مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237556 / تحميل: 6106
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

نصوص الإمام الصادقعليه‌السلام على إمامة موسى الكاظمعليه‌السلام

١ ـ عن يعقوب السراج قال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى وهو في المهد، فجعل يسارّه طويلاً، فجلست حتى فرغ، فقمت إليه فقال لي:(ادن من مولاك فسلّم، فدنوت فسلمت عليه فردّ عليّ السلام بلسان فصيح، ثم قال لي: اذهب فغيّر اسم ابنتك التي سميتها أمس، فإنه اسم يبغضه الله، وكان ولدت لي ابنة سمّيتها بالحميراء. فقال أبو عبد الله: انته إلى أمره ترشد، فغيّرت اسمها) (١) .

٢ ـ عن سليمان بن خالد قال: دعا أبو عبد اللهعليه‌السلام أبا الحسنعليه‌السلام يوماً ونحن عنده فقال لنا:(عليكم بهذا، فهو والله صاحبكم بعدي) (٢) .

٣ ـ عن فيض بن المختار قال: (إني لعند أبي عبد اللهعليه‌السلام إذ أقبل أبو الحسن موسىعليه‌السلام ـ وهو غلام ـ فالتزمته وقبّلته فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :أنتم السفينة وهذا ملاّحها ، قال: فحججت من قابل ومعي ألفا دينار فبعثت بألف إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام وألف إليه، فلمّا دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام قال:يا فيض عدلته بي ؟ قلت: إنما فعلت ذلك لقولك، فقال:أما والله ما أنا فعلت ذلك. بل الله عَزَّ وجَلَّ

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٣١٠، ح ١١.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣١٠، ح ١٢.

٤١

فعله به) (١) .

٤ ـ عن الفيض بن المختار قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : خذ بيدي من النار من لنا بعدك؟ فدخل عليه أبو إبراهيمعليه‌السلام ، وهو يومئذ غلام، فقال:(هذا صاحبكم، فتمسك به) (٢) .

٥ ـ عن معاذ بن كثير، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قلت له: اسأل الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها، فقال:(قد فعل الله ذلك) . قال: قلت من هو جعلتُ فداك ؟ فأشار إلى العبد الصالح وهو راقد فقالعليه‌السلام :(هذا الراقد وهو غلام) (٣) .

٦ ـ عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت عبد الرحمن في السنة التي أخذ فيها أبو الحسن الماضيعليه‌السلام فقلت له: إنّ هذا الرجل قد صار في يد هذا وما ندري إلى ما يصير؟ فهل بلغك عنه في أحد من ولده شيء ؟ فقال لي:ما ظننت أن أحداً يسألني عن هذه المسألة ، دخلت على جعفر بن محمد في منزله فإذا هو في بيت كذا في داره في مسجد له وهو يدعو، وعلى يمينه موسى بن جعفرعليه‌السلام يؤمّن على دعائه، فقلت له: جعلني الله فداك قد عرفت انقطاعي إليك وخدمتي لك، فمن وليّ الناس بعدك ؟ فقال:(إنّ موسى قد لبس الدرع وساوى عليه) فقلت له: لا أحتاج بعد هذا إلى شيء(٤) .

٧ ـ عن يعقوب بن جعفر الجعفري قال: حدّثني إسحاق بن جعفر قال: كنت عند أبي يوماً، فسأله علي بن عمر بن علي فقال: جعلت فداك إلى من

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٣١١، ح ١٦.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣٠٧، ح ١، والإرشاد: ٢/٢١٧.

(٣) أصول الكافي ١: ٣٠٨، ح٢، والإرشاد: ٢/٢١٧.

(٤) أصول الكافي: ١/٣٠٨، ح ٣، والإرشاد: ٢/٢١٧.

٤٢

نفزع ويفزع الناس بعدك؟ فقال:(إلى صاحب الثوبين الأصفرين والغديرين ـ يعني الذؤابتين ـ وهو الطالع عليك من هذا الباب، يفتح البابين بيده جميعاً) ، فما لبثنا أن طلعت علينا كفّان آخذة بالبابين ففتحهما ثم دخل علينا أبو إبراهيم(١) .

٨ ـ عن صفوان الجمّال، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قال له منصور بن حازم: بأبي أنت وأمي إنّ الأنفس يُغدا عليها ويراح، فإذا كان ذلك، فمن؟ فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(إذا كان ذلك فهو صاحبكم) ، وضرب بيده على منكب أبي الحسنعليه‌السلام الأيمن ـ في ما أعلم ـ وهو يومئذ خماسي وعبد الله بن جعفر جالس معنا(٢) .

٩ ـ عن المفضل بن عمر قال: ذكر أبو عبد اللهعليه‌السلام أبا الحسنعليه‌السلام ـ وهو يومئذ غلام ـ فقال:(هذا المولود الذي لم يولد فينا مولود أعظم بركة على شيعتنا منه) ثم قال لي:(لا تجفوا إسماعيل) (٣) .

١٠ ـ عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قلت له: (إن كان كون ـ ولا أراني الله ذلك ـ فبمن أئتم؟ قال: فأومأ إلى ابنه موسىعليه‌السلام . قلت : فإن حدث بموسى حدث فبمن أئتم؟ قال:بولده . قلت: فإن حدث وترك أخاً كبيراً وابناً صغيراً فبمن أئتم؟ قال:بولده ، ثم قال:هكذا أبداً ، قلت: فإن لم أعرفه ولا أعرف موضعه ؟ قال: تقول:(اللهم إني أتولى من بقي من حججك من ولد الإمام الماضي، فانّ ذلك يجزيك إن شاء الله) (٤) .

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٣٠٨، ح ٥، والإرشاد: ٢/٢٢٠.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣٠٩، ح ٦، والإرشاد: ٢/٢١٨.

(٣) أصول الكافي: ١ / ٣٠٩، ح ٨.

(٤) أصول الكافي: ١/٣٠٩، ح ٧، والإرشاد: ٢/٢١٨.

٤٣

١١ ـ عن فيض بن المختار في حديث طويل في أمر أبي الحسنعليه‌السلام حتى قال له أبو عبد اللهعليه‌السلام :(هو صاحبك الذي سألت عنه ، فقم إليه فأقرّ له بحقه) ، فقمت حتى قبّلت رأسه ويده ودعوت الله عزّ وجلّ له، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(أما أنه لم يؤذن لنا في أوّل منك) ، قال: قلت: جعلت فداك فأخبر به أحداً ؟ فقال:(نعم أهلك وولدك) ، وكان معي أهلي وولدي ورفقائي وكان يونس بن ظبيان من رفقائي، فلمّا أخبرتهم حمدوا الله عزّ وجلّ وقال يونس: لا والله حتى أسمع ذلك منه وكانت به عجلة، فخرج فاتبعته، فلما انتهيت إلى الباب، سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول له ـ وقد سبقني إليه ـ :(يا يونس الأمر كما قال لك فيض) . قال: فقال: سمعت وأطعت، فقال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام :(خذه إليك يا فيض) (١) .

١٢ ـ عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن صاحب هذا الأمر فقال:(إنّ صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب) ، وأقبل أبو الحسن موسى وهو صغير ومعه عناق مكّية وهو يقول لها:(اسجدي لربك) ، فأخذه أبو عبد اللهعليه‌السلام وضّمه إليه وقال:(بأبي وأمي من لا يلهو ولا يلعب) (٢) .

١٣ ـ روى زيد النرسي، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال:(إني ناجيت الله ونازلته في إسماعيل ابني أن يكون بعدي فأبى ربي إلاّ أن يكون موسى ابني) (٣) .

١٤ ـ عن يزيد بن أسباط قال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام في مرضته التي مات فيها، قالعليه‌السلام :(يا يزيد أترى هذا الصبي؟) وأشار لولده موسى :إذا رأيت الناس قد اختلفوا

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٣٠٩، ح ٩.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣١١، ح ١٥، والإرشاد: ٢/٢١٩.

(٣) أصل زيد النرسي: ق ٣٩.

٤٤

فيه، فاشهد عليَّ بأني أخبرتك أن يوسف إنّما كان ذنبه عند إخوته حتى طرحوه في الجب، الحسد له، حين أخبرهم أنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر وهم له ساجدين، وكذا لا بد لهذا الغلام من أن يحسد) ، ثم دعا موسى وعبد الله وإسحاق ومحمد والعباس، وقال لهم:(هذا وصيُّ الأوصياء وعالم علم العلماء وشهيدٌ على الأموات والأحياء) ، ثمّ قال: يا يزيد ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) (١)(٢) .

الباب الثالث: وفيه فصول:

الفصل الأول: ملامح عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام .

الفصل الثاني: مواقف الإمام الكاظمعليه‌السلام في عهد المنصور.

الفصل الثالث: الإمام الكاظمعليه‌السلام وحكومة المهدي العبّاسي.

الفصل الأوّل: ملامح عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام

لم يغيّر المنصور من سياسته ضد العلويين بعد قتله للإمام الصادقعليه‌السلام ، وبعد قضائه على الثورات العلوية في زمانه، بل بقي هاجس الخوف والقلق يلاحقه، ولم تهدأ ذاته المليئة بالحقد عليهم، فاستمر في اضطهادهم، فزجّ الأبرياء في السجون المظلمة وهدمها عليهم، ودفن البعض وهم أحياء في اسطوانات البناء، وبثّ الجواسيس، لأجل أن يحيط علماً بكل نشاطهم، وأخذت عيونه ترصد كل حركة بعد تحويرها وتحريفها بالكذب لتنسجم مع رغبات الخليفة فكانوا يرفعونها له مكتوبة كما سمح للتيّارات الإلحادية كالغلاة والزنادقة في أن تأخذ طريقها بين عامة الناس لإضلالهم. كما استعمل بعض العلماء واستغلّهم لتأييد سياسته وإسباغ الطابع الشرعي على حكمه.

ــــــــــــ

(١) الزخرف (٤٣): ١٩.

(٢) بحار الأنوار: ٤٨/٢٠، ح ٣١، نقلاً عن مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب.

٤٥

ويمكن استجلاء هذا الوضع ضمن عدة نقاط:

النقطة الأولى:

إنّ وصية الإمام الصادقعليه‌السلام التي عهد بها أمام الناس لخمسة أشخاص، هم أبو جعفر المنصور، محمد بن سليمان، وعبد الله، وموسى، وحميدة، مع كتابة المنصور لعامله في المدينة بأن يقتل وصيّ الإمام الصادقعليه‌السلام إن كان معيناً، يتضح ـ من هذه الوصية مع أوامر المنصور بقتل الوصيّ ـ نوع الطريقة التي كان يتحرك بها المنصور تجاه الإمام موسىعليه‌السلام ثم يتضح أيضاً حجم النشاط وحجم الاهتمام الذي كان يعطيه المنصور للإمامعليه‌السلام لمراقبة حركته.

ولكن الإمام الصادقعليه‌السلام كان يستشف من وراء الغيب ما تحمله الأيّام المقبلة من أخطار لابنه موسىعليه‌السلام ومن هنا فقد خاطب شيعته بلغة خاصة ضمّنها الحقيقة التي أراد إيصالها إليهم وإن كان ذلك يستلزم الالتباس عند بعض ، والتحيّر في معرفة ولي الأمر من بعده لفترة تقصر أو تطول ; لأن حفظ الوصي وولي عهده والإمام المفترض الطاعة في تلك الظروف العصيبة كان أمراً ضرورياً بلا ريب لأن استمرار الخط لا يمكن ضمانه إلاّ بحفظ الإمام المعصوم بما يتناسب مع طبيعة تلك الظروف. ولكن الواعين والنابهين من صحابة الإمام الصادقعليه‌السلام لم تلتبس عليهم حقيقة وصية الإمامعليه‌السلام التي تضمّنت الوصية للإمام الكاظمعليه‌السلام .

قال داود بن كثير الرقي: وفد من خراسان وافد يكنّى أبا جعفر، اجتمع إليه جماعة من أهل خراسان، فسألوه أن يحمل لهم أموالاً ومتاعاً ومسائلهم في الفتاوى والمشاورة، فورد الكوفة ونزل وزار قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ورأى في ناحية المسجد رجلاً حوله جماعة.

فلما فرغ من زيارته قصدهم فوجدهم شيعة فقهاء يسمعون من الشيخ، فقالوا: هو أبو حمزة الثمالي.

قال: فبينما نحن جلوس إذ أقبل أعرابي، فقال: جئت من المدينة، وقد مات جعفر بن محمدعليه‌السلام فشهق أبو حمزة ثم ضرب بيده الأرض، ثم سأل الأعرابي: هل سمعت له بوصية ؟

٤٦

قال: أوصى إلى ابنه عبد الله وإلى ابنه موسى، وإلى المنصور. فقال: الحمد لله الذي لم يُضلّنا، دلّ على الصغير وبيّن على الكبير، وستر الأمر العظيم. ووثب إلى قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام فصلَّى وصلّينا. ثم أقبلت عليه وقلت له: فسّر لي ما قلته ؟ قال: بيّن أن الكبير ذو عاهة ودلّ على الصغير أن أدخل يده مع الكبير، وستر الأمر العظيم بالمنصور حتى إذا سأل المنصور: من وصيّه؟ قيل : أنت. قال الخراساني: فلم أفهم جواب ما قاله(١) . فذهب بعد ذلك إلى المدينة ليطّلع بنفسه على الوصي من بعد الإمام جعفر بن محمدعليه‌السلام .

النقطة الثانية:

لقد شدّدت السلطات في المراقبة على الشيعة بعد استشهاد الإمام الصادقعليه‌السلام وعمّ الارتباك أوساطهم وشحنت الأجواء بالحذر والتحسّب.

وعن هذه الفترة الزمنية المهمة في التاريخ الشيعي يحدّثنا هشام بن سالم أحد رموز الشيعة قائلاً:

كنا في المدينة بعد وفاة أبي عبد اللهعليه‌السلام أنا ومؤمن الطاق (أبو جعفر) والناس مجتمعون على أنّ عبد الله (الأفطح) صاحب (الإمام) بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق، والناس مجتمعون عند عبد الله وذلك أنهم رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :(أن الأمر في الكبير ما لم يكن به عاهة) فدخلنا نسأله عمّا كنا نسأل عنه أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب ؟ قال: في مئتين خمسة، قلنا:

ــــــــــــ

(١) عوالم العلوم ، الإمام الكاظم: ١٧٥.

٤٧

ففي مئة ؟ قال: درهمان ونصف درهم(١) .

قلنا له: والله ما تقول المرجئة هذا فرفع (الأفطح) يده إلى السماء، فقال: لا ، والله ما أدرى ما تقول المرجئة !

قال: فخرجنا من عنده ضُلاّلاً، لا ندري إلى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول(٢) ، فقعدنا في بعض أزقّة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى من نقصد وإلى أين نتوجّه ؟! نقول: (نذهب) إلى المرجئة ؟ إلى القدرية؟ إلى الزيدية؟ إلى المعتزلة؟ إلى الخوارج(٣) ؟ قال: فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه يومئ إليَّ بيده، فخفت أن يكون عيناً (جاسوساً) من عيون أبي جعفر (المنصور الدوانيقي). وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتفق شيعة جعفر (الصادق) فيضربون عنقه، فخفت أن يكون (الرجل الشيخ) منهم. فقلت لأبي جعفر (مؤمن الطاق): تنح فإني خائف على نفسي وعليك، وإنما يريدني (الشيخ) ليس يريدك، فتنحّ عنّي ، لا تهلك وتعين على نفسك. فتنحّى غير بعيد، وتبعت الشيخ، وذلك أني ظننت أني لا أقدر على التخلص منه، فما زلت أتبعه حتى ورد بي على باب أبي الحسن موسى (الكاظم)عليه‌السلام ثم خلاّني ومضى، فإذا خادم بالباب فقال لي: أُدخل، رحمك الله. قال: فدخلت فإذا أبو الحسن (الكاظم)عليه‌السلام فقال لي ابتداءً:لا إلى المرجئة ، ولا إلى القدرية، ولا إلى الزيدية، (ولا إلى المعتزلة )، ولا إلى الخوارج، إليَّ إليَّ إليَّ .

قال (هشام): فقلت له: جعلت فداك مضى أبوك ؟ قال:نعم .

قلت: جعلت فداك مضى في موت؟ قال:نعم ، قلت: جعلت فداك فمن لنا بعده؟ فقال:إن شاء الله يهديك هداك .

قلت: جعلت فداك، إنّ عبد الله (الأفطح) يزعم أنه (إمام) من بعد أبيه فقال:يريد عبد الله الأفطح أن لا يعبد الله .

قال: قلت له: جعلت فداك، فمن لنا بعده؟ فقال:إن شاء الله أن يهديك هداك أيضاً .

قلت: جعلت فداك، أنت هو (الإمام) ؟ قال:ما أقول ذلك .

ــــــــــــ

(١) من الثابت عند المسلمين أن لا زكاة في أقل من مائتي درهم، ولكن الأفطح كان يجهل هذا الحكم.

(٢) مؤمن الطاق، أبو جعفر، صاحب الطاق والأحول، كلها ألقاب لرجل واحد (محمد بن علي بن النعمان)، اختيار معرفة الرجال: ٢/٤٢٥.

(٣) الإرشاد للمفيد: ٢/٢٢١ ، مدينة المعاجز: ٦/٢٠٨.

٤٨

قلت ـ في نفسي ـ لم أُصب طريق المسألة (أي أخطأت في كيفية السؤال).

قال (هشام): قلت: جعلت فداك، عليك إمام ؟ قال:لا . فدخلني (دخل قلبي) شيء لا يعلمه إلاّ الله إعظاماً له وهيبة، أكثر ما كان يحلّ بي من (هيبة) أبيه (الإمام الصادق) إذا دخلت عليه.

قلت: جعلت فداك، أسألك عمّا كان يُسأل أبوك؟ قال:سل تُخبر، ولا تُذِع (أي لا تنشر الخبر)فإن أذعت فهو الذبح .

قال (هشام): فسألته فإذا هو بحر !.

قال (هشام): قلت جعلت فداك، شيعتك وشيعة أبيك ضُلاّل، فالقي إليهم (أخبرهم) وأدعوهم إليك؟ فقد أخذت عليّ بالكتمان.

فقال (الإمام):(من آنست منهم رشداً، فألق عليهم (أخبرهم)وخذ عليهم

بالكتمان ،فإن أذاعوا فهو الذبح) وأشار بيده إلى حلقه)(١) .

إنّ هذا الحديث الذي أدلى به هشام يكشف لنا عدة حقائق:

١ ـ كثرة انتشار الجواسيس، وجو الرعب، والحذر، والخوف، وفقدان الأمن الذي عمّ أبناء الأمة وأخيارها خصوصاً سكان المدينة.

٢ ـ كما يكشف لنا عن أنّ إعلان الإمامة لموسىعليه‌السلام وإخبار الشيعة بإمامته، لم يكن ظاهراً لعامة الناس بل كان محدوداً ببعض الخواص من الشيعة(٢) بحيث تجد حتى مثل هشام لا يعلم أن الأمر لمن إلاّ بعد حين، وقد حصل عليه بالطرق الشرعية والعقلية، وهذه الممارسات وغيرها جعلت الشيعة تتدرب وتتمرّس على الأساليب التي تقيها من سيف الظالمين مثل السرّية والتقية، لذا نجد الرواة عند نقلهم لأخبار الإمام موسىعليه‌السلام لا يصرّحون باسمه الصريح بل كانوا يقولون: (قال العبد الصالح) ، أو (قال السيد)، أو (قال العالم) ونحو ذلك.

ــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال: ٢ / ٥٦٥ ، ح٥٠٢ ، والإرشاد: ٢/٢٢١ ـ ٢٢٢ وعنه في إعلام الورى: ٢/١٦ ـ ١٧، وكشف الغمة: ٣/١٢ و ١٣، وبحار الأنوار: ٤٨ / ٥٠.

(٢) منهم زرارة وداود بن كثير الرقي، وحمران، وأبي بصير، والمفضل بن عمر وغيرهم.

٤٩

٣ ـ إنّ الخنق الظالم والممنوعات السلطانية والحبس الفكري وملاحقة من يخالف، وبثّ الإشاعات المضادّة والكاذبة، كل هذه الأمور خلقت مناخاً يتنفّس فيه الأدعياء وهواة الرذيلة والذين زاد نشاطهم وشاع صيتهم وتعددت فرقهم في هذه الفترة فطرحوا أنفسهم قادة للأمة في الفكر والفقه والحديث بتشجيع من الخليفة. لذا نجد هشام بن سالم في حديثه يعدد لنا الفرق في زمانه حيث يقول: نذهب إلى المرجئة؟ إلى القدرية؟ إلى الزيدية؟ إلى المعتزلة؟ إلى الخوارج؟

٤ ـ مارس الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام أسلوباً في هذا الحديث يُميزه عن غيره من مدّعي الإمامة (مثل عبد الله الأفطح) وذلك بإخباره عن الكلام الذي دار بين هشام ومؤمن الطاق في أحد أزقّة المدينة المنورة حيث قال الإمام لهما:(لا إلى المرجئة ولا إلى القدرية.... إليَّ إليَّ إليَّ) .

النقطة الثالثة:

من الحقائق التاريخية التي تكشف سياسة المنصور القائمة على الخنق والإبادة والقتل للعلويين هو حديث الخزانة.

حيث يكشف لنا هذا الحديث التاريخي عن سياسة المنصور الخشنة مع العلويين، والتي أراد بها الإيحاء لابنه المهدي بأن الخلافة لا تستقيم إلا بهذه الطريقة، ثم تكشف لنا هذه الرواية عن معاناة الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام لأنه كان بالتأكيد على علم بهذه الأعداد المؤمنة الخيّرة من أبناء الشيعة وهي تساق إلى السجون لتقتل بعد ذلك صبراً، وهذا الحديث مليء بالشجون والأسى فقد ملأ خزانة برؤوس العلويين شيوخاً وشباباً وأطفالاً وأوصى ريطة زوج المهدي أن لا تفتحها للمهدي ولا يطلع عليها إلاّ بعد هلاكه، وقد دوّنها الطبري في تاريخه وهذا نصها :

(لمّا عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر فأوصاها بما أراد)، وعهد إليها ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدّم إليها وأحلفها ووكّد الإيمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليها أحداً إلاّ المهدي، ولا هي إلاّ أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى

٥٠

يفتحا الخزانة، فلمّا قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح وأخبرته أنه تقدم إليها أن لا تفتحه ولا تُطلع عليه أحداً حتى يصح عندها موته فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة، فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم وإذا فيهم أطفال، ورجال شباب، ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكاناً)(١) .

النقطة الرابعة:

ومن المشاكل التي أثيرت في مطلع تسلّم الإمام موسىعليه‌السلام لمسؤولية الإمامة ، والتي كانت تهدف لتمزيق الطائفة الشيعية وإثارة البلبلة والتخريب في صفوفها، هي التشكيك في مسألة القيادة فإنها لمن تكون بعد الإمام الصادقعليه‌السلام بسبب ما ادّعاه (عبد الله الأفطح) أخو الإمام موسى الأكبر بعد إسماعيل، وهذا بطبيعة الحال يُضيف معاناة أُخرى للإمام ؛ لأن أجهزة المنصور العدوانيّة كانت تعدّ عليه الأنفاس وتشك في أيّ حركة تصدر منه(٢) .

النقطة الخامسة:

ومن الأساليب التي استخدمتها السلطات العبّاسية عامة والمنصور بشكل خاص، سياسة اتّخاذ (وعّاظ السلاطين) بعد أن غيّب الإمام

ــــــــــــ

(١) الطبري: ٦ / ٣٤٣ و ٣٤٤ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

(٢) سيرة الأئمة الاثني عشر: ٢/٣٢٥ فصل حياة الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما‌السلام ط دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت، والإرشاد: ٢/٢٠٩ ذكر أولاد أبي عبد الله عليه‌السلام وعددهم وأسمائهم وطرف من أخبارهم، ط مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ـ قم المقدسة.

٥١

موسى الكاظمعليه‌السلام عن المسرح السياسي والفكري ، وظاهرة وعّاظ السلاطين هي بديل يرعاه الخليفة ويدعمه بما أوتي من قوة ليغطّي له الفراغ من جانب وتؤيد له سياسته من جانب آخر إذ يوحي للأمة بأنه مع الخط الإسلامي السائر على نهج السنة النبويّة، ووجد من (مالك بن أنس) وأمثاله ممن تناغم معه في الاختيار العقائدي الذي لا يصطدم مع سياسته، ووجد من تجاوب مع رغبته وكال له ولأسرته المديح والثناء، الأمر الذي دفع بالمنصور أن يفرض (الموطأ) على الناس بالسيف ثم جعل لمالك السلطة في الحجاز على الولاة وجميع موظّفي الدولة فازدحم الناس على بابه وهابته الولاة والحكّام وحينما وفد الشافعي عليه فشفّع بالوالي لكي يسهّل له أمر الدخول عليه فقال له الوالي: إني أمشي من المدينة إلى مكة حافياً راجلاً أهون عليّ من أن أمشي إلى باب مالك. ولست أرى الذل حتى أقف على باب داره(١) .

النقطة السادسة:

انتشرت في هذه المرحلة عقائد خاطئة وتأسّست فرق منحرفة من الإلحاد والزندقة والغلوّ والجبرية والإرجاء ، عقائد خاطئة ذات أصحاب تدافع عنها ، ولم تكن كل هذه الاعتقادات وليدة هذا الظرف بالذات، وإنما نشطت في هذا الجوّ المساعد لنموها، حيث كان بعض الخلفاء يتبنى بعضاً منها ويسمح لانتشار البعض الآخر.

فالغلاة يعتقدون بنبوّة الأئمة، وبعده بإلهية جعفر بن محمد الصادق وإلهية آبائه، وهؤلاء قد تبرّأ منهم الإمام الصادق ولعنهم لعناً مشدداً.

لكن السلطات شجعت من جانب ، وألصقت التهمة بهم من جانب آخر بهدف التشويه لحقيقة الشيعة، كما استخدموا هذه التهمة فيما بعد ذريعة ومادّة حكم تبرر لهم اضطهاد الشيعة تحت هذا الاسم فأطلقوا على الشيعة اسم زنادقة ويحق للدولة أن تطاردهم.

ــــــــــــ

(١) الأئمة الأربعة لمصطفى الشكعة: ٢/١٠٠، حياة مالك بن أنس، الفصل الخامس، باب ٦ مهابة مالك، سيرة الأئمة الاثني عشر، هاشم معروف الحسني: ٢/٣٢٦، حياة الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما‌السلام .

٥٢

لقد عاصر الإمام الكاظمعليه‌السلام تيّاراً آخر كان خطيراً على الأمة حاضراً ومستقبلاً وكان قد وقف بوجهه الإمام الصادقعليه‌السلام وحذّر منه الشباب خاصة ألا وهم المرجئة الذين يقولون بتأخير وارجاء صاحب المعصية الكبيرة إلى يوم القيامة فلا يحكمون عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار.

ويحاول أصحاب هذا الاعتقاد أن يخلطوا الأوراق ويدمجوا بين سلوك الخير وسلوك الشر فلا يفرّق بين سلوك الإمام عليعليه‌السلام وسلوك معاوية ولا بين موقف الحسينعليه‌السلام وموقف يزيد; لأن الحكم عليهم في الدنيا ليس من شؤوننا وإنما يترك الأمر ليوم القيامة.

ثم تبنّت هذه الفرقة اعتقاداً آخر لا يقلّ خطورة عن سابقه إذ تكمن خطورته على الشباب خاصة لأن هذا الاعتقاد يفسّر معنى الإيمان المراد عند الله بأنه الإيمان القلبي لا السلوك الخارجي، لأن السلوك الخارجي قد يخادع به الإنسان فالإيمان الذي ينظر إليه الله تعالى هو الإيمان القلبي أمّا الممارسات الخارجية فلا اعتبار لها، فإذا زنا الإنسان أو شرب الخمر أو قتل نفساً فهذه تصرفات خارجية والمهم أن الإنسان يعتقد قلبياً بالله تعالى.

كما روّج في هذه الفترة لفكرة الجبر والتي نشأت في زمن معاوية واستفاد منها بنو العبّاس حيث تقول بأنا لسنا مخيّرين في أفعالنا فإذا شاء الله أن نصلّي صلّينا وإذا شاء أن نشرب الخمر شربنا وهكذا.

الملاحظ في كل هذه العقائد والأفكار وأصحابها أنّها تخدم السلطة كل واحدة بطريقتها حيث تبرّر للحكّام تصرفاتهم البعيدة عن الإسلام بأفكار وأحكام اعتقادية وتهدّئ الجمهور الإسلامي حين توجّهه بهذه الأفكار.

من هنا ندرك السبب الذي جعل من الحكام أن يسمحوا بالانتشار لهذه التيّارات الناشئة من أفكار منحرفة جاء بها اليهود وغيرهم إلى العالم الإسلامي.

هذا هو عرض مختصر للظواهر والأحداث السياسية والثقافية والفكرية، التي برزت في عصر المنصور وكان الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام معاصراً لها.

أمّا ما هو منهج الإمام وأساليبه ومواقفه في خضم هذه الأجواء المملؤة بالشبهات والتهم والتضييق ؟ ! هذا ما سوف نتناوله في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.

٥٣

الفصل الثّاني: مواقف الإمام الكاظمعليه‌السلام في عهد المنصور

إنّ حركة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ونشاطه إزاء هذه الظروف التي تحدثنا عنها لم يسعفنا التاريخ بتفاصيلها ولم يحدّد لنا بالأرقام بشكل واضح حركة الإمام فيها، إلاّ أنّ بعض الروايات التاريخية تشير إلى أن الإمامعليه‌السلام قد مارس أُموراً في سنوات حكم المنصور العشرة بعد استشهاد الإمام الصادقعليه‌السلام .

وقد انتقينا بعض ممارسات الإمامعليه‌السلام التي لا تتعارض مع هذه الفترة وتنسجم مع ظروفها. ثم حاولنا بعد ذلك التركيز على الخط الذي سلكه الإمام بشكل عام تاركين التعرض للتفاصيل.

كما أنّ الخط العام والنهج الذي اتّخذه الإمام في هذه الفترة يتضمّن ما كان يهدف إليه من أسلوب علاجي لبعض الظواهر الانحرافية، كما يتضمّن ما كان يريد أن يؤسّس فيه لثوابت مستقبلية. من هنا يقع الكلام في هذا البحث ضمن عدّة اتجاهات:

الاتّجاه الأوّل: الإمام الكاظمعليه‌السلام وإحكام المواقع

ونتناول في هذا الاتجاه دور الإمامعليه‌السلام في إبرازه للقدرات الغيبية التي تميّز الإمام عن غيره من الأدعياء وزعماء الفرق والطوائف الضالّة في زمانه، وبهذا قد لفت أنظار الأمة وأعطاها حسّاً تقارن وتحاكم به هذه التيّارات وتفرز بين الحق والباطل بما أمتلكته من مقاييس مستلهمة من مشاهد مثيرة حسية كان قد حققها الإمامعليه‌السلام .

٥٤

وهذا ينبئ عن محاولات إسقاط الحيرة الفكرية السائدة في هذه الفترة. والنشاطات التي قام بها الإمامعليه‌السلام في هذا الاتجاه هي كما يلي:

النشاط الأول: إخبار الإمام موسىعليه‌السلام لعامة الناس ببعض الغيبيات التي لا يمكن للإنسان العادي أن يتوصّل إليها، والروايات التي تتضمّن هذا النوع من الإخبار كثيرة جداً ننقل بعضاً منها:

المثال الأول: عن إسحاق بن عمار قال: (سمعت العبد الصالحعليه‌السلام ينعى إلى رجل من شيعته نفسه، فقلت في نفسي: وإنه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته ! فالتفت إلي شبه المغضَب فقال:يا إسحاق قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا والبلايا والإمام أولى بعلم ذلك ، ثم قال: يا إسحاق اصنع ما أنت صانع فإنّ عمرك قد فنى وقد بقي منه دون سنتين ... فلم يلبث إسحاق بعد هذا المجلس إلاّ يسيراً حتى مات)(١) .

المثال الثاني: قال خالد بن نجيح: قلت لموسىعليه‌السلام إنّ أصحابنا قدموا من الكوفة وذكروا أن المفضّل شديد الوجع، فادع الله له. فقالعليه‌السلام :(قد استراح) ،

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٤٨٤، ح ٧، وفي الخرائج والجرائح: ١/٣١٠، ح ٣: إسحاق بن منصور، وفي إثبات الهداة: ٥/٥٤١، ح ٧٨: إسماعيل بن منصور عن أبيه. وفي بحار الأنوار: ٤٨/٦٨، ح ٩٠ ـ ٩١ عن الكافي والخرائج.

٥٥

وكان هذا الكلام بعد موته بثلاثة أيّام(١) .

المثال الثالث: قال ابن نافع التفليسي: خلّفت والدي مع الحرم في الموسم وقصدت موسى بن جعفرعليه‌السلام فلما أن قربت منه هممت بالسلام عليه فأقبل عليّ بوجهه وقال:(برّ حجك يا ابن نافع، آجرك الله في أبيك فإنّه قد قبضه إليه في هذه الساعة، فارجع فخذ في جهازه) ، فبقيت متحيراً عند قوله، وقد كنت خلّفته وما به علّة، فقال:يا ابن نافع أفلا تؤمن؟ فرجعت فإذا أنا بالجواري يلطمن خدودهنّ فقلت: ما وراكنّ؟ قلن: أبوك فارق الدنيا، قال ابن نافع: فجئت إليه أسأله عمّا أخفاه ورائي فقال لي:أبداً ما أخفاه وراءك ، ثم قال:يا ابن نافع إن كان في أمنيتك كذا وكذا أن تسأل عنه فأنا جنب الله وكلمته الباقية وحجته البالغة )(٢) .

النشاط الثاني: ومن قدرات الإمامعليه‌السلام الخارقة للعادة والتي تميّزه أيضاً عن غيره هي تكلّمه بعدّة لغات من غير أن يتعلّمها بالطرق الطبيعية للتعلّم، وإنّما بالإلهام. وفي هذا المجال تطالعنا مجموعة من الشواهد:

الشاهد الأول: عن أبي بصير قال: دخلت على أبي الحسن الماضيعليه‌السلام ، ما لبثت أن دخل علينا رجل من أهل خراسان فتكلّم الخراساني بالعربية، فأجابه هو بالفارسية. فقال له الخراساني: أصلحك الله ما منعني أن أكلمك بكلامي إلاّ أني ظننت أنك لا تحسن ، فقال:(سبحان الله! إذا كنت لا أحسن أن أجيبك فما فضلي عليك؟!) ، ثم قال:(يا أبا محمد ، إنّ الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة

ــــــــــــ

(١) بصائر الدرجات: ٢٦٤ ح ١٠، واخبار معرفة الرجال: ٣٢٩ ح ٥٩٧، والخرائج والجرائح: ٢/٧١٥ ح ١٣، وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٧٢.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ٤/٣١١ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨/٧٢.

٥٦

ولا شيء فيه روح بهذا يعرف الإمام ، فإذا لم تكن فيه هذه الخصال فليس هو بإمام) (١) .

الشاهد الثاني: روي عن أبي حمزة أنه قال: كنت عند أبي الحسن موسىعليه‌السلام إذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبشة اُشتروا له، فتكلم غلام منهم ـ وكان جميلاً ـ بكلام فأجابه موسىعليه‌السلام بلغته فتعجّب الغلام وتعجّبوا جميعاً وظنوا أنه لا يفهم كلامهم. فقال له موسىعليه‌السلام :(إني أدفع إليك مالاً، فادفع إلى كل (واحد )منهم ثلاثين درهماً) . فخرجوا وبعضهم يقول لبعض: (إنّه أفصح منا بلغتنا، وهذه نعمة من الله علينا. قال علي بن أبي حمزة: فلما خرجوا قلت: يا ابن رسول الله! رأيتك تكلم هؤلاء الحبشيين بلغاتهم ! قال:نعم. وأمرت ذلك الغلام من بينهم بشيء دونهم؟ قال:نعم أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً وأن يُعطي كل واحد منهم في كل شهر ثلاثين درهماً، لأنّه لمّا تكلم كان أعلمهم، فإنه من أبناء ملوكهم، فجعلته عليهم، وأوصيته بما يحتاجون إليه، وهو مع هذا غلام صدق . ثم قال:لعلك عجبت من كلامي إياهم الحبشية ؟ قلت: إي والله. قالعليه‌السلام :(لا تعجب فما خفي عليك من أمري أعجب وأعجب) (٢) .

الشاهد الثالث: قال بدر ـ مولى الإمام الرضاعليه‌السلام ـ: (إنّ إسحاق بن عمار دخل على موسى بن جعفرعليه‌السلام فجلس عنده إذ استأذن عليه رجل خراساني

ــــــــــــ

(١) قرب الإسناد: ٢٦٥، ح ١٢٦٣ وعنه في بحار الأنوار: ٢٥/١٣٣، ح ٥، واثبات الهداة: ٥/٥٣٥ ح ٧٢.

(٢) قرب الإسناد: ٢٦٢، ح ١٢٥٧ وعنه في بحار الأنوار: ٢٦/١٩٠ و ٤٨ / ١٠٠، ودلائل الإمامة: ١٦٩، والخرائج والجرائح: ١/٣١٢، ح ٥ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٧٠.

٥٧

يكلّمه بكلام لم يسمع مثله قطّ كأنه كلام الطير.

قال إسحاق: فأجابه موسىعليه‌السلام بمثله وبلغته إلى أن قضى وطره في مساءلته، فخرج من عنده، فقلت: ما سمعت بمثل هذا الكلام.

قال:هذا كلام قوم من أهل الصين وليس كل كلام أهل الصين مثله .

ثم قال:أتعجب من كلامي بلغته ؟ قلت: هو موضع التعجب.

قالعليه‌السلام :أُخبرك بما هو أعجب منه إن الإمام يعلم منطق الطير، ومنطق كلّ ذي روح، وما يخفى على الإمام شيء (١) .

الاتّجاه الثاني: الإمام الكاظمعليه‌السلام ومعالجة الانهيار الأخلاقي

لقد أصاب القيم الإسلامية ـ بفعل الأسباب التي ذكرناها ـ اهتزاز كبير وتعرّضت الأمة إلى هبوط معنوي وتميّع مشهود، تغذّيه وتحركه أيد سلطانية هادفة، هنا سلك الإمام الكاظمعليه‌السلام سبيلين من أجل أن يحدّ من هذا الانهيار الذي تعرّضت له الأمة.

الأول عام. والثاني يختص بالجماعة الصالحة.

وقد اتّخذ الإمامعليه‌السلام أساليب عديدة للموعظة والإرشاد ومعالجة الانهيار الأخلاقي الذي أخذ ينتشر ويستحكم في أعظم الحواضر الإسلامية التي كان الإمامعليه‌السلام يتواجد فيها.

واستطاع الإمامعليه‌السلام من خلال توجيهه لمجموعة من طلاّب الحقيقة وتأثيره عليهم أن يربّي في المجتمع الإسلامي نماذج حيّة تكون قدوة للناس في كبح جماح الشهوات الهائجة وإطفاء نيران الهوى المشتعلة بسبب

ــــــــــــ

(١) دلائل الإمامة: ١٧١ وعنه في مدينة المعاجز: ٤٣٨ ح ٣٨، والخرائج والجرائح: ١ / ٣١٣، ح ٦ وعنه في كشف الغمة: ٢/٢٤٧ وبحار الأنوار: ٤٨/٧٠، ح ٩٤.

٥٨

المغريات المتنوّعة والتي كان يؤججها انسياب الحكّام في وادي الهوى نتيجة للثروات التي كانوا يحرصون على جمعها ويقتّرون في إنفاقها إلاّ على شهواتهم إلى جانب اقتدارهم السياسي والعسكري.

وممّن تأثّر بالإمام الكاظمعليه‌السلام ولمع اسمه في حواضر المجتمع الإسلامي ; أبو نصر بشر بن الحارث بن عبد الرحمن المروزي الأصل البغدادي المسكن والذي أصبح من العرفاء الزهّاد بعد أن كان من أهل المعازف والملاهي، حيث تاب على يدي الإمام الكاظمعليه‌السلام (١) .

وقد ذكر المؤرخون في سبب توبته أن الإمامعليه‌السلام حين اجتاز على داره ببغداد سمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تعلو من داره، وخرجت منها جارية وبيدها قمامة فرمت بها في الطريق، فالتفت الإمام إليها قائلاً:(يا جارية: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟) فأجابت: (حر). فقالعليه‌السلام :صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه . ودخلت الجارية الدار، وكان بشر على مائدة السكر، فقال لها: ما أبطأك؟ فنقلت له ما دار بينها وبين الإمامعليه‌السلام فخرج بشر مسرعاً حتى لحق الإمامعليه‌السلام فتاب على يده، واعتذر منه وبكى(٢) وبعد ذلك أخذ في تهذيب نفسه واتصل بالله عن معرفة وإيمان حتى فاق أهل عصره في الورع والزهد).

وقال فيه إبراهيم الحربي: ما أخرجت بغداد أتمّ عقلاً، ولا أحفظ لساناً، من بشر بن الحارث كان في كل شعرة منه عقل(٣) .

ــــــــــــ

(١) الكنى والألقاب: ٢/٦٧.

(٢) الكنى والألقاب: ٢ / ١٦٧.

(٣) تأريخ بغداد: ٧ / ٧٣.

٥٩

نعم، لقد أعرض بشر ببركة توجيه الإمام الكاظمعليه‌السلام له وتنبيهه عن غفلته حتى أعرض عن زينة الحياة الدنيا ورضي بالقناعة وقال فيها:لو لم يكن في القناعة شيء إلاّ التمتع بعز الغناء (الغنى)لكان ذلك يجزي .

وقال:(مروءة القناعة أشرف من مروءة البذل والعطاء) (١) .

وممّا رواه الخطيب البغدادي عنه أنه جعل يبكي يوماً ويضطرب ويقول:(اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا ونوّهت باسمي ورفعتني فوق قدري على أن تفضحني في القيامة، الآن فعجّل عقوبتي وخذ منّي بقدر ما يقوى عليه بدني) (٢) .

وروى عن حجّاج بن الشاعرأ نّه كان يقول لسليمان اللؤلؤي: رؤي بشر بن الحارث في النوم فقيل له: ما فعل الله بك يا أبا نصر؟ قال: غفر لي، وقال: يا بشر: ما عبدتني على قدر ما نوّهت باسمك(٣) .

وإذا تتبّعنا ما أثر عن الإمام الكاظمعليه‌السلام من كلمات وجدنا نصوصاً تشير إلى اهتمامه بمعالجة الفساد الأخلاقي بشتّى نواحيه، فضلاً عن سيرته العطرة وسلوكه السويّ الذي كان قبلة للعارفين وأسوة للمتقين وشمساً مضيئة للمؤمنين وقمراً متلألئاً للمسلمين.

ونختار ممّا قاله الإمامعليه‌السلام بصدد معالجة الانهيار الأخلاقي ما يلي:

١ ـ(إنّ العاقل: الذي لا يشغل الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره) .

٢ ـ(من سلّط ثلاثاً على ثلاث فكأنّما أعان هواه على هدم عقله) .

(من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه وأطفأ

ــــــــــــ

(١) تاريخ بغداد: ٧/٧٩.

(٢) تاريخ بغداد: ٧/٨١.

(٣) تاريخ بغداد: ٧/٨٣.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

خاتمة المطاف

وممّا يقضي منه العجب أنّ جلّ من ينسبون أنفسهم إلى مذهب السلفيّة ينكرون ذكر الله تعالى بالاسم المفرد ( الله ) دون ذكره في جملة ذات معنى تامّ، وينسبون من يذكر الله باسمه المفرد وحده إلى الضلال ويستدلّون على ذلك بأنّ جميع ما ورد من صيغ الأذكار في القرآن والسنّة جمل أو كلمات ذات دلالة على معنى يتضمّن حكماً كاملاً مثل لا إله إلا الله، أستغفر الله وليس فيها لفظ الجلالة المفرد، فذكر الله بهذا اللفظ المفرد باطل، ويضيف ابن تيميّة بأنّ الاستمرار على ذكر الله بهذا اللفظ المفرد من شأنه أن يزجّ الذاكر شيئاً فشيئاً في أوهام الحلول ووحدة الوجود(١) .

لقد عزب عنه ومضافاً إلى أنّ اطلاقات الأدلّة(٢) كاف في ذلك أنّه سبحانه يأمر نبيّه أن يذكر الله باسمه المفرد ويقول:( قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) ( الانعام / ٩١ ).

وأمّا ما ذكره به في آخر كلامه من أنّ الاستمرار على ذكر الله عسى أن يزجّ الرجل في أوهام الحلول شيئاً فشيئاً لا قيمة له فانّه اجتهاد تجاه النص أولاً، وهو بنفسه موجود في سائر الأسماء ثانياً.

الثاني: الأحد

قد ورد لفظ « الأحد » بصوره المختلفة في الذكر الحكيم ٧٤ مرّة وقد وقع وصفاً له سبحانه في موردين فقط.

__________________

(١) مجموع الفتاوى: ج ١٠ ص ٥٥٦.

(٢) مثل قوله سبحانه:( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الدهر / ٢٥ )، وقوله سبحانه:( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ) ( الأعراف / ٢٠٥ ).

١٢١

قال سبحانه:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ *اللهُ الصَّمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

قال ابن فارس: أحد والأصل « وحد »، وعن الزجّاج: إنّه مأخوذ من « الواحد » وقال الأزهري: أنّه يقال: وحد يوحد فهو وَحَد، كما يقال: حسن يحسن فهو حسن ثم انقلبت الواو همزة فقالوا « أحد »، والواو المفتوحة قد تقلب همزة كما تقلب المكسورة والمضمومة ومنها امرأة اسماء بمعنى وسماء من الوسامة.

وقد ذكروا فروقاً بين الواحد والأحد وإليك البيان :

١ ـ إنّ الواحد اسم لمفتتح العدد فيقال: واحد، اثنان، ثلاثة، ولا يقال أحد، اثنان، ثلاثة، قال الصدوق: الأحد ممتنع من الدخول في الضرب والعدد والقسمة وفي شيء من الحساب، والواحد منقاد للعدد والقسمة وغيرهما داخل في الحساب فتقول: واحد في اثنين أو ثلاثة، و « الأحد » ممتنع عليه هذا، فلا يقال: أحد بين اثنين(١) .

٢ ـ إنّ لفظه « أحداً » إذ وضعت في حيّز النفي تفيد عموم النفي بخلاف لفظة « الواحد » فهو منصرف إلى نفي العدد لا إلى نفي الجنس، فلو قيل ما في الدار واحد يصحّ أن يقال بل فيها اثنان، وامّا لو قيل ما في الدار أحد بل اثنان كان خطأ.

٣ ـ إنّ لفظ الواحد يمكن جعله وصفاً لكلّ شيء يقال رجل واحد، ثوب واحد بخلاف الأحد فلا يصحّ وصف شيء في جانب الاثبات بالأحد إلّا الله الأحد فلا يقال رجل أحد ولا ثوب أحد فكأنّه تعالى استأثر بهذا النعت.

وأمّا في جانب النفي فقد يذكر هذا في غير الله تعالى أيضاً فيقال: ما رأيت أحداً وعلى هذا فالأحد والواحد كالرحمان والرحيم.

__________________

(١) التوحيد للصدوق: ص ١٩٧ بتلخيص.

١٢٢

فالأوّل مختص دون الثاني، فكذلك الأحد فهو مختص به في مقام التوصيف دون الواحد، وقال الراغب ( من أقسام استعمالاته ) أن يستعمل مطلقاً وصفاً وليس ذلك إلّا في وصف الله ( قل هو الله أحد )(١) .

وقد احتمل الرازي أنّ تنكير أحد في قوله « قل هو الله أحد » لأجل أنّه صار نعتاً لله عزّ وجلّ على الخصوص فصار معرفة فاستغنى عن التعريف.

ويحتمل أن يكون التنكير لأجل التنبيه على كمال الوحدانية كقوله سبحانه:( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ ) ( البقرة / ٩٦ ). أي على حياة كاملة مضافاً إلى استعمال الأحد في الأدعية معرفة.

قال الأزهري سئل أحمد بن يحيى عن الآحاد هل هو جمع الأحد ؟ فقال: معاذ الله ليس للأحد جمع ولا يبعد أن يقال الآحاد جمع واحد كما أنّ الاشهاد جمع شاهد(٢) .

ثمّ إنّه اجتمع في قوله سبحانه:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ألفاظ ثلاثة من أسماء الله وكلّ واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات السائرين إلى الله.

أمّا الأوّل أعني لفظة « هو » فقد جاء به من دون ذكر مرجع وقد زعم النحويّون غير البارعين في المعارف الإلهية انّه للشأن ولكن يمكن أن يقال: إنّه ليس للشأن وإنّما يرجع إليه سبحانه والتعبير به من دون ذكر المرجع يناسب البارعين الذين نظروا إلى صفحة الوجود فلم يروا موجوداً مستحقاً لاطلاق اسم الوجود أو الموجود إلّا ايّاه فكأنّه ليس في الدار غيره ديّار فكان قوله « هو » كافياً في حق هذه الطائفة لأنّه إذ لم يكن في صفحة الوجود إلّا هو كانت الإشارة المطلقة لا تتوجه إلّا إليه وغيره يحتاج إلى مرجع.

__________________

(١) المفردات: ص ١٢.

(٢) لوامع البينات: ص ٣٣١.

١٢٣

ثمّ إنّه سبحانه أوضحه بقوله « الله » ولعلّه لتفهيم طبقة اُخرى تليهم في المعرفة وهم الذين يرون الكثرة في الوجود وانّ هناك واجباً وممكناً فاحتاج ضمير الإشارة إلى مميز وذلك هو قوله الله، وعلى هذا فالمجموع « هو الله » راجع إلى الطبقتين.

وأمّا الطبقة الثالثة الذين يجوّزون الكثرة لا في الوجود بل في الإله، فردّ سبحانه وهمهم بقوله « هو الله أحد » لهدايتهم(١) .

ثمّ إنّه سبحانه كرر لفظة « أحد » في سورة الإخلاص ووصف نفسه به مرّتين وقال: قل هو الله أحد ثم قال: ولم يكن له كفواً أحد، فهل اُريد من اللفظة في كلا الموردين معنى واحد أو اُريد معنيان ؟ وبعبارة واضحة هل اللفظتان تشيران إلى قسم واحد من التوحيد أو إلى قسمين، فالظاهر أنّ الآية الثانية ناظرة إلى التوحيد الذاتي بمعنى انّه واحد لا مثيل له ولا نظير بل لا يتصور له التعدد والاثنينية، وأمّا الآية الاُولى فهي ناظرة إلى التوحيد الذاتي لكن بمعنى البساطة ونفي التجزئة عن الذات.

وقد فسّره الصدوق بذلك في توحيده فقال: الأحد معناه أنّه واحد في ذاته أي ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا أعضاء(٢) .

قال الطبرسي: الأحد هو الذي لا يتجزأ ولا ينقسم في ذاته ولا في صفاته(٣) .

ويقول الجزائري في « فروق اللغات » في الفرق بين الواحد والأحد :

إنّ الواحد، الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر، والأحد الفرد الذي لا يتجزّأ ولا ينقسم.

يقول العلامة الطباطبائي (ره) :

« والأحد وصف مأخود من الوحدة كالواحد غير أنّ الأحد إنّما يطلق على ما

__________________

(١) لوامع البينات: ص ٣١١، وتوحيد الصدوق: ص ١٩٦.

(٢) توحيد الصدوق: ص ١٩٦.

(٣) مجمع البيان: ج ٥ ص ٥٦٤.

١٢٤

لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً »(١) .

وفي ضوء هذا يمكن أن يقال: إنّ قوله سبحانه ولم يكن له كفواً أحد بشهادة لفظ « كفوا » ناظر إلى نفي المثيل والنظير له سبحانه، فهو واحد في الذات فلا ذات كذاته كما هو واحد في الفعل فلا خالق ولا مدبّر سواه وانّ قوله: « قل هو الله أحد » ناظر إلى نفي أي نوع من التركيب والتجزئة في ذاته سبحانه، وبذلك يعلم أنّ هذه السورة نزلت ردّاً لمزعمة النصارى بل اليهود أيضاً فالنصارى بحجّة أنّهم قالوا بالتثليث واليهود بحجة أنّهم يقولون: إنّ العزير ابن الله محجوجون بما ورد في هذه السورة فالله سبحانه واحد لا مثيل له، بسيط لا جزء له. فلو كان مرجع التثليث عند المسيحية إلى أنّ كلّ واحد من « الأب » و « الابن » و « روح القدس » إله مستقل متفرّد في الالوهية فله كفو بل كفوان مع أنّه سبحانه « لم يكن له كفوا أحد » أي لم يكن له مثيل ولا نظير فلا يتكرر ولا يتعدد، وإن لم يكن كلّ واحدٍ إلهاً مستقلاً بل كلّ واحد يشكّل جزء من الالوهية فالله سبحانه هو المركب من هذه الثلاثة فهو سبحانه عندهم مركّب لا بسيط متجزئ منقسم. فردّ عليهم سبحانه بقوله:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) .

وقد ورد في ما روي عن بعض أئمّة أهل البيت: ما يؤيّد هذا الاستظهار. قال الامام أمير المؤمنين٧ في جواب أعرابي سأله يوم الجمل عن تفسير قوله: « إنّ الله واحد » فقال٧ في كلام مبسوط :

« وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا وقول القائل انّه عزّ وجلّ أحدي المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا »(٢) .

وبذلك تقف على أنّ التوحيد الذاتي ينقسم إلى التوحيد في الواحديّة و

__________________

(١) الميزان: ج ٢٠ ص ٥٤٣.

(٢) توحيد الصدوق: ص ٨٣ ـ ٨٤.

١٢٥

التوحيد في الأحديّة فيفسر الأوّل بنفي المثل والثاني بنفي التركيب والتجزئة والتقسيم.

وبذلك يمكن اصطياد البرهان على كون صفاته سبحانه الثبوتيّة الكماليّة عين ذاته كما عليه الاماميّة من العدليّة وبعض المعتزلة، لا زائد عليه كما عليه الشيخ الأشعري ومن تبعه لوضوح أنّ حديث الزيادة يستلزم التركيب والتجزئة، وهما آيتا الامكان، والامكان ينافي الوجوب، وإلى ذلك يشير الامام أمير المؤمنين٧ بقوله: « وكمال الإخلاص له نفي الصفات ( الزائدة ) عنه بشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف الله ( أي بوصف زائد على ذاته ) فقد قرنه أي قرن ذاته بشيء غيره، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله »(١) .

وهذا بعض الكلام حول « الاحد »، وسيوافيك ما يفيدك عند البحث عن اسم « الواحد ».

الثالث والرابع: الأوّل والآخِر

لقد ورد لفظ « الأوّل » بصوره المختلفة في الذكر الحكيم ٦٢ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في آية واحدة، قال:( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الحديد / ٣ ).

قال ابن فارس: الأوّل: ابتداء الأمر والاخر نقيض المتقدّم(٢) وقال الراغب: « فالأوّل هو الذي يترتّب عليه غيره »(٣) .

وقد وصف سبحانه في الآية بصفات متضادّة غير مجتمعة حيث تصفه بأنّه

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١.

(٢) المقاييس: ج ١ ص ١٥٨ و ٧٠.

(٣) المفردات: ص ٣١.

١٢٦

الأوّل وفي الوقت نفسه الاخِر، كما تصفه بأنّه الظاهر وفي الوقت نفسه بأنّه الباطن فلو كان أوّلاً كيف يكون آخراً، ولو كان ظاهراً فكيف يكون باطناً ؟ فأوّل الناس في العمل لا يكون آخرهم فيه وهكذا الظاهر والباطن، ومع ذلك كلّه فالله سبحانه جمع بين هذه الصفات جمعاً حقيقياً واقعياً لا مجازياً وذلك بإحاطته على الموجودات الامكانية وقيامهم به قيام المعنى الحرفي بالاسمي، فكما لا يمكن خلو المعنى الحرفي عن الاسمي فهكذا لا يمكن خلو الوجود الإمكاني عن الوجود الواجبي، وليس حديث نفي الخلو حديث الممازجة بل المقصود الاحاطة القيومية التي له سبحانه بالنسبة إلى العالم كلّه، فالعالم بما فيه من الكبير إلى الصغير ومن المجرّة إلى الذرّة، ومن المادّي إلى المجرّد، قائم به سبحانه قيام المعلول بعلّته، نظير قيام الصور الذهنيّة بالنفس فهو مع الأشياء كلّها( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / ٤ ) فإذا كان محيطاً بوجوده على كلّ شيء فكلّ ما فرض أوّلاً فهو قبله بحكم كونه محيطاً والشيء محاطاً، فهو الأوّل دون الشيء المفروض أوّلاً، وكلّ ما فرض آخراً فهو بعده لحديث إحاطة وجوده به من كلّ جهة، فهو الآخر دون الشيء المفروض وليست أوليّته تعالى ولا آخريته زمانيّة ولامكانيّة بل بمعنى كونه محيطاً بالأشياء على أيّ نحو فرض وكيفما تصوّرت.

وعلى ذلك فالأوّل والآخر من فروع اسمه « المحيط » فبما أنّ وجوده محيط بكلّ شيء فهو الأوّل قبل الاشياء والاخر بعد الأشياء.

ولأجل ذلك روي عن الإمام علي٧ أنّه قال: « ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله قبله ومعه وبعده ». وهذا هو العرفان الكامل.

والظاهر أنّ توصيفه بالأوليّة والآخريّة مبني على إحاطة وجوده بالأشياء ويؤيّده قوله في الآية التالية( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / ٤ ) وإمّا تفسير الآية باحاطة قدرته كما عن بعض المفسّرين فلا ينافي ما ذكرناه بل هو يرجع إلى ما ذكرنا لكون قدرته نفس ذاته فإحاطة قدرته لا تنفك عن إحاطة ذاته، وعلى ذلك فمعنى الاية

١٢٧

هو أوّل الأشياء وآخرها، وانّه لو فرض شيء فهو أوّله كما أنّه آخره بحكم المحيطيّة والمحاطيّة.

ويمكن أن يقال: إنّ الوصفين تعبيران عن أزليّته وأبديّته فبما أنّه واجب الوجود وانّ وجوده نابع من صميم ذاته غير مكتسب من مقام آخر، يكون أزليّاً فلا يكون لوجوده ابتداء كما لا يكون لوجوده انتهاء، وبعبارة اخرى فرض كون وجوده واجباً بالذات يستلزم أن لا يتطرّق إليه العدم أبداً لا في السابق ولا في اللاحق وهو يساوق أزليّته وأبديّته وهو يستلزم أن لا يكون له ابتداء ولا انتهاء ولا أوّل وآخر، ولو وصف بالأوليّة والآخرية يكون المراد منهما أنّه الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء، وهذا معنى آخر غير ما ذكرنا.

والفرق بين المعنيين واضح فإنّ توصيفه بهما في المعنى الأوّل ينبع من كونه محيطاً بالأشياء كما أنّ توصيفه بهما في المعنى الثاني ينبع من كونه واجب الوجود ممتنع العدم، وهو خيرة الصدوق في توحيده حيث قال: « إنّه الأوّل بغير ابتداء والاخر بغير انتهاء »(١) .

ثمّ إنّ هذه الآية قد وقعت مجالاً لأرباب الاشارات فذكروا في تفسيرها وجوهاً كثيرة تناهز ٢٤ وجهاً(٢) كلّها من قبيل التفسير الإشاري، وقد ذكرنا في محله أنّ قسماً منه تفسير جائز وقسماً آخر تفسير ممنوع.

الخامس: « الأعلى »

وقد ورد لفظ « الأعلى » في الذكر الحكيم ٩ مرّات ووصف به سبحانه في

__________________

(١) توحيد الصدوق: ص ١٩٧، وذكر ابن فارس في المقاييس: « إنّ العرب تقول: أوّل ذي أول. وأول أول ويريد قبل كل شيء » ج ١ ص ١٥٨.

(٢) لوامع البينات: ص ٣٢٣ ـ ٣٢٦.

١٢٨

آيتين قال:( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) ( الاعلى / ١ ).

وقال سبحانه:( وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إلّاابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَىٰ ) ( الليل / ١٩ ـ ٢٠ ).

وربّما وصف به مثله ( بالفتح ) سبحانه قال:( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَىٰ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل / ٦٠ ).

وقال سبحانه:( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الروم / ٢٧ ).

والأعلى في الآيتين الأوليّتين ـ كما هو الظاهر ـ وصف للرّبّ، وفي الأخيرتين وصف للمثل ( بالفتح )، والمراد من « المثل » هو الوصف والتوصيف(١) .

و « الأعلى » من العلو وهو الرفعة قال ابن فارس: « العلوّ: أصل واحد يدل على السموّ والإرتفاع، لا يشذ عنه شيء، من ذلك العلىٰ والعلوّ، ويقولون: تعالى النهار: ارتفع ».

أقول: المراد من العلوّ، هو العلوّ من حيث الرتبة والدرجة لأنّه المبدأ لكلّ شيء، والمفيض له والمحيط به، فذاته سبحانه أرفع من كلّ موجود محدود، يعلو كلّ عال ويقهر كلّ شيء فبما أنّه عال وله العلوّ المطلق، فله الوجود الكامل، وهذا يلازم كونه ذا أسماء حسنى ومعه يجب تسبيح اسمه وتنزيهه عمّا لا يليق من الأسماء.

وكما انّه عليّ في ذاته، عال من حيث الصفات والأوصاف، ولله سبحانه

__________________

(١) قال سبحانه:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) ( الفرقان / ٩ )، والمراد من ضرب المثل للرسول هو توصيفه بصفات لا تليق به، مثل توصيفه بأنّه « رجل مسحور » كما جاء في الآية المتقدمة عليها حيث قال سبحانه:( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلاً مَّسْحُورًا ) ( الفرقان / ٨ ).

١٢٩

الصفات العليا فله العلم الذي لا يطرأ عليه الجهل، والقدرة التي لا تعرضه عجز، والحياة التي لا يحدّدها موت، فهو سبحانه أعلى من أمثال السوء التي يتصف بها غيره.

فالله سبحانه أعلى ذاتاً ووجوداً، وأعلى صفة وسمة. أمّا علوّ ذاته فلأجل كونه واجب الوجود ومبدع الممكنات وموجدها، وأمّا علوّ صفاته فلأنّ كلّ وصف كمالي يوصف به شيء في السماوات والأرض كالحياة والقدرة والعلم والملك والجود والكرم والعظمة والكبرياء، فله السهم الأعلى ولغيره الأدنى وذلك لعدم محدوديّة صفاته بخلاف غيره.

ثمّ إنّه ربّما يفسّر « الأعلى » بالقاهر. قال الصدوق: وأمّا الأعلى فمعناه العليّ والقاهر ويؤيّد ذلك قوله عزّ وجلّ لموسى٧ :( لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَىٰ ) ( طه / ٦٨ ) اي القاهر وقوله عزّ وجلّ في تحريض المؤمنين على القتال:( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٣٩ ) وقوله عزّ وجلّ:( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ ) ( القصص / ٤ ). أي غلبهم واستولى عليهم، وقال الشاعر في هذا المعنى :

فلمّا علونا واستوينا عليهم

تركنا هم صرعى لنسر وكاسر

ثمّ قال، وهناك معنى ثان وهو أنّه متعال عن الأشباه والأنداد أي متنزّه كما قال:( وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( يونس / ١٨ ).

والظاهر تعيّن المعنى الثاني وهو الذي عبّرنا عنه بالرفعة وجوداً وصفة ثم الرفعة كما تتحقق بالصفات الكمالية على ما أوضحنا، تتحقق بالتنزّه عن الأشباه والأنداد وهو الذي ذكره الصدوق، وأمّا المعنى الأوّل فالظاهر أنّه لازم المعنى الثاني فانّ العلو رتبة بل ومكاناً يستلزم القهر والغلبة، فالقهر والغلبة، من لوازم المعنى وليست نفس المعنى.

١٣٠

السادس: « الأعلم »

وقد ورد في الذكر الحكيم لفظ « الأعلم » ٤٩ مرّة ولم يوصف به غيره سبحانه.

قال سبحانه:( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران / ١٦٧ ).

وقال سبحانه:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الأنعام / ١٢٤ ) إلى غير ذلك من الموارد.

وصيغة « أعلم » صيغة المفاضلة ومعناه أنّه يثبّت العلم لنفسه وغيره ولكنّه يفضّل علمه على غيره غير أنّه يعدل عنه في موارد بقرائن خاصّة مثل قوله سبحانه:( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الانعام / ١٢٤ ) فعلّقوا إيمانهم وتصديقهم على أن يؤتوا مثل ما أوتي رسل الله بأن ينزّل عليهم الملك والوحي، فاجيبوا بقوله سبحانه( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) والمناسب لمقام الرد هو انسلاخ صيغة التفضيل من المفاضلة أي إنّه العالم دونهم بحجّة انّهم علّقوا ايمانهم على صدق النبي على أن يكونوا أنبياء مثله وهذا دليل على جهلهم المطبق، فهم جهلاء والله سبحانه هو العالم، ونظير ذلك قوله سبحانه نقلاً عن « لوط » في حق بناته:( يَا قَوْمِ هَٰؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) ( هود / ٧٨ ) وقوله سبحانه حاكياً عن يوسف( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ( يوسف / ٣٣ ) والمناسب لمقام العصمة كون السجن محبوباً إليه دون غيره أعني الفحشاء، والحبّ بمعنى كونه موافقاً للغريزة الجنسية خارج عن مجال البحث قال سبحانه:( قُلْ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ ) ( الفرقان / ١٥ ) والمراد انّها خير دون الجحيم بل هي شر، وعلى ذلك فالأصل في الصيغة هو الحمل على المفاضلة إلّا إذا دلّ الدليل على خلافه، نعم أدب العرفان والعبوديّة يقتضي توصيفه سبحانه فقط بالعلم.

١٣١

السابع: « الأكرم »

وقد وردت هذه اللفظة في الذكر الحكيم مرتين الاُولى قوله سبحانه:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات / ١٣ ) والثانية قوله سبحانه:( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) ( العلق / ٣ ).

قال الراغب في مفرداته: « الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه المتظاهر نحو قوله:( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ( النمل / ٤٠ ) وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه.

وعلى ذلك فمعنى قوله( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) اي الأكثر كرماً الذي يفوق عطاؤه ما سواه، فهو يعطي لا عن استحقاق وما من نعمة إلا وتنتهي إليه سبحانه.

قال الطبرسي: أي الأعظم كرماً فلا يبلغه كرم كريم لأنّه يعطي من الكرم ما لا يقدر على مثله غيره، فكلّ نعمة توجد فمن جهته تعالى أمّا بأن اخترعها وأمّا بأن سبّبها وسهّل الطريق إليها.

هذا ويمكن أن يقال :

إنّه من الكرم بمعنى الشرف سواء كان في الشيء نفسه أو في خُلق من الأخلاق. يقال: رجل كريم وفرس كريم، وأمّا السخاء والعطاء والصفح عن ذنب المذنب فهو من آثاره، قال في المقاييس نقلاً عن ابن قتيبة: الكريم: الصفوح والله تعالى هو الكريم الصفوح عن ذنوب عباده المؤمنين(١) وعلى ذلك فمعنى قوله( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) هو الأكمل في الشرف ذاتاً وفعلاً.

__________________

(١) معجم مقاييس اللغة: ج ٥ ص ١٧١ ـ ١٧٢.

١٣٢

الثامن: « أرحم الراحمين »

وقد جاء « أرحم الراحمين » في الذكر الحكيم أربع مرّات وصفاً له سبحانه. قال سبحانه:( وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( الاعراف / ١٥١ ). وقال سبحانه:( فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / ٦٤ )، وقال سبحانه:( قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / ٩٢ ). وقال سبحانه: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( الأنبياء / ٨٣ ).

وجاء فيه « خير الراحمين » وصفاً له سبحانه مرّتين. قال:( رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / ١٠٩ ). وقال:( وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / ١١٨ ).

قال ابن فارس: « الرحم أصل واحد يدل على الرقّة والعطف والرأفة يقال من ذلك: رحمه يرحمه إذا رقّ له وتعطّف عليه، والرحم، والمرحمة والرحمة بمعنى، والرحم علاقة القرابة ثم سمّيت رحم الأنثى رحماً من هذا لأنّ منها ما يكون ما يرحم ويرقّ له من ولد ».

قال الراغب: « والرحمة رقّة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وقد تستعمل في الرقة المجرّدة وتارة في الاحسان المجرّد عن الرقّة نحو « رحم الله فلانا » وإذا وصف به الباري فليس يراد به إلّا الإحسان المجرّد دون الرقّة، وعلى هذا روي: « إنّ الرحمة من الله إنعام وإفضال، ومن الآدميّين رقّة وتعطّف ».

وظاهر هذا أنّ الرقّة والتعطّف داخل في معنى الرحمة غير أنّ البرهان العقلي يجرّنا عند توصيفه سبحانه به إلى تجريده عن الرقّة لاستلزامها الإنفعال وهو محال على الله سبحانه.

قال العلّامة الطباطبائي: « الرحمن الرحيم من الرحمة وهي وصف انفعالي و

١٣٣

تأثر يلمّ بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره، فيبعث الإنسان إلى تتميم نقصه ورفع حاجته إلّا أنّ هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الإعطاء والافاضة لرفع الحاجة وبهذا المعنى يتّصف سبحانه بالرحمة »(١) .

التاسع: « أحكم الحاكمين »

وقد ورد « احكم الحاكمين » في القرآن وصفاً لله سبحانه مرّتين.

قال:( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ ) ( هود / ٤٥ ).

وقال سبحانه:( أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ ) ( التين / ٨ ).

والحكم في اللغة بمعنى المنع لإصلاح، وسمّيت اللجام حَكَمة الدابّة لأنّها تمنعها ومنه قول الشاعر :

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

إنّي أخاف عليكم ان اغضبا

ثمّ استعير في الحكم الفاصل والقضاء الباتّ بأنه كذا وكذا أو ليس بكذا وكذا لأنّه يمنع الخصمين عن التعدّي، وسمّيت الحكمة حكمة لأنّها تمنع الرجل من فعل ما لا ينبغي.

قال سبحانه:( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء / ٥٨ ) وقال:( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ) ( المائدة / ٩٥ ) فكما وصفه القرآن بأنّه « أحكم الحاكمين » كذلك خصّ له الحكم وقال:( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الأنعام / ٦٢ ) وقال:( وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( القصص / ٧٠ ) وقال:( أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ ) ( الزمر / ٤٦ ) إلى غير ذلك من الايات. بقي الكلام في المراد من قوله « أحكم الحاكمين ».

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ١٦.

١٣٤

وأمّا قوله « أحكم » فهل المراد أنّه سبحانه أقضى القاضين ؟ كما نقله الطبرسي وجهاً، فقال: فيحكم بينك يا محمد وبين أهل التكذيب.

الظاهر أنّ صيغة التفضيل في المقام بعد تسليم كونه بمعنى القضاء متضمّنة لمعنى الاحكام والاتقان خصوصاً في الآية الاُولى حيث أنّها وردت بعد قول نوح:( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ ) فلا يناسب تفسيره بأنّك أقضى القاضين إلّا بتضمين « أحكم » معنى الإتقان ومعناه إنّك فوق كلّ حاكم في إتقان الحكم وحقّيّته ونفوذه من غير اضطراب ووهن فما جرى على ابني من الغرق في الماء عين حكمك الحكيم وقضاؤك الرصين.

العاشر: « أحسن الخالقين »

وقد ورد « أحسن الخالقين » وصفاً لله سبحانه في الذكر الحكيم مرتين. قال سبحانه:( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) ( المؤمنون / ١٤ ). وقال سبحانه ناقلاً عن إلياس:( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخَالِقِينَ *اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ) ( الصّافات / ١٢٥ ـ ١٢٦ ) فهو سبحانه يصف نفسه في هاتين الايتين بأنّه « أحسن الخالقين » كما أنّه يصف فعله حسناً على الاطلاق في الآيات الاُخر قال :

( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ) ( السجدة / ٧ ).

وقال:( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ) ( غافر / ٦٤ ).

أمّا الخلق لغة فقد فسّر بمعنى تقدير الشيء، يقال خلقت الأديم للسقاء إذا قدّرته. قال زهير :

ولانت تفري ما خلقت و

بعض القوم يخلق ما يفري

١٣٥

ومن ذلك الخُلق: وهي السجيّة لأنّ صاحبه قد قدر عليه، والخلاق: النصيب لأنّه قد قدّر لكلّ أحد نصيبه.

ويؤيّد كونه متضمّناً معنى الإيجاد قوله سبحانه:( صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) ( النمل / ٨٨ ) فانّ الصنع في الآية مكان الخلق وليس الصنع صرف التقدير بل العمل عن تقدير. قال سبحانه:( أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) ( المؤمنون / ٢٧ ).

قال الراغب: ثم إنّ الخلق تارة يستعمل في إبداع الشيء من غير مادّة ولا احتذاء قال سبحانه:( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) ( الأنعام / ١ ) أي أبدعهما بدلالة قوله( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( الأنعام / ١٠١ ) وأخرى في ايجاد الشيء من الشيء نحو:( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) ( الأعراف / ١٨٩ ). وقال:( خَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ) ( الرحمن / ١٥ ) ثمّ قال: والخلق الذي هو الابداع لله تعالى ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره:( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( النحل / ١٧ ) وأمّا الذي يكون بالإستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره في بعض الأحوال كعيسى حيث قال:( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ) ( المائدة / ١١٠ )(١) .

والظاهر أنّ الراغب بصدد الجمع بين مفاد الآية المثبت لكون الخلق صفة مشتركة بين الله وبين غيره، وبين الآيات الحاصرة لها في الله سبحانه حيث يقول:( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) ( الأنعام / ١٠٢ ) فحصر الخلق في ابداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء في الله سبحانه، وأمّا الخلق بمعنى الإستحالة فأثبته للمسيح، وبذلك ارتفع الخلاف بين الآيتين، وإليه ذهب الطبرسي حيث قال: وفي الآية دليل على أنّ اسم الخلق قد يطلق على فعل غير الله إلّا أنّ الحقيقة في الخلق لله سبحانه فقط، فإنّ المراد من الخلق ايجاد الشيء مقدّراً

__________________

(١) المفردات للراغب: ص ١٥٧ ـ ماده خلق.

١٣٦

تقديراً لا تفاوت فيه، وهذا إنّما يكون من الله سبحانه وتعالى دليله قوله:( أَلا لَهُ الخَلْقُ ) (١) .

يلاحظ عليهما: أنّ الخلق من غير أصل يوصف به سبحانه وغيره فانّ النفوس المجرّدة تخلق الصور في صقع النفس من غير مادة، وإنّما يرتفع الإختلاف بين القسمين من الآيات بأنّه لا مانع من تخصيص الخلق بالله سبحانه وتشريك الغير معه أيضاً وذلك لأنّ الخلق بمعنى فعل الفاعل، المستقل في فعله، غير المعتمد في خلقه على شيء، غير المستعين في عمله من أحد يختصّ بالله سبحانه، وأمّا الخلق بمعنى فعل الفاعل، غير المستقل في فعله، المعتمد في وجوده وفعله على الواجب، المستعين في كلّ آن من الفياض المطلق، فهو للإنسان خاصّة، ويجمعهما لفظ الخلق وهو على وجه وصف مشترك، وعلى وجه مختصّ بالله سبحانه.

الحادي عشر: « أسرع الحاسبين »

وقد ورد في الذكر الحكيم في مورد واحد. قال سبحانه:( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الأنعام / ٦٢ ). كما وصفه في آية بأنّه أسرع مكراً.

قال سبحانه:( قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) ( يونس / ٢١ ).

وسيأتي البحث عنه عند الكلام في وصفه: « سريع الحساب ». كما يأتي البحث عن الاخر في البحث عن « خير الماكرين ».

الثاني عشر والثالث عشر: « أهل التقوى وأهل المغفرة »

وقد ورد في الذكر الحكيم هذان الاسمان في مورد واحد ووقعا اسمين له

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٤ ص ١٠١، طبع صيدا.

١٣٧

سبحانه. قال سبحانه:( وَمَا يَذْكُرُونَ إلّا أَن يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ ) ( المدثر / ٥٦ ).

قال الطبرسي: أي هو أهل أن تتّقى محارمه وأهل أن يغفر الذنوب. روي مرفوعاً عن أنس قال: إنّ رسول الله٦ تلا هذه الآية وقال: قال الله سبحانه: أنا أهل أن اُتّقىٰ فلا يجعل معي إله، فمن اتّقى أن يجعل معي الهاً فأنا أهل أن أغفر له(١) .

والظاهر أنّ الأهل في الآية بمعنى الجدير. قال الراغب: « يقال فلان أهل لكذا أي خليق به »(٢) ومنه اشتقّ المؤهّل أي الجدير، والمؤهّلات: القابليات.

قال العلّامة الطباطبائي: إنّ قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ ) تعليل لقوله( وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى وأهل المغفرة لا يتمّ إلّا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم(٣) .

الرابع عشر: « الأبقى »

قد ورد لفظ « الأبقى » في الذكر الحكيم سبع مرّات، وقد وصف به عذابه ورزقه وما عنده والاخرة، وورد في آية واحدة وصفاً له سبحانه فقال:( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) ( طه / ٧٣ ).

ومضمون الآية إجابة على ما هدّد به فرعون السحرة وقال:( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ ) ( طه / ٧١ ) والآيتان( أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ ) ( وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) على وتيرة واحدة والضمير في صيغة التفضيل يرجع إلى

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٥ ص ٣٦٢.

(٢) المفردات: ص ٣٠.

(٣) الميزان: ج ٢ ص ١٨٥.

١٣٨

الله سبحانه. إنّما الكلام في تعيين المتعلّق، فربما يقال: إنّه الثواب أي والله خير لنا منك وثوابه أبقى لنا من ثوابك، وربما يقال: إنّ المتعلّق هو العقاب والمراد: والله خير ثواباً للمؤمنين وأبقى عقاباً للعاصين وهذا جواب لقوله: ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذاباً وأبقى ولكن الظاهر أنّ المراد أوسع من ذلك وكأنّه قيل: إنّما آثرنا غفرانه على احسانك، لأنّه خير وأبقى أي خير من كلّ خير وأبقى من كلّ باق ـ لمكان الاطلاق ـ فلا يؤثر عليه شيء، وبذلك يعرف معنى المقابلة بين كلام فرعون والسحرة فإنّه يصف نفسه في الآية الاُولى بالأبقى والسحرة تقابله بأنّه سبحانه أبقى.

الخامس عشر: « الأقرب »

وقد وردت اللفظة في القرآن ١١ مرّة ووردت توصيفاً له سبحانه مرتين قال:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق / ١٦ ) وقال سبحانه:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ) ( الواقعة / ٨٥ ) وفسرت الأقربيّة بالعلم: أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل الوريد ويكون معنى الآية: نحن أعلم به. وتحقيق الكلام في مفاد الآية يتوقف على بيان معنى الأقربيّة الواردة فيها فنقول :

إنّ الأقربيّة ليست أقربيّة مكانيّة كما أنّ قربه سبحانه من العبد ليس منحصراً بالافضال عليه بل لقربة سبحانه من العبد، وأقربيته إليه من حبل الوريد معنى آخر لا يقف عليه إلّا المرتاض في المعارف الإلهية والخارج عن أسر التعطيل وحبال التشبيه.

انّه سبحانه يصرّح بأنّه مع عباده أينما كانوا ويقول:( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / ٤ ).

ويعد نفسه رابع الثلاثة وسادس الخمسة ويقول:( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاثَةٍ إلّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إلّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلا أَكْثَرَ إلّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( المجادلة / ٧ )

١٣٩

كما أنّه يصف نفسه الهاً في السماوات والأرض ويقول:( وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ) ( الأنعام / ٣ ) إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على إحاطة وجوده سبحانه بكلّ شيء وكونه مع كلّ شيء.

ثمّ إنّ المسلمين في مقابل هذه الآيات على طائفتين :

الاُولى: أهل الحديث والحنابلة والمتقشّفون المغترّون بالظواهر التصوّريّة البدئيّة غير المتعمّقين في الآيات والأحاديث، فهؤلاء أخذوا بظاهر قوله سبحانه:( الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) ( طه / ٥ ) ففسّروا الإستواء بالإستقرار لا بالإستيلاء والسلطة، فجعلوه مستقرّا على عرشه وسريره فوق السماوات وأقصى ما عند المتظاهرين بالتنزيه إضافة قولهم: بلا كيف أي لا نعلم كيفية سريره واستقراره، قال الشيخ الأشعري: « نقول: إنّ الله عزّ وجلّ يستوي على عرشه كما قال يليق به من غير طول الاستقرار »(١) .

وهؤلاء ـ الذين حبسوا القاهر المحيط في نقطة خاصّة من العالم ـ تحيّروا أمام هذه الآيات التي دلّت على احاطة وجوده لكلّ شيء وصحيفة الكون، فلجأوا إلى التأويل المبغوض عندهم فقالوا في تفسير الآية في سورة المجادلة: المراد انّه سبحانه هو بعلمه رابعهم، وبعلمه سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم، نعني بعلمه فيهم، كما أوّلوا قوله سبحانه:( وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ) بأنّ المراد هو إله من في السموات، وإله من في الارض وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان(٢) .

إنّ اتّخاذ الرأي المسبق في إحاطته سبحانه على الأشياء وتحديد وجوده بالاستقرار على السرير الموضوع على العرش، لا ينتج سوى هذا أي التلاعب بآيات

__________________

(١) الإبانة للأشعري: ص ١٨ و ٨٥.

(٢) السنّة لابن حنبل: ص ٣٤ و ٣٦ طبع القاهره.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538