مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن7%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237418 / تحميل: 6100
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

العيوب في الزمن المستقبل.

هذا إذا فسّر السلام بمعنى ذي السلامة، وأمّا لو فسّر بكونه معطي السلامة كما هو أحد الاحتمالين فالفرق بينه وبين القدّوس واضح، فالقدّوس صفة ذات، والسلام صفة فعل، ولا يبعد هذا المعنى بملاحظة ما ورد من الآيات حول « السلام » وهو سبحانه « يدعو إلى دار السلام » و « لهم دار السلام » فالله سبحانه هو معطي السلامة.

وأمّا حظّ العباد من هذا الاسم فله أن يطلب سلامة الدين والدنيا ويتجنّب عن العيوب.

قال سبحانه:( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ) ( الأنعام / ١٢٠ ). ويكون ذا قلب سليم.

قال سبحانه:( إلّامَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) ( الشعراء / ٨٩ ).

٢٨١
٢٨٢

حرف الشين

التاسع والستون: « الشاكر »

قد ورد لفظ « الشاكر » في الذكر الحكيم مفرداً أربع مرات ووقع اسماً له سبحانه في موردين قال:( وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة / ١٥٨ ) وقال:( مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) ( النساء / ١٤٧ ).

وأمّا « الشكور » فقد جاء في الذكر الحكيم إثنى عشر مرّة ووقع اسماً له سبحانه في موارد.

قال سبحانه:( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) ( فاطر / ٣٠ ).

وقال سبحانه:( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) ( فاطر / ٣٤ ).

وقال سبحانه:( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) ( الشورى / ٢٣ ).

وقال سبحانه:( إِن تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) ( التغابن / ١٧ ).

ترى أنّه استعمل تارة مع اسم « غفور » واُخرى مع « حليم » وهذا يعرب عن صلة بينهما وبين « الشكور »، وأمّا معناه فقد ذكر ابن فارس له اُصولاً أربعة نكتفي بذكر المعنى الأوّل فإنّه المناسب لهذا الاسم.

قال: الشكر الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه، ويقال إنّ حقيقة الشكر

٢٨٣

الرضا باليسير، يقولون: فرس « شكور » إذا كفاه لسمنه العلف القليل. وقال الراغب: الشكر تصوّر النعمة واظهارها، قيل وهو مقلوب الكشر أي الكشف ويضادّه الكفر وهو نسيان النعمة وسترها، ودابّة شكور: مظهرة بسمنها اسداء صاحبها إليها، فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم، وإذا وصف الله بالشكر فإنّما يعني به انعامه على عباده وجزاءه بما أقاموه من العبادة، يقال ناقة شكرة: ممتلئة الضرع من اللبن.

أقول: إذا كان الشكر بمعنى عرفان الاحسان فما معنى توصيفه بأنّه « شاكر » أو « شكور » وهو المحسن إلى عباده المنعم عليهم ؟

وبعبارة اُخرى: إذا كان الشكر هو الثناء على المحسن فما معنى ثناؤه سبحانه على المحسن ولا محسن سواه ؟

وبعبارة اُخرى: إذا كان الشكر هو مقابلة من أحسن اليه بالاحسان، فكيف يصدق هذا في حقّه سبحانه فمن الذي يحسن اليه ؟ ولو اُحسن اليه بشيء، فهو ملكه لا ملك الـمـُحسِن، ولأجل ذلك ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ تسميته بكونه شاكراً أو شكوراً من باب المجاز، والمراد مجازاة الشاكر بالثواب فهو سبحانه يقبل شكر الشاكر بالجزاء عليه.

قال الصدوق: إنّه سبحانه لـمّا كان مجازياً للمطيعين على طاعتهم جعل مجازاتهم شكراً لهم على المجاز كما سمّيت مكافأة المنعم شكراً(١) .

ويمكن أن يقال: إنّ الاستعمال من باب الحقيقة استلهاماً من قوله سبحانه:( إِن تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) .

فكما أنّ نسبة الإستقراض عليه بنوع من التوسع فهكذا توصيفه سبحانه بكونه شاكراً أو شكوراً به أيضاً.

__________________

(١) توحيد الصدوق: ص ٢١٦.

٢٨٤

قال العلّامة الطباطبائي: والله سبحانه وإن كان محسناً قديم الإحسان ومنه كل الاحسان لا يد لأحد عنده، حتى يستوجبه الشكر، إلّا أنّه جلّ ثناؤه عدّ الأعمال الصالحة التي هي في الحقيقة احسانه إلى عباده، احساناً من العبد إليه، فجازاه بالشكر والاحسان وهو احسان على احسان.

قال تعالى:( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إلّا الإِحْسَانُ ) ( الرحمن / ٦٠ ).

وقال تعالى:( إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ) ( الإنسان / ٢٢ ).

فاطلاق الشاكر عليه تعالى على حقيقة معنى الكلمة من غير مجاز(١) .

السبعون: الشكور

قد تبيّن معناه ممّا قدّمناه في تفسير اسم « الشاكر ».

الواحد والسبعون: « شديد العقاب »

وقد ورد ذلك الاسم المركّب في الذكر الحكيم ١٤ مرّة ووقع في الجميع وصفاً له سبحانه، ويستعمل تارة مجرداً عن سائر الأسماء مثل قوله:( وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( البقرة / ١٩٦ )، واُخرى مقترناً باسم القوي، قال سبحانه:( فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / ٥٢ ) ولولا كونه قوياً لما قدر على العذاب الشديد. وثالثة مقترناً باسمي « غفور » و « رحيم » مثل قوله:( اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( المائدة / ٩٨ ). فله سبحانه تجلّيات كل في موضعه، وفي دعاء الافتتاح :

وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة.

__________________

(١) الميزان: ج ١، ص ٣٩٢، وكونه على الحقيقة انّما هو بعد التنزيل كما في الاستقراض.

٢٨٥

ورابعة مع عدّة من الصفات مثل قوله سبحانه:( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ) ( غافر / ٣ ). وعلى كلّ تقدير فكونه شديد العقاب، من قبيل الوصف بحال المتعلّق، فالشديد هو عذابه، كما ورد في عدّة من الآيات، قال سبحانه:( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ ) ( الأنعام / ١٢٤ ).

الثاني والسبعون: « شديد العذاب »

وقد ورد في القرآن مرّة واحدة وقع وصفاً له سبحانه قال:( أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ) ( البقرة / ١٦٥ ). وهو متّحد مع الاسم السابق معنى، ومختلف لفظاً.

الثالث والسبعون: « شديد المحال »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له، قال سبحانه:( وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ ) ( الرعد / ١٣ ).

وهل المحال، من « محل »(١) يقال: محل به محلاً ومحالاً: إذا أراد بسوء، والميم ليست زائدة أو من « حول »(٢) أو « حيل » والميم زائدة، ومعناه: الكيد. على الأوّل معناه: شديد الأخذ، وعلى الثاني: شديد المكر، واستعماله في حقه سبحانه من قبيل المشاكلة كما هو واضح. وحيلته سبحانه هو ما جاء في قوله:( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأعراف / ١٨٢ ) وقال:( فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ( القلم / ٤٤ ).

__________________

(١) كما عليه البيضاوي في تفسيره للآية.

(٢) نقل الطبرسي عن ابن جني، ونسبه الراغب إلى القيل مشعراً بضعفه.

٢٨٦

الرابع والسبعون: « الشهيد »

قد ورد لفظ « الشهيد » في الذكر الحكيم معرّفاً ومنكراً ٣٥ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في ٢٠ مورداً.

قال سبحانه:( لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / ٩٨ ).

وقال سبحانه:( إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( الحج / ١٧ )(١) .

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس: إنّه أصل يدلّ على حضور وعلم واعلام من ذلك: الشهادة، والمشهد محضر الناس.

وقال الراغب: الشهود والشهادة: الحضور مع المشاهدة أمّا بالبصر أو بالبصيرة وقد يقال للحضور مفرداً، قال: « عالم الغيب والشهادة »، ويقال للمحضر مشهد، وللمرأة التي يحضرها زوجها مشهد، وجمع مشهد مشاهد ومنه مشاهد الحج وهي مواطنه الشريفة التي يحضرها الملائكة والأبرار من الناس.

أقول: الظاهر أنّ الشهادة موضوعة للحضور وافادتها العلم، لأنّها تلازمه ويدلّ على ذلك قوله سبحانه:( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) ( الحجّ / ٢٨ ). و( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا ) ( النور / ٢ ).( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) ( الفرقان / ٧٢ ).

فمعنى كونه سبحانه « شهيداً » على كل شيء أنّه لا يخفى على الله منه شيء كما صرّح وقال:( فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) ( طه / ٧ ) ومع ذلك لأنّه ليس بينه وبين

__________________

(١) لاحظ النساء / ٣٣ و ٧٩ و ١٦٦، المائدة / ١١٣ و ١١٧، الأنعام / ١٩، يونس / ٢٩ و ٤٦، الرعد / ٤٣، الإسراء / ٩٦، العنكبوت / ٥٢، الأحزاب / ٥٥، سبأ / ٤٧، فصّلت / ٥٣، الاحقاف / ٨، الفتح / ٢٨، المجادلة / ٦، البروج / ٩.

٢٨٧

خلقه حجاب، فحقيقة الشهادة عبارة عن فقدان الحجاب بين الشاهد والمشهود واحاطته به.

وبذلك يظهر: أنّ تقسيم الأشياء إلى الغيب والشهادة، تقسيم نسبي بالنسبة إلينا، وأمّا بالنسبة إليه فالأشياء كلّها مشهودات فلأجل ذلك يقول:( أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) والشهادة أمر اضافي له نسبة إلى الشاهد، ونسبة إلى المشهود، فلو كان شهيداً على كل شيء لكان الكل مشهوداً لا غائباً.

وبذلك يظهر أنّ ما نقل عن الكفعمي أحسن من غيره حيث يقول: « هو الذي لا يغيب عنه شيء أي كأنّه الحاضر الشاهد الذي لا يعزب عنه شيء، وكونه شاهداً لكل شيء، فوق كونه عالماً به، فإنّ العلم يتحقّق بحضور صورة الشيء عند العالم دون حضور نفسه، ولكن الشهادة أقوى وأوثق من العلم، بل المتبادر منها حضور الأشياء بوجودها الخارجي لدى الباري، وكيف والعالم فعله سبحانه وليس فعله غائباً عن ذاته ».

وهذا أولى ممّا نقل عن الغزالي وقال: يرجع معنى الشهادة إلى العلم مع خصوص اضافة فإنّه عالم الغيب والشهادة، والغيب عبارة عمّا يطلب، والشهادة عمّا ظهر وهو شاهد كليهما، فإذا اعتبر العلم مطلقاً فهو العليم، وإذا اُضيف إلى الغير والامُور الباطنة فهو الخبير، وإذا اُضيف إلى الاُمور الظاهرة فهو شهيد، وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منه.

هذا والأولى ما ذكرنا من أنّ توصيفه سبحانه بكونه عالماً للغيب والشهادة بملاك كونه شهيداً على كل شيء وعدم غيبوبة شيء عن ذاته بملاك آخر.

وإلى ما ذكرنا صرّح بعض المحقّقين وقال: « إنّ الشاهد المدرك يرى ما لا يرى الغائب، والحاضر المعاين المطّلع، يعلم ما لا يعلمه الغائب، وليس ذلك إلّا لأن معلوماته كلّها حاضرة عنده، مشاهدة معاينة مدركة له غير غائبة عنه، ففي

٢٨٨

اطلاق هذا الاسم عليه تعالى اشارة إلى أنّ علمه عزّ وجلّ بما سواه بالمشاهدة والحضور والادراك وليس شيء مما سواه من الأزل إلى الأبد غائباً عنه بل الكل حاضر عنده.

مع أنّ شيئاً ممّا سواه ليس معه مطلقاً من الأوّل إلى الأبد، وهذا ستر مستور. لا يعلمه إلّا هو ومن هو ملهم بإلهام الله تعالى شأنه، والغيب والشهادة إنّما يكونان بالنسبة إلى المخلوقات وعليه يحمل قوله عزّ وجلّ:( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) وإلّا فلا غيب ولا غائب عنده جلّ شأنه(١) .

__________________

(١) كاشف الاسماء في شرح الاسماء الحسنى، وقداشبعنا الكلام في الجزء الثالث عند البحث عن علم الغيب فلاحظ: ص ٣٧٧ ـ ٣٨١.

٢٨٩
٢٩٠

حرف الصاد

الخامس والسبعون: « الصمد »

قد ورد لفظ « الصمد » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له فيها قال سبحانه :

( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ *اللهُ الصَّمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

قال ابن فارس: الصمد له أصلان: أحدهما القصد والآخر الصلابة في الشيء.

فالأوّل يقال صمدته صمداً، وفلان صمد، إذا كان سيّداً يقصد إليه في الاُمور. والله جلّ ثناؤه الصمد لأنّه يصمد إليه عباده بالدعاء والطلب.

قال الشاعر :

علوته بحسام ثمّ قلت له

خذها حذيف فأنت السيّد الصمد

وقال طرفة في المصمّد :

وإن يلتقى الحي الجميع تلاقيني

إلى ذروة البيت الرفيع المصمّد(١)

وقال الراغب: الصمد: السيّد الذي يصمد إليه في الأمر، وقيل: الصمد: الذي ليس بأجوف.

__________________

(١) الشعر من معلقة طرفة المشهورة.

٢٩١

وقال الصدوق: الصمد معناه السيد، وللصمد معنى ثان وهو المصمود إليه في الحوائج(١) .

والظاهر أنّ المعنى الثاني من فروع الأوّل ومن لوازمه، لأنّ من لوازم كون الرجل سيّداً مطاعاً، كونه مقصوداً ومصموداً إليه في النوائب والحوائج.

ورواه في موضع آخر عن الامام الباقر٧ : الصمد: السيّد المطاع الذي ليس فوقه آمر وناه(٢) .

روى الكليني عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سألت أبا جعفر٧ عن شيء من التوحيد فقال: صمد قدّوس يعبده كلّ شيء، ويصمد إليه كلّ شيء، ووسع كلّ شيء علماً.

قال الكليني وهذا المعنى الذي قال٧ : إنّ الصمد هو السيّد المصمود إليه هو معنى صحيح.

قال أبو طالب في بعض ما كان يمدح به النبي٦ :

وبالجمرة القصوى إذا صمدوا لها

يؤمّون رضحا رأسها بالجنادل

وقال بعض شعراء الجاهلية :

ما كنت أحبّ أنّ نبيّنا ظاهراً

لله في أكناف مكّة يصمد

يعني يقصد.

وقال ابن الزبير :

ما كان عمران ذاغشّ ولا حسد

ولا رهيبة إلّا سيّد صمد

__________________

(١) التوحيد: ص ١٩٧.

(٢) التوحيد: ص ٩٠.

٢٩٢

والله عزّ وجلّ هو السيّد الصمد الذي جميع الخلق من الجن والانس إليه يصمدون في الحوائج، وإليه يلجأون عند الشدائد، ومنه يرجون الرخاء ودوام النعماء، ليدفع عنهم الشدائد(١) .

وإذا كان الله تعالى هو الموجد لكلّ ذي جود ممّا سواه فيقصده كلّ ما صدق عليه أنّه شيء غيره، ويحتاج إليه في ذاته وصفاته وآثاره، قال تعالى:( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) ( الأعراف / ٥٤ ). وقال:( وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ المُنتَهَىٰ ) ( النجم / ٤٢ ). فهو الصمد في كلّ حاجة في الوجود، لا يقصد شيء شيئاً إلّا وهو الذي ينتهي إليه قصده، وتنجح به طلبته، وتقضى به حاجته.

وإنّما دخلت اللام على الصمد لإفادة الحصر، فهو تعالى وحده الصمد على الاطلاق لما عرفت من أنّه ينتهي إليه قصد كلّ قاصد، وهو المقصود بالاصالة وغيره مقصود بالتبع.

وإنّما كرّر لفظ الجلالة وقال:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ *اللهُ الصَّمَدُ ) ولم يقل هو الصمد، أو لم يقل الله أحد صمد، فلعلّه للإشارة إلى أنّ كلا من الجملتين كاف في تعريفه تعالى فالمعرفة حاصلة بكلّ واحد.

وإنّما لم يدخل اللام على « أحد » فلعلّه لأجل ادعاء أنّه لا يطلق على غيره سبحانه فليس غيره أحد فلا يحتاج إلى عهد وحصر.

والآيتان تصفانه سبحانه بصفتي الذات والفعل، فالأحدية من صفات الذات وهي عينها، والصمدية من صفات الفعل حيث يصفه بانتهاء كلّ شيء إليه وهو من صفات الفعل.

هذا وقد نقل العلّامة المجلسي للفظ الصمد معاني كثيرة تناهز العشرين غير أنّ أكثرها ليست معناني متعدّدة بل يرجع إلى أنّه السيد المصمود، وقد ذكر الصدوق

__________________

(١) الكافي: ج ١، ص ١٢٤.

٢٩٣

أيضاً في تفسير( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) معاني مختلفة بحسب الظاهر غير أنّ أكثرها يرجع إلى ما ذكرنا، فروى عن عليّ٧ أنّه قال: « الصمد » الذي قد انتهى سؤدده، والصمد: الذي لا يأكل ولا يشرب، والصمد: الدائم الذي لم يزل ولا يزال.

وروى عن محمد بن الحنفية٢ أنّه كان يقول: الصمد: القائم بنفسه، الغني عن غيره، وقال غيره: الصمد: المتعالي عن الكون والفساد.

وروى عن عليّ بن الحسين زين العابدين٧ أنّه قال: الصمد: الذي لا شريك له ولا يؤده حفظ شيء ولا يعزب عنه شيء.

وروي أيضاً عنه٧ أنّه قال: الصمد: الذي أبدع الأشياء فخلقها أضداداً وأشكالاً، وأزواجاً وتفرّد بالوحدة بلا ضد ولا شكل ولا مثل ولا ندّ.

ولا يخفى أنّ هذه المعاني ليست معاني لغوية للفظ الصمد ولا نرى منها أثراً في المعاجم، وإنّما هو من لوازم كون الشخص سيّداً مصموداً لكلّ شيء، فلازم ذلك أن ينتهي سؤدده وأن لا يكون له شريك ولا يؤده حفظ شيء إلى غير ذلك مما ورد في هذه التفاسير.

نعم ربّما يفسّر بالمصمّت الذي ليس بأجوف فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يلد ولا يولد وقد ورد تفسيره به في بعض الروايات وعلى ذلك فيكون قوله:( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ) تفسيراً للصمد، وهناك حديث رواه الصدوق بسنده عن الحسين بن عليّ٨ فمن أراد فليرجع إليه(١) .

__________________

(١) كتاب التوحيد: باب معنى قل هو الله أحد، الحديث ٣ ـ ٤ ـ ٥ ـ ٦ ـ ٧ ـ ٨.

٢٩٤

حرف الظاء

السادس والسبعون: « الظاهر »

وقد مرّ تفسيره عند تفسير إسم « الباطن » فراجع.

حرف العين

السابع والسبعون: « عالم الغيب والشهادة »

لم يقع لفظ « عالم » وصفاً له سبحانه في الذكر الحكيم إلّا مضافاً تارة إلى الغيب والشهادة، واُخرى إلى الغيب وحده، وثالثة إلى غيب السموات والأرض، فقد جاء « عالم الغيب والشهادة » عشر مرّات، و « عالم الغيب » مرّتين، و « عالم غيب السموات والأرض » مرّة واحدة، والكلّ يشير إلى علمه الوسيع لكل شيء سواء أكان مشهوداً للناس بالأدوات الحسّيّة أو كان غائباً عنهم إمّا لامتناع وقوعه في إطار الحسّ أو لضعف الحسّ.

توضيحه: انّ الغيب يقابل الشهود فما غاب عن حواسنا وخرج عن حدودها فهو غيب سواء أكان قابلاً للإدراك بالحواسّ كالحوادث الواقعة في غابر الزمان، والمتكوّنة حاليّاً، الغائبة عن حواسّ المخبر، أم كان ممّا يمتنع ادراكه بالحسّ لعدم

٢٩٥

وقوعه في اُفقه كذاته سبحانه وصفاته إلى غير ذلك من عوالم الغيب كالوحي والنبوّة فالله سبحانه عالم بالجميع من غير فرق بين المشهود وغيره(١) .

قال سبحانه:( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ ) ( الرعد / ٩ ).

وقال سبحانه:( قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلا أَكْبَرُ إلّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( سبأ / ٣ ). وقال سبحانه:( إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( فاطر / ٣٨ ).

لا شك أنّ هذه الآيات بصدد حصر العلم بالغيب والشهادة له، وهناك سؤال يطرح نفسه بل سؤالان :

١ ـ كيف يصحّ حصر « العلم » بالغيب والشهادة مع أنّ العلم بالشهادة متاح لكلّ من اُعطي واحداً من أدوات الحسّ.

٢ ـ دلّ قسم من الآيات على أنّ الأنبياء والأولياء كانوا يعلمون الغيب ويخبرون عنه، فهذا العلم بالغيب كيف يجتمع مع حصره في الله سبحانه ؟

والجواب: إنّ ما يجري على الله سبحانه من صفات ونعوت يختلف عمّا يجري على غيره لا بمعنى أنّ للعلم ـ مثلاً ـ معنيين مختلفين يجري على الواجب بمعنى وعلى الممكن بمعنى آخر فإنّ ذلك باطل بالضرورة، ومثله الحياة والقدرة بل المراد اختلاف المحمول عند الجري على الواجب والممكن اختلافاً في كيفيّة الجري والإتّصاف، فإنّ العلم منه واجب، ومنه ممكن، ومنه ذاتي، ومنه اكتسابي، منه مطلق ومرسل عن القيود، ومنه مقيّد محدود، منه ما هو عين الذات بلا تعدّد بين الوصف والموصوف، ومنه ما هو زائد على الذات، ومن المعلوم أنّ

__________________

(١) وقد أشبعنا الكلام في حقيقة الغيب والشهود في الجزء الثالث من هذه الموسوعة لاحظ: الفصل السادس ص ٣٧٥ ـ ٣٨٢.

٢٩٦

ما يجري على الواجب، هو القسم الأشرف وما يجري على الممكن هو القسم الأخسّ فعند ذلك يظهر صحّة اختصاص العلم بالغيب والشهادة بالله سبحانه، فإنّ العلم الواجب، المطلق، الذي هو عين الذات، يختصّ به سبحانه، سواء أتعلّق بالغيب أم بالشهادة وأمّا علم الغير بالشهادة فانّما هو علم ممكن لا واجب، محدود لا مطلق، زائد على الذات لا عينه فلا يضر ثبوته لغيره مع حصر مطلق العلم، سواء أتعلّق بالغيب أم بالشهادة عليه سبحانه.

وقد تقدّم في الجزء الثالث عند البحث عن اختصاص العلم بالغيب بالله سبحانه ما يفيدك في هذا المقام(١) .

وعلى ذلك فالعلم المختصّ بالله سبحانه إنّما هذا النوع من العلم لا غيره.

وبذلك يعلم جواب السؤال الثاني فإنّ اطّلاع الأنبياء على الغيب بإذن منه سبحانه لا يضرّ بحصر علم الغيب على الله فإنّ المحصور من العلم، غير المشترك.

الثامن والسبعون: « عالم غيب السموات والأرض »

قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( فاطر / ٣٨ ). وقد تقدّم تفسيره في الاسم السابق.

التاسع والسبعون: « علاّم الغيوب »

وقد ورد في الذكر الحكيم أربع مرّات.

قال سبحانه: حاكياً عن المسيح:( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / ١١٦ ).

__________________

(١) المصدر نفسه.

٢٩٧

وقال سبحانه:( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( التوبة / ٧٨ ).

وقال سبحانه حاكياً عن الرسل:( قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / ١٠٩ ).

وقال:( إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( سبأ / ٤٨ ).

وحصر هذا الاسم على الله سبحانه حصر حقيقي مضافاً إلى أنّ علم الواجب غير محدود كوجوده، وعلم الممكن محدود، وأنّ علم غيره سبحانه بالغيب بما أنّه يتوقّف على إذنه سبحانه وتعلّق مصلحة عليه، قليل في ذاته فضلاً عن إذا قيس إلى علم الواجب بالغيب.

الثمانون: « العليم »

قد ورد لفظ « العليم » في القرآن ١٦٢ مرّة، ووقع وصفاً له في الجميع إلّا في الموارد التالية:( إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) ( الأعراف / ١٠٩ )،( يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ) ( الأعراف / ١١٢ )،( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ( يوسف / ٥٥ )،( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) ( يوسف / ٧٦ )،( قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) ( الحجر / ٥٣ )،( إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) ( الشعراء / ٣٤ ).

وأمّا في غير هذه الموارد، فقد جاء وصفاً له سبحانه، وقورن بالصفات التالية: الحليم، الواسع، السميع، الشاكر، القدير، العزيز، الخبير، الفتّاح، الخلاّق.

وقد وقفت على معنى العلم في البحث السابق، وبما أنّ العلم والقدرة من أبرز الصفات الثبوتيّة وجب علينا البحث عن اُمور يرجع إلى علمه سبحانه أو إلى قدرته، فلأجل ذلك قد أسهبنا البحث في هذين الوصفين، وآثرنا الاختصار في غيرهما، فنقدّم فهرس البحوث الواردة فيه مستقلاًّ.

٢٩٨

العلم

ما هو حقيقة العلم ؟

التعريف المعروف للعلم.

نقد هذا التعريف من وجوه :

أوّلاً: عدم شموله لبعض أنواع العلم.

تقسيم العلم إلى الحضوري والحصولي.

نماذج من العلم الحضوري.

أ ـ نفس الصورة العلمية.

ب ـ علم الإنسان بذاته.

ج ـ علم الإنسان بالمشاعر النفسية.

د ـ علم العلّة بمعلولها.

ثانياً: عدم شموله للمعقولات المنطقية.

نماذج من المعقولات المنطقية.

أ ـ مفهوم الإنسان الكلّي.

ب ـ مفهوم الجنس والفصل.

ثالثاً: عدم شموله للمحالات والمعدومات.

رابعاً: عدم شموله للأرقام الرياضية.

نكتة هامة ليس كلّ انعكاس علماً.

اجابة عن سؤال.

تعريف العلم بوجه آخر ( التعريف المختار ).

٢٩٩

علمه سبحانه بذاته.

الدليل الأوّل: معطي الكمال ليس فاقداً له.

الدليل الثاني: عوامل الغيبة منتفية عن ساحته سبحانه.

دليل النافين لعلمه سبحانه.

علمه سبحانه بالأشياء قبل إيجادها.

أدلّة ذلك العلم.

الدليل الأوّل: العلم بالحيثيّة الموجبة للمعلول علم به.

الدليل الثاني: بسيط الحقيقة كلّ الأشياء.

علمه سبحانه بالأشياء بعد ايجادها.

الدليل الأوّل: قيام بالاشياء بذاته لا ينفك عن علمه بها.

الدليل الثاني: سعة وجوده دليل على علمه بالأشياء.

الدليل الثالث: اتقان المصنوع آية على علم الصانع.

مراتب علمه سبحانه.

شمول علمه سبحانه للجزئيات.

أهم الأقوال في هذا المجال.

القول المختار ودلائله.

التعبير القرآني الرفيع عن سعة علمه سبحانه.

دلائل النافين لعلمه سبحانه بالجزئيات ونقدها.

٣٠٠

ما هي حقيقة العلم ؟

لقد عُرِّف العلم بأنّه صورة حاصلة من الشيء على صفحة الذهن.

وبعبارة أُخرى: هو انعكاس الخارج إلى الذهن، عند اتصال الإنسان بالخارج.

وهذا التعريف انتزعه الحكماء من كيفيّة حصول العلم للإنسان عند اتّصاله بالخارج، إذ لا شكّ أنّ الخارج لا يمكن أن يقع في اُفق الذهن بنفس واقعيّته وحقيقته وعينيّته، وإلّا لزم أن ينتقل كلّ ما للوجود الخارجي من الأثر إلى عالم الذهن، وإنّما ينتقل إليه بصورته المنتزعة منه عن طريق أدوات المعرفة من الحواس الخمس.

وبالتالي: إنّ العلم هو الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل.

غير أنّ هذا التعريف ناقص من جهات شتّى نشير إلى بعضها :

أوّلاً: عدم شموله لبعض أنواع العلم

إنّ العلم ينقسم إلى قسمين: حصولي وحضوري، وإليك بيانهما :

لو كان الشيء حاضراً عند « العالم » بصورته وماهيّته لا بوجوده الخارجي، فالعلم « حصولي ».

ولو كان المعلوم حاضراً لدى « العالم » بواقعيّته الخارجيّة من دون توسيط صورة بين الواقعيّة والعالم، فالعلم « حضوري »(١) .

__________________

(١) وستقف على مراتب العلم الحضوري.

٣٠١

ولمزيد من التوضيح نقول: إنّ الإنسان عند ما يطلّ بنظره إلى الخارج ويلاحظ ما يحيط به في هذا الكون، يشاهد شجراً وحجراً، وناراً وثلجاً، وبحراً وجبلاً، وشمساً وقمراً، فهناك :

مدرِك ـ بالكسر ـ هو الإنسان وشيء في الخارج وهو المدرَك ـ بالفتح ـ وصورة متوسطة منتزعة من الشيء الخارجي تنتقل إلى مركز الإدراك، عبر أدوات الاحساس والمعرفة.

وبما أنّ الحاضر ـ عندنا ـ ليس هو ذات القمر والشمس أو النار والثلج بوجودهما الخارجيين، وإنّما الحاضر ـ عندنا ـ وفي ذهننا هو « الصورة » المنتزعة الحاصلة من الخارج يسمى الشيء الخارجي « معلوماً بالعرض » والصورة الذهنية الحاكية للخارج « معلوماً بالذات » لأنّ الخارج معلوم بوساطة هذه الصورة، ولولاها لانقطعت صلة الإنسان بالخارج، والواقع الخارجي.

وأمّا قولنا: بأنّ الخارج ليس حاضراً عندنا بواقعيّته الخارجيّة فهو أمر واضح لأنّ الذهن غير قادر على تقبّل الشيء بواقعيته الخارجية الحارة، الباردة الخشنة، الثقيلة إلى غير ذلك من الآثار المحمولة على الخارج.

وهذا هو العلم الحصولي، وعلى ذلك ينطبق التعريف المذكور مطلع هذا البحث.

وهناك نوع آخر من العلم يسمّى بالعلم الحضوري وهو عبارة عن حضور نفس المعلوم بواقعيّته الخارجيّة عند الذهن لا بصورته ومفهومه.

وعند ذلك ينقلب التثليث(١) المذكور في تعريف « العلم الحصولي » إلى تقسيم ثنائي فلا يكون ثمّة مدرِك ـ بالكسر ـ ومدرَك ـ بالفتح ـ بواقعيته الخارجية وصورة ومفهوم منها بل يكون مدرِك ـ بالكسر ـ ومدرك، وربّما يكون اُحاديّاً كما

__________________

(١) الانسان المدرك والشيء الخارجي وصورته الذهنية.

٣٠٢

سيوافيك بيانه.

نماذج من العلم الحضوري

أ. نفس الصورة الحاصلة في الذهن، الحاكية للواقع الخارجي، فإنّ علم الإنسان بالخارج يتحقّق بتوسط هذه الصورة.

أمّا نفس الصورة فهي معلومة بالذات من دون توسّط شيء بين الذهن وتلك الصورة المدركة.

فالخارج وإن كان معلوماً عبر هذه الصورة وبواسطتها، إلّا أنّ نفس الصورة معلومة بذاتها لدى النفس حاضرة في حورتها.

ب. علم الإنسان بذاته: فإنّ ذات الإنسان حاضرة بذاتها لديه، وليست ذاته غائبة عن نفسه، فهو يشاهد ذاته مشاهدة عقليّة ويحس بها احساساً وجدانيّاً، ويراها حاضرة لديه من دون توسّط شيء بين الإنسان وذاته من قبيل الصورة المنتزعة عن الخارج.

وفي هذه الحالة ينقلب التقسيم الثنائي المذكور في القسم الأوّل من « العلم الحضوري » إلى حالة احادية، وهي وحدة العاقل والمعقول، والعالم والمعلوم.

فالإنسان ـ في هذه الحالة ـ هو العالم وهو المعلوم في وقت واحد وبهذا يتّحد المدرِك والمدرَك وهذا يفيد: إنّ ذات الإنسان علم وانكشاف وليس بين الذات ونفسه أيّ إبهام وحجاب.

قال الحكيم السبزواري في منظومته :

وحصولي كذا حضوري

في الذات ما الحضور بالمحصور

فأوّل صورة شيء حاصله

للشيء والثاني حضورالشيء له(١)

__________________

(١) المنظومة قسم الفلسفة: ص ١٤٣.

٣٠٣

إذا وقفت على هذا عرفت بأنّ علم الإنسان بذاته علم حضوري، إذ لا تغيب ذات الإنسان ونفسه عن نفسه.

وبهذا تقف على ضعف ما نقل عن الفيلسوف الفرنسي « ديكارت » حيث أراد الاستدلال على وجود نفسه بكونه مفكراً إذ قال: « أنا اُفكر فإذن أنا موجود » حيث استدلّ بوجود التفكّر على وجود المفكّر وهو نفسه.

فإنّ هذا الإستدلال خال عن الإتقان لوجهين :

أوّلاً: إنّ علم الإنسان بوجود نفسه علم حضوري وضروري لا يحتاج إلى البرهنة عليه والاستدلال بشيء، فليس علم الإنسان بتفكّره أقوى وأوضح عنده من علمه بذاته ونفسه.

وثانياً: إنّ « ديكارت » اعترف بالنتيجة التي سعى إليها في مقدمة كلامه وجملته، إذ قال: أنا اُفكر فإذن أنا موجود.

فقد أخذ وجود نفسه ( التي عبر عنها ب‍ « أنا » ) أمراً مفروضاً واقعاً مسلّماً بينما هو يريد الاستدلال على وجود « أنا » وهذا من باب قبول النتيجة قبل الاستدلال عليها.

فالحقّ هو أنّ « علم الإنسان بذاته » وأنّه أمر موجود وحقيقة كائنة بنحو من الانحاء لا يحتاج إلى البرهنة والاستدلال أصلاً.

ج. علم الإنسان بالمشاعر النفسية: إنّ الآلام والأفراح التي تحيط بالإنسان جميعها معلومة للإنسان بالعلم الحضوري الذاتي، فإنّ هذه الأحاسيس والمشاعر حاضرة بوجودها الخارجي لدى الإنسان من دون حاجة إلى أخذ صورة عنها.

د. علم العلة بمعلولها: إنّ علم العلّة بمعلولاتها ليس علماً حصولياً بل علم حضوري لما سيوافيك من أنّ نسبة وجود المعلول إلى العلّة كنسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي، وإنّ المعلول بوجوده وهويته الخارجية قائم بعلّته. والمراد من

٣٠٤

العلّة، هو الفاعل الالهي أي معطي الوجود.

وما هو هذا حاله لا يمكن غيابه عن العلّة، ولا يمكن عدم حضوره في ساحته، وهو عبارة اُخرى عن علم العلّة بمعلوله. وسيوافيك توضيحه في محله.

هذه هي بعض أقسام العلم الحضوري ونماذجه وقد أتينا بهذا القدر على سبيل المثال لا الحصر.

فاتّضح ـ بما ذكرناه ـ أنّ التعريف الذي مرّ عليك في مطلع هذا البحث تعريف غير شامل لأفضل أنواع العلوم وأسناها.

ثانياً: عدم شموله للمعقولات الثانية المنطقية

إنّ نقص التعريف الماضي لا يختصّ بما ذكر بل هناك نقص آخر وهو عدم شموله للمعقولات الثانية المنطقيّة.

وتوضيح ذلك: انّ ما يرد إلى الذهن ينقسم إلى معقولات أوّليّة، ومعقولات ثانية(١) . فكلّ مفهوم له فرد واقعي في خارج منه تؤخذ الصورة وتنتزع حتى ترد إلى حوزة النفس، ومجال الذهن فهو معقول أوّل، وذلك كالألوان وما شاكل ذلك.

وكلّ مفهوم لا نجد له فرداً خارجيا غير أنّه يقع في اُفق النفس بتعاملات ذهنيّة وذلك مثل المفهوم الكلّي والنوع والجنس والمعرّف والحجّة، وغير ذلك من المفاهيم التي تعد موضوعات للمسائل المنطقية(٢) .

فإنّ كلّ واحد من هذه المفاهيم، مفاهيم ذهنية ليس لها مصاديق في الخارج

__________________

(١) والمعقولات الثانية تنقسم الى معقولات ثانية منطقية ومعقولات ثانية فلسفية والكل خاص.

(٢) قال الحكيم السبزواري :

إن كان الاتصاف كالعروض في

عقلك فالمعقول بالثاني صفي

٣٠٥

بحيث ينتزع هذا المفهوم من ذلك الشيء الخارج، وإنّما يصفه الذهن بتعامل فكري قد أوضحه المحققون في محلّه.

لا أقول: إنّ هذه المفاهيم من مصنوعات الذهن، ومفتعلاته التي لا صلة لها بالخارج أبداً، لأنّ كلّ ما في الذهن لابدّ وأن يرجع بنحو من الأنحاء إلى الخارج ولكن كون الخارج مبدأً لوقوع هذه المفاهيم في الذهن، غير وجود مصداق خارجي له.

ونأتي هنا بأمثلة :

أ ـ مفهوم الإنسان الكلّي :

فإنّ هذا المفهوم المقيّد بالكلّية ليس له وجود إلّا في محيط الذهن، فإنّ الإنسان وإن كان موجوداً في الخارج لكنّه جزئي متشخّص، بخلاف مفهوم الإنسان الذي له سعة أن يشمل كلّ فرد من أفراده، والمفهوم بهذه السعة غير موجود إلّا في الذهن، فإنّ كلّ ما في الخارج أمر جزئي متشخّص ومتعيّن، والمفهوم الكلّي الوسيع خال عن التشخّص والتعيّن، بدليل صدقه على هذا المتشخّص، وذاك المتعيّن ومع ذلك فهذا المفهوم الكلّي يصنعه الذهن بمقايسة بعض الأفراد ببعض، وانتزاع المشتركات منها.

وعلى الجملة فهذا المفهوم ( أي مفهوم الإنسان الكلّي ) معلوم لنا، والنفس واقفة عليه، غير أنّه ليس من قبيل « الصورة الحاصلة من الشيء في الذهن » وإنّما هو من مخلوقات الذهن ومصنوعاته بعد اتّصاله بالواقع الخارجي، ومشاهدة أفراده ومصاديقه.

٣٠٦

ب ـ مفهوم الجنس والنوع :

إنّ المنطق يبحث عن مفاهيم، مثل النوع والجنس، والمعرّف، والحجّة، وغير ذلك من المفاهيم التي تعد موضوعات لذلك العلم.

فالنوع عبارة عن مفهوم يحكي عن القدر المشترك بين أفراد متّحدة الحقيقة كالإنسان والجنس عبارة عن تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثّرة بالحقيقة في جواب ما هو كالحيوان.

ومن المعلوم أنّ القدر المشترك، سواء أكان قدراً مشتركاً لمتّفقة الحقيقة أو لمختلفتها لا يمكن أن يكون له مصداق في الخارج، لأنّ الخارج طرف للتعيّن والتشخّص، فما لزيد من الإنسانيّة فهو يختصّ به، وما لعمرو منها فهو له خاصّة أيضاً، ولا يعد كلّ ما يختصّ قدراً مشتركاً، وإنّما القدر المشترك هو المفهوم الذهني الذي لا يتشخّص، ولا يتقرّر بعنوان فرد من الأفراد، ولأجله يقدر أن يحكي عن كلا الفردين، بسعة مفهومه وعموميّة معناه.

فلأجل ذلك لا يوجد لهذه المفاهيم موطن إلّا الذهن، وليس له مصداق إلّا فيه، ومع ذلك فهو يحكي بنحو من الأنحاء عن الخارج، ويؤخذ منه بشكل من الاشكال، لكن الحكاية عن الخارج، غير كون الخارج مصداقاً له، كما أنّ أخذه من الخارج بمقايسة الأفراد بعضهم ببعض غير كونه مأخوذاً من الخارج مباشرة

وبذلك يعلم أنّ المعرِّف بما هو أمر كلّي يعرف أمراً كلّياً ليس له موطن إلّا في الذهن كالحيوان الناطق المعرّف للإنسان، وهكذا الحجّة بما هو قضايا كلّيّة يستدلّ بها على قضية كلّية اُخرى لا موطن لها إلّا الذهن.

فإنّ الاستدلال عبارة عن الانتقال عن العلّة إلى معلوله أو منه إلى علّته أو من اللازم إلى اللازم فكلّ هذه الاُمور قضايا كلّية تهدينا إلى قضية كلّية اُخرى.

٣٠٧

فقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، حجّة على قولنا: العالم حادث. فتحصل أنّ هناك علوماً ذهنيّة ليست صوراً متّخذة من الخارج، ولا حاصلة منه.

وعلى هذا يجب أن يعرّف « العلم » بنحو يشمل هذا النوع أيضاً، وإلّا كان ناقصاً كما عرفت.

ثالثاً: عدم شموله للمحالات والمعدومات

لا شكّ أنّ النفس كثيراً ما تتصوّر مفاهيم ممتنعة، وتقضي بأنّها لا يمكن أن تتحقّق في الخارج أبداً، وذلك مثل الدور، والتسلسل، واجتماع النقيضين، والضدّين.

فهذه معلومات نفسانيّة يقف عليها الإنسان، مع أنّها ليست صوراً متّخذة من الخارج ولا منتزعة من شيء في الواقع الخارجي، وإلّا يلزم عدم امتناعها.

رابعاً: عدم شموله للأرقام الرياضية

إنّ الإنسان يتصوّر أرقاماً بعد الواحد إلى المئات والاُلوف، وهذه مفاهيم علميّة للنفس تستخدمها في العلوم الرياضيّة والهندسيّة مع أنّها ليست منتزعة من الخارج كما تؤخذ صورة زيد عن وجوده الخارجي.

فإنّ الموجود في الخارج هو الآحاد، وأمّا العشرة أو المائة أو الألف بهذه المفاهيم المتكثّرة فهي ممّا تصنعه النفس.

فإنّ النفس تصنع هذا المركّب بعد مشاهدة الأفراد من دون أن يكون للمركّب مصداق وراء الآحاد فلو حضر في البيت عشرة رجال، فالموجود ـ في الحقيقة ـ هو الآحاد، وليس وراء ذلك، أيّ موجود باسم المركّب، وإلّا كانت العشرة أحد عشر.

٣٠٨

نكتة يجب التنبيه إليها

إنّ مجرد انعكاس الصورة من الخارج في الذهن، سواء قلنا بمادّيتها أو بتجرّدها عن الماديّة، لا يعادل العلم، ولا يساوقه، وإلّا لكانت الصورة المنعكسة في المرايا علماً، والمرآة عالمة، بل يجب أن يكون هناك أمر آخر وهو لزوم نوع وحدة بين الصورة وحاملها وعينيّة بين العلم بالذات والعالم، بحيث تعد الصورة من مراتب وجود العالم، ومظهراً من مظاهر وجوده.

وهذه الحقيقة هي الّتي حقّقها الفلاسفة في البحث عن اتّحاد العاقل والمعقول، والمراد من العاقل هو الإنسان العالم بالشيء، ومن المعقول هو الصورة الذهنيّة.

فيجب أن يكون وجود الصورة بوجه يتّحد مع النفس، اتّحاد العرض مع جوهره في الوجود، وإلّا فلو عدّت النفس ظرفاً للصورة، والصورة شيئاً موجوداً فيه، كانت أشبه شيء بالصورة المنعكسة في المرايا.

إجابة عن سؤال :

لقد اتّضح ممّا ذكرنا: إنّ الصور الذهنية على نوعين :

١. صور منتزعة من الخارج، ومأخوذة عنها مباشرة.

٢. صور غير منتزعة من الخارج، وإنّما تعدّ من صنائع النفس ومخلوقاته، وعلى هذا فينطرح السؤال التالي :

إنّ الله سبحانه يقول:( وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( النحل / ٧٨ ).

والآية صريحة في أنّ مفاتيح العلم، وصيرورة الإنسان غير العالم عالماً هو « الحواس » ومع ذلك فكيف يمكن أن يقال إنّ هناك مفاهيم وصور معلومة للإنسان

٣٠٩

غير واردة إلى الذهن من الخارج عند اتّصاله به.

الجواب :

لا شك انّ كلّ ما يقف عليه الإنسان وليد صلته بالخارج وارتباطه به، فلو ولد الإنسان فاقداً لحواسّ تربطه بالخارج، لما انقدح ولا ظهر في ذهنه شيء، ولأجل ذلك يقول الفيلسوف الإسلامي « أبو علي »: « من فقد حسّاً فقد علماً »(١) .

ويقول « جون لاك »: « ليس في العقل شيء إلّا وقبله في الحسّ شيء آخر ».

ومع هذا فإنّ المفاهيم على قسمين :

١. ما تؤخذ مباشرة من الخارج، ويكفي في هذا القسم مجرّد الارتباط، كالصورة الواردة إلى الذهن، من الحجر والشجر، والقلم، والمنضدة وما شاكل ذلك.

٢. ما لا يؤخذ من الخارج بهذا النحو، غير أنّ ارتباط الإنسان بالخارج واتّصاله به يهيئه ويعطيه استعداداً لأن يصنع هذه المفاهيم الكلّية، بحيث لولا تلك الصلة لما استطاعت النفس البشرية أن تصنع تلكم المفاهيم.

وهذا مثل تصوّر « الإنسان الكلّي »، فهذا المفهوم وإن لم يكن منتزعاً من الخارج كانتزاع صورة القلم عنه، غير أنّ صلة الإنسان بهذا الفرد من البشر، وذاك الفرد يعطيه قدرة لأن يصنع في محيط الذهن « مفهوماً كلّياً » قابلاً لأن يحكي عن كلّ ما يمكن أن يعدّ قدراً مشتركاً.

وبهذا الشكل يستطيع الإنسان أن يأخذ كثيراً من المفاهيم الّتي ليس لها

__________________

(١) قد استفيض نقل هذا الكلام عن الشيخ الرئيس.

٣١٠

مصاديق واقعيّة في الخارج، غير أنّ صلة الإنسان بالخارج توفّر له مقدرة على صنعها، وذلك مثل كثير من المفاهيم كالمحالات والممتنعات والأرقام الرياضية بل المفاهيم الاعتبارية ـ على ما هو محقّق في محله ـ.

تعريف العلم بوجه آخر

إنّ أصحّ التعاريف واتقنها هو أن يقال: إنّ العلم عبارة عن « حضور المعلوم لدى العالم ».

ليس الهدف من التعريف، التعريف الحقيقي حتّى يؤخذ عليه بأنّه مستلزم للدور لأخذ المعرِّف، جزءاً للمعرَّف وإنّما الهدف الاشارة إلى واقعيّة العلم بوجه من الوجوه وإنّ ماهيّته حضور ما وقف عليه الإنسان عند النفس فحقيقة العلم، حضور شيء لدى شيء.

وهذا التعريف يشمل العلم بقسميه الحصولي والحضوري.

غير أنّ الحاضر في الأوّل هو الصورة، ونفس المعلوم بالذات دون المعلوم بالعرض، أي الواقعيّة الخارجيّة.

وفي الثاني نفس الواقعيّة ( الخارجية أو الذهنية » من دون توسّط صورة بين العالم والمعلوم، فلا ترد الاشكالات الّتي وردت على التعريف الأوّل.

وهذا يشمل علم الإنسان بذاته، فإنّ ذات كلّ إنسان حاضرة لديه، غير غائبة عنه كما هو مقرّر في أدلّة تجرّد النفس.

فالذات بما هي واقفة على نفسها تعدّ « عالماً »، وبما أنّها مكشوفة لنفسها غير غائبة عنها تعد « معلوماً » وبما أنّ هناك حضوراً لا غيبوبة تتحقق ثمّة واقعيّة للعلم.

وهذا التعريف تعريف جامع يشمل كلّ أنواع العلوم الحاصلة في الممكن والواجب، ويدخل تحته علم النفس، بنفس الصورة الذهنية، فإنّها بواقعيّتها الذهنيّة

٣١١

حاضرة لديها بلا توسيط صورة بينها وبين الصورة.

إذا وقفت على هذه المقدمات فاعلم أنّ البحث في علمه سبحانه تارة يقع في علمه بذاته، وثانياً في علمه بالأشياء.

فلنقدّم البحث الأوّل على الثاني.

علمه سبحانه بذاته :

فنقول: المراد من علمه سبحانه بذاته، ليس علمه بها على نحو العلم الحصولي، بمعنى أخذ صورة عن الذات ومشاهدتها عن طريق الصورة، لأنّ العلم بها عن هذا الطريق محال في حقّه سبحانه، لأنّ انتزاع الصورة فرع التعرّف على المنتزع، فلو كان التعرّف عليها عن طريق انتزاع الصورة لزم الدور.

وإن قيل تقدّم الصورة الحاكية عن الذات، يلزم تركّبه من صورة وذيها.

بل المراد حضور ذاته لدى ذاته ويمكن اثباته بوجهين :

الدليل الأوّل: لا شك إنّه سبحانه مبدئ لموجودات عالمة بذواتها، أي حاضرة لديها بنفسها كالإنسان فلابدّ أن يكون سبحانه المعطي لذلك الكمال واجداً له بأتمّ وجه وأفضله، إذ لا يمكن أن يكون معطي الكمال فاقداً له، فهو واجد لهذه الصفة، وذاته حاضرة لديه بأحسن ما يكون من معنى للحضور.

ونحن وإن كنّا لا نحيط بكيفيّة علمه وخصوصيّة حضور ذاته لديه سبحانه، غير انّا نشير إلى هذا العلم ب‍ « حضور ذاته لديه وعلمه بها من دون وساطة شيء في البين أبداً ».

وخلاصة القول بأنّه كيف يسوغ عند ذي فطرة إنسانيّة أن يكون واهب كمال ما، ومفيضه، قاصراً عن ذلك الكمال ؟ فيكون المستوهب أشرف من الواهب، والمستفيد أكرم من المفيد، وحيث ثبت استناد جميع الممكنات إلى ذاته ( تعالى ) التي هي وجوب صرف وفعليّة محضة ومن جملة ما يستند إليه هي الذوات العالمة ،

٣١٢

والمفيض لكلّ شيء أوفى بكلّ كمال، لئلا يقصر معطي الكمال عنه، فكان الواجب عالماً، وعلمه غير زائد على ذاته(١) .

الدليل الثاني: لا شكّ أنّ الموجود المادي ـ بما له من وجود مادي ـ تغيب بعض أجزائه عن بعضه.

فالمادة بما أنّها متكمّمة ( أي لهاكم ) ذات أبعاض وأجزاء ولا يكون لها وجود جمعي لا يجتمع مجموع أجزائها في مقام واحد.

وبعبارة اُخرى: إنّ الكائن المادي بملاحظة كونه متكمِّماً متفرّق الأجزاء ولهذا تغيب بعض أجزائها عن البعض الآخر.

كما أنّه بحكم كونه موجوداً زمانياً تدريجياً وذا وجود سيّال، متدرّج في عمود الزمان يقع بعضه في ما مضى من الزمان وبعضه الآخر في الحال، وبعضه في المستقبل ولهذا لا يمكن أن يحصل ذاته بجميع أبعادها وخصوصيّاتها لديه جملة واحدة.

وبذلك تكون غيبة المادة زماناً وأبعاضاً أمراً مضاداً مع حضور الذات، وما ذلك إلّا لكون المادة ـ كما أسلفنا ـ شيئاً متكمّماً ذات كمّية وذات أجزاء وأبعاض، أو زمانيّاً واقعاً بعضه في زمان، وبعضه الآخر في زمان آخر.

وهذا يعني: إنّ التبعّض، والتدرّج موانع وحواجب تحجب الشيء عن نفسه، وتمنع من علم الشيء بكلّ ذاته.

وأمّا اذا كان الموجود منزّها عن عوامل الغيبة هذه، كما لو كان مجرّداً منزّهاً عن المادة والماديّة وعن التبعّض العنصري المكاني، أو التدرّج الزماني بل كان وجوداً بسيطاً من غير أن يكون له أجزاء وأبعاض وأطراف، كانت ذاته حاضرة لديه

__________________

(١) الاسفار: ج ٦، ص ١٧٦.

٣١٣

حضوراً كاملاً، مطلقاً.

وذلك مثل حضور النفس عند ذاتها وعلمها بذاتها وبقواها، فإنّ حضور ذاتنا عند ذاتنا لايراد منه حضور أبعاض جسمنا، بعضها عند بعض، بل المراد حضور الإنسان المعبّر عنه بلفظة ( أنا ) المجرّد عن الزمان والمكان، المنزّه عن التكمّم والتدرّج.

فلو فرضنا موجوداً في صعيد أعلى من التجرّد والبساطة وأتم تجرداً من النفس وعارياً عن عوامل غيبة الذات عن نفسها، التي هي من خصائص الكائن المادي، كانت ذاته حاضرة لديه، وهذا يعني علم الله سبحانه بذاته، فإنّه بمعنى حضور ذاته لدى ذاته بأتمّ وجه وأكمل.

وأنت أيّها القارئ الكريم إذا أمعنت النظر في ما تلوناه عليك يسهل لك نقد ما استدل به على عدم علمه بالذات، وإليك بيانه :

العلم بالذات يستلزم التغاير بين العلم والمعلوم

استدل النافون لعلمه سبحانه بذاته بأنّ العلم نسبة، والنسبة تتحقّق بين شيئين متغايرين وهما طرفان بالضرورة، ونسبة الشيء إلى نفسه محال إذ لا تغاير هناك.

وقد أجاب عنه المحقّق الطوسي في التجريد بقوله :

« والتغاير اعتباري »

توضيحه: « إنّ المغايرة قد تكون بالذات وقد تكون بنوع من الاعتبار، وهاهنا ذاته تعالى من حيث انّها عالمة مغايرة لها من حيث انّها معلومة، وذلك كاف في تعلق العلم »(١) .

__________________

(١) كشف المراد: ص ١٧٥.

٣١٤

وإن شئت قلت: « إنّ ذات الباري تعالى باعتبار صلاحيتها للمعلوميّة في الجملة مغايرة لها باعتبار صلاحيتها للعالميّة في الجملة وهذا القدر من التغاير يكفي لتحقّق النسبة »(١) .

وبعبارة ثالثة: إنّ الذات من حيث انّها عالمة مغايرة لها من حيث هي معلومة فصحّت.

وإلى ما ذكرنا يشير الفاضل المقداد من أنّ الصورة إنّما تعتبر في غير العلم بالذات كالعلم بالأشياء لا في العلم بالذات(٢) .

والحاصل: انّ التعدد والتغاير إنّما هو في العلم الحصولي ففيها الصور المعلومة غير الهوية الخارجيّة.

وأمّا إذا كان الذات بالذات نوراً وانكشافاً وعلماً وحضوراً فلا يشترط فيه التعدّد والتغاير بل يصحّ اطلاق العالم والمعلوم عليه بالحيثيتين.

فلأجل انكشاف ذاته لذاته يسمّى « علماً » وبحسب كون الذات مكشوفة تسمّى « معلوماً ».

وإن شئت قلت: باعتبار أنّه يدرك ذاته فلا تغيب ذاته عن ذاته فهو عالم.

وباعتبار أنّ الذات حاضرة لديه فهو معلوم.

وإلى ذلك يشير كلام أمير المؤمنين عليّ7 : « يا من دلّ على ذاته بذاته ».

إلى هنا تمّ الكلام في علمه سبحانه بذاته وحال حين البحث عن علمه بالأشياء وإليك البيان.

__________________

(١) شرح القوشجي: ص ٣١٣.

(٢) ارشاد الطالبين: ص ٢٠١.

٣١٥

٢ ـ علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد

إنّ علمه سبحانه بالأشياء يتصوّر على وجهين :

الأوّل: علمه بها قبل الإيجاد.

الثاني: علمه بها بعد الإيجاد.

وقد اتّفق الحكماء على علمه بها بعده، وإنّما اختلفوا في علمه بها قبله، فهم بين مثبت وناف، والمثبت بين كون علمه إجمالياً لا تفصيلياً، وكونه كشفاً تفصيليّاً في عين البساطة والاجمال وإليك براهين المثبتين :

الدليل الأوّل: العلم بالسبب بما هو سبب، علم بالمسبب

العلم بالعلّة بما هي علّة، والحيثيّة التي هي سبب لوجود المعلول، لا ينفك عن العلم بالمعلول ولتقريب الدليل نمثل بأمثلة :

أ: المنجّم العارف بالقوانين الفلكية والمحاسبات الجوية يقف على أنّ الخسوف أو الكسوف أو ما شاكل ذلك، يتحقّق عند الوقت أو الوضع الفلاني، وليس علمه بهذه المعلومات ناشئاً إلّا من العلم بالعلّة من حيث هي سبب لكذا وكذا.

ب: إنّ الطبيب العارف بحالات النبض وأنواعه، وأحوال القلب وأوضاعه، يقدر على التنبّؤ بما سيحدث لهذا المريض مستقبلاً إذا عرف بحالة قلبه أو وضع نبضه، وليس هذا العلم بالمعلول إلّا من طريق العلم بالعلّة من حيث هي علّة لكذا وكذا.

ج: والصيدلي العارف بخصوصيّة مائع خاص وكونه سمّاً قاتلاً لا يطيق الإنسان تحمّله سوى دقائق، يقف من العلم بهذه الخصوصيّة على أنّ شاربه سيقضي على حياته، بشربه ذلك المائع.

٣١٦

والله سبحانه لـمّا كان علّة للعالم إذ لا يستمدّ العالم بأجمعه وجوده من غير ذاته تعالى، فالعلم بالذات علم بالحيثيّة الّتي هي سبب لتحقّق العالم وتكوّنه.

فالعلم بالذات ( كما عرفت ) علم بنفس النظام لأنّ النظام معلول له وصادر منه وهذا هو معنى قولهم الشائع: « العلم بالنظام الربّاني، نفس العلم بالنظام الكياني ».

ويمكن توضيح البرهان ببيان مقدّمات.

الأُولى: إنّه تعالى علّة وفاعل لما عداه بحيث تكون الممكنات بجملتها مستندة إليه من وجوداتها وماهيّاتها، غاية الأمر استناد جميع الوجودات الممكنات إليه تعالى يكون بالذات، واستناد الماهيّات(١) إليه بالعرض.

الثانية: علّية شيء لشيء هي عبارة عن كونه على جهة وخصوصيّة يأبى أن لا يترتب عليه المعلول.

وإن شئت قلت: إنّ معنى علّية شيء لشيء اشتمال الشيء الأوّل على حيثيّة وخصوصيّة توجب ـ ايجاباً قطعياً ـ وجود المعلول في الخارج، بحيث لولا هذه الحيثيّة لما يتحقّق المعلول.

ومن هذا يعلم أنّ بين تلك الحيثيّة القائمة بالعلّة ووجود المعلول رابطة وصلة خاصة بحيث تقتضي نفس الحيثيّة، ذلك المعلول ولولا تلك الصلة لكان نسبة المعلول إلى تلك الحيثيّة وغيرها سواسية مع أنّها ضرورية البطلان.

وبكلمة واضحة إذا كانت النار مبدأً للحرارة بحيث لا تنفك الثانية من الاُولى نستكشف عن رابطة بين الشيئين، وإلّا يلزم أن تكون نسبة الحرارة إلى النار وسائر

__________________

(١) المراد بالماهيات هي خصوصيات الوجود وحدوده من المعدنية والنباتية والحيوانية فالخصوصيات التي تبيّن حد الوجود وتشخّصه خصوصيات خاصة تسمّى بالماهية المتحققة في الخارج بالوجود.

٣١٧

الأجسام سواسية وهذا بديهي البطلان.

نعم تلك الحيثيّة الّتي تعدّ مبدأً للعلّية، تكون في العلل الماديّة زائدة على الذات وفي العلل العلوية وبالأخص الحق سبحانه نفس ذاته.

الثالثة: إنّ فاعليته تعالى لما عداه، يكون بنفس ذاته، لا بخصوصيّة طارئة عليه وجهة زائدة عليه فهو تعالى بنفس ذاته، المحيط بكلّ شيء وقيّوم له، فاعل لكلّ شيء كيف، وإلّا يلزم أن يكون في فاعليته مفتقراً إلى غيره(١) فيلزم أن يكون في وجوده أيضاً كذلك وهو خلف، فالواجب فاعل في ذاته بذاته، لا بحيثيّة متضمّة إلى ذاته تقييدية كانت أو تعليلية.

الرابعة: إنّه تعالى عالم بذاته وأنّ علمه بذاته عين ذاته ـ كما عرفت ـ.

إذا عرفت ذلك تقف على أنّ علمه بذاته مستلزم للعلم بمعاليله ومخلوقاته وإنّ أحد العلمين لا ينفك عن الآخر وذلك لأنّه إذا كان العلم بالحيثيّة مستلزماً للعلم بالمعلول وكانت تلك الحيثية حسب المقدمة الثالثة نفس ذاته ينتج إنّ العلم بالذات، نفس العلم بالمعاليل والمعلومات.

وبعبارة اُخرى :

العلم بالجهة المقتضية للشيء الّتي هي العلّة حقيقة ( وهي في الواجب تعالى نفس ذاته ) مستلزم للعلم بما يترتّب عليها من المعلول.

ففرض تلك الذات في العين، يلازم لازمها في العين، وإذا حصلت في الذهن، يترتّب عليها في الذهن قضاء لحكم اللزوم، فالعلم بالسبب من حيث هو سبب، مستلزم للعلم بالمسبب المترتّب عليه وهذا الاستلزام يتصوّر على أنحاء أكملها: أن يكون العلم بالمسبّب عين العلم بالسبب فيكون العلم بالسبب عين

__________________

(١) قد ثبت في محله أنّ الافتقار في الفعل لا ينفكّ عن الافتقار في الذات، ولأجل ذلك قالوا واجب الوجود بالذات واجب من جميع الجهات.

٣١٨

العلم بالمسبب، وذلك بناء على أن يكون المسبب بعينه موجوداً بعين وجود السبب على ما هو مقتضى بساطته(١) .

وقد أشار إلى هذا البرهان طائفة من المتكلّمين والحكماء نذكر بعض كلماتهم :

١ ـ قال العلّامة الحلّي في كشف المراد: إنّ كلّ موجود سواه ممكن، وكلّ ممكن فإنّه مستند إلى الواجب إمّا ابتداءً أو بوسائط، وقد سلف: إنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول، والله تعالى عالم بذاته على ما تقدّم فهو عالم بغيره.

وقد أوضح العلّامة الحلّي في المسألة السابعة من الفصل الخامس ( بحث الأعراض ) كيفيّة استلزام العلم بالعلّة العلم بالمعلول إذ قال ما هذا توضيحه: إنّ العلم بالعلّة يقع على ثلاثة أنواع :

أ ـ العلم بذات العلّة لا بالحيثيّة التي تستند إليه الأشياء، فمثل هذا لا يستلزم العلم بالمعلول.

ب ـ العلم بها بما أنّها مستلزم لشيء آخر ومثل هذا العلم يلازم العلم بالمعلول لكن علماً غير تام بعامّة خصوصيّات المعلول.

ج ـ العلم بالعلّة بتمام خصوصيّاتها وذاتها ولوازمها وملزوماتها، وعوارضها ومعروضاتها، وما لها في ذاتها ومالها بالقياس إلى الغير.

وهذا هو العلم التام بالعلّة، وهو يستلزم العلم التام بالمعلول فإنّ المعلول وحقيقته، لازم للعلّة بهذه الحيثيّة.

فلو تعلّق العلم بالعلّة بهذه الحيثية يستلزم العلم بالمعلول(٢) .

__________________

(١) درر الفوائد: ج ١، ص ٤٨٥ ـ ٤٦٧.

(٢) كشف المراد راجع المقصد الاول الفصل الخامس المسألة السابعة عشرة والمقصد الثالث المسألة الثانية.

٣١٩

والله سبحانه بما أنّه بسيط من كلّ الجهات فالعلم بالذات البحث البسيط، هو عين العلم بالحيثيّة التي تصدر بها عنه الأشياء، فمثل هذا العلم يلازم العلم بعامّة معلولاته على الترتيب الذي يصدر عنه.

٢ ـ وقال صدر المتألّهين: إنّ ذاته سبحانه لـمّا كان علّة للأشياء ـ بحسب وجودها ـ والعلم بالعلّة يستلزم العلم بمعلولها على الوجه الذي هو معلولها، فتعلّقها من هذه الجهة لابد أن يكون على ترتيب صدورها واحداً بعد واحد(١) .

وهذه العبارة تفيد: انّ علمه سبحانه بالأشياء قبل الخلقة محقّق حتى على الترتيب الذي توجد به الأشياء في نظام الأسباب والمسبّبات.

٣ ـ وقال الحكيم الالهي السبزواري نظماً :

وعالم بغيره إذا استند

إليه وهو ذاته لقد شهد

بالسبب العلم بما هو السبب

علم بما هو مسبّب به وجب

ثمّ قال شارحاً ذلك :

وحاصله: انّ الأشياء في ذواتها مستندة إليه تعالى وهو تعالى علم بذاته، والعلم بالعلّة بما هي علّة يقتضي العلم بالمعلول، فهو تعالى ينال الكلّ من ذاته.

ثمّ التقييد بقولنا: « بما هو السبب » إشارة إلى أنّ المراد من العلم بالسبب: العلم بالجهة المقتضية للمسبب سواء كانت عين ذاته أو زائدة.

ولا شك انّها عين حيثيّة ترتب المسبب على السبب إذ التخلف عن السبب التام محال، كما أشرنا إليه بقولنا: « به وجب ».

فكلّما حصلت « الحيثية » في ذهن أو خارج حصل ذلك المسبّب فيه، إذ

__________________

(١) الاسفار: ج ٦، ص ٢٧٥ وغيره مفصلاً ومختصراً.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538