مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237249 / تحميل: 6094
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بعد ذلك تبيّن الآية الكريمة دوافع هذا الاستهزاء ، فتذكر أنّ هذه الجماعة إنّما تفعل ذلك لجهلها وابتعادها عن الحقائق ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) .

* * *

الأذان شعار اسلامي كبير :

إنّ لكل أمّة ـ في أي عصر أو زمان كانت ـ شعار خاص بها تنادي به أفرادها وتستحث به همهم للقيام بواجباتهم الفردية والاجتماعية ، ويشاهد هذا الأمر في عالمنا الحاضر بصورة أوسع.

فالمسيحيون ينادون قومهم ويدعونهم لحضور الصّلاة في الكنائس بدق الناقوس وهذه هي طريقتهم وشعارهم سابقا وحاضرا.

والإسلام جاء بالأذان شعارا لدعوة المسلمين ، حيث يعتبر هذا الشعار أكثر تأثيرا وجاذبية في نفوس الناس قياسا بشعارات الديانات والأمم الأخرى ، فقد ذكر صاحب تفسير (المنار) أنّ بعض المسيحيين المتطرفين حين يستمعون إلى أذان المسلمين لا يجدون بدأ من يعترفوا بتأثيره المعنوي العظيم في نفوس سامعيه ، وينقل صاحب المنار ـ أيضا ـ أنّ بعضهم في إحدى مدن مصر شاهد جماعة من النصارى كانوا قد اجتمعوا أثناء أذان المسلمين للاستماع إلى هذا اللحن السماوي.

فأي شعار أقرب إلى الذوق وآنس إلى الأسماع من شعار يبدأ بذكر اسم الله ويشهد بتوحيده ووحدانيته وبنبوة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويدعو إلى الفلاح والعمل الصالح ، وينتهي ـ كذلك ـ بذكر الله!! فبدايته اسم «الله» وختامه اسم (الله) في جمل موزونةمتناغمة ، ذات عبارات قصيرة واضحة المعنى وذات محتوى تربوي بنّاء.

ولذلك أكّدت الرّوايات الإسلامية كثيرا على ضرورة أداء الأذان ، فقد ورد

__________________

أشير إليها سابقا ـ صحة الاحتمالين ، لأنّ المنافقين والكفار كانوا يستهزئون بالآذان والصّلاة معا ، لكن ظاهر الآية يعزز الاحتمال الأوّل ، أي أن الضمير يعود على الصّلاة.

٦١

عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث معروف في هذا المجال ، أنّه قال : المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة(1) وهذا العلو هو نفس علو منزلة القيادة التي تدعو الناس إلى الله وإلى عبادة كالصّلاة.

إنّ صوت الأذان الذي ينطلق في أوقات الصّلاة من مآذن المدن الإسلامية بمثابة نداء الحرية والنسيم الذي يهب الحياة لروح الاستقلال والمجد ، ويدغدغ أذان المسلمين الأبرار ويثير الرعب والخوف في نفوس الأعداء الحاقدين ، ويعتبر رمزا من رموز بقاء الإسلام ، والدليل على هذا الأمر اعتراف أحد رجالات انجلترا المعروفين الذي قال أمام جمع من المسيحيين : ما دام اسم النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرفع على المآذن ، وما دامت الكعبة باقية وما دام القرآن يهدي ويوجه المسلمين ، فلا يمكن أن تترسخ قواعد سياسة الإنجليز في الأراضي الإسلامية(2) .

وبالرّغم من ذلك فانّ بعض المسلمين البؤساء أزاحوا مؤخرا هذا الشعار الإسلامي العظيم ـ الذي هو سند ومستمسك حيّ على صمود ومقاومة دينهم وثقافتهم على مر العصور ـ من إذاعاتهم ووضعوا مكانه برامج رخيصة ، نسأل الله أن يهدي هؤلاء للعودة إلى صفوف المسلمين.

ومن الطبيعي أنّ الأذان ـ لفحواه ومحتواه الجميل البديع ـ يحتاج أدائه إلى صوت مقبول ، لكي لا يشوّه الأداء غير المستساغ هذا المحتوى الجميل الجذاب.

نزول الأذان وحيا على النّبي :

وردت في بعض الرّوايات المنقولة من طرق أهل السنة قصص غريبة حول تشريع الأذان لا تتناسب ولا تتلاءم مع المنطق الإسلامي ، وممّا نقلوا في هذا الباب أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن سأله أصحابه عن إيجاد طريقة لمعرفة أوقات الصّلاة ،

__________________

(1) الوسائل : ج 5 ، ص 376 ، باب 2 ، ح 21.

(2) صاحب هذا القول «كلودستون» الذي يعتبر من السياسيين المتفوقين في عصره.

٦٢

استشار الصحابة ، فقدم كل منهم اقتراحا ، ومن ذلك رفع علم خاص في أوقات الصّلاة أو إشعال نار ، أو دق ناقوس ، لكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوافق على أي من هذه الاقتراحات ، ثمّ أن عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب ـ رأيا في المنام ـ شخصا يأمرهما بأداء الأذان لإعلان وقت الصّلاة ، وعلمهما كيفية هذا الأذان ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك(1) .

إنّ هذه الرواية المختلقة تعتبر اهانة لمنزلة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرفيعة ، حيث تدّعي أن النّبي ـ بدلا من أن يعتمد على الوحي ـ استند على حلم رآه أفراد من أصحابه في تشريع الأذان.

والصحيح في هذا الباب ما ورد في روايات أهل البيتعليهم‌السلام من أن الأذان نزل وحيا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يحدثنا الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان واضعا رأسه في حجر عليعليه‌السلام حين نزل جبرائيل بالأذان والإقامة ، فعلّمهما للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رفع النّبي رأسه وسأل عليّا إن كان قد سمع صوت أذان جبرائيل ، فردّ عليعليه‌السلام بالإيجاب ، فسأله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة ثانية إن كان قد حفظ ذلك ، فردّ عليعليه‌السلام بالإيجاب أيضا ـ ثمّ طلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عليعليه‌السلام أن ينادي بلالا ـ الذي كان يتمتع بصوت جيد ـ ويعلمه الأذان والإقامة ، فاستدعى عليعليه‌السلام بلالا وعلمه الأذان والإقامة(2) .

وللاستزادة من التفاصيل في هذا الباب يمكن مراجعة كتاب (النص والاجتهاد) للسيد عبد الحسين شرف الدين ـ ص 128.

* * *

__________________

(1) تفسير القرطبي.

(2) الوسائل ، ج 4 ، ص 612.

٦٣

الآيتان

( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ(60) )

سبب النّزول

نقل عن عبد الله بن عباس أنّ جماعة من اليهود جاؤوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يشرح لهم معتقداته ، فأخبرهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يؤمن بالله الواحد الأحد ، ويؤمن بأنّ كل ما نزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وجميع الأنبياء هو الحقّ ، وأنّه لا يفرق بين أنبياء الله ، فأجابوه بأنّهم لا يعرفون عيسى ولا يؤمنون بنبوّته ، ثمّ قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم لا يعرفون دينا أسوأ من دينه! فنزلت هاتان الآيتان ردّا على هؤلاء الحاقدين.

٦٤

التّفسير

في هذه الآية يأمر الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل أهل الكتاب عن سبب اعتراضهم وانتقادهم للمسلمين ، وهل أنّ الإيمان بالله الواحد الأحد والإعتقاد بما أنزل على نبي الإسلام والأنبياء الذين سبقوه يجابه بالاعتراض والانتقاد ، حيث تقول الآية :( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ) (1) .

وتشير هذه الآية ـ أيضا ـ إلى جانب آخر من جوانب صلف ووقاحة اليهود وتطرفهم غير المبرر ، ونظرتهم الضيقة الآحادية الجانب التي دفعت بهم إلى الاستهانة بكل شخص ودين غير أنفسهم ودينهم ، وهم لتطرفهم ذلك كانوا يرون الحقّ باطلا والباطل حقّا.

وتأتي في آخر الآية عبارة تبيّن علّة الجملة السابقة ، حيث تبيّن أن اعتراض اليهود وانتقادهم للمسلمين الذين آمنوا بالله وبكتبه ، ما هو إلّا لأنّ أكثر اليهود من الفاسقين الذين انغمسوا في الذنوب ، ولذلك فهم ـ لانحرافهم وتلوثهم بالآثام ـ يعيبون على كل انسان ظاهر اتباعه للصواب وسيره في طريق الحقّ حيث تؤكّد الآية :( وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ) .

وبديهي أنّ المقاييس في محيط موبوء بالفساد والفسق ، تنقلب ـ أحيانا ـ بحيث يصبح الحقّ باطلا والباطل حقا ، ويصبح العمل الصالح والإعتقاد النزيه شيئا قبيحا مثيرا للاعتراض والانتقاد ، بينما يعتبر كل عمل قبيح شيئا جميلا جديرا بالاستحسان والمديح ، وهذه هي طبيعة المسخ الفكري الناتج عن الانغماس في الخطايا والذنوب إلى درجة الإدمان.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية تنتقد جميع أهل الكتاب ، وواضح أنّها

__________________

(1) إنّ كلمة «تنقمون» مشتقة من المصدر «نقمة» وتعني في الأصل إنكار شيء معين نطقا أو فعلا كما تأتي بمعنى إيقاع العقاب أو الجزاء.

٦٥

عزلت حساب الأقلية الصالحة بدقة عن الأكثرية الآثمة باستخدام كلمة (أكثركم) في العبارة الأخيرة منها.

الآية الثّانية تقارن المعتقدات المحرفة وأعمال أهل الكتاب والعقوبات التي تشملهم بوضع المؤمنين الأبرار من المسلمين لكي يتبيّن أي الفريقين يستحق النقد والتقريع ، وهذا بذاته جواب منطقي للفت انتباه المعاندين والمتطرفين في عصبيتهم.

وفي هذه المقارنة تطلب الآية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل هؤلاء : هل أنّ الإيمان بالله الواحد وبكتبه التي أنزلها على أنبيائه أجدر بالنقد والاعتراض ، أم الأعمال الخاطئة التي تصدر من أناس شملهم عقاب الله؟

فتخاطب الآية النّبي بأن يسأل هؤلاء : إن كانوا يريدون التعرف على أناس لهم عند الله أشد العقاب جزاء ما اقترفوه من أعمال ، حيث تقول :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ ) (1) .

ولا شك أنّ الإيمان بالله وكتبه ليس بالأمر غير المحمود ، وأن المقارنة الجارية في هذه الآية بين الإيمان وبين أعمال وأفكار أهل الكتاب ، هي من باب الكناية ، كما ينتقد انسان فاسد إنسانا تقيا فيسأل الإنسان التقي ردا على هذا الفاسد : أيّهما أسوأ الأتقياء أم الفاسدون.

بعد هذا تبادر الآية إلى شرح الموضوع ، فتبيّن أنّ أولئك الذين شملتهم لعنة الله فمسخهم قرودا وخنازير ، والذين يعبدون الطاغوت والأصنام ، إنّما يعيشون في هذه الدنيا وفي الآخرة وضعا أسوأ من هذا الوضع ، لأنّهم ابتعدوا كثيرا عن طريق الحقّ وعن جادة الصواب ، تقول الآية الكريمة :( مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ

__________________

(1) إن كلمة (مثوبة) وكذلك كلمة (ثواب) تعنيان ـ في الأصل ـ الرجوع أو العودة إلى الحالة الأولى ، كما تطلقان ـ أيضا ـ لتعنيا المصير والجزاء (الأجر أو العقاب) لكنهما في الغالب تستخدمان في مجال الجزاء الحسن ، وأحيانا تستخدم كلمة (الثواب) بمعنى العقاب وفي الآية جاءت بمعنى المصير أو العقاب.

٦٦

وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ) (1) .

وسنتطرق إلى معنى المسخ الذي يتغير بموجبه شكل الإنسان ، وهل أنّ هذا التغير في الشكل يشمل صورته الجسمية ، أم المراد التغير الفكري والأخلاقي؟

وذلك عند تفسير الآية (163) من سورة الأعراف ، وبصورة مفصلة بإذن الله.

* * *

__________________

(1) إنّ كلمة (سواء) تعني في اللغة (المساواة والاعتدال والتساوي) وان وجه تسمية الصراط المستقيم في الآية :( سَواءِ السَّبِيلِ ) لأنّ جميع أجزاء هذا الطريق مستوية ولأن طرفيه متساويان وممهدان ، كما تطلق هذه التسمية على كل طريقة تتسم بالاعتدال وتخلو من الانحراف ، ويجب الانتباه هنا ـ أيضا ـ إلى أن عبارة( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) عطف على جملة( مَنْ لَعَنَهُ اللهُ ) وكلمة (عبد) فعل ماض وليست صيغة جمع لعبد مثلما احتمله البعض من المفسّرين وإطلاق تسمية( عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) على أهل الكتاب ، إمّا أن يكون إشارة إلى عبادة العجل من قبل اليهود ، أو إشارة إلى انقياد أهل الكتاب الأعمى لزعمائهم وكبارهم المنحرفين.

٦٧

الآيات

( وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) )

التّفسير

الآية الاولى من هذه آيات الثلاث ـ واستكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة حول المنافقين ـ تكشف عن ظاهرة الازدواجية النفاقية عند هؤلاء ، وتنبّه المسلمين إلى أنّ المنافقين حين يأتونهم يتظاهرون بالإيمان وقلبهم يغمره الكفر ، ويخرجون من عندهم المسلمين ولا يزال الكفر يملأ قلوبهم ، حيث لا يترك منطق المسلمين واستدلالهم وكلامهم في نفوس هؤلاء المنافقين أي أثر يذكر ، تقول الآية الكريمة :( وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) ولذلك يجب على المسلمين أن لا ينخدعوا بهؤلاء الذين يتظاهرون بالحقّ والإيمان ،

٦٨

ويبدون القبول لأقوال المسلمين رياء وكذبا.

وتؤكّد الآية أنّ المنافقين مهما تستروا على نفاقهم ، فإنّ الله يعلم ما يكتمون.

ثمّ تبيّن الآية الأخرى علائم من نوع آخر للمنافقين ، فتشير إلى أنّ كثيرا من هؤلاء في انتهاجهم طريق العصيان والظلم وأكل المال الحرام ، يتسابقون بعضهم مع بعضهم الآخر تقول الآية :( وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) (1) أي أن هؤلاء يسرعون الخطى في طريق المعاصي والظلم ، وكأنّهم يسعون إلى أهداف تصنع لهم الفخر والمجد ، ويتسابقون فيما بينهم في هذا الطريق دون خجل أو حياء.

وتجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنّ كلمة «إثم» قد وردت بمعنى (الكفر) كما وردت لتعني جميع أنواع الذنوب أيضا ، وبما أنّها اقترنت في هذه الآية بكلمة (العدوان) قال بعض المفسّرين : أنّها تعني الذنوب التي تضرّ صاحبها فقط ، على عكس العدوان الذي يتعدى طوره صاحبه إلى الآخرين ، كما يحتمل أن يكون مجيء كلمة (العدوان) بعد كلمة (الإثم) في هذه الآية ، من باب ما يصطلح عليه بذكر العام قبل الخاص ، وأن مجيء كلمة «السحت» بعدهما هو من قبيل ذكر الأخص.

وعليه فالقرآن قد ذم المنافقين ، أوّلا لكل ذنب اقترفوه ، ثمّ خصص ذنبين كبيرين لما فيهما من خطر ـ وهما الظلم وأكل الأموال المحرمة ، سواء كانت ربا أم رشوة أم غير ذلك.

وخلاصة القول أن القرآن الكريم قد ذم هذه الجماعة من المنافقين من أهل الكتاب ، لوقاحتهم وصلفهم وتعنتهم في ارتكاب أنواع الآثام وبالأخص الظلم

__________________

(1) لقد بيّنا معنى (السحت) في تفسير الآية (42) من هذه السورة ، وشرحنا معنى (يسارعون) في تفسير الآية (41) من هذه السورة أيضا ، في هذا الجزء.

أمّا كلمة (إثم) فقد شرحنا معانيها في تفسير الآية (219) من سورة البقرة ، في المجلد الأوّل.

٦٩

وأكل المال الحرام ، ولكي يؤكّد القرآن قبح هذه الأعمال ، قالت الآية :( لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وتدل عبارة( كانُوا يَعْمَلُونَ ) على أنّ هذه الذنوب لم تكن تصدر عن هؤلاء صدفة ، بل كانوا يمارسونها دائما مع سبق إصرار.

بعد ذلك تحمل الآية الثالثة على علمائهم الذين أيّدوا قومهم على ارتكاب المعاصي بسكوتهم ، فتقول :( لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) .

وقد أشرنا سابقا إلى أنّ كلمة (ربّانيون) هي صيغة جمع لكلمة (ربّاني) المشتقة من كلمة (رب) وتعني العالم أو المفكر الذي يدعو الناس إلى الله ، لكنّها قد أطلقت في كثير من الحالات على علماء المسيحيين ، أي رجال الدين المسيحي.

أمّا كلمة (أحبار) فهي صيغة جمع لكلمة (حبر) وهي تعني العلماء الذين يخلفون أثارا حسنة في المجتمع ، لكنّها أطلقت في موارد كثيرة على رجال الدين اليهود.

أمّا خلو هذه الآية من كلمة (العدوان) التي وردت في الآية قبلها ، فقد استدل بعضهم من ذلك على أن كلمة (الإثم) الواردة هنا تشمل جميع المعاني التي تدخل في إطار هذه الكلمة ومن ضمنها (العدوان).

لقد وردت في هذه الآية عبارة( قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ) التي تختلف عمّا ورد في الآية السابقة ، ولعل هذه إشارة إلى أن العلماء مكلفون بردع الناس عن النطق بما يشوبه الذنب من قول ، كما هم مكلّفون بمنع الناس عن ارتكاب العمل السيء ، ولربّما تكون كلمة (قول) الواردة هنا بمعنى (العقيدة) أي أن العلماء الذين يهدفون إلى إصلاح أي مجتمع فاسد ، عليهم أوّلا أن يصلحوا أو يغيروا المعتقدات الفاسدة التي تشيع في هذا المجتمع ، فما لم يحصل التغيير الفكري لا يمكن توقع حصول اصلاحات جذرية في الجوانب العملية ، وبهذه الصورة تبيّن الآية للعلماء أنّ الثورة

٧٠

الفكرية هي الأساس والمنطلق لكل إصلاح يراد تحقيقه في كل مجتمع فاسد.

وفي الختام ، يمارس القرآن الكريم نفس أسلوب الذم الذي اتّبعه مع أهل المعاصي الحقيقيين ، فيذم العلماء الساكتين الصامتين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقبح صمتهم هذا ، كما تقول الآية :( لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ) .

وهكذا تبيّن أنّ مصير الذين يتخلون عن مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العظيمة وخاصة إن كانوا من العلماء يكون كمصير أصحاب المعاصي ، وهؤلاء في الحقيقة شركاء في الذنب مع العاصين.

ونقل عن ابن عباس المفسّر المعروف قوله : بأنّ هذه الآية أعنف آية وبخت العلماء المتجاهلين لمسؤولياتهم الصامتين عن المعاصي.

وبديهي أنّ هذا الحكم لا ينحصر في علماء اليهود والنصاري ، بل يشمل كل العلماء مهما كانت دياناتهم إن هم سكتوا وصمتوا أمام تلوث مجتمعاتهم بالذنوب وتسابق الناس في الظلم والفساد ، ذلك لأنّ حكم الله واحد بالنسبة لجميع البشر.

وورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في إحدى خطبه ، أنّ سبب هلاك الأقوام السابقة هو ارتكابهم للمعاصي وسكوت علمائهم عليهم وامتناعهم عن النهي عن المنكر فكان ينزل عليهم ـ لهذا السبب ـ البلاء والعذاب من الله ، وأن على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر لكي لا يتورطوا بمصير أولئك الأقوام(1) .

كما ورد بنفس هذا المضمون كلام للإمام عليعليه‌السلام في (نهج البلاغة) في آخر خطبته القاصعة (الخطبة 192) قولهعليه‌السلام : «فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلعن السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك التناهي ...».

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 1 ، ص 649.

٧١

ويلفت الانتباه هنا أيضا أنّ الآية السابقة حين كانت تتحدث عن سواد الناس جاءت بعبارة (يعملون) بينما حين صار الحديث في هذه الآية عن العلماء جاءت بعبارة (يصنعون) والصنع هو كل عمل استخدمت فيه الدقة والمهارة ، بينما العمل يطلق على جميع الأفعال حتى لو كانت خالية من الدقة ، هكذا فإن هذه العبارة (يصنعون) تتضمن بحدّ ذاتها ذما أكبر ، وذلك لأنّ سواد الناس إن ارتكبوا ذنبا يكون ارتكابهم هذا ـ غالبا ـ بسبب جهلهم ، بينما العالم الذي لا يؤدي واجبه فهو يرتكب إثما عن دراية وعلم وتفكير ، ولهذا يكون عقابه أشد وأعنف من عقاب الجاهل.

* * *

٧٢

الآية

( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) )

التّفسير

تبرز هذه الآية واحدا من المصاديق الواضحة للأقوال الباطلة التي كان اليهود يتفوهون بها ، وقد تطرقت الآية السابقة إليها ـ أيضا ـ ولكن على نحو كلي.

ويتحدث لنا التّأريخ عن فترة من الوقت كان اليهود فيها قد وصلوا إلى ذروة السلطة والقدرة ، وكانوا يمارسون الحكم على قسم مهم من المعمورة ، ويمكن الاستشهاد بحكم سليمان وداود كمثال على حكم الدولة اليهودية ، وقد استمر حكم اليهود بعدهما بين رقي وانحطاط حتى ظهر الإسلام ، فكان إيذانا بأفول الدولة اليهودية ، وبالأخص في الحجاز ، إذ أدى قتال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليهود بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر إلى إضعاف سلطتهم بصورة نهائية.

٧٣

وفي ذلك الوضع كان البعض من اليهود حين يتذكرون سلطتهم القوية السابقة ، كانوا يقولون استهزاء وسخرية ـ إنّ يد الله أصبحت مقيدة بالسلاسل (والعياذ بالله) وأنّه لم يعد يعطف على اليهود! ويقال : أنّ المتفوه بهذا الكلام كان الفخاس بن عازوراء رئيس قبيلة بني القينقاع ، أو النباش بن قيس كما ذكر بعض المفسّرين.

وبما أنّ سائر أبناء الطائفة اليهودية أظهروا الرضى عن أقوال كبار قومهم هؤلاء ، لذلك جاء القرآن لينسب هذه الأقوال إلى جميعهم ، كما تقول الآية :( قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) .

ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة (اليد) تطلق في اللغة العربية على معان كثيرة ومنها (اليد العضوية) كما أن معانيها (النعمة) و (القدرة) و (السلطة) و (الحكم) ، وبديهي أنّ المعنى الشائع لها هو اليد العضوية.

ولما كان الإنسان ينجز أغلب أعماله المهمّة بيده ، فقد أطلقت من باب الكناية على معان أخرى.

وتفيدنا الكثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ هذه الآية تشير إلى ما كان اليهود يعتقدون به حول القضاء والقدر والمصير والإرادة ، حيث كانوا يذهبون إلى أنّ الله قد عين كل شيء منذ بدء الخليقة ، وأنّ كل ما يجب أن يحصل قد حصل ، وأنّ الله لا يستطيع من الناحية العملية إيجاد تغيير في ذلك(1) .

وبديهي أنّ تتمة الآية التي تتضمن عبارة( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) ـ كما سيأتي شرحه ـ تؤيد المعنى الأوّل ، كما يمكن أن يقترن المعنى الثّاني بالمعنى الأوّل في مسير واحد ، لأنّ اليهود حين أفل نجم سلطانهم ، كانوا يعتقدون أن هذا الأفول هو مصيرهم المقدر ، وأنّ يد الله مقيدة لا تستطيع فعل شيء أمام هذا المصير.

والله تعالى يرد على هؤلاء توبيخا وذما لهم ولمعتقدهم هذا بقوله :( غُلَّتْ

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 649 ، تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 486.

٧٤

أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا ) ثمّ لكي يبطل هذه العقيدة الفاسدة يقول سبحانه وتعالى( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) فلا إجبار في عمل الله كما أنّه ليس محكوما بالجبر الطبيعي ولا الجبر التّأريخي ، بل أنّ إرادته فوق كل شيء وتعمل في كل شيء.

والملفت للنظر هنا أنّ اليهود ذكروا اليد بصيغة المفرد كما جاء في الآية موضوع البحث ، لكن الله تعالى من خلال رده عليهم قد ثنّى كلمة اليد فقال :( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) وهذا بالإضافة إلى كونه تأكيدا للموضوع ، هو كناية لطيفة تظهر عظمة جود الله وعفوه ، وذلك لأنّ الكرماء جدّا يهبون ما يشاءون للغير بيدين مبسوطتين ، أضف إلىذلك أنّ ذكر اليدين كناية عن القدرة الكاملة ، أو ربّما يكون إشارة إلى النعم المادية والمعنوية ، أو الدنيوية والأخروية.

ثمّ تشير الآية إلى أنّ آيات الله التي تفضح أقوال ومعتقدات هؤلاء تجعلهم يوغلون أكثر في صلفهم وعنادهم ويتمادون في طغيانهم وكفرهم بدلا من تأثيرها الايجابي في ردعهم عن السير في نهجهم الخاطئ حيث تقول الآية الكريمة :( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ) .

بعد ذلك تؤكّد الآية على أن صلف هؤلاء وطغيانهم وكفرهم سيجر عليهم الوبال ، فينالهم من الله عذاب شديد في هذه الدنيا ، من خلال تفشي العداء والحقد فيما بينهم حتى يوم القيامة ، فتقول الآية الكريمة :( وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .

وقد اختلف المفسّرون في معنى عبارة( الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ ) الواردة في هذه الآية ، لكنّنا لو تغاضينا عن الوضع الاستثنائي غير الدائم الذي يتمتع به اليهود في الوقت الحاضر ، ونظرنا إلى تاريخ حياتهم المقترن بالتشتت والتشرد ، لثبت لدينا أنّ هناك عامل واحد لهذا الوضع التّأريخي الخاص لهؤلاء ، وهو انعدام الاتحاد والإخلاص فيما بينهم على الصعيد العالمي ، فلو كان هؤلاء يتمتعون بالوحدة

٧٥

والصدق فيما بينهم ، لما عانوا طيلة تاريخ حياتهم من ذلك التشرد والضياع والتشتت والتعاسة.

وقد شرحنا قضية العداوة والبغضاء الدائمة بين أهل الكتاب بشيء من التفصيل عند تفسير الآية (14) من نفس هذه السورة.

وتشير الآية ـ في الختام ـ إلى المساعي والجهود التي كان يبذلها اليهود لتأجيج نيران الحروب ، وعناية الله ولطفه بالمسلمين في انقاذهم من تلك النيران المدمرة الماحقة ، فتقول( كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ) .

وتعتبر هذه الظاهرة إحدى معاجز حياة النّبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ اليهود كانوا الأقوى بين أهل الحجاز والأعرف بمسائل الحرب ، بالإضافة إلى ما كانوا يمتلكون من قلاع حصينة وخنادق منيعة ، ناهيك عن قدرتهم المالية الكبيرة التي كانت لهم عونا في كل صراع بحيث أن قريشا كانوا يستمدون العون منهم ، وكان الأوس ، والخزرج يسعى كل منهما إلى التحالف معهم وكسب صداقتهم ونيل العون منهم في المجال العسكري ، لكنّهم فقدوا فجأة قدرتهم المتفوقة ـ هذه ـ وطويت صفحة جبروتهم دفعة واحدة ، بشكل لم يكن متوقعا لديهم ، فاضطر يهود بني النضير وبني قريظة وبني القينقاع إلى ترك ديارهم ، كما استسلم نزلاء قلاع خيبر الحصينة وسكان فدك من اليهود خاضعين للمسلمين ، وحتى أولئك الذين كانوا يقطنون في فيافي الحجاز منهم اضطروا إلى الخضوع أمام عظمة الإسلام ، فهم بالإضافة إلى عجزهم عن نصرة المشركين اضطروا إلى ترك ميدان النزال والصراع.

ثمّ تبيّن الآية ـ أيضا ـ أنّ هؤلاء لا يكفون عن نثر بذور الفتنة والفساد في الأرض فتقول :( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) وتؤكّد أيضا قائلة :( وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) .

ويستدلّ من هذا على أن أسلوب المواجهة القرآني لليهود لم يكن يتركز على

٧٦

أساس عنصري مطلقا ، بل أن المعيار الذي استخدمه القرآن في توجيه النقد إليهم ، هو معيار الأعمال التي يمكن أن تصدر من أي جنس وعنصر أو طائفة ، وسنلاحظ في الآيات القادمة أنّ القرآن على الرغم من كل ما صدر من هؤلاء ، قد ترك باب التوبة مفتوحا أمامهم.

* * *

٧٧

الآيتان

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) )

التّفسير

بعد أن وجهت الآيات السابقة النقد لنهج وأسلوب أهل الكتاب ، جاءت هاتان الآيتان وفقا لما تقتضيه مبادئ التربية الإنسانية لتفتحا باب العودة والتوبة أمام المنحرفين من أهل الكتاب ، لكي يعودوا إلى الطريق القويم ، ولتريهم الدرب الحقيقي الذي يجب أن يسيروا فيه ، ولتثمن دور تلك الأقلية من أهل الكتاب التي عاشت في ذلك العصر لكنّها لم تواكب الأكثرية في أخطائها ، فتقول الآية الاولى في البدء :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

بل ذهبت إلى أبعد من هذا فوعدتهم بالجنّة ونعيمها ، إذ قالت :( وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) ، وهذه إشارة إلى النعم المعنوية الأخروية.

٧٨

ثمّ تشير الآية الثّانية إلى الأثر العميق الذي يتركه الإيمان والتقوى ـ في الحياة الدنيوية للإنسان ، فتؤكّد أنّ أهل الكتاب لو طبقوا التّوراة والإنجيل وجعلوهما منهاجا لحياتهم وعملوا لكل ما نزل عليهم من ربّهم ، سواء في الكتب السماوية السابقة أو في القرآن ، دون تمييز أو تطرف لغمرتهم النعم الإلهية من السماء والأرض ، فتقول الآية :( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) .

وبديهي أنّ المراد من اقامة التّوراة والإنجيل هو اتّباعهم لما بقي من التّوراة والإنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر ، ولا يعني اتّباع ما حرّف منهما والذي يمكن معرفته من خلال القرائن.

والمراد بجملة( ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ) هو كل الكتب السماوية والأحكام الإلهية ، لأنّ هذه الجملة يفهم منها الإطلاق ، وهي في الحقيقة إشارة إلى النهي عن خلط العصبيات القومية بالوسائل الدينية الإلهية ، فليس المهم كون هذا الكتاب عربيا أو ذلك الكتاب يهوديا ، بل المهم هو الأحكام الإلهية الواردة فيهما وفي كل الكتب السماوية ، أي أنّ القرآن أراد أن يطفئ ـ ما أمكنه ذلك ـ نار العصبية القومية عند هؤلاء ، ويمهد السبيل إلى التغلغل في أعماق نفوسهم وقلوبهم ، لذلك فالضمائر الواردة في هذه الآية تعود إلى أهل الكتاب وهي : (إليهم ، من ربّهم ، من فوقهم ، ومن تحت أرجلهم) وما ذلك إلّا لكي يترك هؤلاء عنادهم وصلفهم ، ولكي لا يتصوروا أنّ الخضوع والاستسلام أمام القرآن يعني استسلام اليهود للعرب ، بل هو استسلام وخضوع لربّهم العظيم.

ولا شك أنّ المراد باقامة التّوراة والإنجيل هو العمل بالمبادئ السماوية الواردة فيهما ، لأنّ جميع المبادئ والتعاليم كما أسلفنا سابقا ـ التي جاء بها الأنبياء أينما كانوا ـ واحدة لا فرق بينها غير الفرق بين الكامل والأكمل ، ولا يتنافى هذا مع النسخ الذي ورد في بعض الأحكام الواردة في الشريعة اللاحقة

٧٩

لأحكام وردت في شريعة سابقة.

* * *

ومجمل القول هو أن الآية الأخيرة تؤكّد مرّة أخرى هذا المبدأ الأساسي القائل بأن اتباع التعاليم السماوية التي جاء بها الأنبياء ، ليس لأعمار الحياة الآخرة التي تأتي بعد الموت فحسب ، بل أنّ لها ـ أيضا ـ انعكاسات واسعة على الحياة الدنيوية المادية للإنسان ، فهي تقوي الجماعات وتعزز صفوفها وتكثف طاقاتها ، وتغدق عليها النعيم وتضاعف امكانياتها وتضمن لها الحياة السعيدة المقترنة بالأمن والاستقرار.

ولو ألقينا نظرة على الثروات الطائلة والطاقات البشرية الهائلة التي تهدر اليوم في عالم الإنسان نتيجة للانحراف عن هذه التعاليم ، وفي صنع وتكديس أسلحة فتّاكة ، وفي صراعات لا مبرر لها ومساع هدامة لرأينا أن ذلك كله دليل حيّ على هذه الحقيقة ، حيث أنّ الثروات التي تستخدم لإشاعة الدمار في هذا العالم ـ إذا أمعنا النظر جيدا ـ إن لم تكن أكثر حجما من الثروات التي تنفق في سبيل البناء ، فهي ليست بأقلّ منها.

إنّ العقول المفكرة التي تسعى وتعمل جاهدة ـ اليوم ـ لإكمال وتوسيع انتاج الأسلحة الحربية ، ولتوسيع بقعة النزاعات الاستعمارية ، إنّما تشكل جزءا مهما من الطاقات البشرية الخلاقة التي طالما احتاجها المجتمع البشري لرفع احتياجاته ، وكم سيصبح وجه الدنيا جميلا وجذابا لو كانت كل هذه الطاقات تستغل في سبيل الإعمار؟

وجدير بالانتباه هنا ـ أيضا ـ إلى أن عبارتي( مِنْ فَوْقِهِمْ ) و( مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) الواردتان في الآية الأخيرة ، معناهما أن نعم السماء والأرض ستغمر هؤلاء المؤمنين ، ما يحتمل أن تكونا كناية عن النعم بصورة عامّة كما ورد في الآثار الأدبية العربية وغيرها قولهم : (إنّ فلانا غرق في النعمة من قمة رأسه حتى

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

قال عليٌّ٧ : « الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعمائه العادّون، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حدّ محدود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود »(١) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١.

٣٦١
٣٦٢

حرف الغين

الخامس والثمانون: « غافر الذنب »

وقد جاء « غافر الذنب » في الذكر الحكيم مرّة واحدة، ووقع وصفاً له مع الصفات الاُخرى.

قال سبحانه:( تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( غافر / ٢ ـ ٣ )

فقد وصف سبحانه في الآيتين بصفات ستّ، واستعمل « غافر » بصيغة الجمع مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه باضافة لفظ الخير إليه.

قال سبحانه:( فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / ١٥٥ ).

وجاء لفظ « الغفور » مرفوعاً ومنصوباً ٩١ مرّة ووقع وصفاً له في جميع الموارد، واستعمل مع « الرحيم » تارة و « الحليم » اُخرى و « ذي الرحمة » ثالثاً و « الشكور » رابعاً، و « العفو » خامساً، و « العزيز » سادساً، و « الودود » سابعاً.

كما أنّ « الغفّار » جاء ٤ مرّات ووقع وصفاً له سبحانه واقترن بالعزيز.

فله أسماء ثلاثة كلّها مشتق من « الغفر ».

١ ـ الغافر. قال تعالى:( غَافِرِ الذَّنبِ ) ( غافر / ٣ ).

٢ ـ الغفور. قال سبحانه:( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) ( الكهف / ٥٨ ).

٣ ـ الغفّار. قال تعالى:( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ ) ( طه / ٨٢ ).

٣٦٣

والعبد له أسماء ثلاثة مشتقة من الظلم بالمعصية أو ما يعادله :

١ ـ الظالم. قال تعالى:( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ) ( فاطر / ٣٢ ).

٢ ـ الظلوم.قال تعالى:( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ) ( الأحزاب / ٧٢ ).

٣ ـ الظلاّم. قال تعالى:( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) ( الزمر / ٥٣ ).

والاسراف على الأنفس يعادل الظلّام وكأنّه قال: عبدي لك أسماء ثلاثة في الظلم بالمعصية ولي أسماء ثلاثة في الرحمة والمغفرة، فإن كنت ظالماً فأنا غافر وإن كنت ظلوماً فأنا غفور وإن كنت ظلّاماً فأنا غفّار(١) .

أمّا معناه فقد قال ابن فارس: عُظم بابِه السترُ، فالغفر: الستر، والغفران والغفر بمعنىً، يقال غفر الله ذنبه غفراً ومغفرة وغفراناً. قال في الغفر :

في ظلّ من عنت الوجوه له

ملك الملوك ومالك الغفر

و « المغفر » معروف والغفارة خرقة يضعها المدهن على هامته، وذكر عن امرأة من العرب أنّها قالت لابنتها: اغفري غفيرك تريد غطّيه.

السادس والثمانون: « الغالب »

لقد جاء الغالب مفرداً في الذكر الحكيم ثلاث مرّات ووقع في موضع اسماً له سبحانه، قال عزّ وجلّ :

( وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( يوسف / ٢١ ).

وقال سبحانه:( إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ ) ( آل عمران / ١٦٠ ).

وقال تعالى:( وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي

__________________

(١) لوامع البيّنات للرازي: ص ٢١٢.

٣٦٤

جَارٌ لَّكُمْ ) ( الأنفال / ٤٨ ).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس يدلّ على قوّة وقهر وشدّة.

قال الله تعالى:( وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ) ( الروم / ٣ ) وذكر مثله « الراغب » في مفرداته: قال سبحانه:( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ) ( البقرة / ٢٤٩ ).

وأمّا المراد من قوله سبحانه:( وَاللهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ ) فإن كان الضمير راجعاً إلى يوسف، فيكون المراد إنّ الله غالب على أمر يوسف، يحفظه ويرزقه حتى يبلغه ما قدّر له من الملك ولا يكله إلى غيره، وعلى تسليم هذا الفرض فرعاية يوسف مصداق من مصاديق القاعدة الكليّة وهو غلبته سبحانه على كلّ شيء.

وأمّا إذا قلنا أنّ الضمير يرجع إلى الله سبحانه فيكون المراد من الأمر هو نظام التدبير. قال تعالى:( يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) ( يونس / ٣ ). فيكون المعنى أنّ كلّ شيء من شؤون الصنع والايجاد، من أمره تعالى وهو تعالى غالب عليه وهو مغلوب له يطيعه فيما شاء ينقاد له فيما أراد ليس له أن يستكبر أو يتمرّد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه أو يفوته.

قال تعالى:( إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) ( الطلاق / ٣ ).

وبالجملة أنّ الله تعالى هو قاهر كلّ شيء إذ لا شيء إلّا بأمره حدوثاً وبقاء وعند ذلك فلا يتصوّر وجود شيء خارج عن إرادة الله وقدرته.

السابع والثمانون: « الغفّار »

وقد جاء اسم « الغفّار » في الذكر الحكيم معرّفاً ومنكراً خمس مرّات.

قال سبحانه:( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ ) ( طه / ٨٢ ).

٣٦٥

وقال سبحانه:( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ) ( نوح / ١٠ ). واستعمل مع العزيز في الموارد الثلاثة الآتية.

قال سبحانه:( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) ( سورة ص / ٦٦ ). وقال عزّ من قائل:( كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) ( الزمر / ٥ ). وقال تعالى:( وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ) ( غافر / ٤٢ ).

واللّفظ صيغة المبالغة من الغفر وقد تبيّن معناه عند البحث عن اسم « غافر الذنب ».

الثامن والثمانون: « الغنيّ »

وقد جاء لفظ « الغنيّ » في الذكر الحكيم مرفوعاً ومنصوباً ٢٠ مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في ثمانية عشر مورداً واستعمل تارة مع إسم « الحميد » واُخرى مع « الحليم » وثالثاً مع « الكريم ».

قال سبحانه:( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ( البقرة / ٢٦٧ ). وقال تعالى:( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) ( البقرة / ٢٦٣ ).

وقال سبحانه:( مَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ( النمل / ٤٠ ).

وأمّا معناه فقد قال « ابن فارس »: له أصلان أحدهما يدلّ على الغاية والآخر صوت، فالأوّل الغنى في المال.

وقال « الراغب »: الغناء يقال على ضروب أحدها عدم الحاجات وليس ذلك إلّا لله تعالى وهو المذكور في قوله:( إِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) والثاني قلّة الحاجات، وهو مشار إليه بقوله:( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ ) .

والظاهر أنّه ليس له إلّا معناً واحداً وإنّما الاختلاف في المصاديق والجري، فالغني المطلق هو الله سبحانه، وأمّا غنى الغير هو أمر نسبي.

٣٦٦

وأمّا كونه سبحانه غنيّاً غير محتاج إلى شيء فهو لازم كونه سبحانه واجب الوجود لذاته وواجب الوجود في صفاته وأفعاله فكان غنيّاً عن كل ما سواه. أمّا كل ما سواه فممكن لذاته فوجوده بايجاده. فكان هو الغني لا غيره.

فله العزّ والجمال، وله البهاء والكمال، وما للغير من الجمال، من رشح بحر جماله، أو له من الكمال، فهو ظل كماله. وما أليق بالمقام قول القائل :

أرأيت حسن الروض في آصاله

أرأيت بدر التم عند كماله

أرأيت كأساً شيب صفو شمولها

أرأيت روضاً ريض خيل شماله

أرأيت رائحة الخزامي(١) سحرة

فغمت خياشيم العليل الواله

هذا وذاك وكلّ شيء رائق

أخذ التجمّل من فروع جماله

هلك القلوب بأسرها في أسره

شغفا وشدّ عقولنا بعقاله(٢)

التاسع والثمانون: « الغفور »

وقد ورد ذلك اللفظ مرفوعاً ومنصوباً ٩١ مرّة واُستعمل مع صفات اُخر مثل « رحيم »، « عفوّ »، « عزيز »، « شكور »، « الودود » و « الحليم ».

قال سبحانه:( ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / ٢٧ ).

وقال سبحانه:( وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) ( الحج / ٦٠ ).

وقال سبحانه:( إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) ( فاطر / ٢٨ ).

__________________

(١) الخزامي: نبت، زهرة من أطيب الأزهار.

(٢) شرح الاسماء الحسنى: ص ٤٠.

٣٦٧

وقال سبحانه:( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) ( فاطر / ٣٠ ).

وقال سبحانه:( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ *وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) ( البروج / ١٣ ـ ١٤ ).

وقال سبحانه:( وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) ( فاطر / ٤١ ).

واللفظ من الصفات المشبّهة بالفعل وصيغته للمبالغة وقد تبيّن معناه من ما ذكرناه في اسم « غافر الذنب ».

٣٦٨

حرف الفاء

التسعون: « الفاطر »

قد ورد اسم الفاطر في الذكر الحكيم ٦ مرّات ووقع في الجميع اسماً له سبحانه.

قال سبحانه:( أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( الأنعام / ١٤ ).

وقال سبحانه:( فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) ( يوسف / ١٠١ ).

وقال عزّ من قائل:( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( إبراهيم / ١٠ ).

وقال سبحانه:( الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً ) ( فاطر / ١ )(١) .

وقد استعمل ذلك الاسم في جميع الموارد مضافاً إلى السموات والأرض نعم استعمل « فطر » متعدّياً إلى الناس.

قال سبحانه:( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) ( الروم / ٣٠ ).

__________________

(١) لاحظ الزمر / ٤٦ ـ الشورى / ١١.

٣٦٩

و أمّا معناه فقد قال « ابن فارس »: يدلّ على فتح شيء وابرازه ومن ذلك « الفطر » بالكسر من الصوم ومنه « الفطر » بفتح الفاء وهو مصدر فطرت الشاة فطراً إذا حلبتها، ثمّ قال والفطرة الخلقة، وقال الراغب: أصل الفطر: الشق طولاً، قال:( هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ) ( المُلك / ٣ ) أي اختلال، وقال تعالى:( السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) ( المزّمل / ١٨ )، وفطرت الشاة: حلبتها باصبعين، وفطرت العجين إذا عجنته وخبزته من وقته، ومنه الفطرة، وفطر الله الخلق وهو إيجاده وابداعه على هيئة مترشّحة لفعل من الأفعال.

والمحصّل من كلامهما: إنّ الفطر بمعنى الفتح والشق حتى إنّ نسبة الفطر إلى العجين لأجل أنّه يحتاج إلى البسيط والقبض حتى يكون قابلاً للطبخ.

إنّما الكلام في استعماله في الايجاد والابداع والظاهر أنّ وجه استعماله فيهما هو انّ الخلقة يشبهها بشق العدم وفتحه وإخراج الشيء إلى ساحة الوجود.

يقول العلّامة الطباطبائي (ره) في تفسير قوله:( فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : أخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود(١) .

وقال في موضع آخر: « إنّ اطلاق الفاطر عليه تعالى بعناية استعارية كأنّه شق العدم فأخرج من بطنه السموات والأرض. فمحصّل معناه أنّه موجد السمٰوات والأرض ايجاداً ابتدائيّاً من غير مثال سابق، فيقرب معناه من معنى « البديع » و « المبدع »، والفرق بين الابداع والفطر، أنّ العناية في الابداع متعلّقة بنفي المثال السابق، وفي الفطر بطرد العدم وإيجاد الشيء من رأس لا كالصانع الذي يؤلّف موادّاً مختلفة فيظهر به صورة جديدة فقوله:( فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) من أسمائه تعالى أجرى صفة لله، والمراد بالوصف الاستمرار دون الماضي فقط، لأنّ الإيجاد مستمر وفيض الوجود غير منقطع ولو انقطع لانعدمت الأشياء »(٢) .

__________________

(١) الميزان: ج ٧، ص ٢٩.

(٢) المصدر السابق: ج ١٧، ص ٦.

٣٧٠

الواحد والتسعون: « فالق الإصباح »

قد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة وجرى وصفاً له سبحانه قال:( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) ( الأنعام / ٩٦ ).

وأمّا معناه فقد قال « ابن فارس »: يدلّ على فرجة وبينونة في الشيء وعلى تعظيم شيء. فمن الأوّل فلقت الشيء أفلقه فلقاً، والفلق الصبح لأنّ الكلام ينفلق عنه، ومن الثاني الفليقة وهي الداهيّة العظيمة، وقال الراغب: « الفلق »: شق الشيء وإبانة بعضه عن بعض، قال تعالى: « فالق الاصباح » و « إن الله خالق الحب والنوى »، « فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم » وقوله:( أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) أي الصبح.

فتوصيفه سبحانه بفالق الاصباح، لأجل انّه يشق الظلمة ويتجلّى من صميمها النور.

فقد تضمّنت الآية ثلاث آيات سماوية :

١ ـ فالق الإصباح.

٢ ـ وجعل الليل سكناً.

٣ ـ والشمس والقمر حسباناً.

والمراد من الاصباح هو الصبح. قال امرؤ القيس :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فالمراد من فلق الإصباح هو اخراج النور من الظلمة الهائلة المنبسطة في السماء كل ذلك عن طريق ربط الأسباب بالمسبّبات، وطروء الوضع الخاص للأرض بالنسبة إلى الشمس كما أنّ المراد من الآية الثانية هو ما جاء في قوله:( وَمِن رَّحْمَتِهِ

٣٧١

جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( القصص / ٧٣ ).

والمراد من السكون أعم من سكون البدن والروح، فالبدن يستريح من تعب العمل بالنهار والنفس تسكن بهدوء الخواطر والأفكار، والمراد من جعل الشمس والقمر حسباناً هو كونهما مظاهر للحساب لأنّ طلوعهما وغروبهما وما يظهر منهما من الفصول كل ذلك بحساب.

قال سبحانه:( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ ) ( يونس / ٥ ).

الثاني والتسعون: « فالق الحبّ والنّوى »

وقد ورد مرّة واحدة وجرى وصفاً له سبحانه.

قال تعالى:( إِنَّ اللهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَىٰ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَٰلِكُمُ اللهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ) ( الأنعام / ٩٥ ).

قال الراغب: فالحبّ والحبّة يقال في الحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات.

قال تعالى:( كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ( البقرة / ٢٦١ ).

وأمّا النّوى فالمراد منه نوى التمر.

قال في المقاييس: فالله سبحانه يشق الحبّ والنّوى فينبت منهما النبات والشجر اللذين يرتزق الناس من حبّه وثمره فالآية بصدد بيان قدرته ولأجل ذلك يذكر قوله:( يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ) .

٣٧٢

وقد تضمّنت الآية، ثلاث آيات أرضية أعني :

١ ـ فالق الحبّ والنّوى.

٢ ـ يخرج الحىّ من الميّت.

٣ ـ ومخرج الميّت من الحىّ.

والكل آيات أرضية والمعنى أنّه سبحانه فالق ما يزرعه البشر من حب الحصيد، ونوى الثمرات، وشاقّه بقدرته، وبذلك يبيّن قدرته على ربط علل الإنبات والنمو بمسبّباته وذلك بتقديره.

وإنّما خصّ بالذكر خصوص حالة فلق الحب والنّوى من بين سائر الحالات مع أنّه ستمر على الحبّ والنّوى حالات وتطرء عليهما مراحل مختلفة من النمو حتى يصير زرعاً أو شجراً وإنّما خصّ ذلك لأنّ لتلك الحالة من بين سائر الحالات أهمّية خاصّة تشبه بحالة خروج الطفل من بطن اُمّه بعد ما كان محبوساً فيها بين ظلمات ثلاث، والحبّ والنّوى يمثّلان قلاعاً مستحكمة تحتفظ فيها المادة الحيوية للنباتات فاذا صارت الظروف مستعدّة لخروجها ونموّها وانتشارها ; تتحرك الحبّة بالتشقّق والتفتّح فتأخذ البذرة والنّوى مسيرها نحو التكامل.

وأمّا البحث حول الآية الثانية والثالثة الواردتين في هذه الآية المباركة أعني اخراج الحي من الميّت واخراج الميّت من الحي فقد ركّز القرآن على هذين العملين في غير مورد من الآيات.

يقول سبحانه:( تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( آل عمران / ٢٧ ).

وهاتان الآيتان من السنن العامّة الإلهية التي يركّز عليهما القرآن الكريم. والذي يناسب المقام هو أن يقال: إنّ المراد من خروج الحيّ من الميت هو اخراج البذر من نبات وشجر وهو حيّ متغذ نام، من الميت أعني التراب وهو ما لا يتغذّى

٣٧٣

ولا ينمو وبعبارة اُخرى خلق الأحياء من النبات والحيوان من الأرض العادمة الشعور والحياة.

كما أنّ المراد من قوله:( وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ) هو عود الخلايا الحيوية إلى الموت بعد مدّة.

ويمكن أن يقال: إنّ المراد هو إخراج الحبّ والنوى من النبات، فإنّ الحبّ والنوى حسب اللغة والعرف ليسا من الموجودات الحيّة وإن كانا حسب موازين العلوم الطبيعية حاويتين لموجودات صغيرة حيّة.

هذا إذا قمنا بتفسير الآية حسب السياق ويمكن أن يقال: المراد من اخراج الحي من الميّت ومقابله هو اخراج المؤمن من صلب الكافر، وإخراج الكافر من صلب المؤمن فإنّه سبحانه سمّى الايمان حياة ونوراً، والكفر موتاً وظلمة كما قال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) ( الأنعام / ١٣٢ ).

الثالث والتسعون: « الفتّاح »

قد ورد « الفتّاح » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى:( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ) ( سبأ / ٢٦ ).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس: إنّه أصل يدلّ على خلاف الاغلاق، يقال فتحت الباب وغيره فتحاً ثمّ يحمل على هذا سائر ما في هذا البناء فالفتح والفتاحة: الحكم، والله تعالى الفاتح أي الحاكم، قال الشاعر في الفتاحة :

ألا أبلغ بني عوف رسولاً

بأنّي عن فتاحتكم غنيّ

٣٧٤

والفتح: النصر والاظفار وقريب من ذلك في « المفردات » غير أنّه قسّم الفتح على قسمين: يدرك بالبصر كفتح الباب وقسم يدرك بالبصيرة كفتح الهمّ، قال: « ويقال فتح القضية فتاحاً: فصل الأمر فيها وأزال الاغلاق ». قال تعالى:( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) ( الأعراف / ٨٩ ).

وعلى هذا ف‍ « الفتّاح » من أسماء الله الحسنى وهو بمعنى الحاكم في الآية، ويؤيّده ذكر العليم بعده، ولا يراد منه الفاتح بمعنى المنتصر، وإلّا لكان المناسب أن يذكر بعده « العزيز »، ويؤيّده صدر الآية:( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالحَقِّ ) فالآية تثبت البعث لتميز المحسن من المسيئ أوّلاً ثم القضاء بينهم بالحق وهو الحاكم العليم، وبذلك يعلم أنّه « خير الفاتحين » أي خير الحاكمين، لأنّ حكمه هو العدل والقسط، وعلمه هو النافذ غير الخاطئ أبداً بخلاف حكم الآخرين فهم بين حاكم عادل أو جائر، ومصيب أو مخطىء.

٣٧٥
٣٧٦

حرف القاف

الرابع والتسعون: « القائم على كل نفس بما كسبت »

وقد ورد هذا الاسم المركّب في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى:( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ( الرعد / ٣٣ ).

وأمّا معناه فقد ذكر ابن فارس ل‍ « قوم » معنيين أحدهما: الجماعة والناس، مثل « لا يَسخر قوم من قوم » والآخر الانتصاب قال: وقد يكون قام بمعنى العزيمة كما يقال قام بهذا الأمر إذا اعتنقه فهم يقولون في الأوّل قيام حتم، وفي الآخر قيام عزم، والظاهر أنّ المراد منه في الآية هو المهيمن المتسلّط على كل نفس، المحيط بها، والحافظ لأعمالها، وبما أنّ الهيمنة على الشيء والمراقبة له يستلزم كون المراقِب قائماً منتصباً كي يسهل تسلّطه ومراقبته، استعير القائم بمعنى المنتصب للهيمنة والتسلّط والإحاطة.

قال سبحانه في حقّ أهل الكتاب:( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إلّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ) ( آل عمران / ٧٥ ).

وقال:( وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ) ( المعارج / ٣٣ ) أي الحافظون.

والله سبحانه في هذه الآية يندّد بالمشركين كيف يجعلون له ندّاً وشريكاً مع

٣٧٧

أنّه سبحانه له الاحاطة على الأشياء والقهر عليها والشهود لها، وهذا يقتضي أن لا يشاركه في الاُلوهيّة شيء.

وتقدير الآية: « أفمن هو قائم بالتدبير على كل نفس وحافظ على كل نفس أعمالها ليجازيها، كمن هو ليس بهذه الصفات من الأصنام والأوثان ويؤيّد كون المعنى ذلك قوله:( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ ) .

الخامس والتسعون: « قابل التوب »

قد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه:( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( غافر / ٣ ).

وقد تبيّن معناه ممّا ذكرناه في تفسير « التوّاب ».

السادس والتسعون: « القادر »

قد ورد في الذكر الحكيم مفرداً سبع مرّات ووقع في جميع المواضع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى:( قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأنعام / ٣٧ ).

وقال تعالى:( إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ) ( الطارق / ٨ ).

وقال سبحانه:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) ( الاسراء / ٩٩ )(١) ، إلى غير ذلك من الآيات.

__________________

(١) لاحظ يس / ٨١، الاحقاف / ٣٣، القيامة / ٤٠.

٣٧٨

السابع والتسعون: « القدير »

قد ورد لفظ القدير في الذكر الحكيم ٤٥ مرّة ووقع في جميع المواضع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه:( فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( البقرة / ٢٨٤ ).

والعناية التامّة ظاهرة من القرآن على كون قدرته عامّة لكل شيء فقد ورد قوله سبحانه:( إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) في ٣٢ آية، كما استعمل لفظ القدير مجرّداً تارة ومع « عليم » أخرى، قال سبحانه:( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) ( النحل / ٧٠ ). و « عفوّ » ثالثاً قال سبحانه:( فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) ( النساء / ١٤٩ ).

والحق إنّ القدرة والعلم من أسمى صفاته سبحانه كما أنّ العالم والقادر من أظهر أسمائه سبحانه، فلاعتب علينا لو بسطنا الكلام هنا كما بسطناه في اسم « العالم » و « العليم ».

وأمّا معناه فقد جعل « ابن فارس »: الأصل في معناه مبلغ الشيء وكنهه ونهايته، فالقدر مبلغ كلّ شيء وقدّرت الشيء واُقدّره من التقدير، ثمّ قال: وقدرة الله تعالى على خليقته: إيتاؤهم بالمبلغ الذي يشاؤه ويريده. ثمّ قال: « رجل ذو قدرة وذو مقدرة أي يسار ومعناه أنّه يبلغ بيساره وغنائه من الاُمور المبلغ الذي يوافق إرادته، ولا يخفى أنّ جعل الأصل في القدرة هو مبلغ الشيء وكنهه ونهايته، يعسِّر اشتقاق القدرة منه بمعنى الاستطاعة، ولأجل ذلك أعرض الراغب عنه وفسّره بقوله: « القدرة إذا وصف به الإنسان فإسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شيء ما، وإذا وصف الله تعالى بها فهي نفي العجز عنه »، وقال: محال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة معنىً وإن اُطلق عليه لفظاً، وقال: القدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه، ولذلك لا يصحّ أن يوصف به إلّا الله تعالى.

٣٧٩

ويمكن أن يقال: إنّ القدرة من التقدير وهو التحديد وتبيين كمّيّة الشيء، وإشتقاق القدرة بمعنى الاستطاعة لأجل أنّ القدرة تلازم تحديد الشيء وتقدير كميّته، ولعلّ هذا مراد ابن فارس من قوله: « مبلغ الشيء وكنهه ونهايته ».

ثمّ إنّ الراغب فسّر القدرة في حقّه سبحانه بنفي العجز، وهذا مبنيّ على ارجاع الصفات الثبوتية إلى السلبيّة وهو منظور فيه، وعلى كل تقدير فالمفهوم من القادر والقدير شيء واحد إلّا أنّ القدير أبلغ وآكد في الدلالة على القدرة.

تعريف القدرة

فسّر المتكلّمون القدرة بتعريفين :

١ ـ صحّة الفعل والترك، فالقادر هو الذي يصحّ أن يفعل ويصح أن يترك.

٢ ـ الفعل عند المشيئة والترك عند عدمها، فالقادر من إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، أو إن لم يشاء لم يفعل(١) .

ولا يخفى أنّ التعريفين يصدقان في حقّ الإنسان، أمّا التعريف الأوّل فلأنّ صحّة الفعل والترك عبارة عن أمكانهما، والامكان إمّا إمكان ما هوي وهو عبارة عن كون الفاعل ذا ماهيّة يكون نسبة الفعل والترك إليها متساوية، وإمّا امكان استعدادي وهو كون الفاعل ذا قّوة استعداديّة تخرج الشي من القوّة إلى الفعل كالاستعداد الموجود في البذر والنواة الذي يعطي صلاحيّة لهما بأن يكونا ذرعاً أو شجراً والامكان الاستعدادي من مظاهر المادة، والله سبحانه منزّه عنها وعن شأبتها.

وأمّا التعريف الثاني فلأنّ قول القائل بأنّ القادر إن شاء فعل وإن شاء لم

__________________

(١) اوائل المقالات: ص ١٢، كشف الفوائد للعلامة الحلي: ص ٣٢، الاسفار: ج ٦، ص ٣٠٧ و ٣٠٨، وقال ابن ميثم في « قواعد المرام في علم الكلام »: ص ٨٢ عرّفها المعتزلة بأنها عبارة عن كون الفاعل بحيث إذا شاء فعل وإذا شاء لم يفعل.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538