مفاهيم القرآن الجزء ٤

مفاهيم القرآن9%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: 407

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 109881 / تحميل: 7712
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢١-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

المقام السادس

في سرد الأحاديث الواردة حول الآية

لقد بانت الحقيقة بأجلى مظاهرها وبان الصبح لذي عينين، ولم يبق شك لمشكك في أنّ الآية تهدف إلى طلب المودّة لأقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد كان الأوّلون لا يرتضون للآية غير هذا المعنى، وهم العرب الأقحاح، الذين يعرفون معنى الآية بأذواقهم العربية.

ومن راجع كتب التفسير والحديث يرى أنّ الرأي العام عند علماء الإسلام وأساطين التفسير لم يكن سوى هذا المعنى، ولذلك اختصروا في تفسير الآية بالمأثورات، ولكن لا يسعنا نقل جميعها في هذه الصحائف، كيف ؟ وقد نقل المحدث الخبير السيد هاشم البحراني سبعة عشر حديثاً من طرق السنّة، واثنين وعشرين حديثاً من طرق الشيعة، كلّها تنصُّ على الرأي المختار(١) .

وقد جمع العلّامة الأميني طرق الحديث ونصوصه وكلمات العلماء، حول الآية في كتابه القيِّم « الغدير » الجزء الثاني والثالث(٢) .

وقد استقصى بعض الأجلّة في تعاليقه على إحقاق الحق(٣) مصادر الحديث

__________________

(١) غاية المرام: ٣٠٧ ـ ٣١٠.

(٢) الغدير: ٢ / ٢٨٠، ٣ / ١٥١ ـ ١٥٣ طبعة النجف.

(٣) إحقاق الحق: ٣ / ٢ ـ ١٨.

٨١

من طرق أهل السنّة فتجاوزت خمسين مصدراً لأعلام الحديث، شكر الله مساعي الجميع، ولا يسعنا نقل ما وقفنا عليه برمته غير أنّنا نقتطف ما يلي :

الأحاديث الواردة في تفسير الآية على قسمين: قسم يصرّح بأنّ الآية وردت في حق علي وفاطمة وابنيهما، وقسم يدلُّ على نزولها في أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من دون تسمية لأسمائهم.

أمّا القسم الأوّل فإليك بيانه :

روى الإمام أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة، عن جبير بن عامر قال: لما نزلت:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) قالوا: يا رسول الله من قرابتك من هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال: « علي وفاطمة وابناهما: ». قالها ثلاثاً(١) .

روى الزمخشري في تفسيره حول الآية: روي أنّها لما نزلت قيل: يا رسول الله من قرابتك ؟ ومن هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال: « علي وفاطمة وابناهما ». ونقله الإمام الرازي في تفسيره ج ٢٧، ص ١٦٦.

وقد نقل ابن بطريق في العمدة عن تفسير الثعلبي نزول الآية في حقهم بالعبارة المتقدّمة.

وقد اقتفى أثرهم في هذا النقل الشيخ كمال الدين في مطالب السؤول ص ٨، فصرح بنزول الآية فيهم بالعبارة الماضية، ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص ٢٥، والعلاّمة النسفي في تفسيره ص ٩٥ بهامش تفسير الخازن، والحمويني في كفاية الخصام ص ٩٦، ونظام الدين النيسابوري في تفسيره المطبوع بهامش تفسير الطبري ج ٢٥ ص ٣١، وأبو حيان في البحر المحيط ج ٧ ص

__________________

(١) مسند الإمام أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة: ٢١٨.

٨٢

٥١٦، وابن كثير الدمشقي في تفسيره ج ٤ ص ١١٢، والهيثمي في مجمع الزوائد ج ٥ ص ١٦٨، إلى غير ذلك من أعلام الحديث وحفاظه.

وكلّهم ينصُّ على نزول الآية في حقهم، بأشخاصهم.

وأمّا القسم الثاني ، الذي يدلّ على نزول الآية في أقرباء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على وجه عام، فإليك بعضها :

روى محب الدين الطبري في الذخائر ص ٢٥، وابن حجر في الصواعق ص ١٢٠، و ١٣٦: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « إنّ الله جعل أجري عليكم المودّة في أهل بيتي وإنّي سائلكم غداً عنهم ».

وروى الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٩ص ١٤، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ١٦٦، والحافظ الكنجي في الكفاية ص ٣٢، وابن حجر في الصواعق ص ١٠١ و ١٣٦: انّ الحسن بن علي خطب بعد شهادة أبيه بقوله: « أيّها الناس لقد فارقكم رجل ما سبقه الأوّلون ولا يدركه الآخرون ـ إلى أن قال ـ وإنّا من أهل البيت الذين افترض الله عزّ وجلّ مودّتهم وولايتهم، فقال فيما أنزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله :( قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرَاً إلّا المَؤدَّةَ فِي القُرْبَى ) ».

وأخرج الطبري في تفسيره ج ٢٥ ص ١٦ باسناده عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين ـ رضي الله عنهما ـ أسيراً فأُقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام، فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرني الفتنة، فقال له علي بن الحسين ـ رضي الله عنه ـ: « أقرأت القرآن؟ » قال: نعم. قال: « أقرأت آل حم » قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم. قال: « ما قرأت:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) » قال: وأنّكم لأنتم هم ؟ قال: « نعم ».

وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ج ٦ ص ٧، وابن حجر في الصواعق ص ١٠١، وص ١٣٦، والزرقاني في شرح المواهب.

٨٣

وروى الطبري في تفسيره ج ١٢ ص ١٦ و ١٧، عن سعيد بن جبير، وعمرو ابن شعيب، أنّهما قالا: هي قربى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ورواه البخاري في صحيحه ج ٦ ص ١٢٩، عن سعيد بن جبير: أنّها قربى آل محمد.

وقال الرازي: لا شك أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحب فاطمةعليها‌السلام ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها » وثبت بالنقل المتواتر، عن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يحب علياً والحسن والحسين، وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمّة مثله لقوله تعالى:( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ولقوله تعالى:( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) ولقوله:( إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) ، ولقوله سبحانه:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .

ثم قال: إنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة، وهو قوله: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمداً وآل محمد، وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل، فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمد واجب، وقال الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ :

يا راكباً قف بالمحصب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضاً كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حب آل محمد

فليشهد الثقلان أنّي رافضي(١)

ولو أنّ القارئ الكريم أضاف إلى هذا الجم الغفير من الأحاديث التي اكتفينا بنقل النزر اليسير منها، ما رواه أئمّة الحديث من الشيعة لوجد الحديث في

__________________

(١) مفاتيح الغيب: ٧ / ٣٩٠ ـ ٣٩١.

٨٤

أعلى درجة الاستفاضة والتواتر، فلا يبقى لقائل شك في أنّ المراد من القربى أقرباء النبي، ولا من المودّة إظهار الحب إليهم، نعم قد يصعب على بعض من لا خبرة له بالحديث والتفسير قبول هذه القضية في حق آل طه وياسين.

وقد أشار النبهاني في خطبة كتابه إلى ذلك البعض وقال: ومن هذا القبيل ما وقع في عصرنا في القسطنطينية سنة سبع وتسعين ومائتين وألف هجرية من قوم جهّال غرقوا من أحوال البغضاء لآل محمد في أوحال، فأخذوا يتأوّلون بجهلهم ما ورد من الآيات والأخبار في فضل أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي ومنبع الحكمة، ويخرجونها عن ظواهرها بأفهامهم السقيمة، وآرائهم الذميمة، ومع ذلك فقد زعموا أنّهم لأهل البيت من أهل المحبة والوداد، ولم يعلموا أنّهم هائمون من الخذلان في كل واد(١) . والحق ينطق منصفاً وعنيداً.

__________________

(١) الشرف المؤبد راجع الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء: ٣٧.

٨٥
٨٦

٢

معاجز النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

وكراماته

٨٧

في هذا الفصل :

١. دعوة الأنبياء والقيام بالمعاجز والكرامات.

٢. قساوسة الغرب ومعاجز النبي الأكرم.

٣. المحاسبة العقلية تفند مزاعم القساوسة.

٤. القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن: انشقاق القمر، معراجه، ومباهلته مع نصارى نجران.

٥. مطالبة النبي الإتيان بالمعجزة بعد الأخرى.

٦. الكفّار يصفون معاجز النبي بالسحر.

٧. النبي الأعظم وبيّناته.

٨. إخبار النبي عن الغيب كالمسيح.

٩. معاجز الرسول الأعظم في الأحاديث.

١٠. امتياز الأحاديث الإسلامية ـ حول معاجز النبي ـ عن أحاديث اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم.

٨٨

النبي الأكرم ومعاجزه وكراماته

شهد التاريخ البشري أُناساً ادّعوا النبوة كذباً ودجلاً، واتَّخذوا ميل الإنسان الفطري نحو قضايا الدين ذريعة للوصول إلى مآربهم، وجعلوا سذاجة بعض الأمم والجماعات، وسيلة لتغطية دجلهم وكذبهم.

لا شك أنّ تمييز الحق من الباطل والصادق من الكاذب، وتشخيص النبي الحقيقي عن المتنبئ والمنتحل للنبوة كذباً ودجلاً، يحتاج إلى ضوابط ودلائل ومعايير.

وقد كان هناك طرق ووسائل ظلت البشرية تتوسل بها لمعرفة الحقيقة واستجلاء الصواب، وكان الإتيان بالمعجزة في طليعة تلكم الطرق، حيث كانت إحدى الطرق التي تثبت بها صحة دعوى النبوة وإن لم تكن الطريق الوحيد.

والمعجزة هي: العمل الخارق للعادة، الذي يعجز عن الإتيان به البشر حتى النوابغ والعباقرة.

وهناك تعاريف أُخر ربّما تكون أكمل من هذا التعريف، ولسنا بصدد تحديدها على وجه الدقة، والمهم هو أن نعرف أنّ المعجزة كان أوّل ما يطالب بها مَن يدّعي النبوة كوثيقة تثبت صدق مدّعاه، وصحّة انتسابه إلى الله، إذا قام بها، دون تهرّب وتملّص، فها هو القرآن يحدثنا أنّ صالحاً عندما حذر قومه من سخط الله، وأخبرهم بأنّه رسوله إليهم، طالبوه بالمعجزة قائلين:( مَا أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا

٨٩

فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (١) .

وقد وردت آيات أُخرى بهذا المضمون في سور شتّى.

ولأجل ذلك كان الأنبياء لا يتأخرون عن تلبية هذا الطلب الطبيعي والمنطقي، بل يبادرون إلى إظهار معاجز حسبما تقتضيه الظروف مبرهنين بذلك على صحّة دعواتهم وصدق أقوالهم، بينما ينكص الكذابون ومنتحلو النبوة، وتخيب مساعيهم.

وقد جرت سيرة الناس مع النبي الأكرم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك، حيث طالبوه بالمعاجز في بدء دعوته، وكان الرسول العظيم يلبي طلبهم، ويأتي بمعاجز عديدة يشهدها الناس ويرونها بأعينهم.

وبالرغم من كثرة هذه المعاجز ـ التي وقعت على يد رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في موارد كثيرة ـ أبى بعض من ناوأ الإسلام إلّا إنكار هذه المعجزات، وادّعاء أنّ نبي الإسلام لم يأت بمعجزة سوى القرآن فقط.

إنّ هذه الشبهة حول معاجز الرسول الكريم طرحت من جانب الكتّاب المسيحيين، تقليلاً من أهمية الدعوة المحمدية، وحطاً من شأن الرسول ومكانته وعظمته، فإذا بهم يزعمون أنّ معاجز النبي كانت تنحصر في القرآن دون سواه، وانّه كلما طالبه قومه بأن يأتي لهم بمعجزة، أحالهم على القرآن ولم يظهر أيّة معجزة سواه.

فها هو « فندر » القسيس الألماني المعروف يقول في كتابه ميزان الحق ص ٢٧٧ ـ وهو كتاب حول حياة الرسول ـ: إنّ من شروط النبوة أن يأتي مدّعيها بمعجزة لإثبات مدّعاه، ولكن محمداً لم يأت بأيّة معجزة قط.

__________________

(١) الشعراء: ١٥٤.

٩٠

ثمّ استشهد بآيات في سورة العنكبوت والإسراء والأنعام وغيرها، ممّا سنفرد لدراستها فصلاً خاصاً بعد هذا الفصل.

على أنّ « فندر » لم ينفرد بطرح هذه الشبهة، بل طرحها قساوسة آخرون قبله وبعده.

وقد ذكر فخر الإسلام: أنّ المسيو « جورج دوروي » رسم في ص ١٥٧ من كتابه صورة خيالية عن النبي الأكرم بيده ورقة من القرآن الكريم، وكتب تحت الصورة هكذا: كان محمد كلّما طالبه قومه بمعجزة ردّهم قائلاً: ليس لي أن آتيكم بمعجزة إلّا بإذن الله، ولكن الله لم يمن عليّ بهذه النعمة، أي نعمة إظهار المعاجز(١) .

وبهذه الكيفية حاول المسيو « جورج دوروي » المسيحي أن ينفي معاجز النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن ما نقله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتألف من صحيح وسقيم.

أمّا الصحيح: فهو قوله في جواب قومه: إنّه ليس لي أن آتيكم بمعجزة إلّا بإذن الله. وذلك أمر يؤيده القرآن حيث يقول سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) (٢) .

وأمّا السقيم: فهو ما ألحقه بكلام الرسول افتراءً عليه، وهو قوله: ولكن الله لم يمنّ عليّ بهذه النعمة ولم يعطني أية معجزة.

فإنّ هذا الكلام المنقول عن لسان النبي تقوّل على رسول الله، وقد دلّت شواهد كثيرة على أنّه أتى بمعاجز كثيرة لقومه يوم طلبوا منه ذلك، ولم يكن شأنه إلّا شأن سائر الأنبياء والرسل.

__________________

(١) أنيس الأعلام: ٥ / ٣٥١ لفخر الإسلام وهو قس مسيحي أسلم وكتب حول النصرانية، وما فيها من تناقضات وخرافات، كتابه القيم « أنيس الأعلام » وغيره من الكتب القيمة.

(٢) الرعد: ٣٨.

٩١

ثمَّ إنّ القسيس « أنار كلي » مؤلف كتاب « مشكاة الصدق » الذي طبع في لاهور سنة ١٩٠١م قد بسط الكلام في هذا الباب، فهو ـ بعد أن طرح الشبهة في كتابه واستشهد بآيات من القرآن على مزعومه ـ قال: إنّ محمداً كلّما طالبه قومه بأن يأتي لهم بمعجزة لاذ بالصمت، أو تهرّب من ذلك الطلب، مكتفياً بقوله: « إنّما أنا بشر مثلكم » و « إنّما إنا منذر » إلى غير ذلك من العبارات.

وسوف نقوم بتحليل هذه الآيات التي استند إليها « انار كلي » في مزعومه.

أجل هكذا سعى الكتّاب المسيحيون إلى إنكار معاجز الرسول، ونفوا أن تكون له معجزة أُخرى سوى القرآن، فهل هم على حق فيما يزعمون ؟ بكل تأكيد لا، لأنّ المحاسبة العقلية ـ قبل أي دليل ـ تفنّد هذه المزعمة، وتثبت نفس المحاسبة أنّ الرسول الأعظم كان صاحب معاجز أُخرى عدا القرآن الكريم ( معجزته الخالدة )، وإليك بيانها.

المحاسبة العقلية تفند مزعمة القساوسة :

إنّ الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وصف نفسه بأنّه خاتم الأنبياء، وأنّ رسالته خاتمة الرسالات، وكتابه خاتم الكتب، حسبما أوردنا أدلّته في الجزء الثالث من هذه السلسلة(١) .

ثم أخبر عن وقوع معاجز على أيدي الرسل والأنبياء، حيث قال في شأن موسىعليه‌السلام :( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) (٢) . وقال أيضاً:( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ) (٣) .

__________________

(١) لاحظ مفاهيم القرآن: ٣ / ١١٨ ـ ١٨٠.

(٢) الإسراء: ١٠١.

(٣) النمل: ١٢.

٩٢

ثم إنّه عندما يتحدّث عن المسيح ودعوته، يصفه بوحي من الله بقوله:( وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) (١) .

ثمَّ إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يخص هذين النبيين العظيمين بالإتيان بالمعاجز، بل أثبتها لكثير من الأنبياء من قبله كما هو لائح لمن سبر أحوالهم في القرآن المجيد.

وعند ذلك، كيف يكون للنبي الأعظم وهو يخبر بهذه المعاجز للأنبياء ويصف نفسه بأنّه خاتمهم وآخرهم، وأفضلهم، إذا طلبوا منه إظهار المعجزة، أن ينكص ويتهرّب، أو يلوذ بالصمت، أليس في مثل هذا ما يوهن دعوته، وينقض أقواله ؟

لو فرضنا أنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن إلّا نابغة من النوابغ الذين نهضوا لإصلاح أُمّتهم متستراً برداء النبوة، لما كان يصح منه أن يخبر بمعاجز للأنبياء الماضيين ثم ينكص هو نفسه عن الإتيان بمثلها، ومع ذلك يزعم أنّه خاتمهم وأكملهم ديناً، فكيف وهو نبي صدقاً وحقاً، قد بانت دلائل صدق دعوته، بأوضح الدلائل وأتقن البراهين ؟

فالمحاسبة العقلية تحكم ببطلان ما زعمه القساوسة، بل تثبت بكل قوّة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أظهر معاجز عديدة لقومه عندما طلبوا منه ذلك، كيف، والقرآن يصفه بما لا يصف به أحداً من أنبيائه ؟ وهو يقتضي عقلاً أن يكون له مثل ما أُوتي سائر الأنبياء، وأن يكون قد أتى بها مبرهناً على صدق دعوته خصوصاً إذا توقفت هداية قومه على إظهار معاجزه.

__________________

(١) آل عمران: ٤٩.

٩٣

ولهذا السبب كان منتحلو النبوة ـ كذباً ـ ينكرون معاجز الأنبياء، أو يتأوّلونها تخلّصاً من الإحراج إذا طالبهم الناس بالمعجزة، على العكس من سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقواله الذي أخبر بصراحة عن معاجز الأنبياء بالتفصيل، كما أخبر أنّ دعوات الأنبياء ما كانت تنفك عن طلب المعاجز منهم، فما من نبي راح ينذر قومه إلّا وطالبوه بأن يظهر لهم معجزة يبرهن بها على صدق مدّعاه وصدق رسالته، وقد أسلفنا بعض الآيات في هذا المورد.

القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن

إنّ القرآن يخبر ـ بصراحة ـ عن وقوع معاجز غير القرآن على يدي الرسول الأمين، وإليك الآيات القرآنية الواردة في هذا المورد :

١. انشقاق القمر

قال سبحانه:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ *وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ *وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ *وَلَقَدْ جَاءَهُم مِنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) (١) .

أطبق المفسّرون مثل الزمخشري في كشافه، والطبرسي في مجمعه والرازي في مفاتيحه على ما يلي :

اجتمع المشركون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فلقتين. فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن فعلت تؤمنون ؟ » قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فلقتين، ورسول الله ينادي: « يا فلان يا فلان اشهدوا ».

__________________

(١) القمر: ١ ـ ٤.

٩٤

وقال ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله شقتين، فقال لنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اشهدوا اشهدوا ».

ونقل عن ابن مسعود أنّه قال: والذي نفسي بيده لقد رأيت حرّاء بين فلقتي القمر.

وعن جبير بن مطعم: انشق القمر على عهد رسول الله حتى صار فلقتين على هذا الجبل، وعلى هذا الجبل، فقال ناس: سحرنا محمد، فقال رجل: إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلَّهم.

وقد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة، منهم: عبد الله ابن مسعود، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وابن عباس، وجبير ابن مطعم، وعبد الله بن عمر، وعليه جماعة المفسرين، إلى أن قال: فلا يعتد بخلاف من خالف فيه، لأنّ المسلمين أجمعوا على ذلك، والطعن في ذلك بأنّه لو وقع انشقاق القمر في عهد رسول الله لما كان يخفى على أحد من أهل الأقطار، قول باطل، فيجوز أن يكون الله تعالى قد حجبه عن أكثرهم بغيم وما يجري مجراه، ولأنّه قد وقع ذلك ليلاً، فيجوز أن يكون الناس نياماً فلم يعلموا بذلك، على أنّ الناس ليس كلّهم يتأملون ما يحدث في السماء وفي الجو من آية وعلامة، فيكون مثل انقضاض الكواكب وغيره مما يغفل الناس عنه، وإنّما ذكر سبحانه اقتراب الساعة مع انشقاق القمر، لأنّ انشقاقه من علامة نبوة نبينا، ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة(١) .

وما ذكره من الاعتذار في عدم رؤية أكثر الناس انشقاق القمر مبني على ما كان يعتقده علماء الفلك في الأزمنة السابقة من كون الأرض مسطحة لا كروية بحيث إذا طلع البدر يطلع على الناس كلّهم، وإذا غرب غرب عنهم جميعاً في

__________________

(١) مجمع البيان: ٥ / ١٨٦.

٩٥

وقت واحد، وهذا مرفوض لكروية الأرض.

وقال الرازي: المفسّرون بأسرهم على أنّ المراد: انّ القمر انشق وحصل فيه الانشقاق، ودلّت الأخبار على حديث الانشقاق، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة، وقالوا: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله آية الانشقاق بعينها معجزة، فسأل ربّه فشقه، ومضى.

وقال بعض المفسّرين المراد سينشق، وهو بعيد ولا معنى له، لأنّ من منع ذلك ـ وهو الفلسفي ـ يمنعه في الماضي والمستقبل، ومن يجوزه لا يحتاج إلى التأويل، وإنّما ذهب إليه ذلك الذاهب لأنّ الانشقاق أمر هائل، فلو وقع لعم وجه الأرض فكان ينبغي أن يبلغ حد التواتر، نقول: النبي لما كان يتحدّى بالقرآن وكانوا يقولون: إنّا نأتي بأفصح ما يكون من الكلام وعجزوا عنه، فكان القرآن معجزة باقية إلى قيام القيامة لا يتمسك بمعجزة أُخرى، فلم ينقله العلماء بحيث يبلغ حد التواتر، وأمّا المؤرّخون فتركوه، لأنّ التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم، وهو لما وقع الأمر قالوا بأنّه مثل خسوف القمر وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر فتركوا حكايته في تواريخهم، والقرآن أدلّ دليل وأقوى مثبت له، وإمكانه لا يشك فيه، وقد أخبر عنه الصادق، فيجب اعتقاد وقوعه، وحديث امتناع الخرق والالتئام حديث اللئام، وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السماوات(١) .

وقال الزمخشري: إنّ أنس بن مالك قال: إنّ الكفار سألوا رسول الله آية فانشق القمر مرتين، قال ابن عباس: انفلق فلقتين: فلقة ذهبت وفلقة بقيت. وقال ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتي القمر. وعن حذيفة انّه خطب بالمدائن وقال: ألا إنّ الساعة قد اقتربت، وانّ القمر قد انشق على عهد نبيكم(٢) .

__________________

(١) مفاتيح الغيب: ٧ / ٧٤٨.

(٢) الكشاف: ٣ / ١٨٩.

٩٦

هذه عبائر أشهر المفسّرين الذين أسميناهم، ومثلها غيرهم، ونحن لا يهمنا البحث في تفاسير هذه المعجزة، ولا الاعتراضات الطفولية التي تثار حولها، إنّما يهمنا أن نبحث في دلالة الآيات المذكورة على وقوع هذه المعجزة العظمى على يد الرسول الكريم.

أمّا قوله سبحانه:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) فمعناه أنّ الساعة ـ أي القيامة ـ قد قربت وقرب موعد وقوعها، وإن كان الكفّار يتصورونه بعيداً، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في موضع آخر حيث قال:( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً *وَنَرَاهُ قَرِيباً ) (١) .

وأمّا قوله:( وَانشَقَّ القَمَرُ ) يدل على وقوع انشقاق القمر، لأنّه فعل ماض ولا وجه لحمله على المستقبل، بأن يكون المراد سينشق القمر في المستقبل أي عند وقوع القيامة، لأنّ إرادة المضي من لفظ انشق أولى، للمناسبة بينها وبين الجملة السابقة:( اقْتَرَبَتِ ) وحمل الثاني( انشَقَّ ) على المستقبل نوع مجاز، وإن كان بادّعاء كونه محقق الوقوع، وأمّا وجه الربط بين الجملتين فهو ما أشار إليه أمين الإسلام الطبرسي في مجمعه من أنّ انشقاقه من علامة نبوة نبينا، ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة.

وبهذا يكون القرآن قد أخبر في هذه الآية عن تحقق هذين الشرطين: ظهور نبي الإسلام، وانشقاق القمر بيده، وإنّهما من أشراط الساعة كما يقول في آية أُخرى:( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) (٢) .

وعندئذ لا مجال لحمل الجملة( انشَقَّ ) على المستقبل.

أضف إلى ذلك أنّ قوله تعالى:( وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ

__________________

(١) المعارج: ٦ ـ ٧.

(٢) محمد: ١٨.

٩٧

مُسْتَمِرٌّ ) أوضح شاهد على وقوع هذه المعجزة « انشقاق القمر » في عهد الرسول، لأنّ المقصود من الآية في قوله( وَإِن يَرَوْا آيَةً ) غير القرآن من المعاجز، بدليل أنّه يقول:( وَإِن يَرَوْا ) ولو كان المراد من الآية هي الآيات القرآنية لكان اللازم أن يقول: وان سمعوا آية، أو تنزّلت عليهم آية، وعلى هذا تكون الآية المرئية هي انشقاق القمر الذي سبق ذكره في الآية السابقة.

ثم إنّ الدقة والإمعان في قوله تعالى:( يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) يقودنا إلى الإذعان بأنّ ظرف هذا الحدث « انشقاق القمر » إنّما هو هذا العالم الدنيوي، وقبل بعث الناس وحشرهم حتى يكون مجال للناس أن يتفوّهوا بغير الحق، ويقولوا هذا سحر مستمر، وأمّا الآخرة فليس هناك لأحد أن يتفوّه بغير الحق، أو يصف الإعجاز بالسحر إذ يختم في ذلك اليوم على الأفواه، وتتكلّم الأيدي والأرجل قال سبحانه:( اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (١) .

بل لا يؤذن لهم حتى يعتذروا فضلاً عن أن يتكلموا بما سولت لهم أنفسهم من الكذب والدجل، قال سبحانه:( هَٰذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ *وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (٢) بل هناك تنكشف الحقائق وتظهر البواطن ويقف الإنسان على الحقائق ببصر حديد قال سبحانه:( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ ) (٣) .

هكذا يدل هذا المقطع من الآية على أنّ ظرف الانشقاق كان في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولأجل ذلك اتخذ منه المشركون موقفاً متعنتاً مجادلاً، وقال قائلهم :

__________________

(١) يس: ٦٥.

(٢) المرسلات: ٣٦.

(٣) ق: ٢٢.

٩٨

سحركم ابن أبي كبشة، حيث كان المشركون يدعون الرسول الأعظم بابن أبي كبشة وهو من أجداد النبي من ناحية أُمّه(١) .

٢. معراج النبي

إنّ إسراء النبي ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إحدى المعاجز العظيمة التي أثبتها الله سبحانه لنبيه، وأخبر عنه القرآن حيث قال:( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (٢) .

وليست تلك الرحلة الطويلة التي تحقّقت في زمن قصير في ذلك الظرف الذي لم يكن تتوفر فيه ما يتوفر الآن من وسائل النقل السريعة، إلّا معجزة من معاجزه.

إنّ القرآن الكريم لا يثبت هذا الإعجاز للرسول في هذا الموضع فحسب، بل يذكره في موضع آخر أيضاً، ويدافع عنه هناك بقوة بحيث لا يبقى معه شك، بل يخبر أنّ رحلة النبي ومعراجه تجاوز عن المسجد الأقصى إلى « سدرة المنتهى ». قال سبحانه:( عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَىٰ *ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ *وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَىٰ *ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ *فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ *مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَىٰ *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ *وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ *عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَىٰ *عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَىٰ *إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ *مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَىٰ *لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَىٰ ) (٣) .

__________________

(١) الدر المنثور: ٦ / ١٣٣. وقد جمع النقول الواردة عن الصحابة حول شق القمر، فلاحظ.

(٢) الإسراء: ١.

(٣) النجم: ٥ ـ ١٨.

٩٩

ونحن لسنا بصدد الخوض في تفاصيل قضية المعراج، بل يكفي الإذعان بوقوعها ورودها في هاتين السورتين، مضافاً إلى الأحاديث المتواترة حول قضية المعراج، وإن لم تكن الخصوصيات بالغة إلى هذا الحد من التواتر، بل حولها أحاديث آحاد غير جامعة لشرائط الحجية، وقد قسم الطبرسي في مجمعه الأحاديث الواردة حول المعراج، إلى أربعة أقسام، فلاحظ.

٣. مباهلة النبي لأهل الكتاب

تعرض القرآن لقضية المباهلة، في الآية التالية: قال سبحانه:( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ ) (١) .

قال الزمخشري في تفسير الآية: لمّا دعاهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر، فلمّا تخالوا قالوا للعاقد ـ وكان ذا رأيهم ـ: يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكن، فإن أبيتم إلّا ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله، وقد غدا محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها. وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمّنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى ! إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.

فقالوا: يا أبا القاسم ! رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك، ونثبت على ديننا. قال: « فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما

__________________

(١) آل عمران: ٦١.

١٠٠

عليهم » فأبوا، قال: « فإنّي أُناجزكم » فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة، ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك، قال: « والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتى يهلكوا ».

ثم قال الزمخشري: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلّا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، وأما ضم الأبناء والنساء، فلأجل أنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده، وأحب الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة، وخص الأبناء والنساء لأنّهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربّما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمّون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق(١) .

إنّ معجزة النبي ـ وهي حلول العذاب على نصارى نجران ـ وإن لم تتحقّق بسبب انصراف النصارى عن المباهلة، إلّا أنّ ذهاب الرسول إلى المباهلة واستعداده لذلك من جانب، وانسحاب نصارى نجران من الدخول مع الرسول في هذا التباهل من جانب آخر، يكشفان عن أنّ حلول العذاب كان حتمياً لو تباهلوا، فقد أدركوا الخطر وأحسّوا بخطورة الموقف، فاستعدوا للمصالحة والتنازل.

__________________

(١) الكشاف: ١ / ٣٢٦ ـ ٣٢٧ ( بتلخيص يسير ) ولاحظ مجمع البيان: ١ / ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

١٠١

مطالبة النبي بالمعاجز، الواحدة بعد الأُخرى

إنّ القرآن يصرح بأنّ النبي كلّما أتى لقومه بمعجزة طالبوه بمعجزة أُخرى، وأصرّوا على أن تكون معاجزه مثل ما أُوتي رسل الله من قبل، وهذا يدل على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن فوقع مورد الاعتراض والإصرار.

قال سبحانه:( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) (١) .

فلنقف على المراد من لفظ( آيَةٌ ) الواردة في هذا المورد، فليس المراد منها نفس القرآن، ولا الآية القرآنية، لأنّ لفظ الآية كما ترى جاءت بصورة النكرة، وهي تكشف عن نوع خاص منها، بينما إذا كان المقصود هو القرآن أو الآية القرآنية، كان ينبغي أن يكون الكلام على نحو آخر، والآية نظير قوله سبحانه:( وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ ) (٢) .

والمقصود منها: كل آية معجزة، تثبت صلة الرسول بالله سبحانه نظير قوله سبحانه:( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) (٣) .

إنّ لفظ الآية يستعمل في القرآن في موارد :

١. العلامة المطلقة: فيقال هذا آية ذلك، قال سبحانه:( وَكَأَيِّن مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ *وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلا وَهُم مُشْرِكُونَ ) (٤) .

__________________

(١) الأنعام: ١٢٤.

(٢) يونس: ٩٧.

(٣) البقرة: ١٤٥.

(٤) يوسف: ١٠٥ ـ ١٠٦.

١٠٢

ومثله قوله سبحانه:( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) (١) .

وقد استعمل لفظ الآية في هذا المعنى كثيراً في القرآن الكريم، ويقصد من الآية علامة الشيء، إذا كانت دالة على وجوده سبحانه وصفاته، أو ما إذا كانت مقارنة مع العبرة، كما في قوله سبحانه:( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (٢) .

٢. الآية القرآنية: مثل قوله سبحانه:( ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ ) (٣) وقوله سبحانه:( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) (٤) .

٣. المعجزة لا بمعنى انّ الآية بمعنى المعجزة، بل بمعنى نفس العلامة ولكن مقرونة بهذا الوصف وكأنّ لفظة المعجزة مقدرة بعدها، ومن هذا القبيل قوله سبحانه:( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ ) (٥) .

وعلى الجملة فليس للفظ( الآيَةَ ) إلّا معنى واحد، وإنّما الاختلاف في المستعمل فيه، فيكون الشيء آية للعبرة، أو آية لقدرته وعلمه، أو آية لكون الآتي بها مبعوثاً من جانبه سبحانه، إلى غير ذلك، فالتمييز بين الموارد إنّما هو بحسب القرائن الحافة بالكلام.

__________________

(١) الإسراء: ١٢.

(٢) يونس: ٩٢.

(٣) آل عمران: ٥٨.

(٤) آل عمران: ١١٣.

(٥) آل عمران: ٤٩.

١٠٣

وعلى ذلك فالمراد من قوله سبحانه:( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) هو العلامة الدالة على أنّ الآتي بها مبعوث من جانبه سبحانه، فتكون معجزة للناس وموجبة للتحدي.

ولو كان المراد الآية القرآنية لكان الأنسب بل المناسب أن يستعمل كلمة « النزول » بدل « المجيء » فيقال: وإذا نزلت عليهم آية، مكان( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ) .

على أنّ الدقة في مضمون الآية والقرائن الحافة بها تعطي أنّ المقصود من لفظة الآية هنا هو غير القرآن، غاية ما في الباب أنّ المشركين كانوا يريدون أن تكون المعاجز التي يأتي بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مثل المعاجز التي أتى بها موسىعليه‌السلام مثلاً.

وأما علّة اختلاف الأنبياء في صنوف المعاجز، فسيوافيك بيانها في الفصل القادم.

وصف معاجز النبي بالسحر

إنّ هناك آيات تصرّح بأنّ المشركين كلّما رأوا من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله معجزة قالوا: إنّها سحر، وهذا أدلّ دليل على ظهور معاجز ـ عدا القرآن ـ على يد النبي الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أمّا هذه الآيات فمنها قوله سبحانه:( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ *وَقَالُوا إِنْ هَٰذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (١) وكلمة( رَأَوْا ) وتنكير لفظ( آيَةً ) شاهدان على أنّ المقصود من الآية هو غير القرآن من المعاجز، وإلاّ كان المناسب أن يستعمل ألفاظ « النزول » أو « السماع » أو غير ذلك، مكان « الرؤية »، أو تبديل النكرة

__________________

(١) الصافات: ١٤ ـ ١٥.

١٠٤

بالمعرفة، نظير قوله سبحانه:( وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) .

ولأجل ذلك نرى المفسّرين يستشهدون بهذه الآية وغيرها على إثبات معاجز للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله غير القرآن الكريم.

النبي الأعظم وبيّناته

تفيد الآية التالية أنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله جاء إلى الناس بالبينات، وهي المعاجز، بقرينة سائر الآيات الأخر التي استعملت فيها كلمة البينات في المعاجز، قال سبحانه:( كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (١) .

والبيّنات جمع البيّنة بمعنى المبيّن لحقيقة الأمر، وربّما يحتمل أنّ المراد منها هو القرآن، أو البشائر الواردة في الكتب النازلة قبل القرآن حول النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن ملاحظة الآيات الأخر التي استعملت فيها هذه الكلمة وأُريد منه المعاجز والأعمال الخارقة للعادة، توجب القول بأنّ المراد: إمّا خصوص المعاجز، أو الأعم منها ومن غيرها، وقد ورد فيما يلي من الآيات لفظ « البيّنات » وأُريد منها المعاجز.

قال سبحانه:( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ ) (٢) ،( ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ ) (٣) ( إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ ) (٤) ( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) (٥) إلى غير ذلك ممّا ورد فيه لفظ البينات وأُريد منه الخوارق للعادة، لاحظ المعجم المفهرس لفظة البينات.

__________________

(١) آل عمران: ٨٦.

(٢) البقرة: ٨٧.

(٣) النساء: ١٥٣.

(٤) المائدة: ١١٠.

(٥) المائدة: ٣٢.

١٠٥

ولا نقول إنّ لفظ البيّنة بمعنى المعجزة، بل هي كما عرّفناك هو الدليل المبين للحقيقة، والمعاجز أحد مصاديقها.

إخبار النبي عن الغيب كالمسيح

يعد القرآن الإخبار عن المغيبات من معاجز السيد المسيحعليه‌السلام ويقول حاكياً عنه:( وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (١) . وقد أخبر النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله عن طائفة من المغيبات بواسطة الوحي الذي يوحى إليه، وجاءت عدة من هذه المغيبات في القرآن الكريم منها قوله مخبراً عن انتصار الروم بعد هزيمتهم( الم *غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ ) (٢) . كما أخبر عن هزيمة قريش في بدر قال:( سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (٣) .

وقد جمعنا موارد إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المغيبات عن طريق الوحي في الجزء الثالث من هذه الموسوعة(٤) . فلاحظ.

معاجز الرسول الأعظم في الأحاديث الإسلامية

ما ذكرناه بعض ما ورد من معاجز النبي الأكرم في القرآن، غير أنّه ورد في الأحاديث والروايات الصحيحة ما ينص على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن أكثر من أن تحصى، وقد جمعها وأحصاها علماء الحديث ودوّنوها في كتبهم، ومؤلّفاتهم، وأجمع كتاب أُلِّف في هذا الموضوع ما جمعه الشيخ العاملي ( المتوفّى

__________________

(١) آل عمران: ٤٩.

(٢) الروم: ١ ـ ٣.

(٣) القمر: ٤٥.

(٤) معالم النبوة في القرآن الكريم: ٤٥٥ ـ ٥٥٦ وأيضاً ٥٠٣ ـ ٥٠٩.

١٠٦

عام ١١٠٤ ه‍ ) وأسماه « إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات » وقد نقل فيها معجزات النبي بمئات الأسناد، استخرجها من كتب الشيعة والسنّة، جزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

على أنّ أحاديث المسلمين حول معاجز نبي الإسلام تمتاز على روايات اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم من ناحيتين :

الأولى: قلة المسافة الزمنية بيننا وبين حوادث عهد النبي وكثرتها بيننا وبين حوادث عهود النبيين موسى وعيسىعليهما‌السلام وغيرهما، وهذا يوجب الاطمئنان إلى روايات المسلمين أكثر من غيرهم.

الثانية: تواتر الروايات الإسلامية حول معاجز النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وعدمه في الجانب الآخر، خاصة إذا عرفنا أنّ الروايات التي ينقلها اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم تنتهي إلى أفراد قلائل.

وليعلم القارئ أنّا لسنا بصدد تصحيح كل ما نسب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من المعجزات وخوارق العادات سواء أصحّ سنده، أم لا، أطابق كتاب الله أم لا، أوافق الأصول العقلية أم لا، بل نحن بصدد نفي السلب الكلي الذي ادّعاه أعداء القرآن والسنّة.

هذا بعض ما يمكن التحدّث عنه هنا حول معاجز نبي الإسلام العظيم، غير القرآن الكريم معجزته الخالدة.

١٠٧
١٠٨

٣

تحقيق وتحليل

لمفاد الآيات النافية للمعجزة

١٠٩

في هذا الفصل

١. الطرق العلمية الثلاث لإثبات نبوّة مدّعي النبوة.

٢. يجب على النبي أن يكون مزوداً بالمعاجز، ولا يجب عليه القيام بكل ما يقترح الناس عليه.

٣. انّما يصح القيام بالمعجزة المطلوبة إذا تعلّق الطلب بالأمر الممكن لا المحال، وكان بين الطالبين جماعة مستعدة للانضواء تحت راية النبي.

٤. المعجزة نوع تصرف في الكون ولا تتحقق إلّا بإقدار وإذن من الله سبحانه.

٥. الهدف الأسمى من الإعجاز هو هداية الناس، فلو تعلّق طلب المقترحين بإبادتهم لما صح القيام به.

٦. هناك معاجز لو طلبها الناس ولم يؤمنوا بالنبي بعد الإتيان بها لعمّهم العذاب.

٧. عرض الآيات الثمانِ عشرة التي استدل بها القساوسة على عدم تجهز النبي بمعجزة سوى القرآن.

٨. عدم قيام النبي بمقترحات الطالبين بالمعجزة لفقدان الشرائط اللازمة في القيام بمقترحات الطالبين، وهي عشرة.

١١٠

مفاد الآيات النافية للمعجزة

لا شك أنّ المعجزة إحدى الطرق لإثبات دعوى النبي، نعم الإعجاز أحد الطرق لا الطريق الوحيد، وقد قرّر في الأبحاث الكلامية بأنّ هناك طريقين آخرين لإثبات دعوى النبوة :

الأوّل : تصريح النبي السابق بنبوة النبي اللاحق، كما ورد التصريح في التوراة والإنجيل بنبوّة النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحكاه سبحانه في القرآن الكريم بقوله:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ) (١) .

وقوله سبحانه:( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (٢) .

والآيتان تشيران إلى تنصيص الكتب السابقة على نبوة النبي الخاتم، فعلى من يريد الاهتداء فعليه أن يرجع إلى تلكم الكتب التي تحتوي على بيان صفات النبي وخصوصياته حتى يكون ذا بصيرة في الأمر، فالآيتان تنبهان بهذا الطريق

__________________

(١) الأعراف: ١٥٧.

(٢) الصف: ٦.

١١١

الذي هو إحدى الطرق.

الثاني : ملاحظة القرائن والشواهد، من حياة مدّعي النبوة وشريعته ومحتوى كتابه وأصحابه وأخلاقه وسوابقه وممارساته، إلى غير ذلك من القرائن، التي لو تضافرت لأفادت اليقين بصدق دعوى المدّعي للنبوّة وأنّه صادق في ادّعائه، وهذا الطريق هو المتعارف في المحاكم القضائية لتمييز المحق من المبطل، وهو الطريق الأتقن والأكثر اطمئناناً.

وقد سلكنا هذين الطريقين في إثبات نبوّة نبينا في أبحاثنا الكلامية.

وعلى ذلك فالإعجاز أحد الطرق، لا الطريق الوحيد، ومع الاعتراف بهذه الحقيقة، يجب إلفات نظر القارئ إلى النقاط التالية :

الأولى : هل يجب على النبي القيام بكل ما يقترحه الناس عليه من معاجز أو أنّه يجب أن يتمتع بالدلائل المثبتة لصدق دعواه وبالمعجزات الساطعة التي تفيد القطع لكل من يريد الحقيقة ويتحرّاها دون غرض أو مرض، سواء أطابقت تلك المعاجز مقترحات من بعث إليهم أم خالفتها ؟

وبعبارة أُخرى: يجب أن تبلغ معجزات النبي حداً يوجب طمأنينة النفس واستيقانها برسالته لكل من يطلب الحقيقة ويتوخّاها، ولا يجب على النبي حتماً أن يقوم بالإتيان بكل ما يطلب منه.

إنّ العقل لا يوجب أكثر من أن تكون دعوى النبوة مقترنة بالدلائل والشواهد التي تُثبت صلة النبي بالله سبحانه، وتكون كافية في إفادة الإذعان بصدقه، وأمّا قيامه بكل ما يطلب منه، فلا دليل على وجوبه لا من العقل ولا من الشرع.

ومن هنا يتبين أنّ اللازم على النبي هو القيام بإقناع الناس من حيث

١١٢

المجموع، وأمّا قيامه بإقناع كل فرد فرد على حدة وتنفيذ طلبات آحاد الناس فلا دليل عليه، وتشهد على ذلك حياة الأنبياء، فقد أعطى سبحانه لموسى الكليم تسع آيات بيّنات، وللمسيح ما آتاه من المعجزات الواردة في قوله سبحانه:( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) (١) .

أقول: إنّ الله سبحانه قد أعطاهما تلكم المعاجز، ولم يكلفهما بالقيام بإقناع كل فرد بالإتيان بكل ما يقترحه حسب ميوله وأغراضه.

نعم، لابد أن تكون معجزة كل نبي مشابهة لأرقى فنون عصره وزمانه، والتي يكثر العلماء بها من أهل عصره، فإنّه أسرع للتصديق، وأقوم للحجة، فكان من الحكمة والصواب أن يخص موسى بالعصا، واليد البيضاء، لمّا شاع السحر في زمانه وكثر الساحرون، ولذلك كانت السحرة أسرع الناس إلى تصديق ذلك البرهان والإذعان به حين رأوا العصا تنقلب ثعباناً وتلقف ما يأفكون ثم ترجع إلى حالتها الأولى، فرأى السَحَرَة ذلك، وعلموا أنّه خارج عن حدود السحر، وآمنوا بأنّه معجزة إلهية وأعلنوا إيمانهم في مجلس فرعون، ولم يعبأوا بسخط فرعون ولا بوعيده.

وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح، وأتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب، وكان للطب رواج باهر في سورية وفلسطين، لأنّهما كانتا مستعمرتين لليونان، وحيث بعث الله المسيح في هذين القطرين شاءت الحكمة أن تجعل برهانه شيئاً يشبه الطب، فكان من معجزاته أن يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ليعلم أهل زمانه أنّ ذلك شيء خارج عن قدرة البشر وغير مرتبط

__________________

(١) آل عمران: ٤٩.

١١٣

بمبادئ الطب وانّه ناشئ عما وراء الطبيعة.

وأمّا النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد برعت العرب في عصره في البلاغة وامتازت بالفصاحة، وبلغت الذروة في فنون الأدب حتى عقدوا النوادي وأقاموا الأسواق للمباراة في الشعر والخطابة، فلأجل ذلك اقتضت الحكمة أن يخص نبي الإسلام بمعجزة البيان وبلاغة القرآن، ليعلم كل عربي أنّ هذا خارج عن طوق البشر، ويعترف به كل من يتوخّى الحقيقة(١) .

نعم، هناك وجوه أُخر اقتضت جعل المعجزة الخالدة للنبي الخاتم هو القرآن، وقد أوضحنا تلك الوجوه في أبحاثنا الكلامية.

نعم، يجب أن تكون معجزة النبي مشابهة لأرقى فنون العصر، فقط، وأمّا لزوم قيامه بكل المقترحات والمطلوبات فلا، لأنّ الأنبياء بعثوا لغرض التربية والتعليم، وتجب عليهم مكافحة الجهل بالوسائل الصحيحة الكافية، لا أن يأتوا بكل مطلوب لكل جاهل أو متجاهل حسب هوسهم.

كما يجب أن تكون دعوتهم مقترنة بالمعاجز حتى تحقّق صلتهم بالله سبحانه ويتبين أنّ الله الحكيم هو الذي أعطاه تلك المقدرة، ولو كانوا كاذبين لما جاز في منطق العقل والحكمة إقدارهم عليها، لأنّ في إقدار الكاذب على المعاجز، إغراء بالجهل وإشادة بالباطل، وذلك محال على الحكيم تعالى، فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالة على صدقه وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوته سواء أطابقت مطلوب الناس أم لا.

وإذا رأينا أنّ نبياً من الأنبياء قد امتنع عن القيام ببعض المعاجز، وبعبارة أصح: إذا لم يأذن الله له في الإتيان بها، فإنّما هو لأجل أنّه سبحانه جهّزه بأوضح الدلائل وزوّده بأتقن المعاجز بحيث تكون كافية لكل من يتوخّى الحقيقة ويطلب

__________________

(١) البيان: ٤٨ ـ ٤٩.

١١٤

الواقع، وليس عليه سبحانه أزيد من نصب الدلائل وإقامة البراهين، فلو انّ القرآن يصف الأنبياء بقوله:( فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (١) ويصف نبيَّه بقوله:( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (٢) ، فلا تهدف تلك الجملة إلّا الإشارة إلى أنّ وظيفته الأساسية إنّما هي التبشير والإنذار المقترنين بالمعاجز الكافية، وانّه لا يجب عليه أن يستجيب لطلب كل من اقترح عليه أمراً أو يطلب منه معجزة حسب هواه، وليست هذه الأوصاف نافية لأصل المعاجز من رأسها.

الثانية : انّما يصح قيام النبي بالإتيان بالمعجزة المطلوبة منه إذا تعلّق الطلب بالأمر الممكن لا المستحيل، لأنّه خارج عن إطار القدرة، فعند ذلك لو طلب من النبي رؤية الله سبحانه جهرة، أو ولوج الجمل في سم الخياط، فالسؤال ساقط من أساسه لاستحالة الموضوع.

الثالثة : إنّما يجب على النبي القيام بالإتيان بالمعاجز المطلوبة المقترحة عليه من قبل الناس، إذا كانت بين الطالبين بها جماعة مستعدة للانضواء تحت لواء الحق بعد أن شاهدوا المعجزة، وأمّا لو كانوا يطالبون بها ويقترحوها عناداً ولجاجاً، ومع ذلك يصرون على كفرهم وإنكارهم حتى لو أُتي بمطلوبهم، فلا يجب على النبي الإجابة لدعوتهم لأنّ الإتيان بالمعاجز في هذه الحالة يعد أمراً لغواً وعبثاً، وذلك لأنّ الهدف من المعاجز أحد أمرين :

الأوّل: سوق الناس إلى الله سبحانه عن طريق الإيمان بنبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته، والمفروض أنّ تلك الغاية منتفية في المقام، لأنّ الطالبين بالمعاجز يشكّلون جماعة متعنتة ومعاندة فلا يؤمنون وان أُتي بأضعاف ما يريدون ويطلبون.

__________________

(١) البقرة: ٢١٣.

(٢) الرعد: ٧.

١١٥

وأمّا الكلام في أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أين يحصل له هذا العلم ويكشف أحوالهم، فهو خارج عن هذا البحث.

الثاني : إتمام الحجة على الكافرين المعاندين المغرضين حتى لا يقولوا يوم القيامة ولا يحتجّوا على الله سبحانه بأنّه ما جاءهم من بشير ولا نذير، والمفروض أنّ تلك الغاية قد حصلت بالإتيان بسائر المعجزات التي جاء بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من غير اقتراح لما عرفت من أنّه يجب تزويد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتجهيزه بالمعاجز سواءً طابقت مقترحات قومه أو لا.

إنّ القارئ الكريم سيلمس تلك الحقيقة عند استعراض الآيات التي رفض النبي فيها إجابة الطالبين بالمعاجز، فإنّ أكثرها واردة في ذلك المجال، وانّه لم يكن غرض الطالبين الاهتداء والانتفاع بها، بل كانوا يطلبونها لأغراض أُخر، إمّا تعجيزاً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بحسب أهوائهم أو تلاعباً بما سيصدر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الرابعة: انّ المعجزة نوع تصرف في العالم، والنبي بماله من ولاية تكوينية مكتسبة منه سبحانه، يقدر على التصرّف في الأكوان بأن يخلع صورة من المادة ويلبسها صورة أُخرى، كما خلع موسى الكليم صورة العصا من مادتها وألبسها صورة الثعبان بإذن ربّه، وكما بدّل المسيح الصورة الطينية إلى الصورة الطيرية، كل ذلك بإذنه سبحانه، وأمر منه، وعند ذلك فليس لهم حرية مطلقة في الخلع واللبس والتنفيذ والتصرّف وإنّما يفعلون ذلك بإذن منه سبحانه، قال الله تعالى:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) (١) .

وبما أنّ هذه الآية تعد نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله آتياً بالمعجزة، تدلّ على أنّ الآتي بها والمتصرّف في الأكوان هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بما له من روح قدسية يقدر معها على ذلك الأمر.

__________________

(١) الرعد: ٣٨.

١١٦

ولكنها تقيد تنفيذ النبي وتصرفه بإذنه سبحانه، فالأولياء وفي طليعتهم الأنبياء لا يشاءون إلّا ما شاء الله ولا يخرجون عن إطار مشيئته سبحانه.

فلو رأينا أنّ النبي قد رفض بعض المقترحات، فإنّما هو لأجل هذا السبب، فلم يكن إذن من الله سبحانه بالقيام بتلك المعاجز المقترحة، وعدم إذنه سبحانه لأجل كون عمل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لغواً لا يترتب عليه أثر من هداية السائلين أو إتمام الحجة على المغرضين، إذ المفروض أنّ السائلين ليسوا في مقام الاهتداء، والحجة قد تمت على المغرضين من قبل، ولأجل ذلك ليست هناك غاية صحيحة تبعث النبي إلى القيام بالمعاجز.

الخامسة : انّ الهدف الأسمى من الإعجاز هو هداية الناس إلى الطريق المستقيم، فلو كانت نتيجة الإعجاز إفناء الناس وإهلاكهم، لما صحّ في منطق العقل القيام بتلك الدعوة، فلو طلبوا من الرسل أن يخسف الله بهم الأرض أو يسقط عليهم السماء كسفاً أو يبيدهم العذاب من وجه الأرض، فلا يصحّ القيام بذلك الطلب، لأنّ في إجابته نقضاً للغرض وإفناءً للهدف، وهم: قد بعثوا لهداية الناس لا لإبادتهم وإهلاكهم، وسوف يلمس القارئ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لو امتنع في بعض المواقف عن القيام ببعض المقترحات فقد كان لأجل ذلك الأصل الذي دلّ العقل على رصانته.

السادسة : قد دلّت الآيات الكريمة على أنّ هناك معاجز لو طلبها الناس من نبيهم وقام هو بمقترحهم ومع ذلك قد رفضوا الاعتناق بدينه والتصديق برسالته، سيصيبهم العذاب الأليم، قال سبحانه:( وَمَا مَنَعَنَا أَن نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) (١) .

__________________

(١) الإسراء: ٥٩.

١١٧

والمراد من الآيات المقترحة هي المعاجز التي طلبها أقوام الأنبياء منهم ثم كذبوها فنزل العذاب عليهم بسبب تكذيبهم، وسيوافيك بيان مفاد الآية في محلها وانّ أية معجزة يوجب تكذيبها نزول العذاب.

هذا من جانب، ومن جانب آخر انّ الله سبحانه وعد النبي برفع العذاب الدنيوي عن هذه الأمّة ما دام هو فيها إكراماً لمقامه وتعظيماً لشأنه، قال سبحانه:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) (١) .

وعلى ضوء هذين الأمرين يتبيّن أنّ الامتناع عن القيام ببعض المعجزات المقترحة ـ التي يستلزم تكذيبها نزول العذاب ـ إنّما هو لأجل هذا الوعد القطعي الذي قطعه الله على نفسه لنبيّه، فكل معجزة يستلزم تكذيبها نزول العذاب فهي معجزة ممنوعة لأجل هذا الأمان الذي أعطاه الله سبحانه لأمّة نبيّه.

السابعة : انّ شرط القيام بالمعجزة المطلوبة هو أن لا تكون الإجابة لطلب القوم سبباً لتحقير المعاجز الأُخر وازدراءً لها، إذ في القيام ـ في هذه الصورة ـ نوع تصديق لموقف الخصم، وإغراء له في الضلالة، ولأجل ذلك نرى النبي يجيب القوم عندما طلبوا منه معجزة غير القرآن بصورة التحقير لهذه المعجزة الخالدة الباقية على وجه الدهر بقوله:( فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ) (٢) .

الثامنة : انّ الهدف من بعث الأنبياء وتزويدهم بالآيات والبينات هو إيجاد الأرضية المناسبة لإيمان قومهم وإذعانهم بما جاء به الرسل اختياراً، فإنّ الإيمان ـ بل كل عمل حسن ـ إنّما يعد كمالاً إذا اختاره الإنسان وانساق إليه بصميم قلبه، وأمّا إذا أُلجئ واضطر إليه بلا اختيار فلا يعد كمالاً له ولا يستحق ثواباً.

__________________

(١) الأنفال: ٣٣.

(٢) يونس: ٢٠.

١١٨

ولذلك نرى في مورد يتمنّى النبي ( أو يشعر كلامه بذلك التمنّي ) أن يأتي بآية ملجئة لهم إلى الإيمان وملزمة لهم على الاذعان أجابه سبحانه:( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَىٰ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ ) (١) .

وسوف يوافيك شرح الآية وهدفها.

التاسعة : انّ القيام بالطلب إنّما يصح إذا لم يكن المطلوب على خلاف السنّة الإلهية الحكيمة الجارية في الكون، وعلى ذلك فلو طلب القوم أن يأتي لهم النبي بجنة وينبوع حتى يريحهم من الكد والكدح فلا يستحق هذا الطلب الإجابة، لأنّ سنته تعالى جرت على إرزاق الناس من طريق العمل والكسب، وسيوافيك توضيح ذلك عند البحث عن قوله:( وَقَالُوا لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً ) (٢) .

العاشرة : إنّما يصح القيام إذا كان بين المطلوب والمقترح والرسالة الإلهية رابطة منطقية حتى يستدل بالأوّل على الآخر، وعلى ذلك فلو طلبوا من النبي أن يكون ذا ثروة طائلة فلا يصح للنبي الإجابة، لأنّ ثروة الرجل ليست دليلاً على صحة منطقه، وسيوافيك شرح ذلك عند البحث عن قوله سبحانه:( أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً ) (٣) .

فلو أنّ النبي امتنع عن القيام ببعض المعاجز فإنّما هو لأجل هذا الأصل، وأنت إذا لاحظت هذه الأمور تبيّن لك أنّ الآيات التي رفض فيها النبي القيام بمقترحات القوم ومطلوباتهم من المعاجز فإنّما هو لأجل فقدان إحدى هذه

__________________

(١) الأنعام: ٣٥.

(٢) الإسراء: ٩٠.

(٣) الإسراء: ٩١.

١١٩

الشرائط التي نعيد الإشارة إليها في ما يلي باختصار :

١. انّ الواجب هو اقتران دعوة النبي بالدلائل والمعاجز الكافية حتى تفيد الإذعان بصدق دعوته، لا القيام بكل معجزة تقترح عليه من آحاد الأمّة.

٢. لو اقتضت الحكمة الإلهية قيام النبي بمقترحات قومه، فإنّما تصح عقلاً الإجابة لها إذا تعلّق الطلب بالأمر الممكن لا المستحيل، فعدم الإجابة للمقترح المستحيل لا يدل على أنّه لم يزود بالمعاجز.

٣. انّما يجب على النبي القيام بالمعاجز إذا دلّت القرائن على أنّ الهدف من طلبها هو الانضواء تحت لواء الحق والاهتداء بها لا طلبها عناداً ولجاجاً وتلاعباً بشأن النبي ومعجزاته.

٤. الإعجاز نوع تصرف في الأكوان يقوم به النبي بإذن منه سبحانه، ولا يصدر الإذن منه في كل الأحايين والأوقات، وإنّما يصدر فيما إذا كانت هناك مصلحة مقتضية للتصرف.

٥. انّ الهدف من الإعجاز هو هداية الناس، فلو تعلّق الطلب بإهلاكهم وإبادتهم لم تكن إجابته صحيحة في منطق العقل لكونها نافية للغرض.

٦. انّ المعاجز التي يستلزم تكذيبها نزول العذاب الأليم كما نزل على الأمم السابقة لا يصح للنبي القيام بها، لأنّه سبحانه كتب على نفسه دفع العذاب عن الأمّة ما دام النبي فيهم، وهذا الوعد القطعي الإلهي يمنع عن القيام بتلكم المقترحات.

٧. انّ كل معجزة مطلوبة صارت سبباً لتحقير المعاجز الأخرى وازدراءً لها لا يجب على النبي في منطق العقل القيام بها، لأنّ فيه نوع تصديق لموقفهم المتعنّت.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407