مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237497 / تحميل: 6103
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وطالبوه بالإجابات المقنعة الكافية، وجعلوا ذلك شرطاً لإسلامهم والتصديق به وبرسالته، فأجابهم الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأجوبة كافية شافية مذكورة بتفصيلها في محلّها فأسلموا على أثر ذلك(١) ، والقصة بطولها جديرة بالمطالعة.

وقد بلغت هذه الحملات المعادية للإسلام ذروتها بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وغياب شخصه الكريم عن الساحة فشهد عهد الخلفاء موجات هائلةً من التيارات الإلحادية، والمحاولات التشكيكيّة وطرح التساؤلات العويصة، التي هبّت على المجتمع الإسلاميّ لتزعزع المسلمين عن عقيدتهم، وذلك عندما أخذ يتوافد على المدينة جموع القساوسة والرهبان والأحبار يحملون إلى المسلمين الأسئلة العويصة، والشبهات المريبة.

ولمـّا كان مجرد الاطلاّع على الأحكام والمعارف الإسلاميّة وحدها لا يكفي في مواجهة تلكم الحملات والتيارات، بل ينبغي أن يكون المتصدّي للرد على تلك الشبهات مضطلعاً ومطّلعاً على ما في الأديان والمباديء الاخرى من عيوب ونواقص، وثغرات، لذلك، فإنّ المتصدّرين لمقام الخلافة كانوا يعانون صعوبات جمّةً وعجزاً ذريعاً في الإجابة عليها، أو كانت الردود غير مقنعة ولا كافية.

إنّ التأريخ الإسلاميّ يحدثنا أنّ المسلمين لم يبلغوا من الناحية الفكريّة والعلميّة والإحاطة بالمبادئ والأديان الاخرى درجةً تؤهلهم للقيام بذلك، ولم يقدر أحد منهم، على مجابهة اولئك العلماء المتوافدين من أرباب الأديان أو الملحدين إلى عاصمة الدولة الإسلاميّة من كلِّ فج عميق بهدف الإيقاع بالإسلام والمسلمين.

وقد أثبتت الوقائع التي وقعت في ذلك العهد، أنّ الشخص الوحيد الذي كانت ترجع إليه الاُمّة، ويرجع إليه من تسلّموا مسند الخلافة والحكومة بعد النبيّ لحلِّ تلك المعضلات وردِّ تلك الشبهات والإجابة على تلك التساؤلات، كان هو الإمام عليّعليه‌السلام .

وإليك نماذج من تلك الأسئلة :

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسيّ ( من علماء القرن السادس الهجريّ ) ١: ١٦ ـ ٢٤.

١٤١

١. جاء بعض أحبار اليهود إلى أبي بكر فقال: أنت خليفة نبيّ هذه الاُمّة ؟

قال: نعم.

فقال: إنّا نجد في التوراة أنّ خلفاء الأنبياء أعلم اممهم ؛ فأخبرني عن الله تعالى، أين هو أفي السماء أم في الأرض ؟

فقال أبو بكر: هو في السماء على العرش.

فقال اليهوديّ: فأرى الأرض خاليةً منه وأراه على هذا القول في مكان دون مكان.

فقال أبو بكر: هذا كلام الزنادقة.

فولىّ الحبر متعجّباً يستهزئ بالإسلام فاستقبله أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فقال: « يا يهوديّ قد عرفت ما سألت عنه وما أجبت به، وإنّا نقول: إنّ الله عزّ وجلّ أيّن الأين فلا أين له، وجلّ أن يحويه مكان وهو في كلِّ مكان بغير مماسة ولا مجاورة يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره وإنّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدِّق ما ذكرته لك »(١) .

٢. حضر مجلس عليعليه‌السلام في جامع الكوفة أحد يهود اليمن فقال: يا أمير المؤمنين صف لنا خالقك وانعته لنا كأنّا نراه وننظر إليه، فسبح عليّعليه‌السلام ربّه وقال :

« الحمد لله الذي هو أوّل بلا بديء ممّا، ولا باطن فيما، ولا يزال مهما، ولا ممازج مع ما، ولا خيال وهما. ليس بشبح فيُرى، ولا بجسم فيتجزّأ، ولا بذي غاية فيتناهى، ولا بمحدَث فيبصر، ولا بمستتر فيكشف، ولا بذي حجب فيحوى، كان ولا أماكن تحمله أكنافها، ولا حملة ترفعه بقوّتها، ولا كان بعد أن لم يكن، بل حارت الأوهام أن تكيّف المكيّف للأشياء، ومن لم يزل بلا مكان، ولا يزول باختلاف الأزمان وكيف يوصف بالأشباح، وينعت بالألسن الفصاح » إلى آخر المفصّل(٢) .

٣. عن سلمان الفارسيّ في حديث طويل ذكر فيه قدوم كبير النصارى ( الجاثليق )

__________________

(١) الإرشاد للمفيد: ١٠٨ في قضايا أمير المؤمنين.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ٤٩٠ ـ ٤٩١.

١٤٢

إلى المدينة مع مائة من النصارى بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

وسأل أبا بكر عن مسائل لم يجبه عنها ثمّ ارشد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فسأله عنها وكان ممّا سأل عنه أنّه قال: ( اخبرني عن وجه الربِّ تبارك وتعالى )، فدعا عليّ بحطب ونار فأضرمه، فلمّا اشتعلت قال عليّعليه‌السلام له: « أين وجه هذه النّار ؟ ».

قال النصرانيّ هي وجه من جميع حدودها فقالعليه‌السلام : « هذه النار مدّبرة مصنوعة لا يعرف وجهها، وخالقها لا يشبهها، ولله المشرق والمغرب، فأينما تولّوا فثمّ وجه الله، لا يخفى على ربِّنا خافية »(١) .

٤. وسأله رأس الجالوت ( اليهودي )عن مسائل بعد ما سأل أبا بكر فلم يجبه

سأله: ما أصل الأشياء ؟

فقالعليه‌السلام : هو الماء لقوله سبحانه:( وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) ( الانبياء: ٣٠ ).

وما جمادان تكلّما ؟

فقالعليه‌السلام : هما الأرض والسماء لقوله تعالى:( فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) ( فصلت: ١١ ).

ما شيئان ينقصان ويزيدان ولا يرى الخلق ذلك ؟فقالعليه‌السلام : هما الليل والنهار لقوله تعالى:( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) ( الحديد: ٦ ).

إلى غير ذلك من المسائل العويصة، والصعبة التي أجاب عنها الإمام عليّعليه‌السلام بسرعة أدهشت الجاثليق وأثارت إعجابه(٢) .

هذا ولم تقتصر الموارد التي واجه فيها قادة المسلمين شبهات وأسئلة عجزوا عن

__________________

(١) قضاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب: ٨٨ ( طبعة النجف ).

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ١: ٤٩٠ ـ ٤٩١ عنه البحار٤٠: ٢٢٤.

١٤٣

ردهّا والإجابة عليها على ما ذكرناه، بل هناك عشرات الموارد الاخرى نذكر بعضها إجمالاً :

١. سؤال الغلام اليهوديّ من عمر بن الخطاب في اليوم الأوّل من خلافته وإرجاع الخليفة له إلى الإمام عليّعليه‌السلام (١) .

٢. بعد أن ارتد الحارث بن سنان الأسدي الذي كان أحد الصحابة، والتحق بالروم، حث الروم على طرح بعض الأسئلة على المسلمين، فتوجّه ممثل الروم إلى المدينة وطرح بعض الأسئلة(٢) .

٣. سؤال القائد الروميّ من عمر(٣) .

٤. الأسئلة التي طرحها علماء اليهود على عمر حول أصحاب الكهف(٤) .

٥. سؤال كعب الأحبار من عمر(٥) .

٦. وفود أسقف نجران على عمر وطرح بعض الأسئلة عليه(٦) .

٧. وفود جماعة من اليهود على عمر وطرح بعض الشبهات والمواضيع عليه(٧)

٨. وفود جماعة من اليهود على عمر أيضاً وطرح بعض الأسئلة عليه(٨) .

٩. سؤال كعب الأحبار من عمر، وإحالة عمر له على الإمام أيضاً(٩) .

__________________

(١) الغدير ٦: ١٦٨، نقلاً عن كتاب زين الفتى في تفسير هل أتى تأليف أحمد بن محمّد بن عليّ العاصميّ الشافعيّ ( مخطوط )، علي والخلفاء: ١٣٨ ـ ١٤٥، نقلاً عن فرائد السمطين ١: باب ٦٦ ( مخطوط ).

(٢) قضاء أمير المؤمنين: ٢٦٣.

(٣) تذكرة الخواص لابن الجوزيّ المتوفّي عام ( ٦٥٦ ه‍ ): ١٤٤ ـ ١٤٧ ( طبع النجف الأشرف ).

(٤) غاية المرام للبحرانيّ المتوفّي عام ( ١١٠٧ ه‍ ): ٥١٧، والغدير ٦: ٤٧ نقلاً عن العرائس في قصص الأنبياء: ٢٢٧.

(٥) كنز العمال للمتّقي الهنديّ ٤: ٥٥ نقلاً عن طبقات ابن سعد المتوفّي عام ( ٢٠٧ ه‍ ).

(٦) تفسير البرهان ٢: ١٠٧، عليّ والخلفاء: ١٧١ نقلاً عن كتاب زين الفتى.

(٧) قضاء أمير المؤمنين للتستريّ: ٦٧ ( طبعة النجف )، عليّ والخلفاء: ١٧٦.

(٨) قضاء أمير المؤمنين: ٨٢ ( طبعة النجف )، عليّ والخلفاء: ١٧٨.

(٩) قضاء أمير المؤمنين: ٦٤، البحار ٩: ٤٨٣ ( الطبعة القديمة ).

١٤٤

١٠. سؤال كعب الأحبار من عثمان وإرجاع عثمان له على الإمام عليّ(١) .

١١. طرح سؤال عويص من الروم على معاوية والتماس معاوية الجواب من الإمام عليّ بطريقة ماكرة(٢) .

١٢. طرح أسئلة اُخرى من جانب البلاط الرومانيّ على معاوية واستمداد معاوية الأجوبة من الإمام عليّعليه‌السلام (٣) .

١٣. طرح أسئلة للمرّة الثالثة من جانب الامبراطور الرومانيّ على معاوية والتماس معاوية الأجوبة من الإمام عليّعليه‌السلام أيضاً(٤) .

إنّ هذه الوقائع ووقائع كثيرةً اُخرى تشير بوضوح إلى عدم قدرة الاُمّة، على مواجهة الشبهات والشكوك التي كان يبثّها ويلقيها أعداء الإسلام على المسلمين لتقويض عقيدتهم، فهل كان من الجائز أن يترك الله سبحانه الاُمّة الإسلاميّة ـ والحال هذه ـ من دون أن يربّي ويخلّف فيهم من يصون الدين ويحفظ عقيدة اتباعه من أخطار التشكيك، وذلك بالوقوف في وجه كلّ مشكّك وصاحب شبهة بالمنطق أو الجدل المفحم، وهل يمكن ذلك إلا لمن يكون عارفاً بأبعاد الدين وقضاياه تفصيلاً، ويكون محيطاً بما في الأديان الاخرى وما في كتبها وعند علمائها ؟

أليس أي نكسة تصيب المسلمين في هذا المجال من شأنها أنّ تؤثر على معنويّتهم وتزعزع اعتقادهم، وتزيد من جرأة الأعداء وطمعهم في إخراج المسلمين من دينهم ؟.

إنّ بقاء أي دين وعقيدة، يرتبط بمدى قدرة المدافعين عن حياضه، والذبّ عن كيانه الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ، إمّا بقوّة السلاح أو بقوّة المنطق من قبل

__________________

(١) عليّ والخلفاء: ٣١٣ نقلاً عن كتاب عجائب أحكام أمير المؤمنين: ١١٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) قضاء أمير المؤمنين: ٧٨ و ١١٤، عليّ والخلفاء: ٣٢٠.

(٤) قضاء أمير المؤمنين: ١٦ نقلاً عن مناقب ابن شهر بن آشوب.

١٤٥

الشخصيات المؤهلة القادرة على الدفاع الحازم.

بل لابدّ من الاعتراف بأنّ القوّة العسكريّة وحدها غير كافية للمحافظة على سطوع الدين وبقائه، وسلامته على مدار الزمان، فلابدّ ـ مضافاً إلى ذلك ـ من وجود الشخصيّات العلميّة اللائقة التي تحرس سياج الدين، وتلبّي احتياجات الاُمّة، وتمدّها وتمدّ عقيدتها بطاقة البقاء والاستقامة والحياة.

من هنا يتعين على صاحب الدعوة تربية وتعيين من يكون جديراً بتحمل هذه المسؤولية وقادراً على القيام بها لينير للمسلمين طريقهم، ويصون من شبهات العابثين المغرضين إيمانهم وعقيدتهم.

* * *

٥. الفراغ في مجال صيانة الدين من التحريف

إنّ من أهم ما كان يقوم به النبيّ العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو محافظته الشديدة على الدين وصيانته من التحريف والدسّ، فقد كان يعلم المسلمين كتابهم العزيز، ويراقب ما أخذوه عنه من اُصول وفروع فينبّه على خطأهم، ويدلّهم على الحق.

ولا ريب أنّ من أبرز ما تتمتّع به أمّة من الامم، هو قدرتها على حفظ دينها من كيد الكائدين ودس الداسيّن وتحريف المحرفين، وهو الخطر الذي تعرضت له جميع الأديان السالفة والمذاهب السابقة وعانت منه أسوء أنواع الدسّ والتحريف وإلى هذا يشير القرآن إلى ما عانى منه دين موسى على أيدي أتباعه اليهود، إذ قال:( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) ( النساء: ٤٦ ).

ولقد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم بهذه المهمة الخطيرة في حياته الشريفة فكيف يمكن تحقيق ذلك بعد وفاته ؟ وكيف يمكن حفظ الدين من التحريف بعده ؟!

إنّ صيانة الدين من التحريف والدسّ، لا تمكن إلّا إذا توفرت لدّى الاُمّة اُمور ثلاثة :

١٤٦

١. أنّ تكون الاُمّة قد بلغت في الرشد الفكريّ والعقليّ مبلغاً يؤهلها للحفاظ على أسس الشريعة ومفاهيمها من أي دسّ وتحريف.

٢. أن تكون فروع الدين واُصوله واضحةً ومعلومةً لدى الاُمّة، وضوحاً يمكِّنها من تمييز الحقّ عن الباطل، والدخيل عن الأصيل في مفاهيمه، وعقائده وتشريعاته.

٣. أن يكون لديها كلّ ما صدر من النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من أحاديث ونصوص كاملة، لتقدر بمراجعة ما لديها من الحديث وعلم الكتاب ومعارفه، على أن تميِّز الصحيح من المجعول والوارد من الموضوع.

ولا ريب أنّ الاُمّة الإسلاميّة قد وصلت آنذاك بفضل جهود صاحب الدعوة، إلى درجة مرموقة من الوعي والحفظ لنص الكتاب الكريم ما يجعلها قادرةً على حفظ النصّ القرآنيّ من التحريف، وصونه من محاولات الزيادة والنقصان كما نرى ذلك في قصة الصحابيّ الجليل « ابيّ بن كعب » الذي كان له موقف عظيم من عثمان في قضية إثبات الواو في آية الكنز، وإليك الواقعة كما ينقلها تفسير الدرّ المنثور عن علباء بن أحمر: ( انّ عثمان بن عفان لـمّا أراد أن يكتب المصاحف أرادوا(١) أن يلقوا ( الواو ) التي في سورة البراءة في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( التوبة: ٣٤ ).

قال ابيّ: ( لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي ) فألحقوها(٢) .

فقد كان عثمان يريد أن يقرأ قوله تعالى:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ) بدون واو العطف لتكون هذه الجملة وصفاً للأحبار اليهود وهذا مضافاً إلى كونه خلاف التنزيل وتغييراً في ما نزل به الوحي كما تلاه الرسول وقرأه على مسامع القوم، فإنّ حذف الواو كان يعني، أنّ آية حرمة الكنز لا ترتبط بالمسلمين، بل هي صفة للأحبار والرهبان وكان يقصد من

__________________

(١) هكذا في الأصل، والصحيح: أراد إلّا أن يراد الكتّاب.

(٢) الدرّ المنثور ٣: ٢٣٢.

١٤٧

هذا إضفاء طابع الشرعيّة على اكتناز الأموال الطائلة الذي كان يقوم به جماعة من بطانة الخليفة كما يشهد بذلك التأريخ.

ولكن عثمان لم يستطع تحقيق هذا المطلب فقد عارضه أبّي بن كعب، واعترض عليه هذا التغيير الطفيفة اللفظي في الظاهر.

وهذا يكشف عن مدى حفظ الاُمّة لنصّ الكتاب بهذه الصورة الدقيقة الأمينة. بيد أنّ حفظ الاُمّة كان محدوداً لا يتجاوز هذا الحدّ، إذ كان غير شامل لجوانب اخرى من الشريعة واُصولها ومصادرها وينابيعها.

ويدل على ذلك :

أوّلاً: أنّ الامّة اختلفت في تفسير الكثير من آيات القرآن، وبيان مقاصده ومعارفه اختلافاً جرّ إلى تعدّد المذاهب، ونشوء الاتّجاهات المختلفة، والتيارات المتضاربة وكلّ يتمسّك بالكتاب وربّما بالسنّة.

فمن جبريّة إلى معتزلة، إلى صفاتيّة إلى خوارج، إلى مرجّئة، وشيعة، وكلّ منها يتفرع إلى فرق وطوائف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في العقيدة والمسلك، وفي الاُصول والفروع(١) .

فهل يمكن أن يكون كلّ ذلك هو الحقّ الذي تضمّنه القرآن، ودعا إليه ؟!!

أليس ذلك يدل على أنّ الاُمّة لم تبلغ في الإحاطة بالشريعة والنضج الفكريّ الإسلاميّ ذلك المستوى الذي يؤهلها لحفظ الاُصول والفروع، والمحافظة على ما يتّصل بالكتاب والسنة، وطرح ما لا يمتّ إليهما بصلة.

ثانياً: أنّ التأريخ يشهد بأنّ الأمّة الإسلاميّة ـ في عصر الخلفاء ـ يوم اتّسعت رقعة البلاد الإسلاميّة واستوعبت شعوباً كثيرةً، شهدت دخول جماعات عديدة من أحبار

__________________

(١) راجع للوقوف على هذه المذاهب وفروعها: الملل والنّحل للشهرستانيّ والفرق بين الفرق وغيرهما ممّا ألّف في هذا المجال.

١٤٨

اليهود وعلماء النصارى في الإسلام، مثل كعب الأحبار وتميم الداريّ ووهب بن منبّهوعبد الله بن سلام، الذين تسللوا إلى صفوف المسلمين، وراحوا يدسون الأحاديث الإسرائيليّة، والخرافات والأساطير النصرانيّة في أحاديث المسلمين وكتبهم وأذهانهم.

وقد ظلت هذه الأحاديث المختلفة، تخيِّم على أفكار المسلمين ردحاً طويلاً من الزمن، وتؤثر في حياتهم العمليّة، وتوجّهها في الوجهة المخالفة لروح الإسلام الحنيف في غفلة من المسلمين وغفوتهم. ولم ينتبه إلى هذا الأمر الخطير، إلّا من عصمه الله كعليّعليه‌السلام الذي راح يحذّر المسلمين عن الأخذ بمثل هذه الأحاديث المختلفة فقال: « ولو علم النّاس أنّه منافق كذّاب، لم يقبلوا منه ولم يصدّق، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله ورآه وسمع منه وأخذ عنه وهم لا يعرفون حاله »(١) .

نماذجٌ وأرقامٌ عن الأحاديث الموضوعة :

وحسبك لمعرفة ما أصاب المسلمين وما تعرضت له أحاديثهم ولمعرفة الذين لعبوا هذا الدور الخبيث في غفلة من الاُمّة ما كتب في هذا الصدد مثل كتاب :

ميزان الاعتدال للذهبيّ.

وتهذيب التهذيب للعسقلانيّ.

ولسان الميزان للعسقلانيّ

ونظائرها من الكتب التي صنفت في هذا المجال.

ولعل فيما قاله البخاري صاحب « الصحيح » المعروف، إشارة إلى طرف من هذه الحقيقة المرّة، حيث قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري :

إنّ أبا عليّ الغسّانيّ روي عنه أنّه قال: خرّجت الصحيح من ٦٠٠ ألف

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٢٠٥.

١٤٩

حديث(١) .

وروى عنه الإسماعيليّ أنّه قال :

أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح(٢) .

ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمّة الحديث أخبار تآليفهم ( الصحاح والمسانيد ) من أحاديث كثيرة هائلة، والصفح عن غيرها، وقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديثاً وقال، انتخبته من خمسمائة ألف حديث(٣) .

ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار على ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستين حديثاً اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث(٤) .

وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث اُصول دون المكررات صنفه من ثلاثمائة ألف(٥) .

وذكر أحمد في مسنده ثلاثين ألف حديث وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة وخمسين وألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث(٦) .

وقد قام الباحث الكبير المجاهد العلامة الأمينيّ في موسوعته ( الغدير ) ـ الجزء الخامس ـ باستخراج أسماء الكذّابين والوضّاعين للحديث على حسب الحروف الهجائية فبلغ عددهم ٧٠٠.

وما قام به رحمه الله وإن كان عملاً كبيراً يشكر عليه، غير أنّه لو قام بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا على أضعاف ما ذكره ذلك الباحث الكبير.

__________________

(١) من الهدى الساري مقدمة فتح الباري: ٤.

(٢) من الهدى الساري مقدمة فتح الباري: ٥.

(٣) طبقات الحفّاظ للذهبيّ ٢: ١٥٤، تاريخ بغداد ٩: ٥٧.

(٤) إرشاد الساري ١: ٢٠٨، صفوة الصفوة ٤: ١٤٣.

(٥) طبقات الحفاظ للذهبيّ ٢: ١٥١، ١٥٧، شرح صحيح مسلم للنووي ١: ٣٢.

(٦) طبقات الذهبيّ ٩: ١٧.

١٥٠

والذي يرشدك إلى كثرة الاحاديث الموضوعة الكاذبة ما يوجد في ترجمة شرذمة قليلة من أولئك الجمّ الغفير من الكذّابين، من أنّه وضع عشرة آلاف حديث كما ذكروه في ترجمة أحمد بن عليّ الجويباريّ.

فقد قام الباحث المتقدم الذكر بعد ما أورد من الأرقام في ترجمة اولئك الكذابين بإحصاء عدد الأحاديث التي وضعوها أو قلبوها فبلغت ما يقارب النصف مليون حديثاً.

وهذه الأرقام راجعة إلى واحد وأربعين شخصاً(١) .

وقد الفّت في تمييز الأحاديث الموضوعة من الأحاديث الصحيحة كتب نذكر منها ما ألّفه أبو الفرج عبد الرحمان بن عليّ المعروف بابن الجوزيّ البغداديّ المتوفّى ( ٥٩٧ ه‍ ) الذي ذكر كلّ حديث موضوع.

وقد تنبّأ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بما سيصيب سنتّه الشريفة ويصيب المسلمين فيما بعد على أيدي الكذّابين، ووضّاعي الحديث وأعداء الإسلام، وأخبر عن وجود من يقف في وجه هذا الخطر العظيم إذ قال: « يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد »(٢) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: « إنّ فينا أهل البيت في كلِّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين »(٣) .

أليس كلّ هذا يستوجب، أن يربّي النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعده من يتمتّع بالعصمة الكافية والعلم الواسع ليحفظ الدين من محاولات التحريف، ويصون الشريعة من أي خيانة ودسّ ؟

__________________

(١) راجع الغدير ٥: ٢٤٧ ـ ٢٤٩ تحت عنوان ( قائمة الموضوعات والمقلوبات ).

(٢) رجال الكشّيّ: ٥.

(٣) الكافي ١: ٢٥.

١٥١

خلاصةُ ما سبق

لقد تبين مما تقدم أنّ الإمام الذي يخلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو من يقوم مقامه في سدّ ما حدث بوفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله من فراغ هائل بل فراغات كبرى في الحياة الإسلاميّة :

فكما أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقوم إلى جانب مهمّة التبليغ للدين الإلهيّ ب‍ :

١. بيان معالم الشريعة وأحكامها حسب الحاجات المتجددة في حياة الاُمّة.

٢. شرح معاني القرآن الكريم، وتفسير آياته، وبيان مقاصده وكشف القناع عن أسراره ورموزه وأبعاده حسب اقتضاء الظروف والنفوس.

٣. هداية الاُمّة نحو التكامل الروحيّ والمعنويّ بتوحيد صفوف الاُمّة وجمع شملها، وتعاهدها بالتربية والتزكية

٤. الدفاع عن حمى الشريعة، بالرد على الشبهات، والإجابة على الأسئلة العويصة وتبديد الشكوك التي يثيرها أعداء الإسلام.

٥. صيانة الدين عن محاولات الدسّ والتحريف، في مفاهيمه وشرائعه.

أقول: كما أنّ وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يملأ هذه الفراغات الهائلة، فإنّ فقدانه يوجب حدوثها، فلابدّ من إمام معصوم ليملأها كما كان النبيّ يملأها بحزمه وعلمه، وقيادته وهدايته.

فعلى الإمام ـ بما لديه من علم شامل بأبعاد الشريعة وجزئياتها ـ أن يعالج مشاكل الاُمّة المستحدثة، ويفسّر لهم الكتاب العزيز ويكشف لهم ما لم يكشف من أبعاده ووجوهه، ويعين الاُمّة على مواصلة طريق التكامل الذي بدأته بدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدافع عن حمى الشريعة برد الشبهات، والإجابة الوافية على الأسئلة العويصة التي يثيرها الأعداء، بهدف احراج المسلمين وزعزعتهم عن عقيدتهم، ويصون الدين والعقيدة من أي تحريف ودسّ.

وبالتالي، يقوم بكل ما يقوم به النبيّ من قيادة وهداية، وتربية وتزكية.

١٥٢

ولمّا كانت هذه المسؤوليات لا ينهض بها إلّا الإمام اللاّئق بخلافة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله القادر على سدّ الفراغ الكبير الذي يحدثه غياب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا توجد هذه اللياقة بالتربية العاديّة المتعارفة بل لا بدّ من عناية ربانية واعداد إلهيّ.

ولمّا كانت معرفة مثل هذا الإمام اللائق المعصوم متعذرةً على الاُمّة، يتعين على الله سبحانه العارف بعباده، المحيط بهم، أن يعرّف الاُمّة بالإمام وينصبه لهم. ولا يترك الأمر إلى نظر الاُمّة ورأيها لتختار حسب ما ترى، وتشاء.

ثمّ إنّ الشيخ الرئيس ( ابن سينا ) أشار في بعض كلماته إلى فوائد تنصيب الإمام، التي ترجع إلى بعض ما ذكرنا، وإليك بعض نصوص كلماته: ( ثمّ إنّ هذا الشخص الذي هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليس ممّا يتكرر وجود مثله في كلّ وقت فإنّ المادة التي تقبل كمال مثله يقع في قليل من الأمزجة، فيجب لا محالة، أن يكون النبيّ قد دبّر لبقاء ما يسنّه ويشرّعه في اُمور المصالح الإنسانية تدبيراً عظيماً ).

إلى أن قال ـ في الفصل الخامس ـ: ثمّ يجب أن يفرض السانّ ( أي الشارع ) طاعة من يخلفه، وأن لا يكون الاستخلاف إلّا من جهته ( أي من جهة السانِّ الشارع ) أو بإجماع من أهل السابقة على من يصححون، علانيةً، عند الجمهور أنّه مستقل بالسياسة وأنّه أصيل العقل حاصل عنده الأخلاق الشريفة من الشجاعة والعفة وحسن التدبير، وأنّه عارف بالشريعة حتّى لا أعرف منه تصحيحاً.

إلى أن قال: ويسنّ عليهم أنّهم إذا افترقوا وتنازعوا للهوى والميل، أو أجمعوا على غير من وجدوا الفضل فيه والاستحقاق فقد كفروا بالله.

والاستخلاف بالنصّ أصوب، فإنّ ذلك لا يؤدي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف )(١) .

__________________

(١) الشفاء ٢ ( الفن الثالث عشر في الإلهيّات ـ المقالة العاشرة الفصل الثالث والخامس ـ في المبدأ والمعاد ): ٥٥٨ و ٥٦٤ ( طبعة إيران ).

١٥٣

الطريق الثالث

٣

الخلافة عند النبيّ

والصحابة والاُمم السابقة

١. تصوّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مسألة القيادة بعده.

٢. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ.

٣. صيغة القيادة والخلافة عند الأمم السالفة.

لقد دلّت المحاسبات العقليّة والاجتماعيّة السابقة على لزوم تعين الإمام من جانب الله تعالى، وأثبتت أنّ إيكال الأمر إلى نظر إلامّة وانتخابها وتعيينها خطأ فاضح، يأباه العقل وترفضه المصالح العامّة وتعارضه المحاسبات الاجتماعيّة.

هذا ويمكن الاستدلال أيضاً على لزوم نصب الإمام من جانب الله بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم إيكال ذلك إلى رأي الاُمّة، بالأدلّة النقلية والتاريخيّة وهي تشمل :

١ / تصوّرهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مسألة القيادة من بعده.

٢ / تصوّر الصحابة عن هذه المسألة.

٣ / صيغة القيادة ـ لدى الأمم السابقة ـ وسيرتهم في ذلك بعد غيبة أنبيائهم.

وإليك فيما يلي بيان هذه الاُمور والأدلة بالتفصيل :

١٥٤

١. تصوّر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن القيادة بعده :

لا ريب أنّ من أهمّ الأدلة على لزوم نصب الإمام والقائد بعد النبيّ هو تصوّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه عن هذه المسألة، فماذا كان هذا التصوّر ؟

هل كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يعتقد بلزوم نصب الإمام والقائد من جانب الله ؟ أم كان يعتقد ترك ذلك إلى نظر الاُمّة وإرادتها وإختيارها ؟ أم كان يعتبر ذلك من شؤونه واختصاصاته على الأقل ؟

إنّ الكلمات المأثورة عن الرسول الأكرم وموقفهصلى‌الله‌عليه‌وآله من قضية القيادة بعده، تدلّ على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعتبر أمر القيادة وتعيين القائد مسألةً إلهيّةً وحقاً إلهيّاً فالله سبحانه هو الذي له أن يعين القائد وينصب الخليفة الذي يخلِّف النبيّ بعد وفاته. ولا نجد في كلّ ما نقل عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ما يدل على إرجاع الأمر إلى اختيار الاُمّة ونظرها، أو إلى اراء أهل الحلّ والعقد واجتماعهم، أو غير ذلك من صور الانتخاب والتعيين غير الإلهيّ.

إنّ الأدلة والشواهد النقليّة تشهد برمتها بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر للاُمّة مراراً بأنّ تعيين الأمير من بعده أمر إلهيّ، وليس له في ذلك شيء، فلا يمكنه أن يقطع لأحد عهداً بأن يستخلفه من بعده، دون أن يأذن الله تعالى له في ذلك أو يأتيه منه سبحانه أمر ووحي.

وفيما يأتي نذكر شاهدين تأريخيين على ذلك، والشاهد الأوّل أكثر صراحة في ما ذكرناه :

١. لـمّا عرض الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه على بني عامر الذين جاؤوا إلى مكة في موسم الحجِّ ودعاهم إلى الإسلام قال له كبيرهم: ( أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ ).

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء »(١) .

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

١٥٥

٢. لما بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله سليط بن عمرو العامريّ إلى ملك اليمامة ( هوذة بن عليّ الحنفيّ ) الذي كان نصرانياً، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً، فقدم على هوذة، فأنزله وحباه وكتب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه: ( ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي، وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك ).

فقدم سليط على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بما قال هوذة، وقرأ كتابه فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو سألني سيابةً من الأرض ما فعلت باد وباد ما في يده »(١) .

ونقل ابن الأثير على نحو آخر فقال: أرسل هوذة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفداً يقول له :

( إن جعل له الأمر من بعده أسلم وصار إليه ونصره، وإلاّ قصد حربه ).

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فمات بعده قليل لا ولا كرامة أللّهم اكفنيه »(٢) .

إنّ هذين النموذجين التاريخيين الذين لم تمسّهما أيدي التحريف والتغيير يدلان بوضوح كامل على تصوّر النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مسألة الخلافة والقيادة من بعده، فهما يدلاّن على أن هذه المسألة كانت إذا طرحت على النبيّ، وسئل عمّن سيخلّفه في أمر قيادة الأمّة كان يتجنب إرجاعها إلى نفسه، أو إلى نظر الاُمّة، بل يرجع أمرها إلى الله تعالى. أو يتوقّف في إبداء النظر فيه على الأقل.

على أنّ مسألة انتخاب الخليفة القائد بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لو كانت من شؤون الاُمّة وصلاحياتها وجب أن يصرح النبيّ بذلك أو يشير إلى أصل الموضوع ولو بالإجمال.

بل وجب أن يبيّن للاُمّة الطريقة الصحيحة للانتخاب، ويذكر لهم الشروط والضوابط اللازمة في الناخب، والمنتخب، لكي يتحقق هذا الأمر بوجه صحيح، بينما نجد النبيّ لا يتعرض لهذا الأمر أبداً، ولم يؤثر عنه أي نقل، وإرشاد وتعليم في هذا المجال، رغم أهميّة الموضوع وخطورته البالغة، مع أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد تعرّض لاُمور أسهل وأبسط

__________________

(١) طبقات ابن سعد الكبرى ١: ٢٦٢.

(٢) الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢: ١٤٦.

١٥٦

من ذلك فهل مسألة القيادة، والإدارة والإمرة ـ وخصوصاً في تلك الظروف العصيبة وبالنسبة إلى تلك الاُمّة الناشئة ـ أقلّ شأناً، وأهميّةً من المستحبّات والمكروهات التي ورد فيها الكثير الكثير من الأحاديث النبويّة ؟

* * *

٢. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ

إنّ المتتبع في تاريخ الصحابة والخلفاء والذين تعاقبوا على مسند الحكومة بعد النبيّ، يرى بوضوح أنّ الطريقة التي اتبعها أولئك الصحابة، والخلفاء كانت هي الطريقة الانتصابيّة لا الانتخابيّة الشعبيّة.

فالخليفة السابق كان يعين الخليفة اللاحق، إمّا مباشرة أو بتعيين شورى تتولى هي تعيين الخليفة والاتفاق عليه ولم يترك أحد من أولئك الخلفاء أمر القيادة إلى نظر الاُمّة وإرادتها واختيارها، أو يتكل على آراء المهاجرين والأنصار، أو أهل الحلّ والعقد ليختاروا هم ـ بمحض إرادتهم ـ من يشاؤون للخلافة والإمرة.

فمن يلاحظ تاريخ الصدر الأوّل يرى، أنّ خلافة ( عمر بن الخطاب ) تمت بتعيين من أبي بكر.

وأمّا خلافة ( عثمان بن عفان ) فتمت بواسطة شورى عيّن ( عمر بن الخطاب ) أفرادها وأمرهم بانتخاب الخليفة من بين انفسهم، ولم يترك أحد من هؤلاء أمر القيادة إلى اختيار الاُمّة.

وإليك تفصيل الأمر في كيفية استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب ويليه تفصيل لكيفية استخلاف عمر بن الخطاب لعثمان بن عفان.

أ ـ استخلاف أبي بكر لعمر

قال ابن قتيبة الدينوري في تاريخ الخلفاء: ( دعا ( أبو بكر ) عثمان بن عفان ،

١٥٧

فقال: اكتب عهدي، فكتب عثمان، وأملى عليه: ( بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها، إنّي استخلف عليكم عمر بن الخطاب فإن تروه عدل فيكم ظنّي به ورجائي فيه، وإن بدّل وغيّر فالخير أردت، ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )(١) .

ويظهر من ابن الاثير ـ في كامله ـ أنّ أبا بكر أملى على عثمان عهده، ولكنّه غشي عليه أثناء الإملاء، فأكمله عثمان وكتب فيه استخلاف عمر من عند نفسه، ثمّ إنّه لـمّا أفاق أبو بكر من غشيته، وافق على ما كتبه عثمان، وإليك نصّ ما كتبه ابن الأثير: ( إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خالياً ليكتب عهد عمر فقال له: اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة، أمّابعد ثم اغمي عليه فكتب عثمان: فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً.

ثمّ أفاق أبو بكر فقال: اقرأ عليّ، فقرأ عليه، فكبّر أبو بكر، وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي )(٢) .

قال عثمان: نعم.

قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله.

فلمّا كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس فجمعهم، وأرسل الكتاب مع مولىً له مع ( عمر ) وكان عمر يقول للناس: انصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله إنّه لم يألكم نصحاً.

فسكت الناس فلمّا قرأ عليهم الكتاب سمعوا له وأطاعوا(٣) .

__________________

(١) الإمامة والسياسة للدينوريّ المتوفّي ( ٢٦٢ ه‍ ): ١٨ ( طبعة مصر ).

(٢) هل يمكن أن يلتفت الخليفة إلى الخطر الكامن في ترك الأمّة دون خليفة يستخلفها عليهم ولا يلتفت إليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

(٣) الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢: ٢٩٢ وطبقات ابن سعد الكبرى ٣: ٢٠٠ ( طبعة بيروت ).

١٥٨

وقد نقل موضوع استخلاف ( أبي بكر ) ل ( عمر ) عدة من أعلام التأريخ والحديث بهذين النحوين من النقل.

ب ـ استخلاف عثمان

وأمّا قصة استخلاف عثمان فهي كالآتي، كما نقلها وأثبتها كتّاب التأريخ وأعلام السيرة :

قال ابن قتيبة الدينوريّ في كتابه الإمامة والسياسة: ( قال عمر: ساستخلف النفر الذين توفيّ رسول الله وهو عنهم راض

فأرسل إليهم فجمعهم، وهم عليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن عوّام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمان بن عوف وكان طلحة غائباً فقال :

يا معشر المهاجرين الأولين: إنّي نظرت في أمر الناس، فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم، فتشاوروا ثلاثة أيام، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك، وإلاّ فأعزم عليكم بالله أن لا تتفرقوا من اليوم الثالث حتّى تستخلفوا أحدكم )(١) .

وكتب ابن الأثير في كامله: ( انّ عمر بن الخطاب لـمّا طعن قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت ؟ فقال: من استخلف ؟ لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته ولو كان سالم مولى حذيفة حياً لاستخلفته

فقال رجل: أدلّك عليه ؟ عبد الله بن عمر، فقال ( عمر ): قاتلك الله كيف استخلف من عجز عن طلاق امرأته الى أن قال :

عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنهّم من أهل الجنّة وهم عليّ

__________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوريّ المتوفّي عام ( ٢٦٢ ه‍ ): ٢٣.

١٥٩

وعثمان وعبد الرحمان وسعد والزبير بن عوّام وطلحة بن عبد الله.

فلمّا أصبح عمر، دعا عليّاً وعثمان وسعداً وعبد الرحمان والزبير، فقال لهم :

إنّي نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلّا فيكم. وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض. فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها، واختاروا منكم رجلاً، فإذا متّ فتشاوروا ثلاثة أيّام، وليصلّ بالناس صهيب، ولا يأتي اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير ».

فاجتمع هؤلاء الرهط في بيت حتّى يختاروا رجلاً منهم.

قال لصهيب: « صلِّ بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما وإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا، فحكّموا عبد الله بن عمر فان لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس )(١) .

وممّا يدلّ على أنّ هذا الموقف والرأي لم يكن موقف الصحابة ورأيهم خاصّة في مسألة الاستخلاف والقيادة بل إنّ الرأي العام في ذلك العهد كان يعتقد ضرورة استخلاف القائد والحاكم، وعدم ترك الأمر إلى نظر الناس وإرادتهم وانتخابهم، نظريات لطائفة من الشخصيّات نذكر بعضها فيما يأتي :

١. نقل أنّ عمر بن الخطاب لـمّا أحس بالموت قال لابنه [ عبد الله ]: ( اذهب إلى عائشة واقراها مني السلام، واستأذن منها أن أقبر في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر.

فأتاها عبد الله بن عمر فأعلمها فقال: ( نعم وكرامة ).

ثمّ قالت: ( يا بنيّ أبلغ عمر سلامي فقل له: لا تدع أمّة محمّد بلا راع استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملا، فإنّي أخشى عليهم الفتنة )(٢) . فأتى عبد الله

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٣: ٣٥.

(٢) وهل يمكن أن تلتفت أمّ المؤمنين إلى هذه النكتة ولا يلتفت إليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ما هي حقيقة العلم ؟

لقد عُرِّف العلم بأنّه صورة حاصلة من الشيء على صفحة الذهن.

وبعبارة أُخرى: هو انعكاس الخارج إلى الذهن، عند اتصال الإنسان بالخارج.

وهذا التعريف انتزعه الحكماء من كيفيّة حصول العلم للإنسان عند اتّصاله بالخارج، إذ لا شكّ أنّ الخارج لا يمكن أن يقع في اُفق الذهن بنفس واقعيّته وحقيقته وعينيّته، وإلّا لزم أن ينتقل كلّ ما للوجود الخارجي من الأثر إلى عالم الذهن، وإنّما ينتقل إليه بصورته المنتزعة منه عن طريق أدوات المعرفة من الحواس الخمس.

وبالتالي: إنّ العلم هو الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل.

غير أنّ هذا التعريف ناقص من جهات شتّى نشير إلى بعضها :

أوّلاً: عدم شموله لبعض أنواع العلم

إنّ العلم ينقسم إلى قسمين: حصولي وحضوري، وإليك بيانهما :

لو كان الشيء حاضراً عند « العالم » بصورته وماهيّته لا بوجوده الخارجي، فالعلم « حصولي ».

ولو كان المعلوم حاضراً لدى « العالم » بواقعيّته الخارجيّة من دون توسيط صورة بين الواقعيّة والعالم، فالعلم « حضوري »(١) .

__________________

(١) وستقف على مراتب العلم الحضوري.

٣٠١

ولمزيد من التوضيح نقول: إنّ الإنسان عند ما يطلّ بنظره إلى الخارج ويلاحظ ما يحيط به في هذا الكون، يشاهد شجراً وحجراً، وناراً وثلجاً، وبحراً وجبلاً، وشمساً وقمراً، فهناك :

مدرِك ـ بالكسر ـ هو الإنسان وشيء في الخارج وهو المدرَك ـ بالفتح ـ وصورة متوسطة منتزعة من الشيء الخارجي تنتقل إلى مركز الإدراك، عبر أدوات الاحساس والمعرفة.

وبما أنّ الحاضر ـ عندنا ـ ليس هو ذات القمر والشمس أو النار والثلج بوجودهما الخارجيين، وإنّما الحاضر ـ عندنا ـ وفي ذهننا هو « الصورة » المنتزعة الحاصلة من الخارج يسمى الشيء الخارجي « معلوماً بالعرض » والصورة الذهنية الحاكية للخارج « معلوماً بالذات » لأنّ الخارج معلوم بوساطة هذه الصورة، ولولاها لانقطعت صلة الإنسان بالخارج، والواقع الخارجي.

وأمّا قولنا: بأنّ الخارج ليس حاضراً عندنا بواقعيّته الخارجيّة فهو أمر واضح لأنّ الذهن غير قادر على تقبّل الشيء بواقعيته الخارجية الحارة، الباردة الخشنة، الثقيلة إلى غير ذلك من الآثار المحمولة على الخارج.

وهذا هو العلم الحصولي، وعلى ذلك ينطبق التعريف المذكور مطلع هذا البحث.

وهناك نوع آخر من العلم يسمّى بالعلم الحضوري وهو عبارة عن حضور نفس المعلوم بواقعيّته الخارجيّة عند الذهن لا بصورته ومفهومه.

وعند ذلك ينقلب التثليث(١) المذكور في تعريف « العلم الحصولي » إلى تقسيم ثنائي فلا يكون ثمّة مدرِك ـ بالكسر ـ ومدرَك ـ بالفتح ـ بواقعيته الخارجية وصورة ومفهوم منها بل يكون مدرِك ـ بالكسر ـ ومدرك، وربّما يكون اُحاديّاً كما

__________________

(١) الانسان المدرك والشيء الخارجي وصورته الذهنية.

٣٠٢

سيوافيك بيانه.

نماذج من العلم الحضوري

أ. نفس الصورة الحاصلة في الذهن، الحاكية للواقع الخارجي، فإنّ علم الإنسان بالخارج يتحقّق بتوسط هذه الصورة.

أمّا نفس الصورة فهي معلومة بالذات من دون توسّط شيء بين الذهن وتلك الصورة المدركة.

فالخارج وإن كان معلوماً عبر هذه الصورة وبواسطتها، إلّا أنّ نفس الصورة معلومة بذاتها لدى النفس حاضرة في حورتها.

ب. علم الإنسان بذاته: فإنّ ذات الإنسان حاضرة بذاتها لديه، وليست ذاته غائبة عن نفسه، فهو يشاهد ذاته مشاهدة عقليّة ويحس بها احساساً وجدانيّاً، ويراها حاضرة لديه من دون توسّط شيء بين الإنسان وذاته من قبيل الصورة المنتزعة عن الخارج.

وفي هذه الحالة ينقلب التقسيم الثنائي المذكور في القسم الأوّل من « العلم الحضوري » إلى حالة احادية، وهي وحدة العاقل والمعقول، والعالم والمعلوم.

فالإنسان ـ في هذه الحالة ـ هو العالم وهو المعلوم في وقت واحد وبهذا يتّحد المدرِك والمدرَك وهذا يفيد: إنّ ذات الإنسان علم وانكشاف وليس بين الذات ونفسه أيّ إبهام وحجاب.

قال الحكيم السبزواري في منظومته :

وحصولي كذا حضوري

في الذات ما الحضور بالمحصور

فأوّل صورة شيء حاصله

للشيء والثاني حضورالشيء له(١)

__________________

(١) المنظومة قسم الفلسفة: ص ١٤٣.

٣٠٣

إذا وقفت على هذا عرفت بأنّ علم الإنسان بذاته علم حضوري، إذ لا تغيب ذات الإنسان ونفسه عن نفسه.

وبهذا تقف على ضعف ما نقل عن الفيلسوف الفرنسي « ديكارت » حيث أراد الاستدلال على وجود نفسه بكونه مفكراً إذ قال: « أنا اُفكر فإذن أنا موجود » حيث استدلّ بوجود التفكّر على وجود المفكّر وهو نفسه.

فإنّ هذا الإستدلال خال عن الإتقان لوجهين :

أوّلاً: إنّ علم الإنسان بوجود نفسه علم حضوري وضروري لا يحتاج إلى البرهنة عليه والاستدلال بشيء، فليس علم الإنسان بتفكّره أقوى وأوضح عنده من علمه بذاته ونفسه.

وثانياً: إنّ « ديكارت » اعترف بالنتيجة التي سعى إليها في مقدمة كلامه وجملته، إذ قال: أنا اُفكر فإذن أنا موجود.

فقد أخذ وجود نفسه ( التي عبر عنها ب‍ « أنا » ) أمراً مفروضاً واقعاً مسلّماً بينما هو يريد الاستدلال على وجود « أنا » وهذا من باب قبول النتيجة قبل الاستدلال عليها.

فالحقّ هو أنّ « علم الإنسان بذاته » وأنّه أمر موجود وحقيقة كائنة بنحو من الانحاء لا يحتاج إلى البرهنة والاستدلال أصلاً.

ج. علم الإنسان بالمشاعر النفسية: إنّ الآلام والأفراح التي تحيط بالإنسان جميعها معلومة للإنسان بالعلم الحضوري الذاتي، فإنّ هذه الأحاسيس والمشاعر حاضرة بوجودها الخارجي لدى الإنسان من دون حاجة إلى أخذ صورة عنها.

د. علم العلة بمعلولها: إنّ علم العلّة بمعلولاتها ليس علماً حصولياً بل علم حضوري لما سيوافيك من أنّ نسبة وجود المعلول إلى العلّة كنسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي، وإنّ المعلول بوجوده وهويته الخارجية قائم بعلّته. والمراد من

٣٠٤

العلّة، هو الفاعل الالهي أي معطي الوجود.

وما هو هذا حاله لا يمكن غيابه عن العلّة، ولا يمكن عدم حضوره في ساحته، وهو عبارة اُخرى عن علم العلّة بمعلوله. وسيوافيك توضيحه في محله.

هذه هي بعض أقسام العلم الحضوري ونماذجه وقد أتينا بهذا القدر على سبيل المثال لا الحصر.

فاتّضح ـ بما ذكرناه ـ أنّ التعريف الذي مرّ عليك في مطلع هذا البحث تعريف غير شامل لأفضل أنواع العلوم وأسناها.

ثانياً: عدم شموله للمعقولات الثانية المنطقية

إنّ نقص التعريف الماضي لا يختصّ بما ذكر بل هناك نقص آخر وهو عدم شموله للمعقولات الثانية المنطقيّة.

وتوضيح ذلك: انّ ما يرد إلى الذهن ينقسم إلى معقولات أوّليّة، ومعقولات ثانية(١) . فكلّ مفهوم له فرد واقعي في خارج منه تؤخذ الصورة وتنتزع حتى ترد إلى حوزة النفس، ومجال الذهن فهو معقول أوّل، وذلك كالألوان وما شاكل ذلك.

وكلّ مفهوم لا نجد له فرداً خارجيا غير أنّه يقع في اُفق النفس بتعاملات ذهنيّة وذلك مثل المفهوم الكلّي والنوع والجنس والمعرّف والحجّة، وغير ذلك من المفاهيم التي تعد موضوعات للمسائل المنطقية(٢) .

فإنّ كلّ واحد من هذه المفاهيم، مفاهيم ذهنية ليس لها مصاديق في الخارج

__________________

(١) والمعقولات الثانية تنقسم الى معقولات ثانية منطقية ومعقولات ثانية فلسفية والكل خاص.

(٢) قال الحكيم السبزواري :

إن كان الاتصاف كالعروض في

عقلك فالمعقول بالثاني صفي

٣٠٥

بحيث ينتزع هذا المفهوم من ذلك الشيء الخارج، وإنّما يصفه الذهن بتعامل فكري قد أوضحه المحققون في محلّه.

لا أقول: إنّ هذه المفاهيم من مصنوعات الذهن، ومفتعلاته التي لا صلة لها بالخارج أبداً، لأنّ كلّ ما في الذهن لابدّ وأن يرجع بنحو من الأنحاء إلى الخارج ولكن كون الخارج مبدأً لوقوع هذه المفاهيم في الذهن، غير وجود مصداق خارجي له.

ونأتي هنا بأمثلة :

أ ـ مفهوم الإنسان الكلّي :

فإنّ هذا المفهوم المقيّد بالكلّية ليس له وجود إلّا في محيط الذهن، فإنّ الإنسان وإن كان موجوداً في الخارج لكنّه جزئي متشخّص، بخلاف مفهوم الإنسان الذي له سعة أن يشمل كلّ فرد من أفراده، والمفهوم بهذه السعة غير موجود إلّا في الذهن، فإنّ كلّ ما في الخارج أمر جزئي متشخّص ومتعيّن، والمفهوم الكلّي الوسيع خال عن التشخّص والتعيّن، بدليل صدقه على هذا المتشخّص، وذاك المتعيّن ومع ذلك فهذا المفهوم الكلّي يصنعه الذهن بمقايسة بعض الأفراد ببعض، وانتزاع المشتركات منها.

وعلى الجملة فهذا المفهوم ( أي مفهوم الإنسان الكلّي ) معلوم لنا، والنفس واقفة عليه، غير أنّه ليس من قبيل « الصورة الحاصلة من الشيء في الذهن » وإنّما هو من مخلوقات الذهن ومصنوعاته بعد اتّصاله بالواقع الخارجي، ومشاهدة أفراده ومصاديقه.

٣٠٦

ب ـ مفهوم الجنس والنوع :

إنّ المنطق يبحث عن مفاهيم، مثل النوع والجنس، والمعرّف، والحجّة، وغير ذلك من المفاهيم التي تعد موضوعات لذلك العلم.

فالنوع عبارة عن مفهوم يحكي عن القدر المشترك بين أفراد متّحدة الحقيقة كالإنسان والجنس عبارة عن تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثّرة بالحقيقة في جواب ما هو كالحيوان.

ومن المعلوم أنّ القدر المشترك، سواء أكان قدراً مشتركاً لمتّفقة الحقيقة أو لمختلفتها لا يمكن أن يكون له مصداق في الخارج، لأنّ الخارج طرف للتعيّن والتشخّص، فما لزيد من الإنسانيّة فهو يختصّ به، وما لعمرو منها فهو له خاصّة أيضاً، ولا يعد كلّ ما يختصّ قدراً مشتركاً، وإنّما القدر المشترك هو المفهوم الذهني الذي لا يتشخّص، ولا يتقرّر بعنوان فرد من الأفراد، ولأجله يقدر أن يحكي عن كلا الفردين، بسعة مفهومه وعموميّة معناه.

فلأجل ذلك لا يوجد لهذه المفاهيم موطن إلّا الذهن، وليس له مصداق إلّا فيه، ومع ذلك فهو يحكي بنحو من الأنحاء عن الخارج، ويؤخذ منه بشكل من الاشكال، لكن الحكاية عن الخارج، غير كون الخارج مصداقاً له، كما أنّ أخذه من الخارج بمقايسة الأفراد بعضهم ببعض غير كونه مأخوذاً من الخارج مباشرة

وبذلك يعلم أنّ المعرِّف بما هو أمر كلّي يعرف أمراً كلّياً ليس له موطن إلّا في الذهن كالحيوان الناطق المعرّف للإنسان، وهكذا الحجّة بما هو قضايا كلّيّة يستدلّ بها على قضية كلّية اُخرى لا موطن لها إلّا الذهن.

فإنّ الاستدلال عبارة عن الانتقال عن العلّة إلى معلوله أو منه إلى علّته أو من اللازم إلى اللازم فكلّ هذه الاُمور قضايا كلّية تهدينا إلى قضية كلّية اُخرى.

٣٠٧

فقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، حجّة على قولنا: العالم حادث. فتحصل أنّ هناك علوماً ذهنيّة ليست صوراً متّخذة من الخارج، ولا حاصلة منه.

وعلى هذا يجب أن يعرّف « العلم » بنحو يشمل هذا النوع أيضاً، وإلّا كان ناقصاً كما عرفت.

ثالثاً: عدم شموله للمحالات والمعدومات

لا شكّ أنّ النفس كثيراً ما تتصوّر مفاهيم ممتنعة، وتقضي بأنّها لا يمكن أن تتحقّق في الخارج أبداً، وذلك مثل الدور، والتسلسل، واجتماع النقيضين، والضدّين.

فهذه معلومات نفسانيّة يقف عليها الإنسان، مع أنّها ليست صوراً متّخذة من الخارج ولا منتزعة من شيء في الواقع الخارجي، وإلّا يلزم عدم امتناعها.

رابعاً: عدم شموله للأرقام الرياضية

إنّ الإنسان يتصوّر أرقاماً بعد الواحد إلى المئات والاُلوف، وهذه مفاهيم علميّة للنفس تستخدمها في العلوم الرياضيّة والهندسيّة مع أنّها ليست منتزعة من الخارج كما تؤخذ صورة زيد عن وجوده الخارجي.

فإنّ الموجود في الخارج هو الآحاد، وأمّا العشرة أو المائة أو الألف بهذه المفاهيم المتكثّرة فهي ممّا تصنعه النفس.

فإنّ النفس تصنع هذا المركّب بعد مشاهدة الأفراد من دون أن يكون للمركّب مصداق وراء الآحاد فلو حضر في البيت عشرة رجال، فالموجود ـ في الحقيقة ـ هو الآحاد، وليس وراء ذلك، أيّ موجود باسم المركّب، وإلّا كانت العشرة أحد عشر.

٣٠٨

نكتة يجب التنبيه إليها

إنّ مجرد انعكاس الصورة من الخارج في الذهن، سواء قلنا بمادّيتها أو بتجرّدها عن الماديّة، لا يعادل العلم، ولا يساوقه، وإلّا لكانت الصورة المنعكسة في المرايا علماً، والمرآة عالمة، بل يجب أن يكون هناك أمر آخر وهو لزوم نوع وحدة بين الصورة وحاملها وعينيّة بين العلم بالذات والعالم، بحيث تعد الصورة من مراتب وجود العالم، ومظهراً من مظاهر وجوده.

وهذه الحقيقة هي الّتي حقّقها الفلاسفة في البحث عن اتّحاد العاقل والمعقول، والمراد من العاقل هو الإنسان العالم بالشيء، ومن المعقول هو الصورة الذهنيّة.

فيجب أن يكون وجود الصورة بوجه يتّحد مع النفس، اتّحاد العرض مع جوهره في الوجود، وإلّا فلو عدّت النفس ظرفاً للصورة، والصورة شيئاً موجوداً فيه، كانت أشبه شيء بالصورة المنعكسة في المرايا.

إجابة عن سؤال :

لقد اتّضح ممّا ذكرنا: إنّ الصور الذهنية على نوعين :

١. صور منتزعة من الخارج، ومأخوذة عنها مباشرة.

٢. صور غير منتزعة من الخارج، وإنّما تعدّ من صنائع النفس ومخلوقاته، وعلى هذا فينطرح السؤال التالي :

إنّ الله سبحانه يقول:( وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( النحل / ٧٨ ).

والآية صريحة في أنّ مفاتيح العلم، وصيرورة الإنسان غير العالم عالماً هو « الحواس » ومع ذلك فكيف يمكن أن يقال إنّ هناك مفاهيم وصور معلومة للإنسان

٣٠٩

غير واردة إلى الذهن من الخارج عند اتّصاله به.

الجواب :

لا شك انّ كلّ ما يقف عليه الإنسان وليد صلته بالخارج وارتباطه به، فلو ولد الإنسان فاقداً لحواسّ تربطه بالخارج، لما انقدح ولا ظهر في ذهنه شيء، ولأجل ذلك يقول الفيلسوف الإسلامي « أبو علي »: « من فقد حسّاً فقد علماً »(١) .

ويقول « جون لاك »: « ليس في العقل شيء إلّا وقبله في الحسّ شيء آخر ».

ومع هذا فإنّ المفاهيم على قسمين :

١. ما تؤخذ مباشرة من الخارج، ويكفي في هذا القسم مجرّد الارتباط، كالصورة الواردة إلى الذهن، من الحجر والشجر، والقلم، والمنضدة وما شاكل ذلك.

٢. ما لا يؤخذ من الخارج بهذا النحو، غير أنّ ارتباط الإنسان بالخارج واتّصاله به يهيئه ويعطيه استعداداً لأن يصنع هذه المفاهيم الكلّية، بحيث لولا تلك الصلة لما استطاعت النفس البشرية أن تصنع تلكم المفاهيم.

وهذا مثل تصوّر « الإنسان الكلّي »، فهذا المفهوم وإن لم يكن منتزعاً من الخارج كانتزاع صورة القلم عنه، غير أنّ صلة الإنسان بهذا الفرد من البشر، وذاك الفرد يعطيه قدرة لأن يصنع في محيط الذهن « مفهوماً كلّياً » قابلاً لأن يحكي عن كلّ ما يمكن أن يعدّ قدراً مشتركاً.

وبهذا الشكل يستطيع الإنسان أن يأخذ كثيراً من المفاهيم الّتي ليس لها

__________________

(١) قد استفيض نقل هذا الكلام عن الشيخ الرئيس.

٣١٠

مصاديق واقعيّة في الخارج، غير أنّ صلة الإنسان بالخارج توفّر له مقدرة على صنعها، وذلك مثل كثير من المفاهيم كالمحالات والممتنعات والأرقام الرياضية بل المفاهيم الاعتبارية ـ على ما هو محقّق في محله ـ.

تعريف العلم بوجه آخر

إنّ أصحّ التعاريف واتقنها هو أن يقال: إنّ العلم عبارة عن « حضور المعلوم لدى العالم ».

ليس الهدف من التعريف، التعريف الحقيقي حتّى يؤخذ عليه بأنّه مستلزم للدور لأخذ المعرِّف، جزءاً للمعرَّف وإنّما الهدف الاشارة إلى واقعيّة العلم بوجه من الوجوه وإنّ ماهيّته حضور ما وقف عليه الإنسان عند النفس فحقيقة العلم، حضور شيء لدى شيء.

وهذا التعريف يشمل العلم بقسميه الحصولي والحضوري.

غير أنّ الحاضر في الأوّل هو الصورة، ونفس المعلوم بالذات دون المعلوم بالعرض، أي الواقعيّة الخارجيّة.

وفي الثاني نفس الواقعيّة ( الخارجية أو الذهنية » من دون توسّط صورة بين العالم والمعلوم، فلا ترد الاشكالات الّتي وردت على التعريف الأوّل.

وهذا يشمل علم الإنسان بذاته، فإنّ ذات كلّ إنسان حاضرة لديه، غير غائبة عنه كما هو مقرّر في أدلّة تجرّد النفس.

فالذات بما هي واقفة على نفسها تعدّ « عالماً »، وبما أنّها مكشوفة لنفسها غير غائبة عنها تعد « معلوماً » وبما أنّ هناك حضوراً لا غيبوبة تتحقق ثمّة واقعيّة للعلم.

وهذا التعريف تعريف جامع يشمل كلّ أنواع العلوم الحاصلة في الممكن والواجب، ويدخل تحته علم النفس، بنفس الصورة الذهنية، فإنّها بواقعيّتها الذهنيّة

٣١١

حاضرة لديها بلا توسيط صورة بينها وبين الصورة.

إذا وقفت على هذه المقدمات فاعلم أنّ البحث في علمه سبحانه تارة يقع في علمه بذاته، وثانياً في علمه بالأشياء.

فلنقدّم البحث الأوّل على الثاني.

علمه سبحانه بذاته :

فنقول: المراد من علمه سبحانه بذاته، ليس علمه بها على نحو العلم الحصولي، بمعنى أخذ صورة عن الذات ومشاهدتها عن طريق الصورة، لأنّ العلم بها عن هذا الطريق محال في حقّه سبحانه، لأنّ انتزاع الصورة فرع التعرّف على المنتزع، فلو كان التعرّف عليها عن طريق انتزاع الصورة لزم الدور.

وإن قيل تقدّم الصورة الحاكية عن الذات، يلزم تركّبه من صورة وذيها.

بل المراد حضور ذاته لدى ذاته ويمكن اثباته بوجهين :

الدليل الأوّل: لا شك إنّه سبحانه مبدئ لموجودات عالمة بذواتها، أي حاضرة لديها بنفسها كالإنسان فلابدّ أن يكون سبحانه المعطي لذلك الكمال واجداً له بأتمّ وجه وأفضله، إذ لا يمكن أن يكون معطي الكمال فاقداً له، فهو واجد لهذه الصفة، وذاته حاضرة لديه بأحسن ما يكون من معنى للحضور.

ونحن وإن كنّا لا نحيط بكيفيّة علمه وخصوصيّة حضور ذاته لديه سبحانه، غير انّا نشير إلى هذا العلم ب‍ « حضور ذاته لديه وعلمه بها من دون وساطة شيء في البين أبداً ».

وخلاصة القول بأنّه كيف يسوغ عند ذي فطرة إنسانيّة أن يكون واهب كمال ما، ومفيضه، قاصراً عن ذلك الكمال ؟ فيكون المستوهب أشرف من الواهب، والمستفيد أكرم من المفيد، وحيث ثبت استناد جميع الممكنات إلى ذاته ( تعالى ) التي هي وجوب صرف وفعليّة محضة ومن جملة ما يستند إليه هي الذوات العالمة ،

٣١٢

والمفيض لكلّ شيء أوفى بكلّ كمال، لئلا يقصر معطي الكمال عنه، فكان الواجب عالماً، وعلمه غير زائد على ذاته(١) .

الدليل الثاني: لا شكّ أنّ الموجود المادي ـ بما له من وجود مادي ـ تغيب بعض أجزائه عن بعضه.

فالمادة بما أنّها متكمّمة ( أي لهاكم ) ذات أبعاض وأجزاء ولا يكون لها وجود جمعي لا يجتمع مجموع أجزائها في مقام واحد.

وبعبارة اُخرى: إنّ الكائن المادي بملاحظة كونه متكمِّماً متفرّق الأجزاء ولهذا تغيب بعض أجزائها عن البعض الآخر.

كما أنّه بحكم كونه موجوداً زمانياً تدريجياً وذا وجود سيّال، متدرّج في عمود الزمان يقع بعضه في ما مضى من الزمان وبعضه الآخر في الحال، وبعضه في المستقبل ولهذا لا يمكن أن يحصل ذاته بجميع أبعادها وخصوصيّاتها لديه جملة واحدة.

وبذلك تكون غيبة المادة زماناً وأبعاضاً أمراً مضاداً مع حضور الذات، وما ذلك إلّا لكون المادة ـ كما أسلفنا ـ شيئاً متكمّماً ذات كمّية وذات أجزاء وأبعاض، أو زمانيّاً واقعاً بعضه في زمان، وبعضه الآخر في زمان آخر.

وهذا يعني: إنّ التبعّض، والتدرّج موانع وحواجب تحجب الشيء عن نفسه، وتمنع من علم الشيء بكلّ ذاته.

وأمّا اذا كان الموجود منزّها عن عوامل الغيبة هذه، كما لو كان مجرّداً منزّهاً عن المادة والماديّة وعن التبعّض العنصري المكاني، أو التدرّج الزماني بل كان وجوداً بسيطاً من غير أن يكون له أجزاء وأبعاض وأطراف، كانت ذاته حاضرة لديه

__________________

(١) الاسفار: ج ٦، ص ١٧٦.

٣١٣

حضوراً كاملاً، مطلقاً.

وذلك مثل حضور النفس عند ذاتها وعلمها بذاتها وبقواها، فإنّ حضور ذاتنا عند ذاتنا لايراد منه حضور أبعاض جسمنا، بعضها عند بعض، بل المراد حضور الإنسان المعبّر عنه بلفظة ( أنا ) المجرّد عن الزمان والمكان، المنزّه عن التكمّم والتدرّج.

فلو فرضنا موجوداً في صعيد أعلى من التجرّد والبساطة وأتم تجرداً من النفس وعارياً عن عوامل غيبة الذات عن نفسها، التي هي من خصائص الكائن المادي، كانت ذاته حاضرة لديه، وهذا يعني علم الله سبحانه بذاته، فإنّه بمعنى حضور ذاته لدى ذاته بأتمّ وجه وأكمل.

وأنت أيّها القارئ الكريم إذا أمعنت النظر في ما تلوناه عليك يسهل لك نقد ما استدل به على عدم علمه بالذات، وإليك بيانه :

العلم بالذات يستلزم التغاير بين العلم والمعلوم

استدل النافون لعلمه سبحانه بذاته بأنّ العلم نسبة، والنسبة تتحقّق بين شيئين متغايرين وهما طرفان بالضرورة، ونسبة الشيء إلى نفسه محال إذ لا تغاير هناك.

وقد أجاب عنه المحقّق الطوسي في التجريد بقوله :

« والتغاير اعتباري »

توضيحه: « إنّ المغايرة قد تكون بالذات وقد تكون بنوع من الاعتبار، وهاهنا ذاته تعالى من حيث انّها عالمة مغايرة لها من حيث انّها معلومة، وذلك كاف في تعلق العلم »(١) .

__________________

(١) كشف المراد: ص ١٧٥.

٣١٤

وإن شئت قلت: « إنّ ذات الباري تعالى باعتبار صلاحيتها للمعلوميّة في الجملة مغايرة لها باعتبار صلاحيتها للعالميّة في الجملة وهذا القدر من التغاير يكفي لتحقّق النسبة »(١) .

وبعبارة ثالثة: إنّ الذات من حيث انّها عالمة مغايرة لها من حيث هي معلومة فصحّت.

وإلى ما ذكرنا يشير الفاضل المقداد من أنّ الصورة إنّما تعتبر في غير العلم بالذات كالعلم بالأشياء لا في العلم بالذات(٢) .

والحاصل: انّ التعدد والتغاير إنّما هو في العلم الحصولي ففيها الصور المعلومة غير الهوية الخارجيّة.

وأمّا إذا كان الذات بالذات نوراً وانكشافاً وعلماً وحضوراً فلا يشترط فيه التعدّد والتغاير بل يصحّ اطلاق العالم والمعلوم عليه بالحيثيتين.

فلأجل انكشاف ذاته لذاته يسمّى « علماً » وبحسب كون الذات مكشوفة تسمّى « معلوماً ».

وإن شئت قلت: باعتبار أنّه يدرك ذاته فلا تغيب ذاته عن ذاته فهو عالم.

وباعتبار أنّ الذات حاضرة لديه فهو معلوم.

وإلى ذلك يشير كلام أمير المؤمنين عليّ٧ : « يا من دلّ على ذاته بذاته ».

إلى هنا تمّ الكلام في علمه سبحانه بذاته وحال حين البحث عن علمه بالأشياء وإليك البيان.

__________________

(١) شرح القوشجي: ص ٣١٣.

(٢) ارشاد الطالبين: ص ٢٠١.

٣١٥

٢ ـ علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد

إنّ علمه سبحانه بالأشياء يتصوّر على وجهين :

الأوّل: علمه بها قبل الإيجاد.

الثاني: علمه بها بعد الإيجاد.

وقد اتّفق الحكماء على علمه بها بعده، وإنّما اختلفوا في علمه بها قبله، فهم بين مثبت وناف، والمثبت بين كون علمه إجمالياً لا تفصيلياً، وكونه كشفاً تفصيليّاً في عين البساطة والاجمال وإليك براهين المثبتين :

الدليل الأوّل: العلم بالسبب بما هو سبب، علم بالمسبب

العلم بالعلّة بما هي علّة، والحيثيّة التي هي سبب لوجود المعلول، لا ينفك عن العلم بالمعلول ولتقريب الدليل نمثل بأمثلة :

أ: المنجّم العارف بالقوانين الفلكية والمحاسبات الجوية يقف على أنّ الخسوف أو الكسوف أو ما شاكل ذلك، يتحقّق عند الوقت أو الوضع الفلاني، وليس علمه بهذه المعلومات ناشئاً إلّا من العلم بالعلّة من حيث هي سبب لكذا وكذا.

ب: إنّ الطبيب العارف بحالات النبض وأنواعه، وأحوال القلب وأوضاعه، يقدر على التنبّؤ بما سيحدث لهذا المريض مستقبلاً إذا عرف بحالة قلبه أو وضع نبضه، وليس هذا العلم بالمعلول إلّا من طريق العلم بالعلّة من حيث هي علّة لكذا وكذا.

ج: والصيدلي العارف بخصوصيّة مائع خاص وكونه سمّاً قاتلاً لا يطيق الإنسان تحمّله سوى دقائق، يقف من العلم بهذه الخصوصيّة على أنّ شاربه سيقضي على حياته، بشربه ذلك المائع.

٣١٦

والله سبحانه لـمّا كان علّة للعالم إذ لا يستمدّ العالم بأجمعه وجوده من غير ذاته تعالى، فالعلم بالذات علم بالحيثيّة الّتي هي سبب لتحقّق العالم وتكوّنه.

فالعلم بالذات ( كما عرفت ) علم بنفس النظام لأنّ النظام معلول له وصادر منه وهذا هو معنى قولهم الشائع: « العلم بالنظام الربّاني، نفس العلم بالنظام الكياني ».

ويمكن توضيح البرهان ببيان مقدّمات.

الأُولى: إنّه تعالى علّة وفاعل لما عداه بحيث تكون الممكنات بجملتها مستندة إليه من وجوداتها وماهيّاتها، غاية الأمر استناد جميع الوجودات الممكنات إليه تعالى يكون بالذات، واستناد الماهيّات(١) إليه بالعرض.

الثانية: علّية شيء لشيء هي عبارة عن كونه على جهة وخصوصيّة يأبى أن لا يترتب عليه المعلول.

وإن شئت قلت: إنّ معنى علّية شيء لشيء اشتمال الشيء الأوّل على حيثيّة وخصوصيّة توجب ـ ايجاباً قطعياً ـ وجود المعلول في الخارج، بحيث لولا هذه الحيثيّة لما يتحقّق المعلول.

ومن هذا يعلم أنّ بين تلك الحيثيّة القائمة بالعلّة ووجود المعلول رابطة وصلة خاصة بحيث تقتضي نفس الحيثيّة، ذلك المعلول ولولا تلك الصلة لكان نسبة المعلول إلى تلك الحيثيّة وغيرها سواسية مع أنّها ضرورية البطلان.

وبكلمة واضحة إذا كانت النار مبدأً للحرارة بحيث لا تنفك الثانية من الاُولى نستكشف عن رابطة بين الشيئين، وإلّا يلزم أن تكون نسبة الحرارة إلى النار وسائر

__________________

(١) المراد بالماهيات هي خصوصيات الوجود وحدوده من المعدنية والنباتية والحيوانية فالخصوصيات التي تبيّن حد الوجود وتشخّصه خصوصيات خاصة تسمّى بالماهية المتحققة في الخارج بالوجود.

٣١٧

الأجسام سواسية وهذا بديهي البطلان.

نعم تلك الحيثيّة الّتي تعدّ مبدأً للعلّية، تكون في العلل الماديّة زائدة على الذات وفي العلل العلوية وبالأخص الحق سبحانه نفس ذاته.

الثالثة: إنّ فاعليته تعالى لما عداه، يكون بنفس ذاته، لا بخصوصيّة طارئة عليه وجهة زائدة عليه فهو تعالى بنفس ذاته، المحيط بكلّ شيء وقيّوم له، فاعل لكلّ شيء كيف، وإلّا يلزم أن يكون في فاعليته مفتقراً إلى غيره(١) فيلزم أن يكون في وجوده أيضاً كذلك وهو خلف، فالواجب فاعل في ذاته بذاته، لا بحيثيّة متضمّة إلى ذاته تقييدية كانت أو تعليلية.

الرابعة: إنّه تعالى عالم بذاته وأنّ علمه بذاته عين ذاته ـ كما عرفت ـ.

إذا عرفت ذلك تقف على أنّ علمه بذاته مستلزم للعلم بمعاليله ومخلوقاته وإنّ أحد العلمين لا ينفك عن الآخر وذلك لأنّه إذا كان العلم بالحيثيّة مستلزماً للعلم بالمعلول وكانت تلك الحيثية حسب المقدمة الثالثة نفس ذاته ينتج إنّ العلم بالذات، نفس العلم بالمعاليل والمعلومات.

وبعبارة اُخرى :

العلم بالجهة المقتضية للشيء الّتي هي العلّة حقيقة ( وهي في الواجب تعالى نفس ذاته ) مستلزم للعلم بما يترتّب عليها من المعلول.

ففرض تلك الذات في العين، يلازم لازمها في العين، وإذا حصلت في الذهن، يترتّب عليها في الذهن قضاء لحكم اللزوم، فالعلم بالسبب من حيث هو سبب، مستلزم للعلم بالمسبب المترتّب عليه وهذا الاستلزام يتصوّر على أنحاء أكملها: أن يكون العلم بالمسبّب عين العلم بالسبب فيكون العلم بالسبب عين

__________________

(١) قد ثبت في محله أنّ الافتقار في الفعل لا ينفكّ عن الافتقار في الذات، ولأجل ذلك قالوا واجب الوجود بالذات واجب من جميع الجهات.

٣١٨

العلم بالمسبب، وذلك بناء على أن يكون المسبب بعينه موجوداً بعين وجود السبب على ما هو مقتضى بساطته(١) .

وقد أشار إلى هذا البرهان طائفة من المتكلّمين والحكماء نذكر بعض كلماتهم :

١ ـ قال العلّامة الحلّي في كشف المراد: إنّ كلّ موجود سواه ممكن، وكلّ ممكن فإنّه مستند إلى الواجب إمّا ابتداءً أو بوسائط، وقد سلف: إنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول، والله تعالى عالم بذاته على ما تقدّم فهو عالم بغيره.

وقد أوضح العلّامة الحلّي في المسألة السابعة من الفصل الخامس ( بحث الأعراض ) كيفيّة استلزام العلم بالعلّة العلم بالمعلول إذ قال ما هذا توضيحه: إنّ العلم بالعلّة يقع على ثلاثة أنواع :

أ ـ العلم بذات العلّة لا بالحيثيّة التي تستند إليه الأشياء، فمثل هذا لا يستلزم العلم بالمعلول.

ب ـ العلم بها بما أنّها مستلزم لشيء آخر ومثل هذا العلم يلازم العلم بالمعلول لكن علماً غير تام بعامّة خصوصيّات المعلول.

ج ـ العلم بالعلّة بتمام خصوصيّاتها وذاتها ولوازمها وملزوماتها، وعوارضها ومعروضاتها، وما لها في ذاتها ومالها بالقياس إلى الغير.

وهذا هو العلم التام بالعلّة، وهو يستلزم العلم التام بالمعلول فإنّ المعلول وحقيقته، لازم للعلّة بهذه الحيثيّة.

فلو تعلّق العلم بالعلّة بهذه الحيثية يستلزم العلم بالمعلول(٢) .

__________________

(١) درر الفوائد: ج ١، ص ٤٨٥ ـ ٤٦٧.

(٢) كشف المراد راجع المقصد الاول الفصل الخامس المسألة السابعة عشرة والمقصد الثالث المسألة الثانية.

٣١٩

والله سبحانه بما أنّه بسيط من كلّ الجهات فالعلم بالذات البحث البسيط، هو عين العلم بالحيثيّة التي تصدر بها عنه الأشياء، فمثل هذا العلم يلازم العلم بعامّة معلولاته على الترتيب الذي يصدر عنه.

٢ ـ وقال صدر المتألّهين: إنّ ذاته سبحانه لـمّا كان علّة للأشياء ـ بحسب وجودها ـ والعلم بالعلّة يستلزم العلم بمعلولها على الوجه الذي هو معلولها، فتعلّقها من هذه الجهة لابد أن يكون على ترتيب صدورها واحداً بعد واحد(١) .

وهذه العبارة تفيد: انّ علمه سبحانه بالأشياء قبل الخلقة محقّق حتى على الترتيب الذي توجد به الأشياء في نظام الأسباب والمسبّبات.

٣ ـ وقال الحكيم الالهي السبزواري نظماً :

وعالم بغيره إذا استند

إليه وهو ذاته لقد شهد

بالسبب العلم بما هو السبب

علم بما هو مسبّب به وجب

ثمّ قال شارحاً ذلك :

وحاصله: انّ الأشياء في ذواتها مستندة إليه تعالى وهو تعالى علم بذاته، والعلم بالعلّة بما هي علّة يقتضي العلم بالمعلول، فهو تعالى ينال الكلّ من ذاته.

ثمّ التقييد بقولنا: « بما هو السبب » إشارة إلى أنّ المراد من العلم بالسبب: العلم بالجهة المقتضية للمسبب سواء كانت عين ذاته أو زائدة.

ولا شك انّها عين حيثيّة ترتب المسبب على السبب إذ التخلف عن السبب التام محال، كما أشرنا إليه بقولنا: « به وجب ».

فكلّما حصلت « الحيثية » في ذهن أو خارج حصل ذلك المسبّب فيه، إذ

__________________

(١) الاسفار: ج ٦، ص ٢٧٥ وغيره مفصلاً ومختصراً.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538