الاجتناب عن مودتهم ومحبتهم.

إذا كانت المودة ـ لأجل كونها أمراً خارجاً عن الاختيار ـ لا يتعلق بها الأمر لماذا نجد الرسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله يدفع المسلمين إلى التوادد والتحابب ممثلاً لذلك بمثل جميل ورائع حيث يقول :

« مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى »(٣) .

وهذا الحديث ونظائره كثيرة في الأحاديث الإسلامية، وكلّها تعطي أنّ المودة موضوع قابل للطلب، كما أنّ المحدثين عقدوا في موسوعاتهم الحديثية أبواباً من قبيل باب « الحب في الله » وباب « البغض في الله » وأدخلوا في هذه الأبواب مجموعات كبيرة من الأحاديث التي تبدو منها بجلاء الدعوة إلى التوادد والتحابب بين الأمّة الإسلامية ونبذ الكفار وعدم موالاتهم.

__________________

(١) المجادلة: ٢٢.

(٢) الممتحنة: ١.

(٣) مسند أحمد: ٤ / ٧، والتاج: ٥ / ١٧، نقلاً عن صحيحي البخاري ومسلم.

٥١

ومن هنا يبدو أنّ البغض والحب ليسا كما يتوهم أمرين غير اختياريين وغير خاضعين للإرادة الانسانية، بل هما حالتان اختياريتان تتحققان بالتدبر واعمال النظر في مقدماتهما.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : « من أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله »(١) . أي تحب المؤمن لإيمانه بالله، وتبغض الكافر لكفره بالله.

ويقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في عهده إلى مالك الأشتر النخعي: « واشعر قلبك الرحمة والمحبة لهم واللطف بهم »(٢) .

ولو أُتيح لك أن تطّلع بالتفصيل على النصوص الواردة في مجال الحب والبغض، لرأيت كيف أنّ الرسول والأئمّة: أوصوا بمحبة جماعة معينة، ونهوا عن مودة آخرين، فها هو الرسول يقول: « عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالبعليه‌السلام »(٣) . والهدف النهائي من هذه الكلمة هو الدعوة إلى موالاة علي وعقد القلب على محبته.

ويقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً: « من سرَّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي، فليوال علياً من بعدي، وليوال وليّه، وليقتد بالأئمّة من بعدي، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي، ورزقوا فهماً وعلماً »(٤) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ علي أيضاً: « ومن أحبني فليحبه، ومن أحبني وأحب هذين وأباهما وأُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة »(٥) .

__________________

(١) سفينة البحار: ١ / ١٢.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب برقم ٥٣.

(٣) تاريخ بغداد: ٤ / ٤١٠.

(٤) حلية الأولياء: ١ / ٨٦.

(٥) مسند أحمد: ٥ / ٣٦٦، وصحيح مسلم كتاب الفتن: ١١٩، وصحيح الترمذي كتاب المناقب: ٢٠.

٥٢

ولا شك أنّ هدف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس إلّا دفع الناس إلى محبتهم وموالاتهم.

أضف إلى ذلك أنّ دعوة النبي إلى حب وموادّة جماعة خاصة، يكون سبباً قوياً لغرس بذور المحبة لتلك الجماعة في قلوب الناس، وسرعان ما تنمو تلك البذور وتتحول إلى حب عميق لتلك الجماعة، فعندما يأخذ الرسول بيد علي ويقول: « من أحبني فليحبه »، تكون تلك العبارة حافزاً لمشاعر القوم تجاه مكانة علي، وسبباً لنمو بذور المحبة في أفئدتهم، كيف لا، وهذه الكلمات من رسول الله هي التي صنعت جماعة أحبت علياً وآله غاية الحب.

نعم لو أوصى بمحبة من لا يتوفر فيه ملاك المحبة، إمّا لوجود نقاط ضعف في خلقه أو عمله لما نفعت التوصية، على أنّ هناك قد يوجد من يتوفر فيه ملاكالمحبة دون أن يعلم أكثر الناس به، فدعوة الناس إلى محبتهم وولائهم تكون سبباً إلى التفتيش في موجبات هذه الدعوة، وفي نهاية المطاف يكون هذا الأمر سبباً إلى التفات الناس إلى سجاياهم وأخلاقهم التي تخلق المحبة في قلوب الناس.

وبذلك يتضح أنّ دفع الناس إلى التعرف على عظمة الشخص يحصل بأحد أمرين :

الأوّل: رفع الستر عن سجاياه الأخلاقية وملكاته الفاضلة ببيان فضائله، وهو عمل يوجه الناس إلى القائد بصورة مباشرة.

الثاني: الأمر بحبه وموالاته، ويكون سبباً لإقبال الناس عليه، والتعرّف بالتدريج على مؤهلاته وصفاته وسجاياه.

وعلى هذا الأساس يعتبر الأمر بمودتهم منطلقاً للتعرف وأساساً للاتّباع.

٥٣

السؤال الرابع

كيف يأمر الرسول بمودة أقربائه مع أنّا نجد في صفوفهم من عادى الله ورسوله، وانّه سبحانه نهى عن مودة من يعاديه أو يعادي رسوله ؟

الجواب: لا شك أنّ القرآن الكريم نهى عن موالاة الكفار سواء أكانوا من أقرباء الرسول أم لا، قال سبحانه :

( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ ) (١) .

وقال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) .

وقال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ ) (٣) .

فبملاحظة هذه الآيات والآيات التي نزلت في مكة وطلبت من المؤمنين أن يجانبوا آباءهم وأُمهاتهم المشركين، يقضي العقل بأنّ الرسول إنّما طلب موالاة من يرتبط به بوشيجة القربى إذا كان موصوفاً بالإيمان والتقى، وليس من المعقول ممن ينهى عن موالاة الكفار والمشركين، أن يطلب موالاة أقربائه على الإطلاق حتى المشركين.

__________________

(١) التوبة: ١١٣.

(٢) التوبة: ٢٣.

(٣) الممتحنة: ١.

٥٤

وقصارى الكلام هو أن نخصّص إطلاق الآية بما دلَّ على المجانبة من الكفار والمشركين، وإن كانوا من أُولي القربى.

وهذا الإشكال ضئيل غاية الضآلة، فكأن صاحبه جهل أو تجاهل أنَّ القرآن يصدّق بعضه بعضاً، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، فالقرآن هو الذي يقول في حق ولد نوح:( إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) (١) . فعندئذ لا يتبادر من الآية سوى محبة المؤمنين والمخلصين من أقرباء النبي دون الكفار والمشركين.

على أنّ الآية كما أسلفناه نزلت في المدينة ولم يكن يومذاك حول النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله غير ذوي القربى المؤمنين، وقد أجاب دعوته كل من بقي من بني هاشم ممن لم يؤمن به قبل، فإذا كان نزول الآية في عام الفتح وبعده فلم يكن في أرض المدينة ومكة من أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كافر أو منافق.

وبذلك يعلم أنّ ما ذكره روزبهان(٢) من أنّ ظاهر الآية شامل لجميع أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ضعيف جداً، وعلى فرض الصحة فالحديث الصحيح خصّصها بعدّة خاصّة كما ذكرنا صورة الحديث فيما مر.

وأظن أنّ هذا الإشكال لم يكن يحتاج إلى هذا التفصيل لظهور بطلانه.

__________________

(١) هود: ٤٦.

(٢) إحقاق الحق: ٣ / ٢٠.

٥٥

المقام الثاني

التأليف بين هذه الآية والآيات الأُخر

إنّ الآيات القرآنيّة تشهد على أنّه كان شعار الأنبياء في طريق دعوتهم وتجاه أُممهم هو رفض الأجر، وعدم طلبه من الأمّة وكلّهم يقولون:( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ ) (١) .

فالقرآن يحدّثنا في سورة الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب بأنّ شعارهم الوحيد طوال فتراتهم الرسالية كان هو قولهم:( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَىٰ رَبِّ العَالَمِينَ ) (٢) .

كما يرد في سورتي هود ويونس(٣) هذا المضمون عن نوح وهود أيضاً وإنّ من علائم النبوّة أنّ أصحابها لا يطلبون أجراً على رسالتهم.

ولأجل ذلك لما لاحظ المبعوث الثالث إعراض أهالي إنطاكية عن رسل المسيح، التفت إلى أهاليها وقال:( اتَّبِعُوا مَن لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُهْتَدُونَ ) (٤) .

__________________

(١) لاحظ الشعراء، الآيات: ١٠٩، ١٢٧، ١٤٥، ١٦٤، ١٨٠.

(٢) الشعراء: ١٠٩.

(٣) يونس: ٢٧، هود: ٢٩ و ٥١.

(٤) يس: ٢١.

٥٦

ومع ذلك كيف يصح أن يقال أنّ الرسول بدَّل هذا الشعار الذي ظل يتمسّك به كل الرسل على طول التاريخ، وجعل مودة أقربائه أجراً على رسالته، أضف إلى ذلك أنّ الرسول الأعظم نفسه يصرح بأمر من الله بأنّه لا يسأل أجراً ويقول:( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ) (١) .

الجواب: انّ الأجر في اللغة هو العوض الذي يتلقّاه المرء لقاء عمل يؤدّيه، وهو بمفهومه يشمل كل الأجور الدنيوية والأخروية، بيد أنّ المقصود بالأجر المنفي في هذه الآيات، بقرينة توجيه الخطاب إلى البشر، هو الأجر الدنيوي الذي كان بإمكان البشر تقديمه إلى الرسل، ولا شكّ أنّ الرسول لم يطلب من أحد مثل هذه الأجور الدنيوية كما لم يطلب أيضاً إخوانه من الرسل ذلك من قبل.

ولفظ الأجر في الآية وإن كان يشمل الأجور الدنيوية كلَّها حتى التكريم والتبجيل لنفسه وقومه وأقربائه، وعند ذاك تكون المودَّة داخلة في المستثنى منه قطعاً.

غير انّ المطلوب في الآية ليس نفس المودة والولاء لأقربائه بما هي هي حتى يعود أجراً دنيوياً مطلوباً ويصير طلبها من الأمة مصادماً للآيات الحاكية عن رفض الأنبياء للأجر بتاتاً بل المودَّة في القربى وسيلة لاتصال الأمّة بعترة النبي، ويكون نفس ذلك الاتصال ذريعة لتكامل الأمّة في المراحل الفكرية والعملية، فعندئذ تنتفع الأمّة الإسلامية بها قبل أن تنتفع به العترة، فحينئذ لا تكون المودّة في القربى أجراً حقيقياً وان أُخرجت بصورة الأجر.

هذا هو مجمل الجواب، وأمّا التفصيل فيبين في ضمن أمرين :

الأوّل: انّ الأجر وإن كان يطلق على الأجر الدنيوي والأخروي، ولكن

__________________

(١) الأنعام: ٩٠.

٥٧

المقصود من الأجر المنفي في هذه الآيات هو الأجر الدنيوي بقرينة توجيه الخطاب إلى الناس.

أضف إليه أنّه ليس من المعقول أن يطلب الرسول من الناس أجراً أُخروياً، إذ ليس في وسع الناس أن يقدّموا مثل هذا الأجر إلى الرسول، هذا وإنّ القرآن يحدّثنا بأنّ الرسول كان يعلن للناس بأنّه لا يريد من أحد أجراً، وقد أمره سبحانه أن يقول :

( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ) (١) .

وقوله سبحانه :

( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ ) (٢) .

فمع مثل هذه التصريحات التي تمَّت في بدء الرسالة، لا يمكن للنبي أن يطلب من الناس شيئاً يعتبره الناس أجراً على عمله، كيف ؟ والنبي الأعظم كالأنبياء السابقين من نخبة المجتمع وصفوة البشرية، والإخلاص منطلقهم الوحيد في عملهم ودعوتهم، وكان شعارهم كل شيء لأجل الله.

قال شيخنا المفيد: إنّ أجر النبيّ هو الثواب الدائم، وهو مستحق على الله في عدله وجوده وكرمه، وليس المستحق على الأعمال، يتعلق بالعباد لأنّ العمل يجب أن يكون لله تعالى خالصاً، وما كان لله فالأجر فيه على الله تعالى دون غيره(٣) .

الثاني: هل الاستثناء في الآية استثناء منقطع أو استثناء متصل ؟

فقد نقل روزبهان عن بعضهم أنَّ الاستثناء منقطع والمعنى: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً « لكن المودة في القربى حاصل بيني وبينكم » فلهذا أسعى

__________________

(١) الأنعام: ٩٠.

(٢) ص: ٨٦.

(٣) شرح عقائد الصدوق: ٦٨.

٥٨

وأجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم(١) .

وقال بعضهم: الاستثناء متصل والمعنى: لا أسألكم عليه أجراً من الأجور إلّا مودّتكم في قرابتي، وأيّد ذلك القول بأنّ الاستثناء المنقطع مجاز واقع على خلاف الأصل، وانّه لا يحمل على المنقطع إلّا لتعذر المتصل، ولأجل ذلك لا يحمل العلماء الاستثناء على المنقطع إلّا عند تعذر المتصل، حتى عدلوا للحمل على المتصل، عن الظاهر في قوله: له عندي مائة درهم إلّا ثوباً، وله علي إبل إلّا شاة، وقالوا: معناه إلّا قيمة ثوب أو قيمة شاة، فيرتكبون الإضمار وهو خلاف الظاهر ليصير الاستثناء متصلاً.

وممّن ذهب إلى أنّ الاستثناء منقطع الشيخ المفيد، فقال: إن قال قائل ما معنى قوله تعالى:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) أوليس هذا يفيد أن قد سألهم النبي مودة القربى أجراً على الأداء ؟ قيل له ليس الأمر على ما ظننت لما قدمنا من حجة العقل والقرآن، والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة لكنه استثناء منقطع، ومعناه: قل لا أسألكم عليه أجراً لكني ألزمكم المودة في القربى، وأسألكموها، فيكون قوله لا أسألكم عليه أجراً كلاماً تاماً قد استوفى معناه، ويكون قوله إلّا المودّة في القربى كلاماً مبتدأً، فائدته لكن المودّة للقربى سألتكموها، وهذا كقوله:( فَسَجَدَ المَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *إِلا إِبْلِيسَ ) (٢) والمعنى فيه لكن إبليس وليس باستثناء من جملة وكقوله:( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلا رَبَّ العَالَمِينَ ) (٣) معناه لكن ربّ العالمين ليس بعدو لي، قال الشاعر :

وبلدة ليس بها أنيس

إلاّ اليعافير وإلاّ العيس

__________________

(١) إحقاق الحق: ٣ / ٢٠. وسوف نرجع إلى نقد هذا الفكر الذي زعمه روزبهان تفسيراً للآية. وممن اختار كون الاستثناء منقطعاً الرازي في تفسيره: ٧ / ٣٩٠، وقال تم الكلام عند قول: ( عليه أجراً ) ثم قال: ( إلّا المودة في القربى ): أي لكن اذكركم قرابتي منكم. فلاحظ.

(٢) الحجر: ٣٠ ـ ٣١.

(٣) الشعراء: ٧٧.

٥٩

وكأنّ المعنى في قوله: « وبلدة ليس بها أنيس » على تمام الكلام، واستيفاء معناه، وقوله: « إلّا اليعافير » كلام مبتدأ معناه لكن اليعافير والعيس فيها، وهذا بيّن لا يخفى فيه الكلام على أحد، ممن عرف طرفاً من اللسان، والأمر فيه عند أهل اللغة أشهر من أن يحتاج معه إلى استشهاده(١) .

والحق في المقام أن يقال: إنّ تقسيم الاستثناء إلى المتصل والمنقطع ليس على ما اشتهر، من أنّ المستثنى المنقطع غير داخل في المستثنى منه لا موضوعاً ولا حكماً، لا حقيقة ولا ادّعاء، إذ لو لم يكن المستثنى داخلاً بنحو من الأنحاء في المستثنى منه كان استثناؤه عنه لغواً غير صالح لأن يذكر في كلام العقلاء، فالمستثنى حتى المنقطع داخل في المستثنى منه دخولاً ادّعائياً لا حقيقياً، إذ ليس الاستثناء إلّا إخراج ما لولاه لدخل، ومعلوم انّ الإخراج فرع الدخول بالضرورة غاية الأمر انّ المستثنى منه بمفهومه اللغوي شامل للمستثنى كما في قولنا جاءني القوم إلّا زيد، بخلاف الاستثناء المنقطع، فالمستثنى منه وإن كان غير شامل للمستثنى بمفهومه اللغوي، لكن المخاطب ربّما يتوهم شمول الحكم المذكور للمستثنى منه، للمستثنى أيضاً، فيعود المتكلم إلى استدراك ذلك الوهم بعدم شموله للمستثنى، مثلاً إذا قلنا: جاء زيد إلّا خادمه، وجاء القوم إلّا مراكبهم، فالاستثناء لأجل دفع توهم، وهو انّ مجيء زيد والقوم كان مع خادمه ومراكبهم ولولا هذا التوهم لما صح الاستثناء، ولأجل ذلك قلنا بأنّ المستثنى في الاستثناء المنقطع داخل في المستثنى منه ادّعاء لا حقيقة، ولولا توهم الدخول لا يصح الاستثناء، فلا يصح أن يقال جاءني القوم إلّا الغراب أو إلّا الشجر، إذ ليس مجيئ الغراب والشجر معرضاً للتوهم.

وبذلك يظهر أنّ مصحح الاستثناء هو دخول المستثنى في المستثنى منه

__________________

(١) شرح عقائد الصدوق: ٦٨.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

به القوى الغادرة، فلمّا قرأ الرسالة قالعليه‌السلام : (آمنك الله من الخوف، وأرواك يوم العطش الأكبر).

ولمّا تجهّز ابن مسعود لنصرة الإمام بلغه قتله فَجَزع لذلك، وذابت نفسه أسىً وحسرات(1) .

موقف والي الكوفة:

كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة وقتذاك، ومع أنّه كان عثماني الهوى وأموي الرغبة لكنّه لم يكن راضياً عن خلافة يزيد، وبعد موت معاوية انضم إلى عبد الله بن الزبير وقاتل وقُتل معه.

وعليه فإنّه لم يتّخذ موقفاً متشدّداً من نشاطات مسلم بن عقيل في الكوفة، ولم يُنقل عنه في تلك المرحلة الحسّاسة سوى خِطاب ألقاه في جمع الكوفيين كان - كما يتصور - لرفع العتب والتظاهر بأنّه يقوم بواجبه كوال تابع لحكومة الشام، وقد ذكر في خطابه:

(أمّا بعد، فاتّقوا الله عبادَ الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيها تَهلِكُ الرجال وتُسفَكُ الدماء وتُغْصَبُ الأموال، إنّي لا أُقاتل مَنْ لا يقاتلني، ولا آتي على من لم يأت عليَّ، ولا أُنبّه نائمكم ولا أتحرّش بكم ولا آخُذُ بالقرف ولا الظِنَّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فو الله الذي لا إله غَيرُه َلأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما أنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثرَ مِمَّنْ يرديهِ الباطل)(2) .

____________________

(1) اللهوف: 38، وأعيان الشيعة: 1 / 590، وبحار الأنوار: 44 / 339.

(2) الكامل في التأريخ: 3 / 267.

١٦١

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية فقال: إنَّهُ لا يُصْلِحُ ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغُشْمُ، وأنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأيُ المستضعفين، فقال له النعمان: لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليّ مِنْ أن أكون من الأعزّين في معصية الله(1) .

أنصار الأمويين يتداركون أُمورهم:

كانت الكوفة تضمّ آنذاك فئةً من أنصار الأمويين والمعارضين لأهل البيتعليهم‌السلام وبين هذه الفئة كان بعض المنافقين الذين يتظاهرون بالتشيّع لأمير المؤمنينعليه‌السلام فيما كانوا يُبْطِنُونَ محبّة الأمويين، الأمر الذي ساعدهم في اختراق صفوف شيعة أهل البيتعليهم‌السلام والتجسس لصالح الحكم الأموي، وكان من بين هؤلاء عبد الله الحضرمي، الذي عاب على النعمان رأيَه كما لاحظنا قبل قليل، فقد كتب رسالةً إلى يزيد جاء فيها: (أمّا بعد، فإنّ مسلم بن عقيل قد قَدِمَ الكوفة و بايعته الشيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعثْ إليها رجلا قويّاً ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضَعَّفُ)(2) .

ويضيف المؤرّخون أنّه كتب إليه - يعني إلى يزيد - عمارة بن عقبة بنحو كتابه - يعني كتاب الحضرمي - ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثلَ ذلك(3) .

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 42، وأنساب الأشراف: 77، والفتوح: 5 / 75، والعوالم للبحراني: 13 / 182.

(2) الإرشاد: 2 / 42، وإعلام الورى: 1 / 237.

(3) المصدر السابق.

١٦٢

قلق يزيد واستشارة السيرجون(1) :

قَلِقَ يزيد كثيراً من الأخبار التي وصلته من الكوفة، وهي تتحدّث عن موقف الكوفيّين من الحكم الأموي ومبايعتهم للإمام الحسينعليه‌السلام فدعا يزيد السيرجون الذي كان يعدّ غلاماً لمعاوية فقال له: ما رأيك؟ - إنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء، فَمَنْ ترى أن أستعمل على الكوفة؟، وكان يزيد عاتباً على عبيد الله ابن زياد(2) ، فقال له السيرجون: أَرأيت لو يشير إليك معاوية حيّاً هل كنتَ آخذاً برأيه؟ قال: بلى. فأخرج السيرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة،

____________________

(1) السيرجون غلام نصراني كان معاوية قد اتخذه كاتباً ومستشاراً له. واستمر في منصبه الخطير في عهد يزيد الذي كان قد نشأ على التربية النصرانية وكان أقرب منها إلى غيرها.

وليس هذا أوّل مورد نلاحظ فيه بصمات أصابع أهل الكتاب في صنع مواقف هؤلاء الحكّام تجاه الرسالة والعقيدة والأمة الإسلامية وقادتها الأمناء عليها.

لقد كان لكل من تميم الداري ( الراهب النصراني ) وكعب الأحبار ( اليهودي ) موقع متميّز عند عمر حيث كان يحترمهما ويستشيرهما ويسمح لهما بالتحدث كل اسبوع قبل صلاة الجمعة فضلاً عن تدريس التوراة وتفسير القرآن الكريم، في وقت كان لا يسمح للصحابة بكتابة حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا التحديث به، بل كان يحبسهم في المدينة لئلاّ ينشروا حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . ( راجع كنز العمّال الحديث رقم 4865 وتذكرة الحفاظ بترجمة عمر وتاريخ ابن كثير: 8 / 107 ).

وقد عظم نفوذ هؤلاء القصّاصين بعد عمر وتعاظم في عهد الأمويين واستمر في عهد العباسيين بالرغم من أن الإمام عليّاًعليه‌السلام كان قد طردهم من مساجد المسلمين.

ولا يبعد أن يكون دخول عقائد منحرفة كالتجسيم وعدم عصمة الأنبياء وغيرها من المفاهيم المنحرفة إلى مصادر المسلمين نتيجة هذا الحضور الفاعل منهم في الساحة الإسلامية وتحت شعار الإسلام ونصح الحكّام.

وقد تميّز معاوية باتخاذ بطانة واسعة من أهل الكتاب حيث تلاحظ أن كاتبه ومستشاره نصراني، وهو (السيرجون) كما أنّ طبيبه كان نصرانياً وهو (أثال) وشاعره أيضاً كان نصرانياً وهو (الأخطل)، والشام هي عاصمة نصارى الروم البيزنطيين قبل دخول الإسلام إليها. (راجع معالم المدرستين 2 / 51 - 53 ).

(2) لأنّ عبيد الله بن زياد كان معارضاً لمعاوية في تولية العهد ليزيد، انظر البداية والنهاية: 8 / 152.

١٦٣

وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمّ المصرَيْن (يعني الكوفة والبصرة والتي كان والياً عليها أيام معاوية) إلى عبيد الله، فقال له يزيد: أفعلُ. إبعث بعهد عبيد الله ابن زياد إليه... ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي و كتب إلى عبيد الله معه كتاباً جاء فيه:

(أمّا بعد، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها، يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتيَ الكوفة فتطلب ابنَ عقيل طَلَب الخِرزةِ حتى تثقفه فتُوثِقَه أو تقتله أو تنفيَهُ، والسلام)(1) .

توجّه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة:

استلم عبيد الله بن زياد كتاب يزيد بن معاوية، فانطلق في اليوم الثاني نحو الكوفة و معه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته(2) ، حيث ينتظر أهلُها قدومَ الإمام الحسينعليه‌السلام و معظمهم لا يعرف شخصية الإمام ولم تكن قد التقته من قبل، وقد تعجّل ابن زياد الانتقال إلى الكوفة ليصلها قبل الإمام الحسينعليه‌السلام .

باغت ابن زياد جماهير الكوفة وهو يُخفي معالم شخصيتِه و يتستّر على ملامحه، فقد تلثّم ولبس عمامةً سوداء، وراح يخترق الكوفة والناس ترحّب به وتسلِّمُ عليه وتردِّد: مرحباً بك ياابن رسول الله قدمت خير مقدم(3) .

فساءه ما سمع وراح يواصل السير نحو قصر الإمارة، فاضطرب النعمان

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 42 - 43، وإعلام الورى: 1 / 437، وسير أعلام النبلاء: 3 / 201.

(2) إعلام الورى: 1 / 437.

(3) الإرشاد: 2 / 43، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٤

وأطلّ من شرفات القصر يخاطب عبيد الله بن زياد، وكان هو أيضاً قد ظنّ أنّه الإمام، فخاطبه: أنشدك الله إلاّ ما تنحّيتَ، واللهِ ما أنا بمسلِّم إليك أمانتي، وما لي في قتالك من إرب...(1) .

صمت ابن زياد وراح يقترب من باب القصر، حتى شخّص النعمان أنّ القادم هو ابن زياد، ففتح الباب ودخل ابن زياد القصر وأغلق بابه وباتَ ليلته، وباتت الكوفة على وجل وترقّب وفي منعطف سياسي خطير.

محاولات ابن زياد للسيطرة على الكوفة:

فوجئ أهل الكوفة بابن زياد عند الصباح وهو يحتلّ القصر بالنداء: الصلاة جامعةً، فقام خطيباً في الجموع المحتشدة وراح يُمنّي المطيع والسائر في ركب السياسة القائمة بالأماني العريضة، ويهدّد ويتوعّد المعارضة والمعارضين والرافضين لحكومة يزيد، حتى قال:... سوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي(2) .

ثم فرض على الحاضرين مسؤولية التجسّس على المعارضين، وهدّد مَنْ لَمْ يُساهم في هذه العملية ويُنَفِّذْ هذا القرار بالعقوبة وقطع المخصّصات المالية، فقال: (... فمن يجيء لنا بهم فهو بريء، و مَنْ لم يكتب لنا أحدٌ فليضمن لنا في عَرافته أن لا يخالِفَنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ برئت منه الذمّة وحلال لنا دمُه ومالُه، وأيُّما عريف وجد في عرافته من بُغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه الينا صُلب على باب داره وألغيت

____________________

(1) الإرشاد: 2/43، وروضة الواعظين: 173، ومقتل الحسين للخوارزمي: 198، وتهذيب التهذيب: 2 / 302.

(2) مقاتل الطالبيّين: 97، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٥

تلك العرافة من العطاء)(1) .

وقد كان ابن زياد معروفاً في أوساط الكوفيّين بالقسوة والشدّة، فكان من الطبيعي أن يُحْدِثَ قدومُه و خطابُه الشديد اللهجة هزّةً عند المعارضين لسياسته، فلاحت بوادر النكوص والتخاذل والإرجاف تظهر على الكوفيّين وقياداتهم، من هنا اعتمد مسلم بن عقيل وسيلةً جديدة للسير في حركته نحو الهدف المطلوب. فانتقل إلى دار هانىء بن عروة وجعل يتستّر في دعوته وتحركاته إلاّ عن خلّص أصحابه، وهانىء يومذاك سيّد بني مراد وصاحب الكلمة المسموعة في الكوفة والرأي المطاع(2) .

موقف مسلم من اغتيال ابن زياد:

لقد كان مسلم بن عقيل - رضوان الله تعالى عليه - يحمل رسالةً ساميةً وأخلاقاً فاضلة اكتسبها من بيت النبوّة، كما كان يملك درايةً بكلّ تقاليد وأعراف المجتمع الذي كان يتحرّك فيه، ففي موقف كان يمكن فيه لمسلم ابن عقيل أن يغتال ابن زياد رفض ذلك لاعتبارات شتّى.

فقد روي أنّ شريك بن الأعور حين نزل في دار هانىء بن عروة مرض مرضاً شديداً، وحين علم عبيد الله بن زياد بذلك قدم لعيادته، وهنا اقترح شريك على مسلم أن يغتال ابن زياد، فقال: إنّما غايتك و غاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك الله منه وهو صائر إليّ ليعودني، فقم وأدخل الخزانة حتى إذا اطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله، ثم صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه،

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 45، والفصول المهمة: 197، والفتوح لابن أعثم: 5 / 67.

(2) مروج الذهب: 2 / 89، والأخبار الطوال: 213، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٦

فإنّه لا ينازعنّك فيه أحد من الناس.

ولمس مسلم كراهية هانىء أن يقتل عبيد الله في داره، ولم يأخذ مسلم باقتراح شريك، وحين خرج عبيد الله قال شريك بحسرة وألم لمسلم: ما منعك من قتله؟ قال مسلم: منعني منه خلّتان: أحدهما كراهية هانىء لقتله في منزله، والاُخرى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن)(1) .

الغدر بمسلم بن عقيل:

اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت دنيئة للقضاء على الوجود السياسي والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن عقيل على النظام الأموي، وسارع للقضاء على مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل وصول الإمام الحسينعليه‌السلام وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة، فدبّر خطّةً للتجسّس على تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له، واستطاع أن يكتشف مخبأه وأن يعلم بمقرّه(2) فكانت بداية تخاذل الناس عن الصمود في مواجهة الظلم.

لقد استطاع الوالي الجديد عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ على هانىء بن عروة الذي آوى رسول الحسينعليه‌السلام وأحسن ضيافته واشترك معه في الرأي والتدبير، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل جرى بينهما، وألقى بجثمانه من أعلى القصر إلى الجماهير المحتشدةحوله، فاستولى الخوف والتخاذل على الناس، وذهب كلّ إِنسان إلى بيته

____________________

(1) الأخبار الطوال: 187، ومقاتل الطالبيّين: 98، وإعلام الورى: 1 / 428.

(2) إعلام الورى: 1 / 440، والأخبار الطوال: 178، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 91، والفتوح لابن أعثم: 5 / 69، وتأريخ الطبري: 4 / 271، وأنساب الأشراف: 79.

١٦٧

وكأنّ الأمر لا يعنيه(1) .

ولمّا علم مسلم بما جرى لهانىء ورأى تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في أصحابه ونادى مناديه في الناس وسار بهم لمحاصرة القصر، واشتد الحصار على ابن زياد وضاق به أمرُه، ولكنّه استطاع بدهائه ومكره أن يتغلّب على المحنة ويُخذِّلَ الناسَ عن مسلم(2) .

لقد دسّ ابن زياد في أوساط الناس أشخاصاً يُخَذِّلونهم ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار وعدم إراقة الدماء، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوى الثوار. واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّى بمن بقي معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر ولا مَنْ يَدُ لُّه على الطريق، وأقفل الناس أبوابهم في وجهه، فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً على باب دارها وكأنّها تنتظر شيئاً، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلى الصباح، فرحّبت به وأدخلته بيتها، وعرضت عليه العشاء فأبى أن يأكل شيئاً، وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ جائزة لِمَنْ يخبره عنه، وما كاد الصبح يتنفّس حتى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر محمد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل، و فور وصول النبأ إلى ابن زياد أرسل قوّة كبيرة من جنده(3) بقيادة ابن الأشعث إلى المكان الذي فيه مسلم، وما أن سمع بالضجّة حتى أدرك أنّ القوم

____________________

(1) الكامل في التأريخ: 3 / 271، والفتوح لابن اعثم: 5 / 83، وإعلام الورى: 1 / 441.

(2) سيرة الأئمّة الاثني عشر، القسم الثاني: 63، وإعلام الورى: 1 / 441، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 92، والكامل في التأريخ: 3 / 271.

(3) جاء في (الإرشاد) أنّهم كانوا سبعين رجلا.

١٦٨

يطلبونه فخرج إليهم بسيفه.

وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، مع انّهم تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض فاُخذ أسيراً وحمل على بلغة وانتزع الأشعث سيفه وسلاحه وأخذوه إلى القصر فاُدْخِلَ على ابن زياد ولم يسلّم عليه، وجرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل (رضوان الله عليه) رابط الجأش منطلقاً في بيانه قويّ الحجّة، حتى أعياه أمرُه وانتفخت أوداجه وجعل يشتم عليّاً والحسن والحسين، ثم أمر أجهزته أن يصعَدوا به إلى أعلى القصر ويقتلوه ويرموا جسده إلى الناس ويسحبوه في شوارع الكوفة ثم يصلبوه إلى جانب هانىء بن عروة، هذا وأهل الكوفة وقوف في الشوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً.

وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن يكتب إلى الحسينعليه‌السلام يخبره بما جرى في الكوفة وينصحه بعدم الشخوص إليهم، فوعده ابن الأشعث بذلك، ولكنّه لم يفِ بوعده(1) .

____________________

(1) يراجع في تفصيلاته إلى: أعيان الشيعة: 1/592، إعلام الورى: 1 / 442، والكامل في التأريخ: 4 / 32، والفتوح: 5 / 88، وتأريخ الطبري: 4 / 280، ومقاتل الطالبيّين: 92.

١٦٩

البحث الخامس: حركة الإمام الحسينعليه‌السلام إلى العراق

ونترك الكوفة يعبثُ بها ابن زياد ويتتبّع شيعة الإمام الحسينعليه‌السلام ويطاردهم، ونعود إلى مكة لنتابع السير مع ركب الحسينعليه‌السلام حتى الطفّ حيث المأساة الكبرى. قال المؤرّخون: كان خروج مسلم بن عقيل رحمة الله عليه بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين، وقتلُه يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة، وكان توجّه الحسين صلوات الله عليه من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة - وهو يوم التروية - بعد مُقامه بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذا القعدة وثماني ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين، وكانعليه‌السلام قد اجتمع إليه مدةَ مُقامه بمكة نَفَرٌ من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة انضمّوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولمّا أراد الحسينعليه‌السلام التوجّه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرةً، لأَنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقْبَضَ عليه بمكة فيُنْفَذ به إلى يزيد بن معاوية، فخرجعليه‌السلام مبادراً بأهله وولده ومن انضمّ إليه من شيعته، ولم يكن خبر مسلم قد بلغه(1) .

لماذا اختار الإمام الحسينعليه‌السلام الهجرة إلى العراق؟

رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع المجتمع الكوفي وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون جزم فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسينعليه‌السلام الهجرة إلى العراق كان لأسباب منها:

1 - إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 67.

١٧٠

المنكر يشمل جميع المسلمين بلا استثناء، إذ أنّنا لا نجد في النصوص التاريخية ما يدلّل على قيام قطر من الأقطار الإسلامية بمحاولة لمواجهة الحكم الأموي سوى العراق الذي وقف ضدّهم منذ أن ظهر الأمويون في الساحة السياسية وحتى سقوطهم.

2 - إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الأمويين وفسادهم والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد، بل كانت تمتدّ دعوته في العمق الزمني إلى أبعد من ذلك، ولكن لم نرَ نصوصاً تاريخية تدلّل على استجابة شعب من شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسينعليه‌السلام ونهضته غير العراق، فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد النهضة ومواجهة الحكم الأموي الفاسد.

3 - لم يكن أمام الحسينعليه‌السلام من خيار لاختيار بلد آخر غير العراق، لأنّ بقية الأقطار إمّا أنها كانت مؤيّدة للأمويين في توجّهاتهم وسياساتهم، أو خاضعة مقهورة، أو أنّها كانت غير متحضّرة وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام، أو غير عربية بحيث يصعب التعايش والتعامل معها; ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده.

4 - كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصالحة التي بناها الإمام عليعليه‌السلام والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيتعليهم‌السلام فأراد الإمام الحسينعليه‌السلام أن لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة، كما أراد أن يعمّق لإيمان في النفوس ويجذّر الولاء لأهل البيتعليهم‌السلام ، وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد استشهاد

١٧١

الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأصبح العراق القاعدة العريضة لنشر مبادئ وفضائل أهل البيتعليهم‌السلام إلى العالم الإسلامي في السنين اللاحقة.

5 - إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السلبي، إذ يتّخذه أعداء الإسلام وأهل البيتعليهم‌السلام أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السامية، ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية، في الوقت الذي كان يهدف الإمامعليه‌السلام إلى إحياء حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين. وحتى على فرض اختيارهعليه‌السلام بلداً آخر فإنّ سلطة الأمويين ستنال منه وتقضي عليه دون أن يحقّق أهداف رسالته التي جاء من أجلها.

6 - لمّا كان العراق يصارع الأمويين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسينعليه‌السلام وأفكاره، ومن ثمّ فضح بني أُمية وتستّرهم بالشرعية وغطاء الدين، وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا.

ولعلّ هناك أسباباً لا ندركها، لا سيَّما ونحن نرى أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان على بيّنة واطلاع من نتيجة الصراع، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية المحيطة بمسيرته وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي للمجتمع الذي كان يتوجّه إليه من خلال وعيه السياسي الحاذق، والنصائح التي قدّمها إليه عدد من الشخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء، كما نعتقد; فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة، إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل الناس وتركهم نصرة إمامهم ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة.

١٧٢

تصريحات الإمامعليه‌السلام عند وداعه مكة:

صدرت عن الإمام الحسينعليه‌السلام عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكة والتوجّه إلى العراق، وكانت بعض هذه التصريحات تمثّل أجوبتهعليه‌السلام على من أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة، فنذكرُ منها هنا:

1 - روى عبد الله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قولهعليه‌السلام : (والله لا يَدَعُونَنِي حتى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من جوفي، فإذا فعلوا سُلِّط عليهم مَنْ يذلّهم حتى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة)(1) .

2 - كان محمد بن الحنفية في يثرب فلمّا علم بعزم الإمامعليه‌السلام على الخروج إلى العراق توجّه إلى مكة، وقد وصل إليها في الليلة التي أرادعليه‌السلام الخروج في صبيحتها إلى العراق، وقصده فور وصوله فبادره قائلا: (يا أخي إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، ويساورني خوف أن يكون حالك حال من مضى، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعز من بالحرم وأمنعهم).

فأجابه الإمامعليه‌السلام : (خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية، فأكون الذي تستباح به حرمةُ هذا البيت)، فقال محمد: (فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد)، قال الحسينعليه‌السلام : (أنظر فيما قلت).

ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى العراق وكان يتوضّأ فبكى،

____________________

(1) الكامل في التأريخ: 4 / 39.

١٧٣

وأسرع محمد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له: (يا أخي، ألم تعدني فيما سألتك؟) قال الإمامعليه‌السلام : (بلى ولكنّي أتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارَقْتُك وقال لي: يا حسين، اُخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلا)، فقال محمد: فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال، وأنت خارج على مثل هذا الحال؟ فأجابه الإمامعليه‌السلام : (قد شاء الله أن يراهن سبايا)(1) .

ولم يكن اصطحاب الحسينعليه‌السلام لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي، فقد كان العرب يصطحبون نساءَهم في الحروب وكذا فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزواته فقد كان يقرع بين نسائه، أمّا بالنسبة إلى الإمام الحسينعليه‌السلام فإنّ اصطحابه لعائلته في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قوية على المسلمين لنصرته، فمن تولّى الحسينعليه‌السلام ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسينعليه‌السلام فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة أنّ الخلاف بزعم الأمويين إنّما هو لأجل الخلافة.

3 - ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها، جاء فيه: (خُطَّ الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول اللهعليهم‌السلام لُحْمَتُه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تَقِرُّ بهم عينُه، ويُنْجَزُ بهم وعدُه، مَنْ كان باذلا فينا مهجتَه وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه فَلْيَرْحَلْ معنا،

____________________

(1) اللهوف على قتلى الطفوف: 27، وأعيان الشيعة: 1 / 592، وبحار الأنوار: 44 / 364.

١٧٤

فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى)(1) .

يُبَيِّنُ الإمام الحسينعليه‌السلام في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد; قياماً بتكليفه الإلهي، موضحاً سبب خروجِه من مكة، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً، داعياً إلى الالتحاق به من كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه، معلِناً أنّ الله تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيتعليهم‌السلام .

خلاصة الثورة في رسالة:

بوعي القائد الرسالي والفدائي العظيم والثائر من أجل العقيدة صمّم الإمام الحسينعليه‌السلام بحنكة ودراية المسير من مكة إلى العراق، بعد أن أوضح جانباً كبيراً من أهدافه وأسباب نهضته، وقد تطايرت أخباره إلى أرجاء العالم الإسلامي.

وكتب الإمامعليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب رسالةً يدعوهم فيها إلى الفرصة الأخيرة لنصرة الإسلام والمبادئ والقيم الإلهية والتألّق في سماء التضحية في الدنيا، وخلود الذكر الطيّب والبقاء عنواناً للحقّ والعدل والإباء والفوز في أعلى درجات الجنّة في الآخرة، فقد جاء فيها بعد البسملة:

(من الحسين بن عليّ إلى أخيه محمد ومن قبله من بني هاشم: أمّا بعد، فإنّه من لحق بي منكم استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام)(2) .

ولمّا وردت رسالة الإمامعليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب، بادرت طائفة منهم إلى الالتحاق به ليفوزوا بالفتح والشهادة بين يدي ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

____________________

(1) إحقاق الحق: 11 / 598، وكشف الغمة: 2 / 20.

(2) مناقب آل أبي طالب: 4 / 76، وبصائر الدرجات: 481، ودلائل الإمامة: 77.

(3) راجع تأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام .

١٧٥

ملاحقة السلطة للإمامعليه‌السلام :

ولم يبعُد الإمامعليه‌السلام كثيراً عن مكة حتى لاحقته مفرزة من الشرطة بقيادة يحيى بن سعيد، فقد بعثها والي مكة عمرو بن سعيد لصدّ الإمامعليه‌السلام عن السفر، وجرت بينهما مناوشات حتى تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قوياً(1) .

في التنعيم:

ومضى ركب الإمام الحسينعليه‌السلام لا يلوي على شيء، وفي طريقهم بمنطقة التنعيم(2) صادفوا إبلا قد يَمَّمت وَجْهَها شطرَ الشام وهي تحمل الهدايا ليزيد بن معاوية قادمةً من اليمن، فاستأجر من أهلها جِمالا لرحله وأصحابه وقال لأصحابها: مَنْ أحبّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كِراءه وأحسنّا صحبته، وَمَنْ أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراءه على ما قطع من الطريق، فمضى معه قوم وامتنع آخرون(3) .

في الصفاح:

وواصل الإمام مسيره حتى وصل الصفاح(4) فالتقى الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر الناس خلفه فقال الفرزدق: قلوبُهم معك والسيوف مع بني أُمية،

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 68.

(2) التنعيم: موضع بمكة في الحلّ يقع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة، جاء ذلك في معجم البلدان: 2 / 49.

(3) الإرشاد: 2 / 68.

(4) الصفاح: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش... جاء ذلك في معجم البلدان: 3 / 412.

١٧٦

والقضاء ينزل من السماء. فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : صدقت، للهِ الأمر، واللهُ يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدَّ مَنْ كان الحقُّ نيّتَه والتقوى سريرَتَهُ(1) .

ثمّ واصل الإمامعليه‌السلام مسيرته بعزم وثبات، ولم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل الناس عنه وتجاوبهم مع الأمويين.

كتاب الإمامعليه‌السلام لأهل الكوفة:

ولمّا وافى الإمام الحسينعليه‌السلام الحاجر من بطن ذي الرُّمّة - وهو أحد منازل الحجّ من طريق البادية - كتب كتاباً لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم إليهم، ولم يكنعليه‌السلام قد وصله خبر ابن عقيل، هذا نصّه:

(بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين:

سلام عليكم، فإنّي أحْمَدُ إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع مَلَئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يُحسن لنا الصنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شَخَصْتُ إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية،

____________________

(1) مقتل الحسين للمقرّم: 203، البداية والنهاية، ابن كثير: 8/180، صفة مخرج الحسينعليه‌السلام إلى العراق.

١٧٧

فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا(1) في أمركم وجِدّوا، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)(2) .

وقد بعثعليه‌السلام الكتاب بيد قيس بن مُسهر الصيداوي.

إجراءات الأمويين:

سرى نبأ مسير الإمامعليه‌السلام نحو الكوفة بين الناس فاضطرب الموقف الأموي، وشعرت السلطات بالخوف والحرج، وتحدّثت الركبان بأنباء الثائر العظيم، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد، فأعدّ رجاله وجنده، ووضع خطّة لقطع الطريق أمام الحسينعليه‌السلام والحيلولة دون وصوله إلى الكوفة، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي، مكلّفاً إيّاه بتنفيذ المهمّة، فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر من خلاله على طريق مرور الإمامعليه‌السلام ، فنزل بالقادسية واتّخذها مقرّاً لقيادته.

اعتقال الصيداوي وقتله:

انطلق قيس بن مُسهر الصيداوي برسالة الإمام نحو الكوفة، وحينما وصل القادسية اعتقله الحصين بن نمير، فبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله: إصعد فسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ، فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها الناس، إنَّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته في الحاجر فأجيبوه، ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب وصلّى عليه، فأمر عبيد الله

____________________

(1) انكمشوا: بمعنى أسرعوا.

(2) الإرشاد: 2 / 70، والبداية والنهاية: 8 / 181، وبحار الأنوار: 44 / 369.

١٧٨

أن يُرمى به من فوق القصر، فرموا به فتقطّع(1) .

وروي: أنّه وقع على الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق، فجاء رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فقيل له في ذلك وعِيبَ عليه، فقال: أردتُ أن أريحه.

مع زهير بن القين:

وانتهت قافلة الإمام إلى (زرود) فأقامعليه‌السلام فيها بعض الوقت، وقد نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي وكان عثمانيّ الهوى، وقد حجّ بيت الله في تلك السنة، وكان يساير الإمام في طريقه ولا يحبّ أن ينزل معه مخافةَ الاجتماع به إلاّ أنّه اضطرّ إلى النزول قريباً منه، فبعث الإمامعليه‌السلام إليه رسولا يدعوه إليه، وكان زهير مع جماعته يتناولون الطعام، فأبلغه الرسول مقالة الحسين فذعر القوم وطرحوا ما في أيديهم من طعام، وكأنَّ على رؤوسهم الطير، فقالت له امرأته: سبحانَ الله! أيبعث إليك ابنُ بنت رسول الله ثم لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثم انصرفتَ. فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه، فأمر بفسطاطه وثقله وراحلته ومتاعه، فقُوِّضَ وحُمِل إلى الحسينعليه‌السلام ثم قال لامرأته: أنتِ طالق، إلحقي بأهلك، فإنّي لا أحب أن يُصيبَكِ بسببي إلاّ خير. وقال لأصحابه: من أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد، إنّي سأحدثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنايم، فقال لنا سلمان الفارسي رحمة الله عليه: أَفَرِحْتُم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 71، ومثير الأحزان: 42، والبداية والنهاية: 8 / 181.

١٧٩

أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثم - والله - مازال في القوم مع الحسينعليه‌السلام حتى قتل رحمة الله عليه(1) .

أنباء الانتكاسة تتوارد على الإمامعليه‌السلام :

ها هي الكوفة تضطرب وتموج، والانتكاسة الخطيرة قد لاحت ملامحها، وبدأ ميزان القوى يميل لصالح السلطة الأُموية، والوهن بدأ يدبّ والانحلال يسري في أوساط المعارضة، وبدأ الإرهاب والتجسس والرشوة تفعل فعلتها، فتلاشت المعارضة ونكص المبايعون، وقُتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وقيس بن مُسهر الصيداوي، وسُجِنَ المختار بن عبيدة الثقفي، وانقلبت أوضاع الكوفة على أعقابها.

وواصل الإمام الحسينعليه‌السلام المسير، وليس لديه معلومات جديدة عن تطور الأحداث، فأرسل عبد الله بن يقطر إلى مسلم بن عقيل ليستجلي الموقف، إلاّ أنّ الحسين اُخبرَ في الطريق في موضع يدعى (الثعلبية) بانتكاسة الثورة واستشهاد مسلم بن عقيل، أمّا رسوله الثاني هذا إلى مسلم فقد وقع أسيراً أيضاً بيد جنود الحصين فنقل إلى ابن زياد في الكوفة، وكان كرسول الحسينعليه‌السلام السابق مثالا للصلابة والجرأة والإخلاص.

ووصل خبر أسر الرسول واستشهاده إلى الإمامعليه‌السلام في موضع يدعى (زبالة) وهكذا راحت تتوارد على الإمام أنباء الانتكاسة، ولاحت له بوادر النكوص الخطير، وشعر بالخذلان ونقض العهد، فوقف في أصحابه وأهل بيته يبلغهم بما استجدّ من الحوادث، ويضع أمامهم الحقائق، ليكونوا على بصيرة من الأمر، فقال لهم: (بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنَّه قد أتانا خبر فظيع

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 72 - 73، والكامل في التأريخ: 3 / 177، والأخبار الطوال: 246.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407