مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237271 / تحميل: 6094
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

اللازم ممتنع الانفكاك عن الملزوم، وحكم المنجّم بما سيقع، والطبيب الحاذق حيث يقول: الشيء الفلاني ينذر بكذا وكذا من هذا الباب(١) .

الدليل الثاني: بسيط الحقيقة كلّ الأشياء

ربّما يستدل على علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد بالقاعدة الشريفة التي تفطّن إليها الفيلسوف الكبير صدر الدين الشيرازي وهي: « بسيط الحقيقة كلّ الأشياء على النحو الأتم الأكمل الأبسط » وهذه القاعدة تثبت علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد في مرتبة الذات بالتوضيح التالي :

إذا لاحظنا الوجودات الخاصة كالسماء والأرض ونحوهما نرى ثمّة وجوداً كوجود السماء ـ مثلاً ـ ولهذا الوجود حداً، وينتزع من حدّه ماهيّة، وهي ماهيّة السماء، فيلاحظ حينئذ أشياء ثلاثة: ذات الوجود، وحدّه، والماهية المنتزعة من حد، فينحلّ الملحوظ إلى ثلاثة :

١ ـ حقيقة الوجود.

٢ ـ حد ذلك الوجود، والمراد من الحد: فقدان تلك المرتبة من حقيقة الوجود الثابت لمرتبة اُخرى.

٣ ـ الماهيّة المنتزعة من ذلك الحد التي تكون قالباً للوجود الخاص به.

فيكون الموجود ـ بعد الانحلال ـ مركباً من أشياء ثلاثة لا يكون المتحقّق منها إلّا نفس الوجود.

وأمّا الحدّ فهو راجع إلى الفقدان، كما أنّ الماهيّة أمر عدمي أيضاً ولكنّه صار موجوداً بالوجود، ولولاه لما كان لها وجود.

فكلّ موجود كان مركّباً من هذه الاُمور الثلاثة أي من ( وجود وعدم وعدمي )

__________________

(١) المنظومة قسم الفلسفة: ص ١٦٤.

٣٢١

فهو مركّب بأسوء أنواع التركيب الذي لا ينفك عنها الامكان.

إذا عرفت هذا، فالله سبحانه بما أنّه لا كثرة في ذاته أبداً، يجب أن يجمع في مقام ذاته كلّ وجود، بحيث لا يشذّ عن وجوده وجود، إذ لو صدق أنّه شيء، وذلك الوجود شيء آخر مسلوب عنه سبحانه لصار محدوداً، والمحدود يلازم الإمكان، وكلّ محدود مركّب، وكلّ مركّب ممكن، فينتج أنّه لا شيء من الواجب ممكناً.

فعلى ذلك فوجوده سبحانه يجب أن يكون مع صرافته وبساطته جامعاً لكلّ وجود يتصوّر، بحيث لا يمكن سلب وجود عن مرتبة ذاته، وإلّا يلزم تركيبه من: أمر وجودي ( وهو ذاته )، وأمر عدمي ( وهو سلب ذلك الوجود عن ساحة ذاته )، وكان استجماعه لكلّ شيء لا بنحو الكثرة والتعدّد حتى يلزم التركيب بصورة أسوء وأبشع، بل ذلك الاستجماع يكون بنحو أتم وأعلى، أي بشكل جمعي رتقي بحيث يكون في وحدته كلّ الوجودات، ولا يكون اشتماله على هذه الكثرات والوجودات موجباً لإنثلام وحدته وانتقاض بساطته.

فوجوده سبحانه مشتمل وجامع لكلّ وجود، لكن كلّ وجود ملغى عنه حده، الذي تنتزع عنه ماهيّته وإن كان كماله موجوداً فيه.

وإن شئت توضيح هذا المطلب أكثر من ذلك فلاحظ حال الملكات بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنها.

فإنّ الملكة حالة بسيطة جامعة ـ على نحو الأتم والأبسط ـ فكان كلّ فعل يصدر منها وكلّ ظهور ينشأ منها، فالإنسان الواجد لملكة النحو قادر على الإجابة عن كلّ سؤال يرد عليه، وهذه الأجوبة الكثيرة الصادرة عنه بفضل تلك الملكة، كانت موجودة في نفس الملكة، لكن لا بتفاصيلها وخصوصيّاتها وحدودها وقيودها، بل بكمالها ووجودها الأتم والأبسط، إذ لولاها لكان معطي الكمال فاقداً له.

فكما أنّ الملكة ـ مع بساطتها ـ واجدة لكمال كلّ الأجوبة، وكمال وجودها

٣٢٢

لكن لا على نحو التمايز والخصوصيّات، وإلّا تلزم الكثرة ويلزم التركيب بشرّ صورها في « الملكة ».

فكذلك كلّ علّة واجدة لكمال معلولها ولبّ كمالها على النحو الأتم والأبسط.

إذا عرفت هذا، فاستوضح للوقوف على استجماع ذاته تعالى لكلّ كمال صدر منه ولكلّ وجود ظهر منه، من حديث الملكة.

فإنّ ما سوى الله من أرض وسماء ومن إنسان وحيوان، ومن شجر وحجر، كلّها موجودات تفصيليّة، وتحقّقات امكانيّة، لا يعقل أن تكون موجودة في ذاته سبحانه بهذه الكثرات والتفصيلات، وإلّا يلزم انقلاب البسيط إلى المركّب، وانقلاب الواجب إلى الممكن، وهو أمر لا يصح لأي حكيم أن يتفوّه به.

ومع ذلك كلّه فذاته سبحانه ذات كاملة مشتملة لكلّ كمال موجود في هذه الموجودات، بل جامعة كذلك لجميع الوجودات لكن لا بخصوصيّاتها بل هي ـ بما أنّها وجود أتم وتحقّق أكمل ـ جامعة لتلك الكمالات بأشدّها وأكملها وأحسنها.

فكما أنّ « المائة » بوحدتها مشتملة على التسعين والثمانين مع شيء زائد، لا بمعنى أنّ التسعين والثمانين موجودتان في المائة بنحو التفصيل بل بمعنى أنّ وجود المائة ببساطته تشتمل على كمال كلّ من الرقمين بنحو أتم وأكمل.

فالله سبحانه بحكم البرهان المذكور من أنّه لا يمكن سلب مرتبة من مراتب الوجود عنه، وإلّا لزم التركّب في ذاته، وبفضل برهان آخر هو أنّ معطي الكمال لا يكون فاقداً له، وجوده أكمل الموجودات، وأتمّها، فإذا فرض العلم بذاته وحضور ذاته لديه، كان ذلك عبارة اُخرى عن علمه بالوجودات الامكانيّة لكن لا بوجه التفصيل، بل بنحو البساطة والوحدة.

٣٢٣

وهذا هو ما يقال من: « أنّ وجوده سبحانه كشف إجمالي عن الأشياء بلا طروء تركيب وحدوث امكان ».

وعلى الجملة فالله سبحانه ـ بفضل هذين البرهانين ـ لا يمكن أن يشذّ عنه أيُّ كمال وأيّ وجود وإليك إعادة البرهانين :

١ ـ لو صحّ سلب وجود عنه، أو سلب كمال للزم تركيب ذاته سبحانه من « أمر وجودي وأمر عدمي » وهذا ممّا ينافي بساطته، ويستلزم التركيب في ذاته تعالى، وهو ملازم للامكان الموجب للاحتياج إلى العلّة.

٢ ـ إنّ معطي الكمال لا يمكن أن يكون فاقداً له فالله الصادر منه كلّ الأشياء، لا يصحّ أن يكون فاقداً لكمالات تلك الأشياء.

فعلى ذلك لا يمكن أن يكون وجوده سبحانه مثل سائر المراتب من الوجود بأن يكون وجدان ذاته عين فقدانه لوجود آخر، ومع ذلك كلّه لا يمكن أن تكون تلك الكثرات الامكانية موجودة فيها بحدودها وخصوصيّاتها، وإلّا يلزم تركيب أسوأ من التركيب السابق.

فلا محيص من أن يكون ذلك الوجود البسيط مشتملاً على وجود أقوى، وآكد من الوجودات الخاصّة، المتشتتة، المحدودة، التي من حدودها يحصل التركيب من « الوجدان والفقدان » والعلم بهذا الوجود الآكد الأقوى، نفس العلم بكلّ الكمالات، وكلّ الوجودات التالية الصادرة منه.

فهو بوجوده الجمعي الواحد واقف على ذاته، وواقف على كلّ ما يصدر منه.

وإن شئت فقل: إنّ صرف الوجود يجمع كلّ وجود، ولا يشذّ عنه شيء، ولكن المشتمل عليه هو ذات الوجود من كلّ شيء لا بخصوصيّته الخاصّة الناشئة عن حدّه. فالوجودات الخاصّة بخصوصيّاتها والماهيّات الموجودة بها غير متحقّقة في الأزل، وإذ لم يكن المعلوم بخصوصيّته في الأزل لا يتصور العلم به كذلك، ولكن

٣٢٤

هناك وجوداً أكمل ومعلوماً أتمّ يكون العلم به أتمّ أنواع العلم بهذه الوجودات الصادرة منه.

إن قلت: كيف يصحّ أن يقال إنّ النحو الأدنى من كلّ وجود، معلوم له سبحانه في الأزل حسب الفرض إذ كيف يصير النحو الأعلى من كلّ وجود، والنحو الأظهر من كلّ تحقّق، علماً بالنحو الأدنى، مع أنّ النحو الأدنى من كلّ وجود لا يكون موجوداً في الأزل.

غير أنّ الاجابة عن هذا السؤال، بعد التوجّه إلى ما مثّلنا من حديث « الملكة » واضح فإنّ العلم بتمام الشيء وكماله، علم بمراتبه النازلة مثل كون العلم بالإنسان الذي هو عبارة عن الحيوان الناطق نفس العلم بالمراتب التالية من النبات والجماد.

وحينئذ يكون الوجود بالنحو الأعلى نفس التحقق للوجود الأدنى مع كمال آخر، وجمال زائد.

وعلى ذلك فالمعلوم الامكاني، وان لم يكن في الأزل بخصوصيّاته وتفاصيله لكنّه كمال وجوده وتمام تحقّقه موجود في الأزل بوجوده سبحانه فهو سبحانه ـ ببساطته ـ جميع الكمالات والجمالات، والعلم بالذات لا ينفك عن العلم بتلك الكمالات التي لا تنفك عن العلم بما صدر عنه من الكمالات.

قال صدر المتألّهين :

لـمّا كان وجوده تعالى وجود كلّ الأشياء ـ لما حققنا سابقاً من أنّ البسيط الحقيقي من الوجود يجب أن يكون كلّ الأشياء ـ فمن عقل ذلك الوجود عقل جميع الأشياء، وذلك الوجود هو بعينه عقل لذاته، وعاقل، فواجب الوجود عاقل لذاته بذاته، فعقله لذاته عقل لجميع ما سواه، وعقله لذاته مقدّم على وجود جميع ما سواه، فعقله لجميع ما سواه سابق على جميع ما سواه، فثبت أنّ علمه تعالى بجميع الأشياء حاصلة في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه فهذا هو العلم الكمالي التفصيلي بوجه والاجمالي بوجه، وذلك لأنّ المعلومات على كثرتها وتفصيلها

٣٢٥

بحسب المعنى موجودة بوجودة واحد بسيط، ففي هذا المشهد الالهي والمجلي الأزلي ينكشف وينجلي الكلّ من حيث لا كثرة فيها، فهو الكلّ في وحده(١) .

قال العلّامة الطباطبائي: « إنّ ذاته المتعالية حقيقة الوجود الصرف البسيط الواحد بالوحدة الحقّة الذي لا يداخله نقص ولا عدم، فلا كمال وجوديّاً في تفاصيل الخلقة بنظامها الوجودي إلّا وهي واجدة له بنحو أعلى وأشرف، غير متميّز بعضها من بعض لمكان الصرافة والبساطة فما سواه من شيء فهو معلوم له تعالى في مرتبة ذاته المتعاليّة علماً تفصيليّاً في عين الإجمال وإجماليّاً في عين التفصيل(٢) .

إلى هنا تمّ الكلام في علمه بأفعاله أي الأشياء قبل وجودها. بقي البحث عن علمه بها بعد الايجاد. وإليك الكلام فيه.

علمه سبحانه بالأشياء بعد الايجاد

يستدل على علمه بالأشياء بعد ايجادها بوجوه :

الأوّل: قيام الأشياء به يستلزم علمه بها

إنّ الأشياء أعمّ من المجرّدات والماديّات ـ معلولة لله سبحانه على سبيل ترقّب الأسباب والمسبّبات، وكلّ معلول حاضر بوجوده العيني عند علّته غير غائب ولا محجوب عنه، فالأشياء في عين معلوليّتها نفس علمه العقلي بعد الإيجاد(٣) .

وتوضيحاً لهذا الدليل نقول :

إنّ كلّ موجود سواه فهو ممكن في وجوده، معلول في تحقّقه ـ له سبحانه ـ و

__________________

(١) الاسفار: ج ٦، ص ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٢) نهاية الحكمة: ص ٢٨٩.

(٣) نهاية الحكمة: ص ٢٩٠، الطبعة الجديدة.

٣٢٦

ليس معنى المعلوليّة إلّا تعلّقه وجوداً بالعلّة، وقيامه بها قياماً حقيقيّاً، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.

فكما أنّ المعنى الحرفي قائم ـ حدوثاً وبقاءً ـ بالمعنى الاسمي، بحيث لو قطع النظر عن المعنى الاسمي لما كان للمعنى الحرفي تحقّق في وعاء الوجود، فهكذا المعلول، فصلته بالعلّة أشدّ من صلة المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.

فإذا قلنا « سرت من البصرة » فهناك معنىً اسميا من: السير، والبصرة، وهناك معنىً حرفيّاً وهو ابتداء السير من ذلك البلد.

فحقيقة الابتداء الحرفي ليس شيئاً مستقلاًّ، بل هو أمر مندكّ قائم بالطرفين، وهكذا مثل المعلول الصادر من العلّة، بمعنى مفيض الوجود، فليس للمعلول واقعيّة سوى قيامه بالعلّة، واندكاكه فيها وتعلّقه وتدلّيه بها.

وما هذا هو شأنه لا يخرج عن حيطة وجود العلّة، ومجال ثبوتها، إذ الخروج عن ذلك المجال مساوٍ للانعدام ومساوق للبطلان.

وعلى الجملة: فالمعلول بالنسبة إلى العلّة كالوجود الرابط بالنسبة إلى « الوجود المستقل » فكما أنّ الوجود الرابط لا يستغني عن « الوجود المستقل » آناً واحداً من الآنات، بل يستمد منه وجوده ـ كلّ وقت وحين ـ فهكذا المعلول يستمد وجوده ـ حدوثاً وبقاءً ـ من العلّة، وما هذا شأنه لا يمكن أن يخرج عن حيطة وجود العلّة، ومجال تحقّقه. ومعنى ذلك حضوره لدى العلّة وما نعني من العلم سوى الحضور.

ويتّضح من ذلك القاعدة أنّ الموجودات الامكانية بما أنّها فعله، هي علمه أيضاً فهي بوجوداتها الامكانية علم لله علماً فعلياً.

وإن أردت مزيد توضيح فلاحظ الصور الذهنية، فإنّ الصورة الذهنيّة أفعال للنفس مع أنّها في نفس الوقت علوم فعليّة لها، فالعلم والفعل مجتمعان.

وهذا البرهان هو المنقول عن شيخ الاشراق وقد أوضحه المحقّقون.

٣٢٧

قال العلّامة الحلّي; :

« إنّ كلّ موجود سواه، ممكن، وكلّ ممكن فإنّه مستند إليه، فيكون عالماً به سواء أكان جزئياً أم كلّياً، كان موجوداً قائماً بذاته أو عرضاً قائماً بغيره، وسواء أكان موجوداً في الأعيان أو متعقّلاً في الأذهان، لأنّ وجود الصورة في الذهن من الممكنات أيضاً فسيتند إليه، وسواء كانت الصورة الذهنية صورة أمر وجودي أو عدمي ممكن، أو ممتنع، فلا يعزب عن علمه شيء من الممكنات ولا من الممتنعات.

ثمّ إنّ العلّامة; وصف هذا الدليل بأنّه برهان شريف قاطع(١) .

والحاصل: انّ وزان الممكن بالنسبة إلى الواجب وزان المعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي، ووزان الوجود الرابط بالنسبة إلى الوجود التام المستقل، فليس للمعلول واقعيّة سوى القيام والارتباط والتدلّي بالعلّة.

فما سوى الله ـ ماديّاً ومجرّداً، جوهراً وعرضاً ـ مخلوق له، فهو في عين الوجود قائم به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ومرتبط به، وما هذا هو حاله لا يمكن أن يكون غائباً عن الله مستوراً عليه، لأنّه وجوده قائم بوجود العلّة، كما يكون المعنى الحرفي قائماً بالمعنى الاسمي.

وإن شئت قلت: إنّ وزان الممكن بالنسبة إلى الواجب وزان الفقير المطلق بالنسبة إلى الغني، فالعالم بحكم فقره المطلق محتاج إليه في وجوده وتحقّقه، في حدوثه وبقائه، وما هذا شأنه لا يمكن غيابه، لأنّ غيابه عن العلّة مساوق للإنعدام.

الثاني: سعة وجوده دليل على علمه بالاشياء

لقد أثبتت البراهين القاطعة على أنّ وجوده سبحانه مجرّد عن المادة والمدّة ،

__________________

(١) كشف المراد: ص ١٧٥.

٣٢٨

مجرّد عن الزمان والمكان، فوجوده فوق كلّ قيد زماني أو مكاني، وكلّ من كان كذلك فوجوده غير محدود وغير متناه لأنّ المحدوديّة والتقييد فرع كون الشيء سجيناً في الزمان والمكان، فهذا هو الذي لا يتجاوز إطار محيطه، وزمانه، وأمّا الموجود المجرَّد عن ذينك القيدين، المتجرّد من إطار الزمان والمكان بل الخالق لهما، وللمادّة، فهو فوق الزمان والمكان، والمادّة، والمدّة، لا يحدّه شيء من ذلك العوارض ولا يحصر حاضر منها، ولهذا لا يمنعه المكان من الإحاطة والسيطرة على ما قبله، وما بعده.

ولتوضيح هذه الحقيقة نأتي بالأمثلة التالية :

١ ـ إنّ النملة الصغيرة الماشية على سجّادة منسوجة بألوان مختلفة لا يمكنها بحكم صغر جسمها ومحدوديّة حواسّها أن تشاهد إلّا اللّون الذي تسير عليه دون بقية الألوان.

أمّا الإنسان الواقف على طاولة، المشرف على تلك السجّادة فإنّه يرى جميع ألوانها ويحيط بكلّ نقوشها دون إستثناء، لأنّه لا ينظر إليها من زاوية دون زاوية كما هي في تلك النملة.

٢ ـ إنّ الإنسان الجالس في غرفة، الناظر إلى خارجها من كوة صغيرة، لا يمكنه مشاهدة إلّا ناقة واحدة من قافلة النوق والابل التي تمرّ أمام الغرفه بعكس من يقف على سطح تلك الغرفة المشرف على الطريق من شاهق، فإنّه يرى كلّ ما في تلك القافلة من الإبل والنوق جملة واحدة، ومن دون أن يمنعه عن ذلك قيد المكان.

٣ ـ إنّ الإنسان الجالس على حافة نهر جار لا يرى إلّا بعض الأمواج المائيّة التي تمرّ أمام عينيه دون بقيّة الأمواج الكائنة في منبع النهر أو مصبّه بخلاف من يراقب ذلك النهر من طائرة هليكوبتر أو من فوق مكان شاهق، فإنّه يرى جميع التعرّجات والتموّجات في ذلك النهر جملة واحدة وفي وقت واحد.

٣٢٩

وإنّما يرى هؤلاء الأشياء جميعها بخلاف غيره لأنّه لا ينظر إليها من خلال المكان المحدود.

هذه الأمثلة وإن كانت أقلّ بكثير عمّا يناسب ساحته سبحانه غير أنّها تكفي لإلقاء بعض الضوء على الحقيقة، وتقريب سعة علمه إلى الذهن.

وعلى الجملة فالله المجرّد عن الزمان والمكان، المجرّد عن كلّ حدّ وقيد، بما أنّه لا يحيط به شيء، بل هو المحيط بالأشياء جميعاً، لا يصحّ في مجال علمه تقديم وتأخير، وماض وحاضر، أو حاضر ومستقبل، بل العالم بأجمعه حاضر لديه وهو يحيط بجميع ما خلق دونما استثناء.

وقد عرفت أنّه لا معنى لحقيقة العلم إلّا حضور المعلوم لدى العالم، فبما أنّ وجوده سبحانه وجود غير متناه، لا يحدّه حدّ ولا يقيّده قيد، فهو في كلّ الأزمنة والأمكنة، وحاضر مع كلّ الأشياء والموجودات، والّا يلزم أن يكون وجوده محدوداً متناهياً، وعند ذلك يتحقّق علمه بكلّ حاضر لديه، وبكلّ ماثل فلا يغيب عن وجوده شيء ولا ذرّة.

وقد أشار الإمام علي٧ إلى هذه الحقيقة إذ قال :

« إنّ الله عزّ وجلّ أيّنَ الأين فلا أين له، وجلّ أن يحويه مكان، وهو في كلّ مكان، بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره »(١) .

الثالث: إتقان المصنوع دليل علمه

إنّ الكون ـ من حيث سعته، واشتماله على أسرار ورموز ـ أشبه ما يكون بمحيط لا تعرف سواحله التي قد غمرته الظلمة، وغابت شواطيه في جنح المجهول ،

__________________

(١) الارشاد للمفيد: ص ١٠٨، قضايا أمير المؤمنين٧ .

٣٣٠

ولم يوفّق الإنسان إلّا إلى كشف بعض سطوحه بما سلّطه من أضواء كاشفة له، فيما لا تزال أعماقه غير مكشوفة له بل لا يزال القسم الأعظم من سطوحه مجهولة.

إنّ عالم الخلقة أشبه ما يكون بهذا المحيط فإنّ الإنسان رغم ما قام به من جهود جبّارة للتعرّف على حقائقه، ورموزه، لم يقف إلّا على قدر قليل من أسراره بينما لا تزال أكثرها غير معلومة له.

يقول أحد الاختصاصيين في الطبيعة الحيوية والأبحاث النووية :

« لقدكنت عند بدء دراستي للعلوم شديد الاعجاب بالتفكير الإنساني، وبقوّة الأساليب العلميّة إلى درجة جعلتني اَثِقُ كلّ الثقة بقدرة العلوم على حلّ أية مشكلة في هذا الكون بل على معرفة منشأ الحياة، والعقل وادراك معنى كلّ شيء، وعندما تزايد علمي ومعرفتي بالأشياء من الذرة إلى الأجرام السماوية، ومن الميكروب الدقيق إلى الإنسان، تبيّن لي أنّ هناك كثيراً من الأشياء التي لم تستطع العلوم حتّى اليوم اَنْ تجدَ لها تفسيراً أو تكشف عن أسرارها النقاب، وتستطيع العلوم أن تمضي في طريقها ملايين السنين ومع ذلك فسوف تبقى كثير من المشكلات حول تفاصيل الذرّة والكون والعقل كما هي لا يصل الإنسان إلى حلّ لها أو الاحاطة بأسرارها »(١) .

وقال أنيشتاين ـ عند ما كان واقفاً على درج مكتبته ـ: « إنّ نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى السماء »(٢) .

ويقصد بذلك: انّه لم يتسلّق من درجات العلم والمعرفة سوى درجات معدودة جداً، وإنّ المسافة بين معلوماته إلى مجهولاته كالمسافة بين الأرض والسماء.

حقاً إنّ الإنسان عند ما يقيس حجمه بأحجام الأجسام والأجرام السماوية، و

__________________

(١) الله يتجلى في عصر العلم: ص ٣٥ ـ ٣٦، بول كلارنس ابرسولد.

(٢) رسالة الاسلام، السنة الرابع العدد الاول ٢٤.

٣٣١

ما بينها من فواصل وأبعاد، يدرك مدى صغر حجمه وضآلة معلوماته وضحالة معارفه.

إنّ أضخم مكتبة توصلّت البشرية إلى تأسيسها في الوقت الحاضر هي الآن في أمريكان حيث تضم عشرة ملايين كتاباً، وما يقوم في « لينينغراد »، وما يوجد في متاحف بريطانيا ومع ذلك فإنّ كلّ هذه الكتب لا تتجاوز معلومات البشر حول الأرض وقليل جداً من الفضاء الخارجي.

إنّ ملاحظة كلّ جهاز بسيط أو معقد ـ كقلم أو كومپيوتر ـ يدلّنا على أنّ صانعه عالم بما يسود ذلك الجهاز من القوانين والعلاقات، كما تدل دائرة معارف ضخمة على علم مؤلّفها وجامعها بما فيها.

إنّ المصنوع بما فيه من اتقان ودقّة، وتركيب عجيب ونظام بديع، ومقادير معيّنة يحكي عن أنّ صانعه مطّلع على هذه القوانين والرموز، عارف بما يتطلبه ذلك المصنون من مقادير وأنظمة.

ومن هنا يشهد الكون ابتداءً من الذرّة الدقيقة إلى المجرّة الهائلة، ومن الخليّة الصغيرة إلى أكبر نجم، بما يسوده من أنظمة وقوانين، وتخطيط بالغ الدقّة، وتركيب بالغ الاتقان، على أنّ خالق الكون عالم بكلّ ما تنطوي عليه هذه الأشياء وما يسودها من أسرار وقوانين، وانّ من المستحيل الممتنع أن يكون جاهلاً.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل بقوله :

( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الملك / ١٤ ).

وقال تعالى:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) ( سورة ق / ١٦ ).

ومن وقف على علم التشريح ظهر له ذلك ظهوراً تامّاً.

__________________

(١) الملك: ١٤.

(٢) ق: ١٦.

٣٣٢

كلام للمحقق الطوسي

ثمّ إنّ المحقّق الطوسي استدلّ على علمه سبحانه بوجوه ثلاثة نذكر منها اثنين :

١ ـ الإحكام.

٢ ـ استناد كلّ شيء إليه.

حيث قال: والإحكام واستناد كل شيء إليه من دلائل العلم.

وقال العلّامة في شرح الدليل الأوّل: إنّه تعالى فعل الأفعال المحكمة، كلّ من هو كذلك فهو عالم.

أمّا المقدّمة الأُولى فحسّية، لأنّ العالم إمّا فلكي أو عنصري، وآثار الحكمة والإتقان فيهما ظاهر مشاهد.

وأمّا الثانية فضروريّة لأنّ الضرورة قاضية بأنّ غير العالم يستحيل منه وقوع الفعل المحكم المتقن مرّة بعد اُخرى.

وقال في شرح الدليل الثاني: إنّ كلّ موجود سواه ممكن، وكلّ ممكن فإنّه مستند إلى الواجب إمّا ابتداءً أو بوسائط، وقد سلف أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول، والله تعالى عالم بذاته، فهو عالم بغيره(١) .

جمل درّية لأئمة أهل البيت:

إنّ لأئمّة أهل البيت جملاً وكلماً درّية حول علمه سبحانه نقتبس منها ما يلي :

__________________

(١) كشف المراد: ص ١٧٤ ـ ١٧٥ ـ طبعة صيدا ١٣٥٣ ه‍.ق، ولاحظ: كشف الفوائد له أيضاً: ص ٤٣، طبعة طهران ١٣١١ ه‍.ق.

٣٣٣

١ ـ قال الإمام علي٧ :

« علم ما يمضى وما مضى. مبتدع الخلائق بعلمه ومنشئها بحكمته(١) .

٢ ـ سأل منصور بن حازم الصادق٧ : أرأيت ما كان وما هوكائن إلى يوم القيامة، أليس فيعلم الله ؟ فقال: بلى قبل أن يخلق السماوات والأرض(٢) .

٣ ـ سأل الحسين بن بشار أبا الحسن علي بن موسى الرضا٧ : أيعلم الله الشيء الّذي لم يكن، أن لو كان كيف يكون ؟ ولا يعلم إلّا ما يكون ؟

فقال: إنّ الله تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء. قال الله عزّ وجلّ:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٣) .

وقال لأهل النار:( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (٤) .

فقد علم الله عزّ وجلّ أنّه لو ردّهم لعادوا لما نهوا عنه.

وقال للملائكة لـمّا قالوا:( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) . قال:( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (٥) . فلم يزل الله عزّ وجلّ علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها فتبارك ربّنا تعالى علوّاً كبيراً. خلق الأشياء وعلمه بها سابق لها كما شاء كذلك لم يزل ربّنا عليماً سميعاً بصيراً(٦) .

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ١٩١.

(٢) التوحيد للصدوق: ص ١٣٥ باب العلم الحديث ٥.

(٣) الجاثية: ٢٩.

(٤) الأنعام: ٢٨.

(٥) البقرة: ٣٠.

(٦) التوحيد: ص ١٣٦ الحديث ٨.

٣٣٤

مراتب علمه سبحانه

قد تبيّن ممّا ذكرنا انّ علمه سبحانه بالأشياء ذا مراتب هي :

الأُولى: علمه سبحانه بالأشياء بنفس علمه بالذات، وما عرفت من أنّ العلم بالذات علم بالحيثيّة الّتي تصدر بها المعاليل منه سبحانه، والعلم بنفس الحيثيّة علم بنفس الأشياء.

وقد عرفت انّ هناك بياناً آخر لعلم الله سبحانه بالأشياء في مرتبة الذات قبل الإيجاد والخلق، ويرجع أصلها إلى القاعدة الفلسفيّة: « بسيط الحقيقة كل الأشياء » والّذي معناه أنّه جامع كل كمال وجمال ولا يشذّ عن حيطته شيء.

الثانية: إنّ الأشياء بنفسها فعله وعلمه وانّه لا مانع من أن يكون فعل الفاعل نفس علمه، كما أنّ الصور المرتسمة في الذهن فعل الذهن وعلمه، وانّ القائم بوجوده الخارجي مرتبة من مراتب فعله.

هذا كلّه حسب البراهين الفلسفيّة الكلامية غير أنّ الذكر الحكيم دلّ على أنّ لعلمه سبحانه مظاهر خاصّة، عبّر عنه :

تارة باللوح المحفوظ.

وثانية بالكتاب المسطور.

وثالثة بالكتاب المبين.

ورابعة بالكتاب المكنون.

وخامسة بالكتاب الحفيظ.

وسادسة بالكتاب المؤجّل.

وسابعة بالكتاب المطلق.

وثامنة بالإمام المبين.

٣٣٥

وتاسعة باُمّ الكتاب.

وعاشرة بلوح المحو والأسباب

وعن اللوح المحفوظ قال سبحانه :

( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ( البروج / ٢١ و ٢٢ ).

وعن الكتاب المسطور قال سبحانه :

( وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ *فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ ) ( الطور / ٢ و ٣ ).

وقال سبحانه :

( إلّاأَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) ( الأحزاب / ٦ ).

وقال عزّ اسمه:( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ *وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ *وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ) ( القمر / ٥١ ـ ٥٣ ).

وعن الكتاب المبين قال سبحانه :

( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام / ٥٩ ).

وقال سبحانه :

( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ إلّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( يونس / ٦١ ).

وقال سبحانه :

( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إلّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( النمل / ٧٥ ).

وعن الكتاب المكنون قال سبحانه :

( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ) ( الواقعة / ٧٧ و ٧٨ ).

٣٣٦

وعن الكتاب الحفيظ قال سبحانه :

( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) ( ق / ٤ ).

وعن الكتاب المؤجّل قال سبحانه :

( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلاً ) ( آل عمران / ١٤٥ ).

وعن الكتاب المطلق قال سبحانه :

( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) ( الاسراء / ٤ ).

وقال سبحانه :

( لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( الأنفال / ٦٨ ).

وقال سبحانه :

( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ ) ( الحج / ٧٠ ).

وقال سبحانه :

( قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ) ( طه / ٥٢ ).

وقال سبحانه :

( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلّا فِي كِتَابٍ ) ( الحديد / ٢٢ ).

وعن الإمام المبين قال تعالى :

( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) ( يس / ١٢ ).

٣٣٧

وعن لوح « اُمّ الكتاب » قال تعالى :

( يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ( الرعد / ٣٩ ).

( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الزخرف / ٤ ).

وعن لوح المحو والاثبات، يقول سبحانه:( يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ( الرعد / ٣٩ ).

ثم إنّ المفسّرين ومثلهم الحكماء اختلفوا في حقيقة هذه الكتب وخصوصيّاتها، فذهب الحكماء إلى أنّها موجودات مجرّدة كالعقول والنفوس المستتر فيها كل صغيرة وكبيرة.

وذهب آخرون إلى أنّها ألواح ماديّة سطّرت فيها الأشياء بكيفيّاتها وأسبابها الموجبة لها وأوقاتها المضروبة لها.

وقد استشكل عليه بأنّ ذلك يقتضي عدم تناهي الأبعاد، وقد قامت البراهين العقليّة والنقليّة على خلاف ذلك، فلابدّ من تخصيص ذلك بموجودات بعض النشآت.

فأجاب آخرون إلى أنّ الأشياء سطرّت فيها على نحو الرمز لا بالتفصيل.

غير أنّ كل هذه المذاهب والأقوال ممّا لا يصحّ الركون إليه فالمسألة من المعارف العليا التي يجب الايمان بها ولا يمكن التعرّف عليها.

القضاء من مراتب علمه

ثم إنّه ربّما يعد من مراتب علمه سبحانه « القضاء ».

والقضاء عندهم عبارة عن الوجود الإجمالي لجميع الأشياء، كما أنّ القدر عبارة عن الوجود التفصيلي لها.

٣٣٨

فبما أنّ الصادر الأوّل حاوٍ لكلّ كمال موجود في الكائنات والموجودات التالية، هو قضاء الله سبحانه عندهم ومن مراتب علمه تعالى، فالعلم به، بجميع ما دونه من المراتب، كما أنّ القدر عبارة عن الوجود التفصيلي للأشياء سواء كانت بصورها العلميّة القائمة الموجودات المجرّدة، أم بوجودها الخارجي الشخصي.

فهذه مراتب علمه سبحانه، غير أنّ الغور والتعمّق في بيان حقائقها من الاُمور العويصة التي لا يتمكن الإنسان من الوقوف عليها والتطلّع إليها من خلال هذه العلم.

نعم، القضاء والقدر من المعارف العليا التي نطق بها القرآن الكريم، وسنبحث عنها لدى الحديث عن عدله سبحانه سواء أصحّ تفسيرهما بالوجود الاجمالي للأشياء، أو بالوجود التفصيلي لها أم لا.

وأخيراً نقول: إنّ هذه التعابير العشرة الواردة في القرآن الكريم، يمكن ارجاع بعضها إلى البعض الآخر، كما يمكن عدّ كل منها مرتبة مستقلة من مراتب علمه، ويظهر ذلك بالغور في الآيات الواردة في هذا المجال.

شمول علمه تعالى للجزئيات

إنّ للباحثين في علمه سبحانه بالأشياء مذاهب شتّى حتّى إنّ بعضهم أنكره من أصله.

كما أنّ للمثبتين آراء مختلفة أنهاها المحقق السبزواري إلى أحد عشر رأياً نشير إلى بعضها هنا :

الأوّل: إنّ له تعالى علماً بذاته دون معلولاتها لأنّ الذات المتعالية أزليّة، وكل معلول حادث، فلا يمكن أن يكون الحادث معلوماً في الأزل.

وقد عرفت بطلان هذا الرأي من وجوه مختلفة، منها :

٣٣٩

١ ـ إنّ العلم بالذات من الجهة الّتي تنشأ عنها المعلولات علم بنفس المعلول، وقد أوضحنا هذا البرهان في ما سبق.

٢ ـ إنّ بسيط الحقيقة كل الأشياء وإنّ العلم بالذات علم إجمالي بنفس المعاليل قبل الايجاد، وقد أوضحنا هذا الدليل أيضاً.

الثاني: ما ينسب إلى شيخ الاشراق وتبعه فيه جمع من المحقّقين بعده، هو أنّ الأشياء أعمّ من المجرّدات، والماديّات حاضرة بوجودها العيني لديه سبحانه وغير غائبة عنه تعالى ولا محجوبة، وهو علمه التفصيلي بالأشياء بعد الإيجاد.

وقد عرفت إتقان هذا القول، غير أنّ علمه سبحانه بالأشياء لا يختصّ بهذا القسم إذ هو علم بالأشياء بعد الايجاد بالعلم الحضوري.

الثالث: إنّ ذاته المتعالية علم تفصيلي بالمعلول الأوّل، واجمالي بما دونه، وذات المعلول الأوّل علم تفصيلي بالمعلول الثاني، وإجمالي بما دونه وعلى هذا القياس.

وقد عرفت أنّ خلو الذات الإلهية المقدّسة عن كمال العلم بما دون المعلول الأوّل غير تامّ، كيف وهو وجود صرف لا يسلب عنه كمال.

الرابع: ما ينسب إلى المشائيين من أنّ له علماً حضورياً بذاته المتعالية، وعلماً تفصيلياً حصولياً بالأشياء قبل إيجادها، بحضور ماهيّاتها ( الصورة المرتسمة ) على النظام الموجود في الخارج لذاته تعالى، وهذه الماهيّات قائمة به سبحانه نحو قيامها بأذهاننا فهوعلم عنائي له.

وفيه أنّ لازم ذلك خلو الذات عن العلم بالأشياء في مرتبة الذات. وقد عرفت ثبوته بالبرهانين المتقدّمين.

الخامس: إنّ علمه سبحانه بالمعلول الأوّل حضوري لحضور هويته الخارجية

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) )

أسباب النّزول

وردت في كتب التّفسير والحديث أسباب متشابهة لنزول الآيات الاولى من هذه السورة ، وسنستعرض أحد هذه الأسباب لكونه مفصّلا وجامعا أكثر من الأسباب الاخرى ، ففي حديث نقله المرحوم العلّامة الكليني عن الإمام الباقرعليه‌السلام جاء فيه : «أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا : إنّ ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا ، فادعه ومره فليكفّ عن آلهتنا ونكفّ عن إلهه.

فبعث أبو طالب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعاه ، فلمّا دخل النّبي لم ير في البيت إلّا مشركا فقال : (السلام على من اتّبع الهدى) ثمّ جلس فخبّره أبو طالب بما جاؤوا به ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أو هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم»؟

٤٤١

فقال أبو جهل : نعم وما هذه الكلمة؟

قال : «تقولون : لا إله إلّا الله».

وما إن سمعوا هذه الكلمات حتّى وضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا وهم يقولون : ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إنّ هذا إلّا اختلاق ، فأنزل الله في قولهم :( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) ـ إلى قوله ـ( إِلَّا اخْتِلاقٌ ) (١) .

التّفسير

انقضاء مهلة النّجاة :

مرّة اخرى تمرّ علينا سورة تبدأ آياتها الاولى بحروف مقطّعة وهو حرف( ص ) ويطرح نفس السؤال السابق بشأن تفسير هذه الحروف المقطّعة : هل هذه إشارة إلى عظمة القرآن المجيد الذي يتألّف من مثل هذه الحروف المتيسّرة في متناول الجميع كالحروف الهجائية ، والذي غيّرت محتوياته مجرى حياة الإنسانية في هذا العالم

وأنّ قدرة الله العظمية هي التي أوجدت من هذه الحروف البسيطة تركيبا رائعا عظيما هو القرآن المجيد كلام الله ، أم أنّها إشارة إلى رموز وأسرار بين الله سبحانه وتعالى وأنبيائه

أمّ أنّها تعني أمورا أخرى؟

مجموعة من المفسّرين اعتبرت هنا حرف (ص) رمزا يشير إلى أحد أسماء الله ، وذلك لأنّ الكثير من أسمائه تبدأ بحرف الصاد مثل (صادق) ، (صمد) ، (صانع) أو أنّه إشارة إلى (صدق الله) التي اختصرت بحرف واحد.

ولا بدّ أنّكم طالعتم تفسير هذه الحروف المقطّعة بصورة مفصّلة في تفسير بدايات آيات سور (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف).

__________________

(١) اصول الكافي نقلا عن نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٤٠.

٤٤٢

ثمّ يقسم الله تعالى بالقرآن ذي الذكر والّذي هو حقّا معجزة إلهيّة( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) (١) .

فالقرآن ذكر ويشتمل على الذكر ، والذكر يعني التذكير وصقل القلوب من صدأ الغفلة ، تذكّر الله ، وتذكّر نعمه ، وتذكّر محكمته الكبرى يوم القيامة ، وتذكّر هدف خلق الإنسان.

نعم ، فالنسيان والغفلة هما من أهمّ عوامل تعاسة الإنسان ، والقرآن الكريم خير دواء لعلاجهما.

فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين في الآية (٦٧) من سورة التوبة :( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) أي إنّهم نسوا الله ، والله في المقابل نسيهم وقطع رحمته عنهم.

ونقرأ في نفس هذه السورة الآية (٢٦) عن الضالّين ، قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) .

نعم ، فالنسيان هو الابتلاء الكبير الذي ابتلي به الضالّون والمذنبون ، حتّى أنّهم نسوا أنفسهم وقيمة وجودها ، كما قال القرآن الكريم ، كلام الله الناطق( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) .(٢)

فالقرآن خير وسيلة لتمزيق حجب النسيان ، وهو نور لإزالة الظلمات والغفلة والنسيان ، حيث إنّ آياته تذكّر الإنسان بالله وبالمعاد ، وتعرّف الإنسان قيمة وجوده في هذه الحياة.

الآية التالية تقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيت هؤلاء لا يستسلمون لآيات الله الواضحة ولقرآنه المجيد ، فاعلم أنّ سبب هذا لا يعود إلى أنّ هناك ستارا يغطّي كلام الحقّ ، وإنّما هم مبتلون بالتكبّر والغرور اللذين يمنعان الكافرين من قبول

__________________

(١) جملة( وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) جملة قسم جوابها محذوف ، وتقديرها (والقرآن ذي الذكر إنّك صادق وإنّ هذا الكلام معجز).

(٢) الحشر ، ١٩.

٤٤٣

الحقّ ، كما أنّ عنادهم وعصيانهم ـ هما أيضا ـ مانع يحول دون تقبّلهم لدعوتك( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ) .

«العزّة» كما قال الراغب في مفرداته ، هي حالة تحوّل دون هزيمة الإنسان (حالة الذي لا يقهر) وهي مشتقّة من (عزاز) وتعني الأرض الصلبة المتينة التي لا ينفذ الماء خلالها ، وتعطي معنيين ، فأحيانا تعني (العزّة الممدوحة) المحترمة ، كما في وصف ذات الله الطاهر بالعزيز ، وأحيانا تعني (العزّة بالإثم) أي الوقوف بوجه الحقّ والتكبّر عن قبول الواقع ، وهذه العزّة مذلّة في حقيقة الأمر.

«شقاق» مشتقّة من (شقّ) ، ومعناه واضح ، ثمّ استعمل في معنى المخالفة ، لأنّ الاختلاف يسبّب في أن تقف كلّ مجموعة في شقّ ، أي في جانب.

القرآن هنا يعدّ مسألة العجرفة والتكبّر والغرور وطيّ طريق الانفصال والتفرقة من أسباب تعاسة الكافرين ، نعم هذه الصفات القبيحة والسيّئة تعمي عين الإنسان وتصمّ آذانه ، وتفقده إحساسه ، وكم هو مؤلم أن يكون للإنسان عيون تبصر وآذان تسمع ولكنّه يبدو كالأعمى والأصم.

فالآية (٢٠٦) من سورة البقرة تقول :( وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ ) أي عند ما يقال للمنافق : اتّق الله ، تأخذه العصبية والغرور واللجاجة ، وتؤدّي به إلى التوغّل في الذنب والسقوط في نار جهنّم وإنّها لبئس المكان.

ولإيقاظ أولئك المغرورين المغفّلين ، يرجع بهم القرآن الكريم إلى ماضي تأريخ البشر ، ليريهم مصير الأمم المغرورة والمتكبّرة ، كي يتّعظوا ويأخذوا العبر منها و( كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ) .

أي إنّ امما كثيرة كانت قبلهم قد أهلكناها (بسبب تكذيبها الأنبياء ، وإنكارها آيات الله ، وظلمها وارتكابها للذنوب) وكانت تستغيث بصوت عال عند نزول العذاب عليها ، ولكن ما الفائدة فقد تأخّر الوقت! ولم يبق أمامهم متّسع من الوقت

٤٤٤

لإنقاذ أنفسهم( فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ) .

فعند ما كان أنبياء الله في السابق يعظونهم ويحذّرونهم عواقب أعمالهم القبيحة ، لم يكتفوا بصمّ آذانهم وعدم الاستماع ، وإنّما كانوا يستهزئون ويسخرون من الأنبياء ويعذّبون المؤمنين ويقتلونهم ، فبذلك أضاعوا الفرصة ودمّروا كلّ الجسور التي خلفهم ، فنزل العذاب الإلهي ليهلكهم جميعا ، العذاب الذي رافقه انغلاق باب التوبة والعودة ، وفور نزوله تبدأ أصوات الاستغاثة تتعالى ، والتي لا تغني عنهم يومئذ شيئا.

وكلمة (لات) جاءت للنفي ، وهي في الأصل (لا) نافية أضيفت إليها (تاء) التأنيث ، لتعطي معنى التأكيد(١) .

«مناص» من مادّة (نوص) وتعني الملاذ والملجأ ، ويقال : إنّ العرب عند ما كانت تقع لهم حادثة صعبة ورهيبة ، وخاصّة في الحروب كانوا يكرّرون هذه الكلمة ويقولون (مناص مناص) أي : أين الملاذ؟ أين الملاذ؟ ولأنّ هذا المفهوم يتناسب مع معنى الفرار ، وأحيانا تأتي بمعنى إلى أين الفرار(٢) .

على أيّة حال ، فإنّ أولئك المغرورين المغفّلين لم يستفيدوا من الفرصة التي كانت بأيديهم للجوء إلى أحضان الرحمة واللطف الإلهي ، وعند ما أضاعوا الفرصة ونزل عليهم العذاب الإلهي ، أخذوا ينادون ويستغيثون ويبذلون الجهد للعثور على طريق نجاة لهم ، ولكن كلّ هذه الجهود تبوء بالفشل ، حيث أنّهم مهما بذلوا من جهد ومهما استغاثوا فإنّهم لا يصلون إلى مقصدهم.

هذه كانت سنّة الله مع كلّ الأمم السابقة ، وستبقى كذلك ، لأنّ سنّة الله لا تتغيّر

__________________

(١) البعض قال : إنّ (التاء) زائدة واعتبرها للمبالغة كما في كلمة (علامة) كما اعتبر البعض أنّ (لا) هنا (نافية للجنس) والبعض شبّهها بـ (ليس) وعلى أيّة حال إضافة (التاء) إلى (لا) يوجد أحكاما خاصّة ، منها من المؤكّد أنّها تستخدم للزمان ، والاخرى أنّ اسمها أو خبرها محذوف دائما ، وتذكر في الكلام بإحدى الحالتين المذكورتين آنفا ، وطبقا لهذا فإنّ عبارة (ولات حين مناص) تقديرها (ولات الحين حين مناص).

(٢) مفردات الراغب ، تفسير فخر الرازي ، تفسير روح المعاني ، كتاب مجمع البحرين مادّة (نوص).

٤٤٥

ولا تتبدّل.

ومن المؤسف أنّ الناس ـ على الأغلب ـ غير مستعدّين للاتّعاظ من تجارب الآخرين ، وكأنّهم راغبون في تكرار تلك التجارب المرّة ، التجارب التي تقع أحيانا مرّة واحدة في طول عمر الإنسان ، ولا تتكرّر ثانية ، وبصورة أوضح : إنّها الاولى والأخيرة.

* * *

٤٤٦

الآيات

( وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) )

أسباب النّزول

سبب نزول هذه الآيات يشبه سبب نزول الآيات السابقة ، وغير مستبعد أن يكون هناك سبب واحد لنزول كلّ تلك الآيات.

ولكن بما أنّ سبب النّزول المذكور لهذه الآيات يحوي مطالب جديدة ، نذكره كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم ، حيث جاء فيه : بعد أن أظهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدعوة ، اجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب ، إنّ ابن أخيك قد سفه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرّق جماعتنا ، فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم ، جمعنا له حالا حتّى يكون أغنى رجل في قريش ، ونملكه علينا.

فأخبر أبو طالب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأجابه رسول الله قائلا : «لو وضعوا الشمس

٤٤٧

في يميني والقمر في يساري ما تركته ، ولكن كلمة يعطوني يملكون بها العرب وتدين بها العجم ويكونون ملوكا في الجنّة».

فقال لهم أبو طالب ذلك ، فقالوا : نعم وعشرة كلمات بدلا من واحدة ، أي كلمة تقصد أنت؟

فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تشهدون أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله».

تضايقوا كثيرا عند سماعهم هذا الجواب ، وقالوا : ندع ثلاث مائة وستّين إلها ونعبد إلها واحدا؟ إنّه لأمر عجيب؟ نعبد إلها واحدا لا يمكن مشاهدته ورؤيته.

وهنا نزلت هذه الآيات المباركة بل( وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ) (١) .

هذا المعنى ورد أيضا في تفسير مجمع البيان مع اختلاف بسيط ، إذ ذكر صاحب تفسير مجمع البيان في آخر الرواية أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعبر بعد أن سمع جواب زعماء قريش وقال : «يا عمّ والله لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتّى أنفذه أو اقتل دونه» فقال له أبو طالب : امض لأمرك ، فو الله لا أخذلك أبدا(٢) .

* * *

التّفسير

هل يمكن قبول إله واحد بدلا من كلّ تلك الآلهة؟

المغرورون والمتكبّرون لا يعترفون بأمر لا يلائم أفكارهم المحدودة والناقصة ، إذ يعتبرون أفكارهم المحدودة والناقصة مقياسا لكلّ القيم. لذا فعند ما رفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواء التوحيد في مكّة ، وأعلن الانتفاضة ضدّ الأصنام الكبيرة

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٤٢ الحديث ٧.

(٢) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، الصفحة ٤٦٥.

٤٤٨

والصغيرة في الكعبة ، والبالغ عددها (٣٦٠) صنما ، تعجّبوا : لماذا جاءهم النذير من بينهم؟( وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) .

كان تعجّبهم بسبب أنّ محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل منهم فلما ذا لم تنزل ملائكة من السماء بالرسالة؟ هؤلاء تصوّروا أنّ نقطة القوّة هذه نقطة ضعف ، فالذي يبعث من بين قوم ، هو أدرى باحتياجات وآلام قومه ، كما أنّه أعرف بمشكلاتهم وتفصيلات حياتهم ، ويمكن أن يكون لهم أسوة وقدوة ، إلّا أنّهم اعتبروا هذا الامتياز الكبير نقطة سلبية في دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعجّبوا من أمر بعثته إليهم.

وأحيانا كانوا يجتازون مرحلة التعجّب إلى مرحلة اتّهام رسول الله بالسحر والكذب( وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) .

وقلنا عدّة مرّات : إنّ اتّهامهم الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسحر ، إنّما نتج من جرّاء رؤيتهم لمعجزاته التي لا تقبل الإنكار وتنفذ بصورة مدهشة إلى أفكار المجتمع ، واتّهامه بالكذب بسبب تحدّثه بأمور تخالف سنّتهم الخرافية وأفكارهم الجاهلية التي كانت جزءا من الأمور المسلّم بها في ذلك المجتمع ، وادّعاء الرسالة من الله.

وعند ما أظهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوته لتوحيد الله ، أخذ أحدهم ينظر للآخر ويقول له : تعالى

واسمع العجب العجاب( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ ) (١) .

نعم ، فالغرور والتكبّر إضافة إلى فساد المجتمع ، تساهم جميعا في تغيّر بصيرة الإنسان ، وجعله متعجّبا من بعض الأمور الواقعية والواضحة ، في حين يصرّ بشدّة على التمسّك ببعض الخرافات والأوهام الواهية.

وكلمة (عجاب) على وزن (تراب) تعطي معنى المبالغة ، وتقال لأمر عجيب مفرط في العجب.

فالسفهاء من قريش كانوا يعتقدون أنّه كلّما ازدادت عدد آلهتهم إزداد نفوذهم

__________________

(١) «الجعل» بمعنى التصيير ، وهو ـ كما قيل ـ تصيير بحسب القول والإعتقاد والدعوى لا بحسب الواقع.

٤٤٩

وقدرتهم ، ولهذا السبب فإنّ وجود إله واحد يعدّ قليلا من وجهة نظرهم ، في حين ـ كما هو معلوم ـ أنّ الأشياء المتعدّدة من وجهة النظر الفلسفية تكون دائما محدودة ، والوجود اللامحدود واحد لا أكثر ، ولهذا السبب فإنّ كلّ الدراسات في معرفة الله تنتهي إلى توحيده.

وبعد أن يئس طغاة قريش من توسّط أبي طالب في الأمر وفقدوا الأمل ، خرجوا من بيته ، ثمّ انطلقوا وقال بعضهم لبعض ، أو قالوا لأتباعهم : اذهبوا وتمسّكوا أكثر بآلهتكم ، واصبروا على دينكم ، وتحمّلوا المشاق لأجله ، لأنّ هدف محمّد هو جرّ مجتمعنا إلى الفساد والضياع وزوال النعمة الإلهية عنّا بسبب تركنا الأصنام ، وإنّه يريد أن يترأس علينا( وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ) .

«انطلق» مشتقّة من (انطلاق) وتعني الذهاب بسرعة والتحرّر من عمل سابق ، وهنا تشير إلى تركهم مجلس أبي طالب وعلامات الضجر والغضب بادية عليهم.

و (الملأ) إشارة إلى أشراف قريش المعروفين الذين ذهبوا إلى أبي طالب ، وبعد خروجهم من بيته تحدّث بعضهم لبعض أو لأتباعهم أن لا تتركوا عبادة أصنامكم وأثبتوا على عبادة آلهتكم.

وجملة( لَشَيْءٌ يُرادُ ) تعني أنّ هناك أمرا يراد بنا. ولكونها جملة غامضة بعض الشيء ، فقد ذكر المفسّرون لها تفاسير عديدة ، منها : أنّها إشارة إلى دعوة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ اعتبرت قريش هذه الدعوة مؤامرة ضدّها ، وقالت : إنّ ظاهرها يدعو إلى الله ، وباطنها يهدف إلى السيادة والرئاسة علينا وعلى العرب ، وما هذه الدعوة إلّا ذريعة لتنفيذ ذلك الأمر ، أي السيادة والرئاسة ، ودعت الناس إلى التمسّك أكثر بعبادة الأصنام ، وترك تحليل أمر هذه المؤامرة إلى زعماء القوم ، وهذا الأسلوب طالما لجأ إليه أئمّة الضلال لإسكات أصوات السائرين في طريق الحقّ ، إذ يطلقون على الدعوة إلى الله لفظة (مؤامرة) المؤامرة التي يجب أن يتولّى

٤٥٠

رجال السياسة تحليلها بدقّة لوضع الخطط والبرامج المنظّمة لمواجهتها ، وأن يمرّ بها عامة الناس مرّ الكرام من دون أن يعيروا لها أي اهتمام ، وأن يتمسّكوا أكثر بما عندهم ، أي بأصنامهم.

ونظير هذا الحديث ورد في قصّة نوح ، عند ما قال الملأ من قوم نوح لعامّتهم( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) .(١)

وذهب آخرون إلى أنّ المقصود من هذه العبارة هو : يا عبدة الأصنام أثبتوا واستقيموا على آلهتكم ، لأنّ هذا هو المطلوب منكم.

أمّا البعض الآخر فقد قال : المقصود هو أنّ محمّدا يستهدفنا نحن ، وأنّه يريد جرّ مجتمعنا إلى الفساد من خلال تركنا لآلهتنا ، وفي نهاية الأمر ستزال النعم عنّا وينزل علينا العذاب!

فيما احتمل البعض الآخر أنّ المراد هو أنّ محمّدا لن يتوقّف عن دعوته وأنّه مصمّم على نشرها بعزم راسخ ، ولهذا فإنّ المحادثات معه عقيمة ، فاذهبوا وتمسّكوا أكثر بعقائدهم.

وأخيرا احتمل بعض المفسّرين أنّ المقصود هو أنّ المصيبة ستحلّ بنا ، وعلى أيّة حال ، علينا أن نتهيّأ لها وأن نتمسّك أكثر بسنّتنا.

وبالطبع ، لكون هذه الجملة لها مفهوم عامّ ، فإنّ أغلب التفاسير يمكن أن تعطي المعنى المطلوب ، رغم أنّ التّفسير الأوّل يعدّ أنسب من بقيّة التفاسير.

وعلى أيّة حال ، فإنّ زعماء المشركين أرادوا بهذا القول تقوية المعنويات المنهارة لأتباعهم ، والحيلولة دون تزعزع معتقداتهم أكثر ، ولكن كلّ مساعيهم ذهبت أدراج الرياح.

ولخداع عوامّ الناس وإقناع أنفسهم ، قال زعماء المشركين( ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ) .

__________________

(١) المؤمنون ، ٢٤.

٤٥١

فلو كان ادّعاء التوحيد وترك عبادة الأصنام أمرا واقعيّا لكان آباؤنا الذين كانوا بتلك العظمة والشخصيّة قد أدركوا ذلك ، وكنّا قد سمعنا ذلك منهم ، لذا فهو مجرّد حديث كاذب وليست له سابقة.

وعبارة( الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ) يحتمل أنّها تشير إلى جيل آبائهم باعتباره آخر جيل بالنسبة لهم ، ويمكن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب وخاصّة (النصارى) الذين كانوا آخر الملل ، ودينهم كان آخر الأديان قبل ظهور نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي إنّنا لم نعثر في كتب النصارى على شيء ممّا يقوله محمّد ، وذلك لأنّ كتب النصارى كانت تقول بالتثليث ، أمّا التوحيد الذي دعا إليه محمّد فإنّه أمر جديد.

ولكن يتّضح من آيات القرآن الكريم أنّ عرب الجاهلية لم يكونوا معتمدين على كتب اليهود والنصارى ، وإنّما اعتمادهم الأساس كان على سنن وشرائع أجدادهم وآبائهم ، وهذا دليل على صحّة التّفسير الأوّل.

«اختلاق» مشتقّة من (خلق) وتعني إبداء أمر لم تكن له سابقة ، كما تطلق هذه الكلمة على الكذب ، وذلك لأنّ الكذّاب غالبا ما يطرح مواضيع لا وجود لها ، ولهذا فإنّ المراد من كلمة (اختلاق) في الآية ـ مورد البحث ـ أنّ التوحيد الذي دعا إليه هذا النبيّ مجهول بالنسبة لنا ولآبائنا الأوّلين ، وهذا دليل على بطلانه.

* * *

ملاحظة

الخوف من الجديد!

الخوف من القضايا والأمور المستحدثة والجديدة كانت ـ على طول التاريخ ـ أحد الأسباب المهمّة التي تقف وراء إصرار الأمم الضالّة على انحرافاتها ، وعدم استسلامها لدعوات أنبياء الله ، إذ أنّهم يخافون من كلّ جديد ، ولهذا كانوا ينظرون لشرائع الأنبياء بنظرة سيّئة جدّا ، وحتّى الآن هناك امم كثيرة تحمل آثارا من هذا

٤٥٢

التفكير الجاهلي ، في الوقت الذي لم تكن فيه دعوة الرسل للتوحيد أمرا جديدا ، ولا يمكن أن تكون حداثة الشيء دليلا على بطلانه ، فيجب أن نتّبع المنطق ، ونستسلم للحقّ أينما كان وممّن كان.

والأمر العجيب أنّ مسألة الخوف من الأمر الجديد ـ مع شديد الأسف ـ قد طالت بعض العلماء أيضا ـ إذ يتّخذون موقفا معارضا للنظريات العلمية الحديثة ويقولون :( إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ) .

وهذا الأمر شوهد بصورة خاصّة في تأريخ الكنيسة المسيحية ، إذ أنّهم كانوا يتّخذون مواقف سلبية تجاه الاكتشافات العلمية لعلماء الطبيعة ، وكان أحدهم «غاليلو» إذ تعرّض لأشدّ هجمات الكنيسة على أثر إعلانه عن أنّ الأرض تدور حول الشمس وحول نفسها ، حيث كانوا يقولون : إنّ هذا الكلام بدعة.

وأكثر ما يثير العجب أنّ بعض العلماء الكبار ، كانوا عند ما يتوصّلون إلى حقائق علمية جديدة ، يعمدون إلى البحث في امّهات الكتب لعلّهم يعثرون على علماء سابقين يوافقونهم في الرأي ، وذلك خوفا من تعرضهم لهجمات المعارضين وبهذا الأسلوب استطاع كثير من العلماء إبداء وجهة نظرهم وكأنّها قديمة وليست بجديدة ، وهذا أمر مؤلم جدّا.

ومثال هذا الحديث يمكن مشاهدته في كتاب (الأسفار) فيما ورد عن النظرية المعروفة بـ (الحركة الجوهرية) لصدر المتألهين الشيرازي.

على أيّة حال فإنّ طريقة التعامل مع القضايا الحديثة والابتكارات الجديدة أدّى إلى وقوع خسائر كبيرة في المجتمع الإنساني وفي عالم العلم والمعرفة ، وعلى أصحاب العلاقة أن يعملوا بجدّ لإصلاح هذا الأمر ، وإزالة الرسوبات الجاهلية من أفكار الرأي العامّ.

٤٥٣

إلّا أنّ هذا الحديث لا يعني قبول كلّ رأي جديد لكونه جديدا ، حتّى ولو كان بلا أساس ، إذ يصبح حينئذ نفس التمسّك بالجديد بلاء عظيما كعشق القديم ، فالاعتدال الإسلامي يدعونا إلى عدم الإفراط أو التفريط في العمل.

* * *

٤٥٤

الآيات

( أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) )

التّفسير

الجيش المهزوم :

الآيات السابقة تحدّثت عن المواقف السلبية التي اتّخذها المعارضون لنهج التوحيد والإسلام ، ونواصل في هذه الآيات الحديث عن مواقف المشركين.

فمشركو مكّة بعد ما أحسّوا أنّ مصالحهم اللامشروعة باتت في خطر ، وإثر تزايد اشتعال نيران الحقد والحسد في قلوبهم ، ومن أجلّ خداع الناس وإقناع أنفسهم عمدوا إلى مختلف الادّعاءات بمنطق زائف لمحاربة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنها سؤالهم بتعجّب وإنكار( أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ) .

ألم يجد الله شخصا آخر لينزل عليه قرآنه ، غير محمّد اليتيم والفقير ـ خاصّة

٤٥٥

وأنّ فينا الكثير من الشيبة وكبار السنّ الأثرياء المعروفون.

هذا المنطق لم يكن منحصرا بذلك الزمان فقط ، وإنّما يتعدّاه إلى كلّ عصر وزمان ، وحتّى في زماننا ، فإن تولّى شخص ما مسئولية مهمّة طفحت قلوب الآخرين بالغيظ والحسد ، وبدأت ألسنتهم بالثرثرة وتوجيه النقد والطعن : ألم يكن هناك شخص آخر حتّى توكّل هذه المهمة بالشخص الفلاني الذي هو من عائلة فقيرة وغير معروفة؟

نعم ، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى يشتركون بعض الشيء مع المسلمين ، ولكن حبّ الدنيا من جهة ، وحسدهم من جهة اخرى ، تسبّبا في أنّ يبتعدوا عن الإسلام والقرآن ، ويقولوا إلى عبدة الأصنام : إنّ الطريق الذي تسلكونه أفضل من الطريق الذي سلكه المؤمنون( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) .(١)

من البديهي أنّ إشكال التعجّب والإنكار المتولّدة عن الخطأ في «تحديد القيم» إضافة إلى الحسد وحبّ الدنيا ، لا يمكن أن تكون معيارا منطقيا في القضاء ، فهل أنّ شخصيّة الإنسان تحدّد باسمه أو مقدار ماله أو مقامه أو حتّى سنّه؟ وهل أنّ الرحمة الإلهيّة تقسّم على أساس هذا المعيار؟

لهذا فإنّ تتمّة الآية تقول : إنّ مرض أولئك شيء آخر ، إنّهم في حقيقة الأمر يشكّكون في أمر الوحي وأمر الله( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ) .

ملاحظاتهم التي لا قيمة لها على شخصيّة الرّسول ما هي إلّا أعذار واهية ، وشكّهم وتردّدهم في هذه المسألة ليس بسبب وجود إبهام في القرآن المجيد ، وإنّما بسبب أهوائهم النفسية وحبّ الدنيا وحسدهم.

وفي نهاية الأمر فإنّ القرآن الكريم يهدّدهم بهذه الآية( بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ ) أي إنّ هؤلاء لم يذوقوا العذاب الإلهي ، ولهذا السبب جسروا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) النساء ، ٥١.

٤٥٦

ودخلوا المعركة ضدّ الوحي الإلهي بهذا المنطق الأجوف.

نعم ، فهناك مجموعة من الناس لا ينفع معها المنطق والكلام ، ولكن سوط العذاب هو الوحيد الذي يحطّ من تكبّرهم وغرورهم ، لذا يجب أن يعاقب أولئك بالعقاب الإلهي كي يشفوا من مرضهم.

ويضيف القرآن الكريم في الردّ عليهم : هل يمتلكون خزائن الرحمة الإلهيّة كي يهبوا أمر النبوّة لمن يرغبون فيه ، ويمنعونها عمّن لا يرغبون فيه؟( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) .

فالله سبحانه وتعالى بمقتضى كونه (ربّ) هذا الكون ومالكه ، وبارئ عالم الوجود وعالم الإنسانية ، ينتخب لتحمل رسالته شخصا يستطيع قيادة الأمّة إلى طريق التكامل والتربية. وبمقتضى كونه (العزيز) فإنّه لا يقع تحت تأثير الآخرين ويسلّم مقام الرسالة إلى أشخاص غير لائقين ، فمقام النبوّة عظيم ، والله سبحانه وتعالى هو صاحب القرار في منحه. ولكونه (الوهّاب) فإنّه ينفذ أيّ شيء يريده ، ويمنح مقام النبوّة لكلّ من يرى فيه القدرة على تحمّله.

ممّا يذكر أنّ كلمة (الوهّاب) جاءت بصيغة المبالغة ، وتعني كثير المنح والعطايا ، وهي هنا تشير إلى أنّ النبوّة ليست نعمة واحدة ، وإنّما هي نعم متعدّدة ، تتّحد فيما بينها لتمكّن صاحب هذا المقام الرفيع من أداء مهمّته ، وهذه النعم تشمل العلم والتقوى والعصمة والشجاعة والشهامة.

ونقرأ في الآية (٣٢) من سورة الزخرف نظير هذا الكلام ، قال تعالى :( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) أي إنّهم يشكلون عليك بسبب نزول القرآن عليك ، فهل أنّهم هم المسؤولون عن تقسيم رحمة ربّ العالمين؟

هذا ويمكن الاستفادة من كلمة (رحمة) هنا في أنّ النبوّة إنّما هي رحمة ولطف ربّ العالمين بعالم الإنسانية ، وحقّا هي كذلك ، فلو لا بعث الأنبياء لخسر الناس الدنيا والآخرة ، كما خسرها أولئك الذين ابتعدوا عن نهج الأنبياء.

٤٥٧

الآية اللاحقة واصلت تناول نفس الموضوع ، ولكن من جانب آخر ، حيث قالت :( أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ ) .

هذا الكلام في حقيقته يعدّ مكمّلا للبحث السابق ، إذ جاء في الآية السابقة : إنّكم لا تمتلكون خزائن الرحمة الإلهية ، كي تمنحوها لمن تنسجم أهواؤه مع أهوائكم ، والآن تقول الآية التالية لها : بعد أن تبيّن أنّ هذه الخزائن ليست بيدكم ، وإنّما هي تحت تصرّف البارئعزوجل ، إذن فليس أمامكم غير طريق واحد ، وهو أن ترتقوا إلى السماوات لتمنعوا الوحي أن ينزل على رسول الله وإنّكم تعرفون أنّ تحقيق هذا الأمر شيء محال ، وأنتم عاجزون عن تنفيذه.

وعلى هذا ، فلا «المقتضي» تحت اختياركم ، ولا القدرة على إيجاد «المانع» ، فما ذا يمكنكم فعله في هذا الحال؟ إذا ، موتوا بغيظكم وحسدكم ، وافعلوا ما شئتم

وبهذا الشكل فإنّ الآيتين لا تكرّران موضوعا واحدا كما توهّمه مجموعة من المفسّرين ، بل إنّ كلّ واحدة منهما تتناول جانبا من جوانب الموضوع.

الآية الأخيرة في بحثنا جاءت بمثابة تحقير لأولئك المغرورين السفهاء ، قال تعالى :( جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ ) (١) فهؤلاء جنود قلائل مهزومين

«هنالك» إشارة للبعيد ، وبسبب وجودها في الآية ، فقد اعتبر بعض المفسّرين أنّها إشارة إلى هزيمة المشركين في معركة بدر ، التي دارت رحاها في منطقة بعيدة بعض الشيء عن مكّة المكرّمة.

واستخدام كلمة (الأحزاب) هنا إشارة حسب الظاهر إلى كلّ المجموعات التي وقفت ضدّ رسل الله ، والذين أبادهم الباريعزوجل ، ومجتمع مكّة المشرك هو مجموعة صغيرة من تلك المجموعات ، والذي سيبتلى بما ابتلوا به (الشاهد على

__________________

(١) (ما) تعدّ زائدة في هذه العبارة ، إنّما جاءت للتحقير والتقليل ، و (جند) خبر لمبتدأ محذوف ، و (مهزوم) خبر ثان والعبارة في الأصل هي (هم جند ما مهزوم من الأحزاب) والبعض يعتقد بعدم وجود محذوف في الجملة و (جند) مبتدأ و (مهزوم) خبر ، ولكن الرأي الأوّل أنسب.

٤٥٨

هذا الحديث هو ما سيرد في الآيات القادمة التي تتطرّق لهذه المسألة).

ولا ننسى أنّ هذه السورة من السور المكيّة ، ونزلت في وقت كان فيه عدد المسلمين قليلا جدّا ، بحيث كان من اليسير على المشركين أن يبيدوهم بسهولة ، قال تعالى :( تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ) .(١)

وفي ذلك اليوم لم تكن هنالك أيّة دلائل توضّح إمكانية انتصار المسلمين ، حيث لم تكن المعارك قد وقعت ، ولا الانتصارات في بدر والأحزاب وحنين قد تحقّقت.

ولكن القرآن قال بحزم إنّ هؤلاء الأعداء ـ الذين هم مجموعة صغيرة ـ سيهزمون في نهاية المطاف.

واليوم يبشّر القرآن الكريم مسلمي العالم المحاصرين من كلّ الجهات من قبل القوى المعتدية والظالمة بنفس البشائر التي بشّر بها المسلمين قبل (١٤٠٠) عام ، في أنّ الله سبحانه وتعالى سينجز وعده في هزيمة جند الأحزاب ، إن تمسّك مسلمو اليوم بعهودهم تجاه الله كما تمسّك بها المسلمون الأوائل.

* * *

__________________

(١) سورة الأنفال ، ٢٦.

٤٥٩

الآيات

( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) )

التّفسير

تكفيهم صيحة سماوية واحدة :

تتمّة للآية الآنفة الذكر ، التي بشّرت بهزيمة المشركين مستقبلا ، ووصفتهم بأنّهم مجموعة صغيرة من الأحزاب ، تناولت آيات بحثنا الحالي بعض الأحزاب التي كذّبت رسلها ، وبيّنت المصير الأليم الذي كان بانتظارها.

إذ تقول ، إنّ أقوام نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد كانت قد كذّبت قبلهم بآيات الله ورسله( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ ) .

كذلك أقوام ثمود ولوط وأصحاب الأيكة ـ أي قوم شعيب ـ كانت هي الاخرى

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538