مفاهيم القرآن الجزء ٦

مفاهيم القرآن11%

مفاهيم القرآن مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-357-222-6
الصفحات: 538

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 538 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237487 / تحميل: 6103
الحجم الحجم الحجم
مفاهيم القرآن

مفاهيم القرآن الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
ISBN: ٩٦٤-٣٥٧-٢٢٢-٦
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) )

التّفسير

خلق الإنسان :

بعد ذكر خلق نماذج من مخلوقات الله في الآيات السابقة ، تأتي هذه الآيات لتبيّن أن الهدف الأساسي من إيجاد كل الخليقة إنّما هو خلق الإنسان. وتتطرق الآيات إلى جزئيات عديدة في شأن الخلق ، زاخرة بالمعاني.

وقبل الدخول في بحوث مفصلة حول بعض المسائل التي ذكرت في الآيات المباركات نشرع بتفسير إجمالى

يقول تعالى في البداية :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) ، «الصلصال» هو التراب اليابس الذي لو اصطدم به شيء أحدث صوتا و «الحمأ المسنون» هو طين متعفن.

( وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ ) .

«السّموم» لغة : الهواء الحارق ، وسمّي بالسموم لأنّه يخترق جميع مسامات بدن الإنسان ، وكذلك يطلق على المادة القاتلة (السم) لأنّها تنفذ في بدن الإنسان وتقتله.

ثمّ يعود القرآن الكريم إلى خلق الإنسان مرّة أخرى فيتعرض إلى كلام الله تعالى مع الملائكة قبل خلق الإنسان :( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) وهي روح شريفة طاهرة جليلة( فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) .

وبعد أن تمّ خلق الإنسان من الجسم والروح المناسبين( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) .

٦١

ولم يعص هذا الأمر إلّا إبليس :( إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) .

وهنا سأل الله إبليس :( قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) .

فأجاب إبليس بعد أن كان غارقا في بحر الغرور المظلم ، وتائها في حب النفس المقتم، وبعد أن غطى حجاب الخسران عقله أجاب بوقاحة( قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) فأين النّار المضيئة من التراب الأسود المتعفن! وهل لموجود شريف مثلي أن يتواضع ويخضع لموجود أدنى منه! أيّ قانون هذا؟!

ونتيجة للغرور وحب النفس ، فقد جهل أسرار الخليقة ، ونسي بركات التراب الذي هو منبع كل خير وبركة ، والأهم من ذلك كله فقد تجاهل شرافة تلك الروح التي أودعها الرّب في آدم وكنتيجة طبيعية لهذا السلوك المنحرف فقد هوى من ذلك المقام المرموق بعد أن أصبح غير لائق لأن يكون في درجة الملائكة وبين صفوفهم ، فجاء الأمر الإلهي مقرعا :( قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) ، أي أخرج من الجنّة ، أو من السماوات أو اخرج من بين صفوف الملائكة.

واعلم يا إبليس بأنّ غرورك أصبح سببا لكفرك ، وكفرك قد أوجب طردك الأبدي( وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ ) أي ، إلى يوم القيامة.

وهنا حينما وجد إبليس نفسه مطرودا من الساحة الإلهية ، ساوره إحساس بأنّ خلق الإنسان هو سبب شقائه فاشتعلت نار الحقد والضغينة في قلبه لينتقم لنفسه من أولاد آدمعليه‌السلام .

فبالرغم من أنّ السبب الحقيقي يرجع إلى إبليس نفسه وليس لآدم دخل في ذلك ، إلّا أن غروره وحبّه لنفسه وعناده المستحكم لم يعطياه الفرصة لدرك حقيقة شقاءه ، ولهذا( قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ، ليركز عناده وعداءه!

وقبل الله تعالى طلبه :( قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) .

ولكن ليس إلى يوم يبعثون كما أراد ، بل( إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) . فما هو

٦٢

يوم الوقت المعلوم؟

قال بعض المفسّرين : هو نهاية هذا العالم وانتهاء التكليف ، لأنّ بعد ذلك (كما يفهم من ظاهر الآيات القرآنية) تحلّ نهاية حياة جميع الكائنات ، ولا يبقى حي إلّا الذات الإلهية المقدسة ، ومن هذا نفهم حصول الموافقة على بعض طلب إبليس.

وقال بعض آخر : هو زمان معين لا يعلمه إلّا الله ، لأنّه لو أظهرهعزوجل لكان لإبليس ذريعة في المزيد من التمرد والمعاصي.

وثمة من قال : إنّه يوم القيامة ، لأنّ إبليس أراد أن يكون حيا إلى ذلك اليوم ليكون بذلك من الخالدين في الحياة ، وإن يوم الوقت المعلوم قد ورد بمعنى يوم القيامة في سورة الواقعة (الآية) ، وهو ما يعزز هذا القول.

ويبدو أن هذا الاحتمال بعيد جدا لأنه يتضمن الموافقة الإلهية على كل طلب إبليس، والحال أن ظاهر الآيات المذكورة لا تعطي هذا المعنى ، فلم تبيّن الآيات أن الله استجاب لطلبه بالكامل ، بل يوم الوقت المعلوم ومن هنا يكون التّفسير الأوّل أكثر توافقا مع روح وظاهر الآية ، وكذلك ينسجم مع بعض الرّوايات عن الإمام الصّادقعليه‌السلام بهذا الخصوص(1) .

وهنا أظهر إبليس نيته الباطنية( قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي ) وكان هذا الإنسان سببا لشقائي( لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) نعمها المادية( وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) بإلهائهم بتلك النعم.

إلّا أنّه يعلم جيدا بأن وساوسه سوف لن تؤثر في قلوب عباد الله المخلصين ، وأنّهم متحصنون من الوقوع في شباكه ، لأنّ قوة الإيمان ودرجة الإخلاص عندهم بمكان يكفي لدرء الخطر عنهم بتحطيم قيود الشيطان عن أنفسهم ولهذا نراه قد استثنى في طلبه( إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 13 ، الحديث 45.

٦٣

من البديهي أنّ الله سبحانه منزّه عن تضليل خلقه ، إلّا أنّ محاولة إبليس لتبرير ضلاله وتبرئة نفسه جعلته ينسب ذلك إلى الله سبحانه وتعالى. هذا الموقف هو ديدن جميع الأبالسة والشياطين ، فهم يلقون تبعة ذنوبهم على الآخرين أوّلا ومن ثمّ يسعون لتبرير أعمالهم القبيحة بمنطق مغلوط ثانيا ، والمصيبة أن مواقفهم تلك إنّما يواجهون بها ربّ العزة والجبروت ، وكأنّهم لا يعلمون أنّه لا تخفى عليه خافية.

وينبغي ملاحظة أن «المخلصين» جمع مخلص (بفتح اللام) وهو ـ كما بيّناه في تفسير سورة يوسف ـ المؤمن الذي وصل إلى مرحلة عالية من الإيمان والعمل بعد تعلم وتربية ومجاهدة مع النفس ، فيكون ممتنعا من نفوذ وساوس الشيطان وأيّ وسواس آخر.

ثمّ قال تعالى تحقيرا للشيطان وتقوية لقلوب العباد المؤمنين السالكين درب التوحيد الخالص :( قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) .

يعني ، يا إبليس ليس لك القدرة على إضلال الناس ، لكن الذين يتبعونك إن هم إلّا المنحرفين عن الصراط المستقيم والمستجيبين لدواعي رغباتهم وميولهم.

وبعبارة أخرى إنّ الإنسان حر الإرادة ، وإنّ إبليس وجنوده لا يقوون على أن يجبروا إنسانا واحدا على السير في طريق الفساد والضلال ، لكنّه الإنسان هو الذي يلبي دعوتهم ويفتح قلبه أمامهم ويأذن لهم في الدخول فيه!

وخلاصة القول : إنّ الوساوس الشيطانية وإن كانت لا تخلو من أثر في تضليل وانحراف الإنسان ، إلّا أنّ القرار الفعلي للانصياع للوساوس أو رفضها يرجع بالكامل إلى الإنسان ، ولا يستطيع الشيطان وجنوده مهما بلغوا من مكر أن يدخلوا قلب إنسان صاحب إرادة موجهة صوب الإيمان المخلص.

وأراد الله سبحانه بهذا القول نزع الخيال الباطل والغرور الساذج من فكر

٦٤

الشيطان من أنّه سيجد سلطة فائقة على الناس وبلا منازع ، يمكنه من خلالها إغواء من يريد.

ثمّ يهدد الله بشدّة أتباع الشيطان :( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) وأن ليس هناك وسيلة للفرار ، والكل سيحاسب في مكان واحد.

( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) .

هي أبواب للذنوب التي يدخلون جهنم بسببها ، وكل يحاسب بذنبه كما هو الحال في أبواب الجنّة التي هي عبارة عن طاعات وأعمال صالحة ومجاهدة للنفس يدخل بها المؤمنون الجنّة.

* * *

بحوث

1 ـ التكبر والغرور من المهالك العظام :

المستفاد تربويا من قصة إبليس في القرآن هو أن الكبر والغرور من الأسباب الخطيرة في عملية الانهيار والسقوط من المكانة المحترمة الوسيط المرموقة إلى مدارك الدون والخسران.

فكما هو معلوم أنّ إبليس لم يكن من الملائكة (كما تشير إلى ذلك الآية الخمسون من سورة الكهف) إلّا أنّه ارتقى الدرجات العلا ونال شرف العيش بين صفوف الملائكة نتيجة لطاعته السابقة للهعزوجل ، حتى أنّ البعض قال عنه : إنّه كان معلما للملائكة ، ويستفاد من الخطبة القاصعة في (نهج البلاغة) أنّه عبد اللهعزوجل آلاف السنين.

لكن شراك التعصب الأعمى وعبادة هوى النفس المهلك قد أدّيا الى خسرانه كل ذلك في لحظة تكبر وغرور.

بل إنّ حب الذات والغرور والتعصب والتكبر قد جعلته يستمر في موقفه

٦٥

المريض ويوغل قدمه في وحل الإصرار على الإثمّ والسير المتخبط في جادة العناد ، فنسي أو تناسى ما للتوبة والاستغفار من أثر إيجابي ، حتى دعته الحال لأن يشارك كل الظلمة والمذنبين من بني آدم في جرائمهم وذنوبهم بوسوسته لهم وبات عليه أن يتحمل نصيبه من عذاب الجميع يوم الفزع الأكبر.

وليس إبليس فحسب ، بل إنّ التأريخ يحدثنا عن أصحاب النفوس المريضة ممن ركبهم الغرور والكبر فعاثوا في الأرض فسادا بعد أن غطت العصبية رؤاهم ، وحجب الجهل بصيرتهم، وسلكوا طريق الظلم والاستبداد وسادوا على الرقاب بكل جنون فهبطوا إلى أدنى درجات الرذيلة والانحراف عن الطريق القويم.

إنّ هاتين السمتين الأخلاقيتين (التكبر والغرور) في الواقع نار رهيبة محرقة. فكما أن من صرف وطرأ من عمره في بناء وتأنيث دار ، لربّما في لحظات معدودات يتحول إلى هباء منثور بسبب شرارة صغيرة فالتكبر والغرور يفعل فعل النّار في الحطب ولا تنفع معه تلك السنين المعمورة بالطاعة والبناء.

فأيّ درس أنطق من قصة إبليس وأبلغ؟!

إنّ إبليس قد اختلطت عليه معاني الأشياء فراح يضع المعاني حسب تصوراته الخادعة المحدودة ولم يدرك أن النّار ليست أفضل وأشرف من التراب ، والتراب مصدر جميع البركات كالنباتات والحيوانات والمعادن وهو محل حفظ المياه ، وبعبارة اشمل هو منبع وأصل كل الكائنات الحية ، وما عمل النّار إلّا الإحراق وكثيرا ما تكون مخربة ومهلكة.

ويصف أمير المؤمنينعليه‌السلام إبليس بأنّه «عدو لله ، إمام المتعصبين وسلف المستكبرين» ثمّ يقول : «ألا ترون كيف صغّره الله بتكبره ووضعه بترفعه ، فجعله في الدنيا مدحورا وأعد له في الآخرة سعيرا»(1) .

__________________

(1) نهج البلاغة ، من الخطبة 192.

٦٦

وكما أشرنا سابقا أنّ إبليس كان أوّل من وضع أسس مذهب الجبر الذي ينكره وجدان أي إنسان. حيث أنّ الدافع المهم لأصحاب هذا المذهب تبرئة ساحة المذنبين من أعمالهم المخالفة لشرع الله ، وكما قرأنا في الآيات مورد البحث من أنّ إبليس تذرع بتلك الكذبة الكبيرة لأجل تبرئة نفسه ، وأنّه على حق في إضلاله لبني آدم حين قال :( رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

2 ـ على من يتسلط الشيطان؟

نرى من الضروري أن نكرر القول بأنّ نفوذ الوساوس الشيطانية في قلب الإنسان لا تأتي فجأة أو إجبارا ، وإنما بوجود الرغبة الكافية عند الإنسان بفسح المجال أمام دخول الوساوس إلى دواخله ، وعلى هذا فالشيطان يعلم تماما بأن ليس له سبيل على المخلصين الذين طهّروا أنفسهم في ظل التربية الخالصة من الشوائب والأدران وغسلوا قلوبهم من صدأ الشرك والضلال. وبتعبير القرآن الكريم إنّ رابطة الشيطان مع الضالين هي رابطة التابع والمتبوع وليس رابطة المجبر والمجبور.

3 ـ أبواب جهنم!

قرأنا في الآيات مورد البحث أن لجهنم سبعة أبواب (وليس بعيدا أن يكون ذكر العدد في هذا المورد للكثرة كما ورد هذا العدد في الآية السابعة والعشرين من سورة لقمان بهذا المعنى أيضا).

ومن الواضح أنّ تعدد أبواب جهنم (كما هو تعدد أبواب الجنّة) لم يكن لتسهيل أمر دخول الواردين نتيجة لكثرتهم ، بل هي إشارة إلى الأسباب والعوامل المتعددة التي تؤدي لدخول الناس في جهنم ، وأنّ لكل من هذه الذنوب باب معين

٦٧

يؤدي إلى مدركه.

ففي نهج البلاغة : «إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه»(1) ، وفي الحديث المعروف : «إن السيوف مقاليد الجنّة» فهذه التعبيرات تبيّن لنا بوضوح ما المقصود من تعدد أبواب الجنّة والنّار.

وثمة نكتة لطيفة في ما روي عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّ للجنة ثمانية أبواب»(2) ،في حين أن الآيات تذكر أن لجهنم سبعة أبواب ، وهذا الاختلاف في العددين إشارة إلى أنّه مع كثرة أبواب العذاب والهلاك إلّا أن أبواب الوصول إلى السعادة والنعيم أكثر ، (وقد تحدثنا عن ذلك في تفسير الآية الثّالثة والعشرين من سورة الرعد).

4 ـ (الحمأ المسنون) و (روح الله) :

يستفاد من الآيات أن خلق الإنسان تمّ بشيئين متغايرين ، أحدهما في أعلى درجات الشرف والآخر في أدنى الدرجات (بقياس ظاهر القيمة).

فالطين المتعفن خلق منه الجانب المادي منه الإنسان ، في حين جانبه الروحي والمعنوي خلق بشيء سمي (روح الله).

وبديهي أنّ الله سبحانه منزّه عن الجسيمة وليس له روح ، وإنّما أضيف الروح إلى لفظ الجلالة لإضفاء التشريف عليها وللدلالة على أنّها روح ذات شأن جليل قد أودعت في بدن الإنسان ، بالضبط كما تسمّى الكعبة (بيت الله) لجلالة قدرها ، وشهر رمضان المبارك (شهر الله) لبركته.

ولهذا السبب نرى أن الخط التصاعدي الإنسان يتساهى في العلو حتى يصل الى أن لا يرى سوى اللهعزوجل ، وخط تسافله من الانحطاط حتى يركد في

__________________

(1) نهج البلاغة ، الخطبة 27.

(2) الخصال للشيخ الصدوق ـ باب الثمانية.

٦٨

أدنى مرتبة من الحيوانات( بَلْ هُمْ أَضَلُ ) وهذا البون الشاسع بين الخطين التصاعدي والتنازلي بحد ذاته دليل على الأهمية الاستثنائية لهذا المخلوق.

إنّ شرف مقام الإنسان وتكريمه يأتي من خلال هذا التركيب الخاص ، ولكن ليس بفضل جنبته المادية لأنّه ليس سوى (حمأ مسنون) وإنّما بفضل الروح الإلهية المودعة فيه ، بما تحمل من استعدادات ولياقة لأن تكون منعكسا للأنوار الإلهية ، تلك الأنوار التي استمد منها الإنسان شرف قدره ومقامه ولا سبيل لتكامل الإنسان إلّا ببنائه الروحي ووضع بعده المادي في خدمة طريق التكامل والوصول لساحة رضوانه جل شأنه.

والمستفاد من الآيات المتعلقة بخلق آدم في أوائل سورة البقرة أنّ مسألة سجود الملائكة لآدم ، كان لما أودع فيه من العلم الإلهي الخاص.

وقد أجبنا على سؤال : كيف يصحّ السجود لغير الله؟ وهل أنّ سجود الملائكة كان في حقيقة للهعزوجل لأجل هذا الخلق العجيب؟ أم كان لآدم؟ في تفسير الآيات المتعلقة بخلق آدم سورة البقرة.

5 ـ ما هو الجان؟

إنّ كلمة (الجن) في الأصل بمعنى : الشيء الذي يستر عن حس الإنسان ، فمثلا نقول (جنّه الليل) أو (فلما جنّ عليه الليل) أي عند ما غطته ستارة الليل السوداء ، ويقال (مجنون) لمن فقد عقله أي ستر ، و (الجنين) للطفل المستور في رحم أمّه ، و (الجنّة) للبستان الذي تغطي أشجاره أرضه ، و (الجنان) للقلب الذي ستر داخل صدر الإنسان، و (الجنّه) للدرع الذي يحمي الإنسان من ضربات الأعداد.

والمستفاد من آيات القرآن أن «الجنّ» نوع من الموجودات العاقلة قد سترت عن حس الإنسان ، وخلقت من النّار ، أو من مارج من نار ، أي من صافي

٦٩

شعلتها ، وإبليس من هذا الصنف.

وقد عبّر بعض العلماء عن الجن بأنّها : نوع من الأرواح العاقلة المجردة من المادة (وواضح أن تجردها ليس كاملا ، فما يخلق من المادة فهو مادي ، ولكن يمكن أن يكون نصف تجرد لأنه لا يدرك بحواسنا ، وبتعبير آخر : إنّه نوع من الجسم اللطيف).

ويستفاد من الآيات القرآنية أيضا أنّ الجن فيهم المؤمن المطيع والكافر العاصي ، وأنّهم مكلفون شرعا ، ومسئولون.

ومن الطبيعي أنّ شرح هذه الأمور ومسألة انسجامها مع العلم الحديث يتطلب منا بحثا مطولا ، وسنتناوله إن شاء الله في تفسير سورة الجن.

وممّا ينبغي الإشارة إليه في هذا الصدد أنّ كلمة «الجان» الواردة في الآيات مورد البحث هي من مادة (الجن) ولكن هل ترمزان إلى معنى واحد؟ فقد ذهب بعض المفسّرين إلى أن الجان نوع خاص من الجن ، ولكننا لا نرى ذلك.

فلو جمعنا الآيات القرآنية الواردة بهذا الشأن مع بعضها البعض لا تضح أن كلا المعنيين واحد ، لأن الآيات القرآنية وضعت «الجن» في قبال الإنسان تارة ، ووضعت «الجان» تارة أخرى.

فمثلا نقرأ في الآية (88) من سورة الإسراء( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ ) .

وفي بعض الآية (56) من سورة الذاريات( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

في حين نقرأ في الآية (15) من سورة الرحمن( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ) .

وفي الآية (39) من نفس السورة( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ ) .

فمن مجموع الآيات أعلاه والآيات القرآنية الأخرى يستفاد بوضوح أن الجنّ والجان لفظان لمعنى واحد ، ولهذا وردت في الآيات السابقة كلمة «الجن»

٧٠

في مقابل الإنسان ، وكذا الحال بالنسبة «للجان».

وينبغي التنويه إلى أن القرآن الكريم قد ذكر «الجان» ويريد به نوعا من الأفاعي كما جاء في قصة موسىعليه‌السلام ( كَأَنَّها جَانٌ ) في سورة القصص ـ 31 ، إلّا أنّ ذلك خارج نطاق بحثنا.

6 ـ القرآن وخلق الإنسان :

شاهدنا في الآيات الأنفة أن القرآن قد تناول مسألة خلق الإنسان بشكل مختصر ومكثف تقريبا ، لأنّ الهدف الأساسي من التناول هو الجانب التربوي في الخلق ، وورد نظير ذلك في أماكن أخرى من القرآن ، كما في سورة السجدة ، والمؤمنون ، وسورة ص ، وغيرها.

وبما أنّ القرآن الكريم ليس كتابا للعلوم الطبيعية بقدر ما هو كتاب حياة الإنسان يرسم له فيه أساليب التربية وأسس التكامل. فلا ينتظره منه أن يتناول جزئيات هذه العلوم من قبيل تفاصيل : النمو ، التشريح ، علم الأجنّة ، علم النبات وما شابه ذلك ، إلّا أنّه لا يمنع من أن يتطرق بإشارات مختصرة إلى قسم من هذه العلوم بما يتناسب مع البحث التربوي المراد طرحه.

بعد هذه المقدمة نشرع بالموضوع من خلال بحثين :

1 ـ التكامل النوعي من الناحية العلمية.

2 ـ التكامل النوعي وفق المنظور القرآني.

في البدء ، نتناول البحث الأوّل وندرس المسألة وفق المقاييس الخاصة للمعلوم الطبيعية بعيدا عن الآيات والرّوايات :

ثمة فرضيتان مطروحتان في أوساط علماء الطبيعة بشأن خلق الكائنات الحية بما فيها الحيوانات والنباتات :

ألف : فرضية تطوّر الأنواع (ترانسفورميسم) والتي تقول : إنّ الكائنات الحية

٧١

لم تكن في البداية على ما هي عليه الآن ، وإنّما كانت على هيئة موجودات ذات خلية واحدة تعيش في مياه المحيطات ، وظهرت بطفرة خاصة من تعرقات طين أعماق البحار.

أيّ أنّها كانت موجودات عديمة الروح ، وقد تولدت منها أوّل خلية حية نتيجة لظروف خاصّة.

وهذه الكائنات الحية لصغرها لا ترى بالعين المجرّدة وقد مرت بمراحل التكامل التدريجي وتحولت من نوع إلى آخر.

وتمّ انتقالها من البحار إلى الصحاري ومنها إلى الهواء فتكونت بذلك أنواع النباتات والحيوانات المائية والبرية والطيور.

وإن أكمل مرحلة وأتمّ حلقه لهذا التكامل هو الإنسان الذي نراه اليوم ، الذي تحول من موجودات تشبه القرود إلى القرود التي تشبه الإنسان ثمّ وصل إلى صورته الحالية.

ب ـ فرضية ثبوت الأنواع (فيكنسيسم) ، والتي تقول : إنّ أنواع الكائنات الحية منذ بدايتها وما زالت تحمل ذات الأشكال والخواص ، ولم يتغير أيّ من الأنواع إلى نوع آخر، ومن جملتها الإنسان فكان له صورته الخاصّة به منذ بداية خلقه.

وقد كتب علماء كلا الفريقين بحوثا مطولة لإثبات عقيدتهم ، وجرت مناظرات ومنازعات كثيرة في المحافل العلمية حول هذه المسألة ، وقد اشتد النزاع عند ما عرض كل من (لامارك) العالم الفرنسي المعروف المتخصص بعلوم الأحياء والذي عاش بين أؤخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر ، و (داروين) عالم الأحياء الإنكليزي الذي عاش في القرن التاسع عشر نظراتهما في مسألة تطوّر الأنواع بأدلة جديدة.

وممّا ينبغي التنوية إليه ، هو أنّ معظم علماء اليوم يميلون إلى فريضة تطوّر أو

٧٢

تكامل الأنواع هذه خصوصا في محافل العلوم الطبيعية.

أدلة القائلين بالتكامل :

يمكننا تلخيص أدلتهم بثلاثة أقسام :

الأوّل : الأدلة المأخوذة من الهياكل العظيمة المتحجرة للكائنات الحيّة القديمة فإن الدراسات لطبقات الأرض المختلفة (حسب اعتقادهم) تظهر أن الكائنات الحيّة قد تحولت من صور بسيطة إلى أخرى أكمل وأكثر تعقيدا ، ولا يمكن تفسير ما عثر عليه من متحجرات الكائنات الحية إلّا بفرضية التكامل هذه.

الثّاني : مجموع القرائن التي جمعت في (التشريح المقارن).

ويؤكّد هؤلاء العلماء عبر بحوثهم المطولة المفصلة : إنّنا عند ما نشرّح الهياكل العظيمة للحيوانات المختلفة ونقارنها فيما بينها ، نجد أن ثمّة تشابها كبيرا فيما بينها ، ممّا يشير إلى أنّها جاءت من أصل واحد.

الثّالث : مجموع القرائن التي حصل عليها من (علم الأجنّة).

فيقولون : إنّنا لو وضعنا جميع الحيوانات في حالتها الجنينية ـ قبل أن تأخذ شكلها الكامل ـ مع بعضها ، فسنرى أنّ الأجنّة قبل أن تتكامل في رحم أمهاتها أو في داخل البيوض تتشابه إلى حد كبير وهذا ما يؤكّد على أنّها قد جاءت في الأصل من شيء واحد.

أجوبة القائلين بثبوت الأنواع :

إلّا أن القائلين بفرضية ثبوت الأنواع لديهم جواب واحد لجميع أدلة القائلين بالتكامل وهو : أن القرائن المذكورة لا تملك قوّة الإقناع ، والذي لا يمكن إنكاره أن الأدلة الثلاثة توجد في الذهن احتمالا ظنيا لمسألة التكامل ، إلّا أنّها لا تقوى أن تصل إلى حال اليقين أبدا.

٧٣

وبعبارة أوضح : إنّ إثبات فرضية التكامل وانتقالها من صورة فرض علمي إلى قانون علمي قطعي إمّا أن يكون عن طريق الدليل العقلي ، أو عن طريق الحس والتجربة والإختيار ، ولا ثالث لها.

أمّا الأدلة العقلية والفلسفية فليس لها طريق إلى هذه المسائل كما نعلم ، وأما يد التجربة والإختيار فأقصر من أن تمتد إلى مسائل قد امتدت جذورها إلى ملايين السنين.

إنّ ما ندركه بالحس والتجربة لا يتعدى بعض الحالات السطحية ، ولفترة زمنية متباعدة ، على شكل طفرة وراثية (موتاسيون) في كل من الحيوان والنبات.

فمثلا نرى أحيانا في نسل الأغنام العادية ولادة مفاجئة لخروف ذي صوف يختلف عن صوف الخراف العادية ، فيكون أنعم وأكثر لينا من العادية بكثير ، فيكون بداية لظهور نسل جديد يسمّى (أغنام مرينوس).

أو أنّ حيوانات تحصل فيها الطفرة الوارثية فيتغير لون عيونها أو أظفارها أو شكل جلودها وما شابه ذلك لكنّه لم يشاهد لحدّ الآن طفرة تؤدي إلى حصول تغيير مهم في الأعضاء الأصلية لبدن أيّ حيوان ، أو يتبدل نوع منها إلى نوع آخر.

بناء على ذلك يمكننا أن نتخيل أنّ نوعا من الحيوان يتحول إلى نوع آخر بطريق تراكم الطفرة الوراثية ، كأن تتحول الزواحف الى طيور ولكنّ ذلك ليس سوى حدس ومجرّد تخيل لا غير ، ولم نر الطفرات الوارثية قد غيرت عضوا أصليا لحيوان ما إلى صورة أخرى.

نخلص ممّا تقدم إلى النتيجة التالية : إن الأدلة التي يطرحها أنصار فرضية (الترانسفورميسم) لا تتجاوز كونها فرضا لا غير ، لذا نرى أنصارها يعبرون عنها ب (فرضية تطوّر الأنواع) ولم يجرأ أيّ منهم من تسميتها بالقانون أو الحقيقة العلمية.

٧٤

نظرية التكامل و.. الإيمان بالله :

الكثير ممّن يحاولون تصوير نوع من التضاد بين هذه الفرضية ومسألة الإيمان بالله ، ولعل الحق يعطى لهم من جهة ، حيث أنّ العقيدة الداروينية في واقعها قد أوجدت حربا شعواء بين أصحاب الكنيسة من جانب ومؤيدي داروين من جانب آخر ، حتى وصل الصراع ذروته بين الطرفين في تلك الفترة بعد ما لعب الظرف السياسي وكذا الاجتماعي دورهما (ممّا لا يسع المجال لشرح ذلك هنا) ، فكانت النتيجة أن اتهم أصحاب الكنيسة الداروينية بأنّها لا تنسجم مع الإيمان بالله.

وقد كشفت الأيّام عن عدم وجود تضاد بين الأمرين ، فإنّنا سواء قبلنا بفرضية التكامل أو نفيناها لفقدانها الدليل ، فلا يمنع من الإيمان بالله بكلا الاحتمالين.

فإذا قبلنا بالفرضية فلكونها قانونا علميا مبنيا على العلة والمعلول ، ولا فرق في العلاقة بين العلة والمعلول في عالم الكائنات الحية وبقية الموجودات ، فهل يعتبر اكتشاف العلل الطبيعية من قبيل نزول الأمطار ، المد والجزر في البحار ، الزلازل وما شابهها ، مانعا من الإيمان بالله؟ الجواب بالنفي قطعا. إذن فاكتشاف وجود رابطة وعلاقة تكاملية بين أنواع الموجودات الحية لا يؤدي إلى تعارض مع مسألة الإيمان بالله كذلك.

إذن ، فالأشخاص الذين يتصورون أن كشف العلل الطبيعية ينافي الإيمان بوجود الله هم الذين يذهبون هذا المذهب وإلّا فإنّ كشف هذه العلل ليس ـ فقط ـ لا يتعارض مع التوحيد ، وإنّما سيعطينا أدلة جديدة من عالم الخليقة لإثبات وجوده سبحانه وتعالى.

وممّا ينبغي ذكره : أنّ داروين قد تبرأ من تهمة الإلحاد وصرح في كتابه (أصل الأنواع) قائلا : إنّني مع قبولي لتكامل الأنواع فإنّي اعتقد بوجود الله ، وأساسا فإنّه

٧٥

بدون الاعتقاد بوجود الله لا يمكن توجيه مسألة التكامل.

وقد كتب عن داروين بما نصه : (إنّه بقي مؤمنا بالله الواحد رغم قبوله بالعلل الطبيعية في ظهور الأنواع المختلفة من الأحياء ، وقد كان إحساسه بوجود قدرة ما فوق البشر يشتد في أعماقه كلما تقدم في السن ، معتبرا أن لغز الخلق يبقى لغزا محيرا للإنسان)(1) .

كان يعتقد أن توجيه هذا التكامل النوعي المعقد والعجيب ، وتحويل كائن حي بسيط جدّا إلى كل هذه الأنواع المختلفة من الأحياء لا يتمّ إلّا بوجود خطة دقيقة يضعها ويسيرها عقل كلي.

وهو كذلك إذ كيف يمكن إيجاد كل هذه الأنواع العجيبة والمحيرة والتي لكل منها تفصيلات وشؤون واسعة ، من مادة واحدة بسيطة جدا وحقيرة كيف يمكن ذلك بدون الاستناد على علم وقدرة مطلقين؟!

النتيجة : إنّ الضجّة المفتعلة في وجود تضاد بين عقيدة التكامل النوعي وبين مسألة الإيمان بالله إنّما هي بلا أساس وفاقدة للدليل (سواء قبلنا بالفرضية أو لم نقبلها).

تبقى أمامنا مسألة جديرة بالبحث وهي : هل أنّ فرضية تطور الأنواع تتعارض مع ما ذكره القرآن حول قصة خلق آدم ، أو لا؟

القرآن ومسألة التكامل :

الجدير بالذكر أن كلّا من مؤيدي ومنكري فرضية التكامل النوعي ـ نعني المسلمين منهم ـ قد استدل بآيات القرآن الكريم لإثبات مقصوده ، ولكنّهما في بعض الأحيان وتحت تأثير موقفهما قد استدلا بآيات لا ترتبط بمقصودهما إلّا من

__________________

(1) الداروينية ، تأليف محمود بهزاد ، الصفحة 75 و 76.

٧٦

بعيد ، ولذلك سنتطرق إلى الآيات القابلة للبحث والمناقشة.

أهم آية يتمسك بها مؤيد والفرضية ، الآية الثّالثة والثلاثون من سورة آل عمران( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ ، وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ) .

فيقولون : كما أنّ نوحا وآل إبراهيم وآل عمران كانوا يعيشون ضمن أممهم فاصطفاهم الله من بينهم فكذلك آدم ، أي ينبغي أنّه كان في عصره وزمانه أناس باسم «العالمين» فاصطفاه الله من بينهم ، وهذا يشير إلى أن آدم لم يكن أوّل إنسان على وجه الأرض ، بل كان قبله أناس آخرون ، ثمّ امتاز آدم من بينهم بالطفرة الفكرية والروحية فكانت سببا لاصطفائه من دونهم.

هذا وذكروا آيات أخر ولكنّها من حيث الأصل لا ترتبط بمسألة البحث ، ولا يعدو تفسيرها بالتكامل أن يكون تفسيرا بالرأي ، وبالبعض الآخر مع كونه ينسجم مع التكامل النوعي إلّا أنّه ينسجم مع الثبوت النوعي والخلق المستقل لآدم كذلك ، ولهذا ارتأينا صرف النظر عنها.

أمّا ما يؤخذ على هذا الاستدلال فهو أنّ كلمة «العالمين» إن كانت بمعنى الناس المعاصرين لآدمعليه‌السلام وأنّ الاصطفاء كان من بينهم ، كان ذلك مقبولا ، أمّا لو اعتبرنا «العالمين» أعم من المعاصرين لآدم ، حيث تشمل حتى غير المعاصرين ، كما روي في الحديث المعروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل فاطمةعليها‌السلام حيث قال : «أمّا ابنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين» ، ففي هذه الحال سوف لا تكون لهذه الآية دلالة على مقصودهم ، وهو شبيه بقول قائل : إنّ الله تعالى اصطفى عدّة أشخاص من بين الناس جميعا في كل القرون والأزمان ، وآدمعليه‌السلام أحدهم ، وعندها سوف لا يكون لازما وجود أناس في زمان آدم كي يطلق عليهم اسم «العالمين» أو يصطفى آدم من بينهم، وخصوصا أن الاصطفاء إلهي ، واللهعزوجل مطلع على المستقبل وعلى كافة الأجيال في كل

٧٧

الأزمان(1) .

وأمّا مؤيد وثبوت الأنواع فقد اختاروا الآيات مورد البحث وما شابهها ، حيث نقول إنّ الله تعالى خلق الإنسان من تراب من طين متعفن.

ومن الملفت للنظر أن هذا التعبير قد ورد في صفة خلق «الإنسان»( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) ـ الآية السادسة والعشرون من سورة الحجر ـ وأيضا في صفة خلق «البشر»( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) ـ الآية الثامنة والعشرون من سورة الحجر ـ وفي مسألة سجود الملائكة بعد خلق شخص آدم أيضا (لاحظ الآيات 29 ، 30 ، 31 من سورة الحجر).

عند الملاحظة الأولى للآيات يظهر أن خلق آدم كان من الحمأ المسنون أوّلا ، ومن ثمّ اكتملت هيئته بنفخ الروح الإلهية فيه فسجد له الملائكة إلّا إبليس.

ثمّ إنّ أسلوب تتابع الآيات لا ينم عن وجود أيّ من الأنواع الأخرى منذ أن خلق آدم من تراب حتى الصورة الحالية لبنيه.

وعلى الرغم من استعمال الحرف «ثمّ» في بعض من هذه الآيات لبيان الفاصلة بين الأمرين ، إلّا أنّه لا يدل أبدا على مرور ملايين السنين ووجود آلاف الأنواع خلال تلك الفاصلة.

بل لا مانع إطلاقا من كونه إشارة إلى نفس مرحلة خلق آدم من الحمأ المسنون ، ثمّ مرحلة خلقه من الصلصال ، فخلق بدن آدم ، ونفخ الروح فيه.

وذلك ما ملاحظه في استعمال «ثمّ» في مسألة خلق الإنسان في عالم الجنين والمراحل التي يطويها( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا

__________________

(1) وهناك احتمال آخر وهو : أن اصطفاء آدم من بين أولاده بعد أن مرت عليهم مدة ليست بالطويلة فتشكل من بينهم مجتمع صغير.

٧٨

أَشُدَّكُمْ ) (1) .

فهذه الآية المباركة تدلل على أن استعمال «ثم» يعبر عن وجود فاصلة ليس من الضروري أن تكون طويلة ، فيمكن كونها فاصلة طويلة أو قصيرة.

وخلاصة ما ذكر : أن الآيات القرآنية وإن لم تتطرق مباشرة لمسألة التكامل النوعي أو ثبوت الأنواع ، لكنّ ظاهرها (في خصوص الإنسان) ينسجم مع مسألة الخلق المستقل ، وإن لم يكن بالتصريح المفصل ، لأنّ أكثر ما يدور ظاهر الآيات حول الخلق المستقل المباشر ، أمّا ما يتعلق بخلق سائر الأحياء (من غير الإنسان) فقد سكت القرآن عنه.

* * *

__________________

(1) سورة الحج ، 5.

٧٩

الآيات

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49 وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) )

التّفسير

نعم الجنّة الثّمان :

رأينا في الآيات السابقة كيف وصف الله تعالى عاقبة أمر الشيطان وأنصاره وأتباعه ، وأنّ جهنم بأبوابها السبعة مفتحة لهم.

وجريا على أسلوب القرآن في التربية والتعليم جاءت هذه الآيات المباركات (ومن باب المقارنة) لترفع الستار عن حال الجنّة وأهلها وما ترفل به من نعم مادية ومعنوية ، جسدية وروحية.

وقد عرضت الآيات ثمانية نعم كبيرة (مادية ومعنوية) بما يساوي عدد أبواب الجنّة.

1 ـ أشارت في البدء إلى نعمة جسمانية مهمّة حيث :( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) ويلاحظ أنّ هذه الآية قد اتخذت من صفة (التقوى) أساسا لها ، وهي

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

يفعل، يعرب عن عدم كفاية الذات في مقام الفاعليّة بل تحتاج إلى ضم ضميمة باسم المشيئة والله سبحانه تام في الوجود كما هو تام في الفاعليّة، لا يحتاج في وجوده وفعله إلى شيء سواه، فيجب في توصيفه سبحانه بالقدرة والاستطاعة، تجريده عن شوب النقص والعيب.

ولعلّنا لا نقدر على تعريف قدرته بشكل جامع ومانع مناسب لذاته إلّا أنّه يمكن القاء الضوء عليه بالتقسيم التالي.

إنّ نسبة الفعل إلى الفاعل لا تخلو عن أقسام ثلاثة :

١ ـ أن يكون ملازماً للفعل غير منفك عنه كالنار بالنسبة إلى الاحراق.

٢ ـ أن يكون ملازماً لتركه فيكون ممتنعاً عليه كالنار بالنسبة إلى البرودة.

٣ ـ أن يكون الفاعل غير مقيّد بواحد من النسبتين فلا يكون الفعل ممتنعاً عليه حتى يتقيّد المبدء بالترك ولا الترك ممتنعاً عليه حتى يتقيّد بالفعل، فيعود الأمر في تعريف القادر إلى كونه مطلقاً غير مقيّد بشيء من الفعل والترك، ولعلّ هذا التعريف أسهل وأتقن ما في الباب.

وقد قلنا غير مرّة: إنّ الهدف من توصيفه سبحانه بهذه الصفات الكماليّة هو اثبات الكمال على ذاته وتنزيهه عن النقص والعيب فلو كان في اجراء بعض الصفات بما لها من المفاهيم العرفيّة شيء ملازم لشوب النقص، وجب تجريدها عنه، وتمحيضها في الكمال المحض، وقد تعرّفت في تفسير الحياة بأنّ ما ندركه من معناه من الموجودات الطبيعيّة يمتنع توصيفه سبحانه بها لاستلزامه كون الواجب موجوداً مادّياً قابلاً للفعل والانفعال، بل يجب في اجراء الحياة عليه تجريده عن كل ما يلازم شوب النقص ووصمة الامكان.

٣٨١

دلائل قدرته سبحانه :

استدلّ على قدرته سبحانه باُمور :

الأوّل: الفطرة

فكلّ إنسان يجد في قرارة نفسه وصميم ذاته ووجدانه ميلاً وانجذاباً إلى قدرة فائقة يستمدّ منها العون عند الشدائد ونزول المحن، ويعتقد كونه قادراً على تخليصه ومساعدته وإمداده. إن وجود تلك الفطرة وذلك الانجذاب حاك عن وجود تلك القدرة المطلقة، وإلّا يلزم لغويّة وجودها في الإنسان، وليس المراد منها التصوّر والتفكّر حتّى يقال إنّ الوهم لا يدلّ على وجود المتوهّم بل المراد هو الميل الباطن والانجذاب الذاتي من دون محرّك وحافز، فكل إنسان عند ما يواجه المشاكل والشدائد يجد من أعماق نفسه أنّ هناك موجوداً قادراً عالماً بمشاكله وهو قادر على دفعها عنه.

نعم بعد ما ارتفعت الشدّة، وهدأت الأوضاع ربّما يغفل عنها، وهذا من خصائص الاُمور الفطرية حيث تتجلّى في ظروف خاصّة وتتضاءل في ظروف اُخرى.

قال سبحانه:( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام / ٤٠ و ٤١ ).

فالفطرة كما تهدي إلى أصل وجود الصانع، كذلك تهدي إلى صفاته.

الثاني: مطالعة النظام الكوني

إنّ مطالعة النظام الكوني بما فيه من دقيق وجليل، وما فيه من دقة وروعة، وجمال وبهاء واتقان واحكام، تهدي أنّ فاعله وموجده قادر، قام بفضل قدرته على ايجاد عالم بديع. وقد خدم العلم الحديث بتوضيح هذا الوصف خدمة عظيمة، وكلّما تكاملت العلوم الطبيعية ازداد علم الإنسان بسعة قدرته سبحانه و

٣٨٢

يقف على ما في هذا النظام من السنن والقوانين التي تحيّر العقول.

ويكفي في ذلك إذا لاحظنا النظام السائد على الكون بدءاً من السماء وما فيها من نجوم وكواكب وما فيها من منظومات ومجرّات ومروراً بالأرض، وما فيها من عوالم كعالم الحيوان وعالم البحار وعالم النبات وعالم الحشرات، وما فيها من بدائع الصنع ورائع الخلق. ـ فإذا لاحظنا ـ تتمثّل قدرته تعالى أمام أعيننا قدرة لا يمكن تحديدها، وعلى ذلك فكما أنّ وجود كل ممكن يدلّ على وجود صانع له فكذا صفات المصنوع كاشفة عن صفات الصانع، فالملحمة الشعرية كما تحكي عن وجود الشاعر، تعرب عن مدى مقدرته الخياليّة وذوقه الخلاّق، حيث استطاع بذوقه المتفوّق على التحليق في آفاق الخيال، وسبك المعاني في قوالب الألفاظ الجميلة. فكتاب « القانون » لابن سينا في الطب و « الشفاء » له في الفلسفة، و « الملحمة البطولية » للفردوسي تعكس قدرة المؤلّفين وإحاطتهم على الطبّ والفلسفة وخلق المفاهيم والمعاني في عالم الخيال.

يقول الإمام أمير المؤمنين في بعض خطبه :

« وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته »(١) .

الثالث: معطي الكمال لا يكون فاقداً له

ومن دلائل قدرته أن خلق الإنسان وخلق غيره من الأشياء وأعطى لكلّ موجود حرّ مختار قدرة يقتدر بها على ايجاد البدائع والغرائب من الأشياء، ومعطي هذا الكمال ومفيضه لا يكون فاقداً له، والذي أظن إنّ المقام غني عن إقامة البرهان، إنّما الكلام في فروع هذا الوصف التي مهمّها عبارة عن سعة قدرته لكل شيء.

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة٨٧ المعروف بخطبة الاشباح.

٣٨٣

سعة قدرته لكلّ شيء

الكمال المطلق الذي ينجذب إليه الإنسان في بعض الحالات والأحايين، يجب أن يكون قادراً على كل شيء ممكن ولا يتبادر إلى الأذهان أبداً ـ لولا تشكيك المشكّكين ـ انّ لقدرته حدوداً وانّه بالتالي قادر على شيء دون شيء ولكن الأبحاث الكلاميّة طرحت أسئلة في المقام وهي :

١ ـ هل هو سبحانه قادر على القبيح أو لا ؟

٢ ـ هل هو قادر على خلاف معلومه أو لا ؟

٣ ـ هل هو قادر على مثل مقدور العبد أو لا ؟

٤ ـ هل هو قادر على عين مقدور العبد أو لا ؟

ولا تنحصر الأسئلة المطروحة في المقام فيما ذكر بل هناك أسئلة اُخرىٰ، فإليك بيانها :

٥ ـ هل هو سبحانه قادر على خلق نظيره ؟

٦ ـ هل هو سبحانه قادر على جعل الشيء الكبير في جوف الشيء الصغير ؟

٧ ـ هل هو سبحانه قادر على خلق شيء لا يقدر على إفنائه أو تحريكه من جانب إلى جانب ؟

وهذه الأسئلة الثلاثة الأخيرة لا يختلف فيها أحد من المتكلّمين ولأجل ذلك لا يعدّ البحث فيها ملاكاً لوجود الخلاف، وإليك البحث عن تاريخ المسألة وفاقاً وخلافاً فنقول :

لم يكن أحد من المسلمين مخالفاً في سعة قدرته أخذاً بالنصوص الواردة في الكتاب الحكيم، إلى أن حدث الخلاف في عموم قدرته على اُمور أربعة :

الأمر الأول: قدرته على القبيح من جانب المتكلّم المعتزلي الشهير

٣٨٤

« إبراهيم ابن سيّار » ( النظام )(١) المتوفّى عام ٢٣١ فقد خالف فيها وقال بعدم قدرته على القبيح وإلّا لصدر منه فيكون فاعله جاهلاً أو محتاجاً وهو محال، فيكون الفعل محالاً فلا يقدر عليه(٢) .

الأمر الثاني: من جانب « عبّاد بن سليمان السيمري » حيث قال :

إنّ الله لا يقدر على خلاف معلومه. أي ما علم الله وقوعه، وجب وقوعه وما علم عدمه، يمتنع وقوعه، إذ لو لم يقع ما علم وقوعه، أو وقع ما علم عدمه، لزم انقلاب علمه تعالى جهلاً، وانقلاب علمه تعالى جهلاً محال(٣) .

الأمر الثالث: من جانب البلخي المتوفّى عام ٣١٩ حيث قال: لا يقدر على مثل مقدور عبده لأنّه طاعة أو سفه أو عبث، والكل عليه محال(٤) .

الأمر الرابع: من جانب الجبّائيين: أبي علي وولده أبي هاشم(٥) .

فقال: لا يقدر على عين مقدور العبد وإلّا لاجتمع قادران على مقدور واحد وهو محال، وإلّا لزم وقوعه نظراً إلى إرادة أحدهما، وعدمه نظراً إلى كراهة الآخر، فيكون واقعاً وغير واقع، وهذا خلف(٦) .

__________________

(١) راجع في ترجمة النظام: الملل والنحل للشهرستاني: ج ١، ص ٥٣ ـ ٥٤، والتبصير في الدين للاسفرايني: ص ٧٠، والجزء الثالث من موسوعتنا « بحوث في الملل والنحل ».

(٢) نقله الفاضل السيوري في « ارشاد الطالبين » في شرح نهج المسترشدين: ص ١٨٧، و « العلامة » في كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص ١٧٤.

(٣) اللوامع الإلهية: ص ١١٩، ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين: ص ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٤) اللوامع الإلهية: ص ١١٩، ونهج المسترشدين: ص ١٩١.

(٥) توفّي أبو علي الجبائي عام ٣٠٣ كما توفّى ابنه أبو هاشم عام ٣٢١، وكانا من أقطاب المعتزلة.

(٦) اللوامع الإلهية: ص ١١٩، وقواعد المرام في علم الكلام لابن ميثم البحراني: ص ٩٦.

٣٨٥

وربّما نسب إلى الحكماء القول بأنّه سبحانه لا يقدر على أكثر من الواحد وحكموا بأنّه لا يصدر عنه إلّا شيء واحد(١) .

هذه صورة تاريخيّة عن نشأة هذا الرأي أي تحديد قدرة الله، ويبدو أنّ أكثر هٰؤلاء إمّا تأثّروا ببعض المناهج الفلسفيّة المترجمة، كما أنّ بعضهم لم يدرك حقيقة القول بسعة قدرته، وإذا شرحنا حقيقة المقال تقف على سقوط الآراء الثلاثة الأخيرة المنسوبة إلى السيمري والبلخي والجبائيين.

تحليل القول بعموم القدرة الإلهية

إنّ المقصود من عموم قدرته سبحانه هو سعتها لكل شيء ممكن، بمعنى أنّه تعالى يقدر على خلق كل ما يكون ممكناً بذاته غير ممتنع كذلك، وهذا الوصف العنواني رهن اُمور :

أوّلاً: أن لا يكون الشيء ممتنعاً بالذات مثل أن يكون من قبيل جعل الشيء الواحد متحرّكاً وساكناً في آن واحد وهو أمر ممتنع.

فإنّه لا شك في أنّ هذا الامتناع مانع من شمول القدرة لهذا المورد ونظائره.

ثانياً: أن لا يكون هناك مانع من نفوذ قدرته، وشمولها وهذا لا يكون إلّا بوجود قدرة مضاهيّة، معارضة، مانعة، من نفوذها.

ثالثاً: أن لا تكون قدرة القادر محدودة، مضيّقة في ذاتها.

وهذه الشرائط كلّها موجودة في حقّ الواجب.

أمّا الأول: فلأنّ المقصود من عموميّة قدرته تعالى هو شمولها لكل أمر ممكن، دون الممتنع بالذات، فلا تتعلّق القدرة الالهية بالممتنع ذاتياً، وهو بالتالي

__________________

(١) النسبة في غير محلّها، وسيوافيك مرامهم.

٣٨٦

خارج عن محيط البحث، تخصّصاً لا تخصيصاً، أي لا لقصور في الفاعل بل لقصور في المورد ونعني به الممتنع ذاتيا. والأمر القبيح ليس أمراً ممتنعاً بالذات، بل ممتنع بالغير وحسب الحكمة.

وأمّا الثاني: فليس هناك شيء مانع من نفوذ القدرة الإلهية كي يزاحم تلك القدرة إلّا إذا كان موجوداً، وهذا الموجود إن كان واجب الوجوب مثله سبحانه فهو مرفوض بما ثبت من وحدة واجب الوجود، وانتفاء نظير له وأنّه بالتالي ليس في صفحة الوجود واجب سواه، وإن كان ممكناً مخلوقاً له سبحانه فهو مقهور له تعالى فكيف يزاحم قدرته، وكيف يمنع من نفوذها ؟

وأمّا الثالث: وهو ضيق نطاق قدرته، فهو مدفوع لما سيوافيك ـ أيضاً ـ من أنّ وجود الله تعالى غير محدود، ولا متناه، فهو وجود مطلق لا يحدّه شيء من الحدود العقليّة والخارحيّة وما هو غير متناه في وجوده، غير متناه في قدرته(١) لما ثبت من عينيّة صفاته وجوداً وتحقّقاً مع ذاته.

والحاصل: انّ هذا البيان يعتمد على أمرين كل منهما ثابت ومحقق :

أوّلاً: ما سيوافيك من أنّ وجوده سبحانه غير محدود ولا متناه، بمعنى أنّه لاتحدّه حدود عقليّة ولا خارجيّة.

ثانياً: سيوافيك أيضاً من أنّ صفاته تعالى عين ذاته، لا أمر زائد على الذات.

__________________

(١) وقد استدلّ بعض المحققين من علماء الكلام على عموميّة قدرته من طريق آخر فقال « العلّامة الحلّي » في كشف الفوائد: ص ٤٣ والدليل عليه ( أي على عموم قدرته ) أنّه تعالى واجب الوجود دون غيره، وكل ما عداه ممكن وكل ممكن محتاج إلى المؤثر ولابد أن ينتهي إلى الواجب. فعلّة الحاجة وهي الامكان ثابتة في الجميع، فتساوت نسبتها إليه سبحانه بالاحتياج لاستحالة الترجيح من غير مرجّح، فيكون قادراً على الجميع، وراجع كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص ١٧٤، و « قواعد المرام »: ص ٩٦، وارشاد الطالبين: ص ١٨٧.

٣٨٧

وهذان الأمران ينتجان عدم تضيّق القدرة الإلهية، فهو إذا كان ـ من حيث الوجود ـ مطلقاً غير متناه وكان الوصف عين الذات ونفسها ; كانت صفة القدرة هي الاُخرى مطلقة لا تعرف حدّاً، ولا تقف عند نهاية.

وبهذه الصورة تثبت سعة قدرته تعالى وشمولها لكل شيء.

ولقد صرّحت النصوص الدينيّة ـ من كتاب وسنّة ـ بهذه الخصوصيّة في القدرة الالهية، وأكدت بالتالي على عموميّتها، وسعة دائرتها، واطلاقها على غرار الذات، وذلك كقوله سبحانه:( وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الأحزاب / ٢٧ ).

وقوله تعالى:( وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) ( الكهف / ٤٥ ).

وقوله تعالى:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ) ( فاطر / ٤٤ ).

وقوله تعالى:( لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( التغابن / ١ ).

وقوله تعالى:( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الملك / ١ ).

وقال الإمام موسى بن جعفر٨ : « والقادر الذي لا يعجز »(١) .

وقال الإمام الصادق٧ : « الأشياء له سواء علماً وقدرة وسلطاناً وملكاً وإحاطة »(٢) .

__________________

(١) توحيد الصدوق: ص ٧٦.

(٢) توحيد الصدوق: ص ١٣٣.

٣٨٨

حول الأقوال السابقة

بعد أن عرفت أدلّة القائلين(١) بعموميّة القدرة الإلهيّة. حان الأوان لتقييم ما قاله بعض أئمّة المعتزلة وأقاموه لتحديد قدرته فنقول :

لقد عرفت في مفتتح البحث أنّ الذي جرّ النافين لعموميّة القدرة إلى مثل هذا الموقف الذي يضادّ الفطرة مضافاً إلى مضادّته للبراهين العقليّة القاطعة، وما دلّ عليه الكتاب والسنّة من النصوص الصريحة هو الشبهات التي ألقاها البعض في هذا المجال.

١ ـ عدم قدرته على فعل القبيح

فلقد استدلّ « النظام » لعدم عموميّة قدرته تعالى بأنّه لا يقدر على القبيح وإلّا لصدر عنه فيكون فاعلاً جاهلاً أو محتاجاً وهو محال فلا يكون قادراً على القبيح.

ونظنّ أنّ « النظام » خلط موضع البحث بشيء آخر فإنّ البحث إنّما هو في عموم القدرة والاقتدار وأنّه سبحانه قادر على كل شيء قبيحاً كان أو غيره، أي أنّ القبيح وغيره عنه قدرته سواء أي كما أنّه سبحانه قادر على ارسال المطيع إلى الجنّة قادر على إدخاله في النار، وليس هنا ما يعجزه عن ذلك.

إلّا أنّه لـمّا كان هذا العمل قبيحاً مخالفاً لعدله وقسطه لا يفعله سبحانه، ولا يرتكبه لأنّ الدافع إلى ارتكاب القبيح امّا الجهل بالقبح، أو الحاجة إلى العمل القبيح، وكلاهما منفيّان عن ساحته المقدّسة، فلا يصدر منه الفعل اختياراً لأنّ هذه الموجبات والدواعي منتفية لديه سبحانه لا أنّه غير قادر عليه أو عاجز عن فعله.

فكم فرق بين عدم القيام بشيء لعدم توفّر الداعي إليه، وبين عدم القدرة عليها أصلا.

__________________

(١) وهم كل علماء الامامية.

٣٨٩

فالوالد المشفق قادر على ذبح ولده في مرأىٰ ومسمع من الناس لكن الدواعي إلى هذا الفعل منتفية عنه ( لأنّه لا يصدر هذا العمل القبيح إلّا من جاهل بالقبح أو محتاج إلى العمل القبيح ).

وبالجملة فهو خلط بين عدم فعله لذلك القبيح، وعدم قدرته عليه من الأساس.

٢ ـ عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه

لقد ذهب « عبّاد بن سليمان السيمري » إلى عدم سعة قدرته قائلاً: إنّ ما علم الله تعالى بوقوعه يقع قطعاً، فهو واجب الوقوع، وما علم بعدم وقوعه لا يقع قطعاً فهو ممتنع الوقوع، وما هو واجب أو ممتنع لا تتعلّق به القدرة، إذ القدرة إنّما تتعلّق بشيء يصحّ وقوعه ولا وقوعه، ويمكن فعله ولا فعله، وما صار أحديّ التعلّق ( ذي حالة واحدة حتميّة ) لا يقع في إطار القدرة.

والجواب عن هذه الشبهة بوجهين :

أمّا أوّلاً: فلأنّه لو صحّ ما ذكر لزم أن لا تتعلّق قدرته بأي شيء مطلقاً، لأنّ كلّ شيء إمّا أن يكون معلوم التحّقق في علمه سبحانه أو معلوم العدم.

فالأوّل: واجب التحقّق، والثاني ممتنع التحقّق، فيكون كل شيء متصوّر، داخلاً في إطار أحد هذين الأمرين، فيجب أن يمتنع توصيفه بالقدرة على شيء ما، حتّى ما خلق فضلاً عمّا لم يخلق.

وثانياً: فإنّ القدرة تتعلّق بكل شيء ممكن في ذاته، ولا تتعلّق بشيء واجب الوجود بذاته أو ممتنع الوجود كذلك، ويكفي في تعلّق القدرة كون الشيء في حدّ الذات ممكناً متساوي الطرفين، وكونه واجباً بالنسبة إلى علّته، لا يخرجه عن حد الامكان كما أنّ كونه ممتنعاً بالنسبة إلى عدم علّته، لا يخرجه عن ذلك الحدّ أيضاً.

٣٩٠

يقول الحكيم السبزواري في هذه الحقيقة الأخيرة :

« الامكان عارض للماهيّة بتحليل من العقل حيث يلاحظها من حيث هي مقطوعة النظر عن اعتبار الوجود وعلّته والعدم وعلّته، فيصفها بسلب الضرورتين وأمّا عند اعتبارهما فمحفوف بالضرورة والامتناع، ولا منافاة بين لا اقتضاء من قبل ذات الممكن للوجود والعدم، واقتضاء من قبل الغير للوجود أو العدم ». قال في منظومته :

عروض الامكان بتحليل وقع

وهو مع الغيريّ من ذين اجتمع(١)

وعلى ذلك فمعلومه سبحانه وإن كان بين محقّق الوقوع ومحقّق العدم، أي بين ضرورة الوجود بالنسبة إلى علّته وضرورة العدم بالنسبة إلى عدم علّته، لكن هذه الضرورة الناشئة من ناحية علّته، أو من ناحية عدم علّته، لا يجعل الشيء واجباً بالذات أو ممتنعاً كذلك، فهو حتى بعد لحوق الضرورة به من جانب علّته، أو الامتناع من جانب عدم علّته موصوف بالامكان غير خارج عن حدّ الاستواء حسب الذات.

فابن عبّاد لم يفرق بين الواجب بالذات، والواجب بالغير، كما لم يفرّق بين الممتنع بالذات والممتنع بالغير، فما هو المانع من تعلّق القدرة، هو الوجوب والامتناع الذاتيان، لا الوجوب والامتناع الغيريّان اللاحقان بالشيء من جانب وجود علّته ومن جانب عدم علّته.

ولو صحّ ما ذكره من الكلام وجب أن لا يوجد في العالم أي موجود موصوف بالقادريّة.

فإنّ كل متصوّر إمّا أن يكون في نفس الأمر محقّق الوجود لوجود علّته التامّة، أو محقّق العدم لعدم تحقّق علّته التامّة.

__________________

(١) المنظومة: قسم الفلسفة، ص ٦٩.

٣٩١

وإن شئت قلت: إنّ الممكن وإن كان مستوراً علينا وقوعه ولا وقوعه، غير أنّه في نفس الأمر محقّق الوقوع لوجود علّته أو محقّق العدم لعدم وجود علّته، وعدم علمنا بأحد الطرفين لا يضرّ بوجوب وجوده أو امتناعه وجوباً وامتناعاً عارضيّاً بالغير.

وكل شيء في صفحة الوجود لا يخلو عن أحد هذين الوصفين، فيلزم أن لا يجوز توصيف شيء من الأشياء حتّى الإنسان بالقدرة لأنّه إذا قيس بفعل من الأفعال فهو في نفس الأمر امّا محقق الوقوع لوجود علّته التامّة، أو ممتنع الوجود لعدم وجود علّته التامّة.

٣ ـ عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد

وممّن اختار عدم سعة قدرته، المتكلّم المعروف بالكعبي إذ قال: « إنّ الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد لأنّه امّا طاعة أو معصية أو عبث وكلّها مستحيلة عليه تعالى ».

توضيحه: إنّ فعل الإنسان امّا طاعة أو معصية أو عبث، لأنّه إمّا أن يقع لغرض أو لا، والثاني عبث، والأوّل امّا أن يقع موافقاً للأوامر الشرعيّة أو لا، والأوّل طاعة والثاني معصية، ففعل الإنسان لا يخلو عن أحد هذه الأوصاف الثلاثة، فلو قدر الله على مثله لوصف فعله بالطاعة أو المعصية أو العبث، والأوّلان يستلزمان أن يكون لله تعالى آمر، وهو محال.

والأخير يدخل تحت عنوان القبيح المستحيل عليه فلا يقدر على مثل مقدور الإنسان، وهو المطلوب.

ونقول في الجواب: لقد عزب عن « الكعبي » أنّ عدم قيامه بالقبيح ( العبث ) ليس لعدم قدرته عليه، بل لأجل حكمته العالية الصارفة عن القيام به، فعدم القيام بالشيء لأجل مخالفته لمشيئته الحكميّة، لا يعد دليلاً على عدم قدرته، وقد أوضحنا حاله.

٣٩٢

وأمّا المثالان الأوّلان ( الطاعة والمعصية )، فالطاعة والمعصية ليستا من الاُمور الحقيقية القائمة بالشيء، بل هما أمران ينتزعهما العقل من كون الفعل مطابقاً للمأمور به، أو كونه مخالفاً له ومن نسبة الفعل إلى الأمر الصادر من المولى الواجب طاعته والمحرّم عصيانه.

وإن شئت قلت: ينتزع وصف الطاعة من مطابقة الفعل لأمر الآمر به، والعصيان من مخالفة الفعل مخالفاً لذلك الأمر وليس هذان المفهومان من الاُمور الذاتية، ولا من الأعراض الحقيقيّة.

فلا إشكال في قدرته سبحانه على مثل ما قام به العبد بما هو مثل، أي أن يكون فاعلاً لمثل الفعل الذي يقوم به الإنسان من حيث الذات والهيئة.

وأمّا عدم اتّصاف فعله سبحانه حينئذ بوصف الطاعة والعصيان فلا يوجب عدم قدرته تعالى على مثل ما يأتي به الإنسان لأنّ الملاك في المثليّة هو واقعيّة الفعل وحقيقته الخارجيّة لا عنوانه الاعتباري، ولا ما ينتزع من نسبة الشيء إلى الشيء، فإنّ هذه الاُمور الانتزاعيّة أو الشيء المنتزع من النسبة غير داخلة في حقيقة الشيء.

وإلى ما ذكرنا ينظر كلام العلّامة في شرح التجريد :

« إن الطاعة والعبث وصفان لا يقتضيان الاختلاف الذاتي »(١) .

وإليك نقطة مهمّة يجب التنبيه عليها وهي :

إنّ هاهنا أفعالاً مباشريّة للإنسان كالصيام والقيام والأكل والشرب، فإنّها

__________________

(١) كشف المراد شرح التجريد للعلّامة الحلّي: ص ١٧٤ طبعة صيدا، والمراد لا يقتضيان الاختلاف الذاتي أي لا يوجب اختلافا في ماهيّة العمل لأنّهما خارجان عن حقيقتة وماهيّته، لكونهما منتزعان من نسبة حاصلة من موافقة فعل العبد لأمر المولى في الطاعة ومخالفته في جانب المعصية.

٣٩٣

أفعال تقوم بالفاعل المادي، والله سبحانه مجرّد ومنزّه عن المادّيّة والجسمانيّة فعدم صدورها منه إنّما هو لأجل تنزّهه سبحانه من أن يقع محلاً للفعل والانفعال والحركة والحدوث.

ومع ذلك كلّه فالإنسان وما يأتي به من الأفعال المباشريّة إنّما هي باقتداره سبحانه وحوله وقوّته بحيث لو انقطع ما بين العبد وربّه من صلة، وانقطع الفيض لصار الإنسان مع فعله خبراً بعد أثر.

وسيوافيك تفصيل ذلك في الشبهة التالية.

٤ ـ عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد

ذهب الجبّائيّان إلى عدم سعة قدرته تعالى قائلين :

« إنّ الله تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد، وإلّا لزم إجتماع النقيضين، إذا أراده الله وكرهه العبد، أو بالعكس.

بيان الملازمة أنّ المقدور من شأنه الوقوع عند داعي القادر عليه، والبقاء على العدم عند وجود صارفه، فلو كان مقدور واحد واقعاً من قادرين، وفرضنا وجود داع لأحدهما، ووجود صارف للآخر في وقت واحد، لزم أن يوجد بالنظر إلى الداعي، وأن يبقى معدوماً بالنظر إلى الصارف، فيكون موجوداً غير موجود، وهما متناقضان.

والجواب أوّلاً: إنّ الجبائيين لم يستوفيا كافة الشقوق الممتنعة في المقام، فقد بقي هناك شق ثالث وهو أنّه: إذا تعلّقت إرادة كل واحد منهما على نفس ما تعلّقت به إرادة الآخر، فإنّ ذلك يعني أن تجتمع العلّتان التامّتان على معلول واحد وهو محال.

والجواب عن الجميع: هو ما عرفت من أنّ القدرة إنّما تتعلّق بالممكن بما هو ممكن، فإذا عرض له الامتناع فلا تتعلّق به القدرة، وعدم تعلّق قدرته بالممتنع

٣٩٤

لا يدلّ على عدم سعتها.

وما فرض في المقام من الصور ـ بغضّ النظر عمّا سنذكره ـ لا يثبت أكثر من أنّ صدور الفعل منه سبحانه في هذه الشرائط محال لاستلزامه اجتماع النقيضين، أو إجتماع العلّتين التامّتين على معلول واحد، وما هو محال خارج عن اطار القدرة ولا يطلق عليه عدم القدرة.

هذا كلّه نذكره مماشاةً مع علامتي المعتزلة وإلّا فثمّة مناقشة في كلامهما، إذ نقول: ماذا يريدان من قولهما: « عين مقدور العبد » ؟

هل يريدان منه الشيء قبل وجوده، أو بعده ؟

فإن أرادا الشيء قبل وجوده فليس في هذا المقام عينيّة ولا تشخّص، حتّى يقال: إنّه سبحانه قادر عليه أو لا ؟ إذ الشيء في هذه المرحلة لا يتجازو عن كونه مفهوما كليّاً، يصلح أن يكون له مصاديق كثيرة.

وإن أرادا من « عين المقدور » الشيء بعد وقوعه فمن المعلوم أنّه لا تتعلّق به القدرة ـ في هذه الحالة ـ لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل المحال، وقد ذكرنا أنّ المحال خارج عن إطار القدرة.

وإن أرادا عدم تعلّق قدرته سبحانه مقارناً لتعلّق قدرة العبد فحكم هذا القسم هو نفس حكم الصورة الاُولى فإنّ المقدور بعد لم يتحقّق، ولم يتشخّص حتى يقال بأنّه غير قادر على نفس مقدور العبد.

ثمّ إنّ ما ذكره العلّامتان المعتزليّان ينبع عن القول بالثنويّة في باب تأثير المؤثّرات وفعل الفواعل حيث إنّ المعتزلة تصوّرت أنّ فعل العبد مخلوق لنفس العبد، وليس مخلوقاً لله، لا تسبيباً ولا مباشرة، وانّ هناك فاعلين مستقلّين لكل مجاله الخاص فلفعله سبحانه وقدرته مجال، ولفعل العبد مجال آخر، وعند ذلك لا يمتّ مقدور العبد بالله سبحانه بصلة.

٣٩٥

غير أنّنا بيَّنا وهنَ هذه النظرية وأنّ الثنوية باطلة في عامّة المجالات وأنّه لا فاعل مستقلّ ولا مؤثّر في صفحة الوجود إلّا « الله ».

فكل فاعل سواه سبحانه، سواءً كان مختاراً أو غيره إنّما يؤثّر ويقوم بأفعاله بقدرته وحوله.

فعند ذلك يكون نفس مقدور العبد وفعله، مقدوراً لله سبحانه، وفعلاً له لكن لا فعلاً بالمباشرة، بل فعلاً بالتسبيب.

وقد أوضحنا حال هذه المسألة في أبحاث التوحيد الخالقي.

سعة القدرة بمعنيين

ثمّ إنّ الكلام في سعة القدرة يطرح على وجهين :

الأوّل: ما عرفت مفهومه وأدلّته وأنّه قادر على كل شيء ممكن سواء صدر منه أو لم يصدر إذ من الممكن أن يكون الشيء ممكنا ولا يصدر عنه لحكمة خاصّة كصدور القبيح وغيره.

الثاني: وهو ما طرحه الحكماء في كتبهم، ويغاير ما سبق، وحاصله: إنّ الظواهر الكونية، مجرّدها ومادّيها، ذاتها وفعلها، كلّها تنتهي إلى قدرته سبحانه، فكما أنّه لا شريك له سبحانه في ذاته كذلك لا شريك له في الفاعليّة.

وكل ما هو موجود سواء كان جوهراً أو عرضاً، مادّيّاً أو مجرّداً، ذاتاً أو فعلاً فالجميع صادر عنه سبحانه على نحو الأسباب والمسبّبات، فليس هناك موجود ممكن جوهراً كان أو عرضاً، ذاتاً كان أو فعلاً لا يستند في تحقّقه ووجوده إليه سبحانه.

وهذا هو التوحيد الأفعالي الذي قدّمنا الكلام عنه عند البحث عن التوحيد، وهذا المعنى هو الذي طرحه الحكماء في كتبهم الفلسفية.

٣٩٦

وهذه المسألة في مقابل كلمات المعتزلة ومن حذى حذوهم من القائلين بأنّ الله تعالى أوجد العباد وأقدرهم على تلك الأفعال، وفوّض إليهم الاُمور وهم مستقلّون بإيجاد تلك الأفعال على وفق مشيئتهم بحيث لا يمتّ فعل إنسان إليه سبحانه بصلة بنحو من الأنحاء.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام وإن كان وجيهاً عند القائلين بالاختيار ولكنّه يستلزم الشرك في الفاعليّة وهو مستلزم لاثبات الشريك لله في الحقيقة.

ومن جعل أبناء البشر كلّهم خالقين لأفعالهم مستقلّين في ايجادها، أتى بما هو أشنع ممّن ذهب إلى جعل الأصنام والأوثان والكواكب شفعاء عند الله لأنّه جعل لله شركاء بعدد الفاعلين.

هذا وبما أنّنا قد استوفينا الكلام في هذه المسألة في مسفوراتنا الكلامية(١) ، فإنّنا نقتصر على ما ذكرناه هنا.

فتلخص: إنّ لسعة القدرة اصطلاحين :

الأوّل يناسب الأبحاث الكلامية، والثاني يناسب الأبحاث الفلسفية، والمخالف في القسم الثاني هم المعتزلة، والخلاف ينبع من الاعتقاد بالعدل في الله سبحانه، ومن التصوّر بأنّ نسبة أفعال العباد إلى الله سبحانه تخالف عدله.

بينما لا تنبع المسألة الاُولى من موقف كلامي معيّن وإن كان المخالف فيها بعض المعتزلة لكن الخلاف لا ينبع عن اُصول الاعتزال بخلاف الثانية، وإن كان بين المسألة صلة وارتباط.

__________________

(١) الالهيات: ج ١، ص ١٣٩ ـ ١٥٠.

٣٩٧

أسئلة وأجوبتها

ثمّ إنّ القائلين بعموميّة القدرة الإلهية واجهوا أسئلة واشكالات اُخرى طرحها المنكرون لعموميّة القدرة، واعتمدوا عليها في نفي ذلك وقد تعرّفت على اصولها في صدر البحث :

وهذه الأسئلة هي :

١ ـ هل يقدر سبحانه على خلق نظيره ؟

فلو اُجيب عن السؤال بالإيجاب لزم ذلك صحّة إفتراض الشريك لله سبحانه وامكان وجوده.

ولو اُجيب بالنفي والإنكار لزم ضيق قدرته وعدم عموميّتها وشمولها لكل شيء كما هو المدعى.

٢ ـ هل هو قادر على أن يجعل الشيء الكبير في داخل الشيء الصغير كأن يجعل العالم الفسيح في البيضة من دون أن يصغر حجم العالم، أو تكبر البيضة ؟

فلو اُجيب بنعم، دفعه العقل ورفضه إذ لا يتصوّر أن يكون المظروف أكبر من الظرف.

ولو أجيب بلا، ثبت عدم عموميّة قدرته سبحانه.

٣ ـ هل يمكنه سبحانه أن يوجد شيئاً لا يقدر على إفنائه ؟

فإن قلنا: نعم، لزم من ذلك نفي قدرته، لأنّنا أثبتنا قدرته سبحانه على خلق ما لا يقدر على إفنائه.

وإن قلنا: لا، استلزم ذلك نفي عموميّة قدرته.

وبهذا استلزم الجواب على كلا النحوين انتفاء عموميّة قدرته وتحديدها.

إنّ الاجابة عن هذه الأسئلة على وجهين: إجمالي وتفصيلي.

أمّا الجواب الإجمالي فهو أنّ القدرة مهما بلغت من السعة فإنّها لا تتعلّق إلّا

٣٩٨

بما كان ممكناً بالذات، أي كان قابلاً للوجود والتحقّق، وأمّا الخارج عن إطار الإمكان أي الذي يكون بذاته غير ممكن لا يقبل الوجود، فهو خارج عن نطاق القدرة.

وبعبارة أخرى: إذا لاحظنا الأشياء وجدناها على نوعين :

الأوّل: ما يقبل أن يتلبّس بلباس الوجود ويتحقّق في الواقع الخارجي بسبب قدرة الفاعل.

الثاني: ما إذا لاحظناه في عقلنا، نجد أنّه لا يتحقّق ولا يقبل الوجود مهما بلغت القدرة من السعة والعظمة، ومهما بلغ الفاعل من القوّة والقدرة.

ولتوضيح ذلك نأتي بالمثال التالي فنقول :

إذا طلبنا من الخيّاط أو الرسّام أن يخيط الأوّل لنا ثوباً من الآجر، أو أن يرسم الثاني لنا صورة جميلة لطاووس على صفحة الماء الجاري، رفضا ذلك لاستحالة خياطة ثوب من الآجر، ورسم صورة شيء على صفحة الماء الجاري.

فرفض الخيّاط والرسام لهذا الاقتراح ليس لأجل قصورهما وعجزهما، بل لاستحالة تحقّق خياطة الثوب من الآجر، والنقش على صفحة الماء الجاري، فهو بالتالي قصور في جانب القابل، لا عجز في ناحية الفاعل.

إنّ الآجر لا يمتلك قابلية صيرورته لباساً، كما أنّ الماء الجاري لا يمتلك هو الآخر قابلية أن يصبح محلاًّ للرسم والنقش.

هكذا كل ما لا يقبل الوجود بذاته، فإنّ عدم تعلّق القدرة بها ليس من جهة عجز القادر عن إيجادها، بل من جهة أنّه غير قابل للايجاد، وغير ممكن التحقّق بذاته.

وهذا نظير ما إذا طلبنا من رئيس مصنع لتوليد الكهرباء أن يجعل مصباحاً واحداً مشتعلاً ومنطفئاً في آن واحد، فيرفض ذلك الشخص تحقيق هذا المطلب

٣٩٩

لا لقصور في مصنعه أو في هندسته، بل لأنّ المقترح لا يمكن ـ بذاته ـ أن يتحقّق.

كما أنّ ذلك نظير ما إذا طلبنا من عالم رياضيّ ماهر أن يجعل نتيجة ٢×٢ أربعة وخمسة في آن واحد، فيرفض تحقيق ذلك المطلب لا لقصور في مقدرته الرياضية والحسابية، بل لاستحالة تحقّق هذا المطلب المقترح في حدّ ذاته.

وبهذا يظهر أنّ سعة القدرة وعموميّتها تشمل جميع الممكنات، والاُمور القابلة بذاتها للايجاد، وبالتالي فإنّ كل ما هو ممكن التحقّق والوجود بذاته، يقع في نطاق القدرة الإلهية دون ما لا يمكن تحقّقه ووجوده بذاته، وهذا بخلاف غيره تعالى فإنّ قدرته قاصرة حتّى بالنسبة إلى كثير من الاُمور والموارد الممكنة.

بينما هو سبحانه قادر على ايجاد المجرّات العظيمة، وعلى خلق السموات العلى، ولكن غيره لا يقدر على أقلّ من ذلك مع كونه أمراً ممكناً بالذات.

فيستنتج من ذلك أنّ كلّ ما هو محال ذاتي لا يقع في نطاق القدرة لا لعدم سعتها بل لعدم قابلية هذا النوع من الأشياء للايجاد.

وعلى هذا الأساس لا ينحصر ما قلناه في ما ورد ذكره في هذه الأسئلة، بل يعم كل ما كان من هذا القبيل، أي كان من المحال الذاتي.

وبهذا يستطيع القارئ أن يقف على حل جميع الأسئلة المطروحة هنا.

فإنّ الجواب في الجميع هو النفي لا لعدم سعة قدرته سبحانه بل لعدم امكانها أساساً فإنّ جميع هذه الموارد مستلزمة للمحال أو هو بنفسه أمر محال، ومع ذلك نوقف القارئ على الجواب لكل واحد من الأسئلة المطروحة.

الجواب التفصيلي عن الأسئلة الثلاثة :

أمّا الأوّل أعني قدرته على خلق مثله فالجواب عنه: إنّ خلق المثل لا يقع في اطار القدرة لا لقصور فيها بل لكون وجود المثل لله محالاً بذاته كما أوضحناه في

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

من هنا نفهم ما قاله ابن عباس بشأن ضرورة قراءة سورة الأنعام لمن شاء أن يدرك مدى تخلف الأقوام الجاهليين.

ثمّ يذكر القرآن أنّ هؤلاء قد حرموا على أنفسهم ما رزقهم الله وأحله لهم وكذبوا على الله ونسبوا هذه الحرمة له سبحانه :( وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ ) .

في هذه العبارة إدانة أخرى لأعمالهم ، فهم ـ أوّلا ـ حرموا على أنفسهم النعمة التي «رزقهم» إيّاها وأباحها لهم وكانت ضرورية لحياتهم ، فنقضوا بذلك قانون الله.

وهم ـ ثانيا ـ «افتروا» على الله قائلين إنّه هو الذي أمر بذلك.

في ختام الآية وفي جملتين قصيرتين إدانة أخرى لهم ، فهم :( قَدْ ضَلُّوا ) ، ثمّ إنّهم لم يسلكوا يوما الطريق المستقيم :( وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ) .

* * *

٤٨١

الآية

( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) )

التّفسير

درس عظيم على درب التوحيد :

لقد جاءت الإشارة في هذه الآية إلى عدّة مواضيع ، كل واحد منها متفرع عن الآخر ، ونتيجة عنه.

فهو تعالى يقول أوّلا : إنّ الله تعالى هو الذي خلق أنواع البساتين والمزارع الحاوية على أنواع الأشجار والنباتات ، فمنها ما يعتمد في موقفه على الأعمدة والعروش حيث تحمل ما لذّ وطاب من الفواكه والثمار ، وتخلب بمنظرها الساحر العيون والألباب ، ومنها ما لا يحتاج إلى عريش ، بل هو قائم على سوقه يلقي بظلاله الوارفة على رؤوس الآدميّين ، ويسدّ بثماره المتنوعة حاجة الإنسان إلى الغذاء :( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ) .

٤٨٢

لقد ذهب المفسّرون في تفسير كلمة «معروش» و «غير معروش» إلى ثلاثة احتمالات :

1 ـ ما أشرنا إليه قبل قليل ، فالمعروش هو الأشجار والنباتات التي لا تقوم على سوقها بل تحتاج إلى عروش وسقف ، وغير المعروش هو الأشجار والنباتات التي تقوم على سوقها ولا تحتاج إلى عروش وسقف ، (لأنّ العرش يدلّ على ارتفاع في شيء ، ولهذا يقال لسقف البيت عرش ، ويقال للسرير المرتفع عرش).

2 ـ إنّ المراد من «المعروش» هو الأشجار المنزلية وما يزرعه الناس ويحفظ بواسطة الحيطان في البساتين ، ومن «غير المعروش» الأشجار البرّية والنباتات الصحراوية والجبلية وما ينبت في الغابات.

3 ـ «المعروش» هو ما يقوم على ساقه من الأشجار أو يرتفع على الأرض ، و «غير المعروش» هو الأشجار التي تمتد على الأرض.

ولكن يبدو أنّ المعنى الأوّل أنسب ، هنا ، ولعلّ ذكر «المعروشات» في مطلع الحديث إنّما هو لأجل بنيان هذا النوع من الأشجار وتركيبها العجيب ، فإنّ نظرة عابرة إلى شجرة الكرم وقضبان العنب وسيقانها الملتوية العجيبة ، والمزوّدة بكلاليب ومقابض خاصّة ، وكيفية التفافها بكل شيء حتى تستطيع أن تنمو ، وتثمر ، خير شاهد على هذا الزعم.

ثمّ إنّ الآية تشير إلى نوعين من البساتين والمزارع إذ تقول :( وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ ) .

وذكر هذين النوعين بالخصوص إنّما هو لأهميتهما الخاصّة في حياة البشر ، ودورهما في نظامه الغذائي (ولا بدّ أن تعرف أن الجنّة كما تطلق على البستان ، كذلك تطلق على الأرض التي غطّاها الزرع).

ثمّ إنّه تعالى يضيف قائلا : إنّ هذه الأشجار مختلفة ومتنوعة من حيث الثمر

٤٨٣

والطعم. فمع أنّ جميعها ينبت من أرض واحدة ويسقى بماء واحد فإن لكل واحدة منها رائحة خاصّة ، ونكهة معينة ، وخاصية تختص بها ، ولا توجد في غيرها :( مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ) (1) .

ثمّ يشير سبحانه إلى قسمين آخرين من الثمار عظيمي الفائدة ، جليلي النفع في مجال التغذية البشرية إذ يقول :( وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ) .

إن إختيار هاتين بالذكر من بين أشجار كثيرة إنّما هو لأجل أن هاتين الشجرتين : (شجرة الزيتون وشجرة الرمان) رغم تشابههما من حيث الظاهر والمظهر تختلفان اختلافا شاسعا من حيث الثمرة ، ومن حيث الخاصية الغذائية ، ولهذا عقّب على قوله ذلك بهاتين الكلمتين :( مُتَشابِهاً ، وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ) (2) .

وبعد ذكر كلّ هذه النعم المتنوّعة يقول سبحانه :( كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ ، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) .

ثمّ ينهى في نهاية المطاف عن الإسراف إذ يقول تعالى :( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) .

«الإسراف» تجاوز حدّ الاعتدال في كل فعل يفعله الإنسان. وهذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى عدم الإسراف في الأكل ، أو عدم الإسراف في الإنفاق والبذل ، لأنّ البعض قد يسرف في البذل والإنفاق إلى درجة أنّه يهب كل ما عنده إلى هذا وذاك ، فيقع هو وأبناؤه وأهله في عسر وفقر وحرمان!!

بحوث

1 ـ ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة

في الآيات السابقة من هذه السورة جرى حديث عن الأحكام الخرافية التي

__________________

(1) الأكل : بضم الألف وضم أو سكون الكاف يعني ما يؤكل.

(2) تقدم لنا توضيح في هذا المجال عند تفسير الآية (99) من نفس هذه السورة.

٤٨٤

كانت سائدة بين الوثنيين ، الذين كانوا يجعلون نصيبا من الزرع والأنعام لله ، وكانوا يعتقدون بأنّ ذلك النصيب يجب أن يصرف على نحو خاص ، كانوا يحرّمون ركوب بعض الأنعام ، ويقدّمون أولادهم قرابين إلى بعض الأصنام والأوثان!!

إنّ الآية الحاضرة ، والآية اللاحقة تحملان ردّا على جميع هذه الأحكام والمقررات الخرافيّة الجاهلية إذ تقولان بصراحة ، إنّ الله تعالى هو خالق جميع هذه النعم ، فهو الذي أنشأ جميع هذه الأشجار والأنعام والزروع ، كما أنّه هو الذي أمر بالانتفاع بها ، وعدم الإسراف فيها ، وعلى هذا الأساس فليس لغيره أي حق لا في «التحريم» ، ولا في «التحليل».

2 ـ ماذا تعني جملة

( إِذا أَثْمَرَ ) مع ذكر «ثمره» قبل ذلك؟ فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين ، ولكن الظاهر أن هذه الجملة تهدف إلى تقرير وبيان أنّ بمجرد ظهور الثمار على هذه الأشجار ، وظهور سنابل القمح ، والحبوب في الزرع يجوز الانتفاع بها حتى إذا لم يعط منها حقوق الفقراء بعد ، وإنما يجب إيتاء هذا الحق لأهله حين حصاد الزرع ، وقطاف الثمر(يوم الحصاد) كما يقول تعالى :( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) .

3 ـ ما هو المراد من الحقّ الذي يجب إعطاؤه؟

يرى البعض أنّها هي الزّكاة الواجبة المفروضة ، أي عشر أو نصف عشر المحصول البالغ حدّ النصاب الشرعي.

بيد أنه مع الالتفات إلى أنّ هذه السورة قد نزلت في مكّة ، وأن حكم الزّكاة نزل في السنة الثانية من الهجرة أو بعد ذلك في المدينة المنورة ، يبدو مثل هذا الاحتمال بعيدا.

٤٨٥

وقد عرّف هذا الحق في روايات عديدة وصلتنا من أهل البيتعليهم‌السلام ، وكذا في روايات عديدة وردت في مصادر أهل السنة بغير الزّكاة.

وجاء فيها أنّ المراد منه هو يعطى من المحصول إلى الفقير عند حضوره عملية الحصاد أو القطاف ، وليس له حدّ معين ثابت(1) .

وفي هذه الحالة ، هل هذا الحكم وجوبي أم استحبابي؟

يرى البعض أنه حكم وجوبي ، أي أنّ إعطاء هذا الحق كان واجبا على المسلمين قبل تشريع حكم «الزّكاة» ولكنّه نسخ بعد نزول آية الزّكاة ، فحلّت الزّكاة بحدودها الخاصّة محل ذلك الحق.

ولكن يستفاد من أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام أن هذا الحكم لم ينسخ ، بل هو باق في صورة الحكم الاستحبابي ، وهذا يعني أنه يستحبّ الآن إعطاء شيء من المحاصيل الزراعية إلى من يحضر عند حصادها وقطافها من الفقراء.

4 ـ يمكن أن يكون التعبير بكلمة «يوم» إشارة إلى أنه يحبّذ أن يوقع حصاد الزرع ، وقطاف الثمر في النهار حتى إذا حضر الفقراء يعطي إليهم شيء منها ، لا في الليل كما يفعل بعض البخلاء لكيلا يعرف أحد بهم.

وقد أكّدت الرّوايات الواصلة إلينا من أهل البيتعليهم‌السلام على هذا الأمر أيضا(2) .

* * *

__________________

(1) الأحاديث المذكورة ذكرها صاحب الوسائل في كتاب الزّكاة في أبواب زكاة الغلات في الباب 13 ، والبيهقي في كتاب السنن ، ج 4 ، ص 132.

(2) راجع بهذا الصدد كتاب وسائل الشيعة كتاب الزّكاة ، أبواب زكاة الغلات ، باب كراهة الحصاد والجذاذ بالليل ، ج 6 ، ص 136.

٤٨٦

الآيات

( وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) )

التّفسير

إنّ هذه الآيات ـ كما أشرنا إلى ذلك ـ بصدد إبطال أحكام خرافيّة جاهليّة كان المشركون يدينون بها في مجال الزراعة والأنعام.

ففي الآية المتقدمة جرى الحديث حول أنواع المزروعات والثمار التي

٤٨٧

أنشأها الله ، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول الحيوانات المحلّلة اللحم ، وما تؤديه من خدمات ، وما يأتي منها من منافع.

يقول أوّلا : إنّ الله هو الذي خلق لكم حيوانات كبيرة للحمل والنقل ، وأخرى صغيرة :( وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ) (1) .

و «حمولة» جمع وليس لها مفرد ـ كما قال علماء اللغة ـ وتعني الحيوانات الكبيرة التي تستخدم للحمل والنقل كالإبل والفرس ونظائرها.

و «فرش» هو بنفس المعنى المتعارف ، ولكن فسّر هنا بالغنم وما يشابهه من الحيوانات الصغيرة ، والظاهر أنّ العلة في ذلك هو أنّ هذا النوع من الأنعام لصغرها واقترابها من الأرض كالفراش في مقابل الأنعام والحيوانات الكبيرة الجثة ـ التي تقوم بعملية الحمل والنقل ، كالإبل ـ فعند ما نشاهد قطعيا من الأغنام وهي مشغولة بالرعي في الصحاري والمراعي بدت لنا وكأنّها فرش ممدودة على الأرض ، في حين أن قطيع الإبل لا يكون له مثل هذا المنظر.

ثمّ إنّ تقابل «الحمولة» «الفرش» أيضا يؤيد هذا المعنى.

وقد ذهب بعض المفسّرين إلى احتمال آخر أيضا ، وهو أن المراد من هذه الكلمة هي الفرش التي يتخذها الناس من هذه الأنعام والحيوانات ، يعني أن الكثير من هذه الحيوانات تستخدم للحمل والنقل ، كما يستفاد منها في صنع الفرش. ولكن الاحتمال الأوّل أقرب إلى معنى الآية.

ثمّ إنّ الآية الشريفة تخلص إلى القول بأنه لمّا كانت جميع هذه الانعام قد خلقها الله تعالى وحكمها بيده ، فإنّه يأمركم قائلا :( كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) .

أمّا أنّه لماذا لا يقول : كلوا من هذه الأنعام والحيوانات ، بل يقول :( كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) ؟ فلأن الحيوانات المحلّلة اللحم لا تنحصر في ما ذكر في هذه الآيات ، بل هناك حيوانات أخرى محلّلة اللحم أيضا ولكنّها لم تذكر في الآيات

__________________

(1) الواو في صدر الآية هي واو العاطفة وما بعدها عطف على الجنات في الآية السابقة.

٤٨٨

السابقة.

ولتأكيد هذا الكلام وإبطال أحكام المشركين الخرافية يقول :( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) فهو الذي أعلن الحرب على آدم منذ بداية الخلق.

وهذه العبارة إشارة إلى أن هذه الأحكام والمقررات العارية عن الدليل ، والتي تنبع فقط من الهوى والجهل ، ما هي إلّا وساوس شيطانية من شأنها أن تبعدكم عن الحق خطوة فخطوة ، وتؤدي بكم إلى متاهات الحيرة والضلالة.

هذا وقد مرّ توضيح أكثر لهذه العبارة عند تفسير الآية (168) من سورة البقرة.

الآية الثانية تبيّن قسما من الحيوانات المحلّلة اللحم ، وبعض الأنعام التي يستفاد منها في النقل ، كما يستفاد منها في تغذية البشر وطعامهم أيضا فيقول : إنّ الله خلق لكم ثمانية أزواج من الأنعام : زوجين من الغنم (ذكر وأنثى) ، وزوجين من المعز :( ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ (1) مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ) .

وبعد ذكر هذه الأزواج الأربعة يأمر تعالى نبيّه فورا بأن يسألهم بصراحة : هل أن الله حرّم الذكور منها أم الإناث :( قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ) ؟! أم أنّه حرّم عليهم ما في بطون الإناث من الأغنام ، أم ما في بطون الإناث من المعز؟ :( أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ ) ؟!

ثمّ يضيف قائلا : إذا كنتم صادقين في أنّ الله حرّم شيئا ممّا تدعونه ، وكان لديكم ما يدلّ على تحريم أي واحد من هذه الأنعام فهاتوا دليلكم على ذلك :

__________________

(1) أزواج جمع «زوج» تعني في اللغة ما يقابل الفرد ، ولكن يجب الانتباه إلى أنّه ربّما يراد منه مجموع الذكر والأنثى ، وربّما يطلق على كل واحد من الزوجين ، ولهذا يطلق على الذكر والأنثى معا : زوجين ، واستعمال لفظ الأزواج الثمانية في الآية إشارة إلى الذكور الأربعة من الأصناف الأربعة ، والإناث الأربع من تلك الأصناف.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد من الأزواج الثمانية في الآية : الأليف من تلك الأصناف الأربعة وما يقابلها من الوحشي ، أي الذكر والأنثى من الغنم الأليف ، والذكر والأنثى من الغنم الوحشي ، وهكذا فتكون الأزواج حينئذ الأزواج حينئذ ثمانية.

٤٨٩

نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

ثمّ في الآية اللاحقة يبيّن الأزواج الأربعة الأخرى من الأنعام التي خلقها الله للبشر ، إذ يقول : وخلق من الإبل ذكرا وأنثى ، ومن البقر ذكرا وأنثى ، فأي واحد من هذه الأزواج حرّم الله عليكم : الذكور منها أم الإناث؟ أم ما في بطون الإناث من الإبل والبقر :( وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ ) ؟!

وحيث أن الحكم بتحليل هذه الأنعام وتحريمها إنّما هو بيد الله خالقها وخالق البشر وخالق العالم كله ، من هنا يتوجّب على كلّ من يدّعي تحليل أو تحريم شيء منها ، إمّا أن يثبت ذلك عن طريق شهادة العقل ، وإمّا أن يكون قد أوحي له بذلك ، أو يكون حاضرا عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند صدور هذا الحكم منه.

ولقد صرّح في الآية السابقة بأنّه لم يكن لدى المشركين أي دليل علميّ أو عقليّ على تحريم هذه الأنعام ، وحيث أنّهم لو يدّعوا أيضا نزول الوحي عليهم ، أو النبوة ، فعلى هذا يبقى الاحتمال الثالث فقط ، وهو أن يدّعوا أنّهم حضروا عند أنبياء الله ورسله يوم أصدروا هذه الأحكام ، ولهذا يقوم الله لهم في مقام الإحتجاج عليهم : هل حضرتم عند الأنبياء وشهدتم أمر الله لهم بتحليل أو تحريم شيء من هذه الأنعام :( أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بها ) ؟!

وحيث إنّ الجواب على هذا السؤال هو الآخر بالنفي والسلب ، يثبت أنّهم ما كانوا يمتلكون في هذا المجال إلّا الافتراء ، ولا يستندون إلّا إلى الكذب.

ولهذا يضيف في نهاية الآية قائلا :( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ، لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (1) .

فيستفاد من هذه الآية أن الافتراء على الله من أكبر الذنوب والآثام ، إنّه ظلم

__________________

(1) ثمّة احتمالات عديدة حول ما هو متعلق بالجار والمجرور في قوله : «بغير علم» ، ولكن لا يبعد أن يكون هذا الظرف متعلقا بفعل : «يضل» يعني أنّهم بسبب جهلهم يضلون الناس.

٤٩٠

لله تعالى ولمقامه الربويّ العظيم ، وظلم لعباد الله ، وظلم النفس ، وللتعبير بـ «أظلم» في مثل هذه الموارد كما قلنا سابقا ، جانب نسبيّ ، وعلى هذا فلا مانع من استعمال نفس هذا التعبير بالنسبة إلى بعض الذنوب الكبيرة الأخرى.

كما ويستفاد من هذه الآية أيضا أن الهداية والإضلال الإلهيين لا يكونان بالجبر ، بل إن لهما مقدمات وعللا تبدأ من الإنسان نفسه وتتحقق بفعله هو ، فعند ما يعمد أحد باختياره إلى ممارسة الظلم والجور يحرمه الله حينئذ من عنايته وحمايته ، ويتركه يضيع في متاهات الحيرة والضلالة.

* * *

٤٩١

الآية

( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) )

التّفسير

بعض الحيوانات المحرّمة :

ثمّ إنّه تعالى ـ بهدف تمييز المحرمات الإلهية عن البدع التي أحدثها المشركون وأدخلوها في الدين الحق ـ أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآية بأن يقول لهم بكل صراحة ، ومن دون إجمال أو إبهام :( لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ ) من الشريعة أي شيء من الأطعمة يكون( مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) من ذكر أو أنثى ، وصغير أو كبير.

اللهم( إِلَّا ) عدّة أشياء ، الأوّل :( أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ) .

أو يكون( دَماً مَسْفُوحاً ) وهو ما خرج من الذبيحة عند التزكية بالقدر المتعارف (لا الدّماء التي تبقى في جسم الذبيحة في عروقها الشعرية الدقيقة ، بعد

٤٩٢

خروج قدر كبير منها بعد الذبح).

( أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ) .

لأنّ جميع هذه الأشياء رجس ومنشأ لمختلف الأضرار( فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) .

إنّ الضمير في «فإنّه» وإن كان ضمير الإفراد ، إلّا أنّه يرجع ـ حسب ما يذهب إليه أكثر المفسّرين ـ إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية (الميتة ، الدم ، لحم الخنزير) فيكون معنى الجملة الأخيرة هي : فإنّ كل ما ذكر رجس(1) . وهذا هو المناسب لظاهر الآية وهو عودة الضمير إلى جميع تلك الأقسام ، إذ لا شك في أن الميتة والدم هما أيضا رجس كلحم الخنزير.

ثمّ أشار تعالى إلى نوع رابع فقال :( أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ) (2) أي التي لم يذكر اسم الله عليها عند ذبحها.

والجدير بالتأمل أنّه ذكرت لفظة «فسقا» بدلا عن كلمة «الحيوان».

و «الفسق» كما أسلفنا يعني الخروج عن طاعة الله وعن رسم العبودية ، ولهذا يطلق على كل معصية عنوان الفسق.

وأمّا ذكر هذه اللفظة في هذا المورد في مقابل الرجس الذي أطلق على الموارد الثلاثة المذكورة سابقا ، فيمكن أن يكون إشارة إلى أنّ اللحوم المحرمة على نوعين :

اللحوم المحرّمة لخباثتها بحيث تنفر منها الطباع ، وتوجب أضرارا جسدية ، ويطلق عليها وصف الرجس (أي النجس).

اللحوم التي لا تعدّ من الخبائث ، ولا تستتبع أضرارا جسميّة وصحيّة ، ولكنّها ـ من الناحية الأخلاقية والمعنوية ـ تدلّ على الابتعاد عن الله وعن جادة التوحيد ،

__________________

(1) وفي الحقيقة يكون معنى كلمة «فإنّه» هو «فإن ما ذكر».

(2) «أهلّ» أصله «الإهلال» ، وهو مأخوذ في الأصل من الهلال ، والإهلال يعني رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثمّ استعمل لكل صوت رفيع ، كما أنّه يطلق على بكاء الصبي عند الولادة الاستهلال ، وحيث أنّهم كانوا يذكرون أسماء أصنامهم بصوت عال عند ذبح الأنعام عبرّ عن فعلهم هذا بالإهلال.

٤٩٣

ولهذا حرّمت أيضا.

وعلى هذا الأساس لا يجب أن نتوقع أن تنطوي اللحوم المحرمة دائما على أضرار صحيّة ، بل ربّما حرّمت لأجل أضرارها المعنوية والأخلاقية ، ومن هنا يتضح أنّ الشروط الإسلامية المقرّرة في الذبح على نوعين أيضا :

بعضها ـ مثل قطع الأوداج الأربعة ، وخروج القدر المتعارف من دم الذبيحة ـ لها جانب صحّي.

وبعضها الآخر ـ مثل توجيه مقاديم الذبيحة نحو القبلة عند الذبح ، وذكر اسم الله عنده ، وكون الذابح مسلما ـ لها جانب معنويّ.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى ـ في آخر الآية ـ من اضطر إلى تناول شيء ممّا ذكر من اللحوم المحرّمة ، كما لو لم يجد أيّ طعام آخر وتوقفت حياته على تناول شيء من تلك اللحوم ، إذ قال :( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) يعني أنّ من اضطرّ إلى أكل شيء ممّا ذكر من المنهيّات فلا إثم عليه ، بشرط أن يكون للحفاظ على حياته ، لا للذة ، ولا مستحلّا لما حرّمه الله ، أو متجاوزا حدّ الضرورة ، ففي هذه الصورة( فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وإنّما اشترط هذان الشرطان لكي لا يتذرع المضطرون بهذه الإباحة فيتعدّوا حدود ما قرّره الله بحجة الاضطرار ، ويتخذوا من ذلك ذريعة لتجاهل حمى القوانين الإلهية.

ولكنّنا نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن آل البيتعليهم‌السلام ، مثل الحديث المنقول عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «الباغي : الظالم ، والعادي : الغاصب»(2) .

كما نقرأ في حديث آخر منقول عن الإمامعليه‌السلام أنّه قال : «الباغي : الخارج على

__________________

(1) «الباغي» من «البغي» وهو يعني الطلب ، «والعادي» من «العدو» وهو يعني التجاوز.

(2) بحار الأنوار ، ج 65 ، ص 136 و 137.

٤٩٤

الإمام ، والعادي : اللص»(1) .

هذه الرّوايات ونظائرها تشير إلى أنّ الاضطرار إلى تناول اللحوم المحرمة يتفق عادة في الأسفار ، فإذا أقدم أحد على السفر في سبيل الظلم أو الغصب أو السرقة ثمّ فقد الطعام الحلال في خلال السفر لم يجز له تناول اللحوم المحرّمة ، وإن كانت وظيفته ـ للحفاظ على حياته من التلف ـ هو التناول من تلك اللحوم ، ولكنّه يعاقب على إثمه هذا ، لأنّه أوجد بنفسه المقدمات لمثل هذا السفر الحرام ، وعلى كل حال فإنّ هذه الرّوايات تنسجم مع المفهوم الكليّ للآية انسجاما كاملا.

جواب على سؤال :

وهنا ويطرح سؤال هو : كيف حصرت جميع المحرمات الإلهية ـ في مجال الأطعمة ـ في أربعة أشياء ، مع أنّنا نعلم بأنّ الأطعمة المحرمة لا تنحصر في هذه الأشياء ، مثل لحوم الحيوانات المفترسة ، ولحوم الحيوانات البحرية (إلّا ما كان له فلس من الأسماك) وما شابه ، فهذه كلّها حرام ، في حين لم يجيء في الآية أي ذكر عن تلك اللحوم ، بل حصرت المحرمات في هذه الأشياء الأربعة؟!

قال البعض في مقام الإجابة على هذا السؤال ، بأنّ هذه الآيات نزلت في مكّة وحكم الأطعمة المحرمة الأخرى لم ينزل بعد.

غير أنّ هذه الإجابة تبدو غير صحيحة ، والشاهد على ذلك أنّ نفس هذا التعبير أو نظيره قد ورد في السور المدنية مثل الآية (173) من سورة البقرة.

والظاهر أنّ هذه الآية ناظرة ـ فقط ـ إلى نفي الأحكام الخرافية التي كانت شائعة وسائدة في أوساط المشركين ، فالحصر «حصر إضافي» لا حقيقيّ.

وبعبارة أخرى : كأنّ الآية تقول : المحرمات الإلهية هذه ، وليس ما نسجته أوهامكم.

__________________

(1) بحار الأنوار ، ج 65 ، ص 136 و 137.

٤٩٥

ولكي تتضح هذه الحقيقة لا بأس بأنّ نضرب لذلك مثلا.

يسألنا أحد : لها جاء الحسن والحسين كلاهما ، فنجيب : كلا بل جاء الحسن فقط ، لا شك أننا هنا نريد نفي مجيء الشخص الثاني (أي الحسين) ولكن لا مانع من أن يكون آخرون ـ ممن لم يكونوا محور حوارنا أصلا ـ قد جاؤوا أيضا ، وهذا هو ما يسمى بالحصر الإضافي (أو النسبيّ).

نعم ، لا بدّ من الانتباه إلى نقطة مهمّة ، وهي أنّ ظاهر الحصر عادة ـ الحصر الحقيقي إلّا في الموارد التي يوجد فيها قرائن صارفة عن مدلول الظاهر مثل ما نحن فيه الآن.

* * *

٤٩٦

الآيتان

( وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا )

( اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) )

التّفسير

ما حرّم على اليهود :

في الآيات السابقة حصرت المحرمات من الحيوان في أربعة ، غير أنّ هاتين الآيتين تشيران إلى بعض ما حرم على اليهود ليتبيّن أن أحكام الوثنيين الخرافية والمجهولة لا تنطبق لا على أحكام الإسلام ، ولا على دين اليهود (بل ولا على دين المسيح الذي يتبع في أكثر أحكامه الدين اليهودي).

ثمّ إنّه قد صرح في هذه الآيات أن هذا النوع من المحرمات على اليهود كان له طابع المعاقبة وصفة المجازاة ، ولو أنّ اليهود لم يرتكبوا الجنايات والمخالفات لما حرّم عليهم هذه الأمور ، وعلى هذا الأساس لسائل أن يسأل الوثنيين : من أين

٤٩٧

أتيتم بهذه الأحكام المصطنعة؟

ولهذا يقول سبحانه في البداية :( وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ) .

و «الظفر» هو في الأصل المخلب ، ولكنّه يطلق أيضا على ظلف الحيوانات من ذوات الأظلاف (من الحيوانات التي لها أظلاف غير منفرجة الأصابع كالحصان لا كالغنم والبقر التي لها أظلاف منفرجة) لأنّ أظلافها تشبه الظفر ، كما أنّه يطلق على خف البعير الذي يكون منتهاه مثل الظفر ، ولا يكون فيه انشقاق وانفراج مثل انفراج الأصابع.

وعلى هذا الأساس فإنّ المستفاد من الآية المبحوثة هو أنّ جميع الحيوانات التي لا تكون ذات أظلاف ـ دوابا كانت أو طيورا ـ كانت محرّمة على اليهود.

ويستفاد هذا المعنى ـ على نحو الإجمال أيضا ـ من سفر اللاويين من التّوراة الحاضرة الإصحاح 11 حيث يقول : «وأمر الربّ موسى وهارون : أوصيا بني إسرائيل : هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع بهائم الأرض : تأكلون كل حيوان مشقوق الظّلف ومجتر ، أمّا الحيوانات المجترة فقط ذو المشقوقة الظلف فقط ، فلا تأكلوا منها ، فالجمل غير طاهر لكم لأنّه مجتر ولكنّه غير مشقوق الظلف»(1) .

كما أنّه يمكن أن يستفاد من العبارة التّالية في الآية المبحوثة التي تحدثت عن خصوص البقر والغنم فقط حرمة لحم البعير على اليهود بصورة كلية أيضا.(تأمل بدقّة).

ثمّ يقول سبحانه :( وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما ) .

ثمّ يستثني بعد هذا ثلاثة موارد : أوّلها الشحوم الموجودة في موضوع الظهر من هذين الحيوانين إذ يقول :( إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما ) .

__________________

(1) الكتاب المقدس ، سفر اللّاويين ، الاصحاح 11 ، ص 142.

٤٩٨

وثانيا : الشّحوم الموجودة على جنبيها ، أو بين أمعائها :( أَوِ الْحَوايا ) (1) .

وثالثا : الشحوم التي امتزجت بالعظم والتصقت به( أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ) .

ولكنّه صرّح في آخر الآية بأنّ هذه الأمور لم تكن محرّمة على اليهود ـ في الحقيقة ـ ولكنّهم بسبب ظلمهم وبغيهم حرموا ـ بحكم الله وأمره ـ من هذه اللحوم ولشحوم التي كانوا يحبّونها( ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ) .

ويضيف ـ لتأكيد هذه الحقيقة ـ قوله :( وَإِنَّا لَصادِقُونَ ) وإن ما نقوله هو عين الحقيقة.

بحثان

1 ـ ماذا كان يقترف بنو إسرائيل؟

لا بدّ أن نرى هنا أي ظلم كان يقترفه بنو إسرائيل أوجب أن يحرّم الله تعالى عليهم هذه النعم التي كانوا يحبّونها؟!

هناك مذاهب متباينة للمفسّرين في هذا الصعيد ، ولكن ما يستفاد من الآية (160 و 161) من سورة النساء ، هو أنّ علّة التحريم المذكور كان عدة أمور : ظلمهم للضعفاء ، ومعارضتهم للأنبياء ، ومنعهم من هداية الناس ، وأكل الربا ، وأكل أموال الناس بالباطل ، إذ يقول :( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ، وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا ، وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) .

2 ـ ما معنى «إنّا لصادقون»؟

إنّ عبارة( وَإِنَّا لَصادِقُونَ ) التي جاءت في آخر الآية يمكن أن تكون إشارة إلى هذه النقطة وهي : أنّ الصدق والحق في مسألة تحريم هذه الأطعمة هو ما قلناه لا ما قاله اليهود في بعض كلامهم ، وهو أنّ تحريم هذه الأطعمة واللحوم إنّما

__________________

(1) «الحوايا» جمع «حاوية» وهي مجموعة ما يوجد في بطن الحيوان والتي تكون على هيئة كرة تتضمّن الأمعاء.

٤٩٩

كان من جانب إسرائيل (يعقوب) ، لأن يعقوب ـ كما جاء في الآية (93) من سورة آل عمران ـ لم يحكم بحرمة هذه الأشياء أبدا ، وليس هذا سوى تهمة ألصقتها اليهود به.

* * *

ولما كان عناد اليهود المشركين أمرا بيّنا ، وكان من المحتمل أن يتصلّبوا ويتمادوا في تكذيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمر الله تعالى نبيّه في الآية الاخرى أنّهم إن كذّبوه يقول لهم : إنّ ربّكم ذو رحمة واسعة فهو لا يسارع إلى عقوبتكم ومجازاتكم ، بل يمهلكم لعلكم تؤوبون إليه ، وترجعون عن معصيتكم ، وتندمون من أفعالهم وتعودون إلى الله ،( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ) .

ولكن إذا أساؤوا فهم أو استخدام هذا الإمهال الإلهي ، واستمروا في كيل التهم فيجب أن يعلموا أنّ عقاب الله إيّاهم حتميّ لا مناص منه ، وسوف يصيبهم غضبه في المال :( وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) .

إنّ هذه الآية تكشف ـ بوضوح ـ عن عظمة التعاليم القرآنية ، فإنّه بعد شرح وبيان كل هذه المخالفات التي ارتكبها اليهود والمشركون لا يعمد إلى التهديد بالعذاب فورا ، بل يترك طريق الرجعة مفتوحا ، وذلك بذكر عبارات تفيض بالحب مثل قوله : «ربّكم» «ذو رحمة» «واسعة» أوّلا. حتى إذا كان هناك أدنى استعداد للرجوع والإنابة في نفوسهم شوّقتهم هذه العبارات العاطفية على العودة إلى لطريق المستقيم.

ولكن حتى لا تبعث سعة الرحمة الإلهية هذه على التمادي في غيهم ، وتتسبّب في تزايد جرأتهم وطغيانهم ، وحتى يكفوا على العناد واللجاج هدّدهم في آخر جملة من الآية بالعقوبة الحتمية.

* * *

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538