مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن7%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 236553 / تحميل: 6069
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وجودهم ومشاهدتهم، ثمّ يعبّر عن تلك الأحاديث وقت المشاهدة، وتارة نطقاً عقليّاً إمّا بجزم القول: إنّ الحق والصدق كذا، وإمّا بترديد الفكر انّه هل يجوز أن يكون الشيء كذا أو يستحيل أو يجب إلى غير ذلك من الأفكار حتى انّ كلّ صانع، يُحدِّث نفسه أوّلاً بالغرض الذي توجهت إليه صنعته، ثم تنطق نفسه في حالة الفعل محادثةً مع الآلات والأدوات والمواد والعناصر، ومن أنكر أمثال هذه المعاني فقد جحد الضرورة »(١) .

وقال الفاضل القوشجي :

« إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو اخبار أو استخبار أو غير ذلك يجد في نفسه معاني يعبّر عنها يسمّيها بالكلام الحسّي، والمعنى الذي يجده في نفسه ويدور في خلده، ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات، ويقصد المتكلّم حصوله في نفس السامع على موجبه هو الذي نسميه الكلام النفسي »(٢) .

يلاحظ عليه: أنّه لو كان المراد من المعنى النفسي هو المعاني المنتظمة في خلد المتكلّم، التي لا تختلف حسب اختلاف الألفاظ والتعبيرات فهو إمّا معاني مفردة أو معاني مركبة.

وعلى كلا التقديرين فهما من أقسام العلم التصوّري أو التصديقي وليستا خارجتين عنه مع أنّ المدّعى كون التكلّم وصفاً مغايراً للعلم كما أنّ المعنى الموجود في الذهن في الانشائيات هو الإرادة والكراهة المبرزتين بالأمر والنهي وليست شيئاً ورائهما مع أنّ المدّعي انّ الكلام النفسي غير الإرادة والانشاء.

ولقد أنصف القاضي الايجي حيث أوعز إلى أنّ هذا البيان لا يتم إلّا إذا ثبت أنّ

__________________

(١) نهاية الاقدام: ص ٢٣١، ولكلامه ذيل فراجع.

(٢) شرح التجريد للقوشجي: ص ٤٢٠.

١٠١

تلك المعاني التي تدور في النفس غير العلم والإرادة(١) .

ثمّ إنّ للأشاعرة دلائل خاصّة في اثبات الكلام النفسي، وأنّ هناك معاني في النفس وهو غير العلم والإرادة والكراهة كلّها فاسدة، وقد أوضحنا حالها في بعض موسوعاتنا الكلاميّة(٢) . هذا كلّه حول حقيقة كلامه. بقي البحث عن حدوثه وقدمه فنحن في غنى عن هذا البحث بعد ثبوت كونه من صفاته الفعلية ومن المعلوم أنّ فعله سبحانه غيره، وكلّ ما هو غيره مخلوق، حادث غير قديم. نعم يجب علينا أن نجتنب عن توصيف القرآن بكونه مخلوقاً ونقول مكان كونه مخلوقاً « محدثاً » وذلك لئلاّ يفسّر بكونه « مختلقاً » ومصنوعاً للبشر قال سبحانه حاكياً عن المشركين:( إِنْ هَٰذَا إلّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) ( المدثّر / ٢٥ ).

ولأجل ذلك قال الإمام الرضا٧ عند السؤال عن القرآن :

« كلام الله لا تتجاوزوه ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوه »(٣) .

ونقل سليمان بن جعفر الجعفري انّه سأل موسى بن جعفر٧ عن القرآن وانّه مخلوق أو غير مخلوق ؟ فقال: « إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون، ولكنّي أقول: إنّه كلام الله »(٤) .

ترى أنّ الإمام٧ يبتعد عن الخوض في تلك المسألة لـمّا رأى أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام، وأنّ الإكتفاء بأنّه كلام الله أحسم لمادّة الخلاف، ولكنّهم: عند ما أحسّوا بسلامة الموقف، وهدوء الأجواء أدلوا برأيهم في الموضوع، وصرّحوا بأنّ الخالق هو الله وغيره مخلوق والقرآن ليس

__________________

(١) المواقف: ص ٢٩٤.

(٢) لاحظ « بحوث في الملل والنحل » ص ٢٧١ ـ ٢٧٨، والالهيات: ص ١٩٧ ـ ٢٠٤.

(٣) التوحيد للصدوق باب « القرآن ما هو ؟ » ص ٢٢٣ الحديث ٢.

(٤) نفس المصدر: ص ٢٢٤ الحديث ٥.

١٠٢

نفسه سبحانه، وإلّا يلزم اتّحاد الـمـُنزِل والـمُنزَل، فهو غيره، فيكون لا محالة مخلوقاً.

فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، قال: كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا: إلى بعض شيعته ببغداد :

« بسم الله الرحمن الرحيم، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة، فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة، وإن لا يفعل فهي الهلكة، نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فيتعاطى السائل ما ليس له، ويتكلّف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلّا الله عزّ وجلّ وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين، جعلنا الله وإيّاك من الذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون »(١) .

وفي الروايات المرويّة اشارة إلى المحنة التي نقلها المؤرّخون فقد كان أحمد بن أبي دؤاد كتب في عصر المأمون إلى الولاة في العواصم الإسلامية أي يختبروا الفقهاء والمحدّثين في مسألة خلق القرآن وفرض عليهم أن يعاقبوا كلّ من لا يرى رأي المعتزلة في هذه المسألة، وجاء المعتصم والواثق فطبّقا سيرة المأمون وسياسته مع خصوم المعتزلة وبلغت المحنة أشدّها على المحدّثين، ولـمـّا جاء المتوكّل نصر مذهب الحنابلة وأقصى المعتزلة وأحاطت المحنة باُولئك الذين كانوا بالأمس القريب يفرضون آراءهم بالقهر والقوّة.

بالله عليك هل يمكن عدّ مثل هذا الجدال إسلاميّاً، وقرآنيّاً وبذلك تقف على أنّه لماذا كتب الإمام الهادي إلى بعض شيعته ببغداد: « عصمنا الله وإيّاك من الفتنة ».

قال المفيد: « إنّ كلام الله محدث وبذلك جاءت الآثار عن آل محمد: وعليه اجماع الإماميّة والمعتزلة بأسرها والمرجئة إلّا من شذّ عنها وجماعة من أهل الحديث وأكثر الزيدية والخوارج. وأقول: إنّ القرآن كلام

__________________

(١) توحيد الصدوق، باب القرآن ما هو، الأحاديث: ٢ و ٣ و ٤ و ٥.

١٠٣

الله ووحيه، وأنّه محدث كما وصفه تعالى واَمْنعُ من إطلاقِ القول عليه بأنّه مخلوق، وبهذا جاءت الآثار عن الصادقين وعليه كافة الإمامية إلّا من شذّ منهم، وهو قول جمهور البغداديين من المعتزلة وكثير من المرجئة وأصحاب الحديث »(١) .

* * *

إلى هنا تمّ الكلام حول الصفتين: الإرادة والتكلّم وتعرّفت على أنّ الاُولى من الذات على معنى ومن صفات الفعل على معنى آخر، كما أنّ الثاني من صفات فعله على الاطلاق.

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ١٨ ـ ١٩.

١٠٤

١٦ ـ اسماؤه في القرآن والسنّة

قد ورد في القرآن الكريم مائة واثنان وثلاثون اسماً لله سبحانه بين بسيط ومركّب، وروى الفريقان عن النبي أنّ رسول الله٦ قال: إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً ( مائة إلّا واحدة ) من أحصاها دخل الجنّة(١) . والمراد من إحصائها هو الوقوف على معانيها أو التمثّل والتشبّه بها مهما أمكن.

ويحتمل أن يكون المراد الاجتهاد في التقاطها من الكتاب والسنّة، وجمعها وحفظها، كما يحتمل أن يكون المراد عدّها والتلفّظ بها وفي القاموس: « أحصاه: عدّه أو حفظه أو عقله ».

فلنقدّم أسماءه سبحانه في الكتاب العزيز ثمّ نردفه بما ورد عن أئمّة أهل البيت: حول تسعة وتسعين اسماً، ثمّ نذكر ما رواه أهل السنّة ونعتمد في ذلك على رواية الترمذي التي هي السند لكثير من الحفّاظ في هذا المقام.

أسماؤه في القرآن

ورد في القرآن الكريم مائة واثنان وثلاثون اسما لله تعالى وإليك بيانها على الترتيب :

« الإله، الأحد، الأوّل، الآخر، الأعلى، الأكرم، الأعلم، أرحم الراحمين، أحكم الحاكمين، أحسن الخالقين، أسرع الحاسبين، أهل التقوى، أهل المغفرة، الأقرب، الأبقى، الباري، الباطن، البديع، البرّ، البصير، التوّاب، الجبّار، الجامع، الحكيم، الحليم، الحي، الحق، الحميد، الحسيب، الحفيظ، الحفيّ، الخبير، الخالق، الخلّاق، الخير، خير الماكرين، خيرالرازقين، خير الفاصلين، خير الحاكمين، خير الفاتحين، خير الغافرين، خير الوارثين، خير الراحمين ،

__________________

(١) سيوافيك مصدر الرواية.

١٠٥

خير المنزلين، خير الناصرين، ذو العرش، ذو الطول، ذو انتقام، ذو الفضل العظيم، ذو الرحمة، ذو القوّة، ذوالجلال والإكرام، ذو المعارج، الرحمن، الرحيم، الرؤوف، الرب، رب العرش، رفيع الدرجات، الرازق، الرقيب، السميع، السّلام، سريع الحساب، سريع العقاب، الشهيد، الشاكر، الشكور، شديد العذاب، شديد العقاب، شديد المحال، الصمد، الظاهر، العليم، العزيز، العفو، العلي، العظيم، علّام الغيوب، عالم الغيب والشهادة، الغني، الغفور، الغالب، غافر الذنب، الغفّار، فالق الاصباح، فالق الحبّ والنوى، الفاطر، الفتّاح، القوي، القدّوس، القهّار، القاهر، القيّوم، القريب، القادر، القدير، قابل التوب، القائم على كلّ نفس بما كسبت، الكبير، الكريم، الكافي، اللطيف، الملك، المؤمن، المهيمن، المتكبّر، المصوّر، المجيد، المجيب، المبين، المولى، المحيط، المقيت، المتعال، المحيي، المتين، المقتدر، المستعان، المبدئ، المعيد، مالك الملك، النصير، النور، الوهّاب، الواحد، الولي، الوالي، الواسع، الوكيل، الودود، الهادي.

أسماؤه في احاديث أئمّة أهل البيت :

روى الصدوق باسناده عن الصادق٧ عن آبائه، عن عليٍّ٧ قال :

قال رسول الله٦ : « إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنّه وهي: « الله، الإله، الواحد، الأحد، الصمد، الأوّل، الآخر، السميع، البصير، القدير، القاهر، العلي، الأعلى، الباقي، البديع، البارئ، الأكرم، الظاهر، الباطن، الحيّ، الحكيم، العليم، الحليم، الحفيظ، الحق، الحسيب، الحميد، الحفي، الرب، الرحمن، الرحيم، الذاري، الرازق، الرقيب، الرؤوف، الرائي، السّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، السيّد، السبّوح، الشهيد، الصادق، الصانع، الطاهر، العدل، العفو، الغفور ،

١٠٦

الغني، الغياث، الفاطر، الفرد، الفتّاح، الفالق، القديم، الملك، القدّوس، القوي، القريب، القيّوم، القابض، الباسط، قاضي الحاجات، المجيد، المولى، المنّان، المحيط، المبين، المقيت، المصوّر، الكريم، الكبير، الكافي، كاشف الضر، الوتر، النور، الوهّاب، الناصر، الواسع، الودود، الهادي، الوفي، الوكيل، الوارث، البر، الباعث، التوّاب، الجليل، الجواد، الخبير، الخالق، خير الناصرين، الديّان، الشكور، العظيم، اللطيف، الشافي »(١) .

والمذكور في الحديث مائة اسم، لكن الظاهر أنّ لفظة الجلالة ليست من الأسماء الحسنى، وقد ذكر بعنوان المسمّى الجاري عليه الأسماء، وبذلك يستقيم العدد.

أسماؤه سبحانه في أحاديث أهل السنّة

أخرج الترمذي، وابن المنذر، وابن حبّان، وابن مَندة، والطبراني، والحاكم، وابن مَردويه، والبيهقي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله٦ : « إنّ لله تسعة وتسعين اسما مائة إلّا واحد، من أحصاها دخل الجّنة، إنّه وتر يحبّ الوتر: هو الله الذي لا إله إلّا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفّار، القهّار، الوهّاب، الرازق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد ،

__________________

(١) التوحيد للصدوق: ص ١٩٤ ج ٨.

١٠٧

الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التوّاب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذوالجلال والاكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور »(١) .

ونحن امتثالاً لأمر النبي الأكرم، نرجع إلى إحصاء الأسماء التي وردت في القرآن الكريم، ولو سمح الوقت نرجع إلى إحصاء ما ورد في حديث أئمّة أهل البيت٧ لعلّ الله يرزقنا الجنّة حسب وعد نبيّه الأعظم٦ .

تمّ البحث عن الاُمور التي كان طبع البحث يقتضي ايرادها وهي خمسة عشر أمراً. ومن هنا ندخل في صلب البحث وهو تفسير أسماءه الواردة في الذكر الحكيم على حسب الحروف الهجائيّه إلّا ما شذّ.

__________________

(١) صحيح الترمذي: ج ٥ باب الدعوات، ص ٥٣٠ الحديث ٥٠٧.

١٠٨

تفسير أسمائه الواردة في القرآن الكريم

قد عرفت أنّه ورد في الذكر الحكيم مائة وخمسة وثلاثون اسماً له سبحانه فعلينا البحث عن معانيها، وما تهدف إليها تلك الأسماء، نذكرها مع تفسيرها على ترتيب الحروف الهجائيّة إلّا إذا اقتضى المقام الجمع بين الاسمين فنفسّرهما معاً من غير مراعاة الترتيب.

والتفسير الصحيح يعتمد على أمرين :

١ ـ تحديد معناه اللغويّ تحديداً معتمداً على المعاجم الموثوق بها.

٢ ـ عرض الاسماء بعضها على بعض، والامعان في القرائن الواردة في الآيات

وإليك البحث واحداً بعد آخر.

حرف الالف

الأوّل: الإله

قد جاء لفظ الجلالة ( الله ) في الذكر الحكيم ٩٨٠ مرّة كما جاء لفظ الإله بصوره المختلفة ( إله، إلها، إلهك، إلهكم، وإلهنا ) ١٤٧ مرّة والاسهاب في البحث يقتضي الكلام في المواضع التالية :

١ ـ لفظ الجلالة عربي أو عبري ؟

قد نقل عن أبي زيد البلخي: إنّ لفظ الجلالة ليس بعربي بل عبري أخذه العرب عن اليهود، واستدل عليه بأنّ اليهود يقولون: « إلاها » والعرب حذفت المدة

١٠٩

التي كانت موجودة في آخرها في العبرية ككثير من نظائرها العبرية فتقول « أب » بدل « أباه » و « روح » بدل « روحا » و « نور » بدل « نورا » إلى غير ذلك.

وذهب الباقون إلى أنّها عربية صحيحة وقد كانت العرب تستعمل تلك اللفظة قبل بعثة النبي بقرون، ولا تشذّ عن سائر الاُمم، فإنّ لكلّ اُمّة على أديم الأرض لفظاً خاصّاً لخالق العالم وبارئه ومدبّره، فالفرس عندهم « خدا » و « إيزد » كما أنّ للترك « تاري » ومن البعيد أن لا يكون عند العرب المعروفين بالبيان والخطابة لفظ يعبّرون به عمّا تهديهم فطرتهم إليه وتدلّهم عليه قال سبحانه:( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) ( لقمان / ٢٥ ـ الزمر / ٣٨ ).

واشتراك الشعبين في التعبير عن مبدأ العالم لا يدل على أنّ العرب أخذت من اليهود خصوصاً إذا قلنا بأنّ اللسانين يرجعان إلى اُصول ومواد واحدة، وإنّما طرأ عليهما الاختلاف لعلل وظروف إجتماعية وغيرها والكلّ من العنصر « السامي ».

٢ ـ لفظ الجلالة مشتقّ أو لا ؟

اختلفوا في أنّ لفظ الجلالة مشتق من اسم آخر أو لا ؟ بعد ما اتّفقوا على أنّ ما سوى هذه اللفظة من أسمائه سبحانه من باب الصفات المشتقة، أمّا هذه اللفظة فقد نقل عن « الخليل » و « سيبويه » و « المبرّد » أنّها غير مشتقة وجمهور المعتزلة وكثير من الاُدباء على أنّها من الأسماء المشتقة.

ثمّ القائلين بالاشتقاق اختلفوا في المعنى المشتق منه إلى أقوال كثيرة يطول المقام بذكرها وذكر حججها وإنّما نشير إليها إجمالا :

أ ـ إنّ لفظ الجلالة مشتق من الاُلوهية بمعنى العبادة، والتألّه: التعبّد، وهذا هو المعروف بين كثير من المحدّثين والمفسّرين، ويظهر من روايات بعض أئمّة أهل البيت: .

١١٠

روى الكليني عن هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد الله٧ عن أسماء الله واشتقاقها :

الله ممّا هو مشتق ؟ قال: فقال لي: « يا هشام، الله مشتق من إله، والاله يقتضي مألوهاً والاسم غير المسمّى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا »(١) .

وقال الصدوق: الله والإله هو المستحق للعبادة ولا يحق العبادة إلّا له، وتقول لم يزل إلهاً بمعنى أنّه يحق له العبادة ولهذا ضلّ المشركون فقدّروا أنّ العبادة تجب للأصنام سمّوها الالهة وأصله « الإلاهة » وهي العبادة(٢) .

ب ـ إنّه مشتق من « الوله » وهو التحيّر.

ج ـ إنّه مشتق من قولهم ألهت إلى... أي فزعت إليه لأنّ الخلق يألهون إليه أي يفزعون إليه في حوائجهم.

د ـ إنّه مشتق من ألهت إليه سكنت إليه لأنّ الخلق يسكنون إلى ذكره.

ه‍ ـ إنّه من « لاه » أي احتجب فمعناه انّه المحتجب بالكيفيّة عن الأوهام(٣) .

و ـ إنّه مشتق من الوله: المحبة الشديدة، فاُبدلت الواو همزة فقالوا: أله يأله.

ز ـ إنّه مشتق من لاه يلوه إذا ارتفع، والحق سبحانه مرتفع بالمكان أو بالمقام.

ح ـ إنّه مشتق من قولك ألهت بالمكان إذا أقمت فيه، فإنّه تعالى استحق هذا الاسم لدوام وجوده(٤) .

__________________

(١) الكافي ـ كتاب التوحيد ـ: باب المعبود، ص ٨٧، ورواه الصدوق في كتاب التوحيد باب أسماء الله الحديث ١٣.

(٢) التوحيد للصدوق: باب أسماء الله تعالى في ذيل الحديث رقم ٩، ثم ترك سائر الوجوه الاتية.

(٣) مجمع البيان: ج ١ ص ١٦ طبع صيدا.

(٤) لوامع البينات للرازي: ص ١٠٦ ـ ١٢٠، فقد أسهب الكلام في ذكر الأقوال وحججها ونقدها.

١١١

وعلى كلّ تقدير فالله أصله « إله » فحذفت همزته وادخل عليه الألف واللام وادغمت اللامان فصار « الله » وخص بالباري تعالى، قال تعالى( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) ( مريم / ٦٥ )(١) .

والظاهر أنّ القائلين بالاشتقاق والمنكرين له لا يختلفون في أنّه عَلَم لذاته سبحانه وإنّما يختلفون في أنّ التسمية هل كانت إرتجالية وانّه لم تلاحظ في مقام التسمية أية مناسبة بين المعنيين أو كانت غير ارتجالية، وقد نقل عن المعنى اللغوي إلى المعنى العلَمي لمناسبة موجودة بينهما، فالقائلون بالاشتقاق على الأوّل والمنكرون له على الثاني.

هذا هو لبّ النزاع في المقام.

والعجب أنّ الرازي توهّم أنّ النزاع في اشتقاقه وعدمه راجع إلى أنّ لفظ الجلالة علَم أو لا ؟ فحسب أنّ القول بالاشتقاق ينافي العلمية ثمّ استدل على نفيه بأنّه لو كان مشتقاً لما كان قولنا « لا إله إلّا الله » تصريحاً بالتوحيد لأنّه حينئذ مفهوم كلّي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فلو كان مشتقاً لكان كلّياً، ولو كان كذلك لم يكن قولنا « لا إله إلّا الله » مانعاً من وقوع الشركه(٢) .

يلاحظ عليه: أنّه لا مانع من كون لفظ الجلالة مشتقاً من « أله » بأيّ معنى تصوّر ثم يكون علماً للذات بالمناسبة الموجودة بين المنقول منه والمنقول إليه شأن كلّ الأعلام المشتقة وسيأتي تمام الكلام في البحث الرابع.

٣ ـ « أللّهمّ » مكان « الله »

وقد يعبر عن لفظ الجلالة ب‍ « اللّهمّ » قال سبحانه:( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ

__________________

(١) مفردات الراغب: مادّة « إله ».

(٢) لوامع البينات: ص ١٠٨، وقس على ذلك سائر ما استدلّ به.

١١٢

تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ ) ( آل عمران / ٢٦ )، وحكى سبحانه عن بعض الكافرين قولهم:( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ ) ( الأنفال / ٣٢ ) وقد اختلفوا في تفسيره عن « الخليل » وتلميذه « سيبويه »: معناه يا الله والميم المشدّده عوض من ياء النداء وعن « الفرّاء » إنّه كان « يا الله آمنّا بخير » فلمّا كثر في الكلام حذفوا حرف النداء وحذفوا الهمزة من أمّ فصار « اللهمّ » بل حذفوا ضمير المتكلّم مع الغير أيضاً في « آمنّا ».

٤ ـ ما هو المقصود من « الإله » في الذكر الحكيم

قد عرفت وجود الاختلاف في اشتقاق لفظ الجلالة من لفظة « إله » وعدمه كما عرفت اختلاف القائلين بالاشتقاق في المعنى الذي اشتق منه ذلك اللفظ وجعله علماً للذات. هذا وعلى كلّ تقدير فلا يتبادر من لفظ الجلالة إلّا الذات المستجمع لصفات الجمال والجلال، فهو علم بلا اشكال يعادله ما في سائر لغات العالم ممّا يستعمل في ذلك المجال.

غير أنّه يجب أن يعلم انّ لفظ الجلالة ولفظ « الإله » كانا لا يفهم منهما في عصر نزول القران إلّا الخالق البارئ للعالم، وأمّا ما ذكر من المعاني للاله والوجوه المختلفة لاشتقاق لفظ الجلالة منه، فكلّّها يرجع ـ على فرض الصحّة ـ إلى ما قبل عصر نزول القرآن، فلعلّه كان يفهم من لفظ « إله » العبادة، والتحيّر، والعلو، والسكون، والفزع، أو كان يفهم من لفظ الجلالة الذات الواجدة لاحدى هذه المعاني، وأمّا في عصر نزول القرآن فلم تكن هذه المعاني مطروحة لأهل اللّغة أبداً لا في لفظ الجلالة ولا في لفظ « الإله » وإنّما المفهوم منهما ما تهدي إليه فطرتهم وتدل عليه عقولهم من البارئ الخالق المدبّر للعالم الذي بيده ناصية كلّ شيء أو ناصية الإنسان على الأقل.سواء كان إلها واقعيّاً أو إلهاً مختلقاً لا يملك من الاُلوهية سوى الاسم كالأصنام المعبودة للعرب وغيرهم.

١١٣

فالكلمتان: « الله وإله » لفظان متّحدان معنى غير أنّ أحدهما علم يدل على فرد خاص والآخر كلّي يشمل ذلك الفرد وغيره، وبما أنّ اللغة العربيّة تتمتع بالسعة والعموم وضعوا لفظين يشيرون بواحد منه إلى الفرد وبالآخر إلى الكلّّي الجامع له ولغيره، فالاسم العام هو الإله والاسم الخاص هو الله.

وأمّا سائر اللغات فالغالب عليها هو اتحاد اللفظ الموضوع للمعنى الكلّّي والمعنى العلمي فيتوسّلون لتعيين المراد منه بالعلامة والقرينة. مثلاً يكتبون في اللغة الانكليزية لفظة « گاد » بصورة « god » عند ما يراد منه المعنى الكلّي وبصورة « God » عند ما يراد منه المعنى العلمي، وبهذا يشيرون إلى المعنى المقصود وأمّا اللغات الفارسية والتركية والارديّة فالمكتوب والملفوظ في المقامين واحد، وإنّما يعلم المراد بالقرائن الحافّة بالكلام.

والحاصل: انّ المعاني المذكورة للفظ « إله » أو المناسبات المتصورة لاشتقاق لفظ الجلالة من مادة « إله » لو صحّ فإنّما يصحّ في الأدوار السابقة على نزول القرآن، وأمّا بقاء تلك المناسبات إلى زمان نزول القرآن وادعاء أنّ القرآن استعملها بملاحظة إحدى هذه المعاني والمناسبات فأمر لا دليل عليه.

على أنّ لقائل أنْ يقول: إنّ هذه المعاني من لوازم معنى الإله وآثاره وليست من الموضوع له بشيء فإنّ من اتّخذ أحداً « إلهاً » لنفسه فهو يعبده قهراً ويفزع إليه عند الشدائد، ويسكن قلبه عنده إلى غير ذلك من لوازم صفة الاُلوهيّة وآثارها.

هذا هو المدّعى والذي يثبت ذلك وجود لفيف من الآيات ورد فيها لفظ الاله ولا يصحّ تفسيره إلّا بما ذكرنا أي كون المقصود منه هو الخالق البارئ لكن بشرط العموم والكلّية، لا بسائر المعاني المذكورة، أو بمعنى المتصرف المدبّر، أو من بيده أزمّة الاُمور أو ما يقرب من ذلك ممّا يعد فعلاً له تعالى وإليك الآيات :

١ ـ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا ) ( الأنبياء / ٢٢ ) فإنّ البرهان على نفي تعدد الآلهة لا يتم إلّا إذا جعلنا « الإله » في الآية بمعنى المتصرّف المدبّر أو من بيده

١١٤

أزمّة الاُمور أو ما يقرب من هذين. ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان، لبداهة تعدد المعبودين في هذا العالم، مع عدم الفساد في النظام الكوني، وقدكانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحم بالآلهة، ومركزها مع كون العالم منتظماً غير فاسد.

وعندئذ يجب على من يجعل « الاله » بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ « بالحق » أي لو كان فيهما معبودات ـ بالحق ـ لفسدتا ولما كان المعبود بالحق مدبّراً ومتصرفاً لزم من تعدّده فساد النظام، وهذا كلّه تكلّف لا مبرر له.

٢ ـ( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ( المؤمنون / ٩١ ).

ويتم هذا البرهان أيضاً لو فسّرنا الإله بما ذكرنا من انّه كلّيّ ما يُطلق عليه لفظ الجلالة. وإن شئت قلت: إنّه كناية عن الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من يقوم بأفعاله وشؤونه، والمناسب في هذا المقام هو الخالق، ويلزم من تعدّده ما رتب عليه في الآية من ذهاب كلّ إله بما خلق واعتلاء بعضهم على بعض.

ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان، ولا يلزم من تعدّده أي اختلال في الكون. وأدل دليل على ذلك هو المشاهدة. فإنّ في العالم آلهة متعدّدة، وقد كان في أطراف الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستون إلهاً ولم يقع أي فساد واختلال في الكون.

فيلزم على من يفسّر « إله » بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

٣ ـ( قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ) ( الاسراء / ٤٢ ) فانّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدّد الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من بيده أزمّة اُمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى الالوهيّة، وأمّا تعدد المعبود فلا يلازم ذلك إلّا بالتكليف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

١١٥

٤ ـ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ *لَوْ كَانَ هَٰؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا ) ( الأنبياء / ٩٨ و ٩٩ ) والاية تستدل بورود الأصنام والأوثان في النار على كونها غير آلهة إذ لو كانت آلهة ما وردت النار.

والاستدلال إنّما يتم لو فسّرنا الآلهة بما أشرنا إليه فانّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرّف فيه أو من فوّض إليه أفعال الله أجلّ من أن يحكم عليه بالنار وأن يكون حصب جهنّم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان لأنّ المفروض انّها كانت معبودات وقد جعلت حصب جهنم. ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه وإليك مورداً منها :

( فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ ) ( الحج / ٣٤ ).

فلو فسر الإله في الآية بالمعبود لزم الكذب، إذ المفروض تعدّد المعبود في المجتمع البشري، ولأجل هذا ربّما يقيّد الإله هنا بلفظ « الحق » أي المعبود الحق إله واحد. ولو فسّرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرّف وايصال النفع، ودفع الضر على نحو الاستقلال لصحّ حصر الإله ـ بهذا المعنى ـ في واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة إذ من المعلوم أنّه لا إله في الحياة البشرية والمجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها.

ولا نريد أن نقول: إنّ لفظ الاله بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الشفيع الغافر، إذ لا يتبادر من لفظ الإله إلّا المعنى البسيط، بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الموضوع له لفظ الإله، ومعلوم أنّ كون هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط، غير كونها معنى موضوعاً للفظ المذكور كما أنّ كونه تعالى ذات سلطة على العالم كلّه أو بعضه سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره، وصف مشير إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ الإله، لا أنّه نفس معناه(١) .

__________________

(١) لاحظ الجزء الأول من مفاهيم القرآن: ص ٤٤٠ ـ ٤٤٢.

١١٦

٥ ـ إنّ الذكر الحكيم ربّما يستعمل لفظ الجلالة مكان الاله، بمعنى أنّه يريد منه المعنى الكلّي والوصفي دون العلمي، وهذا يعرب عن أنّ اللفظين متّحدان أو متقاربان في المعنى.

قال سبحانه:( وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) ( الأنعام / ٣ ).

وقال سبحانه:( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر / ٢٣ ).

وقال سبحانه:( هُوَ اللهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الحشر / ٢٤ ).

وقال سبحانه:( وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) ( النساء / ١٧١ ).

فانّ وزان « الله » في هذه الآيات وزان « الإله » في قوله سبحانه :

( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَٰهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) ( الزخرف / ٨٤ ).

فقد اُريد من لفظ الجلالة في الآيات الأربع المتقدمة نفس ما أريد من لفظ الإله من المعنى الكلّي في الآية الأخيرة ومعناه انّه « الاله » الذي يتّصف بكذا وكذا وليس كذا وكذا فكأنّه اطلق لفظ الجلالة واُريد منه إله العالم وخالقه وبارئه ولم يرد منه الفرد الخارجي ولأجل ذلك عاد إلى التنبيه على أنّه واحد لا كثير وذلك ببيان صفاته الجمالية والكمالية.

٦ ـ إنّ الذكر الحكيم يستعمل لفظ الإله في الخالق البارئ المدبّر ولا يمكن لأي مفسّر تفسيره باحدى المعاني المتقدمة ويقول:( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ

١١٧

اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ) ( القصص / ٧١ ).

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( القصص / ٧٢ ).

فلفظ « الإله » في هاتين الآيتين معادل للفظ الجلالة لكن بشرط العمومية والكلّية أو إلغاء الجزئيّة والخصوصيّة ولا يستقيم البرهان الوارد فيهما إلّا بتفسير الإله بما يعادل الخالق المدبّر لا بتفسيره بالمعبود والمحبوب إلّا بتكلّّف والاية بصدد البرهنة على أنّه ليس في الكون مدبّر سواه ولذلك لو جعل الله عليكم الليل سرمداً من إله ( مدبّر ) غير الله يأتيكم بضياء، ولو جعل عليكم النهار سرمداً من إله غيره سبحانه يأتيكم بليل، فإذاً الالوهيّه ( المعادلة للخالقيّة والمدبريّة ) منحصرة فيه، لا يشاركه فيها غيره فهو إله واحد ليس غيره.

أضف إلى ذلك انّ مقتضي كون الاستثناء متّصلاً، دخول المستثنى منه في المستثنى دخولاً واقعياً، وبما أنّ المراد من المستثنى هو الخالق الذي بيده مصير الإنسان والأشياء فليكن هو المراد من المستثنى منه لكن بتفاوت انّ احدهما كلّي والآخر جزئي.

وقد عرفت انّ القول بإنّ لفظ الجلالة علم للذات المستجمع لجميع صفات الجمال والكمال أو الخالق والبارئ للأشياء أو لمن بيده مصير العالم والإنسان فلايراد دخول هذه المفاهيم بالصورة التفصيليّة في معناه وإنّما هي موضوع لما تهدي إليه الفطرة أو تدل عليه العقول من سيطرة قدرةٍ على العالم لها تلك الخصوصيّات فهي من الخصوصيّات الفرديّة التي يمتاز بها عمّن سواه من الأفراد لا أنّها أجزاء للمعنى والجامع بين أفراد الإله المفروضة، لا المحققة أمر بسيط يشار إليه بأمر من الاُمور.

١١٨

٧ ـ والذي يعرب بوضوح إنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو كلمة الاخلاص « لا إله إلّا الله » إذ لو كان المقصود من الإله المعبود لكان هذه الجملة كذباً، لأنّ من البديهي وجود آلاف المعبودات في هذه الدنيا غير الله ومع ذلك كيف يمكن نفي معبود سوى الله ولأجل ذلك اضطرّ القائل أن يقول « الإله » بمعنى المعبود وأن يقدّر لفظ « بحق » لتكون الجملة هكذا: « لا إله بحق إلّا الله »، مع أنّ تقدير لفظ « بحق » خلاف الظاهر فإنّ كلمة الإخلاص تهدف إلى نفي أي إله في الكون سوى « الله » وإنّه ليس لهذا المفهوم مصداق بتاتاً سواه، وهذا لا ينسجم إلّا أن يكون « الاله » مع لفظ الجلالة متّحدين في المعنى وأمّا جعل لفظ الجلالة علماً للذات وجعل الإله بمعنى المعبود أو ما يشابهه فلا يحصل منه المعنى المقصود بسهولة.

وأمّا جمعه على لفظ الآلهة مع أنّ مصداقه منحصر في فرد فلا يدلّ على أنّه بمعنى المعبود بل لأجل أنّ العرب كانت معتقدة بتعدّد مصداقه قال سبحانه:( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا ) ( الأنبياء / ٤٣ )

إلى هنا تبيّن أنّ المفهوم من لفظ الجلالة ولفظ الإله واحد، وأمّا ما ذكر من المعاني من الخلق والتدبير والإحياء والإماتة وكون مصير الإنسان بيده فإنّما هو من لوازم الالوهية واقعاً أو عند المتصور.

وربما يستدل على أنّ الإله في الذكر الحكيم بمعنى المعبود وانّ أَلَهَ بمعنى عَبَدَ، تمسكاً بقوله:( وَقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) ( الاعراف / ١٢٧ ) حيث قرء « وإلاهتك » اي يذرك وعبادتك ولكن الإجابة عنه واضحة.

أمّا أوّلاً فلأنّ القراءة المتواترة هي « وآلهتك » أي ليذرك وآلهتك التي أنت تعبدها حيث كان فرعون يستعبد الناس ويعبد الأصنام بنفسه(١) .

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ٤٦٤.

١١٩

وثانياً: على فرض صحّة القراءة فالمراد منها هو الالوهية بالمعنى المتبادر في سائر الآيات أي يتركوا قولاً وعملاً أنك إله وأنت ربّهم الأعلى إلى غير ذلك من العناوين المشيرة إلى معنى الإله أي ينكروا إنّك إلههم وإله العالمين.

نعم قال الراغب: و « إله » جعلوه اسماً لكلّ معبود لهم، وكذا الذات(١) وسمّوا الشمس إلاهة لاتّخاذهم ايّاها معبوداً وأله فلان يأله عبد وقيل تألّه فالإله على هذا هو المعبود(٢) وكلامه هذا قابل للتوجيه وعلى فرض ظهوره في كون الإله بمعنى المعبود فقد عرفت عدم استقامته في كثير من الايات.

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة: إنّ لفظ الجلالة علم للذات الذي نشير إليه بصفات الجمال والكمال وانّ لفظ الإله موضوع لذلك المعنى لكن بصورة الكليّة والسعة، وأنّه يجب أن يفسّر « الإله » في جميع الآيات بهذا النحو وانّ تفسيره بالمعبود وغيره تفسير بالمعنى اللازم لا بالمعنى الموضوع له.

وهاهنا نكتة نشير إليها وهو انّ كتب الوهابيّة مليئة بتقسيم التوحيد إلى قسمين: توحيد في الربوبيّة، وتوحيد في الالوهيّة، ويريدون من الأوّل التوحيد في الخالقيّة ومن الثاني التوحيد في العبادة وكلا التفسيرين غير صحيح أمّا الربوبيّة فليست مرادفة للخالقيّة بل هو أمر آخر وراء الخلقة ولو أردنا أن نفسّره فليفسّر بالتوحيد في التدبير وإدارة العالم، وأمّا الالوهية فقد عرفت أنّ الإله والالوهية ليس بمعنى العبادة وإنّما العبادة من لوازم الاعتقاد بكون الموجود إلها، فلو أردنا أن نعبّر عن التوحيد في ذلك المجال فيجب أن نقول التوحيد في العبادة(٣) .

__________________

(١) كذا في النسخة المطبوعة ويحتمل أن يكون لفظ « الذات » مصحّف « اللات ».

(٢) المفردات: ص ٢١.

(٣) وقد مرّ في الجزء الأوّل من كتابنا ما يفيدك في المقام، لاحظ: ص ٣٤٨.

١٢٠

خاتمة المطاف

وممّا يقضي منه العجب أنّ جلّ من ينسبون أنفسهم إلى مذهب السلفيّة ينكرون ذكر الله تعالى بالاسم المفرد ( الله ) دون ذكره في جملة ذات معنى تامّ، وينسبون من يذكر الله باسمه المفرد وحده إلى الضلال ويستدلّون على ذلك بأنّ جميع ما ورد من صيغ الأذكار في القرآن والسنّة جمل أو كلمات ذات دلالة على معنى يتضمّن حكماً كاملاً مثل لا إله إلا الله، أستغفر الله وليس فيها لفظ الجلالة المفرد، فذكر الله بهذا اللفظ المفرد باطل، ويضيف ابن تيميّة بأنّ الاستمرار على ذكر الله بهذا اللفظ المفرد من شأنه أن يزجّ الذاكر شيئاً فشيئاً في أوهام الحلول ووحدة الوجود(١) .

لقد عزب عنه ومضافاً إلى أنّ اطلاقات الأدلّة(٢) كاف في ذلك أنّه سبحانه يأمر نبيّه أن يذكر الله باسمه المفرد ويقول:( قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) ( الانعام / ٩١ ).

وأمّا ما ذكره به في آخر كلامه من أنّ الاستمرار على ذكر الله عسى أن يزجّ الرجل في أوهام الحلول شيئاً فشيئاً لا قيمة له فانّه اجتهاد تجاه النص أولاً، وهو بنفسه موجود في سائر الأسماء ثانياً.

الثاني: الأحد

قد ورد لفظ « الأحد » بصوره المختلفة في الذكر الحكيم ٧٤ مرّة وقد وقع وصفاً له سبحانه في موردين فقط.

__________________

(١) مجموع الفتاوى: ج ١٠ ص ٥٥٦.

(٢) مثل قوله سبحانه:( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الدهر / ٢٥ )، وقوله سبحانه:( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ) ( الأعراف / ٢٠٥ ).

١٢١

قال سبحانه:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ *اللهُ الصَّمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

قال ابن فارس: أحد والأصل « وحد »، وعن الزجّاج: إنّه مأخوذ من « الواحد » وقال الأزهري: أنّه يقال: وحد يوحد فهو وَحَد، كما يقال: حسن يحسن فهو حسن ثم انقلبت الواو همزة فقالوا « أحد »، والواو المفتوحة قد تقلب همزة كما تقلب المكسورة والمضمومة ومنها امرأة اسماء بمعنى وسماء من الوسامة.

وقد ذكروا فروقاً بين الواحد والأحد وإليك البيان :

١ ـ إنّ الواحد اسم لمفتتح العدد فيقال: واحد، اثنان، ثلاثة، ولا يقال أحد، اثنان، ثلاثة، قال الصدوق: الأحد ممتنع من الدخول في الضرب والعدد والقسمة وفي شيء من الحساب، والواحد منقاد للعدد والقسمة وغيرهما داخل في الحساب فتقول: واحد في اثنين أو ثلاثة، و « الأحد » ممتنع عليه هذا، فلا يقال: أحد بين اثنين(١) .

٢ ـ إنّ لفظه « أحداً » إذ وضعت في حيّز النفي تفيد عموم النفي بخلاف لفظة « الواحد » فهو منصرف إلى نفي العدد لا إلى نفي الجنس، فلو قيل ما في الدار واحد يصحّ أن يقال بل فيها اثنان، وامّا لو قيل ما في الدار أحد بل اثنان كان خطأ.

٣ ـ إنّ لفظ الواحد يمكن جعله وصفاً لكلّ شيء يقال رجل واحد، ثوب واحد بخلاف الأحد فلا يصحّ وصف شيء في جانب الاثبات بالأحد إلّا الله الأحد فلا يقال رجل أحد ولا ثوب أحد فكأنّه تعالى استأثر بهذا النعت.

وأمّا في جانب النفي فقد يذكر هذا في غير الله تعالى أيضاً فيقال: ما رأيت أحداً وعلى هذا فالأحد والواحد كالرحمان والرحيم.

__________________

(١) التوحيد للصدوق: ص ١٩٧ بتلخيص.

١٢٢

فالأوّل مختص دون الثاني، فكذلك الأحد فهو مختص به في مقام التوصيف دون الواحد، وقال الراغب ( من أقسام استعمالاته ) أن يستعمل مطلقاً وصفاً وليس ذلك إلّا في وصف الله ( قل هو الله أحد )(١) .

وقد احتمل الرازي أنّ تنكير أحد في قوله « قل هو الله أحد » لأجل أنّه صار نعتاً لله عزّ وجلّ على الخصوص فصار معرفة فاستغنى عن التعريف.

ويحتمل أن يكون التنكير لأجل التنبيه على كمال الوحدانية كقوله سبحانه:( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ ) ( البقرة / ٩٦ ). أي على حياة كاملة مضافاً إلى استعمال الأحد في الأدعية معرفة.

قال الأزهري سئل أحمد بن يحيى عن الآحاد هل هو جمع الأحد ؟ فقال: معاذ الله ليس للأحد جمع ولا يبعد أن يقال الآحاد جمع واحد كما أنّ الاشهاد جمع شاهد(٢) .

ثمّ إنّه اجتمع في قوله سبحانه:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ألفاظ ثلاثة من أسماء الله وكلّ واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات السائرين إلى الله.

أمّا الأوّل أعني لفظة « هو » فقد جاء به من دون ذكر مرجع وقد زعم النحويّون غير البارعين في المعارف الإلهية انّه للشأن ولكن يمكن أن يقال: إنّه ليس للشأن وإنّما يرجع إليه سبحانه والتعبير به من دون ذكر المرجع يناسب البارعين الذين نظروا إلى صفحة الوجود فلم يروا موجوداً مستحقاً لاطلاق اسم الوجود أو الموجود إلّا ايّاه فكأنّه ليس في الدار غيره ديّار فكان قوله « هو » كافياً في حق هذه الطائفة لأنّه إذ لم يكن في صفحة الوجود إلّا هو كانت الإشارة المطلقة لا تتوجه إلّا إليه وغيره يحتاج إلى مرجع.

__________________

(١) المفردات: ص ١٢.

(٢) لوامع البينات: ص ٣٣١.

١٢٣

ثمّ إنّه سبحانه أوضحه بقوله « الله » ولعلّه لتفهيم طبقة اُخرى تليهم في المعرفة وهم الذين يرون الكثرة في الوجود وانّ هناك واجباً وممكناً فاحتاج ضمير الإشارة إلى مميز وذلك هو قوله الله، وعلى هذا فالمجموع « هو الله » راجع إلى الطبقتين.

وأمّا الطبقة الثالثة الذين يجوّزون الكثرة لا في الوجود بل في الإله، فردّ سبحانه وهمهم بقوله « هو الله أحد » لهدايتهم(١) .

ثمّ إنّه سبحانه كرر لفظة « أحد » في سورة الإخلاص ووصف نفسه به مرّتين وقال: قل هو الله أحد ثم قال: ولم يكن له كفواً أحد، فهل اُريد من اللفظة في كلا الموردين معنى واحد أو اُريد معنيان ؟ وبعبارة واضحة هل اللفظتان تشيران إلى قسم واحد من التوحيد أو إلى قسمين، فالظاهر أنّ الآية الثانية ناظرة إلى التوحيد الذاتي بمعنى انّه واحد لا مثيل له ولا نظير بل لا يتصور له التعدد والاثنينية، وأمّا الآية الاُولى فهي ناظرة إلى التوحيد الذاتي لكن بمعنى البساطة ونفي التجزئة عن الذات.

وقد فسّره الصدوق بذلك في توحيده فقال: الأحد معناه أنّه واحد في ذاته أي ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا أعضاء(٢) .

قال الطبرسي: الأحد هو الذي لا يتجزأ ولا ينقسم في ذاته ولا في صفاته(٣) .

ويقول الجزائري في « فروق اللغات » في الفرق بين الواحد والأحد :

إنّ الواحد، الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر، والأحد الفرد الذي لا يتجزّأ ولا ينقسم.

يقول العلامة الطباطبائي (ره) :

« والأحد وصف مأخود من الوحدة كالواحد غير أنّ الأحد إنّما يطلق على ما

__________________

(١) لوامع البينات: ص ٣١١، وتوحيد الصدوق: ص ١٩٦.

(٢) توحيد الصدوق: ص ١٩٦.

(٣) مجمع البيان: ج ٥ ص ٥٦٤.

١٢٤

لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً »(١) .

وفي ضوء هذا يمكن أن يقال: إنّ قوله سبحانه ولم يكن له كفواً أحد بشهادة لفظ « كفوا » ناظر إلى نفي المثيل والنظير له سبحانه، فهو واحد في الذات فلا ذات كذاته كما هو واحد في الفعل فلا خالق ولا مدبّر سواه وانّ قوله: « قل هو الله أحد » ناظر إلى نفي أي نوع من التركيب والتجزئة في ذاته سبحانه، وبذلك يعلم أنّ هذه السورة نزلت ردّاً لمزعمة النصارى بل اليهود أيضاً فالنصارى بحجّة أنّهم قالوا بالتثليث واليهود بحجة أنّهم يقولون: إنّ العزير ابن الله محجوجون بما ورد في هذه السورة فالله سبحانه واحد لا مثيل له، بسيط لا جزء له. فلو كان مرجع التثليث عند المسيحية إلى أنّ كلّ واحد من « الأب » و « الابن » و « روح القدس » إله مستقل متفرّد في الالوهية فله كفو بل كفوان مع أنّه سبحانه « لم يكن له كفوا أحد » أي لم يكن له مثيل ولا نظير فلا يتكرر ولا يتعدد، وإن لم يكن كلّ واحدٍ إلهاً مستقلاً بل كلّ واحد يشكّل جزء من الالوهية فالله سبحانه هو المركب من هذه الثلاثة فهو سبحانه عندهم مركّب لا بسيط متجزئ منقسم. فردّ عليهم سبحانه بقوله:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) .

وقد ورد في ما روي عن بعض أئمّة أهل البيت: ما يؤيّد هذا الاستظهار. قال الامام أمير المؤمنين7 في جواب أعرابي سأله يوم الجمل عن تفسير قوله: « إنّ الله واحد » فقال7 في كلام مبسوط :

« وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا وقول القائل انّه عزّ وجلّ أحدي المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا »(٢) .

وبذلك تقف على أنّ التوحيد الذاتي ينقسم إلى التوحيد في الواحديّة و

__________________

(١) الميزان: ج ٢٠ ص ٥٤٣.

(٢) توحيد الصدوق: ص ٨٣ ـ ٨٤.

١٢٥

التوحيد في الأحديّة فيفسر الأوّل بنفي المثل والثاني بنفي التركيب والتجزئة والتقسيم.

وبذلك يمكن اصطياد البرهان على كون صفاته سبحانه الثبوتيّة الكماليّة عين ذاته كما عليه الاماميّة من العدليّة وبعض المعتزلة، لا زائد عليه كما عليه الشيخ الأشعري ومن تبعه لوضوح أنّ حديث الزيادة يستلزم التركيب والتجزئة، وهما آيتا الامكان، والامكان ينافي الوجوب، وإلى ذلك يشير الامام أمير المؤمنين7 بقوله: « وكمال الإخلاص له نفي الصفات ( الزائدة ) عنه بشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف الله ( أي بوصف زائد على ذاته ) فقد قرنه أي قرن ذاته بشيء غيره، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله »(١) .

وهذا بعض الكلام حول « الاحد »، وسيوافيك ما يفيدك عند البحث عن اسم « الواحد ».

الثالث والرابع: الأوّل والآخِر

لقد ورد لفظ « الأوّل » بصوره المختلفة في الذكر الحكيم ٦٢ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في آية واحدة، قال:( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الحديد / ٣ ).

قال ابن فارس: الأوّل: ابتداء الأمر والاخر نقيض المتقدّم(٢) وقال الراغب: « فالأوّل هو الذي يترتّب عليه غيره »(٣) .

وقد وصف سبحانه في الآية بصفات متضادّة غير مجتمعة حيث تصفه بأنّه

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١.

(٢) المقاييس: ج ١ ص ١٥٨ و ٧٠.

(٣) المفردات: ص ٣١.

١٢٦

الأوّل وفي الوقت نفسه الاخِر، كما تصفه بأنّه الظاهر وفي الوقت نفسه بأنّه الباطن فلو كان أوّلاً كيف يكون آخراً، ولو كان ظاهراً فكيف يكون باطناً ؟ فأوّل الناس في العمل لا يكون آخرهم فيه وهكذا الظاهر والباطن، ومع ذلك كلّه فالله سبحانه جمع بين هذه الصفات جمعاً حقيقياً واقعياً لا مجازياً وذلك بإحاطته على الموجودات الامكانية وقيامهم به قيام المعنى الحرفي بالاسمي، فكما لا يمكن خلو المعنى الحرفي عن الاسمي فهكذا لا يمكن خلو الوجود الإمكاني عن الوجود الواجبي، وليس حديث نفي الخلو حديث الممازجة بل المقصود الاحاطة القيومية التي له سبحانه بالنسبة إلى العالم كلّه، فالعالم بما فيه من الكبير إلى الصغير ومن المجرّة إلى الذرّة، ومن المادّي إلى المجرّد، قائم به سبحانه قيام المعلول بعلّته، نظير قيام الصور الذهنيّة بالنفس فهو مع الأشياء كلّها( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / ٤ ) فإذا كان محيطاً بوجوده على كلّ شيء فكلّ ما فرض أوّلاً فهو قبله بحكم كونه محيطاً والشيء محاطاً، فهو الأوّل دون الشيء المفروض أوّلاً، وكلّ ما فرض آخراً فهو بعده لحديث إحاطة وجوده به من كلّ جهة، فهو الآخر دون الشيء المفروض وليست أوليّته تعالى ولا آخريته زمانيّة ولامكانيّة بل بمعنى كونه محيطاً بالأشياء على أيّ نحو فرض وكيفما تصوّرت.

وعلى ذلك فالأوّل والآخر من فروع اسمه « المحيط » فبما أنّ وجوده محيط بكلّ شيء فهو الأوّل قبل الاشياء والاخر بعد الأشياء.

ولأجل ذلك روي عن الإمام علي7 أنّه قال: « ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله قبله ومعه وبعده ». وهذا هو العرفان الكامل.

والظاهر أنّ توصيفه بالأوليّة والآخريّة مبني على إحاطة وجوده بالأشياء ويؤيّده قوله في الآية التالية( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / ٤ ) وإمّا تفسير الآية باحاطة قدرته كما عن بعض المفسّرين فلا ينافي ما ذكرناه بل هو يرجع إلى ما ذكرنا لكون قدرته نفس ذاته فإحاطة قدرته لا تنفك عن إحاطة ذاته، وعلى ذلك فمعنى الاية

١٢٧

هو أوّل الأشياء وآخرها، وانّه لو فرض شيء فهو أوّله كما أنّه آخره بحكم المحيطيّة والمحاطيّة.

ويمكن أن يقال: إنّ الوصفين تعبيران عن أزليّته وأبديّته فبما أنّه واجب الوجود وانّ وجوده نابع من صميم ذاته غير مكتسب من مقام آخر، يكون أزليّاً فلا يكون لوجوده ابتداء كما لا يكون لوجوده انتهاء، وبعبارة اخرى فرض كون وجوده واجباً بالذات يستلزم أن لا يتطرّق إليه العدم أبداً لا في السابق ولا في اللاحق وهو يساوق أزليّته وأبديّته وهو يستلزم أن لا يكون له ابتداء ولا انتهاء ولا أوّل وآخر، ولو وصف بالأوليّة والآخرية يكون المراد منهما أنّه الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء، وهذا معنى آخر غير ما ذكرنا.

والفرق بين المعنيين واضح فإنّ توصيفه بهما في المعنى الأوّل ينبع من كونه محيطاً بالأشياء كما أنّ توصيفه بهما في المعنى الثاني ينبع من كونه واجب الوجود ممتنع العدم، وهو خيرة الصدوق في توحيده حيث قال: « إنّه الأوّل بغير ابتداء والاخر بغير انتهاء »(١) .

ثمّ إنّ هذه الآية قد وقعت مجالاً لأرباب الاشارات فذكروا في تفسيرها وجوهاً كثيرة تناهز ٢٤ وجهاً(٢) كلّها من قبيل التفسير الإشاري، وقد ذكرنا في محله أنّ قسماً منه تفسير جائز وقسماً آخر تفسير ممنوع.

الخامس: « الأعلى »

وقد ورد لفظ « الأعلى » في الذكر الحكيم ٩ مرّات ووصف به سبحانه في

__________________

(١) توحيد الصدوق: ص ١٩٧، وذكر ابن فارس في المقاييس: « إنّ العرب تقول: أوّل ذي أول. وأول أول ويريد قبل كل شيء » ج ١ ص ١٥٨.

(٢) لوامع البينات: ص ٣٢٣ ـ ٣٢٦.

١٢٨

آيتين قال:( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) ( الاعلى / ١ ).

وقال سبحانه:( وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إلّاابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَىٰ ) ( الليل / ١٩ ـ ٢٠ ).

وربّما وصف به مثله ( بالفتح ) سبحانه قال:( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَىٰ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل / ٦٠ ).

وقال سبحانه:( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الروم / ٢٧ ).

والأعلى في الآيتين الأوليّتين ـ كما هو الظاهر ـ وصف للرّبّ، وفي الأخيرتين وصف للمثل ( بالفتح )، والمراد من « المثل » هو الوصف والتوصيف(١) .

و « الأعلى » من العلو وهو الرفعة قال ابن فارس: « العلوّ: أصل واحد يدل على السموّ والإرتفاع، لا يشذ عنه شيء، من ذلك العلىٰ والعلوّ، ويقولون: تعالى النهار: ارتفع ».

أقول: المراد من العلوّ، هو العلوّ من حيث الرتبة والدرجة لأنّه المبدأ لكلّ شيء، والمفيض له والمحيط به، فذاته سبحانه أرفع من كلّ موجود محدود، يعلو كلّ عال ويقهر كلّ شيء فبما أنّه عال وله العلوّ المطلق، فله الوجود الكامل، وهذا يلازم كونه ذا أسماء حسنى ومعه يجب تسبيح اسمه وتنزيهه عمّا لا يليق من الأسماء.

وكما انّه عليّ في ذاته، عال من حيث الصفات والأوصاف، ولله سبحانه

__________________

(١) قال سبحانه:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) ( الفرقان / ٩ )، والمراد من ضرب المثل للرسول هو توصيفه بصفات لا تليق به، مثل توصيفه بأنّه « رجل مسحور » كما جاء في الآية المتقدمة عليها حيث قال سبحانه:( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلاً مَّسْحُورًا ) ( الفرقان / ٨ ).

١٢٩

الصفات العليا فله العلم الذي لا يطرأ عليه الجهل، والقدرة التي لا تعرضه عجز، والحياة التي لا يحدّدها موت، فهو سبحانه أعلى من أمثال السوء التي يتصف بها غيره.

فالله سبحانه أعلى ذاتاً ووجوداً، وأعلى صفة وسمة. أمّا علوّ ذاته فلأجل كونه واجب الوجود ومبدع الممكنات وموجدها، وأمّا علوّ صفاته فلأنّ كلّ وصف كمالي يوصف به شيء في السماوات والأرض كالحياة والقدرة والعلم والملك والجود والكرم والعظمة والكبرياء، فله السهم الأعلى ولغيره الأدنى وذلك لعدم محدوديّة صفاته بخلاف غيره.

ثمّ إنّه ربّما يفسّر « الأعلى » بالقاهر. قال الصدوق: وأمّا الأعلى فمعناه العليّ والقاهر ويؤيّد ذلك قوله عزّ وجلّ لموسى7 :( لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَىٰ ) ( طه / ٦٨ ) اي القاهر وقوله عزّ وجلّ في تحريض المؤمنين على القتال:( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٣٩ ) وقوله عزّ وجلّ:( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ ) ( القصص / ٤ ). أي غلبهم واستولى عليهم، وقال الشاعر في هذا المعنى :

فلمّا علونا واستوينا عليهم

تركنا هم صرعى لنسر وكاسر

ثمّ قال، وهناك معنى ثان وهو أنّه متعال عن الأشباه والأنداد أي متنزّه كما قال:( وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( يونس / ١٨ ).

والظاهر تعيّن المعنى الثاني وهو الذي عبّرنا عنه بالرفعة وجوداً وصفة ثم الرفعة كما تتحقق بالصفات الكمالية على ما أوضحنا، تتحقق بالتنزّه عن الأشباه والأنداد وهو الذي ذكره الصدوق، وأمّا المعنى الأوّل فالظاهر أنّه لازم المعنى الثاني فانّ العلو رتبة بل ومكاناً يستلزم القهر والغلبة، فالقهر والغلبة، من لوازم المعنى وليست نفس المعنى.

١٣٠

السادس: « الأعلم »

وقد ورد في الذكر الحكيم لفظ « الأعلم » ٤٩ مرّة ولم يوصف به غيره سبحانه.

قال سبحانه:( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران / ١٦٧ ).

وقال سبحانه:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الأنعام / ١٢٤ ) إلى غير ذلك من الموارد.

وصيغة « أعلم » صيغة المفاضلة ومعناه أنّه يثبّت العلم لنفسه وغيره ولكنّه يفضّل علمه على غيره غير أنّه يعدل عنه في موارد بقرائن خاصّة مثل قوله سبحانه:( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الانعام / ١٢٤ ) فعلّقوا إيمانهم وتصديقهم على أن يؤتوا مثل ما أوتي رسل الله بأن ينزّل عليهم الملك والوحي، فاجيبوا بقوله سبحانه( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) والمناسب لمقام الرد هو انسلاخ صيغة التفضيل من المفاضلة أي إنّه العالم دونهم بحجّة انّهم علّقوا ايمانهم على صدق النبي على أن يكونوا أنبياء مثله وهذا دليل على جهلهم المطبق، فهم جهلاء والله سبحانه هو العالم، ونظير ذلك قوله سبحانه نقلاً عن « لوط » في حق بناته:( يَا قَوْمِ هَٰؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) ( هود / ٧٨ ) وقوله سبحانه حاكياً عن يوسف( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ( يوسف / ٣٣ ) والمناسب لمقام العصمة كون السجن محبوباً إليه دون غيره أعني الفحشاء، والحبّ بمعنى كونه موافقاً للغريزة الجنسية خارج عن مجال البحث قال سبحانه:( قُلْ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ ) ( الفرقان / ١٥ ) والمراد انّها خير دون الجحيم بل هي شر، وعلى ذلك فالأصل في الصيغة هو الحمل على المفاضلة إلّا إذا دلّ الدليل على خلافه، نعم أدب العرفان والعبوديّة يقتضي توصيفه سبحانه فقط بالعلم.

١٣١

السابع: « الأكرم »

وقد وردت هذه اللفظة في الذكر الحكيم مرتين الاُولى قوله سبحانه:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات / ١٣ ) والثانية قوله سبحانه:( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) ( العلق / ٣ ).

قال الراغب في مفرداته: « الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه المتظاهر نحو قوله:( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ( النمل / ٤٠ ) وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه.

وعلى ذلك فمعنى قوله( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) اي الأكثر كرماً الذي يفوق عطاؤه ما سواه، فهو يعطي لا عن استحقاق وما من نعمة إلا وتنتهي إليه سبحانه.

قال الطبرسي: أي الأعظم كرماً فلا يبلغه كرم كريم لأنّه يعطي من الكرم ما لا يقدر على مثله غيره، فكلّ نعمة توجد فمن جهته تعالى أمّا بأن اخترعها وأمّا بأن سبّبها وسهّل الطريق إليها.

هذا ويمكن أن يقال :

إنّه من الكرم بمعنى الشرف سواء كان في الشيء نفسه أو في خُلق من الأخلاق. يقال: رجل كريم وفرس كريم، وأمّا السخاء والعطاء والصفح عن ذنب المذنب فهو من آثاره، قال في المقاييس نقلاً عن ابن قتيبة: الكريم: الصفوح والله تعالى هو الكريم الصفوح عن ذنوب عباده المؤمنين(١) وعلى ذلك فمعنى قوله( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) هو الأكمل في الشرف ذاتاً وفعلاً.

__________________

(١) معجم مقاييس اللغة: ج ٥ ص ١٧١ ـ ١٧٢.

١٣٢

الثامن: « أرحم الراحمين »

وقد جاء « أرحم الراحمين » في الذكر الحكيم أربع مرّات وصفاً له سبحانه. قال سبحانه:( وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( الاعراف / ١٥١ ). وقال سبحانه:( فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / ٦٤ )، وقال سبحانه:( قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / ٩٢ ). وقال سبحانه: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( الأنبياء / ٨٣ ).

وجاء فيه « خير الراحمين » وصفاً له سبحانه مرّتين. قال:( رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / ١٠٩ ). وقال:( وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / ١١٨ ).

قال ابن فارس: « الرحم أصل واحد يدل على الرقّة والعطف والرأفة يقال من ذلك: رحمه يرحمه إذا رقّ له وتعطّف عليه، والرحم، والمرحمة والرحمة بمعنى، والرحم علاقة القرابة ثم سمّيت رحم الأنثى رحماً من هذا لأنّ منها ما يكون ما يرحم ويرقّ له من ولد ».

قال الراغب: « والرحمة رقّة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وقد تستعمل في الرقة المجرّدة وتارة في الاحسان المجرّد عن الرقّة نحو « رحم الله فلانا » وإذا وصف به الباري فليس يراد به إلّا الإحسان المجرّد دون الرقّة، وعلى هذا روي: « إنّ الرحمة من الله إنعام وإفضال، ومن الآدميّين رقّة وتعطّف ».

وظاهر هذا أنّ الرقّة والتعطّف داخل في معنى الرحمة غير أنّ البرهان العقلي يجرّنا عند توصيفه سبحانه به إلى تجريده عن الرقّة لاستلزامها الإنفعال وهو محال على الله سبحانه.

قال العلّامة الطباطبائي: « الرحمن الرحيم من الرحمة وهي وصف انفعالي و

١٣٣

تأثر يلمّ بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره، فيبعث الإنسان إلى تتميم نقصه ورفع حاجته إلّا أنّ هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الإعطاء والافاضة لرفع الحاجة وبهذا المعنى يتّصف سبحانه بالرحمة »(١) .

التاسع: « أحكم الحاكمين »

وقد ورد « احكم الحاكمين » في القرآن وصفاً لله سبحانه مرّتين.

قال:( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ ) ( هود / ٤٥ ).

وقال سبحانه:( أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ ) ( التين / ٨ ).

والحكم في اللغة بمعنى المنع لإصلاح، وسمّيت اللجام حَكَمة الدابّة لأنّها تمنعها ومنه قول الشاعر :

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

إنّي أخاف عليكم ان اغضبا

ثمّ استعير في الحكم الفاصل والقضاء الباتّ بأنه كذا وكذا أو ليس بكذا وكذا لأنّه يمنع الخصمين عن التعدّي، وسمّيت الحكمة حكمة لأنّها تمنع الرجل من فعل ما لا ينبغي.

قال سبحانه:( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء / ٥٨ ) وقال:( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ) ( المائدة / ٩٥ ) فكما وصفه القرآن بأنّه « أحكم الحاكمين » كذلك خصّ له الحكم وقال:( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الأنعام / ٦٢ ) وقال:( وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( القصص / ٧٠ ) وقال:( أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ ) ( الزمر / ٤٦ ) إلى غير ذلك من الايات. بقي الكلام في المراد من قوله « أحكم الحاكمين ».

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ١٦.

١٣٤

وأمّا قوله « أحكم » فهل المراد أنّه سبحانه أقضى القاضين ؟ كما نقله الطبرسي وجهاً، فقال: فيحكم بينك يا محمد وبين أهل التكذيب.

الظاهر أنّ صيغة التفضيل في المقام بعد تسليم كونه بمعنى القضاء متضمّنة لمعنى الاحكام والاتقان خصوصاً في الآية الاُولى حيث أنّها وردت بعد قول نوح:( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ ) فلا يناسب تفسيره بأنّك أقضى القاضين إلّا بتضمين « أحكم » معنى الإتقان ومعناه إنّك فوق كلّ حاكم في إتقان الحكم وحقّيّته ونفوذه من غير اضطراب ووهن فما جرى على ابني من الغرق في الماء عين حكمك الحكيم وقضاؤك الرصين.

العاشر: « أحسن الخالقين »

وقد ورد « أحسن الخالقين » وصفاً لله سبحانه في الذكر الحكيم مرتين. قال سبحانه:( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) ( المؤمنون / ١٤ ). وقال سبحانه ناقلاً عن إلياس:( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخَالِقِينَ *اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ) ( الصّافات / ١٢٥ ـ ١٢٦ ) فهو سبحانه يصف نفسه في هاتين الايتين بأنّه « أحسن الخالقين » كما أنّه يصف فعله حسناً على الاطلاق في الآيات الاُخر قال :

( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ) ( السجدة / ٧ ).

وقال:( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ) ( غافر / ٦٤ ).

أمّا الخلق لغة فقد فسّر بمعنى تقدير الشيء، يقال خلقت الأديم للسقاء إذا قدّرته. قال زهير :

ولانت تفري ما خلقت و

بعض القوم يخلق ما يفري

١٣٥

ومن ذلك الخُلق: وهي السجيّة لأنّ صاحبه قد قدر عليه، والخلاق: النصيب لأنّه قد قدّر لكلّ أحد نصيبه.

ويؤيّد كونه متضمّناً معنى الإيجاد قوله سبحانه:( صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) ( النمل / ٨٨ ) فانّ الصنع في الآية مكان الخلق وليس الصنع صرف التقدير بل العمل عن تقدير. قال سبحانه:( أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) ( المؤمنون / ٢٧ ).

قال الراغب: ثم إنّ الخلق تارة يستعمل في إبداع الشيء من غير مادّة ولا احتذاء قال سبحانه:( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) ( الأنعام / ١ ) أي أبدعهما بدلالة قوله( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( الأنعام / ١٠١ ) وأخرى في ايجاد الشيء من الشيء نحو:( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) ( الأعراف / ١٨٩ ). وقال:( خَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ) ( الرحمن / ١٥ ) ثمّ قال: والخلق الذي هو الابداع لله تعالى ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره:( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( النحل / ١٧ ) وأمّا الذي يكون بالإستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره في بعض الأحوال كعيسى حيث قال:( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ) ( المائدة / ١١٠ )(١) .

والظاهر أنّ الراغب بصدد الجمع بين مفاد الآية المثبت لكون الخلق صفة مشتركة بين الله وبين غيره، وبين الآيات الحاصرة لها في الله سبحانه حيث يقول:( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) ( الأنعام / ١٠٢ ) فحصر الخلق في ابداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء في الله سبحانه، وأمّا الخلق بمعنى الإستحالة فأثبته للمسيح، وبذلك ارتفع الخلاف بين الآيتين، وإليه ذهب الطبرسي حيث قال: وفي الآية دليل على أنّ اسم الخلق قد يطلق على فعل غير الله إلّا أنّ الحقيقة في الخلق لله سبحانه فقط، فإنّ المراد من الخلق ايجاد الشيء مقدّراً

__________________

(١) المفردات للراغب: ص ١٥٧ ـ ماده خلق.

١٣٦

تقديراً لا تفاوت فيه، وهذا إنّما يكون من الله سبحانه وتعالى دليله قوله:( أَلا لَهُ الخَلْقُ ) (١) .

يلاحظ عليهما: أنّ الخلق من غير أصل يوصف به سبحانه وغيره فانّ النفوس المجرّدة تخلق الصور في صقع النفس من غير مادة، وإنّما يرتفع الإختلاف بين القسمين من الآيات بأنّه لا مانع من تخصيص الخلق بالله سبحانه وتشريك الغير معه أيضاً وذلك لأنّ الخلق بمعنى فعل الفاعل، المستقل في فعله، غير المعتمد في خلقه على شيء، غير المستعين في عمله من أحد يختصّ بالله سبحانه، وأمّا الخلق بمعنى فعل الفاعل، غير المستقل في فعله، المعتمد في وجوده وفعله على الواجب، المستعين في كلّ آن من الفياض المطلق، فهو للإنسان خاصّة، ويجمعهما لفظ الخلق وهو على وجه وصف مشترك، وعلى وجه مختصّ بالله سبحانه.

الحادي عشر: « أسرع الحاسبين »

وقد ورد في الذكر الحكيم في مورد واحد. قال سبحانه:( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الأنعام / ٦٢ ). كما وصفه في آية بأنّه أسرع مكراً.

قال سبحانه:( قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) ( يونس / ٢١ ).

وسيأتي البحث عنه عند الكلام في وصفه: « سريع الحساب ». كما يأتي البحث عن الاخر في البحث عن « خير الماكرين ».

الثاني عشر والثالث عشر: « أهل التقوى وأهل المغفرة »

وقد ورد في الذكر الحكيم هذان الاسمان في مورد واحد ووقعا اسمين له

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٤ ص ١٠١، طبع صيدا.

١٣٧

سبحانه. قال سبحانه:( وَمَا يَذْكُرُونَ إلّا أَن يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ ) ( المدثر / ٥٦ ).

قال الطبرسي: أي هو أهل أن تتّقى محارمه وأهل أن يغفر الذنوب. روي مرفوعاً عن أنس قال: إنّ رسول الله6 تلا هذه الآية وقال: قال الله سبحانه: أنا أهل أن اُتّقىٰ فلا يجعل معي إله، فمن اتّقى أن يجعل معي الهاً فأنا أهل أن أغفر له(١) .

والظاهر أنّ الأهل في الآية بمعنى الجدير. قال الراغب: « يقال فلان أهل لكذا أي خليق به »(٢) ومنه اشتقّ المؤهّل أي الجدير، والمؤهّلات: القابليات.

قال العلّامة الطباطبائي: إنّ قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ ) تعليل لقوله( وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى وأهل المغفرة لا يتمّ إلّا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم(٣) .

الرابع عشر: « الأبقى »

قد ورد لفظ « الأبقى » في الذكر الحكيم سبع مرّات، وقد وصف به عذابه ورزقه وما عنده والاخرة، وورد في آية واحدة وصفاً له سبحانه فقال:( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) ( طه / ٧٣ ).

ومضمون الآية إجابة على ما هدّد به فرعون السحرة وقال:( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ ) ( طه / ٧١ ) والآيتان( أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ ) ( وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) على وتيرة واحدة والضمير في صيغة التفضيل يرجع إلى

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٥ ص ٣٦٢.

(٢) المفردات: ص ٣٠.

(٣) الميزان: ج ٢ ص ١٨٥.

١٣٨

الله سبحانه. إنّما الكلام في تعيين المتعلّق، فربما يقال: إنّه الثواب أي والله خير لنا منك وثوابه أبقى لنا من ثوابك، وربما يقال: إنّ المتعلّق هو العقاب والمراد: والله خير ثواباً للمؤمنين وأبقى عقاباً للعاصين وهذا جواب لقوله: ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذاباً وأبقى ولكن الظاهر أنّ المراد أوسع من ذلك وكأنّه قيل: إنّما آثرنا غفرانه على احسانك، لأنّه خير وأبقى أي خير من كلّ خير وأبقى من كلّ باق ـ لمكان الاطلاق ـ فلا يؤثر عليه شيء، وبذلك يعرف معنى المقابلة بين كلام فرعون والسحرة فإنّه يصف نفسه في الآية الاُولى بالأبقى والسحرة تقابله بأنّه سبحانه أبقى.

الخامس عشر: « الأقرب »

وقد وردت اللفظة في القرآن ١١ مرّة ووردت توصيفاً له سبحانه مرتين قال:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق / ١٦ ) وقال سبحانه:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ) ( الواقعة / ٨٥ ) وفسرت الأقربيّة بالعلم: أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل الوريد ويكون معنى الآية: نحن أعلم به. وتحقيق الكلام في مفاد الآية يتوقف على بيان معنى الأقربيّة الواردة فيها فنقول :

إنّ الأقربيّة ليست أقربيّة مكانيّة كما أنّ قربه سبحانه من العبد ليس منحصراً بالافضال عليه بل لقربة سبحانه من العبد، وأقربيته إليه من حبل الوريد معنى آخر لا يقف عليه إلّا المرتاض في المعارف الإلهية والخارج عن أسر التعطيل وحبال التشبيه.

انّه سبحانه يصرّح بأنّه مع عباده أينما كانوا ويقول:( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / ٤ ).

ويعد نفسه رابع الثلاثة وسادس الخمسة ويقول:( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاثَةٍ إلّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إلّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلا أَكْثَرَ إلّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( المجادلة / ٧ )

١٣٩

كما أنّه يصف نفسه الهاً في السماوات والأرض ويقول:( وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ) ( الأنعام / ٣ ) إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على إحاطة وجوده سبحانه بكلّ شيء وكونه مع كلّ شيء.

ثمّ إنّ المسلمين في مقابل هذه الآيات على طائفتين :

الاُولى: أهل الحديث والحنابلة والمتقشّفون المغترّون بالظواهر التصوّريّة البدئيّة غير المتعمّقين في الآيات والأحاديث، فهؤلاء أخذوا بظاهر قوله سبحانه:( الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) ( طه / ٥ ) ففسّروا الإستواء بالإستقرار لا بالإستيلاء والسلطة، فجعلوه مستقرّا على عرشه وسريره فوق السماوات وأقصى ما عند المتظاهرين بالتنزيه إضافة قولهم: بلا كيف أي لا نعلم كيفية سريره واستقراره، قال الشيخ الأشعري: « نقول: إنّ الله عزّ وجلّ يستوي على عرشه كما قال يليق به من غير طول الاستقرار »(١) .

وهؤلاء ـ الذين حبسوا القاهر المحيط في نقطة خاصّة من العالم ـ تحيّروا أمام هذه الآيات التي دلّت على احاطة وجوده لكلّ شيء وصحيفة الكون، فلجأوا إلى التأويل المبغوض عندهم فقالوا في تفسير الآية في سورة المجادلة: المراد انّه سبحانه هو بعلمه رابعهم، وبعلمه سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم، نعني بعلمه فيهم، كما أوّلوا قوله سبحانه:( وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ) بأنّ المراد هو إله من في السموات، وإله من في الارض وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان(٢) .

إنّ اتّخاذ الرأي المسبق في إحاطته سبحانه على الأشياء وتحديد وجوده بالاستقرار على السرير الموضوع على العرش، لا ينتج سوى هذا أي التلاعب بآيات

__________________

(١) الإبانة للأشعري: ص ١٨ و ٨٥.

(٢) السنّة لابن حنبل: ص ٣٤ و ٣٦ طبع القاهره.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538