مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237914 / تحميل: 6124
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

غير أنّ كون الاخوة حافظين غير كونه سبحانه حافظاً، ولأجل دفع وصمة الشركة قال يعقوب في جواب قول ابنائه:( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) قال:( فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فلولا عناية الواجب بالممكن واستمداده منه لما يكون لحفظهم وزن ولا قيمة ولا حول ولا قوّة.

٢٤١
٢٤٢

حرف الذال

التاسع والأربعون: « ذو انتقام »

وقد جاء « ذو انتقام » في الذكر الحكيم أربع مرّات ووقع الكلّ وصفاً له سبحانه قال:( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ( المائدة / ٩٥ )، وقال سبحانه:( لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ( آل عمران / ٤ ). وقال سبحانه:( فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ( ابراهيم / ٤٧ ). وقال سبحانه:( وَمَن يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ) ( الزمر / ٣٧ ).

وأمّا معناه فقد ذكر له أصل واحد وهو انكار الشيء وعيبه ويقال: نقمت عليه انقم، أنكرت عليه فعله، والنقمة من العذاب والانتقام كأنّه أنكر عليه فعاقب(١) .

وقال الراغب: نقمت الشيء إذا أنكرته أمّا باللسان وأمّا بالعقوبة وقد استعمل في معنى الانكار في عدّة من الآيات، قال سبحانه:( وَمَا نَقَمُوا إلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) ( التوبه / ٧٤ ).

وقال سبحانه:( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ) ( البروج / ٨ ).

وقال سبحانه:( وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إلّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا ) ( الأعراف / ١٢٦ ).

__________________

(١) مقاييس اللغة: ج ٥ ص ٤٦٤.

٢٤٣

وقال سبحانه:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إلّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ ) ( المائدة / ٥٩ ). فإذا كان هو الأصل فكيف استعمل في معنى آخر وهو أخذ الثأر من الخصم والمعاقبة بالمثل ؟ فقد استظهره صاحب المقاييس بقوله: كأنّه أنكر عليه فعاقبه، يريد أنّ المعاقبة لـمّا كانت مسببة عن الانكار فاطلق اسم السبب على المسبب.

ثمّ إنّ الانتقام يستعمل في مورد التشفّي فيما أنّ اساءة المسيئ تدخل ضرراً في الجانب الاخر فيتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي تورث التشفّي لقلبه، ولكن ذلك من لوازم المعنى في مورد الإنسان وليس جزء لمعناه، فالانتقام هو مجازاة المسيئ على إساءته فلاموجب لتجريده عن التشفّي عند ما يطلق على الله سبحانه، وعلى فرض كونه جزء لمعناه فبما أنّه سبحانه أعزّ من أن ينتفع أو يتضرّر بشيء من أعمال عباده، فيطلق عليه مجرداً عنه كما هو سائر الأسماء التي تلازم شيئاً لايصح توصيفه سبحانه به، كيف وما يصدر منه من المجازاة هو الوعد الحق وقدوعد عباده بأنّه يجزيهم إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرٌ، قال سبحانه:( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى ) ( النجم / ٣١ ).

وممّا يؤيّد ذلك بأنّه سبحانه ضم إليه أنّه العزيز فقال:( عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) وهو يشير إلى أنّه منيع الجانب من أن تنتهك محارمه أو يصيب به ضرر.

قال الرازي: ولا يسمّى التعذيب بالانتقام إلّا بشرائط ثلاثة :

الأوّل: أن تبلغ الكراهة(١) إلى حد السخط الشديد.

الثاني: أن تحصل تلك العقوبة بعد مدّة.

الثالث: أن يقتضي ذلك التعذيب نوعاً من التشفّي، وهذا القيد لا يحصل إلّا في حقّ الخلق، وأمّا في حقّ الخالق فهو محال.

ويدل على القيد الأوّل قوله سبحانه في حقّ فرعون:( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا

__________________

(١) وفي النسخة « الكرامة » وهو تصحيف.

٢٤٤

مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) ( الزخرف / ٥٥ ). فرتّب الانتقام على الاسف معرباً عن وجود صلة بينه وبين الانتقام.

ويدل على القيد الثاني قوله سبحانه:( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ) ( المائدة / ٩٥ ). حيث سمّى الله تعالى تكرار إيجاب الكفّارة ( إذا عاد المحرم إلى الصيد ثانياً )، انتقاماً.

وعلى كلّ تقدير فالانتقام في مقابل المعاجلة بالعقوبة، والأوّل أشدّ من الثاني لأنّ المذنب إذا عوجل بالعقوبة لم يتمكن في المعصية فلم يستوجب غاية النكال بخلاف ما إذا أمهل فيتمكن في التجرّي والتمرّد فيستحقّ الأخذ بالعقاب الأشد.

وأمّا حظ العبد من هذا الوصف فله أن يقع مظهراً لهذا الاسم عند الانتقام من الأعداء فأعدى عدوّه هي النفس التي بين جنبيه، وأمّا العدوّ الخارجي فيتبع قوله سبحانه:( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) ( الفتح / ٢٩ ).

وللعلّامة الطباطبائي (ره) كلام حول نسبة الانتقام إليه تعالى قال: « الانتقام هو العقوبة لكن لا كل عقوبة بل عقوبة خاصّة وهي أن تذيق غيرك من الشرّ ما يعادل ما أذاقك منه أو تزيد عليه.

قال تعالى:( فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ ) ( البقرة / ١٩٤ ). وهو أصل حيوي معمول به، وربّما يشاهد من بعض الحيوانات أيضاً أعمال تشبه أن تكون منها. وعلى أي حال كان يختلف الغرض الذي يبعث الإنسان إليه، فالداعي إليه في الانتقام الفردي هو التشفّي غالباً، فإذا سلب الواحد من الإنسان غيره شيئاً من الخير، أو أذاقه شيئاً من الشر، وجد الإنسان في نفسه من الأسى والأسف ما لا تخمد ناره، إلّا بأن يذيقه من الشر ما يعادل ما ذاق منه أو يزيد عليه، فالعامل الذي يدعو إليه هو الإحساس الباطني، وأمّا العقل فربّما أجازه وربّما استنكف.

وأمّا الانتقام الاجتماعي ونعني به القصاصات وأنواع المؤاخذات التي نعثر

٢٤٥

عليها في السنن والقوانين الرائجة في المجتمعات، فالغرض الداعي إليه هو حفظ النظام عن الهرج والمرج وهذا النوع من الانتقام يعدّ حقّا من حقوق المجتمع، وإن كان ربّما استصحب حقاً فردياً، كمن ظلم غيره بما فيه مؤاخذة قانونية.

وما ينسب إليه تعالى في الكتاب والسنّة من الانتقام هو ما كان حقاً من حقوق الدين الالهي والشريعة السماوية، وإن شئت قلت من حقوق المجتمع الاسلامي وإن كان ربّما استصحب الحق الفردي في ما إذا انتصف سبحانه للمظلوم من ظالمه فهو الولي الحميد.

وأمّا الانتقام الفردي لغاية التشفّي فساحته أعزّ من أن يتضرّر باجرام المجرمين ومعصية المسيئين أو ينتفع بطاعة المحسنين.

وبذلك يظهر سقوط ما ربّما يقال: إذا كان الانتقام لغاية التشفّي فلا وجه لنسبة الانتقام إليه « وجه السقوط »، إنّ الساقط هو الانتقام الفردي لا الاجتماعي(١) .

يلاحظ عليه: إنّ ما ذكره يصحّ في مورد القصاص والحدود والكفّارات التي يحكم بها على المجرم في الدنيا لغاية حفظ النظام عن الاختلال، ولولاها اختلّ الأمن العام، وأمّا العقوبات الاُخروية فلا يمكن تفسيرها من تلك الجهة إذ لا مجتمع فيها حتى يكون له حقّ كما أنّه ليست هناك مظنّة كون الاُمور فوضى حتّى تستتبع ذلك فالاُولى ما ذكرنا من أنّ نسبة هذه الصفات إلى الله سبحانه من باب المشابهة والمشاكلة، ولا يتّصف به المولى سبحانه إلّا بتجريده عن الملابسات الماديّة.

وأمّا القول بأنّ رحمته الواسعة تأبى عن تعذيب المجرم بعذاب خالد غير متناه فقد اجبنا عنه عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم.

__________________

(١) الميزان: ج ١٢ ص ٨٧ ـ ٨٨.

٢٤٦

الخمسون: « ذو الجلال والإكرام »

وقد جاء هذا الاسم في القرآن الكريم مرّتين قال:( وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ( الرحمن / ٢٧ ).

وقال سبحانه:( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ( الرحمن / ٧٨ ).

هذا، وأمّا معنى الجلال فهو من جلّ الشيء إذا عظم وجلال الله عظمته، والجلل: الأمر العظيم(١) ، وأمّا الاكرام فقد مرّ تحقيق معناه عند البحث عن اسمه « الاكرام » فلاحظ، وقد قلنا إنّ معناه هو الشرف في الشيء لا في خلق من الأخلاق.

وعلى ضوء ذلك فقوله: « ذو الجلال » يناسب الصفات السلبيّة لأنّه سبحانه أجلّ وأعظم من أن يكون جسماً أو جسمانيّاً أو حالاًّ في محلّ، كما أنّ قوله ذي الاكرام يناسب الصفات الثبوتيّة لأنّ العلم والقدرة والحياة شرف للموجود بما هو هو.

نعم هنا نكتة لابد من بيانها وهو أنّ اسم الاشارة في الآية الاُولى جاء مرفوعاً وفي الآية الثانية جاء مجروراً، فهي في الآية الاُولى وصف لقوله « وجه ربك » وفي الآية الثانية وصف لنفس الرب، وهذا يعرب عن أنّ الوجه في الآية الاُولى بمعنى الذات لا الوجه بمعنى العضو المعروف، وإلّا فلو كان المراد من الوجه هو العضو فلا معنى لتوصيفه بصاحب الجلال والإكرام لأنّه من صفات ذاته سبحانه لا من صفات وجهه، ولأجل ذلك جيئ به مجرورًا في الآية الثانية لأنّه هناك وصف للرب لا للاسم، وباختصار إنّ الآية الثانية ترفع الإبهام عن الآية الاُولى ويثبت أنّ الوجه فيها بمعنى الذات.

__________________

(١) مقاييس اللغة: ج ١ ص ٤١٧.

٢٤٧

الواحد والخمسون: « ذو الرحمة »

وقد ورد في الذكر الحكيم اسماً له سبحانه مرّتين وقال:( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) ( الكهف / ٥٨ ).

وقال:( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ) ( الأنعام / ١٣٣ ). وقال سبحانه:( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) ( الأنعام / ١٤٧ ). وقد مضى معنى الرحمة عند البحث عن اسمه « أرحم الراحمين ».

الثاني والخمسون: « ذو الطول »

لقد جاء الطول ـ بضم الفاء وفتحها ـ في الذكر الحكيم ثلاث مرّات ووقع وصفاً لله سبحانه باضافة « ذي » إليه، قال سبحانه:( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( غافر / ٣ ).

وقال سبحانه:( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ) ( التوبة / ٨٦ ).

وقال سبحانه:( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ) ( النساء / ٢٥ ).

« الطول » ـ بضم الفاء ـ ضد القصر يستعمل في الأعيان والأعراض والزمان قال سبحانه :

( فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) ( الحديد / ١٦ ).

وقال سبحانه:( إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً ) ( المزمّل / ٧ ).

وأمّا « الطول » ـ بفتح الفاء ـ: فقد فسّر بالفضل والمنّ، قال ابن فارس :

٢٤٨

الطول له أصل صحيح يدل على فضل وامتداد في الشيء(١) وهو بصدد ارجاع المعنيين إلى معنى واحد مع أنّ الجامع بينهما بعيد.

قال الراغب: والطول خص به الفضل والمنّ قال: « شديد العقاب ذي الطول »، وقال الطبرسي في تفسير ذي الطول: « أي ذي النعم، وقيل: ذي الغنى والسعة، وقيل: ذي التفضّل على المؤمنين، وقيل: ذي القدرة والسعة »، ثمّ هو ذكر في شرح لغات الآية: « إنّ المراد من الطول: الأنعام التي تطول مدّته على صاحبه كما أنّ التفضل النفع الذي فيه افضال على صاحبه »(٢) ، والكلّ محتمل.

ولكن الظاهر أنّ المراد من الطول: الفضل والأنعام بشهادة قوله:( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ ) فبما أنّ لعدم الاستطاعة أسباباً وعللاً أتى بكلمة طولاً تمييزاً لعدم الاستطاعة معلناً بأنّ المراد عدم الاستطاعة من حيث القدرة المالية التي تصرف في المهر والنفقة ومثله قوله سبحانه:( اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ ) أي أصحاب الثروة والمكنة، فالاية مشتملة على أسماء أربعة :

١ ـ غافر الذنب. ٢ ـ قابل التوب. ٣ ـ شديد العقاب. ٤ ـ ذو الطول.

وسيوافيك توضيح كلّ واحد في محله.

الثالث والخمسون: « ذو العرش »

وقد جاء لفظ « العرش » في الذكر الحكيم ٢٢ مرّة وورد اسماً له سبحانه في مورد واحد بإضافة لفظ « ذي » قال:( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ *ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ ) ( البروج / ١٤ و ١٥ ).

وسيوافيك تفسيره عند البحث عن « الصفات الخبرية » لله عزّ وجلّ(٣) .

__________________

(١) مقاييس اللغة: ج ٣ ص ٦٣٣.

(٢) مجمع البيان: ج ٤ ص ٥١٣.

(٣) عند تفسير قوله سبحانه:( رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) .

٢٤٩

الرابع والخمسون: « ذو عقاب »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له كما في قوله سبحانه:( إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) ( فصّلت / ٤٣ ).

قال ابن فارس: العقب له أصلان أحدهما يدل على تأخير شيء وإتيانه بعد غيره، والأصل الآخر يدلّ على ارتفاع وشدّة وصعوبة وإنّما سمّيت العقوبة عقوبة لأنّها تكون آخراً وثاني الذنب.

وقال الراغب: العقب مؤخّر الرجل واستعير العقب للولد وولد الولد، والعقوبة المعاقبة والعقاب يختص بالعذاب، قال:( فَحَقَّ عِقَابِ ) ،( شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ،( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) .

أقول: وإنّما سمّي العقاب عقاباً لأنّه يتأخّر عن الجرم وهو يستلزمه.

الخامس والخمسون: « ذو الفضل »

وقد ورد « ذو الفضل » معرّفاً ومنكراً في الذكر الحكيم ١١ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال:( إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) ( البقرة / ٢٤٣ ).

وقال سبحانه:( وَلَٰكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( البقرة / ٢٥١ ).

وقال سبحانه:( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ( آل عمران / ٧٤ ).

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٥٢ ).

٢٥٠

وقال سبحانه:( وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ( الأنفال / ٢٩ )(١) .

ترى أنّه سبحانه يعرّف نفسه بكونه ذا الفضل العظيم على المؤمنين وفي الوقت نفسه على الناس أجمعين بل على العالمين كلّهم.

قال ابن فارس: الفضل له أصل صحيح يدلّ على زيادة في شيء من ذلك الفضل الزيادة والخير، والإفضال: الاحسان.

قال الراغب: كلّ عطيّة لا تلزم من يعطي يقال لها فضل نحو قوله:( وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ ) ـ( ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ ) ـ( ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .

وعلى ذلك فالعطايا والمواهب السنيّة وكلّ ما يسمّى كرماً فهو فضل، فالله سبحانه يتفضّل ـ وراء ما أسماه أجراً ـ بعظائم الفضل.

وأمّا حظّ العبد من هذا الوصف فيمكن أن يقع مظهراً لهذا الاسم في عطاياه النافلة بأن يقوم بعون المستنجد بنحل فضل ما له وإن لم يكن واجباً كما إذا أدّى الفرائض الماليّة.

السادس والخمسون: « ذو القوّة »

وقد ورد في الذكر الحكيم في مورد واحد قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / ٥٨ ). ويظهر معناه عند البحث عن اسمه سبحانه: « القوي ».

__________________

(١) راجع سورة يونس / ٦٠، النمل / ٧٣، غافر / ٦١.

٢٥١

السابع والخمسون: « ذو المعارج »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع اسماً له.

قال سبحانه:( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ *لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ *مِّنَ اللهِ ذِي المَعَارِجِ *تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج / ١ ـ ٤ ).

أمّا عرج فقد ذكر ابن فارس له اُصولاً ثلاثة وهي: الميل، والعدد، والسموّ والارتقاء.

ثم قال: العروج: الارتقاء، يقال عرج يعرج عروجا ومعرجا، والمعرج: المصعد، قال الله تعالى:( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) .

وعلى ذلك فالمعارج مواضع العروج وهو الصعود مرتبة، بعد مرتبة ومنه الأعرج لارتفاع إحدى رجليه عن الاُخرى، وأمّا المراد من هذه الدرجات فهي عبارة عن المقامات المترتبة علوّاً وشرفاً التي تعرج فيها الملائكة والروح بحسب قربهم من الله وهو من الاُمور الغيبيّة التي يجب الايمان بها وربّما يفسّر بأنّ المراد مقامات القرب التي يعرج إليها المؤمنون بالايمان والعمل الصالح، قال تعالى:( هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / ١٦٣ ). وقال:( لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) ( الانفال / ٤ ).

وقال:( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ) ( المؤمن / ١٥ ).

والوجهان متقاربان غير أنّ الأوّل يخصّ الدرجات بالملائكة والثاني بالمؤمنين، وقوله سبحانه تعرج الملائكة والروح إليه يؤيّد الوجه الأوّل.

٢٥٢

الثامن والخمسون: « ذو مغفرة »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه، قال سبحانه:( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الرعد / ٦ ).

وقال سبحانه:( مَا يُقَالُ لَكَ إلّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) ( فصّلت / ٤٣ ).

و « الغفر » في اللغة بمعنى الستر، قال ابن فارس: عظم بابه الستر، فالغفر والغفران والغفر بمعنى يقال غفر الله ذنبه ويقال للمغفر لأنّه يستر الرأس وستر الذنوب كناية عن الغضّ عنه وعدم المعاقبة عليه والمعاملة مع المجرم كالبريء، وسيوافيك مزيد من التوضيح في تفسير اسم « غافر الذنب ».

٢٥٣
٢٥٤

حرف الراء

التاسع والخمسون: « ربّ العرش »

وقد ورد لفظ العرش في الذكر الحكيم ٢٢ مّرة واُضيف إليه الرب ٦ مرّات قال سبحانه :

( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( التوبة / ١٢٩ ). وقال تعالى:( فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء / ٢٢ ). وقال سبحانه:( قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( المؤمنون / ٨٦ ). وقال عزّ من قائل:( فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) ( المؤمنون / ١١٦ ).

وقال تعالى:( اللهُ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( النمل / ٢٦ ). وقال تعالى:( سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الزخرف / ٨٢ ).

ثمّ إنّ الذكر الحكيم يبيّن خصوصيات عرش الرب بتوصيفه بالعظيم تارة وبأنّه له حملة ثمانية اُخرى، يقول تعالى:( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) ( الحاقّة / ١٧ ).

وبأنّه تحُفُّه الملائكة ثالثة، يقول تعالى( وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) ( الزمر / ٧٥ ).

وقد بلغ العرش في العظمة مكاناً بحيث إنّ الله تعالى يعرّف نفسه به ويقول تعالى:( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ *ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ ) ( البروج / ١٤ و ١٥ )، ويقول تعالى:( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ) ( غافر / ١٥ ).

٢٥٥

هذا هو العرش وهذه هي خصوصياته في القرآن المجيد، إنّما الكلام فيما يراد منه في هذه الآيات.

أقول: إنّ « العرش » لغة هو سرير الملك ولا تحتاج إلى ذكر نصوص أهل اللّغة.

قال سبحانه:( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) ( يوسف / ١٠٠ ).

وقال سبحانه في ملكة سبأ:( وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) ( النمل / ٢٣ ).

وقال سبحانه:( أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) ( النمل / ٣٨ ).

( قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ) ( النمل / ٤١ ).

وبما أنّ الأصل في العرش هو الارتفاع.

قال سبحانه:( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ ) ( الانعام / ١٤١ ).

وربّما يطلق على البناء المرتفع.

قال ابن فارس: العريش: بناء من قضبان يرفع ويؤلّف حتى يظلل، وقيل للنبي٦ يوم بدر: ألا نبني لك عريشاً. وكل بناء يستظل به عرش وعريش، ويقال لسقف البيت عرش.

قال تعالى:( فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) ( الحج / ٤٥ ) والمعنى أنّ السقف يسقط ثمّ يتهافت على الجدران ساقطة، ومن هذا الباب العريش وهو شبه الهودج يتخذ للمرأة تقعد فيه على بعيرها.

٢٥٦

هذا ما يرجع إلى معناه اللغوي وما يستعمل فيه، لكن الكلام فيما هو المقصود من هذا اللفظ فنقول: ها هنا أقوال نأتي بها :

١ ـ إنّ لله سبحانه عرشاً كعروش الملوك يستقر عليه ويدبّر العالم منه، وهذا هو الذي تصرّ عليه المجسّمة والمشبّهة من الحنابلة، وأمّا الأشاعرة الذين يتظاهرون بالتنزيه لفظاً لا معنى يقولون بهذا المعنى ولكنّهم يضيفون إليه « بلا تكييف » أي أن له سريراً واستقراراً لا كسرير الملوك واستقرارهم والكيفية مجهولة.

وهناك قصّة تاريخية نقلها السيّاح المعروف ب‍ « ابن بطوطة » لـمّا زار الشام وشاهد أنّ « ابن تيميّة » صعد المنبر وهو يعظ الناس ويقول :

وكان بدمشق من كبار الفقهاء « تقي بن تيميّة كبير الشام يتكلّم إلّا أنّ في عقله شيئاً فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم، فكان من جملة كلامه: إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلّم به فقامت العامّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته(١) .

وهذا المعنى مردود مرفوض عند أهل التنزيه لأنّه تفسير للعرش تفسيراً حرفياً وغير جائز بداهة في تفسير الكلام العادي فضلاً عن كلام البلغاء، فإنّ المتّبع في تفسير الكلام هو المعنى الجملي التصديقي لا المعنى الافرادي التصوّري، فإذا قال الرجل: إن فلاناً مبسوط اليد أو كثير الرماد، فليس لنا تفسيره ببسط العضو المعروف بحجّة أنّ اليد لفظ موضوع للجارحة، أو حمل كثرة الرماد على معناه الحرفي الملازم لكون بيته غير نظيف بحيث يشمئزّ الإنسان من الدخول إليه، بل يجب تفسير الأوّل بالسخاء، والثاني بكثرة الطبخ الملازم لكثرة الضيافة التي هي رمزٌ للكرم والسخاء.

وعلى ضوء هذا يجب إمعان النظر في مجموع الآيات الواردة حول العرش

__________________

(١) رحلة ابن بطوطة: ص ٩٥ طبع بيروت.

٢٥٧

حتّى يتبيّن أنّ المراد هل هو المعنى التصوّري ( السرير )، أو هو المعنى التصديقي المختلف حسب المقامات.

فإنّ العرش يطلق ويراد غالباً الملك أعني السلطة والحكم على الناس.

قال الشاعر :

تداركتم الأحلاف قد ثلّ عرشها

وذبيان إذ ذلّت باقدامها النعل(١)

إنّ المراد من العرش هو نظام الحياة والمراد من ثلّه إزالته، ولأجل ذلك يقال ثلّ عرشه فيما إذا انقلب الدهر عليه وسائت أحواله، هذا وسيوافيك مزيد توضيح لهذا المعنى عند البحث عن المحتمل الثالث.

٢ ـ العرش: هو الفلك التاسع أو فلك الافلاك في الهيئة البطلميوسيّة فقد كان بطلميوس يفسّر العالم في الكرات الأربعة ( الماء والتراب والنار والهواء ) ثمّ الأفلاك التسعة وكل فلك يحمل سيارة إلى الفلك السابع، والثوابت في الفلك الثامن ثمّ الفلك التاسع وهو أطلس لا نجم فيه، ويوصف بمحدّد الجهات وليس بعده خلأ ولا ملأ وهو العرش عند بعضهم، ونقل العلّامة المجلسي عن المحقّق الداماد في بعض تعليقاته أنّه قال: العرش: هو فلك الأفلاك(٢) .

وهذا القول لا يحتاج إلى النقد بعد وضوح بطلان أصل النظريّة حيث هدّم العلم الحديث أركان هذه النظرية وأصبحت من مخلّفات الدهر.

٣ ـ إنّ العرش والاستيلاء عليه كناية عن إحاطته بعالم الوجود وصحيفة الكون تشبيهاً للمعقول بالمحسوس، فإنّ الملوك إذا جلسوا على عروشهم واستقرّوا عليها وحولهم وزراءهم وعمّالهم، أخذوا بتدبير اُمور البلد بإصدار الأوامر والنواهي وبالإرشادات والتوجيهات المناسبة، فشبّه استيلاءه سبحانه على عالم الكون

__________________

(١) الشعر لزهير، ولاحظ: مقاييس اللغة ج ٤ ص ٢٦٥.

(٢) بحار الانوار: ج ٥٨، ص ٥.

٢٥٨

وصحيفة الوجود وتدبيره من دون أن يطرأ عليه نصب ولاتعب بإستيلاء الملوك على عروشهم على النحو الذي وصفناه.

وعلى هذا المعنى ليس للعرش واقعيّة سوى المعنى الكنائي وهو السلطة على العالم والإستيلاء على الوجود كلّه، فتكون النتيجة أنّ للاستيلاء حقيقة تكوينيّة دون العرش.

ويمكن تأييد ذلك بأنّ العرش ربّما يطلق على الملك والسلطة وإن لم يكن هناك سرير كسرير الملوك. قال الشاعر :

إذا ما بنو مروان ثلّت عروشهم

وأودت عمّا أودت أياد وحمير

قال الجوهري: ثلّ الله عرشهم أي هدم ملكهم، ويقال للقوم إذا ذهب عزّهم قد ثلّ عرشهم.

وقال آخر :

أظننت عرشك لا يزول ولا يغيّر

وقال آخر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وهذا المعنى متحقق بمجرد تحقّق السلطة وإن لم يكن هناك سرير وراءه.

وعلى الجملة: فهذه النظرية تبتني على كون العرش أمراً اعتبارياً والاستيلاء أمراً حقيقياً.

يلاحظ عليه: إنّ هذا المعنى وإن كان أقرب من سابقيه إلى الفهم القرآني ولكنّه يجب أن يكون للعرش حقيقة كالاستيلاء وذلك لاُمور :

أ ـ لو كان العرش أمراً اعتبارياً فلماذا وصفه بكونه عظيماً وقال سبحانه:( وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( المؤمنون / ٨٦ ).

٢٥٩

بناءً على أنّ العظيم وصفاً للعرش دون الربّ والظاهر أنّ توصيفه بالعظيم توصيف أمر واقعي بأمر واقعي لا توصيف أمر اعتباري بمثله.

ب ـ إنّه سبحانه يذكر للعرش حملة ويقول:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) ( غافر / ٧ ).

ج ـ إنّه سبحانه يذكر حملة العرش يوم القيامة وإنّهم ثمانية ويقول سبحانه:( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) ( الحاقة / ١٧ ).

والظاهر أنّ مرجع ذلك القول إلى الرابع الذي نذكره، أو هما قول واحد.

٤ ـ إنّ للعرش حقيقة تكوينية كما أنّ للاستيلاء حقيقة كذلك، غير أنه ليس شيئاً خاصاً سوى مجموع الكون وصحيفة الوجود فهو عرشه سبحانه، فالعالم بمجرّده وماديّه وظاهره وباطنه عرشه، وعليها تدبيره، ويكون عطف « ربّ العرش العظيم » على قوله « ربّ السموات السبع » من باب عطف العام على الخاص، فالله سبحانه مستول على ما خلق استيلاءً حقيقيّاً ولا يحتاج في إدارة الكون وتدبيره إلى غيره، فلو كان هناك نظام الأسباب والمسبّبات والعلل والمعلولات فهو من جنوده في عالم الكون، وقال سبحانه:( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلّا هُوَ ) ( المدثر / ٣١ ). وقال سبحانه :

( وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) ( الفتح / ٤ )، وكذلك الآية ٧ من نفس السورة مع اختلاف يسير في آخرها حيث قام « عزيزاً » مقام « عليماً ».

وقد اختار هذا المعنى شيخنا الصدوق في عقائده حيث قال: « اعتقادنا في العرش أنّه جملة جميع الخلق ـ إلى أن قال ـ العرش الذي هو جملة جميع الخلق حملته ثمانية من الملائكة »(١) .

__________________

(١) عقائد الصدوق: ص ٧٤، الطبعة الحجرية.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥) )

التّفسير

فاصبر كما صبر أولوا العزم :

تواصل هذه الآيات ـ وهي آخر آيات سورة الأحقاف ـ البحث حول المعاد ، حيث جاءت الإشارة إلى مسألة المعاد في الآيات السابقة حكاية عن لسان مبلغي الجن. هذا من جهة.

٣٠١

ومن جهة أخرى فإنّ سورة الأحقاف تتحدث في فصولها الأولى عن مسألة التوحيد ، وعظمة القرآن المجيد ، وإثبات نبوة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتبحث في آخر فصل من هذه السورة مسألة المعاد لتكمل بذلك البحث في الأصول الاعتقادية الثلاثة.

تقول الآية الأولى :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فإنّ خلق السماوات والأرض مع موجوداتها المختلفة المتنوعة علامة قدرته تعالى على كلّ شيء ، لأنّ كل ما يقع في دائرة مخلوق لله في هذا العالم ، فإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يمكن أن يكون عاجزا عن إعادة حياة البشر؟ وهذا بحدّ ذاته دليل قاطع مفحم على مسألة إمكان المعاد.

وأساسا فإنّ أفضل دليل على إمكان أي شيء وقوعه ، فكيف ندع إلى أنفسنا سبيلا للشك في قدرة الله المطلقة على مسألة المعاد ونحن نرى نشأة الموجودات الحية وتولدها من موجودات ميتة ، وعلى هذا النطاق الواسع؟

هذا أحد أدلة المعاد العديدة التي يؤكد عليها القرآن ويستند إليها في آيات مختلفة ، ومن جملتها الآية (٨١) من سورة يس(١) .

وتجسّد الآية التالية مشهدا من العذاب الأليم المحيط بالمجرمين ومنكري المعاد ، فتقول :( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) .

أجل ، فمرّة تعرض النّار على الكافرين ، وأخرى يعرضون الكافرين على النّار ، ولكل من العرضين هدف أشير إليه قبل عدّة آيات.

وعند ما يعرضون الكافرين على النّار ، ويرون ألسنة لهبها العظيمة المحرقة المرعبة يقال لهم :( أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ ) ؟ وهل تستطيعون اليوم أن تنكروا البعث ومحكمة الله العادلة ، وثوابه وعقابه ، وتقولون : ما هذا إلّا أساطير الأولين؟

__________________

(١) طالع التفصيل حول هذا الموضوع ، وأدلّة المعاد المختلفة في ذيل آخر آيات سورة يس.

٣٠٢

غير أنّ أولئك الذين لا حيلة لهم :( قالُوا بَلى وَرَبِّنا ) فهنا يقول الله سبحانه ، أو ملائكة العذاب :( قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) .

وبهذا فإنّهم يرون كلّ الحقائق بأم أعينهم في ذلك اليوم ويعترفون بذلك الاعتراف الذي لن ينفعهم ، وسوف لن تكون نتيجته إلّا الهم والحسرة ، وتأنيب الضمير والعذاب الروحي.

ويأمر الله سبحانه نبيّه في آخر آية من هذه الآيات ، وهي آخر آية في سورة الأحقاف ، على أساس ملاحظة ما مرّ في الآيات السابقة حول المعاد وعقاب الكافرين ، أن :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) فلست الوحيد الذي واجه مخالفة هؤلاء القوم وعداوتهم ، فقد واجه أولو العزم هذه المشاكل وثبتوا أمامها واستقاموا ، فنبيّ الله العظيم نوحعليه‌السلام دعا قومه (٩٥٠) سنة ، ولم يؤمن به إلّا فئة قليلة ، وكان قومه يؤذونه دائما ، ويسخرون منه.

وألقوا إبراهيمعليه‌السلام في النّار ، وهددوا موسىعليه‌السلام بالقتل ، وكان قلبه قد امتلأ قيحا من عصيانهم ، وكانوا يريدون قتل المسيحعليه‌السلام بعد أن آذوه كثيرا ، فأنجاه الله منهم.

وخلاصة القول : إنّ الأمر كان وما يزال كذلك ما كانت الدنيا ، ولا يمكن التغلب على هذه المشاكل إلّا بقوّة الصبر والاستقامة والثبات.

من هم أولو العزم من الرسل؟

هناك بحث واختلاف كبير جدّا بين المفسّرين في : من هم أولو العزم؟ وقبل أن نحقق في هذا ، ينبغي أن نحقق في معنى (العزم) ، لأنّ (أولو العزم) بمعنى ذوي العزم.

«العزم» بمعنى الإرادة الصلبة القوية ، ويقول الراغب في مفرداته : إنّ العزم هو عقد القلب على إمضاء الأمر.

وقد استعملت كلمة العزم في مورد الصبر في آيات القرآن المجيد أحيانا ، كقوله

٣٠٣

تعالى :( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (١) .

وجاءت أحيانا بمعنى الوفاء بالعهد ، كقوله تعالى :( وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (٢) .

لكن بملاحظة أنّ أصحاب الشرائع والأديان الجديدة من الأنبياء قد ابتلوا بمشاكل أكثر ، وواجهوا مصاعب أشد ، وكانوا بحاجة إلى عزم وإرادة أقوى وأشد لمواجهتها ، فقد أطلق على هذه الفئة من الأنبياء (أولو العزم) والآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى ظاهرا. وهي تشير ضمنا إلى أن نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الفئة ، لأنّها تقول :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ ) .

وإذا كان البعض قد فسّر العزم والعزيمة بمعنى الحكم والشريعة فمن هذه الجهة ، وإلّا فإنّ كلمة العزم لم تأت في اللغة بمعنى الشريعة.

وعلى أية حال ، فطبقا لهذا المعنى تكون (من) في (من الرسل) تبعيضية ، وإشارة إلى فئة خاصّة من الأنبياء كانوا أصحاب شريعة ، وهم الذين أشارت إليهم الآية ٧ من سورة الأحزاب :( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) .

فقد أشارت الآية إلى هؤلاء الأنبياء الخمسة بعد ذكر جميع الأنبياء بصيغة الجمع ، وهذا دليل على خصوصيتهم.

وتتحدث الآية (١٣) من سورة الشورى عنهم أيضا ، فتقول :( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ) .

وقد رويت في هذا الباب روايات كثيرة في مصادر الشيعة والسنّة ، تدل على أنّ الأنبياء أولي العزم كانوا خمسة ، كما ورد في حديث عن الإمامين الباقر

__________________

(١) الشورى ، الآية ٤٣.

(٢) سورة طه ، الآية ١١٥.

٣٠٤

والصادقعليهما‌السلام : «ومنهم خمسة : أولهم نوح ، ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ، ثمّ عيسى ، ثمّ محمّد»(١) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام : «منهم خمسة أولو العزم من المرسلين : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد». وعند ما يسأل الراوي : لم سموا (أولو العزم)؟ يقول الإمامعليه‌السلام مجيبا : «لأنّهم بعثوا إلى شرقها وغربها ، وجنّها وإنسها»(٢) .

وكذلك ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «سادة النبيّين والمرسلين خمسة ، وهم أولو العزم من الرسل ، وعليهم دارت الرحى : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد»(٣) .

وروي هذا المعنى في تفسير الدر المنثور عن ابن عباس أيضا ، بأنّ الأنبياء أولي العزم هم هؤلاء الخمسة(٤) .

إلّا أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ (أولو العزم) إشارة إلى الأنبياء الذين أمروا بمحاربة الأعداء وجهادهم.

واعتبر البعض عددهم (٣١٣) نفرا(٥) ، ويرى البعض أنّ جميع الأنبياء (أولو عزم) أي أصحاب إرادة(٦) صلبة وطبقا لهذا القول ، فإنّ (من) في (من الرسل) بيانية لا تبعيضية.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أصح منها جميعا ، وتؤيده الروايات الإسلامية.

ثمّ يضيف القرآن بعد ذلك :( وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ) أي للكفار لأنّ القيامة ستحل

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٩٤ ، ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ١١ ، صفحة ٥٨ ، حديث ٦١ ، ويتحدث الحديث ٥٥ ، صفحة ٥٦ ، من المجلد المذكور بصراحة في هذا الباب.

(٣) الكافي ، المجلد ١ ، باب طبقات الأنبياء والرسل ، حديث ٣.

(٤) الدر المنثور ، المجلد ٦ ، صفحة ٤٥.

(٥) المصدر السابق.

(٦) المصدر السابق.

٣٠٥

سريعا ، وسيرون بأعينهم ما أطلقوه عليها وادعوه فيها ، ويجزون أشدّ العذاب ، وعندها سيطلعون على أخطائهم ، ويعرفون ما كانوا عليه من الضلالة والغي.

إنّ عمر الدنيا قصير جدّا بالنسبة إلى عمر الآخرة ، حتى :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) .

إنّ هذا الإحساس بقصر عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة ، إمّا بسبب أنّ هذه الحياة ليست إلّا ساعة أمام تلك الحياة الخالدة حقيقة وواقعا ، أو لأنّ الدنيا تنقضي عليهم سريعا حتى كأنّها لم تكن إلّا ساعة ، أو من جهة أنّهم لا يرون حاصل كلّ عمرهم الذي لم يستغلوه ويستفيدوا منه الاستفادة الصحيحة إلّا ساعة لا أكثر.

هنا سيغطي سيل الأحزان والحسرة قلوب هؤلاء ، ولات حين ندم ، إذ لا سبيل الى الرجوع.

لهذا نرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سئل : كم ما بين الدنيا والآخرة؟ فقال : «غمضة عين ، ثمّ يقول : قال الله تعالى :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) »(١) . وهذا يوحي بأنّ التعبير بالساعة لا تعني مقدار الساعة المتعارفة ، بل هو إشارة إلى الزمان القليل القصير.

ثمّ تضيف الآية كتحذير لكلّ البشر «بلاغ»(٢) لكلّ أولئك الذين خرجوا عن خط العبودية لله تعالى لأولئك الغارقين في بحر الحياة الدنيا السريعة الزوال والفناء ، والعابدين شهواتها وأخيرا هو بلاغ لكلّ سكان هذا العالم الفاني.

وتقول في آخر جملة تتضمن استفهاما عميق المعنى ، وينطوي على التهديد :( فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ ) ؟

* * *

__________________

(١) روضة الواعظين ، طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٢٥.

(٢) «بلاغ» خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : هذا القرآن بلاغ ، أو : هذا الوعظ والإنذار بلاغ.

٣٠٦

ملاحظة

كان نبيّ الإسلام مثال الصبر والاستقامة :

إنّ حياة أنبياء الله العظام ـ وخاصة نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تبيان لمقاومتهم اللامحدودة أمام الحوادث الصعبة والشدائد العسيرة ، والعواصف الهوجاء ، والمشاكل القاصمة ، ولما كان طريق الحق مليئا بهذه المشاكل دائما ، فيجب على سالكيه أن يستلهموا العبر من أولئك العظماء في هذا المسير.

إنّنا ننظر عادة من نقطة مضيئة في تاريخ الإسلام إلى أيّام مرّت على الإسلام ونبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صعبة مظلمة ، وهذه النظرة من المستقبل إلى الماضي تجسم الوقائع والحقائق بشكل آخر ، فينبغي علينا أن ندرك أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان وحيدا فريدا لا يرى في أفق الحياة أية علامة للانتصار.

فأعداؤه شمروا عن سواعدهم للفتك به ، حتى أنّ أقاربه وعشيرته كانوا في الخط الأوّل في هذه المجابهة!

كان يذهب دائما إلى قبائل العرب ويدعوهم ، ولكن لم يكن يجيبه أحد.

كانوا يرجمونه حتى تسيل الدماء من عقبيه ، لكنه لم يكن يكف عن عمله.

لقد فرضوا عليه الحصار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بحيث أغلقوا جميع الأبواب والطرق بوجهه وبوجه أتباعه ، حتى مات بعضهم جوعا ، وأقعد المرض بعضهم الآخر.

لقد مرّت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام يصعب على القلم واللسان وصفها ، فعند ما جاء إلى الطائف ليدعو الناس إلى الإسلام ، لم يكتفوا بعدم إجابة دعوته ، بل رموه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه.

لقد كانوا يحثون الجهلاء من الناس على أن يصرخوا ، ويسيئوا في كلامهم إليه ، فيضطر إلى أن يلتجئ إلى بستان ويستظل بظل شجرة ، ويناجي ربّه فيقول : «اللهمّ إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهو اني على الناس ، يا أرحم الراحمين : أنت

٣٠٧

رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ...»(١) .

كانوا يسمونه ساحرا تارة ، وأخرى يخاطبونه بالمجنون.

كانوا يلقون التراب والرماد على رأسه حينا ، وحينا يجمعون على قتله ، فيحاصرون بيته بالسيوف والرماح.

إلّا أنّه رغم كلّ تلك الظروف استمر في صبره وصموده واستقامته.

وأخيرا جنى الثمرة الطيبة لهذه الشجرة المباركة ، فقد عمّ دينه شرق العالم وغربه ، لا جزيرة العرب وحدها ، ويدوّي اليوم صوت انتصاره صباح مساء في كلّ أرجاء الدنيا ، وفي قارات العالم الخمسة ، وهذا هو معنى :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) .

وهذا هو طريق محاربة الشياطين ، وطريق الإنتصار عليهم ، والوصول إلى الأهداف الإلهية السامية.

إذا كان الأمر كذلك ، فكيف يطمح طلاب الراحة والسلامة إلى أن يصلوا إلى أهدافهم الكبيرة من دون صبر وتحمل للعذاب والآلام؟

وكيف يأمل مسلمو اليوم أن ينتصروا على كلّ هؤلاء الأعداء الذين اجتمعت كلمتهم على إفنائهم والقضاء عليهم ، دون الاستلهام من دين نبي الإسلام الأصيل؟

والقادة الإسلاميون بخاصة مأمورون بهذا الأمر قبل الجميع ، كما ورد في حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «إنّ الصبر على ولاة الأمر مفروض ، لقول اللهعزوجل لنبيّه :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته بقوله :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) »(٢) .

اللهمّ امنحنا هذه الموهبة العظيمة ، هذه العطية السماوية ، وهذا الصبر والثبات

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، المجلد ٢ ، صفحة ٦١.

(٢) احتجاج الطبرسي طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٢٣.

٣٠٨

والاستقامة أمام المشاكل.

اللهمّ وفقنا لحفظ مشعل النور الذي حمله أولو العزم من أنبيائك ، وخاصة خاتم النبيين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من أجل هداية البشرية بعد تحملهم الجهود المضنية ، ووفقنا لأن نكون أهلا لحراسته.

إلهنا! إنّ أعداء الحق متحدون ومتحزّبون ضده ، ولا يرتدعون عن اقتراف أية جريمة وجناية ، اللهمّ فامنحنا صبرا وثباتا أعظم مما لديهم لئلا نركع أمام سيل المشاكل وعظمتها ، ووفقنا لأن نتخطى الأمواج والعواصف ونتركها وراءنا ، وهذا لا يتمّ إلّا بعونك ولطفك اللامحدود.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة الأحقاف

* * *

٣٠٩
٣١٠

سورة

محمّد

مدنيّة

وعدد آياتها ثمان وثلاثون آية

٣١١
٣١٢

«سورة محمّد»

محتوى السورة :

سمّيت هذه السورة بسورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ اسمه الشريف قد ذكر في الآية الثانية ، واسمها الآخر هو سورة القتال ، والواقع أنّ مسألة الجهاد وقتال أعداء الإسلام هو أهم موضوع ألقى ظلاله على هذه السورة ، في حين أنّ جزءا مهما آخر من آيات هذه السورة يتناول المقارنة بين حال المؤمنين والكافرين وخصائصهم وصفاتهم ، وكذلك المصير الذي ينتهي إليه كلّ منهما في الحياة الآخرة.

ويمكن تلخيص محتوى السورة بصورة عامة في عدة فصول :

١ ـ مسألة الإيمان والكفر ، والمقارنة بين أحوال المؤمنين والكفار في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة.

٢ ـ بحوث معبرة بليغة وصريحة حول مسألة الجهاد وقتال المشركين ، والتعليمات الخاصة فيما يتعلق بأسرى الحرب.

٣ ـ شرح أحوال المنافقين الذين كان لهم نشاطات هدّامة كثيرة حين نزول هذه الآيات في المدينة.

٤ ـ فصل آخر يتناول مسألة السير في الأرض ، وتدبر مصير الأقوام الماضين وعاقبتهم ، كدرس للاعتبار والاتعاظ.

٥ ـ وفي جانب من آيات هذه السورة ذكرت مسألة الاختبار الإلهي لمناسبتها موضوع القتال والجهاد.

٦ ـ ورد الحديث في فصل آخر عن مسألة الإنفاق الذي يعتبر بحدّ ذاته نوعا

٣١٣

من الجهاد ، وجاء الحديث عن مسألة البخل الذي يقع في الطرف المقابل.

٧ ـ وتناولت بعض آيات هذه السورة ـ لمناسبة موضوعها ـ مسألة الصلح مع الكفار ـ الصلح الذي يكون أساسا لهزيمة المسلمين وذلّتهم ـ ونهت عنه.

وبالجملة ، فبملاحظة أنّ هذه السورة قد نزلت في المدينة حينما كان الاشتباك شديدا بين المسلمين وأعداء الإسلام ، وعلى قول بعض المفسّرين أنّها نزلت أثناء معركة أحد أو بعدها بقليل ، فإنّ أهم مسألة فيها هي قضية الجهاد والحرب ، وتدور بقية المسائل حول ذلك المحور الحرب المصيرية التي تميّز المؤمنين عن الكافرين والمنافقين الحرب التي كانت تثبت دعائم الإسلام ، وردّت كيد الأعداء الذين هبّوا للقضاء على الإسلام والمسلمين في نحورهم ـ وأوقفتهم عند حدّهم.

فضل تلاوة السورة :

جاء في حديث عن نبي الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة محمّد كان حقّا على الله أن يسقيه من أنهار الجنّة»(١) .

وروي في كتاب ثواب الأعمال عن الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : «من قرأ سورة الذين كفروا ـ سورة محمّد لم يرتب أبدا ، ولم يدخله شكّ في دينه ، ولم يبتله الله بفقر أبدا ، ولا خوف سلطان أبدا ، ولم يزل محفوظا من الشرك والكفر أبدا حتى يموت ، فإذا مات وكلّ الله به في قبره ألف ملك يصلون في قبره ، ويكون ثواب صلاتهم له ويشيعونه حتى يوقفوه موقف الأمن عند اللهعزوجل ، ويكون في أمان الله ، وأمان محمّد»(٢) .

من الواضح أنّ الذين جرى محتوى هذه السورة في دمائهم ، وتشبّعت به

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، بداية سورة محمّد.

(٢) ثواب الأعمال ، طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٢٥.

٣١٤

أرواحهم ، وهم أشداء في جهاد الأعداء اللدودين القساة ، والذين لم يدعوا للشك والتزلزل الى أنفسهم سبيلا ، تكون أسس دينهم قوية ، وإيمانهم صلبا ، ولا يملكهم خوف ولا تنالهم ذلة ولا يعتريهم فقر ، وهم في الآخرة منعمون في جوار رحمة الله.

وجاء في حديث آخر أنّ الإمامعليه‌السلام قال : «من أراد أن يعرف حالنا وحال أعدائنا فليقرأ سورة محمّد فإنّه يراها آية فينا وآية فيهم»(١) .

وقد نقل هذا الحديث مفسرو السنّة أيضا ، كالآلوسي في روح المعاني(٢) والسيوطي في الدر المنثور(٣) .

وهذه السورة تبيان لحقيقة أنّ أهل بيت النّبيعليه‌السلام كانوا نموذجا لأكمل الإيمان وأتمه ، وأنّ بنيّ أمية كانوا المثال البارز للكفر والنفاق.

صحيح أنّه لم يرد تصريح باسم أهل البيت ولا باسم بني أمية في هذه السورة ، لكن لمّا كان البحث فيها عن فئة المؤمنين والمنافقين وخصائص كلّ منهما ، فإنّها تشير قبل كلّ شيء إلى مصداقين واضحين ، ولا مانع في نفس الوقت من أن تشمل السورة سائر المؤمنين والمنافقين.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، أوّل السورة.

(٢) روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ٣٣.

(٣) الدر المنثور ، المجلد ٦ ، ص ٤٦.

٣١٥

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) )

التّفسير

المؤمنون أنصار الحق ، والكافرون أنصار الباطل :

إنّ هذه الآيات الثلاث تعتبر في الحقيقة مقدمة لأمر حربي مهم صدر في الآية الرابعة ، فبيّنت الأولى منها وضع الكافرين وحالهم ، والثانية حال المؤمنين ، وقارنت ثالثتهما بين الإثنين ، وذلك لتتهيأ الأرضية والاستعداد للجهاد الديني ضد الأعداء الظالمين العتاة باتضاح حال الفئتين.

تقول الآية الأولى :( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) وهي

٣١٦

إشارة الى زعماء الكفر ومشركي مكّة الذين كانوا يشعلون نار الحروب ضد الإسلام ، ولم يكتفوا بكونهم كفارا ، بل كانوا يصدون الآخرين عن سبيل الله بأنواع الحيل والخدع والمخططات.

ومع أنّ بعض المفسّرين ـ كالزمخشري في الكشّاف ـ فسّر «الصدّ» هنا بمعنى الإعراض عن الإيمان ، في مقابل الآية التالية التي تتحدث عن الإيمان ، إلّا أنّ الإحاطة بموارد استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم توجب الحفاظ على معناها الأصلي ، وهو المنع.

والمراد من :( أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) أنّه يحبطها ويجعلها هباء منثورا ، لأنّ الإحباط والإضاعة كناية عن بقاء الشيء بدون حماية ولا عماد ، ولازم ذلك زواله وفناؤه.

وعلى أية حال ، فإنّ بعض المفسّرين يرون أنّ هذه الجملة إشارة إلى الذين نحروا الإبل يوم بدر وأطعموها الناس ، إذ نحر أبو جهل عشرة من الإبل ، ومثله صفوان ، وسهيل بن عمر ، لإطعام جيش الكفر(١) . لكن لمّا كانت هذه الأعمال من أجل التفاخر ومكائد الشيطان فقد أحبطت جميعا.

غير أنّ الظاهر أنّها لا تنحصر بهذا المعنى ، بل إنّ كلّ أعمالهم التي قاموا بها ، وظاهرها معونة للفقراء والضعفاء ، أو إقراء للضيف ، أو غير ذلك ستحبط لعدم إيمانهم.

وبغض النظر عن ذلك ، فإنّ ذلك ، فإنّ الله سبحانه قد أحبط كلّ مؤامراتهم وما قاموا به من أعمال لمحو الإسلام والقضاء على المسلمين ، وحال بينهم وبين الوصول إلى أهدافهم الخبيثة.

والآية التالية وصف لوضع المؤمنين الذين يقفون في الصف المقابل للكافرين الذين وردت صفاتهم في الآية السابقة ، فتقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٦ ، صفحة ٣٣.

٣١٧

وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ ) (١) .

إنّ ذكر الإيمان بما نزل على نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذكر الإيمان بصورة مطلقة ، تأكيد على تعليمات هذا النّبي العظيم ومناهجه ، وهو من قبيل ذكر الخاص بعد العام ، وتبيان لحقيقة أنّ الإيمان بالله سبحانه لا يتمّ أبدا بدون الإيمان بما نزل على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويحتمل أيضا أن تكون الجملة الأولى إشارة إلى الإيمان بالله تعالى ، ولها جانب عقائدي ، وهذه الجملة إشارة إلى الإيمان بمحتوى الإسلام وتعليمات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولها الجانب العملي.

وبتعبير آخر ، فإنّ الإيمان بالله سبحانه لا يكفي وحده ، بل يجب أن يؤمنوا بما نزل على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يكون لهم إيمان بالقرآن ، إيمان بالجهاد ، إيمان بالصلاة والصوم ، وإيمان بالقيم الأخلاقية التي نزلت عليه. ذلك الإيمان الذي يكون مبدأ للحركة ، وتأكيدا على العمل الصالح.

وممّا يستحق الانتباه أنّ الآية تقول بعد ذكر هذه الجملة :( وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) وهي تعني أنّ إيمانهم لم يكن تقليدا ، أو أنّه لم يقم على دليل وحجة ، بل إنّهم آمنوا بعد أن رأوا الحق فيه.

وعبارة( مِنْ رَبِّهِمْ ) تأكيد على حقيقة أنّ الحق يأتي دائما من قبل الله سبحانه ، فهو يصدر منه ، ويعود إليه.

والجدير بالالتفات إليه أنّ الآية تبيّن ثوابين للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، في مقابل العقابين اللذين ذكرا للكفار الصادين عن سبيل الله : أو لهما : التكفير عن السيئات التي لا يخلو منها أي إنسان غير معصوم ، والثاني : إصلاح البال.

لقد جاء «البال» بمعان مختلفة ، فجاء بمعنى الحال ، العمل ، القلب ، وعلى قول

__________________

(١) اعتبر جماعة من المفسّرين جملة (وهو الحق من ربّهم) جملة معترضة.

٣١٨

الراغب : بمعنى الحالات العظيمة الأهمية ، وبناء على هذا فإنّ إصلاح البال يعني تنظيم كلّ شؤون الحياة والأمور المصيرية ، وهو يشمل ـ طبعا ـ الفوز في الدنيا ، والنجاة في الآخرة ، على عكس المصير الذي يلاقيه الكفار ، إذ لا يصلون إلى ثمرة جهودهم ومساعيهم ، ولا نصيب لهم إلّا الهزيمة والخسران بحكم :( أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) .

ويمكن القول بأنّ غفران ذنوبهم نتيجة إيمانهم ، وأنّ إصلاح بالهم نتيجة أعمالهم الصالحة.

إنّ للمؤمنين هدوءا فكريا واطمئنانا روحيا من جهة ، وتوفيقا ونجاحا في برامجهم العملية من جهة ثانية ، فإنّ لإصلاح البال إطارا واسعا يشمل الجميع ، وأي نعمة أعظم من أن تكون للإنسان روح هادئة ، وقلب مطمئن ، وبرامج مفيدة بنّاءة.

وبيّنت الآية الأخيرة العلة الأساسية لهذا الإنتصار وتلك الهزيمة من خلال مقارنة مختصرة بليغة ، فقالت :( ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ) .

هنا يكمن سرّ المسألة بأنّ خطّي الإيمان والكفر يتفرعان عن خطّي الحق والباطل ، فالحق يعني الحقائق العينية ، وأسماها ذات الله المقدّسة ، وتليها الحقائق المتعلقة بحياة الإنسان ، والقوانين الحاكمة في علاقته بالله تعالى ، وفي علاقته بالآخرين.

والباطل يعني الظنون ، والأوهام ، والمكائد والخدع ، والأساطير والخرافات ، والأفعال الجوفاء التي لا هدف من ورائها ، وكلّ نوع من الانحراف عن القوانين الحاكمة في عالم الوجود.

نعم ، إنّ المؤمنين يتبعون الحق وينصرونه ، والكفار يتبعون الباطل ويؤازرونه ، وهنا يكمن سرّ انتصار هؤلاء ، وهزيمة أولئك.

٣١٩

يقول القرآن الكريم :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ) (١) .

وفسّر البعض «الباطل» بالشيطان ، وآخرون بالعبثية ، لكن كما قلنا ، فإنّ للباطل معنى واسعا يشمل هذين التّفسيرين وغيرهما.

وتضيف الآية في النهاية :( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ ) أي : كما أنّه سبحانه قد بيّن الخطوط العامّة لحياة المؤمنين والكفار ، وعقائدهم وبرامجهم العملية ونتائج أعمالهم في هذه الآيات ، فإنّه يوضح مصير حياتهم وعواقب أعمالهم.

يقول الراغب في مفرداته : المثل عبارة عن قول يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة يبيّن أحدهما الآخر.

ويستفاد من كلام آخر له أنّ هذه الكلمة تستعمل أحيانا بمعنى «المشابهة» ، وأحيانا بمعنى «الوصف».

والظاهر أنّ المراد في هذه الآية هو المعنى الثاني ، أي إنّ الله سبحانه يصف حال الناس هكذا ، كما مثّل الجنّة في الآية (١٥) من سورة محمّد :( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) .

وعلى أية حال ، فالذي يستفاد من هذه الآية جيدا ، أنّنا كلما اقتربنا من الحق اقتربنا من الإيمان ، وسنكون أبعد عن حقيقة الإيمان وأقرب إلى الكفر بتلك النسبة التي تميل بها أعمالنا نحو الباطل ، فإنّ أساسي الإيمان والكفر هما الحق والباطل.

* * *

__________________

(١) سورة ص ، الآية ٢٧.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538