مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109923 / تحميل: 7720
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢١-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بنحو من الأنحاء، وعند ذلك لا فرق بين جعل الاستثناء متصلاً أو منقطعاً.

والظاهر أنّ مصحح الاستثناء في الآية هو دخول المودة تحت الأجر حقيقة إذ الخارج عن الآية بقرينة توجه الخطاب إلى الناس هو الأجر الأخروي الخارج أو طلباً للمودة لشخصه أو لقريبه.

ومع هذا الاعتراف ( أي دخول المودة تحت المستثنى منه وكون الاستثناء حقيقياً ) ليس طلب المودة للقربى أجراً حقيقياً عائداً نفعه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لو كان المطلوب من الأمّة نفس المودّة وتكريم الأقربين وتبجيلهم لكان محلاً لأن يعد أجراً حقيقياً، ومصادماً للآيات النافية لطلب الأجر عن الأنبياء.

وأمّا إذا كانت مودتهم طريقاً لتربية الأمّة وإسعادها وتكاملها كما سنشرحه عند البحث عن المقام الثالث، فعند ذلك يعود طلب المودة كسائر التكاليف المطلوبة من الناس، فهو قبل أن يكون مفيداً لصاحب الرسالة، مفيد لنفس الأمّة، ولأجل ذلك قلنا عند الأجابة على وجه الإجمال: بأنّ طلب المودّة ليس أجراً حقيقياً وان أخرجت بصورة الأجر.

وحاصل ما ذكرناه أمران :

الأوّل: انّ المودّة داخلة تحت الأجر بلا إشكال والاستثناء متصل جداً.

الثاني: انّ المودة ليست أجراً حقيقياً، لأنّها ليست مطلوبة بالذات، بل هي طريق وسبيل إلى نجاة الأمّة عن الهلاك والضلال، بل هي وسيلة إلى هدف تربوي، وهو اتّباع أقربائه في أقوالهم وأعمالهم.

وإن شئت قلت: إنّ المودّة الحقيقية لأقربائه لا تنفك عن اتّباعهم، فيما يفعلون وفيما لا يفعلون، وأمّا المودّة المنفكة عن الاقتفاء بهم فإنّما هي مودّة كاذبة أو خدعة يخدع الإنسان بها نفسه، وهو يحب نفسه وميوله لا سيده ومولاه، وإن

٦١

أطلق عليها المودة فبالعناية والمجاز، بل طبيعة المودّة لشخص يوجب انصباغ صاحبها بصبغة من يحبه، والتكيّف بكيفه، والتخلف في مورد أو موارد لا يضر في هذا المجال لاختلاف مراتب الود.

وبعبارة ثالثة: تصبح المودّة لأهل بيت النبي الذين هم أحد الثقلين(١) وسفينة النجاة(٢) وورثة علم الرسول وحملة أحكام الدين، سبباً لإغناء الأمّة من الناحية الدينية عن الرجوع إلى غيرهم، ووسيلة لإزالة كل احتياجاتها، فعند ذلك يكون طلب المودة كمثل قول الطبيب المعالج لمريضه ـ بعدما يفحصه بدقة، ويكتب له نسخة ـ: « لا أطلب منك أجراً إلّا العمل بهذه الوصفة »، فهو في الظاهر أجر مطلوب ربّما يوجب نشاط الطبيب وسروره القلبي إذا رأى أنّ مريضه قد استعاد صحته ولكنّه قبل أن يرجع نفعه إلى الطبيب يعود نفعه إلى المريض.

وبملاحظة هذه الأمور يتضح أنّ الهدف النهائي من طلب المودّة لأقربائه هو دفع الناس إلى الاقتداء بهم واتباعهم لهم في شؤون الدنيا والآخرة، وهذا سبب لوعي الأمّة وتكاملها، في المرحلتين: الفكرية والعملية.

إذا عرفت هذه الأمور وقفت على أنّه لا تناقض بين هذه الآية الناصّة على طلب المودة أجراً على الرسالة وبين الآيات المتضافرة الناصّة على أنّ الأنبياء لا يطلبون أي أجر من أُممهم.

ووجه عدم المنافاة واضح جداً، لأنّ المودة ـ كما أسلفناه ـ وإن كانت مطلوبة بصورة الأجر إلّا أنّ نتيجتها عائدة إلى ذات الأمّة لأنّها سبب رقيّها مدارج

__________________

(١) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً » حديث رواه الفريقان.

(٢) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق » رواه جمع من المحدِّثين من العامة والخاصة.

٦٢

الكمال، وإسعادها وتكاملها في المراحل الفكرية والعملية، وتعرّفها على أُصول دينها وفروعه، واستغنائها عن أيِّ منهج لا ضمان لصحته، فلا يعد طلب ذلك الأجر مضاداً للهتافات المتضافرة الصادرة عن الأنبياء طيلة أداء رسالاتهم.

٦٣

المقام الثالث

كيف يعود نفع المودّة إلى الناس ؟

إنّ القرآن الكريم اعتبر مودة القربى أجراً على الرسالة في آية، وفي آية أُخرى اعتبر الأجر المطلوب عائداً نفعه في نفس الأمر إلى الأمّة، قال سبحانه:( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (١) فكيف يعود نفعها على الأمّة ؟

الجواب: لا حاجة إلى إفاضة القول في المقام على وجه التفصيل إذ قد تبين الجواب عند البحث السابق الدائر حول الجمع بين هذه الآية والآيات النافية، ومع ذلك نشير هنا إلى الجواب على وجه الإجمال وهو: انّ الله سبحانه عندما أمر نبيه بطلب المودّة من الناس لأقربائه، أراد إيصال الناس إلى فائدة أُخرى، وذلك لأنّ مودة أقربائه تنطوي على فائدتين مهمتين لنا :

الأولى: انّ العترة بحكم أنّهم قرناء القرآن(٢) معصومون من الخطأ والاشتباه، فعند ذلك بإمكانهم أن يلبُّوا حاجات الناس العلمية في أُصول الدين وفروعه، وبما أنّهم كسفينة نوح لا يتصور لهم انحراف في أقوالهم وأعمالهم فمودتهم، والارتباط بهم يوجب تعرف الأمّة على حقائق دينها على وجه الصحّة

__________________

(١) سبأ: ٤٧.

(٢) في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي »، وقرين القرآن وعديله معصوم مثله وإلاّ لما صح جعله عديلاً وقريناً. فلاحظ.

٦٤

واليقين، بخلاف ما إذا رجعت إلى غيرهم فلا يحصل لهم إلّا الشك والظن والتخمين.

الثانية: لما كانت العترة النبوية تمثل بحكم تربيتها المتعالية قمة الأخلاق والسجايا النبيلة، كان الارتباط بهم طريقاً إلى الحصول على التكامل الروحي والمعنوي وسبباً للوقوف على الرضا الإلهي.

إذ عندما يكون ارتباط عامل برب عمله أو تلميذ بأُستاذه موجباً لتكامل العامل والتلميذ، فالارتباط بعترة النبي سيكون بصورة أولى موجباً للحصول على تكامل أرقى، كيف وهم بحكم الحديثين الماضيين مبرّأون من كل رذيلة أخلاقية، وصفات ذميمة.

وقد وردت الإشارة إلى مثل هذا التأثير الذي يتركه الحب والود في نفس المحب من محبوبه في كلام الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال: « ما أحب الله من عصاه » ثم أنشد الإمام قائلاً :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته

انّ المحب لمن يحب مطيع(١)

وبذلك يظهر أنّ ما ربّما يتفوّه به من لا قدم راسخ له في هذه الأبحاث ويقول: إنّ طلب المودة من جانب النبي لأقربائه أمر غير متين، خال عن السداد والمتانة. لأنّ القائل تصور انّ المقصود هو المحبة القلبية، أو ما يصاحبه من التظاهر باللسان، ولكنك قد وقفت على أنّ المقصود من المودة هو الارتباط وبالنتيجة التعرّف على المعارف والأصول، وفي مرحلة أُخرى الاتباع والاقتداء العملي، فيصير طلب المودة نوعاً من طلب الاتّباع للرسول وكتابه سبحانه، قال

__________________

(١) سفينة البحار: ١ / ١١٩، مادة حب.

٦٥

سبحانه:( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (١) .

ثم إنّ للمفسّرين في تفسير قوله:( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (٢) وجهين :

الأوّل: انّه كناية عن نفي الأجر رأساً، كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني شيئاً فخذه، وهو يعلم أنّه لم يعطه شيئاً، ولكنه يريد به البت لتعليقه الأخذ بما لم يكن(٣) .

وقال الطبرسي: لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من عرض الدنيا فتتهموني، فما طلبت منكم من أجر على أداء الرسالة وبيان الشريعة، لكم وهذا كما يقول الرجل لمن لا يقبل نصحه: ما أعطيتني من أجر فخذه وما لي في هذا فقد وهبته لك، يريد ليس لي فيه شيء(٤) .

الثاني: أن يريد بالأجر ما جاء في قوله تعالى:( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ) (٥) وفي قوله:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) (٦) لأنّ اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم وما فيه نفعهم، وكذلك المودة في القربى(٧) .

__________________

(١) آل عمران: ٣١.

(٢) سبأ: ٤٧.

(٣) الكشاف: ٢ / ٥٦٦.

(٤) مجمع البيان: ٤ / ٣٩٦.

(٥) الفرقان: ٥٧.

(٦) الشورى: ٢٣.

(٧) الكشاف: ٢ / ٥٦٦.

٦٦

المقام الرابع

المودّة في القربى نفس اتخاذ السبيل إلى الله

لقد بانت الحقيقة من هذا البحث الضافي بأجلى مظاهرها، غير أنّه يجب البحث عن نكتة أُخرى وهي: أنّه سبحانه جعل اتخاذ السبيل إلى الله أجراً لرسالة نبيه في الآية التالية، قال سبحانه:( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ) (١) وقبل الإجابة على السؤال، وأنّ المستثنى في هذه الآية هو المستثنى في آية سورة الشورى، نعمد إلى توضيح الآية.

إنّ الضمير في « عليه » يرجع إلى القرآن، وقد وضع الفاعل وهو « من اتخذ إلى ربه سبيلا » موضع فعله، وهو نفس اتخاذ السبيل، فالأجر المستثنى هو عمل المسلمين، وهو اتخاذ السبيل لا نفس المتخذ كما هو ظاهر الآية، أعني قوله:( مَنِ اتَّخَذَ ) والمراد إلّا فعل( مَنِ اتَّخَذَ ) والنكتة في العدول، هو المبالغة في اتخاذ السبيل، فكأنّ الشخص بوجوده الخارجي نفس اتخاذ السبيل ـ الذي هو معنى عرضي يحمله الإنسان ـ ولذلك نظائر في القرآن الكريم، قال سبحانه:( لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ) (٢) . فإنّ الظاهر من الآية، انّ البر هو نفس من آمن، مع أنّه لا يمكن أن

__________________

(١) الفرقان: ٥٧.

(٢) البقرة: ١٧٧.

٦٧

يكون هو براً، ولكن لإظهار المبالغة في العمل بالبر ربما يخبر عن البر ب‍( مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ) وكأنّ المؤمن لأجل إيمانه بالأمرين صار نفس البر.

ثمّ إنّ المراد من اتخاذ السبيل هو تلاوة القرآن والعمل بما فيه من الفرائض والمحرمات بقرينة قوله سبحانه:( إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ) (١) .

وقد وردت هذه الآية أيضاً بنصها في سورة الإنسان في الآية ٢٩.

وعلى ذلك يكون مفاد الآية: أنّي لا أطلب منكم أجراً سوى استجابة دعوتي واتباع الحق، وهو نهاية استغنائه عن الأجور الدنيوية التافهة.

وقد علّق سبحانه اتخاذ السبيل على مشيئتهم للدلالة على حريتهم الكاملة فلا إكراه ولا إجبار في ذلك الاتخاذ من قبل أحد، ولا وظيفة للنبي سوى التبشير والإنذار( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (٢) .

قال الزمخشري في الكشاف: وهذا نظير قول من قد سعى لك في تحصيل مال وقال: ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت إلّا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه، فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب، ولكن صوّره هو بصورة الثواب وسمّاه باسمه، فأفاد فائدتين :

إحداهما: قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله.

والثانية: إظهار الشفقة البالغة إلى أن قال: ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلاً، تقرّبهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة. وقيل التقرّب بالصدقة والنفقة في سبيل الله(٣) .

__________________

(١) المزمل: ١٩.

(٢) الكهف: ٢٩.

(٣) الكشّاف: ٢ / ٤١٢.

٦٨

وما ذكره من أنّ المراد من اتخاذ السبيل هو الإيمان والطاعة يرجع إلى ما ذكرنا من أنّه يطلب إجابة دعوته والاتّباع للحق، وتلاوة القرآن والعمل بما فيه، والكل يرجع إلى أمر واحد، وهو أنّه لا يطلب سوى العمل بالشريعة والاتّباع للدين الحنيف، ومن ذلك يظهر أنّ تفسير « اتخاذ السبيل » بالإنفاق في سبيل الله وإعطاء الصدقة تفسير بالمصداق وليس اتخاذ السبيل منحصراً فيه.

قال الطبرسي: ما أسألكم عليه: على القرآن وتبليغ الوحي من أجر تعطونيه إلّا من شاء أن يتخذ إلى ربِّه سبيلاً بإنفاقه ماله في طاعة الله واتّباع مرضاته، والمعنى: لا أسألكم لنفسي أجراً، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله سبحانه، بل أرغب فيه وأحث عليه، وفي هذا تأكيد للصدق، لأنّه لو طلب على تبليغ الرسالة أجراً لقالوا إنّما يطلب أموالنا(١) .

وجه الجمع بين الأجرين الظاهريين

هذا هو معنى إيجاب اتخاذ السبيل الوارد في الآية، وهو لا يفترق عن إيجاب المودة في القربى لغرض الوصول إلى الشريعة والتعرّف على أحكامها والعمل بما فيها من الفرائض والتجنب عن المنهيات، لأنّ مودّتهم الحقيقية كما عرّفناك لا تفترق عن الاتّباع لأقوالهم والاقتداء بأعمالهم وهو نفس الاتّباع للشريعة والعمل بما فيها من الأحكام ونفس استجابة دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعادت الآيتان متوافقتي المضمون ومتحدتي المعنى.

فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يطلب في كلتا الآيتين سوى العمل بالشريعة وإجابة دعوته، وهو يحصل من طريق المودة في القربى كما يحصل من الإيمان بالنبي ومودّته، ولا معنى للمودة الحقيقية إلّا العمل بقول المحبوب والاقتداء به فيما يأمر وينهى ،

__________________

(١) مجمع البيان: ٤ / ١٧٥.

٦٩

والمودّة الفارغة عن الاتّباع ليست سوى خدعة يخدع الإنسان بها نفسه هذا على القول بأنّ المراد من « اتخاذ السبيل » هو إجابة دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والعمل بما أتى به والتمسك بشريعته.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ المراد من اتخاذ السبيل هو نفس المودّة في القربى، فإنّها إحدى الطرق إلى التعرّف على الشريعة، والتمسّك بها، كما أنّ القرآن أيضاً أحد هذه الطرق، وقد وافاك أنّ المودة ليست إلّا أمراً طريقياً لهذه الغاية المهمة وليست مطلوبة بما هي هي ولذاتها.

وتؤيد ذلك الصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين، أعني: الكتاب والعترة، في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وأهل بيتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي وانّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض »(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق »(٢) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس »(٣) .

وعلى هذا فينطبق المستثنيان الواردان في الآيتين على معنى واحد، ويكونان هادفين إلى معنى فارد، وهو المودة في القربى، غير أنّه جاء الأجر المطلوب في سورة الشورى على وجه الصراحة، وفي سورة الفرقان على وجه الكناية.

__________________

(١) راجع مصادر حديث الثقلين، إلى ما نشرته دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، باسم « حديث الثقلين » القاهرة، عام ١٣٧٤ ه‍ ؛ والمراجعات: ٢٠ ـ ٢٣.

(٢) مستدرك الحاكم: ٣ / ١٥١.

(٣) المصدر السابق: ١٤٩.

٧٠

ويؤيد ذلك ما رواه الطبري في ذخائر العقبى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

« أنا وأهل بيتي شجرة في الجنّة وأغصانها في الدنيا، فمن تمسّك بنا اتخذ إلى ربّه سبيلاً »(١) .

وأخرج شيخ الإسلام الحمويني في « فرائد السمطين » عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله :

« نحن خيرة الله، ونحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلى الله »(٢) .

وقد روي عن تفسير الثعلبي، عن عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ) (٣) انّه قال: « قولوا معاشر العباد ارشدنا إلى حب محمد وأهل بيته: »(٤) .

وفي بعض الأدعية المأثورة عن بعض أئمّة أهل البيت تلويح إلى ذلك الجمع والتفسير، حيث جاء في دعاء الندبة قولهعليه‌السلام :

« ثمّ جعلت أجر محمد صلواتك عليه وآله مودتهم في كتابك فقلت:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) وقلت:( مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) وقلت:( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ) فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك »(٥) .

__________________

(١) ذخائر العقبى: ١٦.

(٢) الغدير: ٢ / ٢٨٠، ط النجف.

(٣) الفاتحة: ٦.

(٤) الغدير: ٢ / ٢٨٠، ط النجف.

(٥) راجع البحار: ١٠٢ / ١٠٤، نقلاً عن مصباح الزائر: ٢٣٠ والمزار الكبير: ١٩٠.

٧١

المقام الخامس

مناقشة الاحتمالات الواردة حول آية المودَّة

قد عرفت في المقام الأوّل أنّ المفهوم من المودة في القربى هو موالاة أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يفهم صحابة النبي ولا جمهور المفسّرين إلّا هذا المعنى، وقدّمنا لك أسماء الذين رووا هذا المعنى عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عند البحث عن الحديث الوارد حول الآية.

غير أنّ بعض المفسّرين أضاف إلى المعنى المختار محتملات أُخر، يأباها الذوق السليم، ولا يرتضيها العارف بأساليب الكلام البليغ، ولأجل ذلك ليست تلك المحتملات إلّا مجرد احتمالات فارغة، ودونك بيانها :

الأوّل: لم يكن بطن من بطون قريش إلّا وبين رسول الله وبينهم قربى، فلمّا كذّبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت الآية، والمعنى إلّا أن تودوني في القربى أي في حق القربى، ومن أجلها كما تقول: الحب في الله، والبغض في الله بمعنى في حقه ومن أجله، يعني انّكم قومي وأحق من أجابني، وأطاعني، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى، ولا تؤذوني، ولا تهيجوا عليّ(١) . وعلى ذلك يكون « في » للسببية، ومفاد الآية إلّا مودتي لسبب القرابة.

__________________

(١) الكشّاف: ٣ / ٨٢، ط مصر عام ١٣٦٨ ه‍، المفاتيح للرازي: ٧ / ٣٨٩ وعلى هذا التفسير يكون « القربى » بمعنى الرحم.

٧٢

ولا يخفى على العارف البصير أنّ سؤال الأجر ممن يكذبونه ولا يؤمنون به ويبغضونه ودعوته، ويرونه خطراً على كيانهم، لا يصدر من عاقل، فضلاً عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ الاستثناء سواء أكان متصلاً أم منفصلاً، إمّا أجر حقيقي للنبي، أو شبيه له، وطلب الأجر بكلا المعنيين لا يصح إلّا ممن أسدى إليه طالبه شيئاً من الخدمة المادية أو المعنوية، فيصح عندئذ أن يطلب منه شيئاً تجاه ما قدّم له، وأمّا طلبه ممن لا يؤمن به ولا يراه أسدى له خدمة، فلا يصح في منطق العقل والعقلاء، فطلب الأجر على فرض البغض والعداء لا يصح، وعلى فرض الإيمان به فالمودّة حاصلة لا حاجة لطلبها.

الثاني: أتت الأنصار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمال جمعوه فقالوا: يا رسول الله قد هدانا الله بك وأنت ابن اختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة، فاستعن بهذا على ما ينوبك. فنزلت الآية، وردّه(١) .

وهذا المحتمل كسابقه من الضعف، فانّ مودة الأنصار للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أمراً حاصلاً فلم يكن النبي في حاجة إلى طلبها منهم، كيف وهم الذين بذلوا دون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله النفس والنفيس، وآووه ونصروه، وفدوه بشبّانهم في طريق دعوته، فإذا كانت الحالة هذه، فلا وجه لطلب المودّة منهم.

على أنّ الوشيجة التي كانت تربطهم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن قوية بل ضئيلة جداً، إذ كانت العرب لا تعتني بالقرابة من ناحية النساء وكان منطقهم :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أولاد الرجال الأباعد

ومنهم من يقول :

__________________

(١) الكشاف: ٣ / ٨٩ ؛ مفاتيح الغيب: ٧ / ٣٨٩. ومعنى الآية على هذا التفسير « إلّا أن تودوني لأجل قرابتي منكم ».

٧٣

وإنّما أُمّهات الناس أوعية

مستودعات وللأنساب آباء

وإنّما أدخل الإسلام القرابة من جانب النساء وساوى بين البنات والبنين، واعتنى بكل وشيجة حصلت بينهم سواء أكانت من جانب الرجال أم من جانب النساء، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يرتبط بالأنصار من جانب النساء، فإنّ هاشماً تزوج ببنت « عمرو الخزرجي » فولدت له عبد المطلب وهو جد النبي الأكرم، وما كان عرب الجاهلية يقيمون وزناً للقرابة الناشئة من جانب البنت.

الثالث: انّ الخطاب لقريش، والمقصود مودّة النبي إيّاهم، والمعنى لا أطلب منكم أجراً ولا جزاء ولكن حبي لكم بسبب ما تربطني بكم من قرابة هو الذي دفعني إلى الاعتناء بكم وبهدايتكم.

وهذا المعنى اختاره روزبهان حيث قال: لكن المودة في القربى حاصل بيني وبينكم، فلهذا أسعى واجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم(١) .

ولا يخفى أنّ لفظ الآية لا يحتمل ذاك المعنى، ودلالتها عليه تحتاج إلى تقدير أُمور كثيرة، وما حمله على تفسير الآية بما ذكر إلّا مخالفته للعلاّمة الحلي في الاستدلال بالآية على عصمة من وجبت محبتهم، ولو كان القائل مجرداً عن جميع الميول والأغراض لم يحمل الآية على هذا المعنى، فإنّ الذي دفع النبي إلى الاهتمام بأمر قريش هو امتثال أمر الله حيث قال:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (٢) ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ *إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ) (٣) .

أضف إلى ذلك أنّ حرص النبي على إنقاذ المجتمع الإنساني من الضلالة لم يكن منحصراً بقريش بل هم وغيرهم في هذا الاهتمام سواسية، وقال سبحانه

__________________

(١) إحقاق الحق: ٣ / ٢٠.

(٢) الشعراء: ٢١٤.

(٣) الحجر: ٩٤ ـ ٩٥.

٧٤

حاكياً عن اهتمام النبي بهداية المؤمنين:( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (١) .

على أنّ إرادة هذا المعنى تحوجنا إلى التصرّف في الآية بجعل « إلّا » بمعنى « لكن » والقول بأنّ الخبر محذوف، وتقدير الآية هكذا، ولكن المودّة في القربى دفعتني إلى دعوتكم وهدايتكم. وهذا تكلّف واضح في تفسير الآية.

الرابع: أنّ المقصود مودّة كل واحد من المسلمين لأقربائه، وهو عبارة أُخرى عن صلة الرحم التي دعا إليها الإسلام(٢) .

ولا يخفى أنّ هذا الاحتمال لا يساعده اللفظ ولا الذوق القرآني، فإنّ عد مودّة الناس لأقربائهم أجراً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يستحسنه الذوق السليم، فإنّ المودّة إمّا أجر حقيقي أو أجر غير حقيقي ( أي حكمي ) أخرج بصورة الأجر، وعلى كلا التقديرين إنّما يصح الاستثناء إذا كان المستثنى عائداً إلى النبي إمّا حقيقة، أو مجازاً، ومودّة كل مسلم لأقربائه وإن كان أمراً مطلوباً بذاته في الشرع الأقدس، لكنّه لا يصح أن يعد أجراً، أو يخرج بصورة الأجر، فإنّ الاستثناء كما أوقفناك على حقيقته هو إخراج ما لولاه لدخل، والإخراج حقيقة أو حكماً فرع الدخول كذلك، وقد قلنا إنّ المستثنى المنقطع، منقطع حقيقة لا ظاهراً وحكماً، وانّ المستثنى منه شامل للمستثنى المنقطع شمولاً حكمياً ولو في وهم المخاطب فإذا قال القائل: جاء القوم إلّا مراكبهم ومواشيهم، إنّما يصح هذا القول لإجل توهم شمول الحكم ( أعني المجيء ) لمراكبهم ومواشيهم، أو خدّامهم، فإنّ القبيلة إذا ارتحلت من مكان إلى مكان آخر فإنّما ترتحل مع مواشيها وما يتعلّق بها، فالحكم بالمجيء على

__________________

(١) يوسف: ١٠٣.

(٢) مفاتيح الغيب: ٧ / ٣٩٠ ذكره في توجيه طلب الأجر للرسالة حيث قال: لأنّ حصول المودة بين المسلمين واجب وقال تعالى:( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) .

٧٥

القوم كأنّه حكم على توابعهم ولوازمهم بالمجيء، ولأجل ذلك لا يصح أنّ يقال: جاءني القوم إلّا الشجر.

وعلى ذلك فالمصحح لاستثناء المودّة في القربى هو دخولها في المستثنى منه بنحو من أنحاء الدخول إمّا حقيقياً أو حكمياً، وحينئذ فلو قلنا: إنّ أجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو مودّة أقربائه بما هي هي، وبما أنّها مطلوبة بذاتها، لصح الاستثناء لدخولها في الأجر دخولاً حقيقياً، ويصح أن يطلق عليه الأجر على نحو الحقيقة.

وإن قلنا: بأنّ أجر النبي هو مودة أقربائه بما أنّها ذريعة لتكامل الأمّة في مرحلتي الفكر والعمل، لصح الاستثناء أيضاً، لكونها داخلة في الأجر دخولاً حكمياً، وعلى كلا التقديرين يصح أن يطلق عليه الأجر، وبتبعه يصح الاستثناء والاستدراك.

وأمّا لو قلنا: بأنّ المراد هو مودة كل ذي رحم لرحمه كمودة المسلم الأفريقي لأخيه والآسيوية لأختها، فذلك وإن كان أمراً مطلوباً لكن لا يشمله لفظ الأجر لا حقيقة ولا عناية حتى يصح الاستثناء والاستدراك. وعلى الجملة فالأجر الوارد في الآية إنّما يراد منه ما يرجع إلى الإنسان الطالب للأجر رجوعاً واقعياً أو ظاهرياً، وهو لا يحصل إلّا أنّ تفسر المودة، بمودة أقرباء ذلك الرجل الطالب.

وأمّا إذا أُريد منه مودة كل بعيد لرحمه، فذلك لا يعد أجراً حتى بصورة الظاهر، ليصح الاستثناء، وإن شئت قلت: إنّ الأجر هو المكافأة والإثابة على العمل، ولا يطلق إلّا على الشيء الذي تعود نتيجته إلى العامل بنحو من الأنحاء، وعلى ذلك فالمستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى منه، أو مرتبطاً به بنحو من الارتباط لا أجنبياً عنه، فعندئذٍ لو أُريد مودة نفسه وأقربائه، لصح أن يستثنى من الأجر المنفي لدخوله في المستثنى منه، وأمّا إذا أُريد مودة كل رجل لرحمه فلا يشمله لفظ الأجر حتى بنحو العناية والمجاز، ليصح الاستثناء، ولا يتوجه ذهن

٧٦

السامع عند سماع كلمة الأجر إلى مثل ذاك الأمر حتى يصح الاستدراك، بخلاف مودّة أهل بيته وعترته، فإنّها ممّا يسعه اللفظ بعموم معناه.

على أنّه لم يعهد من القرآن حث الأفراد على موالاة ومودة أقربائهم بما هم أقرباؤهم، وإنّما أمر بموالاة المؤمنين وموادّتهم، نعم للقرآن اهتمام شديد بصلة الرحم، ودفع عيلة ذوي القربى وحاجاتهم وهو غير موالاتهم القبلية.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه حينما يأمر بصلة الرحم جعل الغاية من هذا الأمر وجه الله وحده لا بعنوان الأجر للرسالة حيث قال :

( وَآتَى المَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ( حب الله )ذَوِي القُرْبَىٰ وَاليَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينَ ) (١) .

وقال سبحانه:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (٢) .(٣)

ثم إنّ جعل الآية كناية عن صلة الرحم وإسداء الخدمة إلى ذوي القربى لا يتحمله اللفظ ولا يقوم به ظاهر الآية.

الخامس: انّ المقصود أنّني لا أطلب منكم أجراً فإنّما هدفي هو إيجاد التآلف والتحابب وحسن المعاشرة بين أفراد البشر، فكل ما أطلبه هو أن أزيل بهذا القرآن كل الضغائن والعداوات من بينكم، وأحلّ محلها المودة بين قبائلكم.

ولا يخفى أنّه لو كان المراد هو توحيد الأمّة وجمع شملهم لكان ينبغي أن يعبّر عنه بأسدّ العبارات وأتقنها، كأن يقول: لا أسألكم عليه أجراً إلّا الاعتصام بحبل الوحدة وصيانة الاخوة الإسلامية، وما يفيد هذا المعنى.

__________________

(١) البقرة: ١٧٧.

(٢) الإنسان: ٨.

(٣) الاستدلال مبني في كلتا الآيتين على رجوع الضمير في « حبه » إلى الله لا إلى المال أو الطعام.

٧٧

على أنّه يستلزم أن يكون لفظ القربى ـ على هذا المعنى ـ حشواً، بل كان اللازم أن يقول: إلّا المودّة بينكم.

السادس: انّ المقصود هو لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجراً إلّا أن تحبوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح(١) .

وحاصل هذا الوجه: أنّ حبكم لله ورسوله يتجسّم في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح، فيكون « في » للسببية. وكأنّه يدعو الناس إلى حب الله ورسوله بتجسيد هذا الحب في قالب الطاعة والعمل الصالح.

وهذا الوجه من أبعد الوجوه عن مراد الآية، إذ هو مبني على تفسير القربى بالمقرِّب: أي ما يقرِّب العبد إلى الله سبحانه، من الطاعة والعمل الصالح، مع أنّ أهل اللغة والاستعمال قد اتفقوا على حصر معناها في الوشيجة الرحمية، والرابطة النسبية، وقد قدمنا لك نصوصاً في هذا المجال في المقام الأوّل.

السابع: لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجراً إلّا التوادّ والتحابّ فيما يقرِّب إلى الله تعالى من العمل الصالح. روي هذا المعنى عن الحسن والجبائي، وأبي مسلم.

وهذا الاحتمال مبهم لا يعلم مراد القائل منه إلّا بطرح جميع محتملاته، وإليك بيانها :

١. انّ المقصود أنّي لا أسألكم أجراً إلّا أن تودّوا وتحبوا ما يقرِّبكم إلى الله سبحانه، كالأعمال الصالحة.

وفيه: مضافاً إلى ما عرفت من عدم صحّة تفسير القربى بالمقرّب، إنّه يكون الغرض الأقصى عندئذ هو إطاعة الله سبحانه والإتيان بما يقرب العبد منه ،

__________________

(١) الكشاف: ٣ / ٨٢، مجمع البيان: ٥ / ٢٨.

٧٨

وحينئذ يكون لفظ المودّة زائداً ومخلاًّ بالفصاحة، وكان الأولى أن يقول: إطاعة الله سبحانه والعمل بما أمركم به، والإتيان بما يقرّبكم.

وكأنّ القائل بهذا التفسير أعطى القيمة لنفس المودّة، لا لنفس العمل، مع أنّ المهم هو العمل لا مجرّد المودّة، إذ كل تارك للواجبات ربّما يود العمل الصالح وإن لم يقم بالإتيان بها.

٢. انّ المقصود من المودّة في القربى هو إظهار الحب والتودد إليه تعالى بالطاعة، والمعنى إلّا أن تتودّدوا إلى الله بالتقرّب إليه والإتيان بما يقرّبكم إليه(١) .

وفيه: مضافاً إلى ما عرفت ما في تفسير القربى بالمقرِّب، إنّه لم يرد في كلامه تعالى إطلاق المودة على حب العباد لله سبحانه، وإن ورد العكس كما في قوله سبحانه:( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (٢) وقوله:( وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ ) (٣) .

ووجهه واضح، فقد فسّر الراغب المودّة بقوله: إنّ مودّة الله لعباده مراعاته لهم. وفيها إشعار بمراعاة حال المودود وتعاهده وتفقده، ولا يناسب ذلك من العبد بالنسبة إلى الله سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّه يرجع إلى الوجه السادس الذي نقلناه عن الكشاف.

٣. لا أسألكم أجراً إلّا أن تتواددوا بما يقرِّبكم إلى الله، كأن يحسن بعضكم إلى بعض فيحصل التحابب والتوادد بما يقربكم إلى الله.

ولعل هذا الوجه أوفق لعبارة بعضهم حيث قال: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً إلّا التوادّ والتحابّ فيما يقربكم إلى الله من العمل الصالح.

__________________

(١) ذكره الرازي وجهاً للآية راجع مفاتيح الغيب: ٧ / ٣٨٩.

(٢) هود: ٩٠.

(٣) البروج: ١٤.

٧٩

وفيه أنّ تفسير المودّة بالتوادد والتحابب غير صحيح، فإنّ المودّة تطلق على المحبّة وإن كانت من طرف واحد، والوارد في القرآن هو لفظ المودّة لا التواد ولا التوادد.

أضف إلى ذلك أنّ حمل القربى على المقرِّب إلى الله غير مأنوس في اللغة العربية، وهو خلاف ما اتفق عليه اللغويون.

٤. المراد لا أسألكم أجراً إلّا التقرب إلى الله والتودّد إلى الله بالطاعة. ذكره الطبرسي في تفسيره، وهو أبعد الوجوه عن مراد الآية، إذ هو جعل الأجر أمرين: أحدهما: التقرّب، والثاني: التودّد. مع أنّ ظاهر الآية أنّ الأجر المستثنى شيء واحد.

وخلاصة هذه الوجوه المذكورة في السادس والسابع هي ما نأتي بها ـ ثانية ـ تسهيلاً للقارئ الكريم :

١. الأجر هو حب الله ورسوله بالطاعة والعمل الصالح.

٢. الأجر حب المقربات إلى الله سبحانه.

٣. الأجر إظهار الحب إلى الله بالطاعة(١) .

٤. الأجر حب بعضكم بعضاً بالعمل الصالح، كالإحسان.

٥. الأجر أمران: التقرّب إلى الله، والتودّد إليه بالطاعة.

وغير خاف على القارئ الكريم أنّ هذه الوجوه تشبه التفسير بالرأي، ولا مبرر لها في اللغة ومنطق التفسير، وهي برمتها غير ما كان المسلمون الأوائل يفهمونه من ظاهر الآية. قال الكميت الأسدي شاعر أهل البيت :

وجدنا لكم في آل حاميم آية

تأولها منا تقي ومعرب

__________________

(١) والفرق بينه وبين الوجه الأوّل انّ الأجر في الوجه الأوّل هو نفس الحب، وفي هذا إظهاره.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الآيتان

( وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) )

التّفسير

إذ لم تنفع المواعظ :

إنّ هذه الآيات ـ التي ذكرت بعد استعراض قصص مجموعة من الأنبياء العظام ، مثل نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، وقبل أن يعمد القرآن الكريم إلى استعراض قصّة موسى بن عمران ـ إشارة إلى عدّة أصول وقواعد عامّة تحكم في جميع القصص والحوادث ، وهي قواعد وأصول إذا فكّرنا فيها كشفت القناع عن حقائق قيمة ترتبط بحياتنا ـ جميعا ـ ارتباطا وثيقا.

في البداية يقول :( وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) فالصعاب والمشاق والبلايا التي تصيب الأفراد إنّما يفعلها الله بهم عسى أن ينتبهوا ، ويتركوا طغيانهم ، ويرجعوا إلى الله ويتوبوا إليه.

١٢١

وذلك لأنّ الناس ما داموا في الرخاء والرفاه فهم في غفلة ولما يكون لديهم استعداد وقابلية لقبول الحق. أمّا عند ما يتورّطون في المحنة والبلاء ، يشرق نور فطرتهم وتوحيدهم ويتذكرون الله قهرا بلا اختيار ، وتستعد قلوبهم لقبول الحق.

ولكن هذه اليقظة والنهضة ليست عند الجميع على حدّ سواء ، فهي في كثير من الناس سريعة وعابرة وغير ثابتة ، وبمجرّد أن تزول المشكلات يعودون إلى غفلتهم وغفوتهم ، ولكن هذه المشكلات تعتبر بالنسبة إلى جماعة آخرين نقطة تحول في الحياة ، ويعودون إلى الحق إلى الأبد.

والأقوام الذين جرى الحديث ـ في الآيات السابقة ـ حولهم كانوا من النمط الأوّل.

ولهذا قال تعالى في الآية اللاحقة : عند ما لم تغيّر تلك الجماعات سلوكها ومسيرها تحت ضغط المشكلات والحوادث ، بل بقوا في الضلال ، رفعنا عنهم المشكلات وجعلنا مكانها النعم والرخاء فازدهرت حياتهم وكثر عددهم وزادت أموالهم( ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا ) .

و «عفوا» من مادة «عفو» التي تكون أحيانا بمعنى الكثرة ، وأحيانا بمعنى الترك والإعراض ، وتارة تكون بمعنى محو آثار الشيء. ولكن لا يبعد أن يكون أصل جميع تلك الأمور هو الترك ، غاية ما هنالك قد يترك شيء لحاله حتى يتجذر ، ويتوالد ويتناسل ويزداد ، وربّما يترك حتى يهلك وينهدم تدريجا وشيئا فشيئا. ولهذا جاء بمعنى الزيادة والهلاك معا.

وقد احتمل المفسّرون في الآية المبحوثة ثلاثة احتمالات أيضا :

الأوّل : أنّنا أعطيناهم إمكانيات حتى يزدادوا فيستعيدوا كل ما فقدوه ـ في فترة الشدّة والضراء ـ من الأفراد والأموال.

الآخر : أنّنا أعطيناهم نعما كثيرة جدا بحيث غرتهم ، فنسوا الله ، وتركوا شكره.

الثّالث : أنّنا أعطيناهم نعما كي يستطيعوا بها أن يزيلوا أثار فترة النكبة

١٢٢

ويمحوها.

إنّ هذه التفاسير وإن كانت متفاوتة من حيث المفهوم ، ولكنّها من حيث النتيجة متقاربة فيما بينها.

ثمّ أضاف : أنّهم عند زوال المشكلات بدل أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وهي «النعمة» و «النقمة» بيد الله ، وأنّهم راجعون إلى الله ، يتذرعون ـ لخداع أنفسهم ـ بهذا المنطق ، وهو إذا تعرضنا للمصائب والبلايا ، فإنّ ذلك ليس بجديد ، فقد مس آباءنا الضراء والسراء ، وكانت لهم حالات رخاء وحالات بلاء ، فالحياة لها صعود ونزول ، والصعاب أمواج غير ثابتة وسريعة الزوال( وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ) . فهي إذن قضية طبيعية ، ومسألة اعتيادية.

فيقول القرآن الكريم في الختام : إنّ الأمر عند ما بلغ إلى هذا الحد ، ولم يستفيدوا من عوامل التربية ـ أبدا ـ بل ازدادوا غرورا وعنجهيّة وتكبرا أهلكناهم فجأة ومن غير سابق إنذار ، لأنّ ذلك أشد إيلاما ونكالا لهم ، وعبرة لغيرهم :( فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

* * *

١٢٣

الآيات

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) )

التّفسير

التّقدم والعمران في ظل الإيمان والتقوى :

في الآيات الماضية وقع البحث فيما جرى لأقوام مثل قوم هود وصالح وشعيب ونوح ولوط على نحو الإجمال ، وإن كانت تلك الآيات كافية لبيان

١٢٤

النتائج المشحونة بالعبر في هذه القصص ، ولكن الآيات الحاضرة تبيّن النتائج بصورة أكثر وضوحا فتقول :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) ، أي لو أنّهم سلكوا سبيل الإيمان والتقوى ، بدل الطغيان والتمرد وتكذيب آيات الله والظلم والفساد ، لم يتخلصوا من غضب الله وعقوبته فسحب ، بل لفتحت عليهم أبواب السماء والأرض.

ولكن للأسف ـ تركوا الصراط المستقيم الذي هو طريق السعادة والرفاه والأمن ، وكذبوا الأنبياء ، وتجاهلوا برامجهم الإصلاحية ، فعاقبناهم بسبب أعمالهم( وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

* * *

بحوث

وهنا مواضيع ينبغي الوقوف عندها :

1 ـ بركات الأرض والسماء

لقد وقع حديث بين المفسّرين في ما هو المراد من «بركات» الأرض والسماء؟فقال البعض : إنّها المطر ، والنباتات التي تنبت من الأرض.

وفسّرها البعض بإجابة الدعاء ، وحل مشاكل الحياة.

ولكن هناك احتمال آخر ـ أيضا ـ هو أنّ المراد من البركات السماوية هي البركات المعنوية ، والمراد من البركات الأرضية هي البركات المادية.

ولكن مع ملاحظة الآيات السابقة يكون التّفسير الأوّل أنسب من الجميع ، لأنّه في الآيات السابقة التي شرحت

العقوبات الشديدة التي حلّت بالمجرمين والطغاة ، فأشارت تارة إلى نزول السيول من السماء وطغيان الينابيع والعيون من الأرض (مثل طوفان نوح) وأخرى إلى الصواعق والصيحات السماوية ، وثالثة إلى الزلازل الأرضية الرهيبة.

١٢٥

وفي الآية المطروحة هنا طرحت هذه الحقيقة على بسط البحث ، وهي : أنّ العقوبات ما هي إلّا لأفعالهم هم ، وإلّا فلو كان الإنسان طاهرا مؤمنا ، فإنّه بدل أن يحل العذاب السماوي أو الأرضي بساحته ، تتواتر عليه البركات الإلهية من السماء والأرض أجل ، إنّ الإنسان هو الذي يبدل البركات بالبلايا.

2 ـ معنى «البركات»

«البركات» جمع «بركة» وهذه الكلمة ـ كما أسلفنا ـ تعني في الأصل «الثبات» والاستقرار ، ويطلق على كل نعمة وموهبة تبقى ولا تزول ، في مقابل الموجودات العارية عن البركة ، والسريعة الفناء والزوال ، والخالية عن الأثر.

والملفت للنظر أنّ فائدة التقوى والإيمان لا تقتصر على نزول البركات الإلهية ، بل هما سبب في أن يصرف الإنسان ما لديه في المصارف اللازمة الصحيحة.

ففي المثل نلاحظ اليوم أنّ قسما كبيرا من الطاقات الإنسانية ، والمصادر الاقتصادية تصرف في سبيل سباق التسلح وصنع الأسلحة المدمّرة. وبذلك تنعدم البركة فيها ، ولا تثمر سوى الدمار والخراب ، ولكن المجتمعات البشرية إذا تحلّت بالتقوى والإيمان ، فإنّ هذه المواهب الإلهية سيكون لها وضع آخر ، ومن الطبيعي أن تبقى آثارها وتخلد ، وتكون مصداقا لكلمة البركات.

3 ـ ماذا يعني «الأخذ»؟

في الآية أعلاه استعملت كلمة «أخذ» في مفهوم المجازاة والعقوبة ، وهذا في الحقيقة لأجل أنّ الشخص الذي يراد عقوبته يؤخذ أوّلا في العادة ، ثمّ يوثق بوسائل خاصّة حتى لا تبقى له قدرة على الفرار ، ثمّ يعاقب.

١٢٦

4 ـ المفهوم الواسع للآية

إنّ الآية الحاضرة وإن كانت ناظرة إلى وضع الأقوام الغابرة ، ولكنّه من المسلّم أن مفهومها مفهوم واسع وعام ودائم ، ولا تنحصر في شعب معين أو قوم خاص ، فإنّها سنة إلهية أن يبتلى غير المؤمنين ، والمتورطين في المعاصي والذنوب بأنواع مختلفة ومتنوعة من البلايا في هذه الدنيا ، فربّما ينزل عليهم البلاء السماوي والأرضي ، وربّما تشتعل نيران الحروب العالمية أو المحلية فتبتلغ أموالهم وتبيدها وربّما يفارقهم الأمن والاستقرار ، فتسحق المخاوف والهواجس بأظلافها أبدانهم ونفوسهم ، وحسب تعبير القرآن يكون كل ذلك بما كسبت أيديهم ورد فعل لأعمالهم.

إن فيض الله ليس محدودا ولا ممنوعا ، كما أنّ عقوباته لا تختص بقوم أو شعب.

لماذا تعيش الأمم الكافرة في الرخاء؟

من كل ما قلناه يتّضح الجواب على سؤال يدور كثيرا بين جماعة من الناس ، وهو : إذا كان الإيمان والتقوى يبعثان على نزول أنواع البركات الإلهية ، ويكون العكس موجبا لسلب البركات ، فلما ذا نشاهد الشعوب غير المؤمنة ترفل في الرخاء والرفاه ، في حين يعيش جماعة من أهل الإيمان بعسر ومشقّة؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة نقطتين :

1 ـ إنّ تصوّر أنّ الشعوب غير المؤمنة الفاقدة للتقوى ترفل في النعمة والرخاء وتغرق في السعادة هو تصور خاطئ ينبع من اشتباه أكبر ، وهو اعتبار الثروة دليلا على السعادة.

إنّ الناس يتصورون ـ عادة ـ أنّ كل شعب امتلك صناعة أكثر تقدما ، وثروة أكبر ، كان أسعد من غيره ، في حين لو تسنى لنا أن ننفذ إلى أعماق هذه

١٢٧

المجتمعات ونلاحظ الآلام الممضة التي تحطم روح هذه الشعوب وجسمها عن كثب ، فسوف نسلّم أن أكثر تلك الشعوب هي من أشقى سكان الأرض.

هذا بغض النظر عن أنّ هذا التقدم النسبيّ إنّما هو نتيجة استخدامهم لأصول ومبادئ مثل السعي والاجتهاد ، والنظم والشعور بالمسؤولية التي هي جزء من تعاليم الأنبياء ، ومن صلب توجيهاتهم.

في هذه الأيّام ـ التي نكتب فيها هذا القسم من التّفسير ـ نشرت الجرائد والصحف أنّه حدث في نيويورك ـ التي هي واحدة من أكبر نقاط العالم المادي ثروة وأكثرها تقدما ـ حادث جدّ عجيب على أثر انقطاع فجائي للتيار الكهربائي ، وذلك الحادث هو أنّ كثيرا من الناس هاجموا المحلات والمخازن وسرقوا كل ما فيها بحيث أن ثلاثة آلاف من المغيرين على المحلات اعتقلوا بواسطة البوليس.

إنّ من المسلّم أن عدد المغيرين ـ في الواقع ـ أكثر بأضعاف من هذا العدد ، وهذا العدد هم الذين لم يمكنهم الفرار والهرب والنجاة من قبضة البوليس ، كما أنّه من المسلّم أن المغيرين لم يكونوا سراقا محترفين هيّئوا أنفسهم من قبل لمثل هذه الإغارة العمومية ، لأنّ الحادثة المذكورة كانت حادثة فجائية.

من هذا نستنتج أنّه مع حالة انقطاع عابر للتيار الكهربائي يتحول عشرات الآلاف من سكان مدينة ثرية ومتقدمة ـ كما يشاءون تسميتها ـ إلى لصوص وسراق ، إن هذا لا يدل على الانحطاط الخلقي لدى شعب من الشعوب فحسب ، بل يدل على فقدان الأمن الاجتماعي الشديد أيضا.

والخبر الآخر الذي نقلته الصحف ، ويكمل ـ في الحقيقة ـ هذا الخبر ، وهو أن أحد الشخصيات المعروفة كان يقيم في تلك الأيّام في نيويورك ، في أحد الفنادق الشهيرة ذات العشرات من الطوابق ، قال : إنّ انقطاع التيار الكهربائي تسبب في أن يمسي التجول في معابر وصالات ذلك الفندق عملا بالغ الخطورة ، بحيث أنّ

١٢٨

مسئولي الفندق ما كانوا يسمحون لأحد بأن يغادر مكانه إلى غرفته منعا من أن يتعرض للمغيرين داخل صالات الفندق ، ولهذا نظموا المسافرين والنزلاء في جماعات مكونة من عشرة أو أكثر ، وتولى موظفون مسلحون إيصالهم إلى غرفهم تحت حراسة مشددة.

ثمّ يضيف ذلك الشخص المذكور : أنّه ما لم يعان من الجوع الشديد لم يجرأ على الخروج من غرفته.

ولكن انقطاع التيار الكهربائي هذا يقع في البلاد المتأخرة الشرقية كثيرا ، ولكن لا تحدث مثل هذه المشاكل ، وهذا يفيد أن سكان البلدان المتقدمة رغم كونهم يمتلكون ثروة عظيمة ، وصنائع عظيمة ، لا يملكون أدنى قدر من الأمن في بيئتهم.

هذا مضافا إلى أنّ شهود عيان يقولون : إنّ القتل والاغتيال في تلك البيئات كشرب الماء من حيث السهولة واليسر.

ونحن نعلم أنّنا أعطينا الدنيا كلها لأحد وكان يعيش في مثل هذه الظروف ، كان من أشقى أهل الأرض على أنّ مشكلة الأمن هي واحدة من مشكلاتهم ، وإلّا فهناك مفاسد اجتماعية أخرى كل واحد منها بدوره حالة مؤلمة جدا ومع الالتفات إلى هذه الحقائق فلا معنى لتوهّم أنّ الثروة سعادة.

2 ـ أمّا ما يقال عن سبب تخلّف المجتمعات المتحلية بالإيمان والتقوى ، فإذا كان المقصود من الإيمان والتقوى هو مجرّد ادعاء الإسلام وادعاء أتباع مبادئ الأنبياء وتعاليمهم ، فالاعتراض وجيه. ولكننا لا نعتبر حقيقة الإيمان والتقوى إلّا نفوذهما في جميع أعمال الإنسان ، وجميع شؤون الحياة ، وهذا أمر لا يتحقق بمجرّد الادعاء والزعم.

إنّ من المؤسف جدّا أن نجد التعاليم الإسلامية ومبادئ الأنبياء متروكة أو شبه متروكة في كثير من المجتمعات الإسلامية ، فملامح هذه المجتمعات ليست

١٢٩

ملامح مجتمعات المسلمين الصادقين الحقيقيين.

لقد دعا الإسلام إلى الطهارة والاستقامة والأمانة والاجتهاد والجد ، فأين تلك الأمانة والاجتهاد؟

إنّ الإسلام يدعو إلى العلم والمعرفة واليقظة والوعي ، فأين ذلك العلم والوعي واليقظة؟! وإن الإسلام يدعو إلى الاتحاد والتضامن ووحدة الصفوف والتفاني ، فهل سادت هذه الأصول والمبادئ في المجتمعات الإسلامية الحاضرة بصورة كاملة ، ومع ذلك بقيت متخلّفة؟!

لهذا يجب أن نعترف بأنّ الإسلام شيء ، والمسلمون اليوم شيء آخر.

في الآيات اللاحقة والمزيد من التأكيد على عمومية هذا الحكم ، وأن القانون أعلاه ليس خاصا بالأقوام الغابرة بل يشمل الحاضر والمستقبل أيضا ـ يقول : هل أنّ المجرمين الذين يعيشون في نقاط مختلفة من الأرض يرون أنفسهم في أمن من أن تحل بهم العقوبات الإلهية ، فتنزل بهم صاعقة أو يصبهم زلزال في الليل وهم نائمون( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ) .

وهل هم في أمان من ذلك العذاب في النهار وهم غارقون في أنواع اللهو واللعب( أوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) .

يعني أنّهم في قبضة القدرة الإلهية في جميع الأحوال والأوقات ، ليلا ونهارا ، في اليقظة والنوم ، في ساعات الفرح والترح ، وبإشارة واحدة وأمر واحد يقضى عليهم جميعا ، ويطوي صفحة حياتهم نهائيا ، دون الحاجة الى مقدمات وأسباب قبلية ، أو لمرور الزمان لهذا العمل.

أجل في لحظة واحدة ، ومن دون أية مقدمات يمكن أن تحل أنواع المصائب والنوائب بهذا الإنسان الغافل.

والعجيب أنّ البشرية الحاضرة ، رغم كل ما أحرزته من تقدم ورقي في

١٣٠

الصنائع وفي التكنولوجيا ، ومع أنّها سخرت طاقات الكون والطبيعة المختلفة لخدمة نفسها ، فإنّها ضعيفة وعاجزة تجاه هذه الحوادث ، بنفس المقدار من العجز والضعف الذي كان عليه إنسان العصور السابقة. يعني أن الإنسان لم يتغير حاله تجاه الزلازل والصواعق وما شابهها ، حتى بالنسبة إلى إنسان ما قبل التاريخ.

وهذه علامة قوية على نهاية عجز الإنسان وشدة ضعفه رغم قدرته وقوته وهذه حقيقة يجب أن يجعلها الإنسان نصب عينيه دائما وأبدا.

وفي الآية اللاحقة يعود القرآن الكريم إلى ذكر وتأكيد هذه الحقيقة بشكل آخر فيقول : أفأمن المجرمون من المكر الإلهي ، في حين لا يأمن مكره إلّا الخاسرون( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) .

و «المكر» ـ كما قلنا في ذيل الآية 94 من سورة آل عمران ـ يعني في اللغة العربية كل حيلة ووسيلة لصرف الشخص عن الهدف الذي يمضي إليه ، سواء كان حقا أو باطلا ، وقد أخذ في مفهوم هذه اللغة نوع من التدرج والنفوذ التدريجي.

وعلى هذا فالمراد من المكر الإلهي ، هو أنّ الله تعالى يصرفهم بخططه القوية التي لا تقهر عن حياة الرفاه واللذة دون اختيارهم ويقطعها عليهم. وهذه إشارة إلى العقوبات الإلهية الفجائية والمهلكة.

جواب على سؤال :

إنّ الجملة التي وردت في ختام الآية الحاضرة تقول : لا يأمن أحد ـ إلّا الخاسرون ـ من المكر الإلهي والعقوبة الإلهية ، وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل تشمل هذه العبارة الأنبياء والأئمّة العظام والصالحين؟

لقد تصوّر البعض أنّهم خارجون من هذا الحكم ، وأنّ الآية تختص بالمجرمين. ولكن الظاهر أن هذا الحكم عام يشمل الجميع ، لأنّه حتى الأنبياء والأئمّة كانوا مراقبين لأعمالهم دائما كي لا تصدر منهم أدنى زلة أو عثرة ، لأنّنا

١٣١

نعلم أن مقام العصمة ليس مفهومه أن المعصية مستحيلة عليهم ، بل يعني أنّهم مصونون عن الإثمّ والمعصية بفعل إرادتهم وإيمانهم وحسن اختيارهم ، إلى جانب العنايات الربانية.

إنّهم كانوا يخافون من ترك الأولى ويتجنبونه ، ويخشون أن لا يتمكنوا من القيام بمسؤولياتهم الثقيلة. ولهذا نقرأ في الآية (15) من سورة الأنعام حول الرّسول الأعظم( قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .

ولقد رويت في تفسير الآية الحاضرة ـ أيضا ـ أحاديث تؤيد ما قلناه : «صليت خلف أبي عبد الله (الصادق)عليه‌السلام ، فسمعته يقول : «اللهم لا تؤمني مكرك. ثمّ جهر فقال :( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) .

ونقرأ في نهج البلاغة أيضا : «لا تأمنن على خير هذه الأمّة عذاب الله ، لقول الله سبحانه :( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) (1) .

إنّ عدم الأمن من المكر الإلهي ـ في الحقيقة ـ يعني الخوف من المسؤوليات والخوف من التقصير فيها ، ومن المعلوم أن الخوف يجب أن يكون في قلوب المؤمنين دائما إلى جانب الأمل بالرحمة الإلهية بشكل متساو ، وأن التوازن بين هذين هو منشأ كلّ حركة ونشاط ، وهو الذي يعبّر عنه في الرّوايات بالخوف والرجاء.

وقد جاء التصريح في هذه الرّوايات بوجوب أن يكون المؤمنون دائما بين الخوف والرجاء ، ولكن المجرمين الخاسرين نسوا العقوبات الإلهية بحيث صاروا يرون أنفسهم في منتهى الأمن المكر الإلهي.

وفي الآية اللاحقة يقول القرآن الكريم ـ بهدف إيقاظ عقول الشعوب الغافية وإلفات نظرهم إلى العبر التي كانت في حياة الماضيين : ألا يتنبه الذين ورثوا

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الجملة 377.

١٣٢

السيادة على الأرض ـ من الأقوام الماضية ـ إلى ما في حياة الماضيين وقصصهم من عبر ، فلو أنّنا أردنا أن نهلكهم بذنوبهم لفعلنا( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ) .

ويمكننا أيضا أن نتركهم أحياء ونسلب منهم الشعور وحس التشخيص والتمييز بالمرّة بسبب توغّلهم في الذنوب ، بحيث لا يسمعون معها حقيقة ، ولا يقبلون نصيحة ، ويعيشون بقية حياتهم حيرى( وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) .

أمّا كيف يسلب الله تعالى من هذا الفريق من المجرمين حس التمييز والتشخيص ، فيمكنك الوقوف على مزيد التوضيح في هذا المجال في تفسير الآية (7) من سورة البقرة.

* * *

١٣٣

الآيتان

( تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) )

التّفسير

في هاتين الآيتين ركّز القرآن الكريم على العبر المستفادة من بيان قصص الماضين ، والخطاب متوجه هنا إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أن الهدف هو الجميع ، يقول القرآن الكريم أوّلا : هذه هي القرى والأقوام التي نقص عليك قصصهم :( تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها ) (1) .

ثمّ يقول : لم يكن إهلاكهم قبل إتمام الحجة عليهم ، بل لقد جاءهم الأنبياء أوّلا بالبراهين الجلية وبذلوا قصارى جهدهم في إيقاظهم وإرشادهم( وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) .

ولكنّهم قاوموا الأنبياء وخالفوا دعوتهم ، وأصروا ولجّوا في عنادهم ، ولم

__________________

(1) «نقصّ» من مادة «قص» وقد مر شرحها في ذيل الآية 7.

١٣٤

يكونوا على استعداد لأن يؤمنوا بما كذبوا به من قبل ، بل استمروا على تكذيبهم حتى مع مشاهدتهم البينات :( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ) .

من هذه الجملة يستفاد أنّ الأنبياء الإلهيين قاموا بدعوتهم وإرشادهم مرارا وتكرارا ، ولكن المشركين لجوا في عنادهم ، وبقوا متصلبين في مواقفهم المتعنتة الرافضة ، وأعرضوا عن قبول دعوة الأنبياء حتى بعد وضوح الكثير من الحقائق.

وفي العبارة اللاحقة يبيّن تعالى علّة هذا التعنت واللجاج :( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ ) .

يعني أنّ الذين يسيرون في درب خاطئ ، ويستمرون في السير في ذلك الطريق ، ينتقش الانحراف والكفر على قلوبهم نتيجة تكرار العمل السيء.

ويتجذر الفساد في نفوسهم ، كما يثبت النقش على السكة (والطبع في اللغة نقش صورة على شيء كالسكة) وهذا في الحقيقة هو أثر العمل وخاصيته.

وقد نسب إلى الله هو تعالى مسبب الأسباب ، وهو منشأ تأثير كل مؤثر ، فهو يهب الفعل هذه الخاصية عند تكراره ، حيث يجعله «ملكة» في نفس الشخص.

ولكن من الواضح والبيّن أن مثل الضلال ليس له أي صفة جبرية وقهرية ، بل إنّ موجد الأسباب هو الإنسان وإن كان التأثير بأمر الله تعالى (فتأمل).

وفي الآية اللاحقة بيّن تعالى قسمين آخرين من نقاط الضعف الأخلاقي لدى هذه الجماعات ، والتي تسببت في ضلالها وهلاكها.

في البداية يقول : إنّهم كانوا لا يحترمون العهود والمواثيق بل ينقضونها( وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ) .

وهذا العهد يمكن أن يكون إشارة إلى «العهد الفطري» الذي أخذه الله على جميع عباده بحكم الجبلة والفطرة ، لأنّه عند ما أعطاهم العقل والذكاء والقابلية ، كان مفهوم ذلك هو أخذ العهد الميثاق منهم بأن يفتحوا عيونهم وآذانهم ، ويروا الحقائق ويسمعوها ، وهذا هو ما أشارت إليه الآيات الأخيرة من هذه السورة (أي

١٣٥

الآية 173) وهو المعروف بـ «عالم الذّر» الذي سنشرحه بإذن الله في ذيل تلك الآيات.

كما أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى العهد الذي كان الأنبياء الإلهيون يأخذونه من الناس ، وكان أكثر الناس يقبلونه ، ولكنّهم ينقضونه.

أو يكون إشارة إلى جميع المواثيق «الفطرية» و «التشريعية».

وعلى كل حال فإنّ روح نقض الميثاق كان من أسباب معارضة الأنبياء والإصرار على سلوك طريق الكفر والنفاق ، والابتلاء بعواقبها المشؤومة.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى عامل آخر إذ يقول :( وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ ) .

يعني أن روح التمرد والتجاوز على القانون ، والخروج عن نظام الخلقة والقوانين الإلهية ، كان عاملا آخر من عوامل استمرارهم على الكفر ، وإصرارهم على مخالفة الدعوة الإلهية.

ويجب الانتباه إلى أن الضمير في «أكثرهم» يرجع إلى جميع الأقوام والجماعات السالفة.

وما ورد في الآية من أن أكثرهم ينقضون العهد إنّما هو من باب رعاية حال الأقليات التي آمنت بالأنبياء السابقين ، وبقيت وفيّه لهم ، وهذه الجماعات المؤمنة وإن كانت قليلة وضئيلة العدد جدّا بحيث أنّها ما كانت تتجاوز أحيانا أسرة واحدة. ولكن روح الواقعية وتحري الحق المتجلّية في كل آيات القرآن أوجبت أن لا يتجاهل القرآن الكريم حق هذه الجماعات القليلة أو الأفراد المعدودين ، بل يراعيها فلا يصف جميع الأفراد في المجتمعات السالفة بالانحراف والضلال ونقض العهد والفسق.

وهذا موضوع جميل جدّا ، وجدير بالاهتمام ، وهو ما نشاهده ونلحظه في آيات القرآن كثيرا.

* * *

١٣٦

الآيات

( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) )( وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) )

التّفسير

المواجهة بين موسى وفرعون :

بعد ذكر قصص ثلة من الأنبياء العظام باختصار في الآيات السابقة بيّن تعالى في هذه الآيات والآيات الكثيرة اللاحقة قصّة موسى بن عمران ، وما جرى بينه وبين فرعون وملئه وعاقبة أمره.

وعلّة بيان هذه القصّة بصورة أكثر تفصيلا من قصص الأنبياء الآخرين في هذه السورة قد تكون لأجل أنّ اليهود أتباع موسى بن عمران كانوا أكثر من

١٣٧

غيرهم في بيئة نزول القرآن ، وكان إرشادهم إلى الإسلام أوجب(1) .

وثانيا : لأنّ قيام النّبي الأكرم كان أشبه بقيام موسى بن عمران من غيره من الأنبياء.

وعلى كل حال فإنّ هذه القصة الزاخرة بالعبر قد أشير إلى فصول أخرى منها أيضا في سور أخرى ، مثل : سورة البقرة ، طه ، الشعراء ، النمل ، القصص ، وسور أخرى ، ولو أنّنا درسنا آيات كل سورة على حدة ، ثمّ وضعناها جنبا إلى جنب لم نلحظ فيها جانب التكرار على خلاف ما يتصوره البعض ، بل ذكر من هذه الملحمة التاريخية في كل سورة ما يناسبها من البحث للاستشهاد به. وحيث أنّ مصر كانت أوسع ، وكان لشعبها حضارة أكثر تقدما من قوم نوح وهود وشعيب وما شابههم ، وكانت مقاومة الجهاز الفرعوني ـ بنفس النسبة ـ أكثر وأكبر ، ولهذا تمتع قيام موسى بن عمران بأهمية أكبر ، وحوى عبرا ونكات أكثر ، وقد ركّز القرآن الكريم على النقاط البارزة المختلفة من حياة موسى وبني إسرائيل بمناسبات مختلفة.

وعلى العموم يمكن حصر وتلخيص حياة هذا النّبي الإلهي العظيم في خمس دورات ومراحل :

1 ـ مرحلة الولادة ، وما جرى عليه من الحوادث حتى ترعرعه في البلاط الفرعون.

2 ـ مرحلة فراره من مصر ، وحياته في أرض «مدين» في كنف النّبي شعيبعليه‌السلام .

3 ـ مرحلة بعثته ، ثمّ المواجهات الكثيرة بينه وبين فرعون وجهازه.

4 ـ مرحلة نجاته ونجاة بني إسرائيل من مخالب فرعون ، والحوادث التي

__________________

(1) صحيح أنّ هذه السورة نزلت في مكّة ، ولم تكن مكّة مركز تجمع اليهود ، ولكن من دون شك كان لحضور في المدينة وسائر نقاط الحجاز أثر واسع في المجتمع المكّي.

١٣٨

جرت عليه في الطريق ، وعند وروده إلى بيت المقدس.

5 ـ مرحلة مشاكله مع بني إسرائيل.

ويجب الانتباه إلى أن القرآن الكريم تناول في كل سورة من سور قسما ـ أو عدّة أقسام ـ من هذه المراحل الخمس.

ومن تلك الآيات التي تناولت جوانب من قصّة موسىعليه‌السلام هذه الآيات ، وعشرات الآيات الأخر من هذه السورة ، وهي تشير إلى مراحل ما بعد بعثة موسى بن عمران بالنبوة. ولهذا فإنّنا نوكل الأبحاث المتعلقة بالمراحل السابقة على هذه المرحلة إلى حين تفسير الآيات المرتبطة بتلك الأقسام في السور الأخرى ، وبخاصّة سورة القصص.

في الآية الأولى من الآيات الحاضرة يقول تعالى :( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ) أي من بعد قوم نوح وهود وصالح.

ويجب الالتفات إلى أنّ «فرعون» اسم عام ، وهو يطلق على كل ملوك مصر ، كما يطلق على ملوك الروم «قيصر» وملوك فارس «كسرى».

ولفظة «الملأ» ـ كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق ـ تعني الأعيان والأشراف الذين يملأون ببريقهم وظواهرهم الباذخة العيون ، ولهم حضور ملفت للنظر في جميع ميادين المجتمع.

والسر في إرسال موسى في بداية الدعوة إلى فرعون وملأه هو أنّه علاوة على أنّ إحدى برامج موسى كان هو نجاة بني إسرائيل من براثن استعمار الفراعنة وتخليصهم من أرض مصر ـ وهذا لا يمكن أن يتم من دون الحوار مع فرعون ـ إنّما هو لأجل أن المفاسد الاجتماعية وانحراف البيئة لا تعالج بمجرّد الإصلاحات الفردية والموضعية فقط ، بل يجب أن يبدأ بإصلاح رؤوس المجتمع وقادته الذين يمسكون بأزمة السياسة والإقتصاد والثقافة ، حتى تتهيأ الأرضية لإصلاح البقية ، كما يقال عرفا : إنّ تصفية الماء يجب أن تكون من المنبع.

١٣٩

وهذا هو الدرس الذي يعطيه القرآن الكريم لجميع المسلمين ، لإصلاح المجتمعات الإسلامية.

ثمّ يقول تعالى :( فَظَلَمُوا بِها ) .

ونحن نعلم أنّ لفظ الظلم بالمعنى الواسع للكلمة هو : وضع الشيء في غير محلّة ، ولا شك في أن الآيات الإلهية توجب أن يسلّم الجميع لها ، وبقبولها يصلح الإنسان نفسه ومجتمعه ، ولكن فرعون وملأه بإنكارهم لهذه الآيات ظلموا هذه الآيات.

ثمّ يقول تعالى في ختام الآية :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) .

وهذه العبارة إشارة إجمالية إلى هلاك فرعون وقومه الطغاة المتمردين ، الذي سيأتي شرحه فيما بعد.

وهذه الآية تشير إشارة مقتضبة إلى مجموع برنامج رسالة موسى ، وما وقع بينه وبين فرعون من المواجهة وعاقبة أمرهم.

أمّا الآيات اللاحقة فتسلّط الاضواء بصورة أكثر على هذا الموضوع.

فيقول أوّلا :( وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهذه هي أوّل مواجهة بين موسى وبين فرعون ، وهي صورة حية وعملية من الصراع بين «الحق» و «الباطل».

والطريف أنّ فرعون كأنّه كان ينادى لأوّل مرّة بـ «يا فرعون» وهو خطاب رغم كونه مقرونا برعاية الأدب ، خال عن أي نوع من أنواع التملق والتزلف وإظهار العبودية والخضوع ، لأنّ الآخرين كانوا يخاطبونه عادة بألفاظ فيها الكثير من التعظم مثل : يا مالكنا ، يا سيدنا ، يا ربنا ، وما شابه ذلك.

وتعبير موسى هذا ، كان يمثل بالنسبة إلى فرعون جرس إنذار وناقوس خطر. هذا مضافا إلى أن عبارة موسى( إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) كانت ـ في الحقيقة ـ نوعا من إعلان الحرب على جميع تشكيلات فرعون ، لأنّ هذا التعبير

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407