مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن14%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109898 / تحميل: 7715
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢١-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

نصوص الإمام الصادقعليه‌السلام على إمامة موسى الكاظمعليه‌السلام

١ ـ عن يعقوب السراج قال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى وهو في المهد، فجعل يسارّه طويلاً، فجلست حتى فرغ، فقمت إليه فقال لي:(ادن من مولاك فسلّم، فدنوت فسلمت عليه فردّ عليّ السلام بلسان فصيح، ثم قال لي: اذهب فغيّر اسم ابنتك التي سميتها أمس، فإنه اسم يبغضه الله، وكان ولدت لي ابنة سمّيتها بالحميراء. فقال أبو عبد الله: انته إلى أمره ترشد، فغيّرت اسمها) (١) .

٢ ـ عن سليمان بن خالد قال: دعا أبو عبد اللهعليه‌السلام أبا الحسنعليه‌السلام يوماً ونحن عنده فقال لنا:(عليكم بهذا، فهو والله صاحبكم بعدي) (٢) .

٣ ـ عن فيض بن المختار قال: (إني لعند أبي عبد اللهعليه‌السلام إذ أقبل أبو الحسن موسىعليه‌السلام ـ وهو غلام ـ فالتزمته وقبّلته فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :أنتم السفينة وهذا ملاّحها ، قال: فحججت من قابل ومعي ألفا دينار فبعثت بألف إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام وألف إليه، فلمّا دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام قال:يا فيض عدلته بي ؟ قلت: إنما فعلت ذلك لقولك، فقال:أما والله ما أنا فعلت ذلك. بل الله عَزَّ وجَلَّ

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٣١٠، ح ١١.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣١٠، ح ١٢.

٤١

فعله به) (١) .

٤ ـ عن الفيض بن المختار قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : خذ بيدي من النار من لنا بعدك؟ فدخل عليه أبو إبراهيمعليه‌السلام ، وهو يومئذ غلام، فقال:(هذا صاحبكم، فتمسك به) (٢) .

٥ ـ عن معاذ بن كثير، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قلت له: اسأل الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها، فقال:(قد فعل الله ذلك) . قال: قلت من هو جعلتُ فداك ؟ فأشار إلى العبد الصالح وهو راقد فقالعليه‌السلام :(هذا الراقد وهو غلام) (٣) .

٦ ـ عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت عبد الرحمن في السنة التي أخذ فيها أبو الحسن الماضيعليه‌السلام فقلت له: إنّ هذا الرجل قد صار في يد هذا وما ندري إلى ما يصير؟ فهل بلغك عنه في أحد من ولده شيء ؟ فقال لي:ما ظننت أن أحداً يسألني عن هذه المسألة ، دخلت على جعفر بن محمد في منزله فإذا هو في بيت كذا في داره في مسجد له وهو يدعو، وعلى يمينه موسى بن جعفرعليه‌السلام يؤمّن على دعائه، فقلت له: جعلني الله فداك قد عرفت انقطاعي إليك وخدمتي لك، فمن وليّ الناس بعدك ؟ فقال:(إنّ موسى قد لبس الدرع وساوى عليه) فقلت له: لا أحتاج بعد هذا إلى شيء(٤) .

٧ ـ عن يعقوب بن جعفر الجعفري قال: حدّثني إسحاق بن جعفر قال: كنت عند أبي يوماً، فسأله علي بن عمر بن علي فقال: جعلت فداك إلى من

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٣١١، ح ١٦.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣٠٧، ح ١، والإرشاد: ٢/٢١٧.

(٣) أصول الكافي ١: ٣٠٨، ح٢، والإرشاد: ٢/٢١٧.

(٤) أصول الكافي: ١/٣٠٨، ح ٣، والإرشاد: ٢/٢١٧.

٤٢

نفزع ويفزع الناس بعدك؟ فقال:(إلى صاحب الثوبين الأصفرين والغديرين ـ يعني الذؤابتين ـ وهو الطالع عليك من هذا الباب، يفتح البابين بيده جميعاً) ، فما لبثنا أن طلعت علينا كفّان آخذة بالبابين ففتحهما ثم دخل علينا أبو إبراهيم(١) .

٨ ـ عن صفوان الجمّال، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قال له منصور بن حازم: بأبي أنت وأمي إنّ الأنفس يُغدا عليها ويراح، فإذا كان ذلك، فمن؟ فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(إذا كان ذلك فهو صاحبكم) ، وضرب بيده على منكب أبي الحسنعليه‌السلام الأيمن ـ في ما أعلم ـ وهو يومئذ خماسي وعبد الله بن جعفر جالس معنا(٢) .

٩ ـ عن المفضل بن عمر قال: ذكر أبو عبد اللهعليه‌السلام أبا الحسنعليه‌السلام ـ وهو يومئذ غلام ـ فقال:(هذا المولود الذي لم يولد فينا مولود أعظم بركة على شيعتنا منه) ثم قال لي:(لا تجفوا إسماعيل) (٣) .

١٠ ـ عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قلت له: (إن كان كون ـ ولا أراني الله ذلك ـ فبمن أئتم؟ قال: فأومأ إلى ابنه موسىعليه‌السلام . قلت : فإن حدث بموسى حدث فبمن أئتم؟ قال:بولده . قلت: فإن حدث وترك أخاً كبيراً وابناً صغيراً فبمن أئتم؟ قال:بولده ، ثم قال:هكذا أبداً ، قلت: فإن لم أعرفه ولا أعرف موضعه ؟ قال: تقول:(اللهم إني أتولى من بقي من حججك من ولد الإمام الماضي، فانّ ذلك يجزيك إن شاء الله) (٤) .

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٣٠٨، ح ٥، والإرشاد: ٢/٢٢٠.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣٠٩، ح ٦، والإرشاد: ٢/٢١٨.

(٣) أصول الكافي: ١ / ٣٠٩، ح ٨.

(٤) أصول الكافي: ١/٣٠٩، ح ٧، والإرشاد: ٢/٢١٨.

٤٣

١١ ـ عن فيض بن المختار في حديث طويل في أمر أبي الحسنعليه‌السلام حتى قال له أبو عبد اللهعليه‌السلام :(هو صاحبك الذي سألت عنه ، فقم إليه فأقرّ له بحقه) ، فقمت حتى قبّلت رأسه ويده ودعوت الله عزّ وجلّ له، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(أما أنه لم يؤذن لنا في أوّل منك) ، قال: قلت: جعلت فداك فأخبر به أحداً ؟ فقال:(نعم أهلك وولدك) ، وكان معي أهلي وولدي ورفقائي وكان يونس بن ظبيان من رفقائي، فلمّا أخبرتهم حمدوا الله عزّ وجلّ وقال يونس: لا والله حتى أسمع ذلك منه وكانت به عجلة، فخرج فاتبعته، فلما انتهيت إلى الباب، سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول له ـ وقد سبقني إليه ـ :(يا يونس الأمر كما قال لك فيض) . قال: فقال: سمعت وأطعت، فقال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام :(خذه إليك يا فيض) (١) .

١٢ ـ عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن صاحب هذا الأمر فقال:(إنّ صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب) ، وأقبل أبو الحسن موسى وهو صغير ومعه عناق مكّية وهو يقول لها:(اسجدي لربك) ، فأخذه أبو عبد اللهعليه‌السلام وضّمه إليه وقال:(بأبي وأمي من لا يلهو ولا يلعب) (٢) .

١٣ ـ روى زيد النرسي، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال:(إني ناجيت الله ونازلته في إسماعيل ابني أن يكون بعدي فأبى ربي إلاّ أن يكون موسى ابني) (٣) .

١٤ ـ عن يزيد بن أسباط قال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام في مرضته التي مات فيها، قالعليه‌السلام :(يا يزيد أترى هذا الصبي؟) وأشار لولده موسى :إذا رأيت الناس قد اختلفوا

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٣٠٩، ح ٩.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣١١، ح ١٥، والإرشاد: ٢/٢١٩.

(٣) أصل زيد النرسي: ق ٣٩.

٤٤

فيه، فاشهد عليَّ بأني أخبرتك أن يوسف إنّما كان ذنبه عند إخوته حتى طرحوه في الجب، الحسد له، حين أخبرهم أنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر وهم له ساجدين، وكذا لا بد لهذا الغلام من أن يحسد) ، ثم دعا موسى وعبد الله وإسحاق ومحمد والعباس، وقال لهم:(هذا وصيُّ الأوصياء وعالم علم العلماء وشهيدٌ على الأموات والأحياء) ، ثمّ قال: يا يزيد ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) (١)(٢) .

الباب الثالث: وفيه فصول:

الفصل الأول: ملامح عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام .

الفصل الثاني: مواقف الإمام الكاظمعليه‌السلام في عهد المنصور.

الفصل الثالث: الإمام الكاظمعليه‌السلام وحكومة المهدي العبّاسي.

الفصل الأوّل: ملامح عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام

لم يغيّر المنصور من سياسته ضد العلويين بعد قتله للإمام الصادقعليه‌السلام ، وبعد قضائه على الثورات العلوية في زمانه، بل بقي هاجس الخوف والقلق يلاحقه، ولم تهدأ ذاته المليئة بالحقد عليهم، فاستمر في اضطهادهم، فزجّ الأبرياء في السجون المظلمة وهدمها عليهم، ودفن البعض وهم أحياء في اسطوانات البناء، وبثّ الجواسيس، لأجل أن يحيط علماً بكل نشاطهم، وأخذت عيونه ترصد كل حركة بعد تحويرها وتحريفها بالكذب لتنسجم مع رغبات الخليفة فكانوا يرفعونها له مكتوبة كما سمح للتيّارات الإلحادية كالغلاة والزنادقة في أن تأخذ طريقها بين عامة الناس لإضلالهم. كما استعمل بعض العلماء واستغلّهم لتأييد سياسته وإسباغ الطابع الشرعي على حكمه.

ــــــــــــ

(١) الزخرف (٤٣): ١٩.

(٢) بحار الأنوار: ٤٨/٢٠، ح ٣١، نقلاً عن مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب.

٤٥

ويمكن استجلاء هذا الوضع ضمن عدة نقاط:

النقطة الأولى:

إنّ وصية الإمام الصادقعليه‌السلام التي عهد بها أمام الناس لخمسة أشخاص، هم أبو جعفر المنصور، محمد بن سليمان، وعبد الله، وموسى، وحميدة، مع كتابة المنصور لعامله في المدينة بأن يقتل وصيّ الإمام الصادقعليه‌السلام إن كان معيناً، يتضح ـ من هذه الوصية مع أوامر المنصور بقتل الوصيّ ـ نوع الطريقة التي كان يتحرك بها المنصور تجاه الإمام موسىعليه‌السلام ثم يتضح أيضاً حجم النشاط وحجم الاهتمام الذي كان يعطيه المنصور للإمامعليه‌السلام لمراقبة حركته.

ولكن الإمام الصادقعليه‌السلام كان يستشف من وراء الغيب ما تحمله الأيّام المقبلة من أخطار لابنه موسىعليه‌السلام ومن هنا فقد خاطب شيعته بلغة خاصة ضمّنها الحقيقة التي أراد إيصالها إليهم وإن كان ذلك يستلزم الالتباس عند بعض ، والتحيّر في معرفة ولي الأمر من بعده لفترة تقصر أو تطول ; لأن حفظ الوصي وولي عهده والإمام المفترض الطاعة في تلك الظروف العصيبة كان أمراً ضرورياً بلا ريب لأن استمرار الخط لا يمكن ضمانه إلاّ بحفظ الإمام المعصوم بما يتناسب مع طبيعة تلك الظروف. ولكن الواعين والنابهين من صحابة الإمام الصادقعليه‌السلام لم تلتبس عليهم حقيقة وصية الإمامعليه‌السلام التي تضمّنت الوصية للإمام الكاظمعليه‌السلام .

قال داود بن كثير الرقي: وفد من خراسان وافد يكنّى أبا جعفر، اجتمع إليه جماعة من أهل خراسان، فسألوه أن يحمل لهم أموالاً ومتاعاً ومسائلهم في الفتاوى والمشاورة، فورد الكوفة ونزل وزار قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ورأى في ناحية المسجد رجلاً حوله جماعة.

فلما فرغ من زيارته قصدهم فوجدهم شيعة فقهاء يسمعون من الشيخ، فقالوا: هو أبو حمزة الثمالي.

قال: فبينما نحن جلوس إذ أقبل أعرابي، فقال: جئت من المدينة، وقد مات جعفر بن محمدعليه‌السلام فشهق أبو حمزة ثم ضرب بيده الأرض، ثم سأل الأعرابي: هل سمعت له بوصية ؟

٤٦

قال: أوصى إلى ابنه عبد الله وإلى ابنه موسى، وإلى المنصور. فقال: الحمد لله الذي لم يُضلّنا، دلّ على الصغير وبيّن على الكبير، وستر الأمر العظيم. ووثب إلى قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام فصلَّى وصلّينا. ثم أقبلت عليه وقلت له: فسّر لي ما قلته ؟ قال: بيّن أن الكبير ذو عاهة ودلّ على الصغير أن أدخل يده مع الكبير، وستر الأمر العظيم بالمنصور حتى إذا سأل المنصور: من وصيّه؟ قيل : أنت. قال الخراساني: فلم أفهم جواب ما قاله(١) . فذهب بعد ذلك إلى المدينة ليطّلع بنفسه على الوصي من بعد الإمام جعفر بن محمدعليه‌السلام .

النقطة الثانية:

لقد شدّدت السلطات في المراقبة على الشيعة بعد استشهاد الإمام الصادقعليه‌السلام وعمّ الارتباك أوساطهم وشحنت الأجواء بالحذر والتحسّب.

وعن هذه الفترة الزمنية المهمة في التاريخ الشيعي يحدّثنا هشام بن سالم أحد رموز الشيعة قائلاً:

كنا في المدينة بعد وفاة أبي عبد اللهعليه‌السلام أنا ومؤمن الطاق (أبو جعفر) والناس مجتمعون على أنّ عبد الله (الأفطح) صاحب (الإمام) بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق، والناس مجتمعون عند عبد الله وذلك أنهم رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :(أن الأمر في الكبير ما لم يكن به عاهة) فدخلنا نسأله عمّا كنا نسأل عنه أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب ؟ قال: في مئتين خمسة، قلنا:

ــــــــــــ

(١) عوالم العلوم ، الإمام الكاظم: ١٧٥.

٤٧

ففي مئة ؟ قال: درهمان ونصف درهم(١) .

قلنا له: والله ما تقول المرجئة هذا فرفع (الأفطح) يده إلى السماء، فقال: لا ، والله ما أدرى ما تقول المرجئة !

قال: فخرجنا من عنده ضُلاّلاً، لا ندري إلى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول(٢) ، فقعدنا في بعض أزقّة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى من نقصد وإلى أين نتوجّه ؟! نقول: (نذهب) إلى المرجئة ؟ إلى القدرية؟ إلى الزيدية؟ إلى المعتزلة؟ إلى الخوارج(٣) ؟ قال: فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه يومئ إليَّ بيده، فخفت أن يكون عيناً (جاسوساً) من عيون أبي جعفر (المنصور الدوانيقي). وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتفق شيعة جعفر (الصادق) فيضربون عنقه، فخفت أن يكون (الرجل الشيخ) منهم. فقلت لأبي جعفر (مؤمن الطاق): تنح فإني خائف على نفسي وعليك، وإنما يريدني (الشيخ) ليس يريدك، فتنحّ عنّي ، لا تهلك وتعين على نفسك. فتنحّى غير بعيد، وتبعت الشيخ، وذلك أني ظننت أني لا أقدر على التخلص منه، فما زلت أتبعه حتى ورد بي على باب أبي الحسن موسى (الكاظم)عليه‌السلام ثم خلاّني ومضى، فإذا خادم بالباب فقال لي: أُدخل، رحمك الله. قال: فدخلت فإذا أبو الحسن (الكاظم)عليه‌السلام فقال لي ابتداءً:لا إلى المرجئة ، ولا إلى القدرية، ولا إلى الزيدية، (ولا إلى المعتزلة )، ولا إلى الخوارج، إليَّ إليَّ إليَّ .

قال (هشام): فقلت له: جعلت فداك مضى أبوك ؟ قال:نعم .

قلت: جعلت فداك مضى في موت؟ قال:نعم ، قلت: جعلت فداك فمن لنا بعده؟ فقال:إن شاء الله يهديك هداك .

قلت: جعلت فداك، إنّ عبد الله (الأفطح) يزعم أنه (إمام) من بعد أبيه فقال:يريد عبد الله الأفطح أن لا يعبد الله .

قال: قلت له: جعلت فداك، فمن لنا بعده؟ فقال:إن شاء الله أن يهديك هداك أيضاً .

قلت: جعلت فداك، أنت هو (الإمام) ؟ قال:ما أقول ذلك .

ــــــــــــ

(١) من الثابت عند المسلمين أن لا زكاة في أقل من مائتي درهم، ولكن الأفطح كان يجهل هذا الحكم.

(٢) مؤمن الطاق، أبو جعفر، صاحب الطاق والأحول، كلها ألقاب لرجل واحد (محمد بن علي بن النعمان)، اختيار معرفة الرجال: ٢/٤٢٥.

(٣) الإرشاد للمفيد: ٢/٢٢١ ، مدينة المعاجز: ٦/٢٠٨.

٤٨

قلت ـ في نفسي ـ لم أُصب طريق المسألة (أي أخطأت في كيفية السؤال).

قال (هشام): قلت: جعلت فداك، عليك إمام ؟ قال:لا . فدخلني (دخل قلبي) شيء لا يعلمه إلاّ الله إعظاماً له وهيبة، أكثر ما كان يحلّ بي من (هيبة) أبيه (الإمام الصادق) إذا دخلت عليه.

قلت: جعلت فداك، أسألك عمّا كان يُسأل أبوك؟ قال:سل تُخبر، ولا تُذِع (أي لا تنشر الخبر)فإن أذعت فهو الذبح .

قال (هشام): فسألته فإذا هو بحر !.

قال (هشام): قلت جعلت فداك، شيعتك وشيعة أبيك ضُلاّل، فالقي إليهم (أخبرهم) وأدعوهم إليك؟ فقد أخذت عليّ بالكتمان.

فقال (الإمام):(من آنست منهم رشداً، فألق عليهم (أخبرهم)وخذ عليهم

بالكتمان ،فإن أذاعوا فهو الذبح) وأشار بيده إلى حلقه)(١) .

إنّ هذا الحديث الذي أدلى به هشام يكشف لنا عدة حقائق:

١ ـ كثرة انتشار الجواسيس، وجو الرعب، والحذر، والخوف، وفقدان الأمن الذي عمّ أبناء الأمة وأخيارها خصوصاً سكان المدينة.

٢ ـ كما يكشف لنا عن أنّ إعلان الإمامة لموسىعليه‌السلام وإخبار الشيعة بإمامته، لم يكن ظاهراً لعامة الناس بل كان محدوداً ببعض الخواص من الشيعة(٢) بحيث تجد حتى مثل هشام لا يعلم أن الأمر لمن إلاّ بعد حين، وقد حصل عليه بالطرق الشرعية والعقلية، وهذه الممارسات وغيرها جعلت الشيعة تتدرب وتتمرّس على الأساليب التي تقيها من سيف الظالمين مثل السرّية والتقية، لذا نجد الرواة عند نقلهم لأخبار الإمام موسىعليه‌السلام لا يصرّحون باسمه الصريح بل كانوا يقولون: (قال العبد الصالح) ، أو (قال السيد)، أو (قال العالم) ونحو ذلك.

ــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال: ٢ / ٥٦٥ ، ح٥٠٢ ، والإرشاد: ٢/٢٢١ ـ ٢٢٢ وعنه في إعلام الورى: ٢/١٦ ـ ١٧، وكشف الغمة: ٣/١٢ و ١٣، وبحار الأنوار: ٤٨ / ٥٠.

(٢) منهم زرارة وداود بن كثير الرقي، وحمران، وأبي بصير، والمفضل بن عمر وغيرهم.

٤٩

٣ ـ إنّ الخنق الظالم والممنوعات السلطانية والحبس الفكري وملاحقة من يخالف، وبثّ الإشاعات المضادّة والكاذبة، كل هذه الأمور خلقت مناخاً يتنفّس فيه الأدعياء وهواة الرذيلة والذين زاد نشاطهم وشاع صيتهم وتعددت فرقهم في هذه الفترة فطرحوا أنفسهم قادة للأمة في الفكر والفقه والحديث بتشجيع من الخليفة. لذا نجد هشام بن سالم في حديثه يعدد لنا الفرق في زمانه حيث يقول: نذهب إلى المرجئة؟ إلى القدرية؟ إلى الزيدية؟ إلى المعتزلة؟ إلى الخوارج؟

٤ ـ مارس الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام أسلوباً في هذا الحديث يُميزه عن غيره من مدّعي الإمامة (مثل عبد الله الأفطح) وذلك بإخباره عن الكلام الذي دار بين هشام ومؤمن الطاق في أحد أزقّة المدينة المنورة حيث قال الإمام لهما:(لا إلى المرجئة ولا إلى القدرية.... إليَّ إليَّ إليَّ) .

النقطة الثالثة:

من الحقائق التاريخية التي تكشف سياسة المنصور القائمة على الخنق والإبادة والقتل للعلويين هو حديث الخزانة.

حيث يكشف لنا هذا الحديث التاريخي عن سياسة المنصور الخشنة مع العلويين، والتي أراد بها الإيحاء لابنه المهدي بأن الخلافة لا تستقيم إلا بهذه الطريقة، ثم تكشف لنا هذه الرواية عن معاناة الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام لأنه كان بالتأكيد على علم بهذه الأعداد المؤمنة الخيّرة من أبناء الشيعة وهي تساق إلى السجون لتقتل بعد ذلك صبراً، وهذا الحديث مليء بالشجون والأسى فقد ملأ خزانة برؤوس العلويين شيوخاً وشباباً وأطفالاً وأوصى ريطة زوج المهدي أن لا تفتحها للمهدي ولا يطلع عليها إلاّ بعد هلاكه، وقد دوّنها الطبري في تاريخه وهذا نصها :

(لمّا عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر فأوصاها بما أراد)، وعهد إليها ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدّم إليها وأحلفها ووكّد الإيمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليها أحداً إلاّ المهدي، ولا هي إلاّ أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى

٥٠

يفتحا الخزانة، فلمّا قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح وأخبرته أنه تقدم إليها أن لا تفتحه ولا تُطلع عليه أحداً حتى يصح عندها موته فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة، فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم وإذا فيهم أطفال، ورجال شباب، ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكاناً)(١) .

النقطة الرابعة:

ومن المشاكل التي أثيرت في مطلع تسلّم الإمام موسىعليه‌السلام لمسؤولية الإمامة ، والتي كانت تهدف لتمزيق الطائفة الشيعية وإثارة البلبلة والتخريب في صفوفها، هي التشكيك في مسألة القيادة فإنها لمن تكون بعد الإمام الصادقعليه‌السلام بسبب ما ادّعاه (عبد الله الأفطح) أخو الإمام موسى الأكبر بعد إسماعيل، وهذا بطبيعة الحال يُضيف معاناة أُخرى للإمام ؛ لأن أجهزة المنصور العدوانيّة كانت تعدّ عليه الأنفاس وتشك في أيّ حركة تصدر منه(٢) .

النقطة الخامسة:

ومن الأساليب التي استخدمتها السلطات العبّاسية عامة والمنصور بشكل خاص، سياسة اتّخاذ (وعّاظ السلاطين) بعد أن غيّب الإمام

ــــــــــــ

(١) الطبري: ٦ / ٣٤٣ و ٣٤٤ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

(٢) سيرة الأئمة الاثني عشر: ٢/٣٢٥ فصل حياة الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما‌السلام ط دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت، والإرشاد: ٢/٢٠٩ ذكر أولاد أبي عبد الله عليه‌السلام وعددهم وأسمائهم وطرف من أخبارهم، ط مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ـ قم المقدسة.

٥١

موسى الكاظمعليه‌السلام عن المسرح السياسي والفكري ، وظاهرة وعّاظ السلاطين هي بديل يرعاه الخليفة ويدعمه بما أوتي من قوة ليغطّي له الفراغ من جانب وتؤيد له سياسته من جانب آخر إذ يوحي للأمة بأنه مع الخط الإسلامي السائر على نهج السنة النبويّة، ووجد من (مالك بن أنس) وأمثاله ممن تناغم معه في الاختيار العقائدي الذي لا يصطدم مع سياسته، ووجد من تجاوب مع رغبته وكال له ولأسرته المديح والثناء، الأمر الذي دفع بالمنصور أن يفرض (الموطأ) على الناس بالسيف ثم جعل لمالك السلطة في الحجاز على الولاة وجميع موظّفي الدولة فازدحم الناس على بابه وهابته الولاة والحكّام وحينما وفد الشافعي عليه فشفّع بالوالي لكي يسهّل له أمر الدخول عليه فقال له الوالي: إني أمشي من المدينة إلى مكة حافياً راجلاً أهون عليّ من أن أمشي إلى باب مالك. ولست أرى الذل حتى أقف على باب داره(١) .

النقطة السادسة:

انتشرت في هذه المرحلة عقائد خاطئة وتأسّست فرق منحرفة من الإلحاد والزندقة والغلوّ والجبرية والإرجاء ، عقائد خاطئة ذات أصحاب تدافع عنها ، ولم تكن كل هذه الاعتقادات وليدة هذا الظرف بالذات، وإنما نشطت في هذا الجوّ المساعد لنموها، حيث كان بعض الخلفاء يتبنى بعضاً منها ويسمح لانتشار البعض الآخر.

فالغلاة يعتقدون بنبوّة الأئمة، وبعده بإلهية جعفر بن محمد الصادق وإلهية آبائه، وهؤلاء قد تبرّأ منهم الإمام الصادق ولعنهم لعناً مشدداً.

لكن السلطات شجعت من جانب ، وألصقت التهمة بهم من جانب آخر بهدف التشويه لحقيقة الشيعة، كما استخدموا هذه التهمة فيما بعد ذريعة ومادّة حكم تبرر لهم اضطهاد الشيعة تحت هذا الاسم فأطلقوا على الشيعة اسم زنادقة ويحق للدولة أن تطاردهم.

ــــــــــــ

(١) الأئمة الأربعة لمصطفى الشكعة: ٢/١٠٠، حياة مالك بن أنس، الفصل الخامس، باب ٦ مهابة مالك، سيرة الأئمة الاثني عشر، هاشم معروف الحسني: ٢/٣٢٦، حياة الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما‌السلام .

٥٢

لقد عاصر الإمام الكاظمعليه‌السلام تيّاراً آخر كان خطيراً على الأمة حاضراً ومستقبلاً وكان قد وقف بوجهه الإمام الصادقعليه‌السلام وحذّر منه الشباب خاصة ألا وهم المرجئة الذين يقولون بتأخير وارجاء صاحب المعصية الكبيرة إلى يوم القيامة فلا يحكمون عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار.

ويحاول أصحاب هذا الاعتقاد أن يخلطوا الأوراق ويدمجوا بين سلوك الخير وسلوك الشر فلا يفرّق بين سلوك الإمام عليعليه‌السلام وسلوك معاوية ولا بين موقف الحسينعليه‌السلام وموقف يزيد; لأن الحكم عليهم في الدنيا ليس من شؤوننا وإنما يترك الأمر ليوم القيامة.

ثم تبنّت هذه الفرقة اعتقاداً آخر لا يقلّ خطورة عن سابقه إذ تكمن خطورته على الشباب خاصة لأن هذا الاعتقاد يفسّر معنى الإيمان المراد عند الله بأنه الإيمان القلبي لا السلوك الخارجي، لأن السلوك الخارجي قد يخادع به الإنسان فالإيمان الذي ينظر إليه الله تعالى هو الإيمان القلبي أمّا الممارسات الخارجية فلا اعتبار لها، فإذا زنا الإنسان أو شرب الخمر أو قتل نفساً فهذه تصرفات خارجية والمهم أن الإنسان يعتقد قلبياً بالله تعالى.

كما روّج في هذه الفترة لفكرة الجبر والتي نشأت في زمن معاوية واستفاد منها بنو العبّاس حيث تقول بأنا لسنا مخيّرين في أفعالنا فإذا شاء الله أن نصلّي صلّينا وإذا شاء أن نشرب الخمر شربنا وهكذا.

الملاحظ في كل هذه العقائد والأفكار وأصحابها أنّها تخدم السلطة كل واحدة بطريقتها حيث تبرّر للحكّام تصرفاتهم البعيدة عن الإسلام بأفكار وأحكام اعتقادية وتهدّئ الجمهور الإسلامي حين توجّهه بهذه الأفكار.

من هنا ندرك السبب الذي جعل من الحكام أن يسمحوا بالانتشار لهذه التيّارات الناشئة من أفكار منحرفة جاء بها اليهود وغيرهم إلى العالم الإسلامي.

هذا هو عرض مختصر للظواهر والأحداث السياسية والثقافية والفكرية، التي برزت في عصر المنصور وكان الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام معاصراً لها.

أمّا ما هو منهج الإمام وأساليبه ومواقفه في خضم هذه الأجواء المملؤة بالشبهات والتهم والتضييق ؟ ! هذا ما سوف نتناوله في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.

٥٣

الفصل الثّاني: مواقف الإمام الكاظمعليه‌السلام في عهد المنصور

إنّ حركة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ونشاطه إزاء هذه الظروف التي تحدثنا عنها لم يسعفنا التاريخ بتفاصيلها ولم يحدّد لنا بالأرقام بشكل واضح حركة الإمام فيها، إلاّ أنّ بعض الروايات التاريخية تشير إلى أن الإمامعليه‌السلام قد مارس أُموراً في سنوات حكم المنصور العشرة بعد استشهاد الإمام الصادقعليه‌السلام .

وقد انتقينا بعض ممارسات الإمامعليه‌السلام التي لا تتعارض مع هذه الفترة وتنسجم مع ظروفها. ثم حاولنا بعد ذلك التركيز على الخط الذي سلكه الإمام بشكل عام تاركين التعرض للتفاصيل.

كما أنّ الخط العام والنهج الذي اتّخذه الإمام في هذه الفترة يتضمّن ما كان يهدف إليه من أسلوب علاجي لبعض الظواهر الانحرافية، كما يتضمّن ما كان يريد أن يؤسّس فيه لثوابت مستقبلية. من هنا يقع الكلام في هذا البحث ضمن عدّة اتجاهات:

الاتّجاه الأوّل: الإمام الكاظمعليه‌السلام وإحكام المواقع

ونتناول في هذا الاتجاه دور الإمامعليه‌السلام في إبرازه للقدرات الغيبية التي تميّز الإمام عن غيره من الأدعياء وزعماء الفرق والطوائف الضالّة في زمانه، وبهذا قد لفت أنظار الأمة وأعطاها حسّاً تقارن وتحاكم به هذه التيّارات وتفرز بين الحق والباطل بما أمتلكته من مقاييس مستلهمة من مشاهد مثيرة حسية كان قد حققها الإمامعليه‌السلام .

٥٤

وهذا ينبئ عن محاولات إسقاط الحيرة الفكرية السائدة في هذه الفترة. والنشاطات التي قام بها الإمامعليه‌السلام في هذا الاتجاه هي كما يلي:

النشاط الأول: إخبار الإمام موسىعليه‌السلام لعامة الناس ببعض الغيبيات التي لا يمكن للإنسان العادي أن يتوصّل إليها، والروايات التي تتضمّن هذا النوع من الإخبار كثيرة جداً ننقل بعضاً منها:

المثال الأول: عن إسحاق بن عمار قال: (سمعت العبد الصالحعليه‌السلام ينعى إلى رجل من شيعته نفسه، فقلت في نفسي: وإنه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته ! فالتفت إلي شبه المغضَب فقال:يا إسحاق قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا والبلايا والإمام أولى بعلم ذلك ، ثم قال: يا إسحاق اصنع ما أنت صانع فإنّ عمرك قد فنى وقد بقي منه دون سنتين ... فلم يلبث إسحاق بعد هذا المجلس إلاّ يسيراً حتى مات)(١) .

المثال الثاني: قال خالد بن نجيح: قلت لموسىعليه‌السلام إنّ أصحابنا قدموا من الكوفة وذكروا أن المفضّل شديد الوجع، فادع الله له. فقالعليه‌السلام :(قد استراح) ،

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٤٨٤، ح ٧، وفي الخرائج والجرائح: ١/٣١٠، ح ٣: إسحاق بن منصور، وفي إثبات الهداة: ٥/٥٤١، ح ٧٨: إسماعيل بن منصور عن أبيه. وفي بحار الأنوار: ٤٨/٦٨، ح ٩٠ ـ ٩١ عن الكافي والخرائج.

٥٥

وكان هذا الكلام بعد موته بثلاثة أيّام(١) .

المثال الثالث: قال ابن نافع التفليسي: خلّفت والدي مع الحرم في الموسم وقصدت موسى بن جعفرعليه‌السلام فلما أن قربت منه هممت بالسلام عليه فأقبل عليّ بوجهه وقال:(برّ حجك يا ابن نافع، آجرك الله في أبيك فإنّه قد قبضه إليه في هذه الساعة، فارجع فخذ في جهازه) ، فبقيت متحيراً عند قوله، وقد كنت خلّفته وما به علّة، فقال:يا ابن نافع أفلا تؤمن؟ فرجعت فإذا أنا بالجواري يلطمن خدودهنّ فقلت: ما وراكنّ؟ قلن: أبوك فارق الدنيا، قال ابن نافع: فجئت إليه أسأله عمّا أخفاه ورائي فقال لي:أبداً ما أخفاه وراءك ، ثم قال:يا ابن نافع إن كان في أمنيتك كذا وكذا أن تسأل عنه فأنا جنب الله وكلمته الباقية وحجته البالغة )(٢) .

النشاط الثاني: ومن قدرات الإمامعليه‌السلام الخارقة للعادة والتي تميّزه أيضاً عن غيره هي تكلّمه بعدّة لغات من غير أن يتعلّمها بالطرق الطبيعية للتعلّم، وإنّما بالإلهام. وفي هذا المجال تطالعنا مجموعة من الشواهد:

الشاهد الأول: عن أبي بصير قال: دخلت على أبي الحسن الماضيعليه‌السلام ، ما لبثت أن دخل علينا رجل من أهل خراسان فتكلّم الخراساني بالعربية، فأجابه هو بالفارسية. فقال له الخراساني: أصلحك الله ما منعني أن أكلمك بكلامي إلاّ أني ظننت أنك لا تحسن ، فقال:(سبحان الله! إذا كنت لا أحسن أن أجيبك فما فضلي عليك؟!) ، ثم قال:(يا أبا محمد ، إنّ الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة

ــــــــــــ

(١) بصائر الدرجات: ٢٦٤ ح ١٠، واخبار معرفة الرجال: ٣٢٩ ح ٥٩٧، والخرائج والجرائح: ٢/٧١٥ ح ١٣، وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٧٢.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ٤/٣١١ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨/٧٢.

٥٦

ولا شيء فيه روح بهذا يعرف الإمام ، فإذا لم تكن فيه هذه الخصال فليس هو بإمام) (١) .

الشاهد الثاني: روي عن أبي حمزة أنه قال: كنت عند أبي الحسن موسىعليه‌السلام إذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبشة اُشتروا له، فتكلم غلام منهم ـ وكان جميلاً ـ بكلام فأجابه موسىعليه‌السلام بلغته فتعجّب الغلام وتعجّبوا جميعاً وظنوا أنه لا يفهم كلامهم. فقال له موسىعليه‌السلام :(إني أدفع إليك مالاً، فادفع إلى كل (واحد )منهم ثلاثين درهماً) . فخرجوا وبعضهم يقول لبعض: (إنّه أفصح منا بلغتنا، وهذه نعمة من الله علينا. قال علي بن أبي حمزة: فلما خرجوا قلت: يا ابن رسول الله! رأيتك تكلم هؤلاء الحبشيين بلغاتهم ! قال:نعم. وأمرت ذلك الغلام من بينهم بشيء دونهم؟ قال:نعم أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً وأن يُعطي كل واحد منهم في كل شهر ثلاثين درهماً، لأنّه لمّا تكلم كان أعلمهم، فإنه من أبناء ملوكهم، فجعلته عليهم، وأوصيته بما يحتاجون إليه، وهو مع هذا غلام صدق . ثم قال:لعلك عجبت من كلامي إياهم الحبشية ؟ قلت: إي والله. قالعليه‌السلام :(لا تعجب فما خفي عليك من أمري أعجب وأعجب) (٢) .

الشاهد الثالث: قال بدر ـ مولى الإمام الرضاعليه‌السلام ـ: (إنّ إسحاق بن عمار دخل على موسى بن جعفرعليه‌السلام فجلس عنده إذ استأذن عليه رجل خراساني

ــــــــــــ

(١) قرب الإسناد: ٢٦٥، ح ١٢٦٣ وعنه في بحار الأنوار: ٢٥/١٣٣، ح ٥، واثبات الهداة: ٥/٥٣٥ ح ٧٢.

(٢) قرب الإسناد: ٢٦٢، ح ١٢٥٧ وعنه في بحار الأنوار: ٢٦/١٩٠ و ٤٨ / ١٠٠، ودلائل الإمامة: ١٦٩، والخرائج والجرائح: ١/٣١٢، ح ٥ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٧٠.

٥٧

يكلّمه بكلام لم يسمع مثله قطّ كأنه كلام الطير.

قال إسحاق: فأجابه موسىعليه‌السلام بمثله وبلغته إلى أن قضى وطره في مساءلته، فخرج من عنده، فقلت: ما سمعت بمثل هذا الكلام.

قال:هذا كلام قوم من أهل الصين وليس كل كلام أهل الصين مثله .

ثم قال:أتعجب من كلامي بلغته ؟ قلت: هو موضع التعجب.

قالعليه‌السلام :أُخبرك بما هو أعجب منه إن الإمام يعلم منطق الطير، ومنطق كلّ ذي روح، وما يخفى على الإمام شيء (١) .

الاتّجاه الثاني: الإمام الكاظمعليه‌السلام ومعالجة الانهيار الأخلاقي

لقد أصاب القيم الإسلامية ـ بفعل الأسباب التي ذكرناها ـ اهتزاز كبير وتعرّضت الأمة إلى هبوط معنوي وتميّع مشهود، تغذّيه وتحركه أيد سلطانية هادفة، هنا سلك الإمام الكاظمعليه‌السلام سبيلين من أجل أن يحدّ من هذا الانهيار الذي تعرّضت له الأمة.

الأول عام. والثاني يختص بالجماعة الصالحة.

وقد اتّخذ الإمامعليه‌السلام أساليب عديدة للموعظة والإرشاد ومعالجة الانهيار الأخلاقي الذي أخذ ينتشر ويستحكم في أعظم الحواضر الإسلامية التي كان الإمامعليه‌السلام يتواجد فيها.

واستطاع الإمامعليه‌السلام من خلال توجيهه لمجموعة من طلاّب الحقيقة وتأثيره عليهم أن يربّي في المجتمع الإسلامي نماذج حيّة تكون قدوة للناس في كبح جماح الشهوات الهائجة وإطفاء نيران الهوى المشتعلة بسبب

ــــــــــــ

(١) دلائل الإمامة: ١٧١ وعنه في مدينة المعاجز: ٤٣٨ ح ٣٨، والخرائج والجرائح: ١ / ٣١٣، ح ٦ وعنه في كشف الغمة: ٢/٢٤٧ وبحار الأنوار: ٤٨/٧٠، ح ٩٤.

٥٨

المغريات المتنوّعة والتي كان يؤججها انسياب الحكّام في وادي الهوى نتيجة للثروات التي كانوا يحرصون على جمعها ويقتّرون في إنفاقها إلاّ على شهواتهم إلى جانب اقتدارهم السياسي والعسكري.

وممّن تأثّر بالإمام الكاظمعليه‌السلام ولمع اسمه في حواضر المجتمع الإسلامي ; أبو نصر بشر بن الحارث بن عبد الرحمن المروزي الأصل البغدادي المسكن والذي أصبح من العرفاء الزهّاد بعد أن كان من أهل المعازف والملاهي، حيث تاب على يدي الإمام الكاظمعليه‌السلام (١) .

وقد ذكر المؤرخون في سبب توبته أن الإمامعليه‌السلام حين اجتاز على داره ببغداد سمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تعلو من داره، وخرجت منها جارية وبيدها قمامة فرمت بها في الطريق، فالتفت الإمام إليها قائلاً:(يا جارية: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟) فأجابت: (حر). فقالعليه‌السلام :صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه . ودخلت الجارية الدار، وكان بشر على مائدة السكر، فقال لها: ما أبطأك؟ فنقلت له ما دار بينها وبين الإمامعليه‌السلام فخرج بشر مسرعاً حتى لحق الإمامعليه‌السلام فتاب على يده، واعتذر منه وبكى(٢) وبعد ذلك أخذ في تهذيب نفسه واتصل بالله عن معرفة وإيمان حتى فاق أهل عصره في الورع والزهد).

وقال فيه إبراهيم الحربي: ما أخرجت بغداد أتمّ عقلاً، ولا أحفظ لساناً، من بشر بن الحارث كان في كل شعرة منه عقل(٣) .

ــــــــــــ

(١) الكنى والألقاب: ٢/٦٧.

(٢) الكنى والألقاب: ٢ / ١٦٧.

(٣) تأريخ بغداد: ٧ / ٧٣.

٥٩

نعم، لقد أعرض بشر ببركة توجيه الإمام الكاظمعليه‌السلام له وتنبيهه عن غفلته حتى أعرض عن زينة الحياة الدنيا ورضي بالقناعة وقال فيها:لو لم يكن في القناعة شيء إلاّ التمتع بعز الغناء (الغنى)لكان ذلك يجزي .

وقال:(مروءة القناعة أشرف من مروءة البذل والعطاء) (١) .

وممّا رواه الخطيب البغدادي عنه أنه جعل يبكي يوماً ويضطرب ويقول:(اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا ونوّهت باسمي ورفعتني فوق قدري على أن تفضحني في القيامة، الآن فعجّل عقوبتي وخذ منّي بقدر ما يقوى عليه بدني) (٢) .

وروى عن حجّاج بن الشاعرأ نّه كان يقول لسليمان اللؤلؤي: رؤي بشر بن الحارث في النوم فقيل له: ما فعل الله بك يا أبا نصر؟ قال: غفر لي، وقال: يا بشر: ما عبدتني على قدر ما نوّهت باسمك(٣) .

وإذا تتبّعنا ما أثر عن الإمام الكاظمعليه‌السلام من كلمات وجدنا نصوصاً تشير إلى اهتمامه بمعالجة الفساد الأخلاقي بشتّى نواحيه، فضلاً عن سيرته العطرة وسلوكه السويّ الذي كان قبلة للعارفين وأسوة للمتقين وشمساً مضيئة للمؤمنين وقمراً متلألئاً للمسلمين.

ونختار ممّا قاله الإمامعليه‌السلام بصدد معالجة الانهيار الأخلاقي ما يلي:

١ ـ(إنّ العاقل: الذي لا يشغل الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره) .

٢ ـ(من سلّط ثلاثاً على ثلاث فكأنّما أعان هواه على هدم عقله) .

(من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه وأطفأ

ــــــــــــ

(١) تاريخ بغداد: ٧/٧٩.

(٢) تاريخ بغداد: ٧/٨١.

(٣) تاريخ بغداد: ٧/٨٣.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

المقام السادس

في سرد الأحاديث الواردة حول الآية

لقد بانت الحقيقة بأجلى مظاهرها وبان الصبح لذي عينين، ولم يبق شك لمشكك في أنّ الآية تهدف إلى طلب المودّة لأقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد كان الأوّلون لا يرتضون للآية غير هذا المعنى، وهم العرب الأقحاح، الذين يعرفون معنى الآية بأذواقهم العربية.

ومن راجع كتب التفسير والحديث يرى أنّ الرأي العام عند علماء الإسلام وأساطين التفسير لم يكن سوى هذا المعنى، ولذلك اختصروا في تفسير الآية بالمأثورات، ولكن لا يسعنا نقل جميعها في هذه الصحائف، كيف ؟ وقد نقل المحدث الخبير السيد هاشم البحراني سبعة عشر حديثاً من طرق السنّة، واثنين وعشرين حديثاً من طرق الشيعة، كلّها تنصُّ على الرأي المختار(١) .

وقد جمع العلّامة الأميني طرق الحديث ونصوصه وكلمات العلماء، حول الآية في كتابه القيِّم « الغدير » الجزء الثاني والثالث(٢) .

وقد استقصى بعض الأجلّة في تعاليقه على إحقاق الحق(٣) مصادر الحديث

__________________

(١) غاية المرام: ٣٠٧ ـ ٣١٠.

(٢) الغدير: ٢ / ٢٨٠، ٣ / ١٥١ ـ ١٥٣ طبعة النجف.

(٣) إحقاق الحق: ٣ / ٢ ـ ١٨.

٨١

من طرق أهل السنّة فتجاوزت خمسين مصدراً لأعلام الحديث، شكر الله مساعي الجميع، ولا يسعنا نقل ما وقفنا عليه برمته غير أنّنا نقتطف ما يلي :

الأحاديث الواردة في تفسير الآية على قسمين: قسم يصرّح بأنّ الآية وردت في حق علي وفاطمة وابنيهما، وقسم يدلُّ على نزولها في أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من دون تسمية لأسمائهم.

أمّا القسم الأوّل فإليك بيانه :

روى الإمام أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة، عن جبير بن عامر قال: لما نزلت:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) قالوا: يا رسول الله من قرابتك من هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال: « علي وفاطمة وابناهما: ». قالها ثلاثاً(١) .

روى الزمخشري في تفسيره حول الآية: روي أنّها لما نزلت قيل: يا رسول الله من قرابتك ؟ ومن هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال: « علي وفاطمة وابناهما ». ونقله الإمام الرازي في تفسيره ج ٢٧، ص ١٦٦.

وقد نقل ابن بطريق في العمدة عن تفسير الثعلبي نزول الآية في حقهم بالعبارة المتقدّمة.

وقد اقتفى أثرهم في هذا النقل الشيخ كمال الدين في مطالب السؤول ص ٨، فصرح بنزول الآية فيهم بالعبارة الماضية، ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص ٢٥، والعلاّمة النسفي في تفسيره ص ٩٥ بهامش تفسير الخازن، والحمويني في كفاية الخصام ص ٩٦، ونظام الدين النيسابوري في تفسيره المطبوع بهامش تفسير الطبري ج ٢٥ ص ٣١، وأبو حيان في البحر المحيط ج ٧ ص

__________________

(١) مسند الإمام أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة: ٢١٨.

٨٢

٥١٦، وابن كثير الدمشقي في تفسيره ج ٤ ص ١١٢، والهيثمي في مجمع الزوائد ج ٥ ص ١٦٨، إلى غير ذلك من أعلام الحديث وحفاظه.

وكلّهم ينصُّ على نزول الآية في حقهم، بأشخاصهم.

وأمّا القسم الثاني ، الذي يدلّ على نزول الآية في أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على وجه عام، فإليك بعضها :

روى محب الدين الطبري في الذخائر ص ٢٥، وابن حجر في الصواعق ص ١٢٠، و ١٣٦: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « إنّ الله جعل أجري عليكم المودّة في أهل بيتي وإنّي سائلكم غداً عنهم ».

وروى الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٩ص ١٤، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ١٦٦، والحافظ الكنجي في الكفاية ص ٣٢، وابن حجر في الصواعق ص ١٠١ و ١٣٦: انّ الحسن بن علي خطب بعد شهادة أبيه بقوله: « أيّها الناس لقد فارقكم رجل ما سبقه الأوّلون ولا يدركه الآخرون ـ إلى أن قال ـ وإنّا من أهل البيت الذين افترض الله عزّ وجلّ مودّتهم وولايتهم، فقال فيما أنزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله :( قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرَاً إلّا المَؤدَّةَ فِي القُرْبَى ) ».

وأخرج الطبري في تفسيره ج ٢٥ ص ١٦ باسناده عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين ـ رضي الله عنهما ـ أسيراً فأُقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام، فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرني الفتنة، فقال له علي بن الحسين ـ رضي الله عنه ـ: « أقرأت القرآن؟ » قال: نعم. قال: « أقرأت آل حم » قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم. قال: « ما قرأت:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) » قال: وأنّكم لأنتم هم ؟ قال: « نعم ».

وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ج ٦ ص ٧، وابن حجر في الصواعق ص ١٠١، وص ١٣٦، والزرقاني في شرح المواهب.

٨٣

وروى الطبري في تفسيره ج ١٢ ص ١٦ و ١٧، عن سعيد بن جبير، وعمرو ابن شعيب، أنّهما قالا: هي قربى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ورواه البخاري في صحيحه ج ٦ ص ١٢٩، عن سعيد بن جبير: أنّها قربى آل محمد.

وقال الرازي: لا شك أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحب فاطمةعليها‌السلام ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها » وثبت بالنقل المتواتر، عن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يحب علياً والحسن والحسين، وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمّة مثله لقوله تعالى:( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ولقوله تعالى:( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) ولقوله:( إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) ، ولقوله سبحانه:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .

ثم قال: إنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة، وهو قوله: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمداً وآل محمد، وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل، فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمد واجب، وقال الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ :

يا راكباً قف بالمحصب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضاً كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حب آل محمد

فليشهد الثقلان أنّي رافضي(١)

ولو أنّ القارئ الكريم أضاف إلى هذا الجم الغفير من الأحاديث التي اكتفينا بنقل النزر اليسير منها، ما رواه أئمّة الحديث من الشيعة لوجد الحديث في

__________________

(١) مفاتيح الغيب: ٧ / ٣٩٠ ـ ٣٩١.

٨٤

أعلى درجة الاستفاضة والتواتر، فلا يبقى لقائل شك في أنّ المراد من القربى أقرباء النبي، ولا من المودّة إظهار الحب إليهم، نعم قد يصعب على بعض من لا خبرة له بالحديث والتفسير قبول هذه القضية في حق آل طه وياسين.

وقد أشار النبهاني في خطبة كتابه إلى ذلك البعض وقال: ومن هذا القبيل ما وقع في عصرنا في القسطنطينية سنة سبع وتسعين ومائتين وألف هجرية من قوم جهّال غرقوا من أحوال البغضاء لآل محمد في أوحال، فأخذوا يتأوّلون بجهلهم ما ورد من الآيات والأخبار في فضل أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي ومنبع الحكمة، ويخرجونها عن ظواهرها بأفهامهم السقيمة، وآرائهم الذميمة، ومع ذلك فقد زعموا أنّهم لأهل البيت من أهل المحبة والوداد، ولم يعلموا أنّهم هائمون من الخذلان في كل واد(١) . والحق ينطق منصفاً وعنيداً.

__________________

(١) الشرف المؤبد راجع الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء: ٣٧.

٨٥
٨٦

٢

معاجز النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

وكراماته

٨٧

في هذا الفصل :

١. دعوة الأنبياء والقيام بالمعاجز والكرامات.

٢. قساوسة الغرب ومعاجز النبي الأكرم.

٣. المحاسبة العقلية تفند مزاعم القساوسة.

٤. القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن: انشقاق القمر، معراجه، ومباهلته مع نصارى نجران.

٥. مطالبة النبي الإتيان بالمعجزة بعد الأخرى.

٦. الكفّار يصفون معاجز النبي بالسحر.

٧. النبي الأعظم وبيّناته.

٨. إخبار النبي عن الغيب كالمسيح.

٩. معاجز الرسول الأعظم في الأحاديث.

١٠. امتياز الأحاديث الإسلامية ـ حول معاجز النبي ـ عن أحاديث اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم.

٨٨

النبي الأكرم ومعاجزه وكراماته

شهد التاريخ البشري أُناساً ادّعوا النبوة كذباً ودجلاً، واتَّخذوا ميل الإنسان الفطري نحو قضايا الدين ذريعة للوصول إلى مآربهم، وجعلوا سذاجة بعض الأمم والجماعات، وسيلة لتغطية دجلهم وكذبهم.

لا شك أنّ تمييز الحق من الباطل والصادق من الكاذب، وتشخيص النبي الحقيقي عن المتنبئ والمنتحل للنبوة كذباً ودجلاً، يحتاج إلى ضوابط ودلائل ومعايير.

وقد كان هناك طرق ووسائل ظلت البشرية تتوسل بها لمعرفة الحقيقة واستجلاء الصواب، وكان الإتيان بالمعجزة في طليعة تلكم الطرق، حيث كانت إحدى الطرق التي تثبت بها صحة دعوى النبوة وإن لم تكن الطريق الوحيد.

والمعجزة هي: العمل الخارق للعادة، الذي يعجز عن الإتيان به البشر حتى النوابغ والعباقرة.

وهناك تعاريف أُخر ربّما تكون أكمل من هذا التعريف، ولسنا بصدد تحديدها على وجه الدقة، والمهم هو أن نعرف أنّ المعجزة كان أوّل ما يطالب بها مَن يدّعي النبوة كوثيقة تثبت صدق مدّعاه، وصحّة انتسابه إلى الله، إذا قام بها، دون تهرّب وتملّص، فها هو القرآن يحدثنا أنّ صالحاً عندما حذر قومه من سخط الله، وأخبرهم بأنّه رسوله إليهم، طالبوه بالمعجزة قائلين:( مَا أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا

٨٩

فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (١) .

وقد وردت آيات أُخرى بهذا المضمون في سور شتّى.

ولأجل ذلك كان الأنبياء لا يتأخرون عن تلبية هذا الطلب الطبيعي والمنطقي، بل يبادرون إلى إظهار معاجز حسبما تقتضيه الظروف مبرهنين بذلك على صحّة دعواتهم وصدق أقوالهم، بينما ينكص الكذابون ومنتحلو النبوة، وتخيب مساعيهم.

وقد جرت سيرة الناس مع النبي الأكرم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك، حيث طالبوه بالمعاجز في بدء دعوته، وكان الرسول العظيم يلبي طلبهم، ويأتي بمعاجز عديدة يشهدها الناس ويرونها بأعينهم.

وبالرغم من كثرة هذه المعاجز ـ التي وقعت على يد رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في موارد كثيرة ـ أبى بعض من ناوأ الإسلام إلّا إنكار هذه المعجزات، وادّعاء أنّ نبي الإسلام لم يأت بمعجزة سوى القرآن فقط.

إنّ هذه الشبهة حول معاجز الرسول الكريم طرحت من جانب الكتّاب المسيحيين، تقليلاً من أهمية الدعوة المحمدية، وحطاً من شأن الرسول ومكانته وعظمته، فإذا بهم يزعمون أنّ معاجز النبي كانت تنحصر في القرآن دون سواه، وانّه كلما طالبه قومه بأن يأتي لهم بمعجزة، أحالهم على القرآن ولم يظهر أيّة معجزة سواه.

فها هو « فندر » القسيس الألماني المعروف يقول في كتابه ميزان الحق ص ٢٧٧ ـ وهو كتاب حول حياة الرسول ـ: إنّ من شروط النبوة أن يأتي مدّعيها بمعجزة لإثبات مدّعاه، ولكن محمداً لم يأت بأيّة معجزة قط.

__________________

(١) الشعراء: ١٥٤.

٩٠

ثمّ استشهد بآيات في سورة العنكبوت والإسراء والأنعام وغيرها، ممّا سنفرد لدراستها فصلاً خاصاً بعد هذا الفصل.

على أنّ « فندر » لم ينفرد بطرح هذه الشبهة، بل طرحها قساوسة آخرون قبله وبعده.

وقد ذكر فخر الإسلام: أنّ المسيو « جورج دوروي » رسم في ص ١٥٧ من كتابه صورة خيالية عن النبي الأكرم بيده ورقة من القرآن الكريم، وكتب تحت الصورة هكذا: كان محمد كلّما طالبه قومه بمعجزة ردّهم قائلاً: ليس لي أن آتيكم بمعجزة إلّا بإذن الله، ولكن الله لم يمن عليّ بهذه النعمة، أي نعمة إظهار المعاجز(١) .

وبهذه الكيفية حاول المسيو « جورج دوروي » المسيحي أن ينفي معاجز النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن ما نقله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتألف من صحيح وسقيم.

أمّا الصحيح: فهو قوله في جواب قومه: إنّه ليس لي أن آتيكم بمعجزة إلّا بإذن الله. وذلك أمر يؤيده القرآن حيث يقول سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) (٢) .

وأمّا السقيم: فهو ما ألحقه بكلام الرسول افتراءً عليه، وهو قوله: ولكن الله لم يمنّ عليّ بهذه النعمة ولم يعطني أية معجزة.

فإنّ هذا الكلام المنقول عن لسان النبي تقوّل على رسول الله، وقد دلّت شواهد كثيرة على أنّه أتى بمعاجز كثيرة لقومه يوم طلبوا منه ذلك، ولم يكن شأنه إلّا شأن سائر الأنبياء والرسل.

__________________

(١) أنيس الأعلام: ٥ / ٣٥١ لفخر الإسلام وهو قس مسيحي أسلم وكتب حول النصرانية، وما فيها من تناقضات وخرافات، كتابه القيم « أنيس الأعلام » وغيره من الكتب القيمة.

(٢) الرعد: ٣٨.

٩١

ثمَّ إنّ القسيس « أنار كلي » مؤلف كتاب « مشكاة الصدق » الذي طبع في لاهور سنة ١٩٠١م قد بسط الكلام في هذا الباب، فهو ـ بعد أن طرح الشبهة في كتابه واستشهد بآيات من القرآن على مزعومه ـ قال: إنّ محمداً كلّما طالبه قومه بأن يأتي لهم بمعجزة لاذ بالصمت، أو تهرّب من ذلك الطلب، مكتفياً بقوله: « إنّما أنا بشر مثلكم » و « إنّما إنا منذر » إلى غير ذلك من العبارات.

وسوف نقوم بتحليل هذه الآيات التي استند إليها « انار كلي » في مزعومه.

أجل هكذا سعى الكتّاب المسيحيون إلى إنكار معاجز الرسول، ونفوا أن تكون له معجزة أُخرى سوى القرآن، فهل هم على حق فيما يزعمون ؟ بكل تأكيد لا، لأنّ المحاسبة العقلية ـ قبل أي دليل ـ تفنّد هذه المزعمة، وتثبت نفس المحاسبة أنّ الرسول الأعظم كان صاحب معاجز أُخرى عدا القرآن الكريم ( معجزته الخالدة )، وإليك بيانها.

المحاسبة العقلية تفند مزعمة القساوسة :

إنّ الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وصف نفسه بأنّه خاتم الأنبياء، وأنّ رسالته خاتمة الرسالات، وكتابه خاتم الكتب، حسبما أوردنا أدلّته في الجزء الثالث من هذه السلسلة(١) .

ثم أخبر عن وقوع معاجز على أيدي الرسل والأنبياء، حيث قال في شأن موسىعليه‌السلام :( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) (٢) . وقال أيضاً:( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ) (٣) .

__________________

(١) لاحظ مفاهيم القرآن: ٣ / ١١٨ ـ ١٨٠.

(٢) الإسراء: ١٠١.

(٣) النمل: ١٢.

٩٢

ثم إنّه عندما يتحدّث عن المسيح ودعوته، يصفه بوحي من الله بقوله:( وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) (١) .

ثمَّ إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يخص هذين النبيين العظيمين بالإتيان بالمعاجز، بل أثبتها لكثير من الأنبياء من قبله كما هو لائح لمن سبر أحوالهم في القرآن المجيد.

وعند ذلك، كيف يكون للنبي الأعظم وهو يخبر بهذه المعاجز للأنبياء ويصف نفسه بأنّه خاتمهم وآخرهم، وأفضلهم، إذا طلبوا منه إظهار المعجزة، أن ينكص ويتهرّب، أو يلوذ بالصمت، أليس في مثل هذا ما يوهن دعوته، وينقض أقواله ؟

لو فرضنا أنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن إلّا نابغة من النوابغ الذين نهضوا لإصلاح أُمّتهم متستراً برداء النبوة، لما كان يصح منه أن يخبر بمعاجز للأنبياء الماضيين ثم ينكص هو نفسه عن الإتيان بمثلها، ومع ذلك يزعم أنّه خاتمهم وأكملهم ديناً، فكيف وهو نبي صدقاً وحقاً، قد بانت دلائل صدق دعوته، بأوضح الدلائل وأتقن البراهين ؟

فالمحاسبة العقلية تحكم ببطلان ما زعمه القساوسة، بل تثبت بكل قوّة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أظهر معاجز عديدة لقومه عندما طلبوا منه ذلك، كيف، والقرآن يصفه بما لا يصف به أحداً من أنبيائه ؟ وهو يقتضي عقلاً أن يكون له مثل ما أُوتي سائر الأنبياء، وأن يكون قد أتى بها مبرهناً على صدق دعوته خصوصاً إذا توقفت هداية قومه على إظهار معاجزه.

__________________

(١) آل عمران: ٤٩.

٩٣

ولهذا السبب كان منتحلو النبوة ـ كذباً ـ ينكرون معاجز الأنبياء، أو يتأوّلونها تخلّصاً من الإحراج إذا طالبهم الناس بالمعجزة، على العكس من سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقواله الذي أخبر بصراحة عن معاجز الأنبياء بالتفصيل، كما أخبر أنّ دعوات الأنبياء ما كانت تنفك عن طلب المعاجز منهم، فما من نبي راح ينذر قومه إلّا وطالبوه بأن يظهر لهم معجزة يبرهن بها على صدق مدّعاه وصدق رسالته، وقد أسلفنا بعض الآيات في هذا المورد.

القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن

إنّ القرآن يخبر ـ بصراحة ـ عن وقوع معاجز غير القرآن على يدي الرسول الأمين، وإليك الآيات القرآنية الواردة في هذا المورد :

١. انشقاق القمر

قال سبحانه:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ *وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ *وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ *وَلَقَدْ جَاءَهُم مِنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) (١) .

أطبق المفسّرون مثل الزمخشري في كشافه، والطبرسي في مجمعه والرازي في مفاتيحه على ما يلي :

اجتمع المشركون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فلقتين. فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن فعلت تؤمنون ؟ » قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فلقتين، ورسول الله ينادي: « يا فلان يا فلان اشهدوا ».

__________________

(١) القمر: ١ ـ ٤.

٩٤

وقال ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله شقتين، فقال لنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اشهدوا اشهدوا ».

ونقل عن ابن مسعود أنّه قال: والذي نفسي بيده لقد رأيت حرّاء بين فلقتي القمر.

وعن جبير بن مطعم: انشق القمر على عهد رسول الله حتى صار فلقتين على هذا الجبل، وعلى هذا الجبل، فقال ناس: سحرنا محمد، فقال رجل: إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلَّهم.

وقد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة، منهم: عبد الله ابن مسعود، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وابن عباس، وجبير ابن مطعم، وعبد الله بن عمر، وعليه جماعة المفسرين، إلى أن قال: فلا يعتد بخلاف من خالف فيه، لأنّ المسلمين أجمعوا على ذلك، والطعن في ذلك بأنّه لو وقع انشقاق القمر في عهد رسول الله لما كان يخفى على أحد من أهل الأقطار، قول باطل، فيجوز أن يكون الله تعالى قد حجبه عن أكثرهم بغيم وما يجري مجراه، ولأنّه قد وقع ذلك ليلاً، فيجوز أن يكون الناس نياماً فلم يعلموا بذلك، على أنّ الناس ليس كلّهم يتأملون ما يحدث في السماء وفي الجو من آية وعلامة، فيكون مثل انقضاض الكواكب وغيره مما يغفل الناس عنه، وإنّما ذكر سبحانه اقتراب الساعة مع انشقاق القمر، لأنّ انشقاقه من علامة نبوة نبينا، ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة(١) .

وما ذكره من الاعتذار في عدم رؤية أكثر الناس انشقاق القمر مبني على ما كان يعتقده علماء الفلك في الأزمنة السابقة من كون الأرض مسطحة لا كروية بحيث إذا طلع البدر يطلع على الناس كلّهم، وإذا غرب غرب عنهم جميعاً في

__________________

(١) مجمع البيان: ٥ / ١٨٦.

٩٥

وقت واحد، وهذا مرفوض لكروية الأرض.

وقال الرازي: المفسّرون بأسرهم على أنّ المراد: انّ القمر انشق وحصل فيه الانشقاق، ودلّت الأخبار على حديث الانشقاق، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة، وقالوا: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله آية الانشقاق بعينها معجزة، فسأل ربّه فشقه، ومضى.

وقال بعض المفسّرين المراد سينشق، وهو بعيد ولا معنى له، لأنّ من منع ذلك ـ وهو الفلسفي ـ يمنعه في الماضي والمستقبل، ومن يجوزه لا يحتاج إلى التأويل، وإنّما ذهب إليه ذلك الذاهب لأنّ الانشقاق أمر هائل، فلو وقع لعم وجه الأرض فكان ينبغي أن يبلغ حد التواتر، نقول: النبي لما كان يتحدّى بالقرآن وكانوا يقولون: إنّا نأتي بأفصح ما يكون من الكلام وعجزوا عنه، فكان القرآن معجزة باقية إلى قيام القيامة لا يتمسك بمعجزة أُخرى، فلم ينقله العلماء بحيث يبلغ حد التواتر، وأمّا المؤرّخون فتركوه، لأنّ التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم، وهو لما وقع الأمر قالوا بأنّه مثل خسوف القمر وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر فتركوا حكايته في تواريخهم، والقرآن أدلّ دليل وأقوى مثبت له، وإمكانه لا يشك فيه، وقد أخبر عنه الصادق، فيجب اعتقاد وقوعه، وحديث امتناع الخرق والالتئام حديث اللئام، وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السماوات(١) .

وقال الزمخشري: إنّ أنس بن مالك قال: إنّ الكفار سألوا رسول الله آية فانشق القمر مرتين، قال ابن عباس: انفلق فلقتين: فلقة ذهبت وفلقة بقيت. وقال ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتي القمر. وعن حذيفة انّه خطب بالمدائن وقال: ألا إنّ الساعة قد اقتربت، وانّ القمر قد انشق على عهد نبيكم(٢) .

__________________

(١) مفاتيح الغيب: ٧ / ٧٤٨.

(٢) الكشاف: ٣ / ١٨٩.

٩٦

هذه عبائر أشهر المفسّرين الذين أسميناهم، ومثلها غيرهم، ونحن لا يهمنا البحث في تفاسير هذه المعجزة، ولا الاعتراضات الطفولية التي تثار حولها، إنّما يهمنا أن نبحث في دلالة الآيات المذكورة على وقوع هذه المعجزة العظمى على يد الرسول الكريم.

أمّا قوله سبحانه:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) فمعناه أنّ الساعة ـ أي القيامة ـ قد قربت وقرب موعد وقوعها، وإن كان الكفّار يتصورونه بعيداً، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في موضع آخر حيث قال:( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً *وَنَرَاهُ قَرِيباً ) (١) .

وأمّا قوله:( وَانشَقَّ القَمَرُ ) يدل على وقوع انشقاق القمر، لأنّه فعل ماض ولا وجه لحمله على المستقبل، بأن يكون المراد سينشق القمر في المستقبل أي عند وقوع القيامة، لأنّ إرادة المضي من لفظ انشق أولى، للمناسبة بينها وبين الجملة السابقة:( اقْتَرَبَتِ ) وحمل الثاني( انشَقَّ ) على المستقبل نوع مجاز، وإن كان بادّعاء كونه محقق الوقوع، وأمّا وجه الربط بين الجملتين فهو ما أشار إليه أمين الإسلام الطبرسي في مجمعه من أنّ انشقاقه من علامة نبوة نبينا، ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة.

وبهذا يكون القرآن قد أخبر في هذه الآية عن تحقق هذين الشرطين: ظهور نبي الإسلام، وانشقاق القمر بيده، وإنّهما من أشراط الساعة كما يقول في آية أُخرى:( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) (٢) .

وعندئذ لا مجال لحمل الجملة( انشَقَّ ) على المستقبل.

أضف إلى ذلك أنّ قوله تعالى:( وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ

__________________

(١) المعارج: ٦ ـ ٧.

(٢) محمد: ١٨.

٩٧

مُسْتَمِرٌّ ) أوضح شاهد على وقوع هذه المعجزة « انشقاق القمر » في عهد الرسول، لأنّ المقصود من الآية في قوله( وَإِن يَرَوْا آيَةً ) غير القرآن من المعاجز، بدليل أنّه يقول:( وَإِن يَرَوْا ) ولو كان المراد من الآية هي الآيات القرآنية لكان اللازم أن يقول: وان سمعوا آية، أو تنزّلت عليهم آية، وعلى هذا تكون الآية المرئية هي انشقاق القمر الذي سبق ذكره في الآية السابقة.

ثم إنّ الدقة والإمعان في قوله تعالى:( يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) يقودنا إلى الإذعان بأنّ ظرف هذا الحدث « انشقاق القمر » إنّما هو هذا العالم الدنيوي، وقبل بعث الناس وحشرهم حتى يكون مجال للناس أن يتفوّهوا بغير الحق، ويقولوا هذا سحر مستمر، وأمّا الآخرة فليس هناك لأحد أن يتفوّه بغير الحق، أو يصف الإعجاز بالسحر إذ يختم في ذلك اليوم على الأفواه، وتتكلّم الأيدي والأرجل قال سبحانه:( اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (١) .

بل لا يؤذن لهم حتى يعتذروا فضلاً عن أن يتكلموا بما سولت لهم أنفسهم من الكذب والدجل، قال سبحانه:( هَٰذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ *وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (٢) بل هناك تنكشف الحقائق وتظهر البواطن ويقف الإنسان على الحقائق ببصر حديد قال سبحانه:( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ ) (٣) .

هكذا يدل هذا المقطع من الآية على أنّ ظرف الانشقاق كان في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولأجل ذلك اتخذ منه المشركون موقفاً متعنتاً مجادلاً، وقال قائلهم :

__________________

(١) يس: ٦٥.

(٢) المرسلات: ٣٦.

(٣) ق: ٢٢.

٩٨

سحركم ابن أبي كبشة، حيث كان المشركون يدعون الرسول الأعظم بابن أبي كبشة وهو من أجداد النبي من ناحية أُمّه(١) .

٢. معراج النبي

إنّ إسراء النبي ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إحدى المعاجز العظيمة التي أثبتها الله سبحانه لنبيه، وأخبر عنه القرآن حيث قال:( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (٢) .

وليست تلك الرحلة الطويلة التي تحقّقت في زمن قصير في ذلك الظرف الذي لم يكن تتوفر فيه ما يتوفر الآن من وسائل النقل السريعة، إلّا معجزة من معاجزه.

إنّ القرآن الكريم لا يثبت هذا الإعجاز للرسول في هذا الموضع فحسب، بل يذكره في موضع آخر أيضاً، ويدافع عنه هناك بقوة بحيث لا يبقى معه شك، بل يخبر أنّ رحلة النبي ومعراجه تجاوز عن المسجد الأقصى إلى « سدرة المنتهى ». قال سبحانه:( عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَىٰ *ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ *وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَىٰ *ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ *فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ *مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَىٰ *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ *وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ *عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَىٰ *عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَىٰ *إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ *مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَىٰ *لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَىٰ ) (٣) .

__________________

(١) الدر المنثور: ٦ / ١٣٣. وقد جمع النقول الواردة عن الصحابة حول شق القمر، فلاحظ.

(٢) الإسراء: ١.

(٣) النجم: ٥ ـ ١٨.

٩٩

ونحن لسنا بصدد الخوض في تفاصيل قضية المعراج، بل يكفي الإذعان بوقوعها ورودها في هاتين السورتين، مضافاً إلى الأحاديث المتواترة حول قضية المعراج، وإن لم تكن الخصوصيات بالغة إلى هذا الحد من التواتر، بل حولها أحاديث آحاد غير جامعة لشرائط الحجية، وقد قسم الطبرسي في مجمعه الأحاديث الواردة حول المعراج، إلى أربعة أقسام، فلاحظ.

٣. مباهلة النبي لأهل الكتاب

تعرض القرآن لقضية المباهلة، في الآية التالية: قال سبحانه:( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ ) (١) .

قال الزمخشري في تفسير الآية: لمّا دعاهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر، فلمّا تخالوا قالوا للعاقد ـ وكان ذا رأيهم ـ: يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكن، فإن أبيتم إلّا ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله، وقد غدا محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها. وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمّنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى ! إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.

فقالوا: يا أبا القاسم ! رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك، ونثبت على ديننا. قال: « فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما

__________________

(١) آل عمران: ٦١.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407