مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 236963 / تحميل: 6083
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الإبصار والرؤية، ويوفّر لها إمكانيّة الحياة، فهل يكون قضاء الخفّاش على النور بأنّه شرّ ملاكاً لتقييم هذه الظاهرة ؟

إنّ الحوادث حلقات مترابطة في سلسلة ممتدّة من أوّل الحياة إلى أقصاها، فما يقع الآن يرتبط بما وقع في أعماق الماضي، وبما سيقع في المستقبل في سلسلة من العلل والمعاليل والأسباب والمسبّبات، ومن هنا لا يكون القضاء على ظاهرة من الظواهر بغض النظر عمّا سبقها وما يلحقها، وتقييمها جملة واحدة، قضاء صحيحاً وموضوعيّاً، ولا النظر إليها دون هذا الشكل نظراً صائباً، وإليك بعضالأمثلة :

إذا وقعت عاصفة على السواحل فإنّها تقطع الأشجار وتهدّم الأكواخ وتقلّب الاثاث، ويوصف بالشرّ عند القياس إلى النفس، ولكنّها في الوقت نفسه توجب حركة السفن الشراعيّة المتوقّفة في عرض البحر بسبب سكون الريح، وبهذا تنقذ حياة المئات من ركابها اليائسين من نجاتهم وتوصلهم إلى شواطئ النجاة.

صحيح أنّ العاصفة تهدّم بعض الجدران وتقلع بعض الأشجار ولكنّها تعتبر وسيلة فعّالة في عملية التلقيح بين الأشجار والأزهار، كما يعتبر وسيلة فعّالة لتحريك السحب الحاملة للمطر، وتبدّد الأدخنة المتصاعدة من فوهات المصانع والمعامل، إلى غير ذلك من الآثار الطيّبة لهبوب الرياح التي تتضاءل عندها بعض الآثار السيّئة أو تكاد تنعدم بالمرّة.

وهناك ندرك سرّ قوله سبحانه في الكتاب العزيز عن علم الإنسان وعجزه حيث قال:( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الاسراء / ٨٥ ). وقال:( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ( الروم / ٧ ).

كلّ ذلك يصدّنا من التسرّع في القضاء والحكم على الحوادث بالشرّ لضآلة علمنا بما جرى في السابق وما يجري حالياً وما سيجري في المستقبل، وليست هذه الحادثة منفصلة عن الحوادث في الظروف الثلاثة، فلعلّها بالنسبة إليها تحمل

٢٢١

مصالح كبيرة يحقر عنده ما يصاب الإنسان من الشرّ والبلاء.

إنّ هنا كلمة قيّمة للفيلسوف الإلهي صدر الدين الشيرازي يقول :

« واعلم أنّه قد تحيّرت العقول في كون بعض الحيوانات آكلة لبعض، وفيما جعل الله تعالى ذلك في طباعها وهيّأ لها الآلات والأدوات التي يتمكّن بها على ذلك كالأنياب والمخالب والأظافير الحداد التي بها يقدر على القبض والضبط والخرط والنهش والأكل والشهوة واللذّة والجوع وما شاكل ذلك مع ما يلحق المأكولات منها من الآلام والأوجاع والفزع عند الذبح والقتل، فلمّا تفكّروا في ذلك ولم تسنح لهم العلّة ولا الغاية والحكمة، فاختلفت عند ذلك بهم الآراء وتفنّنت بهم المذاهب، حتى قال بعضهم: إنّ تسلّط الحيوانات بعضها على بعض وأكل بعض لبعض ليس في فعل حكيم بل فعل شرير قليل الرحمة ظلّام للعبيد، فلهذا قالوا: إنّ للعالم فاعلين خيّراً وشريراً.

وإنّما لم يقفوا عليها لأنّ نظرهم كان جزئيّاً، وبحثهم عن علل الأشياء مخصوصاً، ويمتنع أن يعلم أسباب الأشياء الكلّيّة بالأنظار الجزئيّة، لأنّ أفعال البارئ تعالى إنّما الغرض منها هو النفع الكلّي والصلاح على العموم وإن كان يعرض من ذلك ضرر جزئي ومكاره مخصوصة أحياناً، وهكذا خلق الله الشمس والقمر والامطار لأجل النفع والمصلحة العامّة، وإن كان قد يعرض لبعض الناس والحيوان والنبات من ذلك ضرر، ولـمـّا كان الأمر يؤول إلى الصلاح الكلّي كانت تلك الشدائد من جهته صغيرةً جزئيّةً(١) .

وبوجه إجمالي القضاء على بعض الظواهر بأنّه شرٌّ ناشئ من انطلاق الإنسان في قضائه على هذه الظواهر من منطلق نفعيّ أناني، وأمّا إذا نظر إلى تلك الظواهر من زاوية النظام العام فلا يراها إلّا خيرات ضرورية لتعادل النظام ولازمة لاتّساقه واستمرار الحياة وبقائها.

__________________

(١) الاسفار: ج ٧ ص ٩٨ ـ ٩٩.

٢٢٢

وفي ذلك يقول الحكيم السبزواري :

ما ليس موزونا لبعض من نَغَم

ففي نظام الكلّ، كلّ منتظم

٢ ـ الشرّ أمر انتزاعي قياسيّ نسبيّ

ما ذكرنا من الجواب يعمّ كافّة الناس بشرط أن يتنازلوا عمّا يتصوّرون من الاحاطة على أسرار الكون وحقائقه، وهناك جواب آخر يهمّ المحقّقين في العلوم العقلية وحاصل هذا الجواب: إنّ الشر أمر عدمي ليس له واقعيّة في صفحة الكون، بل هو أمر انتزاعي تنتزعه النفس عند مقايسة أمر بأمر، والاشكال إنّما يرد لو كان له واقع خارجي في حدّ ذاته، وأمّا إذا كان كلّ ما في الكون متّسما بسمة الخير وكانت الشرور مخلوقة ذهن الإنسان عند مقايسة ظاهرة بظاهرة ومشاهدة التنافر والتضاد بينهما فلا، إذاً ليس لها واقع خارجي يحتاج إلى الايجاد والخلق، وإنّما هي اُمور وهميّة يخلقها الذهن عند المقايسة ومشاهدة التضاد بين الحادثين، بحيث لولا حديث المقايسة لما كان للشرّ في صفحة الكون واقعيّة وحقيقة، فنقول في توضيح ذلك :

إنّ الصفات على قسمين :

١ ـ ما يكون له واقعيّة كموصوفه مثل قولنا: الإنسان موجوداً أو انّ المتر = ١٠٠ سنتمتر وهذه صفة حقيقيّة لها واقعيّة خارجيّة توجّه إليها الذهن أم لا ؟

٢ ـ ما لا يكون له واقعية مثل موصوفه بل ينتزعه الذهن عند المقايسة كالكبر والصغر، فإنّ الكبر ليس شيئاً ذات واقعيّة خارجيّة، وانّما هي صفة ينتزعها الذهن بالقياس إلى ما هو أصغر منه.

مثلاً الأرض له حجم واقعي ومساحة خاصّة كما أنّ الشمس كذلك، فالحجم والمساحة في كلّ منهما ذات واقعيّة خارجيّة، إلّا أنّ هناك أمراً ثالثاً وهو انّ الأرض أصغر من الشمس والشمس أكبر منه، أو أنّ القمر أصغر من الأرض والأرض أكبر

٢٢٣

من القمر، فليس الكبر والصغر من الاُمور الواقعيّة، بل إنّما هي مفاهيم ذهنيّة تنتزع عند القياس.

ولأجل ذلك تتّصف الأرض تارة بالصغر واُخرى بالكبر، فليس هنا واقعيّة وراء الحجم والمساحة حتى يكون محقّقاً للصغر والكبر.

وفي ضوء هذا تقدر على حلّ الشرور فإنّها اُمور قياسيّة نسبيّة، فسمّ الحيّة والعقرب وغزارة المطر ليست من الشرور بتاتاً إذا لوحظ كلّ واحد بنفسه، بل هي سبب لكمال أصحابها وموجب لبقائها، وإنّما يتّسم بالشر إذا قيس إلى الإنسان ولوحظ المنافرة بينهما.

وعند ذلك فالشرّ ليس ممّا يتعلّق به الخلق والايجاد لأنّ المفروض أنّها اعدام لا موجودات، واتّصافه بالشرّ إنّما هو وليد الذهن وبانتزاعه، فسمّ العقرب والحيّة بما هي هي مخلوق لله سبحانه وتعالى، وأمّا كونه ضارّاً بالنسبه للإنسان فليس شيئاً واقعيّا وراء السمّ حتى يحتاج إلى الخالق، وإنّما ينطلق إليها الذهن عند المقايسة.

إلى هنا خرجنا بجوابين عن الاشكال :

١ ـ إنّ وصف الإنسان لبعض الظواهر بكونها شرّاً لأجل النظر إليها من زاوية ضيّقة، وأمّا إذا لوحظت من زاوية النظام العام فهي موصوفة بالخير.

٢ ـ إنّ بعض الحشرات والضواري والسباع التي يصفها الإنسان بالشرّ لا يكون الموجود منها سوى ذواتها وأجهزتها، وأمّا الاتصاف بالشريّة فليس إلّا أمراً ذهنيّا لا خارجيّاً فلذلك لا يقع في صفحة الخلق.

وإلى ما ذكرنا يشير الحكيم السبزواري :

والشرّ اعدام فكم قد ضلّ من

يقول باليزدان ثم الأهرمن

ما ذكرنا من الجوابين كان تحليلاً فلسفيّاً ولكن هناك تحليلات اُخرى للشرور وهي تحليلها من جانب الآثار التربويّة وحاصلها: إنّ لهذه الحوادث الأليمة و

٢٢٤

المصائب المحزنة آثار تربويّة مهمّة في حياة البشر، ولأجل ذلك وقعت في حيّز الخلق وذلك من باب تقديم الخير الكثير على الشرّ الكثير، وإليك بيان تلك الآثارالتربويّة.

١ ـ المصائب وسيلة لتفجير القابليات (١)

يحطّ الإنسان قدمه على هذه الأرض وهو يحمل في كيانه جملة كبيرة من القابليات والمواهب التي تبقى في مرحلة القوى وفي صورة الطاقات المعطّلة المخزونة، إلّا أن تتوجّه إليها صدمة قويّة تحرك القابليات، وتفجّر المواهب، وتظهر المعادن، وتصقل الجواهر.

وبعبارة واضحة: إذا لم يتعرّض الإنسان للمشاكل في حياته فإنّ قابليّاته ومواهبه المكنونة بين جوانحه ستبقى جامدة هامدة لا تنمو ولا تنفتح، بل تبقى في مرحلة القوّة والذخيرة المهملة، فإذا تعرّض الإنسان للمشاكل والمحن تفتّقت فيه تلك القابليات، ونمت تلك المواهب، وانتقلت الطاقات الكامنة من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعلية، وتفتّح فكره، وتكامل عقله.

ولا يعني هذا أن يعمد الإنسان بنفسه إلى خلق المشاكل، وإثارة الشدائد والمصائب وجرّها إلى نفسه ابتداءً، بل يعني أن يستقبلها الإنسان ـ إذا جاءت ـ برحابة صدر، ويستفيد منها في تفجير قابلياته، وتنمية مواهبه، وإذكاء عقله، وتقوية روحه، لا أن يستسلم أمام عواصفها، أو ينهزم أو ينهار، فلا يحصد إلّا الخسران، ولا يقطف إلّا ثمرة السقوط المرّة.

إنّ البلايا والمصائب والمحن خير وسيلة ـ لو أحسن المرء استغلالها واستخدامها ـ لتفجير الطاقات، بل تقدّم العلوم، ورقيّ الحياة البشريّة.

فهاهم علماء الحضارة يصرّحون بأنّ أكثر الحضارات لم تتفتّق ولم تزدهر إلّا

__________________

(١) لاحظ: الله خالق الكون ص ٢٧٠ ـ ٢٧٧، فقد نقلناه منه.

٢٢٥

في أجواء الحروب والصراعات والمنافسات، حيث كان الناس يلجأون فيها إلى استحداث وسائل الدفاع وفي مواجهة الأعداءِ المهاجمين، أو اصلاح ما خلّفته الحروب من دمار ونقص وتخلّف، أو تهيئة ما يستطيعون به على مقاومة الحصار مثلاً.

فقد كانت ـ في مثل هذه الظروف ـ تتفتّق المواهب وتتحرّك القابليّات لملافاة مافات، وتكميل ما نقص وتهيئة ما يلزم. ومن هنا قالوا: إنّ الحاجة اُمّ الاختراع.

قال العلامة الطباطبائي في هذا الصدد :

« إنّ البحث الدقيق في العوامل المولّدة للسجايا النفسانيّة بحسب الأحوال الطارئة على الإنسان في المجتمعات يهدي إلى ذلك، فإنّ المجتمعات العائلية والأحزاب المنعقدة في سبيل غرض من الأغراض الحيوية دنيويّة أو دينيّة في أوّل تكوّنها ونشأتها تحسّ بالموانع المضادّة والمحن الهادمة لبنيانها من كلّ جانب فتتنبّه قواها الدافعة للجهاد في سبيل هدفها المشروع عندها، ويستيقظ ما نامت من نفسيّاتها للتحذّر من المكاره، والتفدية في طريق مطلوبها بالمال والنفس، ولا تزال تجاهد وتفدي ليلها ونهارها، وتتقوّى وتتقدّم حتى تمهّد لنفسها فيها بعض الاستقلال ويصفو لها الجوّ بعض الصفاء، وتأخذ بالاستفادة من فوائد جهدها »(١) .

ثم إنّنا لا ندّعي بأنّ هذه النتائج والثمار توجد دائماً في جميع الحوادث والكوارث، وإنّما في أغلبها.

فإنّ أغلبيّة هذه المصائب والبلايا تعطي دفعة قويّة لقابليات الأفراد، وتطرد الكسل عن نفوسهم والجمود عن أفكارهم.

أليس الحديد يزداد قوة وصلابة كلّما تعرّض للنار، وأليس السيف يزداد حدة وقاطعية كلّما تعرّض للمبرد.

__________________

(١) الميزان: ج ٩ ص ١٢٤.

٢٢٦

ومن هنا فإنّ الوالدين اللذين يعمدان إلى تربية ولدهما تربية ناعمة مرفّهة بعيدة عن الصعوبات والشدائد، لا يقدّمان إلى المجتمع إلّا إنساناً هزيلاً ضعيف الإرادة فاقد الطموح، أشبه ما يكون بالنبتة الغضّة في مهبّ الريح، بل والتبنة الخفيفة الوزن أمام هبوب العاصفة تأخذها يميناً وشمالاً.

وأمّا الذي ينشأ نشأة خشنة محفوفة بالمشاكل والمصائب، والمصاعب والمتاعب، فإنّه يكون أشبه بالصخرة الصلبة التي تتكسر عليها كلّ السهام، وتتحطّم عندها كلّ العواصف أو كما وصف الامام علي٧ إذ قال :

« ألا إنّ الشجرة البرّية أصلب عوداً والروائع الخضرة أرقّ جلوداً، والنباتات البدوية أقوى وقوداً، وأبطأ خموداً »(١) .

وإلى هذه الحقيقة ذاتها يشير قوله سبحانه :

( فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) ( النساء / ١٩ ).

وقوله تعالى :

( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) ( الشرح / ٥ و ٦ ).

وقوله سبحانه :

( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ *وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب ) ( الشرح / ٧ و ٨ ).

أي تعرّض للنصب والتعب بالاقدام على العمل والسعي والجهد كلّما فرغت من العبادة، وكأنّ النصر والمحنة حليفان لا ينفصلان، واخوان لا يفترقان.

وخلاصة القول: إنّ القدرة على المقاومة والظفر بالنجاح يتوقّف على صلابة الإنسان الحاصلة من المرور بالصعوبات والمشاق، ليزداد قوّة إلى قوّة، وتماسكاً إلى تماسك كما يزداد الحديد صلابة إذا تعرّض لمطرقة الحدّاد، ولكي يخلص عقله وروحه من علائق الكسل والجمود كما يخلص الذهب من الشوائب إذا تعرّض لألسنة اللهب.

__________________

(١) نهج البلاغة ـ الرسالة رقم ٤٥.

٢٢٧

٢ ـ المصائب والبلايا جرس انذار :

إنّ التمتع بالمواهب المادية، والاستغراق في اللذائذ والشهوات يوجب غفلة كبرى عن القيم الأخلاقيّة.

فكلّما ازداد الإنسان تعمّقاً في اللذائذ والنعم، ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنوية، وربّما انتهى به الحال إلى أن ينسى نفسه بالمرّة.

وهذه حقيقة يلمسها كلّ فرد في حياته وحياة غيره، كما يقرأها في صفحات التاريخ.

فلابد ـ حينئذ ـ من وخزة للضمير، وهزّة للعقل لابد من جرس للانذار يذكّر الإنسان بنفسه ويفيقه من غفوته، وينبّهه من غفلته، وليس هناك ما هو أنفع ـ في هذا المجال ـ من بعض الحوادث التي تغيّر رتابة الحياة، وتقطع على الإنسان شروده وغفلته، ولهوه ولذّته، فإذا انقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات، واعترضت لذّته بعض المنغّصات، استيقظ من نومه، وأدرك عجزه، وتخلّى عن غروره، وخفّف من طغيانه.

إنّ الذي يعيش حياة ناعمة رتيبة يشبه إلى كبير من يركب في سيارة يقودها سائق، تسير على طريق مبلّط فيغطّ في نوم عميق، لا يستيقظ منه إلّا إذا كبس السائق على فرامل السيارة فجأة، وتوقّفت دون سابق اخبار، أو مرّ على قطعة غير مبلّطة، فأحدثت رجفة قويّة.

ولهذا تعمد الأجهزة المسؤولة عن الطرق والمواصلات إلى غرس بعض القطع الناتئة على متن الطرق حتى يوجب ذلك تنبيه السائقين بسبب ما تحدثه من هزّات للسيارة كيلا يستسلموا للنوم والنعاس.

ولأجل ذلك يتّضح وجه ربط الطغيان باحساس الغنى والاستغناء في الكتاب العزيز إذ يقول سبحانه :

( إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ *أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ) ( العلق / ٦ و ٧ ).

٢٢٨

كما ولأجل هذا يعلّل القرآن الكريم بعض النوازل والمصائب بأنّها لفائدة الذكرى، فالرجوع إلى الله، والتضرّع إليه.

يقول سبحانه في هذا الصدد :

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) ( الاعراف / ٩٤ ).

ويقول أيضاً :

( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ( الاعراف / ١٣٠ ).

فالآيتان تصرّحان بأنّ المصائب والبلايا سبب لتضرّع الإنسان إلى الله، وتذكّره، فهو إذا نسي الله في غمار الشهوة والماديّة، أيقظته المحنة وذكّرته بالله، إذ بها يدرك أنّه فقير عاجز لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، وإنّ اللذة الدنيوية لذّة عابرة، وشهوة متصرّمة، وإنّه لا ملجأ له ولا معين إلّا الله.

وهكذا تكون البلايا والمصائب سبباً ليقظة الإنسان، وتذكّره، وتنبّهه وتضرّعه إلى الله، فهي بمثابة صفعة الطبيب على وجه المريض المبنّج الّتي لولاها لانقطعت حياة المريض وتعرّضت لخطر الموت.

وهكذا توجب المحن والمصائب التكامل الاخلاقي كما توجب التفتّح العقلي على ما عرفت في النقطة الأُولى، وقد يتّخذ الإنسان من النوازل والمحن وسيلة لتذكّره ويقظته والتخلي عن غروره، وعندئذ تكون البلايا نعماً إلهية في حقّ الإنسان.

وقد لا يتخذ منها أيّ موقف أبداً فتكون في هذه الحالة ـ بالذات ـ مصيبة عليه، وكارثة في حياته.

٢٢٩

٣ ـ البلايا سبب للعودة إلى الحق :

إنّ للكون هدفاً، كما أنّ لخلق الإنسان هدفاً كذلك، وليس الهدف من خلق الإنسان إلّا أن يتكامل في جميع أبعاده، وما بعث الأنبياء وانزال الكتب والشرائع إلّا لتحقيق هذا الهدف العظيم، والغاية السامية.

ولـمّا كانت المعاصي والذنوب من أكبر الأسباب التي توجب بعد الإنسان عن الهدف الذي خلق الإنسان من أجله، وتعرقل مسيرة تكامله، لأنّ الذي يعيش طيلة حياته في الكذب والنفاق وغيرها من المعاصي لا يمكن أن يتوصّل إلى هدف الخلقة بل يبقى كالحيوان غائب الرشد سادر الفكر، كان لابدّ من صدمة تعيده إلى رشده، وتردّه إلى صوابه، وكذلك تفعل البلايا والمصائب فإنّها بقطعها نظام الحياة وايقافها للإنسان العاصي على نتائج أعماله توجب رجوعه إلى الحقّ وعودته إلى العدالة، أو تدفعه إلى أن يعيد النظر في سلوكه ومنهجه في الحياة على الأقل.

إنّ القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة ـ بوضوح لا ابهام فيه ـ إذ يقول :

( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( الروم / ٤١ ).

ويقول سبحانه في آية اُخرى :

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( الأعراف / ٩٦ ).

نقطتان هامّتان :

ويجدر بنا في ختام هذا البحث أن نشير إلى نقطتين هامّتين :

الاُولى: إنّ بقاء الحياة على نمط واحد ووتيرة واحدة يوجب ملل النفس وكلل الروح وتعب العقل، فلا تكون الحياة محبّبة لذيذة إلّا إذا تراوحت بين المرّ والحلو، والجميل والقبيح، والمحبوب والمكروه، إذ لا يمكن معرفة السلامة إلّا عند

٢٣٠

العيب، ولا الصحّة إلّا عند المرض، ولا العافية إلّا عند الاصابة بالحمّى، ولا تدرك لذة الحلاوة إلّا عند تذوّق المرارة.

وبالجملة لولا المرض لما علمت قيمة الصحّة، ولولا الشتاء لما عرفت قيمة الصيف، وهكذا.

ومن هنا نجد البنّائين والمهندسين إذا بنوا داراً تفنّنوا في بناء الجدران والسقوف، فبنوها متموّجة متعرّجة لا مسطّحة خالية من أية تعرجات وتموّجات، لأنّ النفس الميّالة بطبعها إلى التنوّع لا ترتاح إلّا برؤيتها للجدار المتنوّع الأشكال والسطوح.

ولعلّ لهذا السبب كانت الوديان إلى جانب الجبال، والأشواك إلى جانب الورود، والثمار المرة إلى جانب الثمار الحلوة، والماء الاُجاج إلى جانب الماء العذب الفرات، وعبور الأنهر والمياه عبر الجداول المتعرجة الملتوية في بطون السهول والأودية.

إنّ المصائب وإن كانت مرّة غير مستساغة، ولا مأنوسة المذاق، إلّا أنّها تبرز من جانب حلاوة الحياة وقيمة النعم، وأهمّية المواهب.

فجمال الحياة وقيمة الطبيعة ينشآن من هذا التنوّع والانتقال من حال إلى حال، والتبدّل من وضع إلى آخر.

الثانية: إنّ هناك من المحن ما ينسبها الإنسان الجاهل إلى خالق الكون والحال أنّ أكثرها من كسب نفسه ونتيحة منهجه.

فإنّ الأنظمة الطاغوتية هي التي سبّبت تلك المحن وأوجدت تلك الكوارث، ولو كانت هناك أنظمة قائمة على قيم إلهية لما تعرّض البشر لتلك المحن ولما أصابته أكثر تلك النوائب.

فالتقسيم الظالم للثروات ـ مثلاً ـ هو الذي سبّب في تجمّع الثروة عند قلّة قليلة، وانحسارها عن جماعات كثيرة، وتمتّع الطائفة الاُولى بكلّ وسائل الوقاية و

٢٣١

الحماية ضد الأمراض والحوادث، وحرمان غيرهم منها، وهذا هو الذي جعل الطائفة الفقيرة المحرومة من المال والامكانيات أكثر عرضة للكوارث بسبب فقدانهم لوسائل الوقاية من الأمراض، والحماية من النوازل.

ولهذا يكثر الدمار والخراب والخسائر المالية والروحية بسبب الزلازل والسيول في القرى والأرياف، ويقلّ ذلك في المدن التي تتمتع بأعلى مستويات الوقاية والحماية والحصانة.

ولو أنّ الناس سلكوا السبيل الإلهي المرسوم لهم، وراعوا العدالة في تقسيم الثروة والامكانيات لما تضرّر أحد بهذه النوازل والحوادث، ولكان الجميع في أمن من تبعاتها على السواء.

فالأنظمة المجحفة، وخروج الناس عن السبيل الإلهي القويم الذي يكفل توفير وسائل العيش والسلامة للجميع على السواء هو من الأسباب الرئيسية التي توجب تعرّض الناس للمحن والكوارث(١) .

هذا كلّه في الخير المطلق، وأمّا الخير المضاف ( كخير الحاكمين و ) فإليك تفسير ما ورد في الذكر الحكيم في ذلك المجال.

الثامن والثلاثون: « خير الحاكمين »

وقد ورد ذلك اللفظ في الذكر الحكيم في موارد ثلاثة ووقع وصفاً لله سبحانه قال :

( وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( الأعراف / ٨٧ ).

__________________

(١) اقتبسنا ما مرّ من كتاب « الإلهيات » من محاضراتنا الكلامية فراجع الجزء الأوّل ص ٢٧١ ـ ٢٧٧.

٢٣٢

وقال سبحانه:( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس / ١٠٩ ).

وقال سبحانه ناقلاً عن الولد الأكبر ليعقوب بعد ما سجن أخ له من أبيه مخاطباً أخوته:( فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يوسف / ٨٠ ).

وقد تبيّن معنى هذا الاسم بما ذكرناه في « أحكم الحاكمين » والمفاضلة لأجل وجود حكّام غيره سبحانه وهم بين عادل في حكمه وجائر، بين مأذون من الله وغيره والكلّ غير مصون بالذات عن الخطأ والزلّة إلّا من عصمه الله كالأنبياء والأولياء فيكون سبحانه « أحكم الحاكمين » لكونه معصوماً من الخطأ والجهل بالذات.

التاسع والثلاثون « خير الراحمين »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال تعالى:( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / ١٠٩ ).

وقال عزّ شأنه:( وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / ١١٨ ).

ويظهر معناه ممّا سيجيئ في تفسير اسم « الرحيم ».

الأربعون: « خير الرازقين »

وقد ورد في القرآن الكريم في موارد، ووقع وصفاً له سبحانه في جميعها، قال سبحانه حاكياً عن عيسى بن مريم:( اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( المائدة / ١١٤ ).

٢٣٣

وقال تعالى:( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( الحج / ٥٨ )(١) .

وسيوافيك معناه عند البحث عن اسم « الرازق ».

الواحد والأربعون: « خير الغافرين »

وقد ورد في القرآن مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال:( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إلّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / ١٥٥ )

ويجيئ تفسيره عند البحث عن اسم « غافر الذنب ».

الثاني والأربعون: « خير الفاتحين »

وقد ورد في القرآن المجيد مرّة واحدة ووقع وصفاً له.

قال سبحانه:( قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إلّا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) ( الأعراف / ٨٩ ).

وسيظهر معناه عند البحث عن اسم « الفتّاح ».

الثالث والأربعون: « خير الفاصلين »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة.

قال سبحانه:( قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ

__________________

(١) لاحظ: المؤمنون / ٧٢، سبأ / ٣٩، الجمعة / ١١.

٢٣٤

إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام / ٥٧ ).

قال ابن فارس: « الفصل » يدل على تميّز الشيء عن الشيء وابانته عنه، يقال: فصل الشيء فصلاً، والفيصل: الحاكم، والفصيل: ولد الناقة إذا افتصل عن اُمّه، والمفصل: اللسان، لأنّ به تفصل الاُمور وتميّز.

وقال الراغب: ابانة أحد الشيئين عن الآخر حتى يكون بينهما فرجة وسمّي يوم القيامة يوم الفصل، لأنّه يبيّن الحق من الباطل، ويفصل بين الناس بالحكم، وفصل الخطاب ما فيه قطع الحكم.

وعلى ذلك فمعنى قوله سبحانه « خير الفاصلين » أي خير الحاكمين، لأنّه لا يظلم في قضاياه ولا يجور عن الحقّ، وإنّه يقضي بالحق ولا يعدل عنه، والناس يحكمون بالايمان والبيّنات والقرائن والشواهد وهي قد تصيب وقد تخطئ، وهو سبحانه يقضي بعلمه الوسيع الذي لا يشوبه جهل، وبعرفانه الذي لا يخالطه خطأ فهو خير الفاصلين.

وحظ العبد من هذا الاسم هو اتّصافه بالقضاء العدل، والحكم الفصل.

قال سبحانه:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ ) ( ص / ٢٦ ).

وروي عن الصادق٧ أنّه قال: « القضاة أربعة: ثلاثة في النار وواحد في الجنّة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة »(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة: ج ١٨ الباب ٣ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٦.

٢٣٥

الرابع والأربعون: « خير الماكرين »

وقد ورد هذا اللفظ في القرآن مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال تعالى:( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) ( آل عمران / ٥٢ و ٥٤ ).

وقال تعالى:( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) ( الأنفال / ٣٠ ).

وقد اتّفق المفسّرون على أنّ المراد من مكره سبحانه هو المجازاة على مكرهم وقد سمّى المجازاة على المكر مكراً في غير هذا المورد أيضاً.

قال سبحانه:( وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ *اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( البقرة / ١٤ و ١٥ ).

ومن المعلوم امتناع الاستهزاء على أنبيائه سبحانه فضلاً عن الله لأنّها من فعل الجهلة، والله الحكيم وأنبياؤه هم الحكماء، قال سبحانه حاكياً عن بني اسرائيل :

( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) ( البقرة / ٦٧ ).

والله سبحانه وصف نفسه به عند ابطال مكر الناس على رسله وأنبيائه ففي الآية الاُولى يذكر همّ بني اسرائيل بالمسيح حيث أرادوا قتله، فأبطل سبحانه مكرهم برفع عيسى إليه وقتلوا مكانه يهوذا وهو الذي دلّهم على المسيح.

رووا أهل السير والتاريخ أنّ المسيح جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثمّ قال: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة، فخرجوا وتفرقوا، وجاءت اليهود إليه فقال ما تجعلون لي أن أدلّكم عليه، فجعلوا له ثلاثين

٢٣٦

درهماً فأخذهم ودلّهم عليه، فألقى الله عليه شبه عيسى، فخرج إلى أصحابه وظنّوا أنّه عيسى(١) .

وفي الآية الثانية تذكّرهم قصة همّهم بأسر النبي أو قتله أو اخراجه من البلد حتى استقرّ رأيهم على اجتماع أربعين رجلاً من أقويائهم للهجوم على البيت بعد تمام الليل لاجراء أحد الاُمور الثلاثة عليه، والله سبحانه جازاهم بالمثل وأخبر رسوله فترك البيت قبل أن يتواثبوا عليه، فلو مكروا يجازوا بمكر مثله والله خير الماكرين أي المجازين للماكرين، وبذلك يعلم كونه سبحانه أسرع مكراً، قال سبحانه :

( قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) ( يونس / ٢١ ).

فإذا كان المكر منه سبحانه هو الجزاء وابطال أثر مكر العدو، فتوصيفه بالسرعة امّا خاص بموارد معيّنة كابطال مؤامرة الأعداء في قتل الأنبياء، أو في ما بلغ الطغيان أعلى درجاته فيأخذ الطغاة في الدنيا لعذابه، وإمّا عام لجميع موارد العقوبة والتعبير بالسرعة امّا لأنّ ظرف المجازاة قريب منه قال سبحانه:( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا *وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) ( المعارج / ٦ و ٧ ). وامّا لكون عملهم نفس المجازاة التي يجازي بها العصاة يوم القيامة، فعملهم ومكرهم عذاب لهم وهم لا يشعرون بناء على تجسّم الأعمال وتمثّلها.

الخامس والأربعون « خير المنزلين »

وقد ورد « خير المنزلين » في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في مورد واحد.

قال سبحانه حاكياً عن يوسف:( أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ المُنزِلِينَ ) ( يوسف / ٥٩ ).

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٤٤٨.

٢٣٧

وقال سبحانه حاكياً عن نوح عند وقوف سفينته على الجودي:( رَبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ المُنزِلِينَ ) ( المؤمنون / ٢٩ ).

والمنزل في الآية الثانية امّا مصدر ميمي بمعنى الانزال أو اسم مكان بمعنى المنزل، فهو يطلب من الله تعالى أن يتفضّل عليه بانزال مبارك أو منزل مبارك بأن يكون ذات ماء وشجر أو غير ذلك ممّا يمهّد الحياة.

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس: « النزل » يدلّ على هبوط شيء ووقوعه، يقال: نزل عن دابّته نزولاً، ونزل المطر من السماء نزولاً، والنازلة: الشديدة من شدائد الدهر تنزل، والنزل ما يهيّئ للنزيل، وطعام ذو نزل أي ذو فضل، ويعبّرون عن الحجّ بالنزول، ونزل: إذا حج، وقال الراغب: « النزول » في الأصل هو انحطاط من علوٍ يقال نزل عن دابّته ونزل في مكان كذا: حطّ رحله فيه، وأنزله غيره قال: « أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين ».

والظاهر أنّ له معنى واحد وهو الانحطاط من علو، فلو اطلق على المضيف حتى فسّر قوله سبحانه:( وَأَنَا خَيْرُ المُنزِلِينَ ) في سورة يوسف به لأجل أنّ المضيف ينزل الضيف عن دابّته، وهو في جميع الموارد بمعنى واحد، فالله منزل القرآن نفسه إلى قلب رسوله، قال:( اللهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ ) ( الشورى / ١٧ ) ومنزل الحديد.

قال سبحانه:( وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ ) ( الحديد / ٢٥ ) ومنزل « الأنعام » و « الماء » و « اللباس » إلى غير ذلك ممّا تعلّق به الانزال في الذكر الحكيم، ففي الكلّ نوع هبوط من علو، ونوح شيخ الانبياء يطلب من الله سبحانه أن ينزله من السفينة إلى منزل مبارك فإنّه « خير المنزلين »، فليس توصيفه سبحانه به بخصوص هذا الملاك بل هو خير المنزلين على الاطلاق سواء أنزل الإنسان إلى الأرض أو القرآن أو غيره.

٢٣٨

السادس والأربعون: « خير الناصرين »

وقد ورد هذا اللفظ في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه قال:( بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) ( آل عمران / ١٥٠ ).

وسيجيئ تفسيره عند تفسير اسم النصير.

السابع والأربعون: « خير الوارثين »

وقد ورد « خير الوارثين » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً لله سبحانه قال :

( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ *فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) ( الأنبياء / ٨٩ و ٩٠ ).

قال ابن فارس: « الورث » أن يكون الشيء لقوم ثمّ يصير إلى آخرين بنسب أو سبب واطلاقه على الله سبحانه بملاك الانتقال من الإنسان إليه فقط من دون علقة النسب والسبب.

وإنّما وصفه سبحانه ب‍ « خير الوارثين » لأنّه اسم عامّ يطلق عليه وعلى غيره.

قال سبحانه:( وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ) ( البقرة / ٢٣٣ ). وقال سبحانه:( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) ( المؤمنون / ٩ و ١٠ ). وقال:( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص / ٥ ).

غير أنّ وراثته سبحانه أتم وأكمل من وراثتهم، ولأجل ذلك لـمّا طلب زكريا وارثاً وقال:( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا ) الملازم لوجود ولد يرثه ذكَّر بتنزيهه سبحانه لأنه هو الذي يرث كلّ شيء وهو المنزّه عن مشاركة غيره له في كلّ شيء حتى في الوراثة فرفعه عن مساواة غيره وقال:( وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) يعني: أين هذا الوارث الذي

٢٣٩

يرث مالي مدة ثمّ يموت من وراثتك الباقية والثابتة قال:( وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ( آل عمران / ١٨٠ ). وقال:( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ) ( الحجر / ٢٣ ).

الثامن والأربعون: « خير حافظا »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه:( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إلّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / ٦٣ و ٦٤ ).

والحافظ اسم عام توصف به الملائكه تارة قال سبحانه:( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَامًا كَاتِبِينَ ) ( الانفطار / ١٠ و ١١ ).

والناس اُخرى. قال سبحانه:( مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( يوسف / ٦٣ ).

قال ابن فارس: والحفظ له معنى واحد يدل على مراعاة الشيء، والتحفّظ: قلّة الغفلة، والحفاظ: المحافظة على الاُمور.

وأمّا الذكر الحكيم فقد استعمله تارة في مورد رعاية حدود الله وقال:( وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ ) ( التوبة / ١١٢ ). واُخرى في تسجيل الشيء وضبطه كما في قوله سبحانه:( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَامًا كَاتِبِينَ ) . وثالثة في صيانته عن الافراط والتفريط قال سبحانه:( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) ( المؤمنون / ٥ ) ورابعة في دفع الكيد والشر والبلاء ووقايته من كلّ سوء وهذا هو المراد من قول اخوة يوسف( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) كما هو المراد في قوله:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر / ٩ ). أي نصونه من التحريف والتبدّل والزيادة والنقص والفقدان، والموارد ترجع إلى أصل واحد.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

الثالث : لو كان الحسن والقبح شرعيّين لما حكم بهما من ينكر الشرائع ، والتالي باطل ؛ فإنّ البراهمة(٢) بأسرهم ينكرون الشرائع والأديان كلّها ، ويحكمون بالحسن والقبح ، مستندين إلى ضرورة العقل في ذلك(٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٣.

(٢) البراهمة أو البرهمانية : نسبة إلى برهمان أو برهام ، وهو اسم مؤسّس هذه الطريقة ، وقيل : هم قبيلة بالهند فيهم أشراف أهل الهند ، ويقولون : إنّهم من ولد برهمي ملك من ملوكهم ؛ ولهم علامة ينفردون بها ، وهي خيوط ملوّنة بحمرة وصفرة يتقلّدونها تقلّد السيوف ، وقيل : إنّهم قائلون بالتوحيد! ومن أصول هذه الطائفة ـ كذلك ـ نفي النبوّات أصلا وقرّروا استحالتها في العقول ، وقد تفرّقوا أصنافا ، فمنهم : أصحاب البددة ، وهم البوذيّون ؛ وأصحاب الفكر والوهم ، وهم العلماء منهم بالفلك والنجوم وأحكامها المنسوبة إليهم ؛ وأصحاب التناسخ.

انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ١ / ٨٦ ، الملل والنحل ٣ / ٧٠٦ ـ ٧١٦.

(٣) الإرشاد ـ للجويني ـ : ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٧١ ، شرح المواقف ٨ / ١٩٢.

٤٢١

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّ البراهمة المنكرين للشرائع يحكمون بالحسن والقبح للأشياء لصفة الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة ، لا تعلّق الثواب والعقاب.

وكيف يحكمون بالثواب والعقاب وهم لا يعرفونهما؟!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٦٨.

٤٢٢

وأقول :

البراهمة يحكمون بحسن الأفعال وقبحها بما هي أفعال ، كما هو محلّ الكلام على الصحيح

وما اختلقه بعض الأشاعرة من تعدّد المعاني والتفصيل فيها فإنّما قصدوا به الفرار لكن في غير الطريق المستقيم ، أو تسليم للحقّ لكن بوجه المعارضة.

* * *

٤٢٣

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

الرابع : الضرورة قاضية بقبح العبث ، كمن يستأجر أجيرا ليرمي من ماء الفرات في دجلة ، ويبيع متاعا ـ أعطي في بلده عشرة دراهم ـ في بلد يحمله إليه بمشقّة عظيمة ، ويعلم أنّ سعره كسعر بلده بعشرة دراهم أيضا.

وقبح تكليف ما لا يطاق كتكليف الزمن الطيران إلى السماء ، وتعذيبه دائما على ترك هذا الفعل.

وقبح ذمّ العالم الزاهد على علمه وزهده ، وحسن مدحه ، وقبح مدح الجاهل الفاسق على جهله وفسقه ، وحسن ذمّه عليهما.

ومن كابر في ذلك فقد أنكر أجلى الضروريات ؛ لأنّ هذا الحكم حاصل للأطفال ، والضروريات قد لا تحصل لهم.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٣.

٤٢٤

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّ قبح العبث لكونه مشتملا على المفسدة ، لا لكونه موجبا لتعلّق الذمّ والعقاب ، وهذا ظاهر.

وقبح مذمّة العاقل ، وحسن مدحة الزاهد ؛ للاشتمال على صفة الكمال والنقص.

فكلّ ما يذكر هذا الرجل من الدلائل هو إقامة الدليل على غير محلّ النزاع ، فإنّ الأشاعرة معترفون بأنّ كلّ ما ذكره من الحسن والقبح عقليّان ، والنزاع في غير هذين المعنيين.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧٠.

٤٢٥

وأقول :

ليت شعري أكان محلّ الكلام في حسن الأفعال وقبحها عقلا مشروطا بأن لا تكون فيها مصلحة ومفسدة حتّى يقول : إنّ قبح العبث لكونه مشتملا على مفسدة؟!

ومنشأ اشتباهه أنّه رأى أصحابه يعبّرون عن ملاءمة الغرض ومنافرته بالمصلحة والمفسدة(١) ، فتخيّل ذلك ولم يعلم أنّهم إنّما جعلوا الحسن والقبح ـ اللذين بمعنى الملاءمة والمنافرة ، والمصلحة والمفسدة ـ خارجين عن محلّ النزاع ؛ لا أنّه يشترط في محلّ النزاع عدم المصلحة والمفسدة في الفعل واقعا.

على إنّ قبح العبث ضروري وإن لم يشتمل على مفسدة ، بل لو اشتمل عليها لم يثبت القبح عندهم بمعنى المنافرة للغرض ، إذ لا غرض للعابث ، فيلزم أن لا يقبح العبث عندهم وقد أقرّوا بقبحه!

وأمّا قوله : « وقبح مذمّة العالم ، وحسن مدحة الزاهد »

ففيه : تسليم للحقّ باسم المعارضة ، والوفاق بصورة الخلاف ، فما ضرّهم لو أنصفوا؟!

واعلم أنّ الخصم لم يجب عن قبح تكليف ما لا يطاق عجزا عن الجواب ؛ لأنّ التكليف المذكور ليس عندهم صفة نقص ولا مفسدة ، وإلّا لما أجازوه على الله تعالى.

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٨٢.

٤٢٦

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

الخامس : لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير لما قبح من الله تعالى شيء.

ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة(٢) .

فإنّ أيّ نبيّ أظهر المعجزة عقيب ادّعاء النبوّة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوّة.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٤.

(٢) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٣١٨ و ٣٢١ ، ومؤدّاه في : المحيط بالتكليف : ٢٣٥.

٤٢٧

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّه لم يقبح من الله شيء.

قوله : « لو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على يد الكاذبين ».

قلنا : عدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ليس لكونه مقبحا عقلا ، بل لعدم جريان عادة الله تعالى ، الجاري مجرى المحال العادي بذلك.

قوله : « تجويز هذا يسدّ باب معرفة النبوّة ».

قلنا : لا يلزم هذا ؛ لأنّ العلم العادي حاكم باستحالة هذا الإظهار ، فلا ينسدّ ذلك الباب.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧١.

٤٢٨

وأقول :

كيف تصحّ دعوى العادة؟! والحال أنّه لا اطّلاع له على كلّ من ادّعى النبوّة!

ولو فرض الاطّلاع فمن المحتمل كذب كلّ من جاء بمعجزة ، فلا تثبت نبوّة صادقة فضلا عن جريان العادة بها.

على إنّه كيف يقطع بعدم تخلّف العادة في مقام تخلّف العادة بإظهار المعجزة؟!

* * *

٤٢٩

قال المصنّف ١(١) :

السادس : لو كان الحسن والقبح شرعيّين ، لحسن من الله تعالى أن يأمر بالكفر ، وتكذيب الأنبياء ، وتعظيم الأصنام ، والمواظبة على الزنا والسرقة ، والنهي عن العبادة والصدق ؛ لأنّها غير قبيحة في أنفسها ، فإذا أمر الله بها صارت حسنة ؛ إذ لا فرق بينها وبين الأمر بالطاعة ، فإنّ شكر المنعم ، وردّ الوديعة ، والصدق ، ليست حسنة في أنفسها ، ولو نهى الله عنها كانت قبيحة(٢) .

لكن لمّا اتّفق أنّه تعالى أمر بهذه مجانا لغير غرض ولا حكمة ، صارت حسنة ، واتّفق أنّه نهى عن تلك فصارت قبيحة ، وقبل الأمر والنهي لا فرق بينها.

ومن أدّاه عقله إلى تقليد من يعتقد ذلك فهو أجهل الجهّال ، وأحمق الحمقاء ، إذا علم أنّ معتقد رئيسه ذلك!

ومن لم يعلم ووقف عليه ثمّ استمرّ على تقليده فكذلك!

فلهذا وجب علينا كشف معتقدهم لئلّا يضلّ غيرهم وتستوعب البلية جميع الناس.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٤.

(٢) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٣١٨ ـ ٣٢٠.

٤٣٠

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّه لا يلزم من كون الحسن والقبح شرعيّين ، بمعنى أنّ الشرع حاكم بالحسن ، والقبح أن يحسن من الله الأمر بالكفر والمعاصي ؛ لأنّ المراد بهذا الحسن : إن كان استحسان هذه الأشياء ، فعدم هذه الملازمة ظاهر ؛ لأنّ من الأشياء ما يكون مخالفا للمصلحة لا يستحسنه الحكيم ، وقد ذكرنا أنّ المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها.

وإن كان المراد بهذا الحسن عدم الامتناع عليه ، فقد ذكرنا أنّه لا يمتنع عليه شيء عقلا ، لكن جرى عادة الله على الأمر بما اشتمل على مصلحة من الأفعال ، والنهي عمّا اشتمل على مفسدة من الأفعال.

فالعلم العادي حاكم بأنّ الله تعالى لم يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء قطّ ، ولم ينه عن شكر المنعم وردّ الوديعة ، فحصل الفرق بين هذا الأمر والنهي بجريان عادة الله الذي يجري مجرى المحال العادي ، فلا يلزم شيء ممّا ذكر هذا الرجل ، فقد زعم أنّه فلق الشعر في تدقيق هذا السؤال الظاهر دفعه عند أهل الحقّ ، حتّى رتّب عليه التشنيع والتفظيع ، فيا له من رجل ما أجهله!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧٢.

٤٣١

وأقول :

قد سبق أنّ القبيح عندهم ما نهي عنه شرعا ، والحسن ما لم ينه عنه كما في « المواقف »(١) .

وحينئذ فالأفعال كلّها ليست حسنة أو قبيحة بالنظر إلى ذواتها وقبل تعلّق التكاليف بها ، وإنّما تكون حسنة أو قبيحة بعد تعلّقها بها.

فلو تعلّق أمره تعالى مثلا بالكفر وتكذيب الأنبياء وتعظيم الشياطين كانت حسنة وكان أمره أيضا حسنا ؛ لأنّ أمره من فعله ، وفعله حسن ؛ لأنّه لم ينه عنه فيشمله تعريف الحسن المذكور ، كما صرّح به في « شرح المواقف »(٢) وذكرناه سابقا(٣)

وحينئذ يتمّ ما ذكره المصنّف ١ بقوله : « لو كان الحسن والقبح شرعيّين لحسن من الله تعالى أن يأمر بالكفر » فإنّ الكفر ـ مثلا ـ ليس قبيحا قبل التكليف ، فيصحّ تعلّق الأمر به ، وإذا تعلّق به صار حسنا كما يحسن الأمر به.

وبذلك يعلم أنّه لا محلّ لتفسير الخصم للحسن والقبح الشرعيّين بأنّ الشرع حاكم بهما ، ولا لترديده في مراد المصنّف ; بالحسن بين أمرين لا دخل لهما بمقصود المصنّف ولا بمصطلح الأشاعرة.

على إنّه لو أراد المصنّف الشقّ الأوّل فهو لازم لهم على مذهبهم ؛

__________________

(١) المواقف : ٣٢٣.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٨٢.

(٣) انظر الصفحتين ٤١٣ ـ ٤١٤ من هذا الجزء.

٤٣٢

لأنّ الأمور التي ذكرها المصنّف ، من الكفر وتكذيب الأنبياء وأشباههما مخلوقة لله تعالى عندهم ومن أفعاله ، فلو كانت مخالفة للمصلحة ولا يستحسنها الحكيم لما فعلها.

ودعوى أنّ فعله لها إنّما يدلّ على استحسانه لها من حيث فاعليّته لها ، لا من حيث كسب العبد إيّاها ومحلّيّته لها ، غير ضارّة في المطلوب لو سلّمت ، إذ لا يهمّنا إلّا إثبات ما أنكره الخصم من استحسانها على مذهبهم من أيّ حيثية كانت.

وقوله : « قد ذكرنا أنّ المصلحة والمفسدة حاصلتان للأفعال بحسب ذواتها »

خطأ ظاهر ؛ لأنّ الذي ذكره هو حصول المصلحة والمفسدة بمعنى الملاءمة والمنافرة لا الذاتيّين(١) .

وأمّا ما ذكره في الشقّ الثاني بقوله : « وإن كان المراد عدم الامتناع عليه ، فقد ذكرنا أنّه لا يمتنع عليه شيء عقلا ».

ففيه : إنّه بعد ما بيّن في الشقّ الأوّل أنّ الحكيم لا يستحسن ما يكون مخالفا للمصلحة ، كيف لا يمتنع عليه الأمر به؟! فإنّ الحكيم لا يجوز عليه أن يأمر بما يكون مخالفا للمصلحة ولا يستحسنه.

ثمّ ما ذكره من جريان العادة غير مفيد له ، فإنّه لو سلّم العلم بالعادة مع عدم الاطّلاع على أديان جميع الأنبياء ، فالإشكال إنّما هو من جهة جواز أمره تعالى بالكفر ونحوه وحسنه ، لا من جهة الوقوع حتّى يجيب بعدم جريان العادة.

__________________

(١) انظر الصفحة ٤١١ من هذا الجزء.

٤٣٣

وبالضرورة : إنّ تجويز مثله على الحكيم إخراج له عن الحكمة ، وهو كفر!

فظهر أنّ المصنّف قد فلق الشعر بتدقيقه ، فجزاه الله تعالى عن الدين وأهله أفضل جزاء المحسنين ، وجعلنا من أعوانه على الحقّ ، إنّه أكرم المسؤولين.

* * *

٤٣٤

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ(١) :

السابع : لو كان الحسن والقبح شرعيّين ، لزم توقّف وجوب الواجبات على مجيء الشرع ، ولو كان كذلك لزم إفحام الأنبياء ؛ لأنّ النبيّ إذا ادّعى الرسالة وأظهر المعجزة كان للمدعوّ أن يقول : إنّما يجب عليّ النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنّك صادق ، فأنا لا أنظر حتّى أعرف صدقك ، ولا أعرف صدقك إلّا بالنظر ، وقبله لا يجب عليّ امتثال الأمر ؛ فينقطع النبيّ ولا يبقى له جواب!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٤.

٤٣٥

وقال الفضل(١) :

جواب هذا قد مرّ في بحث النظر(٢)

وحاصله : إنّه لا يلزم الإفحام ؛ لأنّ المدعوّ ليس له أن يقول : إنّما يجب عليّ النظر في معجزتك بعد أن أعرف أنّك صادق ؛ بل النظر واجب عليه بحسب نفس الأمر.

ووجوب النظر لا يتوقّف على معرفته له ؛ للزوم الدور كما سبق ، فلا يلزم الإفحام.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧٥.

(٢) انظر الصفحة ١٤٥ من هذا الجزء.

٤٣٦

وأقول :

قد سبق أنّ ارتفاع الإفحام إنّما يكون بعلم المدعوّ بالوجوب لا بمجرّد ثبوته واقعا ، كما ذكرناه موضّحا فراجع(١) .

* * *

__________________

(١) انظر الصفحتين ١٤٩ ـ ١٥٠ من هذا الجزء.

٤٣٧

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

الثامن : لو كان الحسن والقبح شرعيّين لم تجب المعرفة ؛ لتوقّف معرفة الإيجاب على معرفة الموجب ، المتوقّفة على معرفة الإيجاب ، فيدور

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٤.

٤٣٨

وقال الفضل(١) :

جواب هذا أيضا قد مرّ في ما سبق(٢) ، وأنّ توقّف وجوب المعرفة على الإيجاب ممنوع.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧٦.

(٢) انظر الصفحة ١٤٣ من هذا الجزء.

٤٣٩

وأقول :

قد مرّ فساد جوابه بما لا يخفى على ذي معرفة ، فراجع(١) .

* * *

__________________

(١) انظر الصفحة ١٤٨ ـ ١٥٠ من هذا الجزء.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538